hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الاجتهاد المذاقي أو مذاق الشارع ومزاج الشريعة / تجلّيات النشاط الاستقرائي في عمليات الاستنباط

تاريخ الاعداد: 6/12/2023 تاريخ النشر: 6/12/2023
11590
التحميل

حيدر حب الله([1])

تمهيد

ثمّة مجموعة من المصطلحات بدأت بالظهور في الأعمال الفقهيّة أو ما يرتبط بها في الوسط الإمامي في العقود الأخيرة، وهي لا ترقى بالتأكيد لأكثر من قرن من الزمان مضى، عدا إشارات في كلمات المحقّق النجفي (1266هـ)، ثم الآغا رضا الهمداني (1322هـ)، ربما يمكننا تصنيفها على أنّها بدايات ظهور هذا اللون من المصطلحات في الأعمال الفقهيّة.

ومن هذه المصطلحات تعابير من نوع: مذاق الشارع، مذاق الشرع، المذاق الشرعي، مذاق الفقه، مذاق الشريعة، مذاق قواعد الشريعة، مذاق الإسلام، روح الشريعة، مزاج الشريعة، مزاج القرآن، روح القرآن، الروح العامّة، روح الإسلام، وغير ذلك من التعابير التي لعلّ منها أيضاً تعبير «شمّ الفقاهة» وأمثاله.

ولعلّ قائلاً يذهب إلى أنّ ما يشبه هذه التعابير قد نجده في كلمات بعض القدماء بلغةٍ أخرى، مثل: أصول المذهب، أصول الشريعة، ونحو ذلك، ولعلّ الشخصيّة الأكثر ظهوراً واستعمالاً هنا لهذا المصطلح ـ أصول المذهب.. ـ هو الشيخ ابن إدريس الحلّي (598هـ) الذي طفح كتابه «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي» به، دون أن يوضح مراده بهذا المصطلح في أيّ موضعٍ من كتبه، لكنّ التتبّع يفضي إلى ترجيح أنّ ابن إدريس الحلّي اعتمد على فكرة أصول المذهب بوصفها بديلاً أساسيّاً عن فكرة حجيّة خبر الواحد؛ ليقوم عبرها باكتشاف الأحكام الشرعيّة في الموارد التفصيليّة.

ثمّة احتمال أنّ ابن إدريس ـ ومن استخدم هذا المصطلح قبله وبعده ـ يقصد، فيما يقصد، من «أصول المذهب»: القضايا المسلّمة الواضحة في المذهب المتلقّاة بوصفها أسساً ساريةً في أطراف الشريعة، ولعلّ فهمه يقترب من فكرة روح الشريعة وروح المذهب، بمعنى أنّ هذا المذهب في فقهه له أصول يقوم عليها، وأنّ هذه الأصول قد لا تكون مدوّنة أو منصوصة، بل هي روح تسري فيه يُعلم حالها من ملامسة مختلف أطراف هذا المذهب، وأنّها متفق عليها بين جميع أبنائه([2]).

لا يمكنني الجزم بكون أصول المذهب في التداول القديم ـ خاصّة عند مثل ابن إدريس ـ تعني شيئاً يستوعب أو يوازي مفهوم روح الشريعة ومذاق الشرع اليوم، لكنّني لا أستبعد أن تكون الفكرة متداخلة مع هذه هنا، ولو بقدرٍ ما، عبر ملاحظة التطبيقات والموارد المختلفة لهم في استعمال مثل هذه المفردات، والعلم عند الله.

وعلى أيّة حال، سوف نحاول في البداية اكتشاف الفكرة الكامنة في أذهان الموظِّفين لهذه المصطلحات، عبر تحليل كلماتهم وتطبيقاتهم لها، ثم نعمد لتحليل أسسها وبناءاتها، لننظر في هويّتها وحجيّتها ومرجعيّتها الاعتباريّة، ودور العقليّة الاستقرائيّة فيها، إن شاء الله تعالى.

أوّلاً: فكرة «مذاق الشرع وروح الشريعة..»، رصد تاريخي

نكاد لا نجد مثل هذا التعبير في الأعمال الفقهيّة والأصوليّة عند أهل السنّة، بعيداً عن تعابير روح الشريعة والمقاصد وأمثالها، عدا جملة واحدة عرضيّة قالها الغزّالي في خاتمة كتاب المنخول حول مذاق الشرع([3]).

من هنا، فلعلّ أوّل استخدام لتعبير المذاق في فضاء هذا السياق الذي نحن فيه، نلاحظه بخجل شديد عند السيد محمّد جواد الحسيني العاملي (1228هـ)، فقد تحدّث في بعض الأحيان عن «مذاق الأصحاب»([4])، ثم جاء الشيخ علي كاشف الغطاء (1253هـ)، ليستخدم هذا التعبير ناقلاً له عن غيره([5]).

المحقّق النجفي (1266هـ) بوصفه نقطة انطلاق ذهنيّة المذاق، شواهد تطبيقيّة

غير أنّ حضور هذه الكلمات القليلة الخجولة لا تعطي حضور الفكرة، ولهذا ينبغي الإقرار بأنّ مُبدع هذا المصطلح ومنشّطه في الفقه كان الشيخ محمّد حسن النجفي (1266هـ)، فقد استخدمه كثيراً في كتابه الشهير «جواهر الكلام»، ولنرصد بعض العيّنات لنحاول فهم الفكرة في لحظة انطلاقتها من خلال توظيفه للمصطلح.

ففي بحثه عن طهارة الماء القليل بإتمامه كرّاً يقول ناقداً هذه الفكرة: «يكاد يقطع المتأمّل في مذاق الشرع بعدمه»([6]). وفي حديثه عن استحباب وضعه الإناء الذي يتوضأ منه على يمين المتوضئ أو أنّه أدب من الآداب قال: «..يستفاد مطلوبيته ورجحانه من ممارسته مذاق الشرع وإن لم يرد به دليل بالخصوص»([7]). وفي بحثه عن أمارات التذكية قال: «ضرورة كونها من مذاق واحد كما لا يخفى على من رزقه الله معرفة لسان أهل العصمة عليهم السلام»([8]).

وقد استخدم أحياناً فكرة المذاق لنفي رأي فقهي معيّن، فلدى بحثه عن إلحاق بيت الفقّاع ببيت الخمر في كراهة الصلاة فيه قال: «..كان الواجب عليه بعد اختياره الطهارة طرحه كغيره من نصوص النجاسة، لا التزام البطلان مع القول بالطهارة الذي هو في غاية البعد عن مذاق قواعد الشريعة»([9]). ولاحظنا له موارد عديدة يرفض فيها فتوى معينة محتملة؛ لكونها تخالف مذاق الشرع أو الفقه([10]).

وفي بحث الدراهم المغشوشة في الزكاة ولزوم تمييزها لمعرفة النصاب يقول: «لكن قد يناقش بأن الأوّل مسلّم بخلاف الثاني، ضرورة معلومية الوجوب في مثله من مذاق الشرع..»([11]).

وفي باب الحجّ نلاحظه يوظّف كلمة مذاق الفقه حيث يقول: «الأخذ بإطلاق النصوص المزبورة يقتضي إثبات أحكام غريبة يقطع الفقيه بخروجها عن مذاق الفقه وبُعد التزام الأصحاب بها»([12]). وهذا ما نلاحظه بقوّة وهو يفرض تفسيراً لروايةٍ ولو كان هذا التفسير خلافَ ظاهرها معلّلاً ذلك بقوله: «بل لا يبعد أن يكون العمل بالرواية على هذا الوجه تهجّماً على الشرع، وخروجاً عن مذاق الفقه، فلا محيص عن تنزيلها على ما ذكرنا، بل هو الظاهر منها عند التأمّل..»([13]).

وقال في بحث الإجارة: «وحصوله في العارية بدليل خاص لا تقتضي ثبوته في المقام بعد حرمة القياس، وإلا لاقتضى جواز اشتراط ضمان الوديعة ونحوها من الأمانات التي يمكن دعوى معلوميّة خلافه من مذاق الشرع»([14]).

وفي نصٍّ يعدّ من النصوص المهمّة هنا، يقول النجفي في بحث اشتراط التوارث بين الزوجين في المتعة: «..لا ينبغي لمن رزقه الله معرفة مذاق الشرع أن يحتمل ذلك، فضلاً عن أن يكون فتوى، وخصوصاً بعد معلوميّة عقد المتعة بالموت، وأنّه بمنزلة الهبة، بخلاف عقد الدوام، فلا زوجية حينئذ بينهما كي يقتضي التوارث، بل يكون بالموت كمن وهبت المدّة..»([15]).

وفي بحث مال من لا وارث له قال: «..مصرفه الصدقة به عنه كغيره من المال المتعذّر وصوله إلى صاحبه. مضافاً إلى استغنائه× وشدّة حاجة شيعته الذين قد تحمّلوا ما تحمّلوا في جنبه، وإلى ما في حفظه له من التعريض بتلفه واستيلاء الجائرين عليه، بل كان ذلك من الخرافات، نحو ما قيل في باب الخمس من طرح حقّه في البحر ونحو ذلك مما لا يقبله مذاق فقهٍ..»([16]).

شيوع الاجتهاد المذاقي بعد المحقّق النجفي، عيّنات مثيرة

هذا الذي تداوله الشيخ النجفي، سرى بعد ذلك في كلمات العديد من الفقهاء، وسأذكر بعض العينات القليلة فقط:

1 ـ في بحثه حول تقديم المضيف لضيفه ما هو نجس، يقول الشيخ حسين الحلّي: «قد أهمل المصنّف ـ قدّس سرّه ـ صورة ما إذا كان الطعام، أو الماء نجساً، وقد قدّمه صاحب المنزل لضيفه، وكأنّه يرى المفروغيّة من عدم جواز التقديم في هذه الصورة، مع أنّ الحكم فيها في غاية الإشكال، إذ لا دليل على حرمة تقديم الشيء النجس. نعم في مسألة الخمر إنّما التزمنا بذلك لعلمنا من مذاق الشارع أنّه يكره وجوده (من) أيّ أحد ـ سواء كان عالماً أم جاهلاً ـ فوقوعه في الخارج مرغوب عنه، وأمّا في غيره فلا دليل على حرمته، إذ الإثم إنّما يتوقّف على علمه بأنّه نجس، ومع الجهل به فهو غير آثم، فإعانته لا تكون إعانة على الإثم»([17]).

ومن اللافت أنّ ما اعتبره الشيخ الحلّي لا دليل عليه، استند فيه الخوئي لمذاق الشارع حيث قال: «لما كان بيع الدهن المتنجّس من المسلم قد يوجب إلقاءً له في الحرام الواقعي حكم بحرمته في الشريعة المقدّسة؛ فإنّه يستفاد من مذاق الشارع حرمة إلقاء الغير في الحرام الواقعيّ»([18]).

2 ـ ما ذكره الشيخ فضل الله النوري في بحث قاعدة ضمان اليد: «وأمّا الوجه في عدم الضمان في الاستيمانات الشرعيّة؛ فلأنّ تسليط الشرع كتسليط المالك يستلزم عرفاً رفع اليد عن ماليّته عند تلفه غير المستند إلى قابضه، فتدبّر وتأمّل، فإنّ المسألة في كمال الغموض والإشكال، فإنّي لم أجد ما يدلّ على أنّ استيمان الشارع كاستيمان المالك، إلا أنّ مذاق الشرع يقضي بذلك»([19]).

3 ـ ما ذكره المحقق العراقي في بحث زكاة الفطرة، حيث قال: «ويستحبّ اختصاص القرابة بها، ثم الجيران.. على إشكال في تقديم ذي القرابة على الفقيه؛ لأنّ هذا الأخير أهمّ من الجميع، حسبما يستفاد من مذاق الشرع المقدّس، ثم القريب، ثم الجيران»([20]).

4 ـ ما ذكره السيد الخميني في مباحث له متصلة بالتقية: «حول موارد استثنيت من الأدلّة منها بعض المحرّمات والواجبات التي في نظر الشارع والمتشرّعة في غاية الأهميّة، مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة بنحو يمحو الأثر ولا يرجى عوده، ومثل الردّ على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسد المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرّمات، فإنّ القول بحكومة نفي الحرج أو الضرر وغيرهما على أدلّتها بمجرّد تحقّق عنوان الحرج والاضطرار والإكراه والضرر والتقية بعيد عن مذاق الشرع غايته، فهل ترى من نفسك إن عرض على مسلم تخريب بيت الله الحرام وقبر رسول الله‘ أو الحبس شهراً أو شهرين أو أخذ مائة أو مائتين منه يجوز له ذلك تمسّكاً بدليل الحرج والضرر؟!..»([21]).

وفي موضع آخر حول التصوير والنحت يقول السيد الخميني: «لا شبهة في حرمة تصوير الأصنام للعبادة بها لولا بقاء آثار السلف الفاجر من غير فرق بين المجسّمة وغيرها، ولا بين الايجاد التسبيبي والمباشري، ولا بين صور الروحانيين وغيرها، ولا الحيوان وغيره، فلو عمل صورة بعض أرباب الأنواع المتوهّمة التي كانت مورد تعبّدهم أو صورة شجرة كذائيّة، كان حراماً مطلقاً ولا يجوز إبقاؤها واقتناؤها؛ وذلك لما نعلم من مذاق الشارع الأقدس أنّه لا يرضى ببقاء آثار الكفر والشرك للتعظيم أو لحبّ بقاء آثارهما والفخر بها كما ترى من بعض أولاد الفرس من الحرص على إبقاء الآثار القديمة المربوطة بالمجوس وعبدة النيران..»([22]).

5 ـ ما ذكره السيد الخوئي في الاستدلال على شرط الذكورة في مرجع التقليد، حيث قال: «والصحيح أنّ المقلّد يعتبر فيه الرجوليّة، ولا يسوغ تقليد المرأة بوجه؛ وذلك لأنّا قد استفدنا من مذاق الشارع أنّ الوظيفة المرغوبة من النساء إنّما هي التحجّب والتستر، وتصدّي الأمور البيتيّة. دون التدخل فيما ينافي تلك الأمور. ومن الظاهر أنّ التصدّي للإفتاء ـ بحسب العادة ـ جعل للنفس في معرض الرجوع والسؤال لأنّهما مقتضى الرئاسة للمسلمين، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً، كيف ولم يرض بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة فما ظنك بكونها قائمة بأمورهم ومديرة لشؤون المجتمع ومتصدية للزعامة الكبرى للمسلمين. وبهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان المتشرّعة يقيّد الإطلاق، ويردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً، رجلاً كان أو امرأة»([23]).

