حول مخطوطات الكتب وقيمتها
من أهمّ مجالات البحث في الفكر الديني المنتمي إلى الأديان التاريخيّة هي دراسة النصوص القديمة، وكلّ التراث القديم القريب من عصر الانطلاق، من هنا يهتمّ الفكر الديني ـ وغير الديني أيضاً ـ بهذا التراث الهائل القديم. ومن أبرز مظاهر هذا التراث الكتبُ والمخطوطات التي ترجع لمئات السنين السابقة، والتي يؤدّي ظهورها إلى تقديم عون كبير للباحثين والدارسين في مجالٍ من مجالات التاريخ أو الدين أو المعرفة. بل قد يؤدّي ظهورها أحياناً لثورات معرفيّة كبيرة في الفكر الديني أو غيره، كما حصل مع مخطوطات البحر الميّت (مخطوطات كهوف قمران)، وكذلك مخطوطات نجع حمادي في مصر.
ولا تتوقّف حركة ظهور المخطوطات التي لم يكن يعرف عنها أحدٌ شيئاً أو التي كانت لكُتُبها نسخٌ خطيّة متوفّرة من قبل، لكن ظهرت نسخ خطيّة أخرى لها. ويعرف الباحثون في العديد من حقول المعرفة الدينيّة أنّ هذه الأمور تترك تأثيرات مهمّة على علوم مثل علوم التاريخ والرجال والحديث والقرآنيات والكلام والفقه وغيرها من العلوم النقليّة أو العقليّة.
ما أريد أن أشير إليه هو التنبّه لأمرٍ يعرفه المهتمّون وليس جديداً، وهو أنّ سوق اختراع النسخ الخطيّة قائمة في العالم، وتدرّ أرباحاً أيضاً، وقد كُتبت مصنّفات مستقلّة وأطروحات دكتوراه في غير بلد حول هذا الموضوع، فلسنا بعيدين عنه، وقد كانت هذه السوق قائمة في القديم وما تزال قائمةً اليوم، من هنا ليس كل ادّعاء في العثور على نسخةٍ خطيّة من هذا الكتاب أو ذاك، يعني أنّ هذا الادّعاء صحيح، بل لا بدّ من أن يشهد بصحّة هذه المخطوطة وأنّها أصيلة غير مجعولة وأنّها تنتمي بالدقّة إلى أيّ قرن.. يشهد بذلك كلّه الجهات الموثوقة في هذا الصدد، كبعض المكتبات المعروفة بسمعتها ومصداقيّتها وخبرتها في العالم عامّة أو العالم الإسلامي خاصّة. ومجرّد أن يطبع شخصٌ كتاباً ويقول بأنّه عُثر على نُسخة خطيّة من القرن الفلاني، وفيها مغايرات مع النسخ المتداولة المطبوعة اليوم، لا يكفي، بل لا بدّ أن نُثبت أنّ هذه المخطوطة أصيلة معروفة الزمن. وأهل الخبرة يعرفون حقّ المعرفة ذلك وأساليبه وطرقَه. كما أنّه ليس كلّ نسخة ترجع للزمن الماضي فهذا يعني أنّها موثوقة، فالباحثون المهتمّون بهذا المجال يعتبرون أنّ ظاهرة الجعل والتزوير أمرٌ كان قائماً في القرون الماضية أيضاً، ممّا يضاعف من حجم المسؤوليّة الملقاة على عاتق المهتمّين بهذا المجال الخطير والحسّاس، بل يطالبهم بإثبات صحّة النسخة وتاريخها وما يتصل بالمعلومات عنها.
وعندما نتكلّم في الجعل والتزوير، فليس من الضروري أن يقف الأمر عند حدود اختراع كتاب ونسبته، بل يبلغ حدود التصرّف بكتاب موجود معلوم النسبة، زيادةً ونقيصة، بل قد يؤثر الجعل والتزوير على هويّة المؤلّف بالنسبة إلينا وعلى زمانه، بل قد يكون الجعل جعلاً تركيبيّاً، كما يسمّى في علم الحديث، فالنصوص صحيحة، لكنّ التركيب بينها غيرُ صحيح، كما هو محتمل في العديد من الروايات الطويلة المنقولة عن النبيّ وأهل بيته على صعيد علم الحديث، مثل رواية الأربعمائة المعروفة. بل قد يكون الأمر تصحيفاً غير مقصود وما أكثره في كتب التراث.
في زماننا الوضّاعون موجودون أيضاً على غير صعيد، يدفعهم لذلك الطمعُ في المال والجاه، وكذلك الانتماء الأيديولوجي أو الفئوي أو الحزبي المشوّه، فمن الضروري الحذر من وجودهم ـ أو احتماليّة وجودهم ـ أيضاً في عالم المخطوطات.
لقد مضى زمن لم تكن فيه هذه القضيّة محل اهتمامٍ كافٍ في بعض الأوساط الدينيّة، فكان يتمّ التساهل في التعامل مع الكتب المطبوعة ونسبتها، أمّا اليوم فقد انطلقت "ثورة" منذ عقود في هذا المضمار على غير صعيد، ولكن ما تزال أمامها أشواط طويلة من المسير للتثبّت من الكتب المتداولة بيننا، ونسأل الله لكلّ العاملين والباحثين في هذا المضمار التوفيق والسداد، ولهم منّا كلّ الشكر على خدماتهم الجليلة هذه.
حيدر حب الله
الخميس 27 ـ 4 ـ 2023م