hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

"أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها" في ضوء القرآن والسنّة

تاريخ الاعداد: 8/15/2023 تاريخ النشر: 8/15/2023
14110
التحميل

­حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا

تمهيد

إنّ الموضوع الذي أودّ أن أتكلّم فيه باختصار شديد هنا يتعلّق بمبدأ أخلاقي نجد له حضوراً في النصوص الإسلاميّة، كما له حضور في نصوص الأديان الأخرى، وهذا المبدأ يؤسّس لنمط العلاقة بين الإنسان والآخر بصرف النظر عن جنسيّة الآخر ولغته وقوميّته وعِرقه ولونه ودينه ومذهبه.

ثمّة قاعدة أخلاقيّة أطلق عليها في القرن السابع عشر الميلادي عنوانُ «القاعدة الذهبيّة» وكُتب حولها الكثير من الكتابات وبخاصّة باللغة الانجليزيّة، وهي عبارة عن مبدأ نعرفه جميعاً: أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك. وأريد هنا أن أتناول بعض النصوص القرآنيّة والحديثيّة التي تتّصل بهذا المبدأ.

إنّ النصوص التي تتعرّض لهذه القاعدة في الحديث الشريف متنوّعة، ثمّة تعابير تستخدم مفردة الأخ، فتجعل القاعدة في دائرة الأخوّة الإسلاميّة على ما هو المعروف من أنّ مفهوم الأخوّة مرتبط بالدائرة الإسلاميّة فقط، بينما نصوص أخرى لا تربط الموضوع بالأخ، وإنّما تربطه بمطلق الآخر، فنستطيع أن نوظّفها كمؤشّر أخلاقي عام توجّهنا الشريعة والنصوص الدينيّة إليه باعتباره مبدأً في السلوك والتعامل مع الآخر الديني والقومي والطائفي و..

تنقسم هذه القاعدة إلى جزأين إيجابي وسلبي:

أمّا الجزء الإيجابي، فهو «أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك». إنّ القاعدة تقول: كلّ شيء أنت تحبّه وتريده لنفسك فأحببه واطلبه للآخرين، وحاول أن تتأمّل حصول الآخرين عليه أيضاً.

وأمّا الجزء السلبي، فهو «واكره لهم ما تكره لنفسك»، أي إنّ الأشياء التي لا تحبّها لنفسك وتطردها عن نفسك حاول أن تكرهها للآخرين وأن لا تحبّها لهم.

من هنا فصّل بعضٌ فأطلق على الجانب الأوّل عنوان «القاعدة الذهبيّة»، فيما أطلق على الجانب الثاني عنوان «القاعدة الفضّية».

إنّنا نجد امتداداً واسعاً لهذه القاعدة عند مختلف الشعوب والأديان، وقد كُتبت كتبٌ عدّة حول هذه القاعدة، كما جمع أولئك الذين يدرسون التراث العالمي نصوصاً من مختلف الديانات والشعوب والحضارات في العالم، ورأوا أنّ هذه القاعدة موجودة في أدبيات وثقافة جميع الشعوب والحضارات والأديان، ممّا يؤشّر إلى أنّها ذات خلفيّة إنسانيّة وفطريّة، أو ربما يؤشّر إلى أنّ البعد القيمي فيها ضارب في أعماق النفس الإنسانيّة، فيجد كلّ إنسان في أعماق ضميره ووجدانه ـ مهما كانت عقيدته ودينه ـ أنّه من القيم الإنسانيّة أن تحبّ للآخرين ما تحبّ لنفسك وأن تكره لهم ما تكره لنفسك، فتجعل الآخر بمثابة نفس أخرى لك، فكما تحبّ لنفسك تحبّ له، وتجعل الآخر بمثابة نفس أخرى لك، فكما تكره لنفسك شيئاً تكره له ذلك الشيء.

استحضار المبادئ الأخلاقيّة في الشريعة

قبل أن أتكلّم عن بعض النصوص الدينيّة المتصلة بهذه القاعدة، أريد أن أتوقّف مع مقدّمة أخرى تتّصل بهذه القاعدة وقواعد أخَر شبيهة بها نجدها في مختلف النصوص الدينيّة، مما يمكن أن نسمّيه «المبادئ الأخلاقيّة العامّة».

