اللغة القرآنيّة بين العرفيّة والما فوق عرفيّة وفكرة بطون القرآن
حيدر حبّ الله
تقرير وتحرير بقلم: الدكتور محمد طرّاف([1])
تمهيد
هل استخدم القرآن لغةً عرفيّة، كما هي لغة الناس، وطرائق التفهيم لمقاصدهم، وطرائق التفاهم عندهم أو أنّ لديه ـ لدى القرآن ـ لغةً تتعالى عن لغة العرف؟ هل هناك ظاهر في القرآن، أي دلالة واضحة، يفهمه العرف كما يفهم أيَّ كلام، فلا أستطيع أن أتعامل مع النصّ القرآني بواسطة التحليل اللغوي، كما أتعامل مع أي نصٍّ أدبيٍّ آخر؟ أو أنّ وراء الظاهر باطناً عميقاً غير مفهوم، فلا يستطيع أن يطلّ عليه الإنسان من خلال اللغة التي يستخدمها البشر، وإنّما يطلّون عليه من نطاق خارج اللغة المتعارفة، فلا يتحصّل إلا للأوحديّين منّا على الأقل؟ هل يعتمد القرآن الكريم لغةً غامضة لا توضح مراده، بل تتركه مفتوحاً على احتمالات أو أنّه استخدم لغةً بيانيّة إيضاحيّة توصل الرسالة التي يريدها للناس؟ هل هو متعمّد إغلاق النص، فيجعله مبهماً، لسببٍ ما يريده من وراء هذا الإبهام أو لا؟
يقال مثلاً، إنّ السيد الخوئي سُئل ـ على ذمّة الناقل ـ لماذا تجعلون الرسالة العمليّة الفقهيّة غامضةً ومعقّدة مليئة بالمصطلحات، وبدقّة التعابير، بحيث لا تكون مفهومة أصلاً، مع أنّكم وضعتموها وجعلتموها للناس؟ فأجاب السيّد الخوئي بأنّنا إذا كنّا جعلنا هذه الرسالة واضحةً مفهومة وجليّة، ونتعامل فيها كما يتعامل الناس في التفهيم، فينبغي أن لا يكون للمبلّغين والعلماء في القرى والأرياف والمدن أيّ دور! فماذا يفعل هؤلاء؟! إنّ واجبهم أن يوضحوا للناس الأحكام الفقهيّة والشرعيّة، فإذا جعلناها واضحة جلية فإنّنا نقوم بالتأثير على دورهم. من هنا، هل القرآن فعلاً أراد أن يعطي أحداً آخر دوراً، ولذلك أغلق نفسه فوضعها داخل شرنقة معقّدة جدًّا، بحيث لا يستطيع الإنسان بأنظمة اللغة أن يفكّ هذه الشيفرة القرآنيّة، بل يحتاج إلى شيء أعلى من ذلك أو لا؟
إنّ تحديد لغة القرآن، أي اللغة التي استخدمها القرآن، وأيّ نسق من اللغة استخدم، وأيّ نوع من أدوات التخاطب استخدم على هذا الصعيد، يساعدنا في فهم بنية اللغة القرآنيّة؛ إذ عندما تريد أن تتفاهم مع أيّ شخص آخر عبر الكلام، وأن تفهمه، فأنت بحاجة لفهم اللغة التي يعتمدها، أو فلنقل: أنت بحاجة لفهم الوسيط الناقل الذي يعتمده، فلو كنت تريد التحدّث مع شخصٍ بالإنجليزيّة، فعليك أن تدرس هذه اللغة لتفهمه، ولو كانت لغته التركيّة فعليك دراسة اللغة التركيّة لفهم قوانينها في إيصال الأفكار والمقاصد والمعاني، وهكذا لو كانت لغته الإشارة ونحوها مثل لغة الجسد في بعض المسرحيّات والفنون، فعليك أن تفهمها وتعرف تفسيراتها ومعانيها، وما هو معجمها، إذا صحّ التعبير. وعلى هذا المنوال أيضاً، لو أنّ شخصاً يستخدم لغةً علميّة أكاديميّة تنتمي لمثل علم الرياضيات أو الفيزياء، فعَليَّ فهم قواعد اللغة عنده وطرائق التعبير، على عكس شخص يعتمد اللغة الأدبيّة والشعريّة، فإنّ الدلالات تختلف والمعاني تختلف، تبعاً لاختلاف أنظمة التفاهم والتفهيم، وكل شيء يتمايز تمايزاً جذريّاً.
علاقة الموضوع ببحوث فلسفة الدين والكلام الجديد
هذا الأمر لا يختصّ بالقرآن الكريم، بل هو مطروح، في الحقيقة، في علم فلسفة الدين والكلام الجديد على مستوى لغة الدين بشكلٍ عام، فما هي اللغة التي يعتمدها الدين في التحدّث والتخاطب؟ هل لديه لغة خاصّة ونحن قمنا بارتكاب خطأ فظيع عندما حاولنا فهم نصوصه بلغةٍ أخرى؟ وإذا كانت له لغة خاصة وكانت له طريقة خاصة أوسع من دائرة اللغة، فما هي لغته الخاصّة هذه والتي تقوم على نسق تفكير خاصّ؛ لأنّ اللغة تعبيرٌ آخر عن العقل؟ وكمثال مبسّط متعارف لهذه القضيّة ولتقريب الفكرة، يمكن ملاحظة انتقاد الكثير من العلماء، سواء في المسيحية أم الإسلام، لتطبيق قواعد العقل اليوناني على النصوص الدينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة، ففي المسيحيّة ـ على سبيل المثال ـ ظهرت حركة نقديّة ترى أنّ أكبر الأخطاء التي ارتكبت في حقّ النصوص المقدّسة المسيحيّة هو تفسيرها على معايير العقل اليوناني، في حين هذا العقل منفصل تماماً عن عقل النصوص المقدّسة ولغتها. ونحن مثلاً في الإسلام لدينا هذا الأمر، كابن تيمية وغيره، وبعض المدارس المعاصرة، في الوسط السني وفي الوسط الشيعي. فمثلًا عندما يقال بأنّ استخدام الإطلاق يؤدي إلى موجبة كليّة، والموجبة الكلية تتناقض مع السالبة الجزئية، فهذه قوانين النسب الأربع التي وضعها العقل اليوناني، فالعقل الديني الذي تنبع منه اللغة الدينيّة لا يعتمد طريقة المعالجة التي من هذا النوع، فهو أقرب للإشارات المتقطعة، فلا نجد نسقاً متكاملاً كالذي نجده في الكتب العلمية التي نعمل عليها، ولهذا قالوا لو طبّقنا العقل اليوناني على النصّ الديني لظهر النصّ الديني متناقضاً، بينما لم يشعر أهل اللغة في حينه بهذا التناقض إطلاقاً، وقد تحدّاهم بالتناقض، فما قالوا شيئاً عن هذا التناقض.
وعلى أيّ حال، فنحن لن نبحث هنا في كليّة موضوع لغة الدين، من حيث هي لغة رمزيّة أسطوريّة، لأنّها موضوعات متشعّبة جدّاً، بل سنحاول التركيز على الملفّ القرآني أكثر، وفي دائرة محدّدة فقط، وذلك بهدف إعطاء مفاتيح لهذا الموضوع، وسأبيّن لماذا هذا الموضوع في غاية الأهمية، ولماذا هذا الموضوع جزء من معركة تقف خلف الستار، فنحن لا نرى هذه المعركة، بل نرى تأثيراتها، في التجاذب بين التيارات الفكرية، في المشهد الإسلامي السابق والمعاصر، لذلك نريد أن نبقى في السياق القرآني ونقترب أكثر من الخصوصيّة القرآنيّة، وسيكون هناك بالطبع تداخل مع كليّة موضوع لغة الدين.
عندما نرجع إلى الفقهاء المدرسيّين والمفسّرين المسلمين، نجد أنهم يعتمدون اللغة العربيّة، بما هي نظام دلالي عقلائي عُرفي، ويرجعون إلى قوانينها في التفاهم والتفهيم، ويتعاملون معها بوصفها المدماك الأساس الذي تقوم عليه عمليّة فهم النص القرآني، وهذا يعني أنّهم يعدّون لغة النص القرآني لغةً عرفيّة عقلائيّة، فكما يتكلّم شخص مع شخص آخر بين العرب، فيفهم كلامه على تلك الطريقة، فالقرآن أيضاً شخصٌ عربي، إذا صحّ التعبير، استخدم الطريقة نفسها التي يستخدمونها، ومن ثمّ نقل إليهم الأفكار باللغة نفسها. هكذا يبدو المشهد على مستوى الأنشطة الفقهيّة والتفسيريّة عندا التيار المدرسي الإسلامي، وإن كان هناك احتمال ـ سوف يأتي إن شاء الله ـ يرى أنّه يمكن أن يكون القرآن حاملاً لغير نظامٍ لغويّ، أو لغير نظامٍ من أنظمة نواقل الأفكار والمعاني. فيمكن أن يكون لديه نظام عرفي للغة العربيّة، ويمكن أن يكون لديه خلف الستار نظامٌ آخر لا يعتمد هذا الشيء المتعارف الذي يعتمده الناس في فهمهم لنصوص وكلام بعضهم بعضاً. قد يكون لديه شيء آخر لا يعرفه إلا الأوحدون من الناس. فهنا لدينا سؤالان في الحقيقة:
1 ـ هل القرآن يعتمد لغة واحدة أو لديه نظامان لغويّان يخاطب بأحدهما العامّة من الناس، فيما يخاطب بالأخرى الخواصّ وأخصّ الخواص، أو يخاطب المعصوم؟ وهذا ما قد يفهم حتى من بعض الفقهاء والمفسّرين الذين ليس لديهم أي مشكلة في هذا الرأي. فالمهم عندهم الحفاظ على النظام اللغوي في القرآن الكريم، ولا يمتنعون أحياناً، بعضهم على الأقل، عن وجود أنظمة أخرى. فالسؤال الأوّل هل للقرآن لغة واحدة أم له أنظمة؟
2 ـ إذا كانت لديه لغة واحدة فما هي هذه اللغة؟
قبل الشروع بعرض بعض التصورات في هذا الموضوع الشائك، نريد أن نسأل، لماذا هذا الموضوع؟ ولماذا يجب أن نتعرّف على هذا الموضوع؟
لكن لماذا هذا الموضوع؟
فلكي نجيب على هذا السؤال ونحفّز المتلقّي إلى أهميّة هذا الموضوع، نعتقد أنّ دراسة لغة القرآن من هذه الزاوية التي نريد التطرّق لها، بالغ الأهميّة، بل هو في جوهره يمثل معركة خلف الستار بين العديد من المدارس التفسيريّة عند المسلمين. ولتبسيط الموضوع، وكإشارة أوّلية قبل أن نخوض في الموضوع أكثر، توجد من جهة النزعات الصوفيّة والعرفانيّة والفلسفيّة إلى جانب النزعات الباطنية مثل الكثير من الإسماعيليّة والغلاة، إلى جانب عدد غير قليل من التراث التفسيري الروائي عند الشيعة الإماميّة، إذ تعدّ الحالة العامّة لتفاسير هذه المدارس والاتجاهات مبنية ـ من وجهة نظر أنصار اللغة العامّة العقلائيّة والعرفيّة ـ على تأوّلات تمزّق بناء النص القرآني وتهدر حرمة لغته وتُشظّيه. فالأشخاص الذين يؤمنون باللغة القرآنية العرفية، من حيث هي لغة العرب، وإن كان قد حدثت تطوّرات في اللغة، يرون أنّ القرآن الكريم لم يتكلّم بلغة أخرى، ولم يذهب إلى نظام آخر يتعرّفون إليه. فجماعة اللغة العرفية العقلائية يرون أنّ هذه الجماعات ـ الصوفية، العرفانية، المذهبية.. ـ إنّما لجأت لكلّ ما لجأت إليه من دعوى وجود نظام آخر في الفهم القرآني، لتتخطّى أنظمة اللغة؛ لأنّهم أدركوا أنّ لغة القرآن لا تستطيع أن تستجيب لهم ولا تحقّق لهم أغراضهم، ولأنّهم إذا اعتمدوا فقط هذه اللغة ـ وهي اللغة العامّة أو العرفيّة ـ فلن نجد هذه الأفكار التي يريدونها، فهذه اللغة لا تسعفهم في استنتاج هذه المقولات، لهذا قاموا ـ من وجهة نظر الفريق القائل بالعرفيّة ـ بالالتفاف على لغة القرآن وشرعوا بالتأويل المتحرّر من قواعد اللغة (على عكس الكثير من المعتزلة ومتكلّمي الشيعة الإماميّة والزيدية) الذين عادوا وبرّروه بعدم كون لغة القرآن لغة تفاهم مع عامّة الناس بل هي لغة خاصّة بأهل البيت أو بالعرفاء والخواصّ، فهذا الذي تقرأونه هو السطح الظاهر، فأنتم تتصوّرون أنّكم تفهمون شيئاً، ففي القرآن توجد لغة لا يفهم رموزها وطلاسمها وإشاراتها إلا العرفاء الكبار والخواص الذين يتّصلون بالنسخة المعنويّة للقرآن في عالم المثال، أو في العوالم المجرّدة، ولا يفهمها إلا أهل البيت فقط، لأنّهم خوطبوا بالقرآن.
