لماذا لا يربط الفقه الإسلامي الإفطار والقصر على المسافر بالمشقّة والتعب؟!
السؤال: تغيّرت نظرة بعض الفقهاء من أهل السنّة لناحية عدم وجوب اﻹفطار في رمضان عند السفر، لانتفاء دواعي ذلك من المشقّة التي كانت على عهد التشريع. هل هناك من فقهاء اﻹماميّة من يرى مثل هذا. خاصّة أنّ المشقّة أصبحت في القضاء أكثر من الصوم مع عامة الناس؟
الجواب: ما يزال الرأي الشيعي الإمامي السائد في مسألة السفر ـ كرأي مشهور المذاهب ـ غير مؤمن بمعيارية التعب والمشقّة في الأسفار، فلا توجد مرجعيّات عليا تؤمن بهذا الأمر، نعم هناك بعض البحوث المتفرّقة من بعض طلاب العلوم الدينيّة أو بعض الفضلاء تثير هذا الموضوع بين الفينة والأخرى بشكل محدود، ويُنقل عن الإمام السيد موسى الصدر، أنّه كان يميل لهذا الرأي. وبعض الفقهاء كان ينكر وجود صلاة القصر للمسافر أساساً مثل الشيخ الصادقي الطهراني في بعض كتبه، ويراها خاصّة بحال الخوف والضرورة لا بمطلق السفر، مخالفاً في ذلك جمهور المسلمين.
نعم، يوجد أمران لهما صلة وثيقة بما طرحتموه، ولهما حضور في الموروث الإسلامي، وهما:
1 ـ ثمّة خلاف فقهي قديم في موضوع المسافر وأحكامه، يدور حول المعيار في صدق عنوان المسافر الشرعي، فنحن نعرف أنّ بعض المذاهب الإسلاميّة ترى المعيار في صدق عنوان المسافر الشرعي هو صدق عنوان المسافر عرفاً، وبعضهم يحدّدها بمسافة معينة اختلف فيها وهكذا، أمّا في الفقه الإمامي فتوجد مجموعتان من الروايات وقع خلاف بين العلماء في ما يعتبر المجموعة الأصل منها:
أ ـ فهناك مجموعة تفيد أنّ العبرة في صدق عنوان السفر الشرعي هو المسافة، والمعروف في المسافة هو المسافة الامتدادية والمسافة التلفيقيّة، أي حوالي 44 كلم، أو 22 ذهاباً وإياباً، وهذا هو السائد والمعروف ي الفقه الإمامي، وتكاد تطبق عليه الفتاوى المعاصرة، ويعرفه كلّ ملتزم ديني من أبناء هذا المذهب.
ب ـ وهناك مجموعة ثانية تفيد أنّ العبرة في صدق عنوان السفر الشرعي هو الزمان وليس المسافة، وهذا الزمان هو يوم وليلة، فلو استمرّ بك السفر ليوم وليلة كاملين مع استراحة متعارفة بينهما، فإنّ هذا السفر هو الذي يوجب القصر، وليس المهم نوعية وسيلة السفر ولا المسافة التي تقطعها في سفرك.
ونحن لو تأملنا ـ آخذين بعين الاعتبار وسائط النقل الحديثة كالطائرات والقطارات والسفن ـ لوجدنا أنّ السفر الذي يجعل بمعيار المسافة لا يكون موجباً للمشقة غالباً اليوم، بينما السفر الذي يجعل بمعيار الزمن هو سفر شاقّ غالباً، فأنت حتى تقصر في الصلاة عليك أن يكون سفرك مستمراً ليوم وليلة أي 24 ساعة، وهذا يعني أنّك لو أردت أن تسافر من مصر مثلاً ويكون سفرك بهذه المدّة الزمنيّة، فيجب أن تصل إلى اليابان حتى يصدق هذا السفر الشرعي، فلو سافرت من مصر إلى اليابان وجب القصر، أمّا من مصر إلى العراق أو اليمن أو تركيا أو إيطاليا، فهذا السفر بالطائرة لا يوجب قصراً وفقاً للمعيار الزمني، وبهذا نلاحظ أنّ المعيار الزمني قريب جداً ـ إلى اليوم ـ من فكرة المشقّة عادةً، بينما المعيار المكاني (المسافة) لم يعد قريباً اليوم.
فإذا اختار الفقيه المعيار الزمني دون المسافة، أو قال فقيهٌ بأنّ المعيارين هما معيار واحد في ذلك الزمان، وأنّ مسافة 44 كلم هي تعبير عن مسير يوم وليلة (دون العكس)، وأنّ السير ليومٍ وليلة في ذلك الزمان بسير القوافل على الإبل يساوي مسيرة 44 كلم تقريباً، فهذا يعني أنّ المعيار عنده قريب من فكرة المشقّة وإن لم يطابقها تماماً. لكنّ أغلب الفقهاء يأخذون بمعيار المسافة ويستشهدون لذلك ببعض النصوص التي تجعله معياراً، وتقيس عليه الزمن دون العكس.
