النبوّات والشرائع قبل الإسلام بين العالميّة والمحليّة والقوميّة
حيدر حبّ الله([1])
تحرير وتقرير بقلم: السيّد أيمن عبد الزهرة الموسوي
تمهيد
موضوع عالميّة ولو بعض النبوّات والشرائع التي سبقت الإسلام من الموضوعات المهمّة، وتترك أثراً في أكثر من موضع، مثل طبيعة التصّور الإسلامي لتلك الشرائع والنبوّات ووظيفة هذه الشرائع والنبوّات عبر التاريخ وأيضاً علاقتنا بها؛ وذلك أنّها إذا كانت عالميّةً ـ أو على الأقل بعضها ـ فهذا معناه أنّ البشر قبل بعثة النبي محمّد مخاطبون بشريعة موسى أو عيسى مثلاً، وهنا يأتي البحث في أنّه هل نسخت هذه الشرائع بمجرّد بعثة النبيّ محمّد فعاد الوضع إلى حالة الصفر في اليوم الأوّل للبعثة في مكّة، وهذا ما يفسّر ـ عند بعضهم ـ أنّ النبيّ محمّداً وأصحابه في مكّة لم يكونوا يعملون على وفق الشريعة الموسويّة؛ لأنّها ـ من وجهة نظرهم ـ قد نسخت تماماً، أو أنّها تظلّ على وضعها الطبيعي إلى أن يغيّر النبيّ محمد حكماً هنا أو حكماً هناك؟
إذن، إن كانت تلك الشرائع والنبوّات عالمية فإنّ كل الشعوب على وجه البسيطة تكون مخاطبةً بها ومشمولةً بكلّ الشرائع والنظم والقوانين والتوجيهات التي جاء بها أولئك الأنبياء، ومعنى ذلك أنّ العرب في مكة والمدينة والطائف وغيرها من المدن كانوا عملياً مخاطبين بالشريعة الموسويّة، وعليه سينفتح الطريق للسؤال: ما هو حالها بعد البعثة المحمَّديّة؟ فهل بمجيء رسول الله محمّد رجعنا إلى نقطة الصفر وانتهى مفعولها، أو أنّ تلك الشرائع السابقة كان لها وجود وبقيَ وجودها حتى في لحظة البعثة الأولى وعلينا أنْ نعمل بها؟ نعم إذا جاء رسول الله وعدَّل في شريعته حكماً كان في الشريعة الموسويّة (تعديل يوم السبت مثلاً) يتعدّل، طبقاً لنظريّة النسخ السائدة بين المسلمين. وبالتالي كلّ إرث الشرائع السابقة للأنبياء يبقى مفعّلاً إلى اللحظة التي يتدخّل فيها الشرع الإسلامي ويقوم بتعديلٍ جزئيّ هنا أو هناك.
أمّا إذا قلنا بأنَّ تلك الشرائع السابقة (شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى..) ليست عالميّةً بطبعها، بل هي محليّة وقوميّة، وليس المسلمون مخاطبين بها، وإنّما المخاطب بها مَنْ جاءت لهم، مثلاً بنو إسرائيل هم المخاطبون بشريعة موسى دون غيرهم، فهنا توجد قطيعة بيني وبينها، فلا يبقى مجال للحديث عن نقطة الصفر "النسخ التام" أو التعديل الجزئي "النسخ الجزئي".
تأثيرات مفهوم العالميّة في النبوّات والشرائع السابقة
وينتج عن ذلك أنّه لو ثبت لي من خلال القرآن أو السنّة أو دليلٍ تاريخي حاسم أنّ في شريعة موسى مثلاً الحكم الفلاني، ولم أجد ما يؤيّده أو ينفيه في شريعة محمّد، فإذا قلنا بعالميّة الشريعة السابقة صار هناك مجال للحديث عن لزوم التعبّد بشرع من قبلنا، وهي المسألة المعروفة في أصول الفقه الإسلامي عند المسلمين قاطبة، وإلا لم يعد للمسألة موضوع إلا محدوداً مثل بني إسرائيل في شريعة موسى، كتشريع العين بالعين والسنّ بالسنّ على تقدير عدم وجود دليل اسلامي مستقلّ له.
وهذا ما يترك تأثيراً على سلسلة أمور في فهم سلوك الأنبياء، فهل سلوكهم ـ غير نبيّنا محمّد ـ يعتبر بالنسبة لي مصدراً تشريعيّاً أو أنّه سلوك ناتج عن توجيهات شريعتهم بحيث لما كانت غير عالميّة فهي لا تعبّر عن مصدر لي في التوجيه إلا إذا نصّ القرآن أو السنّة على الأخذ بسلوكٍ فعله هذا النبيّ أو ذاك فيكون الاعتبار بنصّ القرآن المباشر أو غير المباشر في دلالته، مثلاً سلوك العبد الصالح مع موسى، سلوك إبراهيم مع أصنام قومه والكيد بها وتحطيمها، ونحوها من القصص والوقائع، لا مرجعيّة لي فيها إلا إذا لمستُ من ذكرها وبيان القرآن لها نوعَ توجيه منه نحوها. وهناك تأثيرات أخرى لهذا الموضوع لها صلة أيضاً بتصوّراتنا عن النبوّات والشرائع السابقة، لا داعي للإطالة بها هنا.
