إشكاليّة العنعنة في التراث الحديثي، مداخلات ومحاولات علاج / لمحة مختصرة
حيدر حبّ الله([1])
تمهيد في بيان إشكاليّة العنعنة
تعرّض بعض النقّاد هنا لمشكلة سنديّة أساسيّة موجودة في الأحاديث عند الإماميّة، وهي أنّ أغلبية أسانيد الإماميّة في الحديث تستخدم أسلوب العنعنة، وصيغة العنعنة كما تحتمل اتصال السند كذا تحتمل انقطاعه، ولهذا يدرج بعضهم العنعنة في التدليس الموهم للاتصال؛ لأنّ (عن) لفظ يستعمل في الكلام المنقول أعمّ من كونه قد بلغ الراوي عن القائل بلا واسطة أحد كما لو سمعه مباشرةً أو بلغه بواسطة دون أن يذكر لنا اسم الواسطة، ففي كلتا الحالتين يصحّ للراوي أن يقول: (هذا الكلام عن زيد)، ويقصد بذلك أنّ قائله هو زيد حتى لو لم يكن هو قد سمعه منه مباشرةً، فإنّ التعبير يتحمّل ذلك دون أن يكون كذباً، فلمّا أوهم هذا التعبير السماعَ المباشر استخدمه المدلّسون لكي يوحوا بهذا فإذا انكشفوا لم يكن ذلك مستمسكاً عليهم في الكذب؛ لصحّة الإطلاق لغةً، وفي ظلّ هذا الوضع كيف يمكن إحراز الاتصال، لاسيما بناءً على القول بأنّ التدليس لا يسقط عدالة الراوي أو وثاقته؟! من هنا رجّح علماء الحديث الرواية التي يأتي سندها بصيغة (سمعت) أو (أخبرنا= نا) أو (حدّثنا=ثنا) أو (أنبأنا=انا) أو (أخبرني) أو (حدثني) وأمثالها، على الرواية التي يكون سندها معنعناً؛ نظراً لاحتمال التدليس في الثاني دون الأوّل (راجع ـ على سبيل المثال ـ: الحازمي، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار: 15). بل قد علّق الشيخ البهائي نفسه على إشكاليّة العنعنة بالقول: «فتح هذا الباب يؤدّي إلى تجويز الإرسال في أكثر الأحاديث وارتفاع الوثوق باتصالها. والحقّ أنّ لفظة (عن) في الأحاديث المعنعنة تشعر بعدم الواسطة بين الراوي والمرويّ عنه» (الحبل المتين: 35)، فقوله: «تشعر»، واضح في أنّه لم يستطع تجاوز الإشكاليّة، ولو كان قصده الجانب اللغوي لكلمة «عن» (انظر: محمد رضا الجلالي، حجية الحديث المعنعن، مجلة علوم الحديث، العدد 3: 134)، فلماذا لم يتعرّض للجانب المصطلح عندهم لو كانت تفيد الاتصال، مع أنه أحوج إليه هنا في بحثه؟! إذن فكلمة (عن) تدلّ لغةً على تجاوز الكلام عن المتكلّم، سواء بلغ الناقل مباشرةً أم بالواسطة، فلا يفيد الاتصال والسماع فيكون منقطعاً، وهذه الدلالة اللغويّة أقرّ بها السيد الميرداماد نفسه حيث قال: «المُعَنْعَن: هو ما يقال في سنده: فلانٌ عن فلان، من غير ذكر التحديث والإخبار والسماع. والعنعنة بحسب مفاد اللفظ أعمُّ من الاتّصال» (الرواشح السماوية: 199)، ومن ثمّ فليس فيها ما يفيد شكل تحمّل الحديث فيمكن أن يكون منقطعاً، بل يأخذ الحديث حينئذٍ حكم المرسل؛ لأنّ المسند يحتاج إلى اللقاء ونفي الواسطة، وهما أمران غير متوفّرين لنا مع العنعنة في الحديث، بل إنّ استعمال كلمة (عن) في هذه الحال يفيد التدليس من حيث إنّه لا يفهمنا شكل التلقّي، فيدخل في الحديث المدلَّس، وهو ضعيف عندهم. إذن، فالحديث المعنعن محكوم بالانقطاع والإرسال والتدليس فلا قيمة له، ومن الواضح أنّ صدق العنعنة في الحديث ـ على مستوى إشكاليّة البحث هنا ـ يكفي فيها ورود العنعنة مرّةً واحدة في السند ولا ضرورة لتكرّر العنعنة في كلّ السند ـ وإن كان ظاهر كلمات بعض العلماء ضرورة التكرّر في صدق العنعنة (انظر: البهائي، الحبل المتين: 4؛ والوجيزة (ضمن رسائل في دراية الحديث ج1): 537؛ وعلي محمّد النصيرآبادي، الجوهرة العزيزة في شرح الوجيزة (ضمن رسائل في دراية الحديث ج2): 368؛ وحسن الصدر، نهاية الدراية: 205) ـ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات. وفي هذه الحال ربما لا نكاد نعثر على رواية واحدة عند الإماميّة لا يصدق عليها الحديث المعنعن، فيكون كلّ الحديث الإمامي ضعيفاً من زاوية الصنعة الحديثية؛ لأنّه مبتلى بعارضين من عوارض الإسناد على الأقلّ: وهما الإرسال والانقطاع.