إذا راجعنا الكتب الفقهيّة في مختلف المذاهب الإسلاميّة عموماً لا نكاد نجد حضوراً لمثل هذه المبادئ الأخلاقية في الدرس الفقهي، فغالباً ما نجد هذه المبادئ في مطاوي الكتب الحديثيّة أو الكتب الأخلاقيّة، لكنّها خارجة عن إطار التداول الفقهي عموماً، مع أنّها بمثابة المؤشّرات العامّة في العلاقات بين الناس، وتؤسّس لنا منهجاً عامّاً في كيفيّة الارتباط بالآخرين، فلا ينبغي تغافلها في الدرس الفقهي.

على سبيل المثال، إذا أخذنا هذه القاعدة معتبرينها قاعدةً صحيحة في الأخلاق، وممضاة ومؤيّدة من النص القرآني والحديثي، فستكون مؤشّراً موجّهاً لجميع علاقاتي مع مطلق الشعوب والأمم التي لا تنتمي إلى الإسلام؛ لأنّها لم تضيّق الدائرة في جماعة معيّنة، وإنّما تتكلّم عن مطلق الآخر، فكلّ إنسان عليك أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك، فإذا جاءنا دليل في حالةٍ معيّنة، يقول: هذا الشخص لا ينبغي لك أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك، فعلينا أن نعتبرها حالةً استثنائية لها مبرّرها الموضوعي الخاص الذي أخرجها بدليل، وإلا فالمؤشّر العام في العلاقات يفترض أن تكون قاعدة «المحبّة المتبادلة» إن صح التعبير.

إذن، تكمن أهمّية هذه القاعدة في أنّها قاعدة موجِّهة للسلوك، تدلّني إلى ما هو الأصل في تعاملي مع الآخر، أيَّ آخرٍ كان، لا يهمّني من هو في دينه أو في عقيدته وانتمائه بقدر ما يهمّني في أنّه "آخر"، أي أنّه منفصل عنّي يشكّل "الغير" بالنسبة لي.

وأيضاً هي قاعدة أخلاقيّة لا تتعلّق بالأعمال فحسب، بل تتحدّث عن الحالات القلبيّة للإنسان، فإنّها لا تقول: إعمل للآخر ما أنت تفعل مع نفسك، وإنّما تقول: احبب له ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، ممّا يعني أنّ هذه القاعدة لا تختصّ بالجوارح والأفعال الظاهريّة للإنسان، بل تخاطب الإنسان في أعماق قلبه لتغيّر سلوكه تجاه الآخر عبر تغيير عواطفه، ممّا سيكون أقوى بكثير من الأوامر الظاهريّة التي تخاطب جوارح الإنسان. ولهذا تعتبر هذه القاعدة، قاعدةً روحية وقلبية أكثر من كونها قاعدة عمليّة وسلوكيّة، وهذه الفكرة بإيجاز هي التي تُسمّى اليوم بـ "القاعدة الذهبيّة".

لننتقل بعد هذه المقدّمة إلى المصادر الإسلاميّة ونرى مدى حضورها في النص الإسلامي. إنّنا نجد في هذا السياق حضوراً خفياً ـ إذا صحّ التعبير ـ لهذه القاعدة في النصّ القرآني، وأعني من الخفاء هنا ما وراء النص، حيث لا نجد نصّاً صريحاً يحدّث بعينه عن هذه القاعدة في القرآن الكريم، ولكنّنا نستطيع أن نستنبط روحها ومضمونها في لوازم آياته، وفي المقابل نجد لها حضوراً جليّاً في النصّ الحديثي، وأقصد من الجلاء هنا أنّ نفس تركيبة هذه القاعدة موجودة بصراحة في الأحاديث.

القاعدة الذهبيّة والنصّ القرآني

لا نجد في النصّ القرآني القاعدة الذهبية بنفس تعبيرها السائد أي «أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك..»، لكن ثمّة تعابير فيه قد تقع في سياق فكرة هذه القاعدة، ومنها:

أ ـ ما ورد في سورة الضحى: عندما يخاطب الله تبارك وتعالى نبيّه ويقول له: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ووَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ووَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾ (الضحى: 6 ـ 8) ثم يرتّب على ذلك: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى: 9 ـ 11).