تمييزان ضروريّان: بين مفهومين للعالميّة، وبين الدين والشريعة
ولا نقصد بنفي عالميّة النبوّات أنّ الله لم يرسل أنبياء لكلّ العالم، فالمقصود هنا وجود نبوّة واحدة أو شريعة واحدة تخاطب العالم برمّته بكلّ شعوبه وقبائله وجغرافيّاته، وإلا فمبدأ أنّ لكلّ قوم هاد وأنّه ما من قرية إلا وخلا فيها نذير، وأنّ الأنبياء بُعثوا لكلّ بقعة في هذه الأرض.. خارجٌ عن نطاق بحثنا هنا كما هو واضح. فعالمية المشروع النبوي العام شيء وعالمية نبوّةٍ بعينها شيءٌ آخر فيلزم التمييز بينهما.
وعلى أيّة حال ثمّة سؤال عام: كيف نظر النصّ الإسلامي إلى نبوّات الأنبياء السابقين؟ وكيف نظر إلى شرائعهم من زاوية كونها "النبوّات والشرائع" عالميّة أو محليّة أو قوميّة بعد الفراغ عن كون عالميّة الإسلام ـ ديانةً ونبوّةً وشريعة ـ من مقبولات الفكر الإسلامي؟
هنا نحن نتكلّم عن النبوّات والشرائع وليس عن الدين؛ لأنّ القرآن لا يتكلّم عن وجود أديان ـ فليس فيه وجودٌ لديانة يهوديّة أو ديانة مسيحيّة، بل وجودٌ لليهود والنصارى وبني إسرائيل ـ بل الدين واحد وهو الإسلام المتمثل في التسليم لله الواحد الأحد، وهو دين جميع الأنبياء وليس دينَ محمّدٍ خاصّة، وإنّما التعدّد في النبوّات والشرائع، وقد تعرّض لهذا الموضوع العلامة الطباطبائي أيضاً([2]).
وعلى أيّة حال، فالمعروف في الثقافة الإسلاميّة ـ النخبويّة والشعبيّة ـ أنّ النبوّات والشرائع السابقة على نوعين: محدودة، وعالميّة. وعادةً ما تقدّم العالمية منها في كونها محصورة بـ: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى. طبعاً إلى جانب محمّد، فبعد الفراغ عن عالميّة الإسلام ـ وليس موضع بحثنا هنا ـ هل ثمّة نبوّة عالميّة قبل محمّد؟ وهل ثمّة شريعة عالميّة قبله أو لا؟ هذا هو موضوعنا هنا.
مفهوم "أولو العزم" وعلاقته بفكرة عالميّة النبوّة
أوّل أمر يواجهنا هنا هو: إنّ المعروف في الأدبيّات الإسلاميّة عالميّة نبوّات أولي العزم، والذين يعرفون عادةً بأنّهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم الصلاة والسلام، فحيث إنّهم أولو العزم، فهذا يعني عالميّة نبوّتهم وشرائعهم، أي عالميّة البرامج والمناسك والنُظم والقوانين التي جاءوا بها، وكأنّ مفهوم "أولو العزم" مفهومٌ يجسّر بين النبوّات والعالميّة، فيكون مخاطَب هذه النبوّات هو سكّان الأرض برمّتها؟
لكنّ آية أولي العزم، وهو قوله تعالى مخاطباً نبيّه محمداً|: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ..﴾ (الأحقاف: 35)، لا تفيد مفهوم العالميّة بل هي فكرة مضافة على العنوان الموجود فيها، بل الآية قد لا تفيد أنّ النبي محمّداً نفسه من أولي العزم، وذلك أنّنا لو تأمّلنا الآية قليلاً ـ بصرف النظر عن الروايات والقرائن الخارجيّة ـ لرأينا أنّ هناك احتمالين فيها:
الاحتمال الأوّل: أن تؤخذ كلمة (أولو العزم) بمثابة صفة عامّة، ويكون معنى الآية: يا محمّد، اصبر كما صبر أهل العزم والصبر والإرادة القويّة، ولا يكون عنوان (أولو العزم) مشيراً إلى خمسة أو أربعة بأعيانهم، وفي هذه الحال يمكن أن تكون (من) في قوله تعالى: (من الرسل) بيانيّة، بمعنى: اصبر كما صبر أصحاب الإرادة القويّة الذين هم الرسل، وعليه فلا تدلّ الآية أساساً على وجود جماعة خاصّة من الرسل يتصفون بهذه الصفة دون غيرهم من سائر الرسل. كما ومن الممكن أن تكون تبعيضيّةً، فيكون المعنى: اصبر كما صبر أولو العزم الذين هم بعض الرسل. وعلى أيّ تقدير فالأمر لا يفيد الإخبار عن صيرورته منهم.
الاحتمال الثاني: أن تؤخذ كلمة (أولو العزم) بوصفها عنواناً مشيراً إلى مجموعة خاصّة من الأنبياء، صارت هذه الكلمة علماً فيهم أو اسماً، كما هو الحاصل اليوم في وعي المتشرّعة والمتديّنين، حيث يفهمون من (أولي العزم) مجموعةً خاصّة من الأنبياء هم خمسة، وفي هذه الحال، فإنّ الآية الكريمة تصف أربعةً منهم بأنّهم من أولي العزم. وأمرها النبيّ| بأن يصبر كصبرهم لا يدلّ على أنّه دخل في هذه المجموعة دخولاً اسميّاً لا دخوليّاً وصفيّاً؛ لأنّ مجرّد أن يطلب منه أن يصبر كصبر أولي العزم لا يدلّ على أنّه منهم، فقد أُمرنا أن نتخلّق بأخلاق الأنبياء ولسنا منهم، وأمرنا أن نعبد الله كما عبدوه ولسنا منهم، وأمرنا أن نطهّر النجاسة عن ثوبنا قبل الصلاة كما أمروا ولسنا منهم، وحتى لو طبّقنا هذا لا نصبح منهم، فلا تلازم بين الأمر بصبر أولي العزم وبين أن يكون المأمور منهم.