وقفات مع إشكاليّة العنعنة
وللجواب عن هذه النقطة، يمكن القول:
1 ـ تحليل معنى (عن) في اللغة، وفي مجال النقل الخبري
ما ذكره بعض علماء الحديث المعاصرين، من أنّ كلمة (عن) تفيد في أصل اللغة التجاوز والمجاوزة، تقول: سافرت عن البلد، أي جاوزته وتعدّيته، ولكنّها تأتي بمعنى (من)، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ (الشورى: 25)، وقوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ (الأحقاف: 16). ولو حلّلنا أفعال النقل والكلام وحكايتهما، نجد أنّها تتعدّى بحرف الجرّ (عن)، تقول: نقل فلان عن فلان، أو حدّث عنه، أو أنبأ عنه، والتجاوز المفروض في (عن) في هذه الموارد ليس متصوّراً بمعناه الحسّي الحقيقي؛ لأنّ الفعل وهو من جنس الكلام لا استقرار له حتى يعقل تجاوزه، بل لابدّ أن يكون التجاوز معنويّاً، لكنّ المتجاوِز والمتجاوز عنه هنا يختلفان عن أصل الأمثلة السابقة لكلمة (عن)، فليس المتجاوِز هو فاعل الفعل، بل هو الحديث نفسه، فقول زيد: حدّث عمرو عن بكر، معناه ـ على التجاوز ـ هو: تجاوز الحديث بكراً إلى عمرو، وهذا غير معقول، ولا مطابق لواقع التجاوز الذي عرفناه في قولنا: انصرف عمرو عن بكر أو رميت السهم عن القوس، وهو ما يدلّ على مجرّد ابتعاد عمرو عن بكر، بينما في قولنا: حدّث عمرو عن بكر لا نعني ذلك، بل فيه الانفصال والوصول إلى غاية، ولذا لو قال: أوصل عمرو حديثاً من بكر، لصحّ وأدّى نفس المعنى. فلا يقصد في تجاوز (عن) في العنعنة واقع التجاوز والتعدّي والانفصال من دون ملاحظة الوصول، والمفروض أنّ الحديث لم ينفصل فقط عن بكر، وإنّما بلغ عمرواً، فيكون منتهياً إلى غاية، وهو مطابق لمعنى (من) كما قلنا. وهذا ما يقع في الأسانيد. ولهذا لابدّ من تقدير فعلٍ من الأفعال مثل: قال، وأخبر، وحدّث و..مع كلّ حرف (عن) في السند ليتعلّق به ولا يحتاج إلى واسطة، والنتيجة هي أنّ معنى قولنا: حدّث زيد عن عمرو هو: وصل إلى زيد حديث من عمرو. نعم لو كان الفاعل مجهولاً، مثل قول زيد: حُدِّثنا عن عمرو، أمكن تصوّر المجاوزة المعنويّة؛ لأنّ الكلام المنقول عن بكر قد تجاوزه وابتعد عنه، لكنّه لم يبلغ غاية؛ لفرض أنّ الناقل له هو الفاعل المجهول، ولهذا قالوا: إنّ (يُذكر عن فلان) تفيد الانقطاع والإرسال. وعليه، فإنّ (عن) في الأسانيد تعني (من)، أي النقل الصالح للابتداء والانتهاء إلى نهاية مشخّصة ولو معنويّاً، لا مجرّد مجاوزة الموضوع لها (انظر: محمّد رضا الجلالي، حجيّة الحديث المعنعن، مجلة علوم الحديث، العدد 3: 58 ـ 68).