وقد استند الخوئي لهذا الدليل أيضاً لإثبات ضرورة عدم وجود منقصة دينيّة أو دنيويّة في المرجع من نوع طهارة المولد وهكذا([24]).

بل بهذا وأمثاله قد نكتشف أنّ فكرة «ما لا يرضى الشارع بوقوعه أو عدم وقوعه على أيّ حال»، وهي فكرة تكرّرت في كلمات المتأخّرين، قد ترجع بعض مصاديقها للمذاق الشرعي أيضاً، فراجع وتأمّل يتضح لك هذا.

6 ـ ما ذكره الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء في تعليقته على العروة في باب المستحقّين للزكاة، حيث قال بعدم جواز إعطائها لبعض الناس «ككثير من البطّالين وأهل السؤال وأشباههم ممن لهم قدرة على كثير من الصنائع والحرف اللائقة بحالهم، ولكنّهم تعوّدوا على البطالة والتعيّش بالصدقات التي ما شرّعها الله جلّ شأنه إلا للعجزة ومن لا يساعدهم كسبهم على نفقاتهم ونفقة عيالهم ولطلبة العلم الذين لا مؤنة لهم، والقادر على كسب نفقته من الحرفة غني في الحقيقة وغير محتاج إلا إذا كان كسبه لا يفي له ولعياله، فالقول بعدم جواز إعطاء أمثال أولئك البطالين من الزكاة كما نسب إلى المشهور هو الأقوى خلافاً لصاحب الجواهر. ودعوى السيرة على إعطاء مثلهم ممنوعة، بل لعلّ في إعطائهم تعطيلاً للأيدي العاملة وترويجاً للبطالة، ولعلّه من أعظم المحرّمات لمن يعرف ذوق الشارع الحكيم وحكمة الأحكام»([25]).

7 ـ ما ذكره السيد محمّد باقر الصدر في رفض الاحتياط في بحث الانسداد، حيث قال: «إنَّ المستفاد من ذوق الشارع وطريقته في التبليغ والاهتمام بتنظيم حياة الإنسان بمختلف شؤونها ومجالاتها أنَّه لا يرضى بمرجعيّة الاحتياط..»([26]).

والسيّد باقر الصدر نفسه عندما يشرح لنا مفهوم القياس المرفوض، يقول: «والمراد بالقياس أن نحصي الحالات والصفات التي من المحتمل أن تكون مناطاً للحكم، وبالتأمّل والحدس والاستناد إلى ذوق الشريعة يغلب على الظنّ أنّ واحداً منها هو المناط، فيعمّم الحكم إلى كلّ حالة يوجد فيها ذلك المناط.. والقياس ظنّيٌّ دائماً؛ لأنّه مبنيٌّ على استنباط حدسي للمناط، وكلّما كان الحكم العقلي ظنّياً، احتاج التعويل عليه إلى دليل على حجيّته»([27]).

يبدو من السيد الصدر هنا أنّه يفهم فكرة الملائمة على أنّها هي ذوق الشريعة؛ لأنّ ملائمة الوصف للشرع ولو في جنسٍ بعيد، هو الأساس في الحدس بالمناط في مسلك المناسبة، وسوف نرى لاحقاً بالتحليل هل ثمّة تداخل بين الملائمة بوصفها مبدأ قياسيّاً وبين فكرة ذوق الشريعة أو لا؟ وهل بضمّ كلامَي الصدر نفهم أنّ ذوق الشريعة قد يكون ظنيّاً فياسيّاً وقد يبلغ مرحلة اليقين فيتحرّر من إشكاليّة الظنّ والقياس معاً؟

8 ـ ما ذكره الشيخ باقر الإيرواني، حيث تعرّض لجملة أمثلة هنا، منها أنّه لو فرض ـ ويبدو أنّ الأمر عند كثيرين قريب من ذلك ـ أنّه لا يوجد دليل من آية أو رواية على تحريم إخراج المنيّ بمجرّد النظر للصور الجنسيّة، دون المرأة المحرّمة، لكنّنا نعرف من مذاق الشارع الحرمة وأنّه يريد إفراغ الرغبة الجنسية بالطرق السليمة المعهودة لديه من الزواج وملك اليمين([28]).

هذه العيّنات لاستخدام كلمة المذاق وما يرتبط بها، نجد إلى جانبها عيّنات لاستخدام فكرة روح الشريعة أو روح القرآن، لكن بشكل أقلّ بكثير. ومن التعابير التي قاربت المفاهيم مع بعضها كان تعبير السيد عادل العلوي ـ في بحثه الممزوج بأفكار السيّد المرعشي النجفي ـ في بحث تقليد الفاسق وأمثال ذلك، حيث وظّف دليل السيد الخوئي نفسه لكن بعبارته التي قال فيها: «والذي يقتضيه الاعتبار كما هو المختار، أنّه يفهم بحسن سليقةٍ من روح الشريعة، وما وراء الفقه، باعتبار المرتكز عند المتشرّعة، المستفاد من لسان الشرع المقدّس، في نصوصه القرآنيّة والروائيّة، هو عدم رضاه بأن يتصدّى للزعامة الدينيّة والمرجعيّة العظمى رجلٌ فاسق، ومَن به منقصة دينية أو دنيويّة تُسقطه عن أنظار المؤمنين..»([29]).

ويشرح لنا كيفيّة تحصيل روح الشريعة ومذاق الشرع وشروطه، فيقول: «لا يخفى أنّ معرفة مذاق الشارع أو روح الشريعة أو ما وراء الفقه أو فلسفة الأحكام وغير ذلك، ممّا يقال في هذا الباب، كقولهم بالمقاصد الإسلاميّة، إنّما يكون لمن بلغ من العلم والتقوى مرتبةً سامية ودرجة عالية، برجوعه إلى النصوص الشرعيّة من مصادرها الثابتة في الكتاب والسنّة، فكلّ يدّعي الوصل بليلى، ولكن لا تقرّ بذاكا، كما نشاهد من بعض المتجدّدين يتحدّثون باسم الإسلام وروح الإسلام والشريعة المقدّسة، وهم لا زالوا في هوامش ألف باء الإسلام»([30]).

وقد كان الدكتور الدواليبي قد تحدّث عن طرق الاجتهاد عند أهل السنّة، فجعلها ثلاثة: النصوص، والقياس القائم على الأشباه والنظائر، والرأي فيما لا نصّ فيه معتمداً على روح الشريعة([31]).

وممن استخدم تعبير روح الشريعة في كتبه، الشيخ جعفر السبحاني، فقد رفض التعصيب في الإرث مستدلاً فيما استدلّ بأنّه تأباه روح الشريعة ذاكراً شواهد لذلك([32])، وكذلك ناقش بعض الفتاوى في فقه أحكام الحجّ والنكاح والعقود والزكاة انطلاقاً من كونها تخالف الشريعة السهلة السمحة وروح الشريعة([33]).

وقد شرح السيد محمّد باقر الحكيم منهجَه في تفسير القرآن الكريم واضعاً في أسسه «روح القرآن الكريم العامة التي تمثل أصلاً في فهم القرآن الكريم والتفاصيل الموجودة فيه، وقرينة على فهم هذا النصّ أو ذاك في القرآن الكريم»([34]).

كما قد استخدم السيد مصطفى الخميني تعبير «ذوق العقلاء وروح الشريعة» أحياناً([35])، ويظهر من الشيخ محمد سند البحراني أنّه يفهم روح الشريعة على أنّه بعينه فلسفة الأحكام وفقه المقاصد([36]).

أمّا تعبير روح القرآن أو المزاج القرآني العام ونحو ذلك، فغالباً ما طُرح في سياق بحث التعارض بين الحديث والكتاب، وقد تحدّثنا عنه أكثر من مرّة، فلا نطيل، وممّن طرحه السيد باقر الصدر والسيد محمّد حسين فضل الله والسيد علي السيستاني وآخرون.

يشار إلى أنّ العلامة فضل الله كان من الذين اهتمّوا كثيراً بمسألة روح الشريعة وأمثال ذلك ناشراً هذه الفكرة في المحافل والأوساط الدينيّة العامّة.

ثانياً: فكرة «الروح والمذاق»، تحليل المفهوم وتبيين الأدوار

بعد هذه الجولة التمهيديّة في نصوصهم والهادفة لأن نعيش الفضاء العام، نأتي الآن لبعض العمليّات التحليليّة:

أوّلاً: إذا حلّلنا الكثير من كلمات الشيخ النجفي ومن جاء بعده، والتي نقلنا بعضها فقط، نجد أنّهم يستخدم كلمة «المذاق/الذوق..» في الآتي:

أ ـ المبنى والقبليّات المسبقة التي يعتقد بها شخص ما، فنجد النجفي وغيره يقول في بعض الأحيان: وهذا منسجم مع مذاق العامّة (أهل السنّة)، أو هو جارٍ على مذاق أهل الكتاب، أو هو على مذاق القوم، أو هذا قائم على مذاق المشهور، أو هو على مذاق المصنّف، أو هو على مذاق الأصوليّين، أو هو على مذاق الإخباريّين، أو هو على مذاق العرفاء والمتصوّفة، أو هو على مذاق الأشاعرة، وغير ذلك ممّا وجدنا بالفعل تداولَه في كتبهم.

وهذا التعبير يشبه تعبير: مباني القوم، فكأنّ ثمّة أصول يعتقد بها طرفٌ ما، ثمّ أنت تقول: إنّ هذه النتائج تنسجم مع الأصول التي أنت تميل إليها لا مع تلك التي أنا أعتقد بها.

ب ـ مجموعة من الأمور اليقينيّة الواضحة في ذهن الفقيه ـ أو شبه الواضحة ـ غير أنّها ليست مدلولة لنوع معيّن من الأدلّة أو لنصّ خاصّ، فلا تعطيها مباشرةً أيٌّ من المصادر الاجتهاديّة المعروفة عندهم كالكتاب والسنّة والإجماع والعقل، ولا الأصول العمليّة بعينها.

وهذا ما يبدو أنّه المعنى الذي يستخدمه صاحب الجواهر ومَن جاء بَعده، فالفقيه يلاحظ أمراً فيكون لديه وضوح وقاطعيّة في نسبته للشرع أو نفيه عنه، لكنّه في الوقت عينه لا يملك دليلاً مباشراً من نصٍّ أو عقل أو إجماع، فيقوم بترجمة هذا الوضوح ـ الذي سنتكلّم عن مناشئ ظهوره في عقل الفقيه ـ عبر نحت مصطلح مذاق الشرع أو الفقه أو مذاق الشارع أو روح الشريعة أو نحو ذلك. ولهذا رأينا كيف أنّهم يصرّحون في بعض المواضع بعدم وجود دليل على هذا الحكم بالخصوص غير الروح والمذاق.

فمذاق الشرع يقينٌ خفي يظهر في نفس الفقيه نتيجة تراكمات أو عمليّات ذهنيّة ضمنيّة عميقة، وعلينا اكتشاف هذه العمليّات لتحديد موقف موضوعي منها؛ إذ هل ثمّة مبرّر للفقيه في أن يحصل له يقين من هذا النوع أو لا؟

الاجتهاد المذاقي والحيلولة دون استعجال الأخذ بالأصول العمليّة

وعبر هذه الطريقة تصبح فكرة مذاق الشريعة أو روح الشرع بمثابة عائق أمام عمليّات الاستعجال والهرولة نحو إجراء الأصول العمليّة، فالفقيه عليه أن لا يستعجل في إجراء الأصول العمليّة كلّما لم يلح أمامه دليل صريح ومباشر، بل ثمّة أدلّة تبدو مختفيةً، لكنّه يمكن الكشف عنها بواسطة عمليّة حفر خاصّ.

وهذا ما يجعلنا نقف أمام نصّ إمامي بالغ الخطورة من حيث تحرّره من ضرورة وجود دليل مباشر على حكم معيّن للإفتاء به، وهو ما قد يمكن اعتباره استحساناً واجتهاداً بالرأي في بعض الأوساط، وهو نصّ المحقّق النجفي، حيث يقول: «لا يخفى عليك أنّه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع العارف للسانه أن يتطلّب الدليل على كلّ شيء شيء بخصوصه من رواية خاصّة ونحوها، بل يكتفي بالاستدلال على جميع ذلك بما دلّ على تعظيم شعائر الله، وبظاهر طريقة الشرع المعلومة لدى كلّ أحد، أترى أنّه يليق به أن يتطلّب رواية على عدم جواز الاستنجاء بشيء من كتاب الله؟!»([37]).

إنّ النجفي هنا يكتفي للإفتاء بما يعلم من طريقة الشرع، وأعتقد بأنّ تعبير «طريقة الشرع»، هو ـ ولو أحياناً ـ الوجه الآخر لفكرة مذاق الشريعة.

تشبه قضيّة مذاق الشرع فكرة الأصول القانونيّة العامّة التي تمثل أسساً عميقة ناتجة عن الأعراف والأصول الأخلاقيّة التي تبنى القوانين عليها.

ثانياً: يبدو من تتبّع كلمات هؤلاء الفقهاء أنّ فكرة مذاق الشرع وروح الشريعة تتخذ عدّة أدوار أو يمكن أن يُستفاد منها في غير مجال، وأبرز هذه المجالات هي:

الدور الأوّل: استنباط أو نفي حكم شرعي مستقلّ

وقد رأينا هذا واضحاً من خلال العديد من الأمثلة المتقدّمة وغيرها، فالفقيه يقوم باستنباط حكم شرعي مستقل وجديد، ويكون الحكم المذكور مستدلاً عليه بمذاق الشرع أو الشارع أو روح الشريعة، دون أن يكون هناك عليه دليل بخصوصه.

وقد رأينا كيف أنّهم في مواضع متعدّدة ينفون حكماً شرعيّاً مستدلّين بمذاق الشريعة، فراجع.

ومن باب المثال ما ذكره السيد السبزواري من أنّ العمدة في الدليل على اشتراط طهارة مواضع الوضوء ليس إلا مذاق الشارع وارتكازات الفقهاء والمتشرّعة، وليس من دليل آخر غير هذا([38]).