2 ـ بعض الروايات التي احتوت تعليلاً ـ أو شبهه ـ لجعل الإفطار والقصر على المسافر بأنّه لأجل المشقّة، حيث قد تثير هذه الروايات تساؤلات في الموضوع، مثل:
أ ـ صحيحة ابن سِنَانٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُسَافِرُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا بِالنَّهَارِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّه!ِ أَمَا تَعْرِفُ حُرْمَةَ شَهْرِ رَمَضَانَ، إِنَّ لَهُ فِي اللَّيْلِ سَبْحاً طَوِيلًا. قُلْتُ: أَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيُقَصِّرَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ فِي الْإِفْطَارِ وَالتَّقْصِيرِ رَحْمَةً وَتَخْفِيفاً؛ لِمَوْضِعِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَوَعْثِ السَّفَرِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي مُجَامَعَةِ النِّسَاءِ فِي السَّفَرِ بِالنَّهَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ الصِّيَامِ ولَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءَ تَمَامِ الصَّلَاةِ إِذَا آبَ مِنْ سَفَرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَالسُّنَّةُ لَا تُقَاسُ، وَإِنِّي إِذَا سَافَرْتُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا آكُلُ إِلَّا الْقُوتَ وَمَا أَشْرَبُ كُلَّ الرِّيِّ (الكافي 4: 134؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 2: 143 ـ 144؛ والاستبصار 2: 105؛ وتهذيب الأحكام 4: 241). فالرواية واضحة في التعليل بتعب السفر ووعثه ومشقّته.
ب ـ صحيحة معَاوِيَة بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْد اللَّهِ عليه السلام: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُتِمُّونَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ: وَيْلَهُمْ أَوْ وَيْحَهُمْ، وَأَيُّ سَفَرٍ أَشَدُّ مِنْهُ، لَا، لَا يُتِمُّ (الكافي 4: 519؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 4: 447، و2: 466 ـ 467؛ وتهذيب الأحكام 3: 210، و5: 433)، فمن الملاحظ أنّ الإمام ندّد بالتمام معلّلاً بأنّه سفر شاقّ، فالعبرة بالمشقّة.
ويعزّز القول بمعياريّة المشقّة من خلال ملاحظة البُنية الفقهيّة لأحكام صلاة وصوم المسافر، فلو وصل وطنه أتمّ، والوطن موضع راحة الإنسان، ولو أقام عشرة أيّام أتمّ وهي مدّة كافية للمسافرين آنذاك للراحة، ولو كان سفره معصية أتمّ؛ لأنّ في القصر تخفيفاً ورعايةً ومحبّة ورفعاً للمشقّة، فلم يناسب رفعها عن العاصي، وغير ذلك من الشواهد والقرائن.
ولكنّ فكرة المشقّة نجد تعرّضها لمناقشات رغم هذه النصوص والقرائن، مثل اعتبار ما جاء في هذه النصوص بمثابة الحكمة وليس العلّة للحكم حتى يدور الحكم مدارها، ومثل القول بأنّه لو كانت المشقّة هي المعيار، فلماذا ذكرت المسافة في النصوص، بينما كان من المفترض ذكر المشقّة التي تختلف من شخص لآخر؟ وقد كنت قبل حوالي التسعة عشر عاماً بُعيد تشرّفي بالحضور عند الأساتذة الأكارم في حوزة قم، ذكرت أدلّة معياريّة المشقّة لبعض أساتذتنا الأجلاء، وأوردت له مثل هاتين الروايتين ـ مع هذه القرائن، مضافاً لنصوص معيارية الزمن التي تعزّز فكرة المشقّة نوعاً، خاصّةً في ذلك الزمان ـ التي لا يعمل الفقهاء بالإشارة الواردة فيها، فكان الجواب منه حفظه الله بأنّه لو صحّ لما كان معنى لذكر المسافة معياراً في نصوص أخرى كثيرة.
وعليه، فالمسألة تختلف باختلاف التوجّهات، ورغم أنّ لديّ إجابات عن جملة من إشكاليّات الرافضين لمعياريّة المشقّة والتعب النوعي في أحكام المسافر، ومنها الإشكاليّة التي أثارها أستاذنا الجليل، والوقت لا يسمح بالتعرّض بالتفصيل للموضوع، إلا أنّ الموضوع ما يزال محلّ تأمّل ويحتاج للمزيد من البحث والمعالجة للوصول إلى نتيجة واضحة في المسألة تتخطّى كلّ العقبات التي يمكن أن تواجهها في النصوص.
والنتيجة: إنّ الفقه ما يزال غير مقتنع بمعياريّة المشقّة في صلاة المسافر وصومه، وما يزال يسود فيه الحديث عن معياريّة المسافة، والآراء المختلفة هنا وهناك ما تزال محدودة جدّاً، ولم ترقَ إلى مستوى تكوين اتجاه قويّ في المؤسّسة العلميّة الدينية.