ولكنّ هذا الجواب قابل للنقاش، فإنّ غايته أنّ كلمة (عن) لغةً تثبت صدور الكلام من بكر ووصوله إلى زيد، لكنّها لا تثبت الوصول المباشر له منه، فلو وصل إلى زيد حديث من عمرو بتوسّط بكر، لصحّ أن يقال: إنّ زيداً وصله من عمرو الحديث، فحدّث عنه، فالجذر اللغوي للكلمة لا يفيد الاتصال، فهذا كما لو قلت: سافر زيد من مكّة إلى المدينة، فهذا يعني أنّه جاوز مكّة ووصل إلى المدينة، لكنّه لا يعني أنّه بتجاوزه لمكّة وصل إلى المدينة بلا فاصلٍ في البَيْن، فجهة الإشكال في الحديث المعنعن لم تحلّها هذه المعالجة في تقديري.
2 ـ العنعنة بين الدلالة اللغوية والدلالة العرفيّة
إنّ الانصراف العرفي للعنعنة هو الاتصال، فإنّ العرف يفهم من هذه التركيبة اللفظيّة اتصال السلسلة، وإن كانت الكلمة بحسب جذرها اللغوي تقبل عدمه، ويشهد لما نقول أنّ المدلّسين استخدموا العنعنة ـ كما يقول المحدّثون ـ لإيهام الاتصال، وهذا خير دليل على أنّ العنعنة قبل الانتباه إلى مشكلة التدليس فيها تفيد بحسب انصرافها وظهورها الاتصالَ، وإلا لم يكن هناك معنى لأن يذكروا العنعنة لتقوية أحاديثهم، فلو كانت العنعنة تساوي عدم المباشرة أو لا تساوي المباشرة، لذكروا غيرها ممّا يدل ّعلى عدم المباشرة. وستأتي ـ إن شاء الله ـ بعض الشواهد الأخرى على وجود هذا الفهم العرفي. ولعلّ الاستناد إلى الظاهر كما فعلنا ـ دون حاقّ اللغة ـ هو ما دفع الشيرازي (476هـ) للقول: «وأما خبر العنعنة إذا قال: أخبرنا مالك عن الزهري، فهو مسند. ومن الناس من قال: حكمه حكم المرسل، وهذا خطأ؛ لأنّ الظاهر أنّه سماع عن الزهري، وإن كان بلفظ العنعنة فوجب أن يُقبل» (اللمع في أصول الفقه: 219)، حيث استند إلى الظاهر لا إلى حاقّ اللغة.
3 ـ موقف المدارس الإسلاميّة من الحديث المعنعن
لو رجعنا إلى مواقف العلماء والمحدّثين من الحديث المعنعن لوجدنا شبه اتفاق على قبوله واعتباره متصلاً غير منقطع (انظر: المارديني، الجوهر النقي 3: 169، و9: 256)، وبعضهم شرط فيه شروطاً.