كما أنّه لو فرضنا أنّ الآية تدلّ على أنّ رسول الله منهم فهي لا تدلّ على خاصية العالمية فيهم أساساً.
وعليه، فليس في آية أولي العزم أيّ إشارة لشيء يرتبط بموضوعنا، غير أنّ بعض الروايات هي التي أشارت لفكرة أولي العزم وربطتها بفكرة العالميّة والنسخ، ومن نماذج هذه الروايات الآتي:
أ ـ خبر الحسن بن فضال، عن أبي الحسن الرضا×، قال: «إنّما سمّي أولو العزم أولي العزم؛ لأنّهم كانوا أصحاب العزايم والشرايع؛ وذلك أنّ كلّ نبيّ كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمان إبراهيم الخليل، وكلّ نبيّ كان في أيّام إبراهيم وبعده كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى، وكلّ نبيّ كان في زمن موسى وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيّام عيسى، وكلّ نبيّ كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبيّنا محمّد‘، فهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم، وهم أفضل الأنبياء والرسل، وشريعة محمّد‘ لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبيّ بعده إلى يوم القيامة، فمن ادّعى بعد نبيّنا أو أتى بعد القرآن بكتابٍ فدمُه مباح لكلّ من سمع ذلك منه»([3]).
والخبر دلالاته واضحة، غير أنّه ضعيف السند بالطالقاني على التحقيق.
ب ـ خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله×، وخبر أبي حمزة، عن عليّ بن الحسين×، قالا: «من أحبّ أن يصافحه مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألف نبيّ فليزر قبر أبي عبد الله الحسين بن علي× في النصف من شعبان، فإنّ أرواح النبيّين ـ عليهم السلام ـ يستأذنون الله في زيارته، فيؤذن لهم. منهم خمسة أولوا العزم من الرسل»، قلنا: من هم؟ قال: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلّى الله عليهم أجمعين»، قلنا له: ما معنى أولي العزم؟ قال: «بعثوا إلى شرق الأرض وغربها، جنّها وإنسها»([4]).
والرواية يمكن تصحيحها سنداً، ودلالتها على العالميّة واضحة. فإنّ ما يهمّنا هنا تارةً العالميّة وأخرى النسخ، دون أيّ شيء آخر، من نوع كون هؤلاء الخمسة هم الأهمّ أو الأعلى رتبة أو غير ذلك([5])، فهذا لا ربط له بموضوعنا وإن وردت به روايات.
وبالعودة إلى المعطى القرآني، وتخطّياً للأخبار الآحاديّة، وبالتركيز على رسالتَي موسى وعيسى؛ كونهما اللتين ترتبطان مباشرةً بموضوعنا هنا، فإنّنا نلاحظ:
1 ـ نبوّة موسى وشريعته، بين العالمية والقوميّة في بيانات القرآن والتوراة
أمّا بالنسبة لموسى×، فإنّ القرآن الكريم يشتمل بدواً على ثلاثة أنواع من البيانات:
النوع الأوّل: ما هو واضح في كونه مبعوثاً لبني إسرائيل، وذلك مثل:
1 ـ قوله تعالى: ]وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا[ (الإسراء: 2).
2 ـ قوله سبحانه: ]وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ[ (السجدة: 23).
3 ـ قوله تبارك وتعالى: ]وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ[ (غافر: 53 ـ 54).
4 ـ قوله سبحانه: ]وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[ (الصف: 5).
فهذه النصوص تدلّ على بعثته لبني إسرائيل، غير أنّه من الصعب افتراض أنّها تحصر دعوته بهم، لكن من الواضح أنّها لا تشير لغيرهم.
النوع الثاني: ما يفهم منه أنّ النبيّ موسى كان مبعوثاً لفرعون وقومه من القبط والمصريّين، أو للمقرّبين منه، ومن هذه الآيات ـ غير ما دلّ على إيمان السحرة، ثمّ إيمان فرعون نفسه عند الغرق ـ:
1 ـ قوله تعالى: ]ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ[ (يونس: 76 ـ 78).
2 ـ قوله سبحانه: ]ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[ (الأعراف: 103).
3 ـ وقال سبحانه: ]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ[ (هود: 96 ـ 97).
4 ـ وقال عزّ وجلّ: ]ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ[ (المؤمنون: 45 ـ 47).
وغيرها من الآيات، فلا نطيل.
النوع الثالث: ما قد يفهم منه عموميّة الرسالة الموسويّة، وهو:
1 ـ قوله تبارك وتعالى: ]وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ[ (الأنعام: 91).
فالكتاب هو للناس جميعاً وليس لقومٍ بعينهم.
2 ـ قوله عزّ وجلّ: ]وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ[ (الأنبياء: 48 ـ 49). فكلّ متقٍ مشمول للدعوة الموسويّة.
3 ـ قوله سبحانه: ]وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ[ (الأحقاف: 29 ـ 30). فدعوته تشمل الجنّ فضلاً عن الإنس.
فمن خلال النظر في هذه المجموعات الثلاث يتبيّن أنّنا لا نملك أداة حصر في أيّ منها، الأمر الذي يسمح لنا بالأخذ بها جميعها، وهو ما يثبت عالميّة الرسالة الموسويّة.