ومن الموارد التطبيقيّة هنا عدم حصر الموقف بخيار محدّد، بل فرض إمكان خيارين وفتح وظيفتين للمكلّفين، ومن أمثلته ما ذكره السيد محمّد سعيد الحكيم من أنّه لو لم يتمكّن المكلّف من إحراز وحدة الفتاوى بين الفقهاء مشكوكي الأعلميّة، ولم يتمكّن من معرفة الأعلم منهم، مع قطعه بوجود أعلم بينهم أو احتماله ذلك، فقد يقال بلزوم الاحتياط، لكنّ السيد الحكيم يرجّح فتح مجال إضافي للمكلّف غير الاحتياط وهو التخيير بينهم، رغم عدم إحراز تساويهم، فيقول: «العمدة في وجه تعميم التخيير للمقام.. أنّ البناء على مقتضى القواعد في التقليد من التساقط مع الاختلاف مستلزم لكثرة موارد الاحتياط بسبب ظهور آراء المجتهدين وكثرة اختلافهم وعدم تحقّق المرجّح ثبوتاً أو إثباتاً، وهو مستلزم للحرج، بل اختلال النظام. بل لازمه قصور تشريع التقليد عن الوفاء بحاجة المكلّفين، وهو بعيدٌ عن مذاق الشارع الأقدس في التسهيل عليهم والرفق بهم، بنحو يقطع معه باكتفائه بالتخيير، وإن كان المتيقّن من ذلك ما إذا لزم من الاحتياط العسر بمقدار معتدّ به»([39]).

فكرة مذاق الشارع دخلت هنا على الخطّ كي تقوم بفتح ثغرة في النظام الحديدي الصارم للقواعد الاجتهاديّة، معتمدةً على معلوميّة التسهيل في ذوق الشريعة.

ومن الأمثلة البيّنة هو إمكان إصدار أحكام غيابيّة توجب الحدّ مثل حدّ السرقة، فمقتضى القواعد أنّ القاضي إذا قامت لديه الأدلّة لزم إصدار الحكم غيابيّاً ولو كان الحكم جزائيّاً، ويكون نافذاً، لكنّ الشيخ جواد التبريزي يتوقّف في القضيّة ويقول معلّقاً: «ويمكن دفعه بأنّ الدليل على اعتبار الحضور هو أنّ للشخص أن يبطل الحجّة التي هي مستند ثبوت موجب الحدّ، وبما أنّ المعلوم من مذاق الشرع أنّ بناء الحدود على التخفيف والممانعة عن ثبوت موجبه مهما كان سبيل لها، كما يظهر ذلك من الروايات الواردة في ثبوت الزنا بالإقرار بأربع مرات، فلا يجوز للحاكم أن يأذن الحدّاد أو يوكّل شخصاً في إجراء الحدّ على الغائب الذي لم يحضر مجلس ثبوت الحدّ، مع احتماله أنّ عنده ما يوجب بطلان الحجّة المزبورة. ولا مانع عن تفكيك ثبوت التغريم عن ثبوت الحد إذا كان الثبوت تعبّدياً»([40]).

فالتبريزي يوظّف نصوص باب الإقرار بالزنا في بحث السرقة دون أن يشعر بمشكلة القياس؛ لأنّه عنده توظيفٌ استشهادي للكشف عن مذاق الشرع، وهو يخرج بنتيجة تفكّ الترابط بين ثبوت الجرم عقابيّاً (الحدّ)، وثبوته تغريميّاً (ردّ المال المسروق)، فهو يستعين ببحث من خارج السرقة لاستنتاج نتيجة تفكيكيّة داخل بحث السرقة، بتوسّط فكرة مذاق الشرع.

الدور الثاني: تعدية حكم شرعي قائم بالفعل لمجال غير منصوص

بمعنى أنّ ثمة حكم شرعي واضح وثابت ومحدّد في دائرة، لكنّنا لا نعرف هل هذا الحكم يسري لدوائر أخرى أو لا؟ فنستند لمذاق الشريعة وروحها بغية اكتشاف أنّ الحكم لا يختصّ بالدائرة الأولى بل يسري لغيرها.

ومن أمثلة ذلك، ما ذكره المحقّق الهمداني في بحث حكم التعامل مع الميّت الذي تمّ العثور على بعض أجزائه، فبمناسبة الحديث عن هذا الموضوع قال: «من المعلوم لديهم أنّ الشارع لا يهتمّ بالصلاة على من لم يوجب احترامه بالدفن والكفن والغسل، كما يفصح عن ذلك استدلالهم لهذا الأحكام بالأخبار الآتية التي لم يشتمل أكثرها إلَّا على ذكر الصلاة. ولعمري إنّ هذه الدعوى منهم غير بعيدة عن الصواب، ولعلَّه يعترف بها كلّ من تتبّع في أحكام الأموات، واستأنس بمذاق الشرع..»([41]).

ومن أمثلة ذلك توسعة الشيخ الإيرواني حكم إخراج المنيّ من حالة اللعب بالذَّكَر إلى النظر في صورة المرأة، كما تقدّم عبر فكرة مذاق الشارع.

الدور الثالث: تنقيح وتعيين موضوع الحكم الشرعي عبر مذاق الشريعة وروحها

يمكن بوجهٍ من الوجوه إرجاع هذا الدور إلى الدور الأوّل.

ومن أمثلته ما ذكره السيّد محسن الحكيم معلّقاً على فتوى العروة الوثقى التي تقول: «لو كانت الأختان كلتاهما أو إحداهما من الزنا فالأحوط لحوق الحكم من حرمة الجمع بينهما في النكاح..». قال الحكيم بأنّ هذا الحكم: «وإن كان خلاف المتسالم عليه عندهم من نفي النسب بالزنا.. لكنّ المستفاد من بعض الروايات، ومن مذاق الشرع الأقدس أنّ حرمة النكاح والوطء تابعة للنسب العرفي..»([42]).

فالحكيم هنا وظّف فكرة المذاق لإثبات موضوع الأحكام الشرعيّة التي تدور حول النسب، في الوقت الذي يقرّ بأنّ الأدلّة تنفي النَّسَبيّة، فهو يستثقل نفي النسبيّة هنا، ولا دليل عنده سوى المذاق الذي يجعل النسبيّة هنا بالخصوص عرفيّةً لا شرعيّة. وهو أمرٌ يفترض أن يسرّيه الحكيم لمثل زواج الزاني من ابنته بالزنا وغير ذلك.

أمّا السيد الخوئيّ، فحيث إنّه يقول بانحفاظ علاقة النسب بين ولد الزنا والزاني، غاية ما في الأمر هو قطع التوارث، لذا نجده هنا يؤكّد فكرة النسبيّة مستخدماً المذاق أيضاً، حيث يقول: «لم ترد حتى ولا رواية ضعيفة تنفي النسب عن المولود بالزنا، بل المذكور فيها نفي الإرث خاصّة.. ومن هنا فلا يبقى دليل يقتضي نفي المولود بالزنا عن الزاني، بل مقتضى ما يفهم من مذاق الشارع وظاهر بعض الأدلّة أنّ النسب موكول إلى العرف..»([43]).

الدور الرابع: تقييد دلالات النصوص أو ممارسة ترجيح بين الدلالات

فقد رأينا كيف أنّ بعض الفقهاء يرجّح ـ بين دلالتين محتملتين ـ دلالةً على أخرى، في الآية أو الرواية استناداً لمذاق الشرع، بل قد تكون بعض الروايات ظاهرةً في معنى، لكنّ الفقيه ـ كما رأينا ـ يحملها على خلاف المعنى الظاهر بطريقة تفرضها قواعد الانسجام مع مذاق الشرع وروح الشريعة.

ومن هذا الباب ما فعله السيد الخميني لدى تحليله إحدى روايات الاحتكار، وهو خبر «الحلبيّ، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن الرجل يحتكر الطعام، ويتربّص به، هل يصلح ذلك؟ فقال: «إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به، وإن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس، فإنّه يكره أن يحتكر الطعام، ويترك الناس ليس لهم طعام»، إذ من المعلوم أنّ قوله×: «لا بأس به» في جواب «هل يصلح؟» يراد به جوازه، والمفهوم منه عدمه عند عدم الشرط، فيكون قوله×: «يكره» بيانَ المفهوم. مضافاً إلى أنّه من البعيد جدّاً من مذاق الشرع، أن يكون الاحتكار الموجب لترك الناس ليس لهم طعام، جائزاً مرجوحاً»([44]).

ومن هذا الباب أيضاً ما رأيناه منهم في بعض الموارد، حيث يرفضون إطلاق دليل قائم؛ لأنّ الأخذ بإطلاقه أو عمومه يفرض نتائج بعيدة عن المذاق، وهذا ما يجعل هذه الفكرة تلتقي مع فكرة الحذر من تأسيس فقه جديد.

وهذا ما لمسناه فيما تقدّم أيضاً من السيد الخميني في منعه الأخذ بإطلاقات حكومة نفي الضرر والحرج والاضطرار والتقيّة وغير ذلك على أدلّة الأحكام الأوليّة بشكل كامل، بل لابدّ من فرض تقييد يعود لمعيار الأهميّة المستكشَف من خلال مذاق الشارع.

ومن أمثلته أنّ نصوص إقامة الحدّ على الزاني والزانية تأمر بإجراء الحدّ عليهما وهما يرتديان ما تمّ العثور عليهما فيه حال الزنا، أو ضرورة التجريد، لكنّ هذا الأمر رفضه المشهور في المرأة، يقول الشيخ المؤمن القمي: «وأمّا المرأة فمستند قول الصدوق أنّ خبر طلحة مطلق شامل للرجل والمرأة، ودليل المشهور هو انصراف دليل وجوب التجريد عن المرأة الزانية، مع ما عُلم من مذاق الشرع من شدّة تحفّظه على ستر المرأة، ولذلك أيضاً اعتبر فيها الجلوس حال إجراء الجلد عليها»([45]).

هذا الكلام يعني تقيد إطلاقات النصوص بالرجل، ولعلّ ذاك الانصراف الذي فهمه الآخرون لم يكن سوى دخول فكرة روح الشريعة ومزاجها العام في لاوعيهم بحيث دفعهم ذلك لتصوّر الانصراف، وإلا فاللفظ وسياقه اللغوي في حدّ نفسه قد لا يكون حاملاً لانصرافٍ من هذا النوع.

بل هذا يفتح فكرنا على فكرة أكثر سعةً، وهو أنّه ربما كانت كثير من دعاوى الانصراف في كلمات العلماء مرجعها الروحي هو مذاق الشريعة والارتكازات التي تلقّوها بفعل جولانهم في النصوص ومزاجها العام.

ومن الطبيعي أنّ هذه الفكرة تتطلّب دراسة موسّعة استقرائيّة في تراثهم حول الانصراف لتحليل هذا الأمر.

الدور الخامس: اعتبار المذاق بمثابة رادع عن السير العقلائيّة

فقد لاحظنا أنّ السيد الخوئي يستند لمذاق الشريعة في قضايا المرأة لكي يقوم بإثبات الردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً، بلا تقييد بجنس خاصّ، فالمذاق الشرعيّ يصلح رادعاً عن السير العقلائيّة وهادماً لسعة عملها ونطاق اشتغالها.

ومن المعلوم لديهم أنّ عمليّة الردع عن السير العقلائيّة تحتاج للكثير من الجهد والتركيز ولا يمكنها أن تمرّ عبر مجرّد رواية أو روايتين، وهذا يعني أنّ المذاق الشرعي سنخ دليلٍ يملك ـ عند الخوئي مثلاً ـ من القوّة ما يمكّنه من الوقوف بوجه الارتكازات والسير العقلائيّة القائمة.

الدور السادس: توظيف المذاق في التزاحم الملاكي الكاشف عن الموقف الشرعي

فقد رأينا كيف أنّ السيد الخميني يوظّف المذاق بهذه الطريقة، وذلك في بحثه حول بيع أو تسليم المصحف الشريف لغير المسلم، يقول: «والقول بلزوم حفظ القرآن وسائر المقدّسات عن الوصول إليهم، خلاف مذاق الشارع الأقدس؛ من لزوم تبليغ الإسلام، وبسط أحكامه، ولزوم هداية الناس مع الإمكان بأيّة وسيلة ممكنة. واحتمال مسّ الكتاب أحياناً لا يزاحم تلك المصلحة الغالبة، ولهذا أرسل رسول الله‘ ـ على ما في التواريخ ـ مكاتيبه الشريفة المشتملة على آية كريمة من القرآن إلى السلاطين المعاصرين له، مع احتمال مسّهم إيّاها؛ وذلك لأهمّية إبلاغ الإسلام وتبليغ الشريعة»([46]).

فعنصر أهميّة تبليغ الإسلام جعله يفهم الحكم الشرعي من خلال عملية مقارنة ملاكيّة بين الأمرين.

ومن هذا الباب إشارة المحقّق العراقي في بحث اجتماع الأمر والنهي لفكرة أنّ مفسدة الغصب أهمّ ولو من جهة كونه من حقوق الناس، الأمر الذي يفرض تخصيص الصلاة بفردٍ آخر غير هذا الفرد المزاحم؛ لتجنّب الغصب، فيُختصر الجامع فيها بهذا([47]). وكذلك إشارته السابقة لتقديم الفقيه في الزكاة على القرابة والجيران، فراجع.

بل يبدو نصّ آخر للشيخ الأراكي شديد الأهميّة هنا، حيث يقول: «إنّ بعضاً من المحرّمات يكون مناطاتها معلومة عندنا، وعلم من مذاق الشرع أنّها لا تدور مدار الحرج، بل هي باقية على التحريم ولو بلغ الترك من الحرج ما بلغ. وهذا نظير شرب الخمر والزنا واللواط وأمثالها ممّا لا يلتزم أحد له حظّ من هذا الدين بجوازها عند وجود الحرج بتركها. ففي هذا القسم لابدّ من التزام التخصيص في أدلَّة نفي الحرج..»([48]). فالملاك مهمّ جداً بحيث لا تقبل مثل هذا الخضوع لأدلّة نفي الحرج.

ومن هذا المنطلق نجد أنّ السيد السبزواري يرى أنّه لو دار أمر المكلّف حال التخلّي بين عدم الستر واستقبال القبلة، لزمه ترجيح الستر ولو لزم منه استقبال القبلة، مستدلاً بأنّه يُعلم من مذاق الشرع أهمّية الستر على غيره([49]).