أمّا على الصعيد السنّي، فقد قال الإمام النووي (676هـ): «في الإسناد المعنعن، وهو فلان عن فلان، قال بعض العلماء: هو مرسل، والصحيح الذي عليه العمل وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول إنه متصل، بشرط أن يكون المعنعِن غير مدلّس، وبشرط إمكان لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً، وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف، منهم من لم يشترط شيئاً من ذلك، وهو مذهب مسلم ادّعى الإجماع عليه.. ومنهم من شرط ثبوت اللقاء وحده، وهو مذهب علي بن المديني والبخاري وأبي بكر الصيرفي الشافعي والمحقّقين، وهو الصحيح، ومنهم من شرط طول الصحبة، وهو قول أبي المظفر السمعاني الفقيه الشافعي، ومنهم من شرط أن يكون معروفاً بالرواية عنه، وبه قال أبو عمرو المقري» (شرح صحيح مسلم 1: 32). بل قد عقد النووي في شرحه لمسلم باباً خاصّاً تحت عنوان (باب صحّة الاحتجاج بالحديث المعنعن إذا أمكن لقاء المعنعنين ولم يكن فيهم مدلّس)، وأفاض في الحديث فيه والأقوال (المصدر نفسه 1: 127 ـ 128). إنّ كلام الإمام النووي يكشف أنّ المسألة وقعت موقع الخلاف بينهم، لكنّ الجماهير أخذت بالحديث المعنعن وعملت به واعتبرته صحيحاً، نعم وقع الكلام في بعض الشروط. وقال الإمام مسلم (261هـ) الذي خصّص في مقدّمات صحيحه بحثاً مهمّاً حول الحديث المعنعن: «.. وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويّته، أنّ كلّ إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمّن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنه لا نعلم له منه سماعاً، ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قطّ أو تشافها بحديث، أنّ الحجة لا تقوم عنده بكلّ خبرٍ جاء كهذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرّةً فصاعداً أو تشافها بالحديث بينهما أو يرد خبر فيه بيان اجتماعها وتلاقيهما مرّة من دهرهما فما فوقها، فإن لم يكن عنده علم ذلك ولم تأت رواية تخبر أنّ هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرّةً وسمع منه شيئاً لم يكن في نقله الخبر عمّن روى عنه ذلك، والأمر كما وصفنا حجّة وكان الخبر عنده موقوفاً حتى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث قلّ أو كثر في رواية مثل ما ورد. وهذا القول ـ يرحمك الله ـ في الطعن في الأسانيد قولٌ مخترَع مستحدَث غير مسبوقٍ صاحبه إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه؛ وذلك أنّ القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً أنّ كلّ رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائزٌ ممكن له لقاؤه والسماع منه؛ لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد وإن لم يأت في خبر قطّ أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة والحجّة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بيّنة أنّ هذا الراوي لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئاً، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسّرنا، فالرواية على السماع أبداً حتى تكون الدلالة التي بيّنا..» (مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح 1: 22 ـ 23). ويبدو أنّ مسلم بن الحجّاج كان يقصد البخاري وأمثاله ممّن تشدّد في أمر الحديث المعنعن، يقول الذهبي في ذلك: «إنّ مسلماً، لحدّةٍ في خلقه، انحرف أيضاً عن البخاري، ولم يذكر له حديثاً، ولا سمّاه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحطّ على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة (عن)، وادّعى الإجماع في أنّ المعاصرة كافية، ولا يتوقّف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبّخ من اشترط ذلك. وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري، وشيخه علي بن المديني» (سير أعلام النبلاء 12: 573). وقال الإمام الشافعي (204هـ): «وأقبلُ في الحديث حدّثني فلانٌ عن فلان، إذا لم يكن مدلّساً، ولا أقبل في الشهادة إلا سمعت أو رأيت أو أشهدني» (الرسالة: 373). وهذا يعني أنّ الإمام الشافعي يمنع العنعنة مع ثبوت التدليس، لا أنّه يشترط لتصحيحها إثبات عدم التدليس، كما أنّه لا يشير إطلاقاً إلى قضيّة المعاصرة أو اللقاء. وقال ابن الصلاح (643هـ): «..