ثمّة علاقة بين الآيات الثلاث الأولى وبين الآيات الثلاث الأخيرة، وليست هذه العلاقة إلا روح القاعدة الذهبية، صحيحٌ أنّنا لا نجد هنا نصّاً صريحاً للقاعدة، ولكن لا نجد تبريراً منطقياً في العلاقة بين هذه الآيات إلا هذه القاعدة، فكأنّها تريد أن تقول: لقد كنت يتيماً وأنت تعرف عندما كنت يتيماً ما الذي كنت تحبّ لنفسك في أن يعطف ويتودّد الناس إليك، ويحاولون أن يملؤوا فراغ عاطفتك، إذاً ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ﴾، وكنت عائلاً وتعرف ما الذي يحبّه العائل الفقير لنفسه، فإنّه يحبّ أن يحصل على المال الذي يحتاجه، ويحبّ أن يساعده الآخرون، فأنت عندما تصبح غنيّاً ﴿وأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ﴾، من هنا اعتبروا أنّ العلاقة بين الآيات الثلاث الأولى والآيات الثلاث الأخيرة، تتضمّن تعبيراً عن القاعدة الذهبيّة.

ب ـ ما ورد في سورة المطفّفين: قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَ لاَ يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (المطفّفين: 2 ـ 6).

صحيحٌ أنّ الآيات القرآنية هذه تستخدم مفردة الكيل والوزن، ومن ثم فهي على صلة بموضوع العلاقات التجاريّة. وبعض فقهاء المسلمين ـ ومنهم السيد الخوئي ـ توسّع من إطار مفهوم الكيل والوزن في هذه الآية القرآنية إلى سائر الوسائل التي تستخدم عادة في المبادلات التجاريّة، لتشمل سائر الأدوات مثل العدّ و..، ولكن هل يمكن أن نتوسّع أكثر؟

إنّ هذه الآيات القرآنية تذمّ من يستوفي لنفسه في علاقاته التجاريّة مع الآخرين، ولكنّه يُخسر في حقّ الآخرين، فإذا تأمّلنا في هذه الفكرة سنجد أنّ النكتة الأساسيّة في هذه الآيات ليست إلا ما يصبّ في إطار القاعدة الذهبيّة، حيث إنّ هذا التصرف الذي يذمّه القرآن الكريم ليس إلا بسبب أنّ الإنسان لا يحبّ للآخرين ما يحبّه لنفسه، فعندما كان له حقّ على الآخرين يستوفيه ويأخذه على كامل الوفاء، ولكنّه إذا كان للآخرين حقّ عليه فإنه يُخسِره ويُنقِصه، فهو لا يحبّ للآخرين ما يحبّه لنفسه، فهذه المفارقة بين ما يحبّه هو لنفسه وبين ما يفعله مع الآخرين، هو الذي تذمّه الآية.

من هنا ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هذه الآية لا تختصّ بالتطفيف المالي، بل تشمل التطفيف الاجتماعي والسياسي، الذي نعبّر عنه نحن اليوم في أدبياتنا بـ«الكيل بمكيالين»، فما نجده أحياناً في أوساطنا السياسية والاجتماعية من المفارقة بين ما يريده الإنسان لنفسه وما يريده للآخرين مخالف للثقافة القرآنيّة هذه، حيث يحاول أن يلعب بالأمور حتى لا يحصل الآخرون على ما يريد هو لنفسه، بينما المطلوب من الزاوية الأخلاقيّة والقرآنيّة أن يجعل الإنسان نفسه مكان الآخرين ويضع معياراً واحداً في التعامل مع الأمور.

إذن، تكمن أهميّة هذه السورة في رفض هذا التفاوت في التعاطي ما بين ما تريده أنت لنفسك وما تريده لغيرك، ومن ثمّ نجد خلف هذا المطلع من سورة المطفّفين روحَ القاعدة الذهبيّة، فالمطلوب منك أن تحبّ للآخر ما تحبّ لنفسك، وتتعامل معه كما تتعامل مع نفسك، وكما تريد أن يعاملك هو، فلا يجوز لك أن تجعل سيرتك في التعامل متفاوتة مختلفة وغير متشابهة.

ج ـ ما ورد في سورة البقرة: وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ومِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ولاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (البقرة: 267).