وقد تحدّثنا في موضع آخر باختصار عن اكتشاف الأولويّات عبر المقاصد والمآلات، فراجع([50]).

الدور السابع: توظيف مذاق الشرع في حلّ التعارضات بين النصوص

هذه من الأدوات التي لاحظنا وجودها قليلاً عند بعض الفقهاء، ومن أمثلة ذلك ما قدّمه السيد السبزواري لحلّ مشكلة تعارض أخبار نجاسة وطهارة الخمر، حيث رجّح أخبار النجاسة بكونها موافقة لمذاق الشرع، قال: «إنّها في مقام بيان حكم الله الواقعي مع ما هو المأنوس من مذاق الشرع من اهتمامه بالتجنّب عن الخمر..»([51]).

وهذه الفكرة لها صلة بمقولة الترجيح بالمقاصد، والتي سنأتي على بحثها في الفصل الأخير من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى؛ فكأنّ السبزواري رجّح مجموعة على أخرى من الروايات نتيجة حالة مقصديّة عامّة للشريعة معلومة من مذاقها، وهي مقصد التجنّب التامّ عن الخمر، وهذا المقصد تبدو فكرة النجاسة أقرب إليه من فكرة الطهارة.

ثالثاً: معابر الكشف عن مذاق الشرع وروح الشريعة

نريد هنا أن ندرس بتأمّل ما هي الأدوات أو الطرق أو المنطلقات التي عبر الفقهاء من خلالها أو يمكنهم أن يعبروا للوصول إلى ادّعاء شيءٍ مثل اليقين أو الظنّ القوي مثلاً بتحصيل مذاق الشرع وروح الشريعة؟ وهو ما سيؤثر جداً على حجيّة مسلك المذاق هنا.

يلزمنا مرّة أخرى تكثيف النظر في التجربة الفقهيّة القائمة حتى اليوم؛ لرصد وتحليل هذه الأدوات، والتي يمكن إيجازها بالآتي:

1 ـ المنهج الاستقرائي واستنباط المذاق الشرعي

من أبرز أدوات تحصيل المذاق الشرعي وروح الشريعة هو المنهج الاستقرائي، إذ من الواضح أنّ مسألة المذاق هي مسألة تجربيّة تراكميّة تتوالد في نفس الفقيه بفعل خبرات سنين طويلة من العيش مع النصوص والأحكام، فيحصل له أُنسٌ بها ومعرفة بأطرافها، بحيث يتمكّن عبر ذلك من لمس بعض ما بين سطورها، تماماً كأيّ دراسة لفكر شخصٍ أو عالم أو فيلسوف، فنحن نقوم بدراسة نصوصه وبعد رحلة طويلة معه نتمكّن من الكشف عن بِنيات فكريّة عنده، ولو لم يكن مصرّحاً بها في كتبه، لكنّ عمليّة التركيب العفوي التراكمي لأفكاره تولّد في نفوسنا شيئاً من هذا القبيل.

ولعلّ هذا ما يفسّر استخدام كلمات من نوع: «مذاق وذوق وروح ..» وأمثال ذلك، فإنّ اختيار الفقهاء لمثل هذه التعابير كاشف واضح عن أنّ ما لمسوه ليس دليلاً محدّداً، بل أمرٌ يتمّ الشعور به بطريقة روحيّة وذوقيّة، لكنّ هذا الشعور بنفسه ليس ذوقيّاً مزاجيّاً بالنسبة إليهم.

بل ثمّة شواهد على ظهور المنهج الاستقرائي جليّاً في العديد من استنتاجاتهم، مثل قيام السيّد الخوئي ـ كما رأينا سابقاً ـ بإجراء استقراء للموقف من المرأة ليرى من خلاله أنّ الشريعة تريد من المرأة ملازمة البيت وعدم الاختلاط بل الاهتمام بالأسرة والأولاد وغير ذلك، في مقابل نصوص أعْفَتْها من الجهاد وصلاة الجمعة وغيرهما، فهذا التقرّي من الخوئي أوصله لفكرة كليّة عبر ملاحظة أطراف النصوص والأحكام، ليستنتج المذاق ـ بحسب رأيه ـ ويُفتي على أساسه بمنعها من تولّي منصب الإفتاء ونحوه.

وهكذا عندما نلاحظ مثال الشيخ المؤمن القمي الآنف الذكر، فهو ينطلق لستر المرأة حال إقامة حدّ الزنا عليها من مذاق الشرع في ستر المرأة، فهذا المذاق جاء عبر ملامسة مواقف عديدة ونصوص كثيرة متراكمة في مواضع مختلفة، ولّدت عند الفقيه يقيناً استقرائيّاً متراكماً دفعه لمثل هذا الإفتاء.

ولنلاحظ موقفاً شبيهاً، وهو أنّ حكم القوّاد هو حلق شعره والتشهير به والإطافة به في البلد كذلك، ثمّ نفيه، فهل نفعل ذلك بالمرأة أو لا؟

هنا يرى السيد الگلبايگاني العدمَ، حيث يقول: «وأمّا عدم جريان الحلق والشهرة والنفي بالنسبة إليها، فلعلّه لما هو معلوم من مذاق الشارع في أمر النساء، واهتمامه البالغ في سترهنّ وعفافهنّ وعدم تبرّزهنّ، وأنّ النساء عيّ وعورة؛ فإنّ جزّ رأسهن وإبرازهنّ والإطافة بهنّ في البلد، وكذا إخراجهنّ إلى بلدٍ آخر ينافي هذا المقصد السامي..»([52]).

هذا التحليل للمنطلقات الاستقرائيّة لفكرة المذاق يفتح أمامنا باباً واسعاً في رصد سوابق فكرة المذاق في تعابير أخرى راجت وما تزال بين الفقهاء بمن فيهم المعارضون للقياس، وهي عدّد تعابير أهمّها:

أ ـ عادة الشرع أو الشارع

هذا التعبير نجده منذ زمن المحقّق الحلّي (676هـ)، فقد استخدمه هو والفاضل الآبي والعلامة الحلّي، وابن فهد الحلّي وغيرهم كثير، وصولاً لعصرنا الحاضر([53]).

ومن النصوص اللافتة هنا ـ ونذكره مجرّد مثال ـ قول العلامة الحلّي مستدلاً بشرط الأربعة نساء فيما تختصّ به النساء إلا ما خرج بدليل: «إنّ عادة الشرع في باب الشهادات اعتبار المرأتين بالرجل، وإنّ أكثر الحقوق إنّما يثبت غالباً بشهادة رجلين، فيثبت ما لا يطّلع عليه الرجال بما يساوي الرجلين اعتباراً بباقي الحقوق»([54]).

ب ـ ديدن الشارع أو الشرع

هذا التعبير نلاحظ استخدامه أيضاً في كلمات غير واحد من الفقهاء، بل رأينا له حضوراً في البحوث الأصوليّة أيضاً، لكنّه غالباً متداول في القرون الأخيرة، وهو يشي بفكرة الاستقراء، وما اعتاد الشارع عليه.

وعلى سبيل المثال، يقول المحقّق اللاري: «إنّ الأصل في المضمونات القيمة إلا ما خرج بالدليل؛ لأنّ القيمة أقرب إلى الضبط والانضباط من المثل، وهي التي توازي وتقابل ماليّة العين وماليّة كلّ وصف من أوصافها، ومن ديدن الشارع جعل المدار في أحكامه على الأضبط فالأضبط، كما هو واضح على المتتبّع الخبير..»([55]).

وفي بحثه حول مبدأ ترجيح الحرمة على الوجوب يقول الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي (1400هـ): «إنّا استقرينا موارد اجتماع الوجوب والحرمة فرأينا أنّ ديدن الشارع فيما إذا اجتمع الوجوب والحرمة يرجّح جانب الحرمة على جانب الوجوب.. فالاستقراء قد دلّ على أنّ ديدن الشارع على إلغاء جانب الوجوب إذا اجتمع مع الحرمة..»([56]).

وقد جمع الشيخ السيفي المازندراني بين ديدن الشارع ومذاقه القطعي([57])، مما يؤكّد الفهم المتداخل للمفردتين.

ج ـ دأب الشرع أو الشارع

هذه المفردة أيضا نجد لها حضوراً ـ ولو محدوداً ـ في القرون الأخيرة، ومن بعض عباراتهم يلوح ارتباطها بالاستقراء أيضاً.

وعلى سبيل المثال، يقول السيد مصطفى الخميني: «..لا دليل شرعاً على أنّ الركوع مقوّم للماهية أو زيادته هادم للماهية بالضرورة، بل ليس هو دأب الشرع إلا بحسب الآثار، فإنّ من غمر في أخبار كتاب الصلاة..»([58]). فلاحظ ربطه بين الدأب والجولة الاستقرائيّة في أخبار كتاب الصلاة التي يشير إليها.

وقد كان ابن نجيم المصري الحنفي (970هـ)، استدلّ على مبدأ الغلبة في قيامة التشريعات ومنظومتها، بقوله: «.. لأنّ من دأب الشرع بناء الحكم على الغلبة..»([59]).

د ـ طريق الشرع أو طريقة الشارع

مصطلح «طريق الشرع» له معنيان: أحدهما ما يقابل طريق العقل، وثانيهما ما يرتبط بالمنهج الاستقرائي القريب من فكرة المذاق، وهو مستخدم عند السنّة والشيعة معاً.

وعلى سبيل المثال فقط، نشير إلى ما ذكره الميرزا حبيب الله الرشتي في بحث مستثنيات الغيبة، وأنّه هل يلزم لتجويز غيبة الفاسق تجاهره بفسقه أو لا؟ حيث قال: «وأمّا اشتراط التجاهر وعدم المبالاة من اطَّلاع النّاس، فهو بعيدٌ عن المأنوس من طريق الشرع من سلب الاحترام عن الفاسق..»([60]).

هذه المفردات جميعاً تتقارب مع مفردات مذاق الشرع وروح الشريعة، لتلتقي كلّها مع فكرة الاستقراء بوضوح، لكنّ هذه جميعاً تهزم جزئيّاً فكرة قيام الشريعة على عدم الاتساق (تفريق المؤتلفات وتأليف المفترقات)، فإذا كانت الشريعة مبنيّة على عدم الاتّساق، وعلى هذا الأساس كان القياس غير منتج للحقيقة في الشرعيّات، كما يقول الميرزا النائيني([61])، فكيف أمكن للاستقراء أن يُنتجها، ما دام لا يرجع لعامٍّ أو مطلق؟! إذا كانت الشريعة مرتّبةً بطريقة تفاجؤنا فيها بما لا نتوقّع، وتمزّق مبدأ التشابه والتقارب، فكيف يمكن لمذاق الشرع وروح الشريعة، ومعهما هذه الكوكبة من المصطلحات والمفردات، أن تفعل ذلك؟! هذه أسئلة مهمّة توجّه لدليل الحجيّة لو كان طريق الوصول لمذاق الشرع هو الاستقراء هنا، وسيأتي المزيد إن شاء الله، وربط ذلك بالظهور التركيبي للنصوص أو لا.

2 ـ استنتاج المذاق من خلال الأولويّة

يعني هذا الطريق أنّ الفقيه يحاول أن يعرف مذاق الشارع من خلال موقفه من القضايا الصغيرة نسبيّاً، فيقوم باستخدام الأولويّة؛ لاكتشاف أنّ مذاقه في القضايا الكبيرة المسانخة يقوم على ذلك أيضاً.

ولعلّ من أمثلة ذلك ما فعله السيّد الخوئي في بحث بعض شروط المرجع، فقد أشار في شرط الذكورة: «قد استفدنا من مذاق الشارع أنّ الوظيفة المرغوبة من النساء إنّما هي التحجّب والتستر.. ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً، كيف ولم يرض بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة فما ظنّك بكونها قائمة بأمورهم ومديرة لشؤون المجتمع ومتصدّية للزعامة الكبرى للمسلمين..»([62]).

فلعلّه يمكن القول بأنّ الأولويّة هنا فرضت اكتشاف مزاج الشريعة في تصدّي المرأة للشؤون العامّة، فنحن من خلال بعض المواقف الجزئيّة الصغيرة نسبيّاً نكتشف مزاج الشريعة في الأمور العامّة الكبيرة المسانخة، ولا نكتشف حكماً واحداً، بل مزاجاً قد يفرض سلسلة أحكام، من نوع تولّيها القضاء والإمارة والإفتاء وقيادة الجند والمسؤوليّات العامّة وغير ذلك.

ومن أمثلة ذلك أيضاً ما طرحه السيّد الخوئي في تعذّر بعض خصال كفارة الجمع لمن أفطر في شهر رمضان على محرّم، حيث قال: «.. مثل ما لو تعذّر العتق، كما في هذه الأيّام، فإنّه يجب عليه الصيام والإطعام، وربما يورد عليه بأنّ التكليف بالجمع مساوق لفرض الارتباطيّة، ومقتضى القاعدة في مثله سقوطه بالعجز عن المجموع، ولو للعجز عن بعض أجزائه، إذ العجز عن الجزء عجز عن المركّب، فلا دليل على وجوب الإتيان بالباقي، إلا أن تثبت قاعدة الميسور، ولكنّها أيضاً محلّ إشكال أو منع. ويندفع أوّلاً بأنّا لا نحتمل من مذاق الشرع سقوط الكفارة في المقام، كيف ولازمه أن يكون الإفطار على الحرام أهون من الإفطار على الحلال؛ لثبوت الكفارة في الثاني وإن حصل العجز عن البعض فيكون هو أسوء حالاً من الأوّل، وهذا لعلّه مقطوع العدم»([63]).

3 ـ استنتاج المذاق وروح الشريعة من خلال نفي اللوازم

ذكر بعض الباحثين هذا الطريق لاستنتاج المذاق، ويمكن لو صحّ أن يرجع ـ بتقديري ـ لأحد الطريقين المتقدّمين أو لكليهما، وهو متماهٍ مع فكرة الحذر من تأسيس فقهٍ جديد، حيث يقوم الفقيه باستكشاف المذاق من خلال إحساسه بأنّه لو لم يكن هذا هو المذاق العام فسوف تلزم نتائج متعدّدة يُعلم من الشريعة بطلانها، فيكون استكشافاً عن طريق النفي لتحقيق الإثبات.