إنّ هؤلاء يرون أنّ كل هذه المدارس التفسيرية ـ الصوفية، العرفانية، الباطنية، وبعض التفاسير الروائيّة ـ هي في الحقيقة إجهاز على نظام اللغة القرآني، وقضاءٌ على القرآن، وتحريرٌ لأنفسهم من أنظمة اللغة العامّة، بهدف الحصول على ما يريدون، بادّعاء أنّ القرآن هكذا هي بنيته، وأنتم لا تفهمون شيئاً. ونتيجة لذلك لا نستطيع أن نحتكم ـ نحن وهم ـ إلى شيء، فاللغة لم تعد لها قيمة، بل في بعض عباراتهم ما يفيد أنّهم يحتقرون اللغة.
من هنا رأى بعض أنصار اللغة العرفيّة العامة، أنّ هناك جناية ارتُكبت بحقّ لغة القرآن الكريم، عندما تمّ تدمير البناء اللغوي القرآني، الذي هو بناء اللغة العامّة، لأجل تمرير أفكار وأيديولوجيات وتأويلات غير قادرة على أن تدافع عن نفسها في ظلّ أنظمة القرآن الكريم اللغوية المتعارفة. إذاً، تمّ الإجهاز على لغة القرآن لمصالح. وهذا ما سمّيته قبل قليل بالمعركة الكبيرة الكامنة "خلف الستار" نراها ما بين سطور المدارس الكلاميّة عند المسلمين؛ فريقٌ ينتصر للدلالة اللغويّة وفهمها، وآخر ينتصر لفتح مساحاتٍ، الكثير منها لم توضع له ضوابط.
وفي المقابل، يرى الفريق الثاني الذي يؤمن بوجود أنظمة ما فوق لغويّة للقرآن، أنّ الفريق الأوّل القائل بوجود أنظمة عرفيّة لغويّة فقط، هو فريقٌ جامد، جمُد على اللغة العامة العرفيّة، ونزعته نوعٌ من النزعة الظاهريّة الحرفيّة في فهم الكتاب والسنّة، وهي نزعة متقوقعة، تغلق على نفسها داخل اللغة الشعبيّة التي تمثل مستوى أوّلياً من مستويات الدلالة القرآنية فقط. فالقرآن مفتوح على علومٍ لا تتناهى، فلا تستطيع لغةٌ بسيطة بائسة ـ مثل هذه اللغات التي يستخدمها البشر العاديّون، من منطلق أنّ اللغة عقلٌ محدود ـ أن تستجيب لها، فلا بدّ من نظامٍ لغويّ وإشاريّ آخر، فلماذا تضيّقون علينا بهذا؟
وبهذا يظهر أنّنا أمام تجاذب في المنهج يقف خلف الستار؛ لأنّه مبنيٌّ على طبيعة اللغة والنواقل التي يستخدمها النصّ، حتى يوصل رسائله إلى المتلقّي. وهذه النقطة هي التي تدفعنا للبحث في هذا الموضوع والكشف عن بعض زواياه على الأقلّ.
إنّ علينا أن نفكّر بجديّة في هذا الموضوع الذي أراه من أكثر الموضوعات القرآنيّة خطورةً وأهميّة، وبالرغم من أنّه قد بُحث بشكل متفرّق لكنّه لم يأخذ حقّه من الدراسة المركّزة، فجزءٌ منه بُحث في أصول الفقه، عندما تعرّضوا للمعركة الإخباريّة ـ الأصولية في موضوع ظواهر القرآن، وجزءٌ آخر بُحث في نظريّة روح المعاني التي طرحها بعض العرفاء والمتصوّفة والفلاسفة. لكنّ هذا الموضوع يحتاج إلى لملمة، بحيث يصبح موضوعاً مركّزاً، تعالج تفاصيله من قبل متخصّصين ـ وبخاصّة المهتمّين منهم بالدراسات القرآنيّة ـ دون جمودٍ على ما قاله السابقون، بل على قاعدة النظر في الأدلّة. ويحضرني هنا ما يقوله ابن خلدون فيما يُنسب له: إنّ اتّباع عقائد القدماء ومناهجهم، بشكل متكرّر في مناهجهم وأفكارهم، لا يعني أنّ القدماء ما زالوا أحياء؛ لأنّنا عندما نجد أمّةً تتّبع مناهج هؤلاء الكبار في الماضي، فهذا لا يعني أنّهم لا زالوا أحياء بيننا، بل يعني أنّنا نحن أموات، لا يصدر منّا إلا محض الاتّباع الأعمى والتكرار المملّ.
فمثل هذه الملفّات تحتاج إلى ثورة داخليّة في النظر والتأمّل؛ لمعرفة أيّ مدرسة هي الصحيحة، إذ في ضوء هذا الموضوع، هناك مواقف كبرى سوف تُتّخذ من الكثير من المدارس التفسيريّة، ومن النصوص الحديثيّة، ومما قيل هنا وهناك. وهذا يحتاج لعمل متخصّص لنعرف كيف يمكن البناء على وضع منهج قرآني في هذا السياق؟ حتى لا نبقى نتّبع فقط، ونقلّد أفكاراً هنا وهناك. وهنا يحضرني أيضاً ما يُنسب لسقراط من قوله: عندما تكون في بلدٍ وترى أنّ ظِلّ الأشخاص قصار القامة أصبح كبيراً، فاعلم أنّ شمس هذه البلاد بدأت بالغروب.
سوف أشرع هنا ـ بحول الله ـ بعرض وجهة نظر القائلين باللغة العرفيّة لا غير، وما يقصدون من هذه الفكرة وما هي أدلّتهم، وسنستقيها من أطراف كلماتهم، ومن ثمّ ننتقل إلى بعض الاتجاهات التي تحاول أن تتحرّر من فكرة اللغة العرفيّة فقط والتقيّد داخل الأنظمة اللغوية، بل ترفض مرجعيّة اللغة وسياقاتها ـ بوصفها الحَكَم الأوّل والأخير ـ في فهم الكتاب الكريم. لكنّ استيعاب البحث مستحيل ضمن هذا المختصر، لهذا سوف نقتصر على بعض الأفكار والتيارات والأدلّة.
المحور الأوّل: نظريّة اللغة العربية، المفهوم، والأدلّة والتبريرات
ندرس هنا في هذا المحور نظريّة اللغة العرفيّة، وذلك ضمن الآتي:
1 ـ اللغة العرفيّة: تعريفها وخصائصها ومكوّناتها
يُقصد باللغة العرفيّة أو العقلائيّة تلك اللغة التي يستخدمها عامّة البشر؛ للتعبير عن مقاصدهم ومراداتهم، ويقولون: إنّ القرآن والسنّة جاءا على وفق اللغة العرفيّة، وهذا معناه أنّهما خاطبا الناسَ باللغة الاجتماعيّة العامة التي يخاطبون بعضهم بعضاً بها، ولم يستخدما لغةً مختلفة أو لغةَ خواصّ؛ فيكون المرجع هو اللغة العربيّة بمنظومتها الهائلة في البيان والتبيين والتفاهم والتفهيم، ما معنى ذلك؟ معنى هذا الأمر مجموعة من الخصائص تبلغ التسعة، وهي:
1 ـ إنّ لغة القرآن لغةٌ مفهومة نوعاً؛ بغض النظر عن غموض بعض الآيات أو فواتح السور مثلاً([2])؛ لأنّ أبرز خواصّ اللغة العرفيّة هو الوضوح في التعبير عن المقاصد، فاللغة جاءت لتوضيح التعبير عن المقاصد، وعدم استخدام الترميز أو المواربة أو التحايل اللساني في إفادة المقصود إلا لضرورة؛ وعليه فهي لا تتكلّم بطريقة لا يفهمها الجمهور.
2 ـ إنّ لغة القرآن عندهم غير ابتكاريّة، وإنّما هي لغة تمّ استنساخها من واقع اللسان البشري، وأعيد تطبيقها على لغة الوحي سواء في الكتاب أم السنّة. من هنا فللتعامل معها يمكن استنساخ نهج التعامل مع لغة البشر العامّة للوصول إلى المراد. فهي لم تأتِ من عدم، وإنما هي نسخة ـ قد تكون مطوّرة، لا إشكال في هذا ـ عن طرائق متعارفة للتعبير بين البشر.
يقول السيّد أبوالقاسم الخوئي: «لاشكّ أنّ النبيّ‘ لم يخترع لنفسه طريقةً خاصّة لإفهام مقاصده، وأنّه كلّم قومه بما ألِفوه من طرائق التفهيم والتكلّم، وأنّه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه وليتدبّروا آياته»([3]).
3 ـ إنّ لغة القرآن ستحظى بقدر من التنوّع في الأسلوب البياني، وأقصد بذلك أنّها سوف تحتوي الحقيقة والمجاز والكناية والاستعارة والتمثيل، إلخ.. لأنّ لغة الناس فيما بينهم تقوم ـ عادةً ـ على هذا التنوّع، فلا تعني اللغة العرفيّة أنّ الألفاظ لا مجاز فيها ولا تشبيه ولا تمثيل ولا صوراً تخيليّة ولا ما يشبه ذلك، بل هذا كلّه موجود، لكن شرط خضوع هذا التنوّع للعنصر الأوّل المتقدّم، ألا وهو عنصر الفهم، بحيث يستخدم القرآن لغةً يريد منها تفهيم شيء لعموم الناس أو بلغة عموم الناس، كما يخضع المجاز أو التمثيل للأنموذج السائد بين الناس والعقلاء، فلا يُستخدم نظام مجازي غير مألوف لهم ولا مفهوم إطلاقاً.
وعلى هذا الأساس، نحن نرفض تعريف اللغة العرفيّة بأنّها اللغة السطحيّة الساذجة، بل نقول: إنّ اللغة العرفية غنيّة بالثراء الدلالي ورفيعة في الأساليب التعبيريّة.
4 ـ لا تعني اللغة العرفيّة أنّ المضمون الذي تحتويه الجمل والكلمات سطحيٌّ، وهذه من الأخطاء الشائعة، بحيث يتصوّر أنّ العرف حيث يتداولون بينهم هذه اللغة؛ لذلك فهي سطحيّة، بل إنّ عرفية اللغة ـ كما أشرنا سابقاً ـ قد تجتمع مع عمق الرسالة التي يحتويها النص، فاللغة العرفية شيء والمحتوى الذي تحمله شيء آخر، فهذان المفهومان منفصلان تماماً. فاللغة العرفية، أي لغة الناس، لا تستدعي سطحيّة المحتوى؛ لعدم وجود تلازم بين الطرفين، فكم من حِكَمٍ عريقة وراقية استخدمت فيها لغة العرف؟! فنحن نتكلّم على النواقل ولا نتكلّم على المنقول، فالمنقول قد يكون عميقاً ومتسامياً، ولكنّ النواقل تكون على قواعد الناس وجمهورهم في التفهيم والتفاهم.
5 ـ عرفيّة اللغة تعني أنّ المخاطَب أو من يمكن أن يكون مخاطباً ـ أوّلاً وبالذات ـ هو عامّة الناس، مقابل لغة النخبة التي تعدّ مخاطبَها هي شريحة أو شرائح خاصّة في المجتمع، وهذا معناه أنّ الله تعالى لم يخاطب الفلاسفة وحدهم ولا العرفاء وحدهم ولا الفقهاء وحدهم ولا علماء الطبيعيّات وحدهم، بل خاطبهم وخاطب غيرهم، أي جمهور الناس، فالمستهدف هو الجمهور، فلا بدّ في أيّ نهج نتّبعه في الفهم أن نأخذ بالحسبان هذا الأمر. وهذا يؤثر كثيراً على ضبط إيقاع هذه اللغة.
6 ـ لا تنحصر اللغة العرفيّة في القرآن بخصوص آيات الأحكام كما قد يُقال أو يتصوّر بعض الناس؛ لأنّ تركيبة القرآن اللغويّة والبيانية لا تختلف بين آيات الأحكام وغيرها، والاختلاف يحتاج إلى دليل يُثبته، لكن لأنّ مدرسة عرفيّة لغة القرآن والسنّة اشتهر بها الفقهاء المسلمون، فيما مدرسة عدم العرفيّة اشتهر بها العرفاء والفلاسفة والباطنيّة وبعض المتكلّمين، فهذا لا يعني أنّ لغة القرآن مقسّمة: الموضوع الفقهي تكون لغته عرفيّة فنتعامل معه بلغة العرف، فيما المواضيع الكلاميّة تحوّل اللغة إلى لغة أخرى. وهذا أمر واقع، فأنتم تجدون هذه الظاهرة في الكتب والمحاضرات، فالباحث يتحرّر في هذا النصّ أكثر من قدرته على ذلك في نصّ آخر، كآيات الأحكام وغيرها. إنّ أنصار اللغة العرفية يقولون: إنّ لغة القرآن واحدة ولا تتغيّر؛ لأنّه قد جرى تصوّر أنّه يمكن التوفيق بين الاتجاهات بالقيام بفرز داخل الآيات يجعل لغة القرآن متنوّعة ملفّقة من لغة عرفيّة وغير عرفيّة.