لقد أكّد القرآن الكريم في مواضع كثيرة من آياته على ضرورة الإنفاق والاهتمام بالأيتام والفقراء والمساكين، ومنها هذه الآية الشريفة، ولكنّها تؤكّد على أن يكون الإنفاق من الطيبات التي رزقها الله للإنسان، فلا يصحّ أن يأخذ الإنسان الخبيث والرديء من أمواله ليُنفقه على الفقراء والمحتاجين، بل على الإنسان أن يختار ما هو الطيّب من أمواله ليُنفقه في سبيل الله.

إذن، جاءت هذه الآية القرآنية لتصبّ انتقادها على هذا السلوك غير الأخلاقي عند الإنسان، حيث يتيمّم ويقصد الرديء والخبيث من أمواله عندما يريد أن يُنفق في سبيل الله، بينما المطلوب أن يختار الإنسان الطيّب من أمواله للإنفاق، ثمّ تشير الآية إلى نكتة ظريفة حيث تقول: ﴿ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ وهذا ما جعل الآية هذه من مستندات القاعدة الذهبية، فكأنّها تريد أن تقول: إنّ هذا السلوك الذي تفعلونه تجاهَ الآخرين، يعاكس الشيء الذي تريدونه لأنفسكم، فكما يريد الإنسان ما هو الطيّب لنفسه فعليه أن يتيمّم الطيّب النقي للإنفاق في سبيل الله.

وعليه، صحيحٌ أنّنا لا نجد القاعدة الذهبية بلفظها في هذه الآية، ولكنّ روح الفكرة النقديّة التي تريد الآية القرآنية أن توجّهنا إليها تصبّ في إطار هذه القاعدة.

وينتج عن هذا، أنّ هناك شيئاً في النص القرآني يمكن أن يساعدنا في اقتناص وتصيّد القاعدة الذهبيّة، ولو لاحظنا في هذه المواضع الثلاثة من سور: الضحى، والبقرة، والمطفّفين، فلا نجد كلاماً عمّن هو الآخر، فلا يوجد كلام في أنّه شيعيّ أو سنّي، أو مسلم أو غير مسلم، ولا كلام عن هويّته الوطنيّة، أو اللونيّة، أو العرقيّة أو اللغويّة أو غير ذلك، ومن ثمّ تتكلّم الآيات هذه عن أصل الفكرة، وتختزن في بنيتها التحتيّة روحَ فكرة القاعدة الذهبية دون أن تقيّدها بأيّ مقيّد ديني أو عِرقي أو طائفي أو طَبَقي أو لغوي أو غير ذلك.

من هنا، صحيحٌ أنّنا لا نجد القاعدة الذهبية بصراحة في القرآن الكريم، لكن ثمّة إشارات فيه لها، وهي قاعدة صنّفت عام (1993م) على أنّها واحدة من قواعد الأخلاق العالميّة، التي لا تختصّ بدين معيّن وإنّما هي قاعدة عالميّة نجدها في مختلف الأديان والحضارات.

ثمّة آيات أخرى حاول بعضهم أن يقتنص منها القاعدة الذهبية، ولكنّني أكتفي هنا بهذه الآيات لأسرد بعض الروايات التي تطلّ بنا على هذه القاعدة، وقد درسنا هذه الآيات في دراسة مستقلّة حول هذه القاعدة في كتابي المتواضع «قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني»، فيمكن مراجعتها.

القاعدة الذهبيّة في الحديث الشريف

ثمّة روايات كثيرة في المصادر الحديثية، وبخاصّة المصادر الإمامية، تتحدّث بصراحة عن هذه القاعدة أو تقع في سياقها على الأقلّ، ممّا يمكننا أن ننتفع به لإثبات هذه القاعدة بوصفها أساساً في سلوكنا مع الناس جميعاً، ومنها:

الرواية الأولى: وصيّة الإمام عليّ× لولده الحسن×، يقول فيها: «أي بنيّ، تفهّم وصيّتي واجعل نفسك‏ ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحِبُّ لنفسك، واكره لهُ ما تكرهُ لنفسك، ولا تَظلم كما لا تُحبُّ أن تُظلم، وأحسن كما تُحبُّ أن يُحسن إليك، واستقبح مِن نفسك ما تستقبحُ مِن غيرك، وارضَ من النّاس لك ما ترضى به لهم منك‏»([2]).