ومن أمثلة ذلك، ما رأيناه عند السيد محسن الحكيم معلّقاً على فتوى السيد اليزدي التي يقول فيها: «تتعلّق الزكاة بالدراهم والدنانير المغشوشة إذا بلغ خالصهما النصاب. ولو شكّ في بلوغه، ولا طريق للعلم بذلك ولو للضرر لم تجب. وفي وجوب التصفية ونحوها للاختبار إشكال، أحوطه ذلك، وإن كان عدمه لا يخلو عن قوّة». هنا يقول الحكيم في مسألة الإشكال على وجوب الاختبار: «ينشأ مما ذكرنا من الأصول في صورة عدم إمكان الاختبار. ومن أنّ البناء عليه يوجب المخالفة الكثيرة، بحيث يُعلم من مذاق الشارع كراهة حصولها، بنحو يستكشف منه إيجاب الاحتياط»([64]).

وهذه الفكرة يبدو أنّ الحكيم أخذها من المحقّق النجفي في البحث نفسه، لكنّ النجفيَّ حاول تسريتها لشروط الوجوب التي يشكّ في تحقّقها، وليس لخصوص هذه المسألة فحسب، حيث يميل ـ على ما يبدو من ظاهر عبارته ـ إلى ضرورة تبيّن تحقّق شرط وجوب الحجّ أو النذر أو غير ذلك عند الشكّ في ذلك، مستشهداً بأنّه إذا لم يكن يلزم المكلّف ذلك فهذا يوجب إسقاط كثير من الواجبات بحسب تعبيره([65]).

مثال آخر لذلك ما طرحه السيّد الخميني في مسألة خيار الغبن، وأنّ الخيار يثبت لو كان التفاوت في القيمة فاحشاً وبيّناً، لا مطلق التفاوت فيها، حيث يقول: «إذا كان التفاوت يسيراً، يقع التغابن به في نوع المعاملات، وتقع غالباً مع الاختلاف بمثل ذلك، وكان غبن أحد المتعاملين بمثله متعارفاً بحسب نوع المعاملات، فلا خيار، وإنّما الخيار فيما إذا وقعت المعاملة على خلاف سنّة السوق، بأن يكون التفاوت فاحشاً، والغبن بيّناً، وإلا لزم وقوع جميع المعاملات ـ إلا نادراً ـ خياريّاً، وهو باطل عند العقلاء وعلى مذاق الشرع والفقه»([66]).

غير أنّ الصحيح أنّ هذه الأمثلة التي ذُكرت استنتج فيها حكمٌ شرعي من نفي لوازم كان نفيها عبر المذاق، لا أنّه تمّ استنتاج المذاق عبر نفي اللوازم، فهذا السبيل رغم كونه صحيحاً نظريّاً غير أنّ الأمثلة التي قدّمت له غير متطابقة مع فكرته.

رابعاً: مسلك المذاق والروح، مقارنات مع مداخل اجتهاديّة أخرى

أهدف هنا لمحاولة تحديد شبكة العلاقة ودرجة النسبة بين مسلك المذاق وروح الشريعة ـ وفق ما فهمناه منه إلى الآن ـ مع بعض العناوين المرجعيّة الاجتهاديّة في الدراسات الشرعيّة؛ بهدف توضيح الفكرة واستجلائها أكثر، وسأجعل ذلك ضمن الآتي:

1 ـ بين الذوق الشرعيّ وكلّ من الاجتهادين: المقاصدي والمناطي

من الواضح لمن تتبّع موارد استخدام الفقهاء لفكرة الذوق الشرعي وروح الشريعة أنّ ثمّة تقارباً بينهما، فهو تقارب في المنهج نتيجة دخول فكرة الاستقراء على الخطّ، وهي فكرة ذات صلة بالمقاصديّة والاجتهاد العِلَلي معاً، كما أنّنا لاحظنا أنّ الفقهاء يتحرّكون في إطار معرفة الملاكات والمصالح والغايات في بعض تطبيقات فكرة المذاق كما صار واضحاً.

لكنّ الفارق الجوهري على المستوى التاريخي بين المقاصد والمذاق، يكمن في عدم وجود نظريّة مدوّنة تقف خلف فكرة المذاق وروح الشريعة، بقدر ما توجد تجربة للفقيه مبثوثة في عشرات المواضع في الكتب الفقهيّة، خاصّة عند المتأخّرين من الفقهاء، بيما نظريّة المقاصد ظهرت من رحم علم أصول الفقه منذ القرن الخامس الهجري، وهذا ما أخضعها للنقد والتنظير والتحديد وتعيين المسار بشكل أكبر بكثير من فكرة المذاق التي يعاني الباحثُ وهو يقوم بالتماس معالمها، وإلى اليوم لا يوجد تنظير فقهي أصوليّ لها.

وتُساعدني هنا مقولة ذكرها المحقّق الهمداني، وهو يتكلّم عن زخرفة المساجد وتزيينها بالذَّهَب، فيذكر بعض أدلّة الفقهاء في المسألة، ومنها أنّ ذلك إسراف، وأنّه لم يكن على عهد النبيّ فيكون بدعة، فيقول الهمداني: «وفيهما ما لا يخفى، ضرورة أنّ الغالب تعلّق غرض عقلائيّ بها كتعظيم الشعائر ونحوه مما لا يصدق معه اسم الإسراف. وعدم حرمة البدعة بمعناها اللغوي الصادق على جميع الأشياء المستحدَثة بعد النبيّ‘، ولكنّ اعتماد مثل المصنّف على هذه الأدلّة التي لا يخفى قصورها على من دونهم بمراتب ينبؤ عن كون الحكم من حيث هو مفروغاً عنه عندهم، إمّا لاستنباطه من مذاق الشرع في بناء المساجد المطلوب فيها أن يكون عريشاً كعريش موسى× أو لمعروفيّة الحكم لديهم في الشريعة من الصدر الأوّل، ولكنّهم تشبّثوا بمثل هذه الأدلّة في مقام الاستدلال؛ حفظاً للموازين..»([67]).

فالمقابلة التي وضعها الهمداني بين فكرة «المذاق» وفكرة «الاستدلال حفظاً للموازين»، تشي بأنّ المذاق لا يعبّر عن آليّة استدلاليّة ونظريّة برهانية محدّدة في باب الاجتهاد الشرعي، بقدر ما يعبّر عن تجربة تعطي الوضوح، وهذا على خلاف نظريّة المقاصد التي تدّعي بأنّها نظريّة متكاملة معتمَدَة في مجالها.

وربما لذلك يحذّر الشيخ باقر الإيرواني من اعتماد مصطلح المذاق فيقول: «وأوصيك بأن تحاول أن لا تتداول هذا المصطلح مهما أمكن ولا تستعن به؛ لأنّنا إذا تداولناه فقد يولّد لنا ما لا يُحمد عقباه»([68]).

غير أنّ هذا التمايز هو تمايز تاريخي تدويني ليس مهمّاً كثيراً بقدر ما يهمّنا التمايز الماهويّ، فنظريّة المذاق وإن التقت مع المقاصد في التماسِ الغايات، غير أنّها أقرب لاكتشاف القواعد الكليّة منها لاكتشاف المقاصد والغايات الشرعيّة، فما تزال فكرة المذاق تستعمل أدواتها للحصول على قانون كلّي شرعي يمكن أن يواجه أو يُنتج حكماً أو أحكاماً شرعيّةً مفترضة، بينما نحن في نظريّة المقاصد نلاحظ أنّ الفقيه ينظر في الغايات العامّة، فالتفكير الغائي ـ مثل الضروريات المقاصديّة الخمس ـ يربط التشريعات به ارتباط السبيل بنهايته وغايته، وارتباط الفعل بالنتيجة المرادة من ورائه، وهي عمليّة لا نلاحظها في فكرة المذاق إلا أحياناً.

وبتعبير دقيق: المذاق محاولة روحيّة لاكتشاف قواعد أو كليّات شرعيّة سارية وحاكمة، من خلال التتبّع أو الأولويّات أو معرفة المقاصد أو غير ذلك، بينما المقاصد محاولة لفهم غايات التشريعات العامّة والخاصّة، بهدف إعادة إنتاج فهم لها في ضوء غاياتها ومآلاتها. وهذا فارق جوهريّ عميق يفرض تداخلاً وتمايزاً في الوقت عينه.

ولا أريد أن أنفي كون فكرة المذاق ذات صلة جزئيّة بفكرة المقاصد، لكنّها ليست عينها، وعلى رأي الشيخ باقر الإيرواني فإنّ تعبير نقض الغرض يمكن أن يكون مماهياً لتعبير مذاق الشرع، وعلى هذا الأساس ينقل أنّ السيد الخوئي كان لا يرضى بأن يأخذ الهاشمي سهم بني هاشم من الخمس، لكي يعطيه لغير بني هاشم، محتجّاً بأنّ الغرض من وراء تشريع سهم بني هاشم هو سدّ حاجاتهم فلو فعل الهاشميّون ذلك وأعطوا غير الهاشمي مما ليس هو من شأنهم، لزم نقض غرض الشريعة من وراء تشريع هذا السهم([69])، فهذه الفكرة غرضيّة مقاصديّة ملاكيّة، وفي الوقت عينه تعتمد مذاق الشرع، بناءً على وحدة فكرة نقض الغرض هنا مع فكرة مذاق الشرع.

وبهذا نكتشف التداخل القوي بين المقاصد العامّة والمسلك المذاقي بما قد يوحي بأنّ متأخّري فقهاء الإماميّة بدؤوا يقتربون من تفكيرٍ من هذا النوع ولو بشكلٍ خفيف جداً، غير أنّهما ليسا أمراً واحداً على طول الخطّ، فلا يحسب التفكير المذاقي على أنّه اجتهاد مقاصدي بما للكلمة من معنى. نعم تقترب فكرة المذاق كثيراً جداً من مشروع الاجتهاد المناطي، وتُعتبر واحدة من طرق فعّالية هذا النوع من الاجتهادات، كما صار واضحاً.

2 ـ بين مذاق الشريعة والارتكاز المتشرّعي

رأينا سابقاً كيف أنّ السيد الخوئي عندما تحدّث عن فكرة شروط المرجع، استخدم تعبير مذاق الشرع منضمّاً لتعبير الارتكاز والبناء المتشرّعي، وهنا سؤال: ما الفرق بين الارتكاز والبناء المتشرّعي وبين فكرة المذاق؟

يمكن أن يقال بأنّ الارتكازات المتشرّعيّة ليست سوى وعيهم العفوي التراكمي الممتدّ زماناً بالشريعة وروحها ومذاقها، وإلا كيف نفسّر هذا الارتكاز بغير طريق فهمهم لروح الشريعة؟

ربما يقال بأنّ فكرة المذاق هي فكرة اجتهاديّة يقوم بها الفقيه بينما الارتكازات هي حالة عامّة يشعر بها جميع المتديّنين بالشرع، ويقال أيضاً بأنّ الارتكاز يحتاج لإثبات اتصاله بالمعصوم، فيما المذاق لا علاقة له بهذه الفكرة، وبهذا تتغاير فكرة الارتكاز المتشرّعي عن فكرة المذاق([70]).

لكنّ هذه التمايزات ـ على صحّتها ـ لا تلغي أنّ فكرة الارتكاز المتشرّعي تتداخل مع فكرة المذاق؛ وذلك أنّ بعض الارتكازات قد تعبّر عن وعي المتشرّعة لمذاق الشريعة من خلال معايشتهم لمواردها الجزئيّة المتعدّدة، فيحصل لهم المذاق الشرعي القطعي ويتحوّل إلى ارتكاز عام، فيتلقّاه الفقيه بوصفه ارتكازاً مع أنّه في أصله مذاقٌ قطعي عند المتشرّعة، وهذا أمر ينفع في تحليل السيرة المتشرّعية نفسها في بعض مواردها، فهي تتولّد عبر آليّات فكرة المذاق، غاية الأمر أنّها تحمل حالة موضوعيّة عامّة، فيما فكرة المذاق تبدو شخصيّةً، وقد يختلف فقيهان في تعيين المذاق الشرعيّ هنا أو هناك.

وبهذا نفهم أنّ فكرة المذاق تتداخل مع فكرة الارتكاز لا بالنسبة للفقيه المستنبِط اليوم، بل بالنسبة لمبرّرات نشوء الارتكاز نفسه في الماضي المتصل بعصر النصّ، ومصبّ نظر الفقيه اليوم هو الارتكاز بعينه، لكنّ هذا يمكنه أن يدفع الفقيه لتحليل مناشئ الارتكازات وربما يتمكّن من نقدها وتخطئة الأجيال السابقة فيما تولّد عندها من ارتكاز مبنيّ على اشتباهٍ عام وقع في تلك العصور، وهذا بابٌ مهمّ جدّاً في هذا المضمار.

وعليه، لا يمكن الاستدلال لحجيّة المذاق الشرعيّ بعين أدلّة حجيّة السيرة أو الارتكازات العقلائيّة والمتشرّعيّة.

3 ـ بين المذاق الشرعي ونظريّة الاستحسان في أصول الفقه السنّي

يعدّ الاستحسان أحد مناهج الاجتهاد عند بعض المذاهب الفقهيّة السنيّة كالأحناف، وقد رفضته مذاهب أخرى كالإماميّة والشافعيّة، حتى نقل عن الشافعي أنّه قال بأنّ «من استحسن فقد شَرَّع».

وقد ذكرت تعريفات عدّة له تختلف في تحديد هويّته وحقيقته ومعالمه، تربطه تارةً بالقياس وأخرى بالمصلحة وغير ذلك.

لكنّ واحداً من تعريفاته هو ما ذكره غير واحد، مثل الغزالي في المستصفى حيث قال: «التأويل الثاني للاستحسان قولهم المراد به دليلٌ ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره»([71]).

هذا التعريف قريب جداً من الانطباق على فكرة المذاق، بحيث يمكنه أن يستوعبها، فمسلك المذاق في العادة ـ كما رأينا ـ لا يقدّم فيه الفقيه شواهد أو معطيات ملموسة مصرّحاً بها؛ لأنّه في الغالب يعتمد على المراكمة الخبرويّة الاستقرائيّة، ولهذا لاحظنا فيما تقدّم كيف أنّ بعض الفقهاء عندما أراد أن يبيّن المذاق أحال القضيّة إلى سؤال الوجدان الديني أو الفقهي.