7 ـ قد يتصوّر أنّه ما دامت لغة العرف قائمة على التساهل والتسامح وعدم الانسجام وغير ذلك، فإنّ معنى عرفيّة لغة القرآن أنّ القرآن سيغدو غير دقيق وغير منسجم وغير مصيب في تعبيره عن الأمور؛ ومثال ذلك: أنّنا في لغة العرف نجد العرف يطلق الكلام ويفهم منه الموجبة الكليّة، مع أنّه يريد الأعمّ الأغلب وإنّما أطلق تساهلاً، يقول: أنا لا أريد لقاء زيد أبداً، مع أنّه قد لا يمانع من لقائه لو اعتذر منه زيدٌ؛ فيتساهل في التعبير. أما إذا قال أحد الفلاسفة: إنه لا يكون معلول من دون العلة أبداً، فالأمر محسوم عنده، وإذا خُرقت هذه القاعدة انهارت الجملة، فالسالبة الكلية تنهار بموجبة جزئية، فطريقة الفيلسوف تختلف والرياضي كذلك، والمهندس، فهذه أنظمة. فنحن في اللغة العرفية نستخدم لغة تساهل وتسامح، قد نطلق شيئاً ونريد شيئاً آخر لا تعطيه العبارة بنفسها. فقد يتصوّر شخص أنّه إذا كانت لغة القرآن بهذه الطريقة فإنّ ذلك يعني فوضى دلاليّة وفقدان ضمان الدلالة فيما ينبئ عن مراد المتكلم واقعاً، والحال أنّ المتكلّم في الكتاب والسنّة هو الله والنبيّ، وهذا لا يليق بهما، فكيف نفترض سهوهم أو خطأهم أو تساهلهم أو.. في إبلاغ الشريعة والدين؟!
لكنّ هذا التساؤل يمكن الجواب عنه بأن عرفيّة اللغة لا تعني ما ذكر، بل تعني أنّ الله دقيق في تعابيره، وفيما يحكيه باللغة القرآنيّة، لكنّ الحكاية عرفيّة، فإذا كانت لغة العرف أنّهم يطلقون ويريدون الأعمّ الأغلب، بصرف النظر عن أنّ منشأ ذلك هو السهو أو التساهل.. فإنّ معنى السير خلف اللغة العرفيّة أنّ المولى يمكنه الإطلاق وإرادة الأعمّ الأغلب، لكن لا يمكنه الإطلاق وإرادة الكلّ؛ لأنّه خلف البيان العرفي؛ لأنّ العرف يفهمون الأعمّ الأغلب، فدلالة الإطلاق على الأعمّ الأغلب دلالة عرفيّة دقيقة وإن كان أساسها الوجودي عند العرف هو تساهلهم، فتساهلهم أدّى إلى تكوّن علاقة دلاليّة بين الدالّ ـ وهو الإطلاق ـ والمدلول، وهو الأعمّ الأغلب، واللغة العرفيّة هو اتّباع لهذه العلاقة؛ وليست بالضرورة اتّباعاً لأساسها الظاهراتي الوجودي، وهو التساهل. وهذا لا يعني أن القرآن غير دقيق في تعابيره، بل على العكس، هو دقيق جدّاً. غاية الأمر أنّ الموجبة الكلية تعطي الأعم الأغلب، والقرآن سيستخدم الموجبة الكلية في الأعم الأغلب، وإذا أراد أوسع من الأعم الأغلب يضيف إشارة دلاليّة في النص.
وعليه، فاللغة العرفيّة اتّباعٌ لنظم العلاقات الدلاليّة التي تكوّنت بين الناس لأيّ سبب من الأسباب، وليست اتّباعاً للأسباب عينها حتى نتورّط في إشكاليّات نحن في غنى عنها.
8 ـ لا تعني اللغة العرفيّة أنّ الوسيلة الوحيدة لفهم كلام المتكلّم هي قواميس اللغة والمراجع الأدبيّة والمعجميّة؛ فهذا اشتباه واضح في فهم نظريّة عرفيّة لغة الدين والنص القرآني، التي تبنّتها الكثير من المدارس النقليّة في التراث الإسلامي. فلا نقصد أنك إذا أردت أن تفسّر القرآن عليك أن ترجع لقواميس اللغة. لا، هذا تبسيطٌ للمشهد، وليس هذا هو اللغة العرفية التي نتكلّم عنها، فهذا خطأ تورّطت به بعض المدارس؛ وذلك أنّ دراسة نظم التفاهم والتعبير بين البشر تؤكّد أنّ عناصر الفهم لا تقوم فقط على الترجمة المعجميّة للكلام الصادر من المتكلّم، بل هي تقبل بكلّ نظم القرائن الحافة المقاليّة والمقاميّة والسياقيّة والحاليّة والزمكانيّة والداخليّة والخارجيّة. فعندما أقول: نظام لغوي عرفي، فأنا لا أقصد أنّي إنسان جامد أتعامل مع النص من خلال المعاجم فقط، كمعجم المقاييس لابن فارس مثلاً، وأبحث عن معنى كلمة هنا أو كلمة هناك، فأقوم بالترجمة الحرفيّة! إنّ القائلين بالنظريّة العرفية يرفضون نسبة ذلك إليهم تماتماً؛ لأنّ اللغة أنظمة متشعّبة وشواهد متنوّعة، وإحدى المعطيات في هذا النظام اللغوي الكبير هي المفردات، والتي تقدّم لي العونَ فيها النصوصُ المعجميّة.
والدليل على هذا يتبيّن عند مراجعة الفقهاء في تفسيرهم للنصوص، فهم لا يقتصرون على مراجعة المعاجم فقط، وإنّما يوظّفون مجموعة من الأجهزة الدلاليّة للوصول إلى المعاني، بل هناك مطالبات صريحة بتنشيط النظم المعِينة، وهي العناصر الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياقيّة لفهم النصوص؛ فالعرف يأخذ ـ كلّ بحسبه ـ هذه العناصر في الفهم، وهذا ما تعترف به الدراسات الدينيّة وغير الدينيّة. فاللغة عيش وحياة.
لهذا يقول أنصار اللغة العرفية: إنّ اتهامنا على أنّنا مجموعة من الحَرْفيين، وأنّنا فقط نغيّر مكان الكلمات، هو اتهام جائر وغير دقيق إطلاقاً، فنحن لدينا فسحة من السياقات والأنظمة وفسحة من الدلالات والمجاز والتشبيه، كما أسلفت، والنظام العرفي مفتوح ليس ضيقاً كما يُتصوّر.
9 ـ لا تعني اللغة العرفيّة أنّ جميع الناس سوف يفهمون كلّ المرادات من النصوص الدينيّة دفعة واحدة، بمجرّد أن يسمعوه، فهذا واحدٌ من الأخطاء الأخرى، التي يرى هؤلاء ـ أصحاب النظريّة العرفيّة ـ أنّ خصومهم لم يفهموهم فيه. فعندما نقول: هناك لغة عرفيّة، فهذا يعني أنّه عندما يأتينا نصّ قرآني يُلقى في مكّة على مرأى ومسمع من قريش، فإنّ قريشاً سوف تفهمه، لكنّنا لا ندّعي ـ والقائلون هم أنصار اللغة العرفيّة ـ أن قريشاً ستفهم كلّ الدلالات، بل قد يكون بعضها بحاجة لبعض الحفر والمقارنة والمقاربة بين الآيات والنصوص، ومع ذلك فالحفر كلّه يخضع لعمليّات لغوية وتحليليّة ليست خارجة عن نطاق الفهم والتفهيم البشري المتعارف، وهذه نقطة سوف نرجع إليها لاحقاً عند الحديث عن موضوع البطون وتعريفات المدرسة العرفيّة الخالصة لفكرة البطون. فعندما أكون إنساناً عرفياً في الفهم، لا تستطيع أن تقول لي بسبب هذا الفهم: إنّ قريش قد فهمت القرآن، وكأنّه لا فرق بين قريش والإمام علي×، أو بين قريش والرسول‘! هذا غير صحيح، هناك فرق! وهذا الفرق لا يعني مثلاً أنّ السيد الخوئي لا يشتغل على قواعد اللغة، ولا يعني أن قريشاً لا تشتغل على قواعد اللغة، بل كلاهما يشتغلان، ولكنّ النص اللغوي حين تخضعه للتحليل تجد مجموعة من الدلالات الإضافيّة عبر قواعد الفهم والتفهيم. هذا هو معنى البطون، وليس ما يرجع إليه ابن عربي فيقول في قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه: 24) بأنّ فرعون هو القلب، فأين اللغة العربيّة هنا؟! هذه البطون تختلف عن بطون محمّد باقر الصدر في "السنن التاريخية في القرآن".
إنّ أنصار اللغة العرفيّة منحازون لفكرة الانفتاح على اكتشاف معطيات دلاليّة في النص، لكنّ هذه المسيرة من الاكتشافات تبقى خاضعة لقواعد التفاهم والتفهيم البشري. والذي أدّى إلى انكشاف طبقة من طبقات النصّ هو الالتفات إلى عناصر لا يُلتفت إليها للوهلة الأولى، فالاستماع لخطاب شخصيّةٍ للمرّة الأولى يجعلك تفهمه، لكن إذا أعدت الاستماع مرّةً ثانية، فإنّك تأخذ معلومات أكثر، وإذا استمعت له مرّة ثالثة، فإنّك تلتف إلى إشارات أكثر، وذلك كلّه ضمن نظام اللغة. وإذا قارنت خطابه هذا بمحاضرته قبل أسبوع فإنّك سوف تلتفت أكثر. فنحن لسنا جامدين عندما نتبع الأنظمة اللغوية العرفيّة، بل نحن منفتحون على خلّاقية تفسيريّة، ما دامت اللغة وأنظمة التعبير البشري والتفهيم والتفاهم البشري تسمح بذلك.
من خلال هذه النقاط، نفهم معنى اللغة العرفية، فاللغة العرفيّة لغةٌ واضحة نوعاً، وغير مبتكَرة، مع إمكانيّة أن تكون متطوّرة، وهي لغة غير جامدة بل منفتحة على أنظمة وأشكال من التعبير، وأشكال من الفهم.
2 ـ أدلّة نظريّة عرفيّة اللغة القرآنيّة والدينيّة
في سياق إثبات نظريّة عرفيّة اللغة القرآنيّة، لا بدّ أن ندرك ـ بدايةً ـ أنّ هذه الأدلةّ مطالبة بأمرين:
أ ـ إثبات أنّ اللغة العرفيّة اعتُمدت في الخطابات الدينيّة، وهذه هي القضية المثبتة والجانب الإيجابي، من النظريّة العرفيّة، أو ما يسمّيه المناطقة بعقد الإيجاب.
ب ـ نفي أيّ لغة أخرى تمّ اعتمادها في النصوص الدينيّة، بمعنى أنّ المتكلّم الديني لم يستخدم لغةً أخرى غير اللغة العرفيّة؛ وهذه هي القضيّة السالبة والجانب النافي من النظريّة العرفيّة، أو ما يسمّيه المناطقة بعقد السلب.
وذلك أنّ لدينا في واقع الحال ثلاث نظريّات محتملة هنا:
النظريّة الأولى: إنّ لغة القرآن ـ ومعه السنّة ـ عرفيّة فقط، ولا تختزن أيّ لغة أخرى. وهذه ذروة النظرية العرفية، وهذه يمكن أن تطيح بركام هائل من التفاسير الموجودة في التراث الإسلامي، بما فيها تفاسير روائية كثيرة عند السنة والشيعة.
النظريّة الثانية: إنّ لغته غير عرفية أساساً، فكلّ ما نراه فهماً عرفياً فيها فلا قيمة له (ولا نستغرب من هذا الطرح). فالقرآن لا يستخدم اللغة، فهذا يخيّل لك، إنّما هناك رموزٌ أخرى.
النظريّة الثالثة: إنّ لغته متنوّعة؛ ففي مستوياتها الدلاليّة الأولى هي لغة عرفيّة؛ لكنّها في مستويات دلالتها الأعمق لغة غير عرفيّة.
وتعدّ النظريّة الثالثة تطويراً وتعديلاً وسطيّاً للنظريّة الثانية.
وعليه، نريد في بحث اللغة العرفيّة أن ندرس هل لغة القرآن لغة عرفيّة مقابل النظريّة الثانية؟ وهل هي لغة عرفيّة فقط مقابل النظريّة الثالثة أو لا؟
وعلى أيّ حال، فأهمّ ما يمكن أن يستند إليه لإثبات نظريّة عرفيّة لغة القرآن هو الآتي:
2 ـ 1 ـ النصوص القرآنيّة بوصفها مكرّساً لنظرية العرفيّة
الدليل الأوّل: الآيات القرآنيّة الدالّة على أنّ القرآن جاء بياناً ونوراً للناس، ولم يأتِ للفلاسفة والمتصوّفة ولفلان وفلان خاصّة، وأبرز هذه الآيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 138)؛ فإنّ هذه الآية تجعل القرآن بياناً للناس، والظاهر من كلمة الناس، جمهور الناس، وهو مطلق البشر، وليس جماعة خاصّة منهم، فكيف يكون بياناً للناس إذا استخدم غير لغة العرف التي هي لغة الناس؟ هل يكون بياناً لو كان رمزيّاً أو لا يفهمه سوى عدد محدود جداً من البشر؟! إنّ ظاهر البيانيّة العامّة، ولا أقلّ لأمّة العرب آنذاك، هو أنّه استخدم طرائق في الكلام يفهمها العرف العربي العام آنذاك أو لا أقلّ يمكنه فهمها بالتأمّل والتدبّر في الآيات، فإذا كانت لغة القرآن رموزاً وطلاسم ويراد منها غير معناها العرفي، لبطل المفاد الدلالي لهذه الآية الكريمة.
