خيانة "الكلمات"
في روايته التي صدرت عام 1951م تحت عنوان "أين كنت يا آدم؟"، كتب الكاتب والأديب الألماني هاينريش بول (1917 ـ 1985م) حول هتلر والتجربة النازية، فقال بأنّ الشعب الألماني أدرك جيّداً بعد الحرب أنّ كلّ شيء كان قد دمّر، وأنّ البنية التحتية لوطنٍ بأكمله كانت قد أُبيدت، وأنّ نتائج كارثيّة حقيقية حلّت بالأمّة الألمانية، لكنّ شيئاً واحداً لم ينتبه كثيرون له، كان قد لحقه التهشيم والدمار، ألا وهو "الكلمات". لم يدركوا أنّ هتلر قام بخيانة "الكلمات"، بمعنى أنّ كلّ الكلمات الجميلة والرفيعة والمتسامية التي كانت تُطلَق بوصفها شعارات، كانت قد دُمّرت تماماً أيضاً وانتهت قيمتها. كلماتٌ مقدّسة مثل: العدالة، الوعي، التقدّم، الحرّية، الحقوق، الأمّة.. لقد أصبحت هذه الكلمات الحقّة مادّةً للسخرية والاستهزاء والضحك.. فَقَدَت كلَّ قيمتها الحقيقيّة وخسرها الألمان من جملة ما خسروا..
الفكرة التي أضاء عليها "بول" تعني أنّنا بفشلنا وسوء إدارتنا وطريقة تعاملنا مع مفاهيمنا ومقدّساتنا وقيمنا وشعاراتنا، نُساهم في تهشيمها. والأخطر من ذلك الإشارة لموضوع السخرية والاستهزاء الذي أودّ التوقّف عنده قليلاً، فعندما نصل إلى مرحلة يتمّ فيها التعامل مع الأفكار أو القيم أو المفاهيم بطريقة السخريّة والاستهزاء واختلاق الطرفة وتحويلها لموادّ للضحك والتفكّه.. تكون بداية نهاية تلك القيم والمقدّسات؛ لأنّ الإنسان عندما يصل لمرحلة الاستهزاء واتخاذ الأفكار والقيم موادّ للضحك، يكون قد وصل لذروة الإحباط تارةً أو أنّه يريد أن يُريح نفسه من مسؤوليّة تناول الأفكار بجديّة، فيعتمد الضحكَ لتخفيف حمل المسؤوليّات، وتكون النتيجة أنّ الأفكار والمفاهيم والقيم النبيلة تخرج عن دائرة التداول الجادّ وتجرفها السخريّات، وتتلاشى في الهواء مع أصوات الضحك والقهقهة.
إنّ رواج السخرية بالأفكار والقيم والرموز ربما يكون أشدّ بكثير من رواج نقد الدين نفسه، مهما كان النقد عميقاً وخطيراً؛ لأنّ النقد يظلّ يحمل معه جديّته وضوابطه وقوعد الاشتباك فيه، بينما السخرية تعني التحرّر من كلّ شيء لتناول الأمور خارج سياق المعرفة الجادّة!
كان خصوم الأنبياء والمصلحين عبر التاريخ يستخدمون الاستهزاء وسيلةً لمواجهة الأنبياء وأتباعهم؛ لأنّه يخفّف نفسيّاً من مسؤوليّة البحث الجادّ، ويسمح للعقل بالاستقالة والاستراحة تحت تأثير وَهْمِ الوضوح وجلاء الحقيقة قبل البحث فيها!
اليوم جميعُ الدول والحركات الإسلاميّة والأحزاب الدينيّة والمنظّمات والمؤسسات الدينيّة والمرجعيّات وعلماء الدين وغيرهم، بيدهم بعضٌ من أمرِ أن تصبح القيم الدينيّة على غرار "الكلمات" التي ذهبت مع الحرب العالميّة الثانية. إنّ سلوكَنا ونهجنا وتفكيرنا وخطابنا، ذلك كلّه يساهم في تحديد مصير "الكلمات" النقيّة التي نؤمن بها.
عندما يخسر شعبٌ الكلمات يسقط ويتلاشى وتفترسه الأمم، فلابدّ لكلّ أمّةٍ من "كلمات".
حيدر حب الله
السبت 16 ـ 7 ـ 2022م