الفلسفة السياسيّة للفوطي وأبي بكر الأصم المعتزليَّين والموقف من الإمامة
عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصمّ (200 أو 201هـ) المتكلّم المعتزلي المعروف، يقول أبو الحسن الأشعري: «واختلفوا في وجوب الإمامة، فقال الناس كلّهم إلا الأصم: لا بدّ من إمام، وقال الأصمّ: لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام» (مقالات الإسلاميّين: 460).
وجهة نظر الأصمّ تحتمل احتمالات أبرزها:
الاحتمال الأوّل: إنّه لا يرفض فكرة وجوب الإمامة، بل يرفض كليّة اللابديّة العقليّة التي طرحها بعض المتكلّمين، فهو يربط ضرورة الإمامة بطبيعة المجتمع البشري، فلو تغيّرت أحوال البشر لزالت الإمامة، فيما قد يُشبه بعض الأفكار الماركسيّة أو بعض أفكار المدرسة اللاسلطويّة المعاصرة في الغرب، وهو بهذا يفهم الإمامة فهماً طريقيّاً وسائليّاً بحيث لا تكون عنده غايةً قائمة بنفسها حتى تكون ضرورتها كليّة وعامّة زمكانيّاً، كما لا يفهمها مقدّساً مستقلاً، بل هي وسيلة للمقدّس الحقيقي الذي هو صلاح الأمّة.
الاحتمال الثاني: إنّ الأصمّ لم يكن يرى الوجوب العقلي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث تكون هذه الفريضة من أصول الدين، وهذا معناه أنّه أنكر أصلاً من أصول الاعتزال، وهذه الفريضة متلازمة اعتزاليّاً وزيديّاً مع الإمامة، بما يبدو وكأنّ لديه موقفاً من فكرة تشكيل الدولة بزعامة إمام، من هنا كان يميل لإصلاح المجتمع بحيث ترتفع الحاجة للإمام؛ إذ الحاجة له مؤقتة.
وربما كان الأصمّ يرى قضيّة الإمامة بنفسها سبب مشاكل الأمّة في عصره، فأراد أن يُصلح حال الأمّة بعيداً عن الإمامة، عبر إصلاح المجتمع نفسه، وهذا يذكّرنا بموقف متكلّم معتزلي آخر، وهو أبو محمّد هشام بن عمرو الفوطي (ق 3هـ)، حيث كان يرى أنّ الأمّة إذا حكمها التنازع وعمّها الفساد وانتشرت فيها الفتن، فلا يصحّ نصب الإمام فيها، بل لا بدّ من تجنّب نصبه في هذه الحال، أو على الأقلّ لا يجب عليهم ذلك، والسبب فيما يبدو هو أنّ الفضاء السياسي والاجتماعي عندما يكون موبوءاً فإنّ إقحام فكرة نصب الإمام سوف يحوّلها إلى قضيّة تزيد من الفتن ومادّة وقود لاضطراب الأمّة، فلابدّ من تركها، وفي هذا يقول ابن ميثم البحراني (699هـ): «وقال هشام بالعكس من ذلك، أي عند ظهور الظلم لا يجب نصبه؛ لأنه ربما كان سبباً للفتنة؛ لتمرّدهم واستنكافهم عن طاعته، فيكون نصبه سبباً لازدياد الشرور، فأمّا عند ظهور الانتصاف وانتشاره فيجب نصبه لبسط الشرع وإظهار شعاره» (النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة: 44). وربما كان الفوطي متأثراً هنا ببعض مقولات الخوارج الأوائل، فلاحظ.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: «وقد اختلف الناس في هذه المسألة، فقال المتكلّمون كلمةً (كافّة): الإمامة واجبة، إلا ما يُحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء أصحابنا أنّها غير واجبة، إذا تناصفت الأمّة ولم تتظالم. وقال المتأخّرون من أصحابنا: إنّ هذا القول منه غير مخالف لما عليه الأمّة؛ لأنّه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم، فقد قال بوجوب الرياسة على كلّ حال، اللهم إلا أن يقول: إنّه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس، وهذا بعيد أن يقوله..» (شرح نهج البلاغة 2: 308).
لكنّني أظنّ أنّ هذه الطريقة التي عالج فيها ابن أبي الحديد القضيّة غير دقيقة؛ إذ يلزمنا أن نحلّل الزاوية التي كان الأصمّ ينظر إليها، فهو يدرك اختلاف الناس في الغالب، لكنّه يريد تحليل وجه ضرورة الإمامة ومديات الكليّة العقلية في هذا الوجه، أو أنّ له قراءة اجتماعيّة وسياسيّة للإصلاح العامّ، والله العالم.
حيدر حب الله
السبت 23 ـ 7 ـ 2022م