مناقشات الشيخ السبحاني في دعوى عالميّة الرسالة والشريعة الموسويّة
غير أنّ بعض العلماء ناقش هنا، منهم ابن حزم الأندلسي([6])، والشيخ جعفر السبحاني، الذي بحث تارةً في عمومية رسالة موسى وأخرى في عموميّة شريعته.
قال السبحاني: «أوّلًا: يحتمل أنّه كان نبيّاً ورسولاً إلى أمّة بني إسرائيل فقط ليخلّصهم وينجّيهم من فرعون وأعوانه، غير أنّ إنجاءهم من أيديهم لمّا كان متوقفاً على إثبات نبوّته وأنّه مأمور من جانب الله سبحانه، أخذ يحاور فرعون ويرضيه بإنجاء بني إسرائيل، ولو كان إنجاؤهم غير موقوف على هذه المحاورات لما تحمّل هذه المشاق.. وظاهره يفيد أنّ الغاية من بعث موسى إلى فرعون هو إطلاق سراح المستضعفين من بني إسرائيل في الأرض. وثانياً: إنّه كلّما حاور مع فرعون واحتجّ عليه بأنّه رسول ربّ العالمين عقب كلامه بقوله: فأرسل معي بني إسرائيل.. والظاهر من الآيتين أنّ الهدف الأقصى من بعث موسى هو إنقاذ بني إسرائيل.. ويقرب ذلك أنّه سبحانه لما أخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات وأوقع عليهم الرجز جعلوا جزاء موسى ـ إذا استجيبت دعوته ـ أنّهم يؤمنون به ويرسلون معه بني إسرائيل كما حكى الله سبحانه عنهم: ]قَالُوا يمُوسى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنُؤمِنَنَّ لَكَ ولنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرءِيل[ (الأعراف: 134). وعلى ذلك فالمراد من إيمانهم بموسى، إيمانهم بأنّه مبعوث من الله سبحانه لهداية بني إسرائيل وإنقاذهم من العذاب، لا إيمانهم بأنّه نبي بعث إلى القبطيين وبني إسرائيل جميعاً كما هو المدّعى.. ويؤيّد ذلك أيضاً أنّه لمّا لم ينجح النبي موسى في إنقاذ قومه من سلطان فرعون وعساكره، أراد سبحانه أن ينجيهم بأسباب غير عادية كما قال سبحانه: ]ولَقَدْ أَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً في البَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً ولَا تَخْشَى[ (طه: 77).. وذلك يدلّ على أنّ الغاية من الرسالة هو إنقاذ بني إسرائيل فقط لا إرشاد فرعون وملئه.. موقف دعوة الكليم من غير القبطيّين: الظاهر أنّه لم تكن دعوته شاملة لغيرهم لو فرضنا شمولها لهم ويشعر بذلك أنّهم لما نجّاهم سبحانه من فرعون وجاوز بهم البحر فرأوا في ذلك الجانب من ضفة البحر قوماً يعكفون على أصنام فطلب منه قومه أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة فردّ عليهم موسى بأنّكم قوم تجهلون ولم يتعرّض موسى لعبدة الأصنام لا بالنقد والردّ ولا بالمنع، ولم يكن خضوعهم للأصنام أقلّ ضرراً من عبادة قوم فرعون له وإنّما تعرض لعمل فرعون دون عمل هذه الجماعة لأجل أنّ إنقاذ بني إسرائيل من مخالب فرعون وقومه كان متوقّفاً على المحاورة معه والاحتجاج عليه بأنّه رسول ربّ العالمين، دون المقام.. نعم ما نذكره من السكوت إشعار بالمدّعى لا أنّه دليل قطعي. ويؤيّد خصوصيّة الدعوة أنّه لم يعهد منه بعد إنجاء قومه من فرعون، أنّه دعا أقواماً آخرين.. ولم يرد في القرآن شيء يستشمّ منه أنّه دعا الأمم الأخرى طول حياته في التيه، بل كان يعاشر قومه فقط ويرشدهم حسب استعدادهم وإمكاناتهم. أضف إلى ذلك فقدان الإمكانيّات وضعف المواصلات في تلكم الأيام، فتشريع نبوّة عامة تشمل العالم أجمع مع فقدان الإمكانيّات اللازمة وقلّة الترابط بين الامم أمرٌ غير مفيد. مضافاً إلى أنّ تشريع النبوّة على صعيد عالمي فرع التهيّؤ في روح المجتمع الإنساني لقبولها.. أضف إلى ذلك أنّ الأمم اليهودية يخصّون نبوّة موسى بأنفسهم ولذا لا ترى منهم التبليغ والتبشير في مجتمعات العالم، ومع هذه الوجوه كيف يمكن القول بعمومية دعوته وعالميّتها في عصره إلى أن يبعث اللَّه نبياً مثله..»([7]).