عدّه بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبيّن اتصاله بغيره، والصحيح والذي عليه العمل أنّه من قبيل الإسناد المتصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمّة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه، وكاد أبو عمر بن عبد البر الحافظ يدّعي إجماع أئمة الحديث على ذلك، وادعى أبو عمرو الداني المقرئ الحافظ إجماع أهل النقل على ذلك، وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضاً مع براءتهم من وصمة التدليس، فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك، وكثر في عصرنا وما قاربه بين المنتسبين إلى الحديث استعمال (عن) في الإجازة، فإذا قال أحدهم قرأت على فلان عن فلان أو نحو ذلك فظنّ به أنه رواه عنه بالإجازة ولا يخرجه ذلك من قبيل الاتصال على ما لا يخفى» (علوم الحديث: 61 ـ 62). إنّ ابن الصلاح هنا يستشهد بشاهد متميّز، وهو أنّ المصنّفين في الصحيح قد أوردوا في كتبهم الأحاديث المعنعنة، ممّا يعني أنّهم لا يرون العنعنة مناقضةً للصحّة الحديثية، كما أنّه يقدّم لنا نصّاً هامّاً في أنّ إطلاق العنعنة على الإجازة مصطلح حادث في زمانه هو أو ما قاربه. وابن الصلاح من أبناء المائة السابعة للهجرة، ممّا يعني أنّ القول بأنّ العنعنة تفيد الإجازة لا السماع لم يكن أمراً معروفاً في متقدّمي المحدّثين المسلمين، فضلاً عن أنّ جعل الإجازة طريقاً غير معتبر لا وجه له. وقال ابن حجر (852هـ): «إن (عن) في عُرف المتقدّمين محمولة على السماع قبل ظهور المدلّسين، وكذا لفظة (قال)، لكنّها لم تشتهر اصطلاحاً للمدلّسين مثل لفظة (عن) فحينئذ لا يلزم من استعمال البخاري لها أن يكون مدلّساً» (ابن حجر، تغليق التعليق 2: 9). وقال الملا علي القاري (1014هـ): «واعلم أنّ (عن) في اصطلاح المحدّثين محمولة للسماع والإجازة، لكنّ عنعنة المعاصر محمولة على السماع، سواء ثبت اللقاء بينهما أم لا عند الجمهور، خلافاً للبخاري حيث يشترط اللقاء..» (شرح مسند أبي حنيفة: 10).
وأمّا على الصعيد الإمامي، فقد قال الحسين بن عبد الصمد العاملي (984هـ): «المعنعن، وهو ما يقال في سنده (فلان عن فلان). والصحيح عند العامة أنه متصل إذا أمكن اللقاء وأمن من التدليس [بأن لا يكون معروفاً به]، وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف بين المحدّثين، والأصحّ عدم اشتراط شيء من ذلك؛ لحمل فعل المؤمن على الصحّة. وأما عندنا فلا شبهة في اتصاله بالشرطين المذكورين. وقال بعض متأخري العامة: قد كثر في زماننا وما قاربه استعمال (عن) في الإجازة. وأما عندنا فالذي يظهر أنه يستعمل في الأعم منها ومن القراءة والسماع» (وصول الأخيار: 94). وقال الميرداماد (1041هـ): «المُعَنْعَن هو ما يقال في سنده: فلانٌ عن فلان من غير ذكر التحديث والإخبار والسماع، والعنعنة بحسب مفاد اللفظ أعمُّ من الاتّصال، فإذا أمكن اللقاء وصحّت البراءة من التدليس، تعيّن أنّه متّصل، ولا يفتقر إلى كون الراوي معروفاً بالرواية عن المرويّ عنه على الأصحّ. قال ابن الصلاح من العامّة: (وكثر في هذه الأعصار استعمال (عن) في الإجازة)، ولعلّ ذلك في عصره وفي اصطلاحات أصحابه واستعمالاتهم، وأمّا عندنا وفي أعصارنا وفي استعمالات أصحابنا فأكثر ما يراد بالعنعنة الاتّصالُ» (الرواشح السماوية: 199). وقال السيد حسن الصدر (1351هـ): «واختلف في حكمه على ستة أقوال: فالذي عليه جمهور المحدّثين، بل في الدراية كاد يكون إجماعاً، أنه متصل مع إمكان ملاقاة الراوي بالعنعنة لمن رواه عنه مع أمن التدليس. قال والد المصنّف: وأما عندنا فلا شبهة في الاتصال بالشرطين المذكورين. أقول: وهو الأصحّ عند العامة أيضاً. ومن اعتبر منهم ثبوت اللقاء كالنووي، وطول الصحبة كالقابسي، ومعروفيته بالرواية عنه بين المحدّثين كأبي عمرو الداني المقري، أجابوا عنه بحمل فعل المسلم على الصحّة». وقال في موضع آخر: «وقالوا: إنّ عنعنة المعاصر محمولةٌ على السماع، بخلاف غير المعاصر، فإنّها تكون مرسلة أو منقطعة، فشرط حملها على السماع ثبوت المعاصرة إلا من المدلّس. وقد يقال: إنه يشترط في حمل عنعنة المعاصر على السماع ثبوت لقائهما ولو مرّة واحدة، ليحصل الأمن في باقي مرويّاته بالعنعنة عن كونه من المرسل الخفي. قال الفاضل الدربندي: وأنت خبير بما فيه من الركاكة فتأمّل. أقول: إنّ هذا للعامة، وإنما شرطوا ذلك فما عرفوا من كثرة تدليسات أصحابهم ولا بأس به» (نهاية الدراية: 205 ـ 206، 447 ـ 448). وقد استقرب المحقّق القمّي الحكم باتصال الحديث المعنعن (القوانين المحكمة في الأصول: 486).
