مع حوادث قتل المحارم اليوم كيف نفسّر النصوص المفتخرة بقتل المسلمين الأوائل لأقربائهم؟!
تاريخ النشر: 7/24/2016
249420
التحميل
السؤال: يقول بعضٌ بأنّ حوادث قتل المحارم في السعوديّة والكويت خلال الفترة الماضية تعود إلى النصوص الدينيّة، وتظهر خطبة الإمام علي في نهج البلاغة هنا حيث يقول: (وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله، نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً). ما تعليقكم؟ وهل كان الإسلام يدعو في بداية الدعوة إلى قتل المحارم المشركين؟ هل هذا دليل على عدم وجود مانع لقتل المحارم عند الشرك أو الردّة أو الضلال؟ وشكراً (أبو حوراء).
الجواب: توجد هنا مجموعة من المعطيات، لابد من توليفها:
1 ـ إنّ القواعد العامّة في باب الحدود تخضع لنظام الدولة ولا تخضع لرؤية الفرد نفسه، رغم ذهاب بعض الفقهاء إلى أنّ بعض الحدود يمكن القول بعدم الحاجة فيها إلى إذن الحاكم الشرعي كحدّ الردّة، لكنّ الصحيح أنّ باب النفوس باب مجتمعي عام، يخضع في مرحلة الإجراء إلى إدارة من يتولّى شؤون السلطة في المجتمع، دون أن يُسلب أصل الحقّ في القصاص مثلاً من الفرد. وقد نسب المحقّق الأردبيلي في (مجمع الفائدة والبرهان 13: 320) إلى مشهور الفقهاء ذهابهم إلى أنّ المتولّي لإقامة حدّ الردّة إنّما هو إمام المسلمين، بل ذكر آخرون أنّه لو أقدم عليه شخصٌ بلا سياق قضائي وسلطوي من قبل الدولة فهو آثم ويعاقبه إمام المسلمين تعزيراً.
2 ـ إنّ القتال شيء والقتل شيء آخر، فالنصّ الوارد في نهج البلاغة وأمثاله يعني أنّ المسلمين عندما شُنّت الحرب عليهم قاتلوا المعتدين، وطبيعة الاجتماع السياسي في تلك الفترة والانقسامات والصراعات كان العنصر القبلي والعشائري موجوداً فيها، فكلّ مسلمٍ تقريباً كان يقاتل على صفوف الجبهة كان يواجه جيشاً من المشركين الذين كانوا يشكّلون مجموعةً من المقاتلين المنتمين إلى قبائل وعشائر متعدّدة، وبالتالي كان من الطبيعي في مواقع الحرب أن يكون بين الفريقين مَنْ هم مِنَ الأقارب والأرحام وأبناء القبيلة والبطون، فلو أنّ هذا الأمر كان يوجب إحجام المسلمين عن القتال لفني الإسلام من أوّله ولاُبيدَ المسلمون عن بكرة أبيهم، فكان تحدّياً على المسلمين أن يشاركوا في الدفاع عن المدينة المنوّرة وعن وجودهم، بقتال من يقاتلونهم ولو كانوا من أقربائهم؛ لأنّه دفاع عن النفس والوجود، وهذا غير أن يقوم الإسلام بحثّ شخصٍ على قتل شخص آخر من أرحامه؛ لأنّه غير مسلم وضمن سياق خارج عن إطار الحرب والقتال والعسكر والسياسية العامّة الدفاعيّة، فالقضيّة مختلفة تماماً هنا.
تصوّروا معي أنّ هناك من أبناء الوطن من هو جاسوسٌ عميلٌ للعدوّ ويقاتل في صفوف العدو، وقام العدو بغزو بلادك ووطنك، وأنت تعلم أنّ بين أفراد الجيش المعادي من هو من أقربائك الخائنين أو أبناء قريتك أو محلّتك، فهل المواطنة والشرف وحبّ الوطن يطلبان منك الانسحاب من الدفاع عن وطنك بحجّة مسألة قتل المحارم أو أنّ الذي يشارك يعدّ بطلاً عضّ على جرحه ليُدافع عن الأرض والعرض والإنسان؟ وإذا أخذنا مثالاً واقعيّاً التجربةَ النضالية في جنوب لبنان، حيث كان الكثير من عناصر ما كان يُسمّى بجيش لحد، من أبناء نفس القرى والبلدات والاُسر التي كان ينتمي إليها المقاومون، فهل من الشرف أن يتخلّى الإنسان هنا عن تحرير أرضه وعرضه، لأجل أنّ بين المقاتلين الذين خانوا وطنهم وتترّس بهم العدوّ من هم من أبناء قريتك أو عشيرتك أو محلّتك؟!
هذا هو السياق الزمكاني المحيط الذي يجب أن نتعرّف عليه جيداً قبل الحكم، ولو كان مطلق الكفر مبرّراً في الإسلام لقتل المحارم، فلماذا رأينا القرآن الكريم يحثّ على مصاحبة الوالدين في الدنيا بالمعروف حتى لو جاهداك على أن تشرك بالله تعالى؟! لماذا لم يأمر بقتلهما فوراً وذبحهما؟ هل هذا حكم منسوخ أيضاً؟!! هذا يعني أنّ السياق الذي قاتل فيه المسلمون أقرباءهم هو سياق حرب، وليس سياق تصفيات شخصيّة، كبعض ما حصّل مؤخراً ـ مع الأسف ـ في بعض البلدان العربيّة وغيرها.
3 ـ ومن هنا يتبيّن أنّ هناك فريقين يرتكبان خطأ هنا:
الفريق الأوّل: وهو الفريق الذي يريد جرّ تلك التجربة إلى فضائنا اليوم ليطبّقها بطريقة مباينة لسياقها الزمكاني، فيظنّ أنّ افتخار المسلمين الأوائل بأنّهم قاتلوا أقرباءهم معناه تبرير قتل الأقارب اليوم في سياقٍ مختلف، بذبح الإنسان لوالده إذا لم يكن يصلّي، أو لزوجته لأنّها تختلف معه في الفكر السياسي أو غير ذلك، وهنا مكمن الخطأ في الاستنساخ الموهوم للتاريخ بطريقة تبتره عن الملابسات، لتعيد إنتاجه في سياق مختلف تماماً.
الفريق الثاني: وهو الفريق الذي يريد أن يستغلّ هذا الحدث ليصوّر الإسلامَ يدعو لذلك، ومن ثمّ فهو دينٌ إجرامي غير رحيم.
إنّ هذين الفريقين يرتكبان الخطأ نفسه بصرف النظر عن دوافع كلّ منهما، وهذا الخطأ هو السعي لاستنساخ التاريخ مع تقطيع أوصاله وبتر عناصره الحافّة، ولهذا كنّا وما نزال نقول دائماً بأنّ الفهم التاريخي للنصوص الدينية ـ والفهم التاريخي بشكلّ أخص للأفعال والأعمال والسلوكيات السابقة ـ ليس فزّاعة، بل هو ضرورة منهجيّة يجب السعي لتنظيم قواعدها، كي نحصل على لبّ الرسالة الدينية، ونَذَر القشور المتغيّرة بفعل الزمن جانباً.