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)؛ فهذه الآية ـ وفقاً لما بحثناه مفصّلاً في مباحث حجيّة السنّة ـ يقصد منها أن يبيّن الرسول القرآنَ للناس فلا يكتمه ويخفيه عنهم، فيكون معنى الآية: إنّنا نزّلنا عليك القرآن لكي تقوله للناس؛ لأنّه نزل إليهم، أي للناس، فالعلاقة هي مع عموم الناس، والقرآن نزل لهم وبيّن لهم، فإذا كان يعتمد لغةً غير عرفيّة، ولا يفهمونها، فكيف ينزل إليهم ويبيّن لهم؟!
الآية الثالثة: قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: 27)؛ وقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ..} (الإسراء: 89) ونحوهما الآية 54 من سورة الكهف، والآية 58 من سورة الروم؛ فإنّ هذه الآيات تجعل ضرب الأمثلة في القرآن للناس؛ والهدف من ذلك أن يتذكّروا، ولا معنى ـ عقلائيّاً ـ لضرب مثلٍ للناس كي يتذكّروا إلا إذا فهموا المراد، وحيث إنّ فهم عامّة الناس المراد يكون وفقاً لاستخدام نظام اللغة العرفيّة كان معنى ذلك أنّ القرآن استخدم لغة العرف.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82)، وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمّد: 24)، فإنّ دعوتهم للتدبّر في القرآن في مقام محاججتهم، وهم الكفّار آنذاك، معناه أنّه مما يمكن أن يفهموه، وهذا معناه أنّه يستخدم معهم لغتهم العرفيّة، وإلا فما معنى أمر قريش بالتدبّر في القرآن كي تعرف عدم تناقضه؟! ومثل هذه الآية مجمل ما دلّ على التدبّر والتأمّل في الكتاب الكريم.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)؛ فهذه الآية ـ ومعها أغلب ما دلّ على عربيّة القرآن، مثل: طه: 113، والزمر: 28؛ وفصّلت: 3؛ والشورى: 7، والزخرف:3 ـ معناها ـ أحياناً على الأقلّ ـ الوضوح كما بيّناه في بحث اللفظيّة والمعنويّة في الموحَى القرآني، وهذا يكشف أنّ القرآن نزل واضحاً على نسق لغة القوم الذين نزل فيهم، والآيات في هذا المجال عديدة. فمعناه واضح وليس غامضاً يفهمه فقط الأوحدون من الناس. ويمكن للتوسّع مراجعة كتابي: (مدخل إلى الوحي) حيث تعرّضنا لمفردة عربي، هل تعني اللغة العربية أو تدلّ أحياناً على صفة؟
الآية السادسة: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ..} (إبراهيم: 4)؛ فهذه الآية تقرّر أنّ المبدأ في إرسال الرسل ـ ومنهم نبيّنا محمد ـ أنّ يرسَلوا بلسان قومهم، والعلّة في ذلك هو أن يبيّن لقومه؛ فكيف يمكن أن نتصوّر رسولاً يتكلّم بغير اللغة العرفيّة ـ التي هي لسان القوم ـ هادفاً البيان للناس؟! وإذا لم يكن النظام في الإفهام والتفهيم هو اللغة العرفية فكيف يفهمون عليه؟ فهل هذا ينسجم مع القانون الذي تستعرضه هذه الآية الكريمة؟!
الآية السابعة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159)، بعد تعميم الكتاب لمطلق الوحي النازل. ومثلها الآية 187 من سورة آل عمران.
الآية الثامنة: قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).
الآية التاسعة: قوله تعالى: {.. وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (البقرة: 221)، بعد تعميم الآيات لمثل القرآن.
الآية العاشرة: قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ..} (إبراهيم: 52).
بهذا يتبيّن أنّ النصوص القرآنيّة واضحة في أنّ اللغة العرفيّة ـ لغة الناس ـ هي اللغة المهيمنة على النصّ القرآنيّ، فالقرآن بيان ونور وتبيان وهدى وإلخ.. وهذه كلّها مبادئ تنسجم مع اللغة العرفيّة. وهي لا تخصّ مفكراً هنا ولا فيلسوفاً هناك دون الناس.
هذا الدليل الأوّل يواجه بعضَ المشكلات الأساسيّة، وأبرزها أنّه يستخدم اللغة العرفية في فهم الآيات، حيث يمكن أن يقال لك: إنّ فيه مصادرة على المطلوب ومفارقة، على مستوى بعض الجهات؛ وذلك أنّنا نبحث حاليّاً في قيام القرآن على اللغة العرفيّة، ونريد أن نُثبت ذلك، فكيف جاز لنا أن نبرهن على ذلك بتفسيرٍ عرفي للآيات القرآنيّة؟! فمن الممكن للطرف القائل برمزيّة القرآن رمزيّةً تامّة وغموضه وعدم إرادة ظواهره أن يدّعي أنّ هذه الآيات لا يراد ظاهرها حتى تجعلوها دليلاً على عرفيّة اللغة القرآنيّة، فهذا الدليل إمّا جدلي لمن يسلّم بوجود لغة عرفيّة في القرآن من حيث المبدأ، أو مصادرة على المطلوب، أو هو قائم على دليل من خارج النصّ القرآني. نعم هو ينفع لو أثبتنا من الخارج عرفيّة اللغة القرآنيّة، ثمّ فهمنا من هذه الآيات نفي أيّ لغة أخرى غير اللغة العرفيّة.
2 ـ 2 ـ الإعجاز بمثابة قاعدة تبريريّة لنظريّة العرفيّة
الدليل الثاني: وهو دليل يخرج من الإطار النقلي إلى الإطار العقلي العقلاني، حين يرى أنّه لو لم تكن لغة القرآن لغةً عرفيّة يمكن لعامّة العرب آنذاك أن يفهموها، لما كان هناك معنى للإعجاز اللغوي والبلاغي في القرآن الكريم، ولما كان هناك معنى للتحدّي الذي أطلقه القرآن الكريم في مواجهة المشركين آنذاك؛ وذلك أنّ القرآن لو كان كلاماً غير مفهوم ومجرّد رموز وطلاسم لا تقصد معانيها الظاهريّة، فكيف يمكنه أن يتحدّى العرب بالإتيان بمثله؟! فلو قدّمنا نحن اليوم كلاماً عربياً لا يفهمه العرب ثم تحدّيناهم بمثله لسخروا منّا، وقالوا: إنّ هذا الكلام غير مفهوم ولا معنى له، فلا بدّ من افتراض أنّ النص الذي قدّمه القرآن كان غير مختلف عن النصوص العربيّة من حيث إفادته المعاني ولهذا أخذوه وفهموه، وطولبوا بمثله وأقرّوا بالعجز.
وفي حقيقة الأمر، فإنّ روح هذا الدليل يرجع إلى مساجلات علماء الأصول الشيعة مع علماء التيار الإخباري، وكان أوّل من أطلقه ـ للانتصار لفهم القرآن وأنّه ليس طلاسم ورموزاً ـ الشيخُ جعفر كاشف الغطاء (1228هـ)، ثمّ استخدمه ـ مع تطويرٍ ـ كلّ من المحقّق القمي في "القوانين المحكمة"، وأبو المجد الإصفهاني النجفي، والميرزا الإيرواني، والميرزا موسى التبريزي، والسيد الخوئي، والفاضل اللنكراني وغيرهم([4]).
هذا الدليل يؤكّد عرفيّة اللغة القرآنيّة، لكنّه غير قادر على نفي وجود أجهزة تعبيريّة إضافيّة، كما هو واضح؛ لأنّ إمكان فهم العرب آنذاك للقرآن معناه استخدامه اللغة العقلائيّة العامّة في البيان، لكن كيف ينفي ذلك وجود طرائق بيان إضافيّة اكتنزها القرآن ولم يفهمها العرب؟!
2 ـ 3 ـ الحكمة الإلهيّة العملية بما هي أساس لعرفيّة اللغة القرآنيّة
الدليل الثالث: وهو الدليل الذي يستند على منطق الحكمة العمليّة، وذلك أنّه إذا درسنا الأمر بوصفه ظاهرة تعالج بعيداً عن التأوّلات والمماحكات، سنجد إلهاً يرسلاً نبياً إلى الناس، ومعه كتاب يمثل الحجّة عليهم والسبيل لهدايتهم ورشادهم؛ وهنا يسأل: أيّ حكمة هذه أن يُرسل كتابٌ إلى الناس لا يمكنهم استخدام المنهج العرفي ـ وهو المنهج التفسيري السائد في حياتهم للنصوص، بل لا يسود غيره عند الأمم القديمة التي نزلت الكتب السماويّة في أوساطها ـ لتفسيره وفهمه؛ لأنّه لم يستخدم اللغة العرفيّة؟! إنّ التحليل العقلاني للظواهر يفضي إلى الجزم بأنّ القرآن استخدم اللغة العرفيّة العامّة للوصول إلى مقاصده وأهدافه.
وقد وردت بدايات فكرة هذا الدليل أيضاً في سياق مساجلات مدرستي: الأصولية والإخبارية عند الشيعة، وذلك مع السيد محسن الأعرجي (1227هـ) في مقدمة شرحه لكتاب الحدائق، ليطوّرها بشكل واسع السيد محمّد باقر الصدر والسيد البروجردي والشيخ جوادي آملي وغيرهم([5]).
2 ـ 4 ـ برهان طبائع الأشياء
الدليل الرابع: برهان طبائع الأشياء؛ ونعني به أنّ الحالة الغالبة والسائدة، ولا سيّما في الأزمنة والأوساط التي نزلت فيها الكتب الدينيّة، أنّ الكلام أو الكتاب يأتي على نهج تعامل العقلاء مع أيّ كلام أو نصّ، فإذ تكلّم نبيّ أو أتى بكتاب، فإنّ مقتضى طبيعة الأشياء أن يكون سائراً على نهج سائر المتكلّمين الكاتبين باستخدام اللغة العرفيّة، ولو كان الأمر على عكس ذلك بحيث انتهج نهجاً آخر في البيان، لكان المفترض إعلان ذلك؛ لأنّ هذه حالة غير عادية في الكلام، ولو أعلن أنّ القرآن انتهج سبيلاً لا يمتّ لسبيل لغة العرف بصلة، لتمّ تداول هذا الأمر، ولتمّ السؤال من المسلمين وغيرهم عن المنهج البياني المتّبع في القرآن بوصفه منهجاً استثنائياً؛ ولظهرت الأسئلة والأجوبة حول ذلك.. ونحن لا نملك مثل هذا الأمر، لا سيّما بعد الردّ على من ادّعى اختصاص فهم القرآن بالمعصوم، وقد تحدّثنا عنه في كتابنا "نظريّة السنّة" وسيأتي.
إنّ هذا شاهد أكيد على أنّ الطريقة المستخدمة في القرآن هي عين الطرق التعبيرية التي كان يعرفها العرب، نعم هي درجة عليا منها لكنّها ليست خارجة عنها أو متغايرة أو مباينة لها.
ويقوم هذا الدليل على الركن الذي ذكره السيد محمّد باقر الصدر في أصول الفقه، ليعتمده لإثبات بعض النظريات الأصوليّة مثل نظريّة حجيّة الظهور، وقد طرحه في مباحث السيرة بشكل مفصّل، ونحن وظّفناه هنا على طريقتنا المتناسبة مع طبيعة البحث.
وهذا الدليل أيضاً، أقصى ما يثبت أنّ القرآن الكريم انتهج نهج العرف العام في إفادة مقاصده، لكنه لا ينفي أن يكون القرآن قد سلك ـ إلى جانب هذا السبيل ـ سبيلاً آخر في الإفادة والكشف عن بعض مراداته، بحيث لا تفهم هذه المرادات عبر سبيل التفسير العرفي الذي يستخدمه الناس في فهم كلام بعضهم بعضاً.
2 ـ 5 ـ النصوص الحديثيّة المشرعنة للفهم اللغوي العرفي
الدليل الخامس: إنّ هناك العديد من الروايات التي تدلّ على أنّ أهل البيت النبوي استشهدوا في حواراتهم بظواهر الآيات القرآنيّة، ولو لم يكن الفهم العرفي صحيحاً، ومن ثمّ بناء القرآن على لغة العرف لم يكن معنى لهذا الاستشهاد؛ فهذا دليل نصّي آخر على أنّ القرآن استخدم لغة العرف في إفادة مقاصده. فالإمام مثلاً يقول نمسح بعض الرأس ولا نمسح كل الرأس وذلك لمكان الباء في آية: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} (المائدة: 6)، أي ببعض رؤوسكم.