يفهم من نصوص العلماء هنا ما يلي:
أ ـ إنّ القول بعدم حجيّة الحديث المعنعن مطلقاً قول نادر إن لم نقل بأنّه لا وجود له، بل جمهور العلماء على عكسه.
ب ـ إنّ الإمام مسلماً اكتفى في اتصال المعنعن بإمكان اللقاء، فيما شرط الإمام البخاري ثبوت اللقاء، وعدّ ذلك من مرجّحات كتاب البخاري على كتاب مسلم (انظر: مقدّمة فتح الباري: 10).
ج ـ إنّ بعضهم اشترط للحكم باتصال المعنعن أن تكون هناك صحبة طويلة بين الراوي والمروي عنه كالسمعاني، وبعضهم نفى هذا الشرط.
د ـ إنّ بعضهم شرط للحكم باتصال المعنعن عدم كون المعنعِن مدلّساً.
هـ ـ إنّ من مستندات القائلين بحجية المعنعن ـ بصرف النظر عن القيود والشروط ـ هو حمل عمل المسلم على الصحّة، مع أصل عدم التدليس (انظر في أصالة عدم التدليس: الجلالي، حجية الحديث المعنعن، مصدر سابق: 74).
و ـ إنّ من المصطلحات المتأخّرة عند أهل السنّة هو استخدام العنعنة لبيان طريق الإجازة، ولكنّه غير متعارف بخصوصه عند الإماميّة.
ز ـ إنّ بعض علماء الإماميّة اعتبر أنّ مشكلة العنعنة خاصّة بأهل السنّة نتيجة وجود التدليس وشيوعه عندهم، بينما لم يعرف الإماميّة مشكلةً من هذا النوع، ولعله يعزّز ذلك أنّ قضيّة العنعنة أثارتها مشكلة المدلّسين، الأمر الذي لم تعرفه الإماميّة في دراساتها الحديثيّة، ولو كانت عندهم ظاهرةً عامّة لتناقلوها ولا أقلّ من تحدّث المتأخّرين عنها، وهو أمرٌ مفقود حتى من طرف المتشدّدين الإماميّة الذين بالغوا في رفض الأحاديث جدّاً، وأسقطوا اعتبارها لأدنى مشكلة. ونخلص من استعراض المواقف الإسلاميّة في العنعنة أنّه لا يصحّ هدم الحديث الشيعي لوجود العنعنة فيه؛ لأنّ مجرّد وجود العنعنة لا يعني سقوط اعتبار الحديث، بل لابدّ من دراسة المعاصرة وإمكان اللقاء أو ثبوت اللقاء أو غير ذلك ممّا شرطوه، فضلاً عمّا إذا لم يأخذ المحدّث بهذه الشروط، فإطلاق الكلام بسقوط الحديث الإمامي نتيجة العنعنة غير دقيق بهذه الطريقة. والذي يبدو لي أنّه الحقّ في هذه المسألة هو أنّ الحديث المعنعن منصرفٌ في دلالته العرفيّة وفي معروفيّته بين المحدّثين القدامى إلى الاتصال، لكنّ مشكلته ظهرت عندما حاول المدلّسون استغلال هذه الصيغة لتمرير بعض أحاديثهم غير المسندة بالمباشرة، ولمّا اكتشف العلماء هذه الظاهرة بدؤوا يتشدّدون في صيغ التحديث، وكان من حقّهم هذا التشدّد، وفي وضعٍ من هذا النوع وحيث إنّ الرواة محكومون بالوثاقة لكي يكون حديثهم حجّة، فهنا إذا ثبت عدم المعاصرة أو عدم اللقاء فلا شكّ في أنّ ذلك يوجب سقوط الحديث عن الاعتبار، إنّما الكلام في أنّه هل يشترط ثبوت اللقاء فضلاً عن طول الصحبة أو معروفيّتها أم لا؟
هنا حالتان، الأولى:
أن يكون الراوي المعنعِن قد ثبت أنّه مدلّس أو حوله شبهة تدليس، وفي هذه الحال لا يصحّ الأخذ بالحديث للشكّ في ثبوت اتصال السند، والأصل عدم الثبوت.