ثمّ أكمل السبحاني شواهده على عدم عموميّة شريعته أيضاً، فقال: «ظاهر بعض الآيات، يفيد كون كتابه حجّة على الناس كلّهم حيث وصفه بكونه هدى ونوراً للناس.. فإذن هو ضياء وذكر للمتقين سواء أكانوا من بني إسرائيل أم غيرهم (ثمّ ذكر الآية التي ذكرناها سابقاً في موضوع الجنّ).. ويمكن الاجابة عن الاستدلال بهذه الآيات أوّلاً: بأنّ كون الكتاب نوراً وهدى للناس، لا يفيد تعميم شريعة موسى وأحكامه لغير بني إسرائيل؛ إذ من الممكن أن يستفيد الغير مما ورد في ذلك الكتاب من عظات وحكم وإن لم يكن تابعاً لأحكام ذلك الكتاب. فنحن المسلمون، نستفيد في هذا اليوم مما في التوراة والإنجيل من المواعظ ولسنا تابعين لشريعة من أُنزلا إليه. فبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله سبحانه: ]ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى وهرُونَ الفُرْقَانَ وضِيَاءً وذِكْراً للمُتَّقِينَ[ (الأنبياء: 48). وثانياً: إنّ الظاهر من بعض الآيات اختصاص كتاب موسى بقومه مثل قوله تعالى: ]وءاتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ وجَعَلنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسرءِيلَ[ (الإسراء: 2)، وقوله سبحانه: ]ولَقَدْ ءاتَيْنا مُوسَى الهدَى وأَوْرَثْنَا بَنِي إِسرءِيلَ الكِتبَ[ (غافر: 53). فلو كان كتابه حجّة على الناس كلّهم لورثه الناس كلّهم دون بني إسرائيل وحدهم. وقوله: ]مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا على بَنِي إِسرءِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَل الناسَ جَمِيعاً[ (المائدة: 32). وقد كتبه سبحانه عليهم في التوراة. وقوله: ]وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسرائيلَ الكِتَاب والحُكْمَ والنبُّوَّةَ[ (الجاثية: 16). وإن أردت أن تتوسّع في البحث فلاحظ الآيات التالية فإنّها تخصّ بني إسرائيل، بأنّهم هم الذين أوتوا الكتاب، فإنّ كونهم ممّن أوتوا الكتاب وإن كان لا يعارض كون غيرهم كذلك، إلّا أنّ تكرار توصيفهم بأنّهم هم الذين أوتوا الكتاب يوجب ظهورها في نفيه عن غيرهم، مثل قوله سبحانه: ]الذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ[ (البقرة: 121). وقوله سبحانه: ]وإِنَّ الذِينَ اوتُوا الكِتبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن ربّهِمْ[ (البقرة: 144). وقوله سبحانه: ]الذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يْعِرُفوِن أَبنَاءَهُمُ[ (الأنعام 20).. وقوله سبحانه حكاية عن المشركين بأنّه نزل الكتاب على الطائفتين المسيحيّة واليهوديّة ولم ينزل علينا: ]أَن تَقُولُوا إِنَّما أُنزِلَ الكِتبُ على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وإن كُنّا عن دِراسَتِهِم لغَافِلينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّا أُنزِل عَلَيْنا الكِتبُ لَكُنّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِن ربّكم وَهُدًى وَرَحْمَةٌ[ (الأنعام: 156 ـ 157). فبهذه الآيات وما تقدّمها يمكن تفسير ما تقدّمها من الآيات المفيدة المشعرة بكون التوراة نازلة إلى الناس كلّهم بحمل ما دلّ على سعة التشريع، على الاستغراق العرفي، دون العقلي، فيراد من قوله سبحانه: نوراً وهدى للناس، أو ضياء وذكراً للمتقين، الكتلة المتماسكة من بني إسرائيل. نعم، يمكن أن يقال بعكس ذلك، فيقال: إنّ تخصيص بني إسرائيل بالذكر لأجل أنّ التوراة كانت هدى لبني إسرائيل قبل أن تكون لغيرهم بشهادة بعث موسى فيهم وتولّده ونشوئه بينهم، ولأجل ذلك خصّ الله ذلك القوم بالذكر وقال: ]وجَعَلْناهُ هُدًى لَبِني إِسرائيلَ[ (الإسراء: 2). ولمّا مات وترك بينهم ذلك الكتاب الكريم، كانت تلك الطائفة أولى بميراث نبيّهم ولأجل ذلك قال: ]وأَوْرَثنا بَنِي إِسرائيلَ الكِتبَ[ (غافر: 53). ولكن يؤيّد الحمل الأوّل، أعني كون الاستغراق عرفيّاً لا عقلياً، قوله سبحانه: ]وكَتَبْنَا عَلَيهِمْ فِيهَا أَنَّ النفْسَ بالنفْسِ والعَيْنَ بالعَيْنَ والأنفِ بالأنفِ[ (المائدة: 45) وقد كتب الله لهم هذا الحكم في التوراة وتقييد الكتابة بلفظ (عليهم) يؤيّد كون الكتاب نازلًا لهدايتهم خاصّة. ويؤيّد الحمل الثاني قوله سبحانه: ]إنّا أَنزَلْنَا التوراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النبِيُّونَ الذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والربَّانِيُّونَ والأحْبَارُ بِما استُحْفِظُوا مِن كتابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ[ (المائدة: 44). فظاهر الآية أنّ التوراة كانت محكمة بعد موسى عبر القرون يحكم بها النبيّون فالآية تفيد سعة نطاق كتابه وشريعته. ومع ذلك كلّه فالإمعان في الآية لا يفيد إلا كون الكتاب حجّة لبني إسرائيل ومحكماً عليهم، والأنبياء الذين كانوا يحكمون به كانوا من بني إسرائيل لا من غيرهم، ولقد بعثوا لهدايتهم، وذلك لأنّ الله يقول: «يحكم بها النبيّون للذين هادوا» (لا لغيرهم) الذي هو المطلوب..»([8]).
