تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات بين الكمّ والنوعيّة والجودة
تاريخ النشر: 7/28/2016
228990
التحميل
السؤال: كلّفني أحد الأخوة الأفاضل بتنقيح كتابٍ له يتناول حياة أحد أبناء الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وهذا الأخ هو من المشايخ المعروفين وله مكانة اجتماعية مرموقة. وكان فيما سبق، قد أهداني كتاباً منشوراً من تأليفه، فأبديت له جملة ملاحظات فنّية مهمّة حول ذلك المؤلَّف، وهي مما اكتسبته من خبرة متواضعة في مجال التنقيح، وَمِمّا سمعته من دروسكم حول مناهج التأليف والكتابة، فكان ممتنّاً لتلك الملاحظات، ولذا وضع كتابه الجديد بين يدي للتنقيح والتعديل والتصحيح. لكنّي فوجئت بأنّ معظم المادة مأخوذة من مواقع الكترونيّة وفيه تكرار وإسهاب كثير. ولم أجد سوى مبحثين فقط ناقش فيهما بعض الشبهات. ولو أردت ترتيب الكتاب وإعادة صياغته وحذف المكرّر والزيادات لأصبح مادةً تصلح أن تكون مجرد بحث بسيط وليس كتاباً. وأجدني في حيرة من أمري بين شيئين: الأوّل هو مسؤوليّتي تجاه الإمام عليه السلام، والثاني مسؤوليّتي تجاه الشيخ الفاضل الذي أولاني كامل الثقة. فأخشى إن طلبت منه ترك نشر الكتاب أن يكون تقصيراً بحقّ الإمام عليه السلام. وإن مضيت بعملي في التنقيح وتمّ نشر الكتاب بالصورة التي يريدها أشعر أنّي قصّرت في النصح لهذا الأخ الكريم. أرجو أن ترشدوني لما فيه الخير والصلاح جزاكم الله خيراً إن شاء الله. (أم صادق الحسيني، العراق).
الجواب: لعلّ الأرجح هو نُصح ذلك الكاتب وترشيد كتابته وإعادة إنتاج شيء مفيد ولو كان بعدد قليل من الصفحات، فهو خيرٌ من الكتب الكثيرة المليئة بالتكرار التي تملأ رفوف مكتباتنا، فبعض الناس يتصوّر أنّ الكمّ يمكن أن يعوّضه عن النوعيّة والكيف في المضمون أو في الأسلوب، فيُكثر من المؤلّفات التي يكتُبها بنفسه أو يكتبها غيرُه له أو يأخذها من غيره، أو يكثر من المحاضرات التكراريّة، ظانّاً أنّ الكثرة الكميّة يمكن أن تغفر له سطحيّة المضمون، معتمداً في بعض الأحيان على بساطة بعض القرّاء تبعاً لنوعيّة الموضوع الذي يكتب فيه. بل قد رأينا أنّ بعض الناس من الطيّبين الذين قد لا يملكون الخبرة الكافية في المجال التخصّصي في هذا العلم أو ذاك يغرّهم العدد والكم، فيجعلونهما معياراً للعلم والمعرفة، فيما المعيار هو النوعية والجودة اللتان يستطيع الناقد والخبير الحصيف معرفتهما أكثر فأكثر، بينما تجد هذا الكمّ الهائل مليئاً بالتكرار بحيث يمكن تأليف عشرة كتب من مادّة واحدة عبر عناوين متعدّدة متداخلة، وهذا واقع رأيناه في بعض الأحيان. ولا يعني ذلك أنّ من هو مُقلّ في التأليف أو التدريس هو أفضل دائماً، ولا كلّ مُكثرٍ أضعف، بل نحن نتكلّم عن ظاهرة لها حضورها ولو لم تكن شاملة.
فالأصل هو نوعيّة المضمون وجدّيته، وقدرته على حلّ مشكلة أو فكّ عقدة ما في مكان ما، من خلال عمقه أو من خلال أسلوبه، وليس تكديس الكتب والأوراق؛ لأنّ المعرفة تتضاعف قيمتها بقدرتها على تغيير الوضع نحو الأفضل، والأصل هو الجودة فيما نعمل وفيما ننتج، وليس مجرّد العمل ولو كان كثيراً، فالعمل النافع القليل خير من العمل العبثي الكثير، ولهذا كنّا نقول دائماً لإخوتنا من طلاب العلوم الدينيّة الذين يريدون تدوين رسالة الماجستير أو أطروحة الدكتوراه، بأنّ عليكم انتخاب الموضوع الذي يقدر على أن يحلّ مشكلةً ما في أوطانكم ومجتمعاتكم أو في وضعنا الحالي عموماً أو يزيل التباساً ما أو يقدّم خدمةً إضافيّةً بنسبةٍ ما، وليكن همّكم نشر ما تكتبونه ليقدّم خدمةً إضافيّة، وليس الحصول على الشهادة والدرجة في المدرسة أو الجامعة أو الحوزة، وهذا بدل الانكباب الذي رأيناه عند بعضهم على اختيار موضوعاتٍ لا تُسمن في الغالب ولا تُغني من جوع، وهي من تكرار المكرّرات وتضييع الأوقات وتبديد الطاقات.
إنّ الساحة اليوم مليئة بالمتطفّلين، ومليئة بفوضى لا أظنّها خلاقة وإن كنّا نرجو لها أن تكون كذلك، وبدل تضييع الوقت بأمور غير جادّة، فلتكن الجودة همّنا، والجديد النافع هاجسنا، وحُسن التوزيع مطلبنا، حتى نتمكّن من العبور بمجتمعاتنا نحو مرحلة أفضل من هذه التي نعيش إن شاء الله. أسأل الله تعالى لنا جميعاً الرشاد والتوفيق.