بهذا ظهر أنّ اللغة العرفيّة القائمة على الطرائق العقلائيّة العامّة في البيان والتبيين وفي الفهم والتفهيم، موجودة في القرآن الكريم، بل بعض آياته ينفي وجود لغة أخرى غير هذه اللغة.
لكنّ الموضوع لا يقف عند هذا الحدّ؛ وذلك أنّ القائلين بوجود لغةٍ أخرى جرى استخدامها في القرآن، يستندون إلى مجموعة من الأدلّة، ويطرحون العديد من وجهات النظر، وبعضهم ينطلق من خلفيّة أيديولوجيّة داخل ـ دينيّة، فيما ينطلق فريق آخر من منطلقات خارج ـ دينية؛ ليُثبت أنّ القرآن يعتمد لغةً تفضي إلى عدم إمكان فهمه بذاته أو بعروض الزمن عليه.
من هنا؛ لا بدّ من استعراض النظريّات الأخرى وأدلّتها، لمقارنتها بهذه النظريّة الأولى، التي اعتمدناها حتى الآن.
المحور الثاني: نظريّة اللغة ما فوق العرفيّة، اتجاهات ومدارس
نقصد بهذه النظرية ـ في تقسيمنا هذا ـ أنّ القرآن الكريم لا يتعاطى في تفهيم مراداته وفقاً للنهج العرفي والعقلائي أو لا يتعاطى وفقاً لهما فقط، بل لديه طريقته الخاصّة أيضاً في نقل مراداته تجعله يختلف عن عامة الطرق العقلائية السائدة في يوميّات البشر في محاوراتهم ومحادثاتهم.
إذن، فهذه النظريّة تنشطر إلى مذهبين:
المذهب الأوّل: ويرى أنّ اللغة العرفيّة العقلائيّة العامة لا وجود لها في القرآن إطلاقاً، وأنّ القرآن ركّب بطريقة لا يمكن فهمها عبر طرائق فهم الناس لكلام بعضهم بعضاً. فيُخيّل إليك أنّ القرآن يتكلم بلغتنا، ولكن في الحقيقة هو يتكلّم بلغةٍ أخرى، وبنواقل أخرى أو بطريقة أخرى. ولا نجد كثيراً ممن يميلون إلى هذا التوجه الذي أُطلقُ عليه "الما فوق عرفية بحدّه الأعلى"، إلا أنّ الغالب هو التوجّه الثاني.
المذهب الثاني: ويرى أنّ القرآن مركّب خاصّ من لغة العرف وغيرها، فقد يمكن فهم بعض آياته أو مستوى دلالي سطحي لآياته عبر منهج الفهم العرفي، لكنّ الدلالات التي يختزنها القرآن الكريم لا تقف عند هذا الحدّ، فينبغي استخدام طريق آخر لفهم الرسالة التي أراد القرآن أن يوصلها إلينا.
وداخل هذا الاتجاه الذي يعطي القرآنَ والكتبَ الدينية خصوصيّةً، نجد آراء ومواقف متداخلة بعض الشيء، نذكر منها ـ على سبيل المثال ـ:
1 ـ الاتجاه الرمزي
وهو اتجاه يقول بأنّ الله تعالى حيث كان غير متناهٍ، وحيث كان القرآن الكريم هو عبارة عن علمه اللامتناهي، فلا يمكن أن تكون دلالات كلامه مؤطّرة داخل نطاق المدلول الحقيقي والمطابقي للكلام، الأمر الذي يجعل النصوص الدينية مفتوحةً على النظام الرمزي، فلا ننظر فيها للمعنى المطابقي للكلام في القرآن، وإنّما لمعانٍ تقع خلف الكلام المنطوق، فنحن هنا نتخطّى الكلام في القرآن لما خلفه، فليس المراد من القرآن ومن الآيات ما تعطيه ظواهرها. وإنّما هناك شيء أعمق بكثير علينا أن نفتّش فيه على طريقة الرموز، وليست على طريقة الكلام العادي، وهذا معناه أنّ طريقة التفسير المباشرة ـ مثل تفسير: قل هو الله أحد بأنّ معناه أنّ الله واحد ـ ليست صحيحةً في التعامل مع هذا النوع من النصوص، فالأفضل استخدام طريقة التفسير المنحنية.
ولطغيان الخيال في الرمزيّة، ولأنّ الابتعاد عن الوضوح يطغى فيها، يصبح الكلام الإلهي عند هذا الفريق سلسلة رموز وإشارات لا تعبّر عن طريقة العقل في الدلالة، ولا عن طريقة تبيين المشاعر المتعارفة. فالقرآن يعتمد الرمزيّة؛ لأنّ طبيعة أفكاره ومعانيه ومقاصده لا تستبين بوضوح الكلام، ولا يقدر واضح الكلام على إيصالها، فيتمّ اللجوء للترميز عبر قوّة تخييل عالية، لتصل عبر ذلك الأفكار بطريقة إيحائيّة خاصّة. إنّ المعاني التي يختزنها القرآن والكتاب الإلهي الذي هو انعكاس لوجود الله سبحانه وتعالى، تنتمي إلى مجالات المطلق اللامتناهي لا يمكن للغة البشريّة المحدودة زمكانيّاً أن تحتوي تلك المعاني المتجلّية في ذلك الكتاب، فتحتاج إلى نوع من الترميز، بخلق صور خياليّة وقصص فرضيّة تحاول أن تشير إلى شيء، وعلينا استنطاق هذه الإشارة الترميزيّة لفهم المقصود لنهتدي، فتتأمل أنت لترى ما هي الألغاز الكامنة خلف هذه الإشارات؟ بدل الذهاب خلف الدلالة المباشرة للكلمة التي تعتمد اللغة مرجعاً لها، تماماً مثل تعبير النحّات أو الرسام عن أزمة نفسيّة عميقة يعيشها المجتمع عبر تقديم رسم خاصّ، وعليك أنت أن تأخذ الإشارات التي يرسلها من خلال هذه الصورة، فتغوص فيها وتفتح لك الطريق لتهتدي إلى الأفكار التي لا تستطيع التعابيرالعادية أن توضحها.
ولتشبيه الموقف فقط ننظر في الأمثلة الشعبيّة التي تُضرب في كلّ مجتمع، فلا يمكنك أن تقرأها بطريقة اللغة، فإنّه لا يستخدم معها أسلوب التفسير المطابقي المباشر، فإذا قال شخص: فلان كناقل التمر إلى هجر، وفلا يصحّ أن نجلس ونتدارس ظاهرة نقل التمر إلى هجر، إنّما هذه إشارة نأخذها مثلاً ومعبراً لمعنى خلفها لا يتطابق أبداً مع مدلولها المطابقي، ونريد بها فكرة أخرى لا علاقة لها بالتمر ولا بهجر ولا بالناقل ولا بالنقل. إنّما هو تعبير عن الشخص الذي يبذل جهداً عبثياً لتحصيل أمرٍ حاصل أو يقدّم خدمةً لمن لا يحتاجها أو غير ذلك، فنحن هنا أخذنا الجُمل جسراً عبرناه، ثم شرعنا بالتفسير بعد عبور الجسر، ولم نقف على الجسر لنفسّر الكلام عليه.
دعونا نقول: إنه وفقاً لهذه النظريّة سوف تكون كلمات وجمل الكتب الدينية ـ مثل القرآن الكريم ـ أشبه بالأمثلة الشعبيّة التي تضرب بين الشعوب، لتحكي عن معانٍ كامنة خلف الكلام لا فيه، وبعده لا عنده. فكلّ الجهود التي بذلت في تفسير المدلول المطابقي للكلام كانت خطأ كبيراً؛ لأنها قاست كلام الله بكلام الناس والعرف وعامة العقلاء، فوقعت فيما وقعت فيه من أخطاء.
لقد جاءت هذه النظريّة في الغرب ـ نظريّة اللغة الدينية الرمزيّة ـ على يد اللاهوتي الألماني والفيلسوف الوجودي بول تيليش (1965م)، ويبدو أنّها كانت قد ولدت من مناخ تطوّر دراسات اللغة والأدب ـ حيث ولدت الرمزيّة في فرنسا وغيرها في القرن التاسع عشر ـ لتحلّ مشكلة تناقض الكتاب المقدّس مع الواقع المتجلّي فيما يحكيه العلم والفلسفة والتاريخ، وذلك أنّنا بنظريّة الرمزيّة هذه نقدر على تخطّي المدلول المطابقي الذي يحوي معطيات لا تتواءم مع تطوّر العقل الإنساني وعلومه. من هنا نستعين بدراسات اللغة والأدب حيث نجد أنواعاً من البيانات الأدبيّة الهادفة التي لا يقصد أصحابها حرفيّاً المدلول المطابقي، بل يكمن قصدهم في بقعة خلفيّة تقف خلف الأحرف والكلمات البادية لنا، وبهذه الطريقة تحلّ عقدة الدين والعلم والحياة.
وفي سياق النظريّة الرمزية في المجال الديني ظهر ما عرف بنفي اللغة الوصفيّة عن الكتب المقدّسة، فهذه الكتب لا تصف واقعاً وإنما تحكي قيماً أخلاقية وإنسانيّة رفيعة، فليست الكتب المقدّسة لغة واقع ولا لغة وقائع حتى نطابقها مع هذا الواقع أو مع تلك الوقائع التاريخيّة وغيرها، وإنّما لغة إرشاد أخلاقي تهدف إلى توجيه وصايا وتعاليم لا معلومات وإخبارات.
ولكي نشبّه لغة الكتب الدينية نأخذ عملاً مسرحيّاً أو قصصيّاً أو سينمائيّاً ونتأمّل فيه؛ فإنّ الحكاية التي فيه لا تعبّر عن واقع حصل حتى نبحث في التاريخ أو الجغرافيا عنه، ونقوم بمطابقته لنكتشف الصدق من الكذب؛ وإنّما هو فَرْض صورةٍ ما وقصّةٍ ما بهدف تربوي لإيصال رسالة أخلاقيّة للقارئ أو السامع أو المشاهد.. إنّ الكتب المقدّسة على هذا المنوال تماماً، وهذا ما فتح الباب على نظريّة التمثيل والتخيّل في القصص الديني، وأنّه لا يوجد لا موسى ولا نوح ولا عيسى ولا إبراهيم وإنما قصص تربويّة يقدّمها الخيال الخصب لغرض دعوي وديني وأخلاقي.
من هنا وجدنا في الدراسات الإسلاميّة في القرن العشرين أيضاً حديثاً عن تخيّلية بعض القصص القرآني وفقاً لهذا اللون من الفهم للغة القرآن، مثل ما طرحه محمد خلف الله.
وهذا ما فتح الباب أيضاً على نظرية اللغة الأسطوريّة في الدين، بمعنى أنّ النصوص الدينيّة تقوم على المخيال الشعوبي القديم فيتمكّن من توظيف هذا المخيال والتصورات لأغراض دينيّة، الأمر الذي يفسّر تشابه هذه النصوص مع ثقافات قديمة بليت وانتهت، فعندما يصف القرآن الكريم من يأكل الربا بأنّه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ..} (البقرة:275)، فهو يجاري ثقافة العرب آنذاك والتي كانت تعتقد بأنّ المجنون ممسوس من قبل الشيطان لهذا كان مجنوناً، إنّ أسطوريّة النصوص الدينية بهذا المعنى يحوّلها إلى نصوص رمزيّة بامتياز، وهذا ما أراده الفيلسوف الألماني آرسنت كاسيرر (1945م) أحد رموز الكانطيّة الجديدة، الذي روّج لنظريّة اللغة الأسطوريّة في الدين، ثمّ أخذت هذه النظريّة بالرواج لاحقاً في الداخل الإسلامي.
إنّ فكرة اللغة الرمزيّة أو الأسطورية ـ على مساحاتها وامتداداتها ـ تركت أثراً في رفع خاصية المدلول المطابقي تارةً، والدلالة التوصيفيّة أخرى، والحكاية الأبديّة ثالثة.. أي عليك أن تبحث ما وراء النص، فالنص ليس سوى معبر لكي تتأمّل أنت وتغوص في ما وراء النص، هو إشارة تأتيك وعليك أنت أن تلاحق الإشارة وتصل إلى الهداية.
2 ـ الاتجاه الباطني التأويلي
يميل هذا الاتجاه في بعض أشكاله إلى ما يشبه الرمزيّة والترميز، كما عند بعض باطنيّة الإسماعيليّة الذين كانوا يعتقدون ـ فيما يُنسب إليهم ـ بأنّ الألفاظ الواردة في القرآن لا تُحمل على معانيها، وإنّما الكثير من الكلمات ما هي إلا رجال، فالصلاة رجل، والصوم رجل، والحج رجل، وكذلك الزنى وقتل النفس المحترمة، إما أهل البيت عليهم السلام أو خصومهم.