إنّ النص العلوي هذا صريحٌ في التأكيد على القاعدة الذهبيّة، حيث وردت هذه القاعدة بلفظها في كلام الإمام عليّ، فكأنّه يريد أن يكرّس هذه القيمة الأخلاقية في الثقافة الإسلاميّة، بل هو لا يكتفي بأصل الفكرة، وإنّما يأتي بمصاديق لهذه القاعدة تساعد في تطبيقها في الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان.

الرواية الثانية: خبر حسن بن الجهم عن أبي الحسن الرضا×، قال: قال: «التواضع أن تعطي الناس ما تحبّ أن تُعطاه»([3]).

إنّ هذه الرواية أيضاً تصرّح بلفظ القاعدة الذهبية، ولكنّ الملفت للنظر فيها هو إقحامُ مفهوم التواضع، حيث اعتبرت أنّ العمل بهذه القاعدة هو التواضع، ولو تأمّلنا في القاعدة الذهبية، فهي ليست إلا انعكاساً لصفة التواضع في الإنسان؛ لأنّ الإنسان الذي يريد لنفسه شيئاً ولكنّه لا يؤتيه للآخرين ليس متواضعاً، أي لا يجعل نفسه بمستوى الآخرين. فكلّما مارس الإنسان هذه الصفة الأخلاقيّة الموجودة في هذه القاعدة الذهبية، يجعل نفسه في مستوى الآخرين، وهذا ضربٌ من التواضع، بينما كلّما كنت تريد من الآخرين شيئاً وفي المقابل لا تعطيه لهم فهذا ضربٌ من التكبر، فإنّك تجعل لنفسك حقوقاً، ولا تجعلها للآخرين.

وعليه، إمكاننا الآن أن ننزّل كلّ الكمية الكبيرة من الحديث الشريف لدى المسلمين جميعاً التي تتكلّم عن التواضع، على مفهوم القاعدة الذهبية؛ لأنّها ستُصبح شكلاً من أشكال التواضع في الإنسان، وكذلك نستطيع أن نستخدم كلّ الروايات التي تتكلّم عن التكبّر في إثبات عكس القاعدة؛ لأنّ عكس القاعدة هو شكلٌ من أشكال التكبر والطَبقيّة في الإنسان ولو في الجملة.

ولذلك نجد في حديثٍ آخر أنّ السائل يسأل الإمام الرضا×: ما حدّ التواضع‏ الذي إذا فعله العبد كان متواضعاً؟ فقال: «التواضع درجاتٌ، منها أن يَعرف المرءُ قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ، عاف عن الناس،‏ والله يحبّ المحسنين»([4]).

الإمام هنا في مقام شرح التواضع ويبيّن مراتبه ودرجاته، ويعتبر تطبيق هذا المبدأ الأخلاقي من مراتب التواضع، وبالتالي يعتبر عكسه من التكبّر الخفي، قد لا يشعر به الإنسان للوهلة الأولى، ولكنّه يلتفت إليه بعد سماع هذا الحديث.

إذن، مفهوم التواضع صار ذا صلة وثيقة بهذا المبدأ الأخلاقي، وليست هذه العلاقة تعبّدية محضة، بل ثمّة علاقة حقيقية بينهما؛ لأنّ التحليل العقلي لهذه القاعدة يجعلها من مصاديق التواضع ويجعل عكسها من مصاديق التكبّر، فنستطيع أن نوظّف ـ إلى جانب النصوص الصريحة لهذه القاعدة ـ الحجمَ الهائل من النصوص الدينية التي تتحدّث عن التواضع أو التكبّر، وإن لم تكن هذه الرواية معتبرة من حيث الإسناد.

الرواية الثالثة: معتبرة الجارود بن المنذر الكندي قال: سمعت أبا عبد الله× يقول:‏ «سيّد الأعمال ثلاثة، إنصاف‏ الناس‏ مِن‏ نفسك‏ حتى لا ترضى بشي‏ءٍ إلا رضيت لهم مثلَه، ومواساتك الأخ‏ في المال، وذكر الله على كلّ حال، ليس سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فقط، ولكن إذا ورد عليك شي‏ءٌ أمرَ الله عزّ وجلّ به أخذت به أو إذا ورد عليك شي‏ءٌ نهى الله عزّ وجلّ عنه تركته»([5]).