الثانية:
أن لا تدور حول الراوي المعنعِن شبهة تدليس، فضلاً عن أن يثبت عليه التدليس، ولا يدرج اسمه في طبقات المدلّسين، وفي هذه الحال يرجع إلى أصالة عدم التدليس بعد فرض كون الراوي ثقة؛ لأنّ التدليس يقع على خلاف المنصرف العرفي في دلالة العنعنة، فيحتاج إلى إثبات، ويكون الاتصال هو مفاد الدلالة العرفية حينئذٍ فلا يحتاج إلى أصل يثبته غير ذلك، وبذلك يكون أصل عدم الاتصال محكوماً للدلالة العرفية للعنعنة، حيث لا موجب للخروج عن هذه الدلالة إلا بشاهد يثير الشك في التدليس. بل لو احتملنا أنّ المحدثين بعد ذلك هم من وضع العنعنة اختصاراً، كما قيل في حقّ الإماميّة، ففي هذه الحال يقوى إمكان الأخذ بالحديث مع عدم ثبوت التدليس وكفاية ثبوت المعاصرة. وأمّا حمل عمل المسلم على الصحّة ـ كما فعله بعضهم ـ فلم يتضح وجهه، فإنّ العنعنة إذا كانت تفيد حالة عدم الاتصال فما معنى الصحّة وعدمها هنا؟ نعم، الحديث الذي يقع بصيغ التحديث والإخبار ونحوها أكثر وضوحاً في غير مجالٍ هنا، وإن أمكن ـ لو أريد إدخال التشكيكات ـ فعلُ ذلك هنا أيضاً على مستوى الجذر اللغوي دون الإضرار بوثاقة الراوي؛ فإنّ كلمة أخبرنا تصدق ولو مع الواسطة لو بقينا مع حاقّ اللغة، فليلاحظ جيّداً.
4 ـ محاولة في إخراج الحديث الإمامي من دائرة المعنعن
ذكر بعض العلماء المعاصرين، أنّنا لو راجعنا أمهات المصادر الحديثية الشيعيّة، لوجدنا أنّ الكليني مثلاً يبتدئ الكتب عادةً بصيغ التحديث والإخبار (انظر: الكافي 1: 10، 72، 78، 81، 253، و2: 18، و3: 1، 264، و4: 184، و6: 202، و7: 174، 176، 181، 271، و8: 2، 72، 268)، بل وجدنا بعض صيغ العنعنة عنده، قد جاءت بصيغ التحديث في كتب أخرى. وهكذا نجد الصدوق في كتاب الفقيه يورد الحديث بصيغ العنعنة أحياناً، بينما يورد نفس الحديث بصيغ التحديث والإخبار في كتبه الأخرى، ممّا يعني أنّ العنعنة مساوية للاتصال، وهذا كلّه يعني أنّهم يرون حجية الحديث المعنعن ويرونه مرادفاً لسائر الصيغ المعتمدة (انظر: الجلالي، حجيّة الحديث المعنعن، مصدر سابق: 115 ـ 130).
وهذا الكلام لا بأس به من حيث التأييد، لكنّه لا يشكّل دليلاً حاسماً لوحده؛
لأنّ استخدام العنعنة في الاتصال وعدمه يبرّر هذه الحوادث الواقعة، لاسيما مع كونها محدودة في النهاية، نعم لو تمحّضت صيغة العنعنة بغير حال الاتصال، لكان ذلك له وجه، لكنّ أحداً لا يقول به.
_______________
([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (المدخل إلى موسوعة الحديث النبويّ عند الإماميّة: 540 ـ 553) تأليف حيدر حبّ الله، والذي صدرت طبعته الأولى عن مركز البحوث المعاصرة، في بيروت، عام 2013م.