على خطٍّ آخر كانت بعض الاتجاهات التأويليّة الأخرى ترى أنّ الألفاظ لا تمثل سوى الطريق للمعاني الظاهريّة فقط، وأنّ هناك معانٍ باطنيّة أعمق لا تُدرك بالألفاظ، كما يرى العديد من المتصوفة والعرفاء في كيفية إدراك المعاني الباطنية للقرآن الكريم، بأنّها لا تُدرك بالألفاظ، فمهما حاولت أن تشقق هذه الألفاظ لا تستطيع أن تولد لك هذه المعاني العميقة المتعالية عن الزمان والمكان، والتي لا يدركها إلا السالك الواصل. فكيف ندركها إذاً؟
ندركها بالسلوك الروحي إلى الله تعالى؛ لأنّ القرآن ـ في المدرسة التأويليّة العرفانيّة ـ ليس إلا العلم الإلهي، وهذا العلم الإلهي يتنزّل في رتب الوجود. إنّهم يقولون: إنّ هناك نسخة من القرآن في عالم المجرّدات، وهناك نسخة أخرى في عالم المثال، وهناك نسخة في عالم المادة، وهي هذه التي بين أيدينا، نراها في الكتب أو نسمعها بآذاننا. ففهم القرآن بما هو موجود في الكتب يعطيك مستوى من القرآن الكريم، ولكي تفهم المستوى الأعلى من القرآن الكريم، عليك بترك اللغة، فهي شغل العاجز، وفهم القرآن الكريم بحقيقته وروحه لا يكون بلغة الألفاظ التي يفهمها العرف، بل بلغة العروج والشهود لكي تواجه القرآن في وجوده الأعلى، تلك هي اللغة العميقة للقرآن الكريم، التي تكشف عن خفايا، لا يمكن للكلام البشري هذا الذي تجلّت فيه المعرفة الإلهية أو العلم الإلهي المسمّى بالقرآن عبر نصوص لفظيّة، أن يكشفها، حتى قالت بعض الروايات التي يرويها الشيخ الصدوق عن الإمام علي في تفسير حروف الهجاء نفسها: «وما من حرف إلا وهو اسم من أسماء الله عز وجل»([6]). وكأنّ هذه الحروف تصبح مجرّد رموز عليك أن تعبر إلى ما وراءها، وإلا فهذه الحروف لا علاقة لها بأسماء الله عزّوجل. من هنا اعتقد أمثال الغزالي وابن عربي بالخصوص بأنّ تحت كلّ حرف في القرآن علمٌ، فالعلوم القرآنيّة لا تتناهى. فكيف يمكن لهذه اللغة البشريّة أن تستوعب كلّ العلوم هذه؟! وكيف للغةٍ إنسانيّة أن تستوعب العلم الإلهي؟! لأنّ اللغة الإنسانية نتيجة العقل الإنساني، وهذا العقل محدود بإطار الزمان والمكان.
من هنا، ظهرت فكرة مهمّة في الداخل الإسلامي تبرّر هذا التصوير الجديد، كالتفسير الباطني كالإسماعيلي والمغالي، أو التفسير التأويلي العرفاني والصوفي، وهي فكرة تعدّ أحد الأعمدة المهمة التي بُنيت عليها هذه التصورات، وهي فكرة أنّ للقرآن له ظاهراً وباطناً، فهم يقولون: نحن نقبل منك أن تفسّر القرآن بالظاهر، لكن لن نقبل أن تجعل الظاهرَ هو المعيار والحكم النهائي، فالذي يضرب بمطرقته على الطاولة ويحدّد للصوفي والعارف، أو يحدّد للباطني الإسماعيلي أو المغالي وغيرهم، يحدّد لهم التفسير الحقيقي، ليس هو الظواهر التي لا تعطي إلا تفسيراً ظاهريّاً للقرآن، فإنّ هذه الظواهر تُعرف بالألفاظ ولغة العرف والعامّة من الناس، أمّا بطون القرآن فلا تدرك سوى بلغة ما فوق عرفيّة تزداد تعقيداً كلّما صارت البطون أعمق وأخفى وأبطن.
وهنا اختُلف مرّة أخرى في أنّ البطون هل يتمّ العبور إليها من خلال الظهورات اللفظيّة أو من طريق آخر؟ بمعنى أنّ هذه البطون هي بطون لتلك الظهورات فلا بدّ للوصول إليها من المرور بالظهورات والتأمّل فيها للانتقال منها إلى تلك البطون أو أنّ للبطون طريقاً آخر مختلفاً تماماً، هو مطالعة النسخ القرآنيّة الأكثر أصالةً في عوالم المثال والعقل وإلخ.. كما بيّنا ذلك سابقاً؟
مال كثير من أنصار الاتجاه الباطني الصوفي إلى أنّ الوصول إلى بطون القرآن لا يشترط أن يمرّ عبر الظهورات، لكنّ الغالبيّة في الوسط الإسلامي ممن آمن بفكرة البطون ـ ولو من غير التيار الصوفي ـ ظلّوا يربطون ـ بشكلٍ أو بآخر ـ بين اللفظ والمعنى الباطني، ولهذا ظهرت بينهم فكرة الدلالات الالتزاميّة الطوليّة التي سوف نشير لها لاحقاً بإذن الله.
3 ـ الاتجاه الإخباري النصّي
يرى هذا الاتجاه الحجاضر بين بعض الإخباريّين، وعلى رأسهم الشيخ محمد أمين الاسترأبادي، أنّ القرآن الكريم يمكن فهمه، لا بالمباشرة، أي إنّك لا تستطيع أن تفهمه أنت بعلاقة ثنائية بينك وبينه، فلا وجود لخطّ مستقيم ينطلق منك وينتهي بالقرآن، فتستنتج أنت من خلال هذا الخطّ ما يريده القرآن الكريم. بل العلاقة هي علاقة مثلّث، بمعنى أنّك تفهم القرآن الكريم، من خلال وسيط، وهذا الوسيط هو الذي لديه القدرة على الاتصال المباشر بالقرآن الكريم وفهمه؛ لأنّ لغة القرآن ومضامينه ووقائعيّاته معقّدة وسامية، لا يتسنّى التعامل معه بهذه اللغة العرفيّة.
وبناء عليه، كان هناك أشخاص خاصّون يمكنهم إدراك مراد الله تعالى في القرآن الكريم، وهم النبي وأهل بيته خاصة، لا يُتعالى عنهم. لهذا يُفترض لفهم القرآن أن لا نرجع مباشرةً إليه، حتى أنّ بعض هؤلاء رفضوا الدلالات النصية للقرآن، والتي هي في العادة دلالات واضحة قطعيّة، فاعتبروا أنّه لا قيمة لها، متخطّين حصر الإشكاليّة بالظهورات التي هي بطبعها ظنيّة بحسب تعريفهم، وإن كان بعضٌ آخر منهم فصّل؛ فوافق على الدلالات النصيّة دون غيرها. ولذلك، لا بدّ ـ حتى أفهم القرآن ـ أن أستعين بالتفسير الأثري لأهل البيت القادرين على فهم القرآن وإدراك لغته.
وقد استدلّ هؤلاء الإخباريّون بالعديد من الأدلّة هنا من نوع:
أ ـ إنّ التمسك بكلام أهل البيت لا نقاش فيه، أمّا بغيره ـ من القرآن وأمثاله ـ فهو محلّ نقاش، كما قال الاسترآبادي، فأنت لا يمكنك الرجوع حتى للنبيّ في التفسير، ولا إلى رواياته في هذا المجال؛ لأسباب متعدّدة متشابكة، بل المرجع الوحيد في الفهم هي نصوص أهل البيت، غير النبيّ وغير القرآن، فهي التي تُفهمنا نصوصَ النبيّ وكذلك نصوص القرآن. إنّ هؤلاء يرون أنّ الرجوع إلى أهل البيت أمرٌ متّفق عليه، فيما الرجوع إلى القرآن مسألة خلافيّة، فنرجع إلى ما هو متّفق عليه.
ب ـ إنّ التمسّك بغير كلام أهل البيت يفضي للنزاع والشكّ، بخلاف التمسّك بكلامهم.
ج ـ النصوص الروائيّة والتي منها النصوص التي تفسّر أهل الذكر في القرآن بأهل البيت، وأنّ علينا أن نسألهم، وكذلك حديث الثقلين الذي يفيد عدم إمكان الأخذ بالقرآن دون الأخذ بأهل البيت؛ لأنّهما معاً، وكذلك الروايات التي تدلّ على أنّه لا يعلم القرآن كلّه إلا أهل البيت، وأنّهم الذين نزل فيهم القرآن، وأنّهم الراسخون في العلم، وأنّه لا يعلم القرآن إلا من خوطب به، وأنّ أهل البيت هم الذين خوطبوا به.
وغيرها من الأدلّة التي تجعل القرآن أشبه بالأمر الغامض الذي يجب أن نبتعد عن محاولة فهمه، إذ هو خارج إطار تداولنا اللغوي، وخارج إطار نشاطاتنا اللغويّة التفسيريّة. فعلاقتنا فقط بأهل البيت، وعلاقتهم هم بالقرآن، وبهذا آخذ المعنى القرآني فيكتمل المثلّث. وهذا الموضوع وقعت فيه معركة رأي كبيرة بين الأصوليّين والإخباريّين خلال القرون الأربعة الأخيرة.
إنّ النظرية الأثريّة الإخباريّة قد تلتقي بعض الشيء ـ في بعض أصولها المعرفيّة ـ مع الاتجاهات الباطنيّة؛ ذلك أنّها ترى أنّ اللغة العرفيّة، ومن ثمّ نهج التعامل العرفي مع القرآن، لا يكفي، بل قد يوقع في أخطاء، فلا بدّ من سلوك سبيلٍ آخر لإدراك حقائق القرآن، مع فارق أنّ الاتجاهات الصوفيّة ترى إمكانيّة فهم مرادات القرآن من خلال السلوك الروحي لأيّ إنسان، أمّا الاتجاه الإخباري فيحصر هذا الاطلاع بالنبيّ وأهل بيته.
إنّ هذا الاتجاه الإخباري لديه مشكلتان: إمكان التفسير وشرعيّة التفسير. فأولاً لا نستطيع تفسير القرآن من خلال استخدام اللغة. وثانياً، حتى لو أمكنني التفسير، فأنا غير مجاز شرعاً بذلك؛ لأنّ هذا هو نفسه عندهم التفسيرُ بالرأي، فقد استدلّوا بروايات التفسير بالرأي لكي ينهوا الناس عن إمكان أن يعتمد المفسّر مباشرةً على اجتهاداته المبنيّة أو الآتية من فهمه للغة. فهنا أنا أمام معضلة إمكان التفسير، وهذه تجعل القرآن خارج إطار النشاط اللغوي البشري الذي أشتغل عليه مع أي نص ثانٍ. ومن جهة أخرى، وحتى لو تخطيت المشكلة الأولى، أنا أمام مشكلة حجيّة التفسير وشرعيّته، فأنت غير مشروع لك أن تفسّر.
لذلك كلّه رأينا خلال قرنين من العصر الإخباري ـ الحادي عشر والثاني عشر الهجريّين ـ أنّ أغلب الكتب التفسيريّة الروائيّة الكبرى ظهرت فيهما. وأغلب الكتب التفسيريّة عند الشيعة الإماميّة في هذين القرنين كانت روائية، وقد ذكرتُ هذا في إحصائيّة قدّمتها في كتابي "نظرية السُّنة في الفكر الإمامي الشيعي"، وذلك عندما عالجت الحقبة الإخباريّة وتطوّر نظريّة السنّة فيها. هذا كلّه لأنّ هؤلاء لا يتركون مجالاً لفهم القرآن إلا من خلال النصّ الحديثي عن أهل البيت النبويّ.
يلتقي الاتجاه الإخباري من ناحية أخرى مع فريق في الاتجاه التاريخاني اليوم، والذي برز فيه أمثال الدكتور محمّد أركون؛ لأنّ الخطاب القرآني عند هؤلاء عسيرٌ على الفهم، ليس لكونه لا يعتمد اللغة العربيّة العرفيّة؛ بل لأنّ القرآن ذو بُنية خطابيّة، والبنية الخطابيّة رهينة للقرائن المحيطة زمكانياً، وبذهاب هذه القرائن تضيع الدلالات؛ فإذا كان تركيب القرآن تركيباً بلاغيّاً يعتمد أساليب المجاز ونحوها، فسوف تضيع الدلالات بشكل أكبر بذهاب الشواهد التاريخيّة الحافّة، فيصلني القرآن ناقصاً، فلو أردت أن أحلّل ـ بفهم محمد أركون ـ فالقرآن محرّف، ليس بسبب نقص الكلمات، بل لأنّ القرآن خطاب، والعرب لا تعرف اللغة التدوينيّة، إنّما تعرف الثقافة الشفويّة. والخطاب ليس مجرّد كلمات، لكن ما وصلنا كان مجرّد كلمات، وبهذا كان القرآن ناقصاً عندهم، لا نقص كلمات، وإنّما نقصٌ من نوع آخر.
ووجه الالتقاء أنّ الإخباريّين طرحوا تبريرات عديدة لنظريّتهم في حصر فهم القرآن بأهل البيت، وكان من جملتها تبريرات عقلانيّة غير نصيّة، مثل قولهم: إنّ القرآن فيه ناسخ ومنسوخ وعام وخاص، وكلّها ملابسات لا يستطيع أن يدركها إلا المعصوم؛ لأنّنا اليوم لا نملك معطيات تاريخية حاسمة في هذا المجال، وإنّما محض ظنون.