إضافات ووقفات مع مناقشات العلامة السبحاني
هذا هو المشهد المؤيّد للطرفين هنا، ولنا بعض التعليقات:
التعليق الأوّل: لا يهمّنا هنا النظر في شمول نبوّة موسى لفرعون أو للمصريّين والأقباط، إنّما المهمّ لنا كون دعوته عالميّة، والمجموعة القرآنية الثالثة لا تفيد ذلك؛ وذلك أنّ استخدام كلمة "الناس" لوحدها لا يعني لكلّ الناس، فإذا كانت الدعوة الموسويّة لبني إسرائيل وللمصريّين معاً مثلاً، فإنّ كون التوراة هدى ونوراً للناس مفهومٌ صادق بلا حاجة لأيّ تأوّل، خاصّة مع عدم استخدام أدوات العموم في النصّ.
والأوضح من ذلك جعل ما أنزل على موسى هدى وضياء للمتقين، فإنّ هذا العنوان لا يعني بالضرورة كون بعثته لجميع الناس إلى يوم القيامة، بل يريد أن يقول بأنّ مضمون هذا الكتاب الإلهي يهدي الذين يريدون التقوى للخير، وهناك فرق بين كون نبيٍّ من الأنبياء بُعث إلى قومٍ وبين كون هداية كتابه شاملة لغيرهم، فالنبيّ صالح الذي بُعث إلى قومه دعوته يمكن أن تشمل مناطق كثيرة في العالم حيث يدعو للتوحيد والحقّ، لكنّ هذا لا يعني أنّه أرسل من الأوّل لجميع الناس.
وكذلك الحال في قضيّة ما قاله الجنّ، فإنّ غايته أنّ الكتاب الذي نزل على موسى كانت هذه الفئة من الجنّ قد اهتدت به، ولكنّ هذا غير أنّه بعث لهم وكانت دعوتهم جزءاً ممّا كُلّف به هو من قبل الله سبحانه، فالتمييز بين هذين المفهومين ضروريٌّ في موضوع بحثنا، فليس في القرآن ما يفيد عالميّة دعوة موسى.
كما أنّ ما أفاده الشيخ السبحاني في التعليق على الآية 44 من سورة المائدة متينٌ؛ وذلك أنّ الآية واضحة في أنّ النبيّين كانوا يحكمون بها للذين هادوا([9])، فليس ثمّة وضوح في النصّ على عالميّة الرسالة أو الشريعة الموسويّة.
التعليق الثاني: إنّ بعض الشواهد التي ذكرها الشيخ السبحاني رغم أنّها قد لا تكون حاسمةً في إثبات الاختصاص، لكنّها قادرة على إرباك ادّعاء دلالة القرآن على عموميّة شريعته، ومن أبرزها أنّ الله جعل القصاص في النفس والأعضاء والجروح عليهم، وأنّه كتب عليهم فيها أنّ النفس بالنفس والعين بالعين.
كما أنّ بني إسرائيل من الواضح ـ وفقاً لنصوص التوراة الحالية، فضلاً عن غيرها ـ أنّ دينهم وشريعتهم مختصّ بهم، وأنّ غيرهم غير مشمول لذلك، بل لا يعتبرون الآخرين لائقين بدينهم وشريعتهم، وهذا من الأمور الواضحة لديهم، فلو كانت دعوة موسى وشريعته واضحة في شمولها لكلّ العالمين، لكان من المناسب بالقرآن الكريم الذي تحدّث عنهم في مئات الآيات الغمز من قناتهم بأنّهم بخلاء، لا يريدون الهداية الموسويّة تجري على غيرهم، وهو ما لا نشهده إطلاقاً، بل القرآن من أوّله لآخره ظاهر في الربط بين موسى وبني إسرائيل.
التعليق الثالث: إنّ خبري ابن فضال وأبي بصير، اللذين أوردناهما سابقاً، يصعب الاعتماد عليهما هنا، وذلك:
أ ـ إنّهما في قوّة خبرٍ آحاديّ ظنّي، فضلاً عن ضعف سند أحدهما، ولا يحتجّ بأخبار الآحاد ـ على التحقيق ـ وبخاصّة في موضوعاتٍ بالغة الخطورة، كهذا الموضوع الذي نحن فيه.
ب ـ إنّ خبر أبي بصير المصحَّح سنداً ظاهره تفسير أولي العزم بأصحاب الشرائع العالميّة، في حين أنّ هذه الكلمة في اللغة العربيّة لا علاقة لها بمفهوم العالميّة، كما بينّا معناها سابقاً، ففي النفس شيءٌ من مثل هذه الأخبار.
لكن قد يجاب عن ذلك بأنّ عالميّة رسالتهم تتضمّن مسؤوليّات أكبر عليهم بكثير من سائر الأنبياء، الأمر الذي يتطلّب جهوداً وقدرات وطاقات أكبر منهم، ومن ثمّ فيكون هناك نوعٌ من الترابط بين مفهوم أولي العزم بدلالاته اللغويّة وفكرة العالميّة من باب اللوازم.