وربما يكون أوّل من انتبه لهذا الأمر ـ في ارتباط هذا المعنى للاستحسان بالمذاق الشرعي ـ هو السيد محمّد تقي الحكيم، حيث قال: «مثل هذا النوع من الاستحسان لا يمكن عدّه من مصادر التشريع؛ لكونه عُرضة لتحكّم الأهواء فيه بسبب من عدم ذكر الضوابط له، حتى في أنفس المستحسنين، كما هو الفرض، على أنّه لا دليل عليه. اللهم إلا أن يدّعي بعضُ أصحابه حصول القطع منه أحياناً، وربما كانت وجهة نظر القائلين (بالذوق الفقهي)، تلتقي هذا النوع من الاستحسان، إلا أنّ حجيّته مقصورة على مدّعي القطع به من الفقهاء ومقلّديهم خاصّة»([72]).

بناءً على ذلك، هل يمكن اعتبار القائلين بمسلك المذاق مؤمنين بنظريّة الاستحسان بأحد معانيها لا بتمام معانيها أو لا؟ وهل يمكن الموافقة على المذاق بعد هذا؟

يظهر من الغزّالي انتقاده اللاذع لهذا المعنى للاستحسان، وهو انتقاد شاع مضمونه واشتهر عبر القرون في الوسط الشافعي بشكل أكبر، فهو يقول: «وهذا هوس؛ لأنّ ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنّه وهم وخيال أو تحقيق، ولابدّ من ظهوره ليعتبر بأدلّة الشريعة لتصحّحه الأدلّة أو تزيّفه، أمّا الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه؟! أبضرورة العقل أو نظره أو بسمعٍ متواتر أو آحاد، ولا وجه لدعوى شيء من ذلك..»([73]).

يبدو الشافعيّة ـ وعلى رأسهم الغزالي ـ قلقين من الاستنسابيّة والذاتية في العمليّة الاجتهاديّة، فما يقع في نفس المجتهد لا قيمة له إن لم يمكنه أن يعيد إنتاجه بطريقة موضوعيّة قابلة للعرض في المحافل العلميّة ليتمّ تقويمها، وهذا بعينه ما كانت الأحناف تراه في بحث المناسبة من مسالك التعليل، كما ستأتي الإشارة إليه.

وما يقرّب أكثر بين فكرة المذاق وهذا التعريف للاستحسان، هو ردّ القرطبي على مضمون كلام الغزّالي، حيث اعتبر ـ كما ينقل الزركشي ـ أنّ ما يحصل في النفس من مجموع قرائن الأقوال من علمٍ أو ظنّ لا يتأتى عن دليله عبارة مطابقة له([74]). وهذا الكلام معناه أنّ الواقع في النفس من تراكم القرائن لا يطابقه نصٌّ أو عبارة، وهذا بعينه ما نجده في مسلك المذاق، فإنّ النتيجة التي تتولّد في نفس الفقيه ليس هناك آية أو رواية تطابقها في التعبير، لكنّها في الوقت عينه مُدْرَكَة للفقيه بوضوحٍ أو بظنّ معتدّ به.

من مجمل ما تقدّم، يمكننا القول بأنّ فكرة المذاق يمكنها أن تندرج تحت أحد تعاريف الاستحسان، غاية الأمر أنّ هذا التعريف للاستحسان قد يكون أعمّ عند الفقيه السنّي من الظنّ والعلم، فيما حجيّة المذاق الشرعي عند القائلين به ربما تقتصر على حال القطع بمفاده أو الاطمئنان دون مطلق الظنّ إذا لم يخضع لقوانين الظنّ الدلالي.

وهذا كلام صحيح في طرف الإثبات دون النفي، بمعنى أنّ الفقهاء الذين اعتمدوا مسلك المذاق، وغالبيّتهم العظمى من الإماميّة وفقاً للتعابير السائدة والتتبّع التاريخي، لا يقبلون حجيّة المذاق الشرعي المظنون؛ إذ لا دليل عندهم على حجيّته، ولهذا رأينا أنّ تعبير المذاق وما يتصل به يرتبط في العادة عندهم بالعلم والمعلوميّة واليقين والقطع وما شابه هذا السياق التعبيري أو الفضاء الدلالي.

لكنّ هذا لا يمنع ـ نظريّاً في الحدّ الأدنى ـ من أخذ المذاق المظنون أداةً في النفي في الجملة، بمعنى أنّ ظنّ الفقيه من تراكم قرائن احتماليّة بكون مذاق الشرع على كذا وكذا أو على نفي كذا وكذا، يمكنه أن يهدم في نفسه انعقاد إطلاق بعض الأدلّة للشمول لحال الظنّ المشار إليه أو على الأقلّ يمنع عن حجيّة الدلالة الإطلاقيّة؛ لأنّ حجيّة الظهور متقوِّمة بالظنّ، فإذا صار هناك ظنّ على خلافها لم يعد الظهور ـ لو بقي ظهوراً ظنيّاً يحمل مراداً جدّيّاً نهائيّاً ـ حجّة، فلو قام الظنّ المذاقي على خلاف إطلاقٍ أو عموم مثلاً، أمكن للفقيه التخلّي عنهما نتيجة انهيار الظنّ بهما، مما يفقدهما الاندراج تحت دليل حجيّة الظهور، وبهذا يكون المذاق الظنّي مؤثراً سلباً في الأدلّة دون أن يقدر على أن يُنتج حكماً على وفقه ما دام لم يصل لمرتبة اليقين.

أمّا إشكاليّة الغزّالي ومن تبعه في موضوع الخلط بين الحقيقة والوهم، فسيأتي الحديث عنها عند الكلام عن حجيّة المذاق وروح الشريعة فانتظر.

بين مرجعيّة المذاق عند الإماميّة، وحجيّة «الإلهام» عند مثل ابن تيمية

وأشير أخيراً لفكرة الإلهام التي رأيناها في بعض كلمات علماء أهل السنّة، مثل الحلواني وابن تيمية، فقد قال ابن تيمية: «قال الحلواني: وأجاب بعض الناس عن ذلك بأنّا علمنا ذلك من طريقٍ شرعيّ، وهو الإلهام من قبل الله لعباده بحظر ذلك، وهذا غير ممتنع، كما ألهم أبو بكر وعمر..»([75]).

وبعد نقله عن الشيخ عبد القادر أنّه يرى الإلهام والذوق، قال ابن تيمية: «ففي الجملة متى حصل ما يظنّ معه أنّ أحد الأمرين أحبّ إلى الله ورسوله كان هذا تريجيحاً بدليلٍ شرعي، والذين أنكروا الإلهام طريقاً على الإطلاق أخطؤوا كما أخطأ الذين جعلوه طريقاً شرعيّاً على الإطلاق، لكن إذا اجتهد السالك في الأدلّة الشرعيّة الظاهرة فلم يرَ فيها ترجيحاً وأُلهم حينئذٍ رجحان أحد الفعلين مع حُسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقّه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتجّ بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه»([76]).

ولهذا ينتصر ابن تيمية للاستحسان بهذا المعنى، حيث يقول مناقشاً الغزالي في إشكاله المتقدّم: «وليس المقصود هنا بيان أنّ هذا وحده دليلٌ على الأحكام الشرعيّة، لكن إنّ مثل هذا يكون ترجيحاً لطالب الحقّ إذا تكافأت عنده الأدلّة السمعيّة الظاهرة، فالترجيح بها خيرٌ من التسوية بين الأمرين المتناقضين، فإنّ التسوية بينهما باطلة قطعاً»([77]).

ويبدو لي ابن تيمية وغيره ينتصرون هنا للإلهام الناتج عن اندماج روح الفقيه المؤمن بالدين والشريعة، فيكون قريباً من فكرة المذاق لكن بوجه آخر، غير أنّهم يحصرون ذلك بحال انعدام الأدلّة، أو عند عدم إمكان الترجيح بينها، كما نجدهم يشرطون أحياناً كون المورد مما أُبيح العمل به من غير علم، وأن يكون ذلك لنفسه لا لغيره.

ولكنّ فكرة الإلهام هذه أشدّ خطورة في تقديري من فكرة المذاق لو كانت غير مقبولة عند أحد؛ لأنّه يعتبر بما يحدث في قلب الفقيه الصالح من رؤية لا بما يحصل لديه من انطباع عن موقف الشرع من خلال معطيات الشرع نفسه. ونحن لا نوافق على حجيّة الإلهام في الاجتهاد الشرعي بهذا المعنى للفكرة، والبحث في ذلك يحتاج لمناسبة أخرى.

خامساً: حجيّة مذاق الشرع وروح الشريعة

بعد مجمل التوضيحات التي ذكرناها لموضوع المسألة هنا، لابدّ لنا أن نتوقّف عند موضوع الحجيّة، فهل ثمّة دليل على حجيّة مذاق الشرع أو لا؟

الفكرة المركزيّة هنا تكمن في العادة عندهم في ثنائيّة اليقين والظنّ، فإذا كان المذاق قطعياً فهو حجّة؛ لحجيّة القطع، وإلا فهو غير حجّة؛ لعدم وجود دليل على حجيّة المذاق الظنّي.

هذا الكلام يمكن التعليق عليه من ناحيتين:

الناحية الأولى: إنّه لا ينسجم مع نظريّة الانسداد التي تقبل بالظنون مطلقاً عدا الظنّ القياسي، وهذا يعني أنّ المذاق الظنّي حجّة على الانسداد، ما لم يقم أحد بتحليل بِنية المذاق الشرعي بطريقة تُعيده إلى نمطٍ قياسي، وقد رأينا أنّ بعض أشكال إعمال المذاق الشرعي يتمّ فيها تعدية حكم من مورد إلى مورد آخر غير منصوص، فقد يقال هنا بأنّ هذا الظنّ المذاقي هو بعينه ظنٌّ قياسي فلا يكون مشمولاً لدليل الانسداد.

كما أنّ الظنّ المذاقي يمكنه أن ينفع في باب التزاحم الامتثالي، بناء على القول بترجيح محتمل الأهميّة ـ وكذا قوّة احتمال الأهميّة ـ على غيره، كما بحثناه في محلّه([78])، فإنّ المذاق يمكنه أن يحقّق مصداقاً لمحتمل الأهميّة في أحد الطرفين المتزاحمين، وهذا واضح.

الناحية الثانية: إنّ هذه الطريقة من الحكم على الآليّات الاجتهاديّة ـ القائمة بالفعل أو المقترحة ـ وإن كانت صحيحة من حيث النتيجة، لكنّها لا تنفعنا في تأسيس بناءٍ نظريّ استدلالي في الاجتهاد الشرعيّ، فأيّ شخص يمكنه أن يجعل رفيف الطيور من أدلّة الاجتهاد، ثم يقول بأنّه حجّة على تقدير إفادته القطع وإلا فلا!

إنّ المهم في دراسة الآليّات والمناهج والطرق الاجتهاديّة هو الكشف عن هويّتها البنيويّة الموضوعيّة في كونها تنتج يقيناً أو لا؟ لا إصدار أحكام تعليقيّة محضة لا تلامس جوهر القضيّة، ولهذا كان الغزّالي دقيقاً عندما أخذ على الاستحسان أنّه غير قادر على تمييز نفسه وأنّه حقيقة أو وهمٌ عَرَضَ على ذهن الفقيه، دون أن يعلّق الغزّالي الموقف على إفادة الظنّ بناء على كبرى حجية الظنّ في الفروع.. فاليقين أو الظنّ معيار الفتوى الأصوليّة المعلَّقة، لكنّهما ليسا معيار الرؤية الفلسفيّة لموضوع هذه الفتوى.

بناء عليه، تبدو الأسئلة الأكثر أهميّة هنا هي:

1 ـ هل مذاق الشرع مرجعيّة استدلاليّة مغايرة لسائر مرجعيّات الاستدلال الشرعي مثل الكتاب والسنّة والعقل والإجماع والقياس وغير ذلك حسب اختلاف المذاهب الفقهيّة أو لا؟

2 ـ إذا كان المذاق الشرعي راجعاً لواحدة من هذه، فلابدّ من تحديد كيفيّة رجوعه وما هو الذي يميّز بينه وبين الرجوع لرواية واحدة أو لآية بعينها أو نحو ذلك؟ وأمّا إذا لم يكن راجعاً لسائر الأدلّة المتقدّمة فكيف يمكن فهمه وتوضيحه بمعزل عن مرجعيّات المصادر الاجتهاديّة الأخرى؟

3 ـ هل المذاق الشرعي مصدر اجتهادي أو هو نمط من آليّات التعامل والاستنباط والفهم للمصادر الاجتهاديّة الأصليّة كالكتاب والسنّة؟ وهذا هو عين السؤال الذي لمسناه في أصول الفقه السنّي حول مثل الاستحسان.

4 ـ ما هو الذي يضمن موضوعيّة المعرفة الآتية من المذاق الشرعي؟ وكيف يمكن التمييز بينها وبين اليقين الذاتي؟ كيف يمكن لنا أن نحمي الاجتهاد من المزاجية والاستنسابيّة الشخصيّة؟ هذا القلق الذي أشار له سابقاً بعض نقّاد الاستحسان، وأبداه مؤخّراً بعض القلقين من فكرة روح الشريعة ومذاقها كالشيخ الإيرواني والشيخ عليدوست([79]).

5 ـ هل يجوز أن تُعتمَد آليّة استدلاليّة في الفقه لأكثر من قرنين، دون أن يقوم علم أصول الفقه وما يرتبط به بدراستها وتفكيكها وتحديد بِنيتها واتخاذ موقفٍ منها؟ أليس في ذلك خوف تسرّب مناهج اجتهاديّة غير مدروسة إلى الفقه، بحيث تفرض   نفسها أمراً واقعاً فيما بعد دون أن تكون مُخْضَعَة للمجهر النقديّ والتأمّلي مسبقاً؟!

هذه الأسئلة هي التي تهمّنا، ولهذا سوف نحاول في عرضنا تضمين الإجابات عنها جميعاً إن شاء الله تعالى.

بداية يجب علينا التأكيد على ما يتضمّنه الاستفهام الاستنكاري الذي عرضناه في السؤال الخامس المتقدّم، فمن غير المعقول نفوذ فكرةٍ ما ـ أو ممارسة ـ في عشرات الموراد الفقهيّة خلال مدّة قرنين تقريباً دون أن يقوم الباحثون في علم أصول الفقه وكذلك في علم فلسفة الفقه، بالنظر فيها فلسفيّاً وتنظيريّاً، وتركها للممارسة العفويّة، بل هذا الإشكال يسري أيضاً إلى أدبيّات مضى عليها مئات السنين، مثل عادة الشرع وطريقة الشارع وديدن الفقه وغير ذلك من التعابير التي أسلفناها سابقاً.