4 ـ اتجاه اللغة التركيبيّة
يعتقد أنصار هذا الاتجاه أنّ اللغة القرآنيّة ليست ـ بالضرورة ـ لغةً من نوع واحد، بل هو تلفيق وتركيب من تنوّع لغوي، فالقرآن يعتمد تارةً اللغة العرفيّة، وفي مواضع أخرى يعتمد اللغة الرمزيّة، تماماً كما يعتمد تارةً على الحقيقة وأخرى على المجاز والكناية والاستعارة. وقد انتصر لهذا الاتجاه الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي (2021م)([7])، وكذلك الدكتور محمد لغنهاوزن([8])، في بعض كلماتهما.
هذا يعني أنّ القرآن يضعنا أمام تنوّع في الأسلوب، وقد يخضع تقويمنا لهذا التنوّع لطبيعة الموضوع الذي يتحدّث عنه القرآن، فإذا تحدّث في الأسماء والصفات الإلهيّة أو في حقيقة المبدأ والمعاد ربما يكون مجال اللغة الرمزيّة مفتوحاً؛ على خلاف ما لو كان حديثه في الفقه والقانون والسلم والحرب وإدارة المجتمع، فإنّنا نستخدم معه منهج الفهم العرفي؛ لأنّ لغته في هذه الحال لغة عرفيّة بالطبيعة.
وربما يكون التنويع قائماً على أساس طبيعة التركيب اللفظي، ففي بعض التراكيب لا نجد سوى لغةً عرفيّة مثل: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ..} (الأنعام: 72)، فيما بعض التراكيب تعطينا إيحاءً بأنّ اللغة تختزن ترميزاً، مثل قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21)، وهذا معناه أنّ معيار التمييز بين المواضع التي استخدم فيها القرآن لغةً عرفية أو لغةً رمزية، يقوم تارةً على المضمون الذي تحكي عنه الآيات، وثانية على الأداء التعبيري الذي تقدّمه لنا هذه الآيات الكريمة. وهنا يجب على المفسّر أن لا يشتغل بطريقة الفهم العرفي؛ لأنّه سيقع في خطأ.
وربما تكون هذه النظريّة هي التي يختارها السيد روح الله الخميني (1989م)، ففي كتابه "كشف الأسرار" يذهب إلى أنّ بعض علوم القرآن والحديث عبارة عن رموز خاصّة بين الله تعالى وبين جماعة خاصّة من الناس([9]). إنّ هذا الكلام كأنّه يوحي ـ في أحد تفسيراته المحتَمَلَة ـ أنّ بعض الآيات والروايات فيها هذا المعنى. ولعلّه يشير بذلك إلى ما جاء في بعض النصوص الحديثيّة من أنّ بعض الآيات والسور نزلت لأشخاص خاصّين متعمّقين في آخر الزمان، كما في مثل خبر عاصم بن حميد، قال: سُئل عليّ بن الحسين× عن التوحيد فقال: «إنّ الله عزّ وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل الله تعالى قل هو الله أحد والآيات من سورة الحديد، إلى قوله: وهو عليم بذات الصدور، فمن رام وراء ذلك فقد هلك»([10]). وكأنّ هذ الآيات المذكورة هي لبعض الخواص والمتعمقين ليس إلا. فبرأيه هناك لغة خاصّة رمزية بين جماعات خاصّة وبين الله، هم يلتقطون الإشارات الموجودة في النص ـ وليست إشارات لغويّة ـ تفتح لهم الطريق ويعبُرون من خلالها.
5 ـ اتجاه اللغة الخاصّة
يرى أنصار هذا الاتجاه أنّ القرآن يختلف عن تمام ما تقدّم، بل له لغته الخاصّة التي تميّزه عن سائر اللغات؛ نظراً لإلهيّته وسماويّته واحتوائه على معلومات غيبيّة وغير ذلك.
ويبدو أنّ الشيخ محمد هادي معرفت والشيخ مهدي الهادوي الطهراني([11]) يميلان إلى هذه النظريّة، وأنّ للقرآن لغته الخاصّة التي لا تشبه أيّ لغة أخرى، بما في ذلك اللغات العامّة والخاصّة.
ولعلّ الذي دفع هذا الفريق لتبنّي نظريّةٍ من هذا النوع؛ أنّه وجد تنوّعاً في القرآن، فتارةً يستفيد منه العرفيُّ بطرائق فهمه، وأخرى يفهم منه الفيلسوف معانٍ عميقة جداً. ولا يمكن للغةٍ نعرفها أن تحوي البسيط والمعقّد معاً، الظاهر والباطن معاً؛ وتلبّي كلّ الحاجات الدينيّة المعرفيّة على الامتداد الزمني والمكاني، بحيث يرى فيها الفيلسوف الفلسفةَ وأفكارها السامية، ويرى فيها الأديب بغيته، والفقيه مطلوبه، وعالم الاجتماع ما لديه، إلخ.. إلا لغة خاصّة قامت على بُنية خاصّة تختلف عن الجميع.
ومن الممكن أن يكون هذا الاتجاه الذي يعتقد بلغة خاصّة للقرآن الكريم بهذا المعنى، تعبيراً آخر عن الاتجاه التلفيقي؛ لأنّ الطرفين ـ على ما يبدو ـ أحسّا بأنّ هناك تنوّعاً جعل كلّ فريق يفهم مستواه في القرآن، وربما يختلفان من حيث المنطلقات؛ فقضيّة سماوية وغيبيّة القرآن قد تشكّل أساساً أنطولوجياً وايبتسمولوجياً معاً لافتراض حمل لغة خاصّة له؛ وذلك أنّ لغة البشر وليدة الزمان والمكان ولا يمكنها أن تحمل أو تنقل المتعالي عن الزمان والمكان؛ لهذا نفرض أنّ النصوص المقدّسة العليا كالقرآن لا يمكن حمل ما فيها إلا عبر لغة متعاليّة أيضاً لديها إمكانات حمل مثل هذه المفاهيم؛ فهذا أشبه شيء بما يتداوله باحثوا اللغات وفلسفاتها من أنّ بعض اللغات علميّة، وبعضها غير علمي، وإنّما هو لاهوتي، كما قيل عن اللغة العربيّة بأنّها لغة لاهوتيّة غير قادرة على حمل المفاهيم العلميّة العلمانيّة.
الأمر عينه يمكن أن نطبّقه هنا، وإذا كان هذا هو المنطلق لافتراض وجود لغة خاصة في القرآن، فإن هذا المنطلق يقوم بدوره على فرضيّة مسبقة تفرض أنّ المحتويات التي اشتملها القرآن الكريم متعالية عن العقل البشري، وإلا فإذا فرضنا أنّها ليست كذلك، وإنّما يمكن أن تقع تحت نطاق الوعي العقلي، فإنّ الحاجة إلى فرض لغة خاصة تكون منتفيةً؛ فبتحليل هذه النظريّة نجد ارتباطاً عضويّاً بينها وبين نظريّة البطون، وكذلك إلى حدّ ما نظريّة جمع القرآن لعلوم كثيرة جدّاً وربما لا تحصى، فإنّ مثل هذه النظرية تشكّل الأساس المعرفي لولادة فكرة اللغة الخاصّة القادرة على حمل المعاني العميقة جداً أو اللامتناهية أو الكثيرة إلى حدّ لا تقدر لغة الإنسان على استيعاب هذا القدر من المعاني أو هذا النوع من المعاني في داخل هذا الحجم القليل من الكلمات، وربما يكون هذا أحد مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم.
لكن مع هذا كلّه، نجد إمكانيّة وجود تقارب بين النظريّتين الأخيرتين، بحيث يمكن الأخذ بنظريّة اللغة الخاصّة والجمع بينها وبين اللغة العرفيّة، فمن جهة يمكن أن يكون القرآن عرفياً في إفادة مراداته، ومن جهة ثانية يشتمل على خاصيات تجعله يتعالى عن سطحيّة اللغة العرفيّة، وهذا ما نجده في نظريّة العلامة الطباطبائي؛ حيث يذهب إلى عرفيّة البناء اللفظي القرآني في مواضع عديدة من تفسير الميزان([12])؛ دون أن يغفل في الوقت عينه تعاليَ القرآن عن الوعي العام والذهن العرفي العام.
وقد استند العلامة في ذلك إلى توليفة من العناصر الدالّة، مثل اشتمال القرآن على حقائق متعالية عن الحسّ والمادّة بحيث لا يمكن صهرها في قالب الألفاظ والبيان العقلائي، وإنّما قامت إرادة السماء على وضع مؤشرات لها في النصوص اللفظيّة([13]) وكذلك كون القرآن مجرداً بسيطاً في مرحلة الغيب قبل التنزّل المادي. ولهذا نجده يستخدم في القضايا المتعالية على فهم آحاد الناس أسلوب التمثيل([14])، من هنا يرفض العلامة الطباطبائي قياس القرآن بكلام الناس والتعامل معه كما يتم التعامل مع البيانات العرفية المتساهلة الواقعة فيما بين الناس([15])، وعلى هذا الأساس كان نهج تفسير القرآن بالقرآن خير نهج للوصول إلى فهم أفضل للقرآن الكريم، وبهذا يكون العلامة الطباطبائي قد جمع بين اللغة العرفية وما فوق العرفية، ولا سيما مع اعتقاده ببطون القرآن ونفوذ الرمزيّة إلى بعض آياته، مثل ـ احتمالاً ـ قصّة آدم والهبوط من الجنّة، وقصّة مخاطبة الله الأرض والسماء أن تأتيا طوعاً، إلى جانب احتمالات من هذا النوع يطرحها في مواضع أخرى، مع رفضه اللغة الأسطوريّة في سياق ردّه على بعض نظريّات صاحب المنار([16]) من أنّ في القرآن لغة أسطوريّة.
كانت هذه أبرز الاتجاهات التي وجدنا عندها اعتقاداً بوجود لغة غير عرفيّة في القرآن الكريم، إمّا من إنكار اللغة العرفيّة، أو مع الاعتراف بوجودها والحديث عن لغة أخرى أيضاً إلى جانبها.
وعلى أيّ حال، يجب أن ندرس مبرّرات فرضيّة وجود لغة غير عرفيّة، ولماذا ظهرت هذه الفكرة في التراث الديني؟ وهل كانت منطلقاتها داخل ـ دينية، أو خارج ـ دينية، أو مزيجاً منهما معاً؟ هذا ما سنتعرّف عليه ـ إن شاء الله ـ من خلال تحليل نظريّة بطون القرآن الكريم.
المحور الثالث: نظريّة بطون القرآن، دراسة وتحليل
حازت نظرية بطون القرآن الكريم عبر التاريخ على أهميّةٍ كبيرة في الوعي واللاوعي الإسلاميّين، وشكّلت منطلقاً لمشاريع فكريّة كبرى. وتأخذ هذه النظريّة أهميّتها ـ عادةً ـ في سياق افتراض بناء الخطاب القرآني على لغة غير عرفيّة، سواء انضمّت إليها اللغة العرفية العقلائية أم انفرد النصّ القرآني بلغة غير عقلائيّة ولا عرفيّة، أي لغة ما فوق الاثنين معاً.
تترك نظريّة البطون تأثيراً أيضاً على علاقة القرآن الكريم بالحديث الشريف، فإنّ في الروايات والأحاديث الكثير من الكلام في القرآن بطريقة التفسير الباطني الذي قد يكون غير مألوف في أحيان كثيرة، وهذا ما يجعل فتح أفق البطون بمعانيها المتعدّدة مؤثراً على الموقف من هذه الأحاديث المتداولة في كتب المسلمين.
ولكي ندرس هذه النظرية، نتعرّض ـ أولاً ـ لأدلّتها ومستندها بوصفها مبدءاً، وهل حقّاً هناك ما يُثبت وجود بطون للقرآن تتناهى أو لا تتناهى بصرف النظر عن الهوية التفصيليّة لهذه البطون؟ ثم ننطلق ـ ثانياً ـ لتحليلها ونطرح أبرز النظريات في تفسير البطن القرآني على تقدير وجوده، فالبحث يقع في مرحلتين:
المرحلة الأولى: مستندات نظريّة البطون القرآنية
تتعدّد المستندات الأساسية لنظريّة البطون القرآنية، فبعضها عقليّ عقلاني، وبعضها الآخر نصّي يرجع إلى مجموعة من الأدلّة النقلية. ونعرض سريعاً للأدلّة العقلية العقلانية؛ لأنّ قسماً منها يرجع إلى موضوعات تعرّضنا لها في محلّه بالتفصيل، ثم نجعل التركيز على المعطيات النقليّة.
أوّلاً: المستندات العقليّة العقلانية لنظريّة البطون القرآنيّة
تتعدّد الأدلة العقلية العقلانية لنظرية البطون القرآنية، ونذكر أهم ما يمكن إثارته هنا، كما يلي:
1 ـ الإعجاز القرآني وطاقة الانفتاح على البطون والمدلولات، وقفة تأمّل
يمكن أن يمثل الإعجاز القرآني أحد المنطلقات الأساسيّة لتأصيل فكرة البطون القرآنية؛ وذلك أنّه إذا بنينا على أنّ القرآن معجزةٌ في بيانه، فهذا معناه أنه يحتوي علوماً كثيرة استبطنت في نصوص مختصرة، وهذا هو سهله الممتنع، ففيه غزارة المعلومات وأدقّها، ولكنّه استطاع أن يصهرها ضمن نصّ محكم، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1)، وقدّمها للناس الذين حاولوا فهمها بالتدريج، فلا يمكن فهم إعجاز القرآن من وجهة نظر هؤلاء إذا افترضنا أنّ القرآن تكلّم عن بعض القضايا البسيطة العادية.