ج ـ ذكر الشيخ السبحاني تعليقاتٍ على خبر ابن فضال هنا، فقال: «المستفاد من الحديث أمران: الأوّل: الحديث يدلّ بصراحة على وجود أنبياء في زمن هؤلاء الأربعة، وهذا أقوى شاهد على عدم كون نبوّتهم عالميّة؛ إذ لا وجه لبعث نبيَّين إلى أمّة واحدة، ولم يثبت الاشتراك في النبوّة إلا في موسى؛ لقوله سبحانه: ]وَأَشرِكْهُ فِي أَمْرِي[ (طه: 32)، وقوله سبحانه: ]فأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِقُنِي[ (القصص: 34). الثاني: إنّ الأنبياء المبعوثين في زمنهم أو بعدهم، كانوا متمسّكين بشرائع هؤلاء الأربعة، وكانت شريعتهم متداولة بينهم. والثابت تداول شريعتهم في المناطق التي بُعث فيها هؤلاء، ولعلّ تداول شريعتهم بين الأمم السالفة، من دون تبديل، صار سبباً لتوهّم كون نبوّتهم عالميّة لا إقليميّة. ولكنّه لم يثبت تداول شريعتهم بين أمم الأرض جميعاً، وإنّما القدر المتيقّن تداولها في الشرق الأوسط وما ضاهاه، لا أقطار الأرض جميعاً. نعم دلّت الآيات القرآنية على أنّه لم تخلُ أرضٌ معمورة من نبيٍّ أو نذير، قال سبحانه: ]وإن مِن أمّةٍ إِلّا خَلَا فِيها نَذِيرٌ[ (فاطر: 24). وقال سبحانه: ]ولَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلّ أمّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا الله واجتَنِبُوا الطّاغُوتَ[ (النحل: 36). وقال سبحانه: ]إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ[ (الرعد: 7). وهذه الآيات وما يشابهها تدلّ على شمول فيض النبوّة لأقطار الأرض وأممها وأنّه لم تخلُ أمّة من تلك النعمة الإلهيّة..»([10]).
غير أنّ ما أفاده السبحانيُّ قابلٌ للنظر؛ وذلك أنّ وجود نبيَّين في وقتٍ واحدٍ ليس أمراً مستحيلاً لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً ولا عادةً، ولا تنافي بين كون نبوّة أو شريعة أحدهما عالميّة وكون الثاني تابعاً للأوّل ومبلّغاً لما أتى به أيضاً، وأيّ ضيرٍ في ذلك؟! بل هذا يصلح جواباً افتراضيّاً لإشكال السبحاني سابقاً من أنّه لو كانت ديانة موسى عالميّة فلم نجده حقّق هذه العالميّة، فلعلّ التحقيق كان من أنبياء آخرين كانوا يدعون لديانة موسى، كما هي الحال في الأمّتين المسيحيّة والإسلاميّة اللتين دخلتا العالميّة دخولاً حقيقيّاً بعد وفاة عيسى ومحمّد من قبل أنصارهما.
ولا بأس بالإشارة هنا إلى أنّ موضوع سليمان وذي القرنين لا يفيد العالميّة؛ تارةً لأنّه من غير الواضح كونهما كانا يلزمان بغير الدين من الشرائع والمناسك، وأخرى لعدم وضوح أنّ سليمان كان بصدد عالميّة النبوّة والشريعة؛ إذ مع القدرات الفائقة التي كانت عنده لماذا لم نسمع له أيّ نشاط آخر في الكرة الأرضيّة؟! وغير ذلك.
نكتفي بهذا القدر حول عالميّة شريعة موسى، والمتحصّل أنّه لم يثبت ذلك بدليلٍ قويّ وحاسم.
2 ـ نبوّة عيسى وشريعته بين العالميّة وعدمها، البيانات القرآنية والإنجيليّة
وأمّا بالنسبة لعيسى×، ففي القرآن الكريم نوعان من البيان هنا، هما:
النوع الأوّل: ما يفيد أنّه مرسلٌ لبني إسرائيل، فهو ليس أكثر من يهوديّ مصلح أراد إصلاح الانحرافات التي وقعت في الشريعة الموسويّة ولم يكن معنيّاً بأحد آخر غير بني إسرائيل، مثل:
أ ـ قوله تعالى: ]وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ (آل عمران: 49).
ب ـ قوله سبحانه: ]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[ (المائدة: 72).
ج ـ قوله عزّ وجلّ: ]إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ[ (الزخرف: 59).
د ـ قوله عزّ من قائل: ]وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ[ (الصف: 6).
فإنّ هذه المجموعة واضحة في ربطها بين عيسى وبني إسرائيل في الدعوة والرسالة على الرغم من أنَّها لا تنفي أنّ مشروع عيسى أوسع من دائرة بني إسرائيل، لكنَّها بالمقابل لا تثبت ذلك.
النوع الثاني: ما يفهم منه العموميّة، وهو قوله تعالى: ]نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[ (آل عمران: 3 ـ 4).
والكلام نفسه الذي ناقش به الفريق المؤيّد والناقد لفكرة عالميّة الشريعة الموسويّة ـ وأيّ شريعة أخرى قبل النبي محمّد ـ يأتي هنا. وكلمة "للناس" الواردة في الآية تصحّ مع مجموعة معيّنة، وليس شرطاً أن تكون دلالتها شاملة لكلّ الناس، وهذا بخلاف عبارة "للناس كافة" أو "للعالمين" حيث فيها سعة وشموليّة أوضح.
هذا التنوّع يمكن ملاحظته أيضاً في الإنجيل ـ على عكس التوراة ـ، وعلى سبيل المثال، فإنّ في الإنجيل ما قد يفهم منه اختصاص رسالة عيسى ببني إسرائيل، مثل: (فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالّة) (متى 15: 24)، حيث يفهم منه أنّه غير معنيّ بالأمم الأخرى، وذلك لما واجهته المرأة الكنعانيّة عندما كان في نواحي صيدا وصور. فيما نجد ما يُفهم منه العالميّة، مثل ما جاء في أواخر إنجيل متّى: (وأمّا الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع * ولما رأوه سجدوا له ولكنّ بعضهم شكّوا * فتقدّم يسوع وكلّمهم قائلاً دُفع إليّ كلُّ سلطان في السماء وعلى الأرض * فاذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الاب والابن والروح القدس * وعلّموهم أن يحفظوا جميعَ ما أوصيتكم به وها أنا معكم كلَّ الأيّام إلى انقضاء الدهر) (متى 28: 16 ـ 20).
وبصرف النظر عن النصّ الإنجيلي، وعوداً للنصّ القرآني، فقد سبق منّا المناقشة في طريقة الاستدلال بكلمة "الناس" هنا، فلا حاجة للإعادة، وعليه فليس في القرآن ما يفيد عموميّة رسالة أو شريعة عيسى.
وقد حاول الشيخ جعفر السبحاني حشد مؤيّدات حديثيّة وتاريخيّة لهذه النتيجة أيضاً، فقال: «ويؤيّد كون رسالة المسيح× لقوم خاصّ أمورُ: 1 ـ إنّ أجداد النبيّ وأسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربيّة، كانوا على دين إبراهيم، ولم ينقل أحدٌ من أهل السّيَر تهوّدهم أو تنصّرهم.. 3 ـ ما رواه الحافظ البخاري، عن النبيّ‘ أنّه قال: «أُعطيتُ خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي.. وأعطيتُ الشفاعة وكان النبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامّة»، وفي بعض ألفاظ الحديث: «وكان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود». وقال الشيخ منصور علي ناصف في كتابه القيّم «التاج الجامع للأصول»: روي عن جابر عن النبيّ قال: «أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من قبل: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس عامّة»، رواه الخمسة إلّا أبا داود. 4 ـ روى الكليني عن أبي عبد الله الصادق×: إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمّداً شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسله كافّة إلى الأبيض والأسود والجنّ والإنس..»([11]).
خلاصة وخاتمة
بناءً على ما سبق يكون عندنا اتجاهان أساسيّان في التصوّر الإسلاميّ وفقاً للنّص الإسلاميّ ـ خاصة النّص القرآني ـ لعالميّة النبوّات والشرائع قبل النبيّ محمّد:
التصوّر الأوّل: وهو التصور المشهور الذي يرى أنّ هناك ديانات عالميّة يمثلها أنبياء أولو العزم الخمسة (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد) وفي المقابل هناك ديانات محليّة يمثلها بقيّة الأنبياء.
التصوّر الثاني: وتتبناه أقليّة من الباحثين، يقولون بأنَّ النّص الإسلاميّ لا ينظر إلى أيِّ نبيٍّ قبل النبيّ محمّد على أنّه صاحب مشروع عالميّ، فكلّهم ـ ما عدا نبيّ الإسلام ـ أصحاب نبوّات وشرائع محليّة وقوميّة جاؤوا لمخاطبة جماعات وأممٍ محدّدة، وهذه العالميّة لم تكن إلّا للنبوّة الخاتمة، وهي نبوّة النبيّ محمّد. وهذا ما يفسّر أنّ النبيّ محمّداً في مكّة لم تكن تعنيه الشريعة الموسويّة أو العيسويّة ولم يقل أحدٌ أنّ لديه في مكة أعرافاً يهوديّة أو مسيحيّة.
والنتيجة التي نخرج بها أنّه من الصعب إثبات عالميّة النبوّة والشريعة الموسويّة أو العيسويّة، فضلاً عن غيرهما، بصرف النظر عن النبوّة المحمديّة.
([1]) هذا تقرير لمحاضرة ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في منتدى مرفأ حوار عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ 2 ـ 5 ـ 2023م، وقد قام بكتابتها وتحريرها فضيلة السيّد أيمن عبد الزهرة الموسوي، ثم قام الشيخ حبّ الله بمراجعتها وإجراء بعض التعديلات والإضافات عليها.
([2]) راجع: الميزان في تفسير القرآن 5: 350 ـ 351.
([3]) علل الشرائع 1: 123؛ وعيون أخبار الرضا 2: 86 ـ 87. وهذه الرواية إحدى الروايات التي يستدل بها الفقهاء على أنَّ مَنْ يدّعي النبوّة بعد نبينا محمّد فإنَّ عقابه القتل، وقد سبق أن حقّقنا في هذا الموضوع فقهيّاً وقلنا بعدم ثبوت هذه العقوبة.
([4]) كامل الزيارات: 333 ـ 334.
([5]) ومن ذلك أنّهم عليهم دارت الرحى (الكافي 1: 175)، إذ لا يعلم أنّ المراد ـ بالضرورة ـ بدوران الرحى عليهم عالميّة رسالتهم أو نسخ شريعتهم لما قبلها، فالاحتمالات في تفسير الكلمة متعدّدة.
([6]) حيث ذهب إلى عدم عالميّة شريعة موسى، فانظر له: الإحكام في أصول الأحكام 5: 739.
([7]) السبحاني، مفاهيم القرآن 3: 80 ـ 86.
([9]) وإن كان هناك احتمال أنّ ذكرهم من باب أنّهم الوحيدون الذين آمنوا بموسى، على أنّ في ذلك كلاماً على مستوى البحث التاريخي الأدياني.