إنّ الأمر يستدعي بالفعل النظر المعمّق في هذه الآليات العفويّة التي مارسها الفقهاء، ومدى جدوائيّتها ودقّتها المعرفية والعلميّة، ولسنا نقصد هنا نقدها بل تحليلها وتفكيك بنيتها مقدّمةً لفهمها بشكلٍ دقيق وواعٍ؛ فإنّ هذا الفهم يساعد تارةً على فهم التجربة الفقهيّة التاريخيّة وأخرى على تقوية هذه الفكرة أو اكتشاف هشاشتها، فالأمر يختلف ويتخلّف.

ومشكلتنا عادةً تظهر أنّنا عندما يقوم فريق بممارسة ثورة نقديّة على فريق آخر في سياق خصومة معرفيّة، فإنّنا نفتّش في مجمل تفاصيل آليات عمله لتوجيه سهام النقد إليها، الأمر الذي يكشف بوعي عن مثل هذه العمليات الذهنيّة الخفيّة، تماماً كما فعل الإخباريّون النقّادون مع الأصوليّين الذين سبقوهم، خاصّة منذ عصر العلامة الحلّي وصولاً إلى زمن صاحبَي المعالم والمدارك (ق 8 ـ 11هـ).

المطلوب هو الكشف الواعي عن هذه العمليّات الذهنيّة بعيداً عن سياق مخاصمة حادّة، قد تربك الإنصاف والرؤية الواضحة أحياناً.

وبتجاوز السؤال الخامس المتقدّم، يمكن طرح فهم وتبرير مسلك المذاق موضوعيّاً عبر الآتي:

1 ـ تخريج الحجيّة على أساس الدلالة التركيبيّة، بيانٌ وشروط

إنّ مسلك المذاق قائم على فكرة الدلالة المجموعيّة التركيبيّة للنصوص والتي تحدّثنا عنها في البحث الاستقرائي الآنف، فالفقيه يقوم بجمع نصوص متعدّدة من أبواب مختلفة، تلتقي على معطى كلّي واحد، غاية الأمر أنّ هذا المعطى يشكّل قاعدة لا مجرّد مسألة، فيفهم من مجموع الدلالات التركيبيّة فهماً عرفيّاً أنّ المشرّع ذكر كلّ هذه العينات بوصفها مجرّد تطبيقات عنده للقاعدة الكامنة خلفها.

وبهذا نفهم ميكانيزما المذاق الشرعي من جهة ونعرف أنّه عمليّة تفسيريّة هرمنوطيقيّة، وليس مصدراً في مقابل الكتاب والسنّة، كما نعرف أنّ ولادة المعرفة فيه موضوعيّة رهينة بعناصر الدلالة التركيبيّة من حيث الكمّ والنوع، وأنّه قائم على كلّ من الفهم العرفي والعمل الاستقرائي التراكمي معاً. وبهذا يكون المذاق وروح الشريعة عبارة عن فهم تركيبي لسلسلة قرائن وإشارات مجتمعة.

وعلى سبيل المثال، نلاحظ أنّ الشيخ الأنصاري عندما أراد الاستدلال على حرمة التشبيب بالمرأة المؤمنة المحترمة الأجنبيّة اعتمد على توليفة نصوص تعطي مذاقاً، ولو لم يعبّر هو نفسه بالمذاق هنا، فقال: «ويمكن أن يستدلّ عليه بما سيجيء من عمومات حرمة اللهو والباطل، وما دلّ على حرمة الفحشاء، ومنافاته للعفاف المأخوذ في العدالة. وفحوى ما دلّ على حرمة ما يوجب ـ ولو بعيداً ـ تهييج القوّة الشهويّة بالنسبة إلى غير الحليلة، مثل: ما دلّ على المنع عن النظر؛ لأنّه سهم من سهام إبليس. والمنع عن الخلوة بالأجنبيّة؛ لأنّ ثالثهما الشيطان. وكراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان، وبرجحان التستر عن نساء أهل الذمّة؛ لأنهنّ يصفن لأزواجهنّ، والتستر عن الصبيّ المميز الذي يصف ما يرى، والنهي في الكتاب العزيز عن أن يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وعن أن يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهن، إلى غير ذلك من المحرّمات والمكروهات التي يُعلم منها حرمة ذكر المرأة المعيّنة المحترمة بما يهيّج الشهوة عليها، خصوصاً ذات البعل التي لم يرض الشارع بتعريضها للنكاح بقول: ربّ راغبٍ فيك»([80]).

إلا أنّ هذه الآليّة التي تبرّر موضوعيّاً فكرة المذاق تحتاج إلى:

أ ـ جمع ـ وعَرْض ـ عدد ليس هيّناً من الشواهد من حيث الكمّ، ومن ثمّ فتكوين المذاق من شاهد أو شاهدين يعدّ عمليّة منافية لتوليفة «الاستقراء والتركيب الدلالي المجموعي»، إلا مع خصوصيّة مورديّة.

وبهذا يظهر أنّ استنتاج المذاق من الحالة النفسيّة خارج سياق التتبّع والتقرّي الواضحَين، فضلاً عن كونه خارج سياق نصوص كليّة مقصديّة أو قانونيّة مباشرة، أمرٌ مرفوض تماماً؛ لأنّ هذا النوع من المذاق لا يمكن تمييزه عن المزاج المتشرّعي الذي قد يولد بعد عصر النصّ، ويمكن أن يكون حصل بفعل عوامل تاريخيّة وأعراف في الوسط الديني كوّنته ليصل إلى نفس الفقيه وروحه.

وهنا يبدو قلق القلقين مبرّراً منذ ما قبل الغزالي وإلى اليوم؛ لأنّ الانطباع مفهوم مختلف عن مفهوم الانتزاع؛ فالانتزاع عمليّة ذهنيّة عقليّة نشطة يمكن تفسيرها وشرحها، بينما الانطباعات غير القابلة للتفسير والشرح لا يوجد ما يضمن كونها منطلقة من الشرع نفسه حتى بالنسبة لصاحبها، فكيف بالنسبة للآخرين؟! فعلى صاحبها ـ موضوعيّاً ـ أن يبرّرها لنفسه قبل أن يبرّرها للآخرين.

ب ـ كون هذا العدد يحمل مضموناً يرفع من مستوى احتماليّة الدلالة على القاعدة، فالمضامين تقترب وتتباعد عن مفاد القاعدة الروحيّة المسمّاة بالمذاق، فكراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد أبعد نسبياً في استنتاج المذاق الموجب لتحريم التشبيب من لزوم أو رجحان التستّر عن نساء أهل الذمّة، بعلّة أنّهنّ يصف ذلك لأزواجهنّ، فالمضمون يقترب ويبتعد، وهو ما يؤثر على عمليّة تكوين الدلالة التركيبيّة الظهوريّة للمجموع.

ج ـ عدم وجود نصوص أو دلالات عكسيّة يمكنها أن تُضعف من التوصّل للقاعدة الروحيّة المعبّر عنها بالمذاق. ومن هذا القبيل عدم وجود معطيات عقليّة أو ارتكازات عقلائيّة أو متشرّعيّة تتقاطع مع المذاق المراد استنتاجه في أبواب مختلفة.

عيبان أساسيّان في تطبيق الخوئي مسلك المذاق على شروط المرجع

وعلى سبيل المثال الذي نذكره للشرطين الثاني والثالث هنا، يمكن أخذ استخدام السيد الخوئي للمذاق لإثبات شرط الذكورة في مرجع التقليد، وذلك أنّ هذا الاستخدام يعاني من عيبَين:

العيب الأوّل: إنّ الموارد الجزئية التي تشكّل عمليّة التقرّي والتتبّع في الأحكام والنصوص لا تعطي في غالبها إلزاماً، فكيف نريد أن نستنتج منها مزاجاً له نتائج إلزاميّة، وهو الحيلولة دون تولّي المرأة المرجعيّة والإفتاء وسقوط حجيّة فتواها. فبقاؤها في البيت وعدم الاختلاط والاهتمام بالتربية وغير ذلك كلّه لا يرى الخوئي نفسه الإلزام فيه، فكيف يمكن لهذه العناصر المزاجيّة (مزاج الشرع) غير الإلزاميّة أن تولّد حكماً بل أحكاماً إلزاميّة تحظر على المرأة التصدّي للشأن العام؟! هذا يعني أنّ المعطيات بعيدة نسبيّاً عن النتيجة.

العيب الثاني: إنّه لو ثبت هذا المزاج العام شرعاً للزم أخذ نتائجه على طول الخطّ، بحيث تمنع المرأة من أيّ نشاط يمثل شأناً عامّاً؛ لأنّ هذا النشاط خلاف مذاق الشارع في كونها تجلس في البيت ولا تختلط، وبهذا يصبح العمل السياسي والاجتماعي والصحافي والاقتصادي والإعلامي العام للمرأة مرفوضاً في الشريعة، وهذا ما قد يدّعى قيام السيرة العقلائيّة والمتشرّعية عليه في الجملة دون نكير، كذهابهنّ للحروب مع النبيّ، وتصدّيهنّ للأمور العامّة دون استنكار الأئمّة في العصرين الأموي والعباسي، بل حتى خروج عائشة زوج النبيّ على عليّ× لم يشهد استنكاراً من باب تصدّيها العام، إلا من زاوية كونها زوج النبيّ، لا من زاوية كونها امرأة.

وهذا ـ وغيره ـ يعني أنّ الخوئي قبل ادّعاء مزاج الشريعة عليه إصلاح هذين العيبين، وإلا فلا دليل على وجود مزاج شرعي قانوني عامّ تنتج عنه نتائج مُلزِمة بهذا الحجم.

وكمثال آخر فكرة عدم تجريد المرأة الزانية المحدودة، فإنّ اهتمام الشريعة بستر المرأة جسدها لا يعطي سترها بالكامل حال إجراء الحدّ؛ لأنّ من أساسيّات بحث الستر والنظر أيضاً هو حرمة المرأة المستفادة من عدّة شواهد في باب الستر والنظر، وعليه فكيف استُنتج أنّ الشريعة تريد ستر هذه المرأة من زاوية مذاقها في الستر، ولا تريد هتك حرمتها بكشفها أمام الناس ـ ولو نسبيّاً ـ فيكون ذلك نوعاً من العقاب المعنوي لها، كما هي الحال في عدّة عقوبات معنويّة متضمَّنة في قوانين الحدود في الشريعة، من نوع التشهير وغير ذلك؟! وعليه فالتخلّي عن إطلاق الروايات الدالّة على التجريد في المرأة ـ لو تمّ وجود إطلاق ـ لن يعود واضحاً.

د ـ التحقّق من القوّة الصدوريّة لمجموعة النصوص المعتمدة في الدلالة التركيبيّة.

هـ ـ أن لا يكون إنتاج القاعدة المستفادة من المذاق يؤدّي للوازم يعلم أنّ الشريعة لا تريدها، فيربك استنتاج القاعدة.

2 ـ تخريج الحجيّة ـ ولو من خلال الأولويّة ـ على أساس الاستقراء الأحكامي

إنّ فكرة المذاق يمكن أن تقوم أيضاً على العمل الاستقرائي في الأحكام نفسها بعيداً عن الدلالات، فلو صرفنا النظر عن دلالات النصوص، أو دلّت أدلّة غير لفظيّة على سلسلة من الأحكام في مواضع مختلفة تلتقي مع مسار ونسق واحد في الروح والمضمون، فإنّ الاستقراء يمكنه أن يولّد عندنا يقيناً عقلائيّاً بالقاعدة الأوسع المعبّر عنها بالمذاق، وفقاً لما بحثناه سابقاً حول حجيّة الاستقراء في الاجتهاد الشرعي.

وهنا يكون مسلك المذاق عبارة عن محاولة عقلانيّة لاستنتاج قانون عامّ سارٍ في الأبواب المختلفة ذات الصلة، وليس نشاطاً هرمنوطيقيّاً تأويليّاً، غايته أنّه يستدعي الشروط التي قلناها آنفاً، بل يكاد يكون الاستننتاج هنا أشدّ وأصعب، وبحاجة للكثير من المعطيات الجزئيّة المتفرّقة كما بيّنا في بحث الاستقراء؛ لأنّه كان يكفي في الدلالات التركيبيّة الظنُّ الظهوري العرفي، أمّا هنا فلابد من اليقين العقلائي في الحدّ الأدنى؛ لعدم حجيّة الظنّ الاستقرائي المحض.

كما أنّ فهم المذاق في سياق فكرة الأولويّة هو تعبير آخر أيضاً عن نشاط استقرائي منضمّ لفكرة الأولويّة، فإنّ الفقيه باستقراء مواقف الشرع في موارد متعدّدة ذات أهميّة دانية، يقوم باعتماد الأولويّة لاكتشاف موقفه في الفضاء الأشدّ أهميّةً من هذه الموارد، وهو ما يولّد لديه مذاقاً عامّاً للشرع.

3 ـ تخريج الحجيّة على أساس مرجعيّة الظنّ

وقد يستدلّ لحجيّة المذاق بأنّه يفيد الظنّ الموازي في قوّته للظنّ الآتي من أخبار الآحاد ونحوها، فيمكن القول بحجيّته ولو مظنوناً.

ولكنّنا في غير موضع قلنا بأنّ هذه الطريقة غير دقيقة في اكتشاف نظام الحجج في الشريعة، بل هي تكاد تفتح الباب على حجيّة مطلق الظنّ حتى على الانفتاح فضلاً عن الانسداد، وقد شرحنا هذا الأمر غير مرّة، فلا نعيد.

ونستنتج مما تقدّم الجوابَ عن الأسئلة السابقة، فالمذاق ليس سوى منهج تفسيري ـ ظنّي أو يقيني ـ للمصادر النصيّة تارةً، ومنهج عقلاني ـ يقيني ـ استقرائي مستقلّ عن التفسير والتأويل تارةً أخرى، فليس هو في عرض مصادر الاجتهاد، بل يندرج تحت الكتاب والسنّة تارةً، وتحت كليّة العقل النظري تارةً أخرى. وآليّته موضوعيّة محدّدة، وهو منهج العمل الاستقرائي التراكمي، والاستظهار العرفي الانضمامي.