إنّ تطبيق هذه القاعدة يقف في رتبة سيّد الأعمال، واللطيف أنّنا نجد في هذا الحديث علاقةً جديدة بين هذه القاعدة ومفهوم ديني آخر وهو الإنصاف، فتنضمّ الروايات التي تتكلّم عن الإنصاف في المصادر الإسلاميّة إلى جانب هذه القاعدة.

ولا أريد أن أدخل في القيمة الصدورية لهذه الروايات هنا؛ لأنّها كثيرة ويعضُد بعضُها بعضاً، وكذلك تعضدها الآيات القرآنية، فنستطيع القول بأنّ أصل هذه القاعدة أمرٌ ثابتٌ في الإسلام ولكن حدودها ولوازمها و.. تحتاج إلى دراسة مستقلة([6]).

ولكنّ الملفت للنظر حسب مطالعتي المتواضعة، أنّ أغلب أحاديث القاعدة الذهبية موجودةٌ في المصادر الشيعيّة، وثمّة روايات في المصادر السنيّة تشير إليها، ولكن بدرجة أقلّ. لا أريد أن أرتّب أيّ نتيجة على ذلك بقدر ما أريد أن أعكس توصيفاً للمشهد القائم.

إذا دمجنا النصوص القرآنيّة، حسب الفهم الذي أعطيناه لها، مع الأحاديث الشريفة المتعدّدة في هذا المقام عند المسلمين جميعاً، نستطيع أن نصل إلى هذه النتيجة الأخلاقيّة: إنّ الإسلام، بل وسائر الأديان، توجّهنا إلى أن نضع فيما بيننا وبين الآخرين في قواعد العلاقة ـ بصرف النظر عن انتماءاتهم وأشكال هويّاتهم ـ قاعدةً أساسية وهي: أن نحبّ لهم ما نحبّ لأنفسنا، وأن نكره لهم ما نكره لأنفسنا، ومعنى ذلك أنّ الإنسان دائماً في حياته قبل أن يفكّر فيما سيعطي للآخرين أو يأخذ منهم عليه أن يضع نفسه مكانهم.

كلمة أخيرة

إذا طبّقنا هذه القاعدة، فربما سنخفّف في كثيرٍ من المواضع من حجم الاختلافات والصدامات والمشاحنات، وسوف يزول سوءُ الظن والتكبر من حياتنا، وبالتالي يمكن أن نحيا حياةً أخلاقية سليمة، فعندما يريد الإنسان أن يعذره الآخرون عن أخطائه وأن يحملوا أفعاله على أحسن المحامل وأن لا يسيء أحدٌ الظنَّ به، فعليه أن يضع نفسه مكان الآخرين ويعاملهم كما يحبّ أن يعاملوه.

ليست هذه القاعدة منفصلة عن السلوك، بل هي جزءٌ أساس من السلوك في علاقاتنا مع الآخر الديني أو القومي أو الاجتماعي أو..، حتى لو لم تكن بمستوى الإلزام الفقهي، فإنّ هذه القواعد أعمق بكثير من مجرد إلزامات فقهيّة؛ لأنّها موجِّهات سلوكية تسود على مختلف جوانب الحياة الإنسانية، وبالتالي على الإنسان أن يحاول أن يتماهى معها في سلوكه الباطني والظاهري، وإذا تماهى الإنسان معها كانت الحياة أفضل وأكثر سلامة وكنّا نشهد في العالم كلّه نوعاً من المصالحة فيما بيننا وبين الآخرين أكثر بكثير ممّا هي الحال عليه اليوم.

([1]) أُلقيت هذه المحاضرة في قاعة المحاضرات، في مسجد البهبهاني في الكويت، بتاريخ 17 ـ 3 ـ 2019م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثمّ راجعها المحاضرُ (حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والإضافات والتوضيحات.

([2]) ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 75؛ ومع تفاوت بسيط: نهج البلاغة (صبحي الصالح): 397.

([3]) محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي 2: 124.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) المصدر نفسه 2: 144. والسند هو الآتي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى،‏ عن الحسن بن علي بن فضال، عن عليّ بن عقبة، عن جارود أبي المنذر.

([6]) لقد درستُ هذه القاعدة وفروعها بالتفصيل في كتابي المتواضع «قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني».