كيف يتعامل من ينكر حجيّة الظنّ في الدين مع ظهورات الكتاب والسنّة؟!
تاريخ النشر: 7/16/2016
248400
التحميل
السؤال: من يرى عدم حجية الظنّ في الدين، وينكر حجيّة خبر الواحد على أساس أنّه ظنّ، وأنّ القرآن وغيره قد نهى عن الظنّ، كيف يبرّر من يرى ذلك، العملَ بظهورات القرآن والسنّة مع أنّ الظهور ظنّ عند الأصوليّين أيضاً؟ فأنتم مثلاً ترون عدم حجيّة خبر الواحد، ولاحظنا منكم مراراً رفض مرجعيّة الظنّ في الشريعة، فكيف تبرّرون عملكم بالظهورات الموجودة في الكتاب والسنّة؟ وعذراً (طالب علم).
الجواب: إنّ من ينكر مرجعيّة الظنّ في الاجتهاد الديني عموماً لا يؤمن بالظنّ الدلالي أيضاً، كما تحدّثنا عن ذلك في كتابنا (حجيّة الحديث: 720)، ويرى أنّ الدلالات الظنيّة لا حجيّة فيها، ولكنّ نقطة خلافه المركزيّة مع الأصوليّين تكمن في أنّه يعتقد بأنّ دلالات القرآن والسنّة، منها ما هو مطمأنّ به، ومنها ما هو مظنون، ومنها ما هو مشكوك مردّد بين احتمالات، فليست دلالات القرآن والسنّة عنده بالشكل الذي يصوّره الأصوليّون من غلبة الظنّ فيها وندرة العلم، بل هناك الكثير من الدلالات المطمأنّ بها اطمئناناً عقلائيّاً وليس يقيناً عقليّاً بالضرورة، وهو يعتقد بأنّ الأصوليّين أفرطوا في نزعة الظنّ الدلالي على المستوى الميداني، مع إقراره بأنّ هناك مساحة من الدلالات غير مؤكّدة، وبالتالي ستكون غير حجّة، ولهذا تجده دائماً يقول: المقدار المتيقّن من دلالة هذا النص هو كذا وكذا. وهذا ما يذهب إليه أيضاً بعض العلماء المعاصرين على مستوى النصّ القرآني في بعض إشاراتهم، مثل السيد محمد حسين الطباطبائي والشيخ عبد الله جوادي آملي والشيخ جعفر السبحاني، فيرون أنّ في القرآن ظهوراً استقراريّاً مطمأنّاً به ومعتدّاً به، ولا يعني ذلك أنّ كلّ الدلالات المثارة في القرآن والسنّة هي كذلك.
وعندما نقول بأنّ هناك دلالات يقينيّة ودلالات ظنيّة، فلا نقصد أنّ بعض النصوص تدلّ يقيناً، وبعضها يدلّ ظهوراً ظنيّاً، بل نقصد أنّ النص الواحد يمكن أن يدلّ على شيء يقيناً، ولكنّ دلالته على ما هو أزيد من ذلك قد تكون بالظنّ، فيقتصر على المقدار اليقيني، فمثلاً لو ورد طلبُ فعلٍ ما في نصٍّ معيّن من آية أو حديث، كما لو قال: افعل كذا، فإنّ دلالته اليقينية تكمن في أصل الحث على الفعل، ولا ينبغي الوسوسة في ذلك، لكنّ دلالاته على الوجوب قد تكون أحياناً بالظنّ، وهذا مجرّد مثال افتراضي، فليس إذا كانت بعض دلالات النصّ الواحد ظنيّةً فهذا يعني أنّه نصّ لا يحمل طاقة الدلالة اليقينيّة فيه أبداً، فلاحظ جيداً.
والذين ينكرون مرجعية الظنّ الدلالي يرون أنّ السيرة العقلائية قائمة ـ في القدر المتيقّن منها ـ على العمل بالاطمئنان في مجال المحاورة والفهم، فأنت عندما تتكلّم مع شخص آخر في السوق أو المدرسة هل يحصل لك اطمئنان بمفاد كلامه أو أنّك تعيش حالة الظنّ وأنّه يحتمل كلامه كذا وكذا؟ فهل عموم الناس يعيشون حالة الظنّ أو يعيشون حالة الاطمئنان بحيث لا ينقدح في ذهنهم الاحتمال المخالف ولو انقدح ردّوه لضآلته؟ والاطمئنان ـ كما نعلم ـ يجامع الاحتمالات الضعيفة جداً.
والذي حصل أنّ الأصوليّين المسلمين قدّموا لنا ظنيّة دلالات الكتاب والسنّة عموماً وكأنّها مسلّمة من المسلّمات، فيتلقّاها طلاب العلوم الدينية على أنّها أشبه بالبدهيات الواضحة، بحيث لو تخلّينا عن الظنّ لم يبق شيء وانسدّ باب العلم بالدين، وهذا التلقين شبه المسلّم في الأوساط الحوزويّة والدينية يحتاج لإعادة نظر جادّ، فالمسألة ليست كذلك. نعم لا نشكّ في مساحة الظنّ لكنّنا لا نشكّ أيضاً في مساحة اليقين الموضوعي العقلائي غير البسيطة، هذا كلّه على غير نظريّة الميرزا القمّي رحمه الله في مسألة اختصاص الخطاب بالمشافهين أو المقصودين بالإفهام، فلو استحكمت تلك النظريّة في بعض تفاسيرها لأدّت إلى الانسداد العامودي الحادّ، وقد ناقشها العلماء بالتفصيل، وسبق لنا أن ناقشناها في بحوثنا ودروسنا الأصوليّة حول حجيّة القرآن.
إنّ أنصار اليقين في الاجتهاد الديني يرون أنّنا لو تخلّينا عن الظنون في الصدور والدلالة لربما أزحنا عن الفكر الديني الكثير من الأثقال، ولم نحتج لتكلّف عناء الدفاع عن أمور كثيرة. إنّهم يعتقدون أنّ الدين ربما يشبه كرة الثلج المتدحرجة من قمّة الجبل نحو الوادي، فكلّما مرّ الزمان تزايد حجمها، والسعي لإرجاعها إلى حالتها الأوليّة أمرٌ عسير؛ لأنّ الذهن العام يتصوّر أنّ حالتها التي وصلت إليها وهي في أسفل الوادي هي حالتها الأولى، بينما قد تكون حالتها الأولى أقلّ وأصغر حجماً بكثير من الحالة المتضخّمة التي وصلت إليها. إنّ هذا التصوّر يمثل (فرضيّة) يجب أن لا تغيب عن ناظرنا في دراسة القضايا الدينيّة عموماً.