وقفة تقويميّة مع موقفٍ معارض لفكرة المذاق الشرعي وروح الشريعة

من هنا يمكن أن نتوقّف قليلاً في نهاية هذا البحث عند ما طرحه الشيخ عليدوست، من أنّ مسلك المذاق هذا مبهم وغامض وشخصي وهلامي، ويجب علينا استبعاده من الاستنباط، واستبداله بالأدلّة التي تقف خلفه مثل قياس الأولويّة وحكم العقل والنصوص المبيّنة للمقاصد والسير العقلائيّة والمتشرّعيّة ونحو ذلك، فلا يوجد مبرّر لفصله عن سائر الأدلّة والمصادر الاجتهاديّة من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، بل إنّ جميع الموارد التي ذكروها للمذاق يوجد إلى جانبه أدلّة أخرى من النوع الذي قلناه، وسبب دخول فكرة المذاق وأمثالها بينهم إنّما هو غياب فكرة مرجعيّة العقل والنصوص المبيّنة للمقاصد والعلل والدلالات المجموعيّة([81]).

وفي تقديري فإنّ قلق الناقد هنا ليس سوى من عدم قوننة فكرة المذاق، وإلا فهو بنفسه عبّر عن قانونها من خلال البدائل التي تحدّث عنها، والمفروض أن لا تكون عندنا مشكلة في المصطلحات أو حساسية منها، فما دام المذاق يقوم على آليّتين أساسيّتين، هما: الاستقراء التراكمي المفيد لليقين، والمفهوم عقلانيّاً، والظهور المجموعي الانضمامي الذي يقبله الناقد هنا، فهذا يعني أنّ فكرة المذاق مقبولة ولا داعي لنقدها، إنّما المرفوض فيها هو تحريرها من تبريرها، بمعنى أن يستدلّ بها الفقيه دون أن يشرحها أو يبرّر كيفيّة حصول قناعة لديه بوجود مذاق شرعي من هذا النوع أو ذاك.

والنقطة الصحيحة هنا هي أنّه لا وجود لقاعدة مستقلّة اسمها المذاق خارج سياق القاعدتين المشار إليهما، فالمطلوب من علم أصول الفقه التنظير لثنائيّة: الاستقراء في الاجتهاد الشرعي، وحجيّة الدلالات التركيبية المجموعيّة في فهم النصوص، فإذا أثبت هذين الأمرين، كان بإمكانه أن يقول بأنّ استنتاج مذاق الشرع هو أحد تجلّيات هذين المنهجين.

من هنا يبقى التعليق على ما أفاده الناقد، من الحديث عن هلامية المذاق، إذ ذلك يعني ـ بعد التوضيح الذي أسلفناه ـ أنّه سوف يكون حديثاً عن هلاميّة الفهم المجموعي والاستقراء، مع أنّ الناقد يقبل بالأوّل منهما على الأقل، بل إنّ استعاضته هنا بالعقل، مع ما نعرفه عن منهجه في حجّية العقل وأنّه ليس المستقلات الكليّة، بل التشخيصات الخارجيّة، لا يعفي من هلاميّته أيضاً، فكلّ شخص بإمكانه أن يدّعي أنّ عقله يحكم بكذا وكذا. وقد دافع هو عن الإشكال الذي سُجّل عليه في هلاميّة الدليل العقلي ـ بمفهومه له ـ وإمكانيّة سوء الاستفادة منه، واعتبر أنّ ذلك ليس مبرّراً للتخلّي عنه([82])، وقد سبق لنا أن ناقشنا بعض جوانب أُطروحة الشيخ عليدوست والشيخ الصانعي في حجيّة العقل وما يرتبط بها، فلا نعيد ولا نطيل، فراجع([83]).

وختاماً، إنّني أعتقد بأنّ استحضار مفردات من نوع روح الشريعة وذوق الشرع وأمثالها لا مانع منه، بل هو سائد في الدراسات القانونيّة وفي التفاسير القضائيّة، غاية الأمر أنّ المطلوب من صاحب الادّعاء أن يبرّر ادعاءه هذا تبريراً عقلانيّاً قابلاً للمحاكمة، وفق الطريقة التي قلناها، بحيث يُبدي العناصر المتراكمة التي اعتمد عليها، ويخرج الحالة من اللاوعي إلى الوعي، وبهذا تخرج المذاقيّة من الحالة الشخصيّة إلى الحالة النوعيّة، وينكشف للآخرين صحّة الكلية التي يراد إثباتها من قبل من حصل لديه المذاق، أو ينكشف لمن لديه المذاق أنّ مذاقه لم يكن سوى مجرّد وهم زائف، وقفز من مفردة أو مفردتين لقاعدة كليّة دون مبرّر منطقي.

نتيجة وكلمة ختام في الاستقراء

مما أسلفناه في مبحث مذاق الشريعة، اكتشفنا أنّ المنهج الاستقرائي قد تجلّى في هذا المسلك تجلّياً واضحاً بيّناً، وأنّ هذا ما يفرض علينا مجدّداً الاهتمام بحضور الاستقراء ومفاهيم المراكمة في النشاط الاجتهادي حضوراً واعياً.

إنّ الاستقراء وتنشيطه في الاجتهاد الشرعي يساعد الاجتهادات المقاصديّة العامة والخاصّة، والاجتهادات المناطيّة كذلك، كما يخدم الاجتهاد التعليلي كما رأينا، ومن الجدير فتح باب الاهتمام بالاستقراء في أصول الفقه بدل إهماله في غير ساحة من الساحات الأصوليّة، خاصّة عند بعض المذاهب الإسلاميّة.

([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (الاجتهاد المقاصدي والمناطي، المسارات والأصول والعوائق والتأثيرات 1: 375 ـ 415)، تأليف حيدر حبّ الله، والذي صدرت طبعته الأولى عن دار روافد في بيروت، عام 2020م.

([2]) لمزيد تفصيل حول فكرة «أصول المذهب» عند ابن إدريس، راجع: علي همّت بناري، ابن إدريس الحلّي رائد مدرسة النقد في الفقه الإسلامي: 351 ـ 375.

([3]) انظر: المنخول: 618.

([4]) انظر: مفتاح الكرامة 2: 38.

([5]) انظر: النور الساطع في الفقه النافع 2: 535.

([6]) جواهر الكلام 1: 150.

([7]) المصدر نفسه 2: 329.

([8]) المصدر نفسه 8: 52 ـ 53.

([9]) المصدر نفسه 8: 370.

([10]) المصدر نفسه 24: 222، و26: 152، و30: 310، و31: 377، و32: 6، 38: 358.

([11]) المصدر نفسه 15: 196.

([12]) المصدر نفسه 18: 71.

([13]) المصدر نفسه 24: 165.

([14]) المصدر نفسه 27: 217.

([15]) المصدر نفسه 30: 195.

([16]) المصدر نفسه 39: 262.

([17]) دليل العروة الوثقى 2: 175؛ وانظر شبيهه: علي الحسيني شبّر، العمل الأبقى 1: 458؛ وراجع: النائيني، فوائد الأصول 1 ـ 2: 451 ـ 452.

([18]) مصباح الفقاهة 1: 192.

([19]) رسالة قاعدة ضمان اليد: 48.

([20]) شرح تبصرة المتعلّمين 3: 55.

([21]) الرسائل 2: 177؛ والرسائل العشرة: 12. واللافت للنظر أنّ السيد الخميني أراد تأكيد قوله عبر محاولة إحالة القارئ إلى وجدانه الديني؛ لأنّ القضيّة تتخذ طابعاً وجدانيّاً نفسيّاً عميقاً ناتجاً عن أنس بالقضيّة الدينيّة، مما يولّد شعوراً باليقين من قضيّة معيّنة لا يوجد دليل ملفوظ أو محدّد عليها.

([22]) المكاسب المحرّمة 1: 176.

([23]) التنقيح (الاجتهاد والتقليد): 226.

([24]) المصدر نفسه: 239 ـ 240، 346.

([25]) العروة الوثقى 4: 100. الهامش.

([26]) بحوث في علم الأصول 4: 444.

([27]) دروس في علم الأصول (الحلقة الثانية) 1: 326 ـ 327.

([28]) انظر: تجذير المسألة الأصوليّة: 406.

([29]) القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد 1: 421.

([30]) المصدر نفسه 1: 427.

([31]) المدخل إلى علم أصول الفقه: 55.

([32]) انظر: الاعتصام بالكتاب والسنّة: 293.

([33]) انظر: الحجّ في الشريعة الإسلاميّة الغراء 2: 440؛ ودراسات موجزة في فقه الخيارات والشروط: 81؛ والزكاة في الشريعة الإسلاميّة الغراء 2: 192؛ وسلسلة المسائل الفقهيّة 21: 33، و22: 63؛ ونظام الإرث في الشريعة الإسلاميّة الغراء: 148؛ ونظام النكاح في الشريعة الإسلاميّة الغراء 1: 115.

([34]) تفسير سورة الحمد: 110، وانظر أيضاً ص 111.

([35]) كتاب الطهارة 2: 83.

([36]) انظر: الحداثة العولمة والإرهاب في ميزان النهضة الحسينيّة: 241، 294.

([37]) جواهر الكلام 2: 52.

([38]) مهذّب الأحكام 2: 404.

([39]) المحكم في أصول الفقه 6: 379.

([40]) أسس القضاء والشهادات: 189.

([41]) مصباح الفقيه 5: 129 ـ 130.

([42]) مستمسك العروة الوثقى 14: 259.

([43]) مباني العروة الوثقى، كتاب النكاح 1: 437.

([44]) الخميني، كتاب البيع 3: 607 ـ 608؛ وتظهر متابعته في ذلك من المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلاميّة 2: 633.

([45]) مباني تحرير الوسيلة 2: 277.

([46]) كتاب البيع 2: 725 ـ 726.

([47]) انظر: نهاية الأفكار 1 ـ 2: 434.

([48]) المكاسب المحرّمة: 59.

([49]) مهذب الأحكام 2: 179.

([50]) انظر: حبّ الله، فقه المصلحة: 458 ـ 460.

([51]) مهذب الأحكام 1: 395.

([52]) الدرّ المنضود في أحكام الحدود 2: 105.

([53]) انظر: المعتبر 1: 79؛ وكشف الرموز 2: 57؛ وتذكرة الفقهاء 3: 288 ـ 289، 323؛ وقواعد الأحكام 2: 61؛ ومختلف الشيعة 4: 94، و5: 280، و6: 360، و8: 391؛ والتنقيح الرائع 2: 262، و4: 278؛ والمهذّب البارع 1: 90، 193؛ والأقطاب الفقهيّة: 48؛ ومفاتيح الشرائع 3: 291.. وغيره كثير فراجع.

([54]) مختلف الشيعة 8: 475.

([55]) التعليقة على المكاسب 1: 512.

([56]) بداية الوصول في شرح كفاية الأصول 3: 200 ـ 201.

([57]) انظر: مباني الفقه الفعّال في القواعد الفقهيّة 1: 248.

([58]) الخلل في الصلاة: 63.

([59]) البحر الرائق 5: 174.

([60]) التعليقة على المكاسب والبيع: 511.

([61]) انظر: فوائد الأصول 3: 91.

([62]) التنقيح (الاجتهاد والتقليد): 226.

([63]) المستند في شرح العروة، كتاب الصوم 1: 318.

([64]) مستمسك العروة الوثقى 9: 129.

([65]) انظر: جواهر الكلام 15: 196.

([66]) كتاب البيع 4: 443.

([67]) مصباح الفقيه ج2، ق2: 704.

([68]) تجذير المسألة الأصوليّة: 411.

([69]) المصدر نفسه: 412. واللطيف أنّ الشيخ الإيرواني يستثني من هذه الحال المرجعَ الديني نفسه لو كان من بني هاشم، والحجّة في ذلك أنّ من شأنِه أن يدفع المالَ لكلّ طلاب العلوم الدينيّة، ولو من غير بني هاشم، فله أخذ مبلغ سهم بني هاشم وصرفه على الطلاب ولو كان أغلبهم من غير بني هاشم! ولا أدري ألا يلزم من ذلك نقض الغرض من وراء تشريع سهم بني هاشم؟! بل لعلّه هنا أوضح في نقض الغرض، إذ يمكن للمرجع الديني ـ أكثر من غيره من آحاد بني هاشم ـ أن يصرف مبالغ هائلة من سهم بني هاشم على عموم المنتسبين وطلاب الحوزات الدينيّة، وهذا ما يوجب نقصاً حادّاً في رفع حاجات بني هاشم، لو صحّ أنّ هناك سهماً من سهام الخمس بعنوان سهم بني هاشم.

([70]) انظر: أبو الفضل عليشاهي قلعه جويي وحسين ناصري مقدّم، چیستی وکارکردهاى مذاق شريعت، مجلة مطالعات اسلامي، فقه وأصول، العدد 86/1: 165 ـ 166.

([71]) المستصفى: 173؛ وانظر: الآمدي، الإحكام 4: 157؛ وإرشاد الفحول: 240.

([72]) الأصول العامّة للفقه المقارن: 372 ـ 373.

([73]) المستصفى: 173؛ وانظر: الآمدي، الإحكام 4: 157.

([74]) انظر: البحر المحيط 4: 392.

([75]) ابن تيمية ، المستدرك على مجموع الفتاوى 2: 10.

([76]) انظر: ابن تيمية ، مجموعة الفتاوى 10: 471 ـ 472، 473.

([77]) انظر: المصدر نفسه 10: 477، وانظر: المصدر نفسه: 479.

([78]) انظر: فقه المصلحة: 437 ـ 441.

([79]) انظر: ابو القاسم عليدوست ومحمّد عشايري منفرد، استناد فقهي به مذاق شريعت در بوته نقد، مجلّة حقوق اسلامي، العدد 22: 23 ـ 25.

([80]) المكاسب 1: 178 ـ 180.

([81]) انظر: ابو القاسم عليدوست، فقه وعرف: 240 ـ 244؛ وعليدوست ومحمّد عشايري منفرد، استناد فقهي به مذاق شريعت در بوته نقد، مجلّة حقوق اسلامي، العدد 22: 23 ـ 32.

([82]) انظر: عليدوست، فقه وعقل: 214 ـ 215.

([83]) انظر: حبّ الله، فقه المصلحة: 222 ـ 231؛ وشمول الشريعة: 297 ـ 301، 313 ـ 320؛ وقواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني: 119 ـ 170.