من هنا كان المستشرقون يقولون: إنّ المسلمين هم الذين ضخّموا القرآن وضخّموا أحاديث النبي، فالقرآن وحديث النبيّ مجموعة من المفاهيم المحدّدة الواضحة ـ عقائديّات، أخلاق، بعض الانضباطات القانونيّة، وبعض التوجيهات الروحيّة ـ فهي إشارات موجِّهة أخلاقياً وسلوكياً، لكن رغبة المسلمين في أن يجعلوا النصّ الديني مهيمناً على كلّ شيء في حياتهم، جعلهم يفترضون أنّ هذا النص يحوي جميع الأشياء.
من هنا حتى يتحقّق الإعجاز القرآني، لا بدّ من وجود كمّ هائل من المعلومات، وهذا الكمّ الهائل تمّ وضعه في هذا النص المختصر، فصار النص معجزاً منفتحاً على قدرة هائلة من التحمّل. وهذا وجه من وجوه إعجازه، ولهذا جعل بعضهم نظريّة الإعجاز بمنزلة الركن الذي ترتكز عليه نظريّة بطون القرآن، الأمر الذي يعني ـ من ناحية أخرى ـ أنّه عندما يكون النص معجزاً يظلّ مفتوحاً على قدرة تحمّل أكبر من النصوص الطبيعيّة؛ لهذا يستدعي الإعجاز نفسه استبطانَ النص لما يفوق قدرة تحمّله العادية، ومن ثمّ لا يمكن تحقّق ذلك إلا بفرض البطون؛ لأنّ الظهورات لا تستطيع محاكاة هذا الوضع.
لكنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الإعجاز اللفظي لا يساوي ـ بالضرورة ـ كثرة المعاني حتى يفرض للنصّ ظاهرٌ وباطن، بل يمكن أن يكون التركيب اللفظي استثنائياً مع كون المعاني محدودة وظاهرة، ولا برهان على عكس ذلك ولا تلازم عليه، وإلا فليبرز ذلك بدليل، لا بمجرد افتراض الإعجاز. هذا لو غضضنا الطرف عن دعوى من يرى أنّ الإعجاز القرآني ليس لفظيّاً.
2 ـ ديمومة الاستنباط من القرآن الكريم (التجربة البشريّة)، مؤشرات نظرية البطون
الدليل الثاني الذي يمكن تقديمه هنا هو أنّ القرآن الكريم ما يزال يُقرأ عبر العصور المختلفة ويظلّ غضاً طرياً تستفيد منه الأجيال، وكلّما قرأه المفسّرون والعلماء ازدادوا منه علماً ومعرفة، فهو معين لا ينضب، ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة إلا بفرض بطونٍ له قادرة على حمل هذا المعنى المستديم.
هذا يعني أنّنا نستند إلى التجربة البشرية في قراءة النص الديني؛ فهذه التجربة التاريخية عبر آلاف السنين أكّدت وتؤكّد أنّ النصّ الديني مفتوح على الدوام لتطوّر في القراءة، وأنّ نظامه يشبه نظام الدوائر التي تستوعب الأولى الثانية أو نظام الطبقات ـ كالبصل ـ كما يقول الهرمنطيقيّون، كلّما كشفت طبقة ظهرت لك طبقة أخرى، ثم تذهب إلى طبقة أعمق فأعمق، فنذهب إلى ما لا يتناهى، فكلما جاءتنا البشرية بأشياء جديدة رأينا في النص إشارات ترتبط بهذا الموضوع، ولهذا وجدنا أن البشر بمرور الزمن كانوا يستخرجون مفاهيم ومعاني من النصوص تبعاً لتطوّر وعيهم، فهذا يؤكّد أن نظام النص الديني المقدّس هو نظام تراكبي مفتوحة دلالاته فوق بعضها بعضاً، وهذه هي نظرية البطون في الموروث الإسلامي.
وهذا الكلام لا يخلو من التباس وقد عالجناه في موضعه، فإنّ استدامة نصّ في إعطاء معانٍ أو البقاء حياً غضاً بمرور الأيام أمرٌ رهين بسلسلة متشابكة من العناصر، وليس فقط لفرضية وجود بطون له. كما أنّ تعدّد قراءات البشر للنصوص الدينية ربما يفسّر بأنه إسقاطات المعتقدين بهذا النص لحاجاتهم وثقافاتهم عليه؛ فالتجربة التاريخية كما تحمل تعدّداً طولياً في المعاني المستخرجة من النصوص كذلك تحمل تعدّداً عرضياً، وإذا كان التعدّد العرضي يستبطن خطأ بعض الاستنتاجات، فبالإمكان أن يكون التعدد الطولي قد ابتلى أيضاً بذلك، فالتجربة التاريخية لا تدلّ على صحّة الاستنتاجات وإنّما على شرعية تعدّدها من حيث المبدأ.
نعم، عندما يلاحظ المفسّر القرآني في سياق قناعاته ـ وهو يدخل أعماق العمليّة التفسيرية ولا ينظر من الخارج كما فعلنا قبل قليل ـ ويجد كم هناك من معانٍ كثيرة صحيحة من وجهة نظره لم يتمّ الالتفات إليها إلا بتطوّر العلوم البشريّة، الشاملة للعلوم الدينية والطبيعية والإنسانية، فهذا يؤكّد له أنّ القرآن الكريم له بطون، أي جوانب لا تظهر بسرعة، بل تحتاج إلى تأمّل وحفر وتنقيب كي تبين.
وهذا الذي قلناه يجري على التجربة الشخصيّة العرفانية في فهم القرآن أيضاً، وفقاً لما سوف نشير إليه لاحقاً بعون الله.
3 ـ ثنائي المحكم والمتشابه، وتكوين مقولة البطون القرآنيّة
قد يستند هنا لقانون المحكم والمتشابه الوارد في القرآن الكريم، فهو ينتج لي فكرة الظاهر والباطن على أساس أنّ المتشابه هو المفتوح الدلالة الحاوي للبطون، ووجود المتشابه في القرآن الكريم مما لا نقاش فيه.
لكنّ الجواب عن هذا الكلام واضح؛ لأنّ المتشابه لا يعبّر عن ذلك، لا لغة ولا عرفاً ولا ضرورة، وإنما المتشابه هو الذي يحتمل بعض المعاني غير المرادة، لا أنّه هو الذي يحوي عدّة معانٍ مرادة. ولعلّ ما أوجب هذا الالتباس هو أنّ المتشابه ينفتح على تعدّد في الوجوه والاحتمالات مما حمل تصوّراً بأنّ هذا التعدّد يفترض أن يحمل معه مفاهيم واضحة ومفاهيم باطنة، مع أنّ مقولة التشابه بدلالاتها اللغوية لا تحمل هذا المعنى، نعم تتحمّل استيعابه لكنّها لا تحكي عنه.
ثانياً: المستندات النقلية النصيّة لنظرية البطون القرآنيّة
في سياق الأدلّة النصيّة النقلية على نظريّة البطون القرآنية، يمكن تارةً الاستناد إلى النص القرآني، وأخرى إلى نصوص الحديث والسنّة الشريفة:
1 ـ المستند القرآني لنظريّة البطون، مقولتا: التأويل والبيانية القرآنيّة
من أهم ما يمكن أن يستند إليه هنا هو ما دلّ على أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شيء، وقد ورد التصريح بذلك في جملة من الآيات والروايات، فإنّه لا يمكن فهم البيانية التامّة لكلّ شيء إلا بفرض نصّ يحمل بطوناً لا متناهية، تبعاً لكثرة مصاديق عنوان (كلّ شيء).
ولكي أفسّر اشتمال القرآن على كلّ شيء، كما عبّر هو عن نفسه، وبين عدم ظهور أغلب الأشياء هذه لنا عندما نرجع إلى النصّ وإلى قواعد اللغة العربية بدلالات العرف، نجد أنّ الجمع بين هذين المعطيين يكوّن لي نظريّةَ البطون، وأنّ هناك دلالات بطونيّة للقرآن الكريم هي التي تحتوي كلّ شيء وطريقة فهمها ليست طريقة فهم اللغوي التي لا تكشف هذا. وبالتالي استطعت أن أركّب معطيين وأنتِج منهما نظرية البطون القرآنية: القرآن يقول فيه تبيان كلّ شيء، واللغة العرفية لا تبيّن ولا تعطي هذا المنتَج، إذاً فلا بدّ أنّ القرآن مركّب سنخاً تركيبة تتخطّى مجال مرجعيّة اللغة العربية التي يتداولها الناس، وليس معنى ذلك إلا البطون. والآية التي تقول: {تبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) اعتُمدت أساساً من قبل كلّ الذين قالوا بأنّ في القرآن جميع العلوم الطبيعية والإنسانية.. لكنّنا لا نستطيع أن نكتشفها بسهولة، مثل قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44)، فالقرآن فيه كلّ شيء، ولكن نحن لا نفقهه. وحيث إنّنا نملك اللغة، ولم تعطنا اللغة مفهومَ كلّ شيء، إذاً هذا يعني أن اللغة ليست الوسيط الوحيد الذي يمكن أن يساعدني على فهم القرآن الكريم، فلا بدّ إذاً من الذهاب إلى فكرة بطون القرآن.
والجواب عن هذا الكلام هو بما عالجناه مفصّلاً في مباحث حجية السنّة، عند الحديث عن نظرية كفاية القرآن وغيرها، حيث بينّا أنّ الكليّة هنا إنّما هي بملاحظة طبيعة الكتاب، وأنّه كتاب هداية ورشاد ديني، لا مطلقاً، كما أنّها ـ من جهة أخرى ـ لا تستدعي الكلية المنطقية بالضرورة، وقد بحثنا ذلك مفصّلاً هناك([17]). لكن للإشارة التوضيحيّة يمكن القول بأنّ موضوع أنّ القرآن فيه تبيان كلّ شيء، وقع مسرحاً للجدل، فهناك من أخذ معنى الآية بطريقة جادّة جدّاً، فقال بأنّ "كلّ شيء: يعني "كلّ شيء"، ولا حاجة للتأويل أو التكلف. أمّا الفريق الآخر فقال: ليس معنى كلّ شيء هو ما تتصوّرونه، إنّما كلّ شيء له علاقة بالهداية. فعندما أقول: عندي كتاب في الفيزياء، وأقول لك: اقرأه ففيه كلّ شيء، فتفتح الكتاب فستفهم من كلمة "كلّ شيء" أنّ المراد بها كلّ شيء في الفيزياء، ولن تجد فيه علم الحيوان أو البلاغة، وأنت لن تأتي لتسألني أين علم كذا وكذا مما هو غير موجود؟! من هنا عندما يأتي كتابٌ هدفه الهداية والإرشاد وإعادة الناس إلى الله والقيم الروحيّة والأخلاق، فإنّك عندما تقرأه تجد هذا هو هدفه، فتعبير كلّ شيء يعني كلّ شيء من شؤون الهداية، لا كلّ شيء بنحو منطلق. فهناك اختلاف في طريقة تناول المفسّرين المسلمين لمفردة (كلّ شيء).
2 ـ المستند الحديثي لنظريّة البطون القرآنيّة
ويظلّ المستند الحديثي من أهمّ المستندات هنا، بعد أن كانت فكرة المحكم والمتشابه وأمثالها غير دالّة.
وتنقسم المعطيات الحديثيّة إلى قسمين:
القسم الأوّل: الروايات الكثيرة الواردة في تفسير آياتٍ قرآنية بطريقة لا تظهر للعرف وأهل اللغة، فإنّ هذه الروايات الموجودة عند فرق المسلمين تصلح شاهداً على فكرة البطون وإن لم تتحدّث هي بنفسها عن مقولة الظاهر والباطن، وإلا فكيف يمكن فهمها من دون فرض عنصر تمهيدي مثل فكرة البطون؟! وطرح هذه الروايات جميعها أمرٌ في غاية الصعوبة بعد كثرتها وتنوّعها وتعدّد مصادرها عند المسلمين.
وهذا القسم من الروايات يصلح هنا لإثبات المبدأ فقط؛ لأنّ هذه الروايات يمكن تفسير الكثير منها وفقاً لفرضيات متنوّعة في فكرة البطون، دون حاجة لافتراض انتكاسة في مرجعيّة اللغة والعرف العقلائي وقواعده في التفاهم والتفهيم.
القسم الثاني: ما جاء في النصوص يتحدّث مباشرةً عن فكرة الباطن والظاهر، وأهمّ هذه النصوص في التراث الإسلامي هو ما يلي:
1 ـ ما جاء في رسالة الإمام الصادق× إلى أصحابه التي أمرهم بمدارستها: «.. فإنّ الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلا بطاعته واجتناب محارمه التي حرّم الله في ظاهر القرآن وباطنه، فإنّ الله تبارك وتعالى قال في كتابه وقوله الحقّ: ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾..»([18]).
فهذا الخبر يدلّ على وجود ظهر للقرآن وبطن، وكأنّ ظاهر القرآن يعطي الحديث عن ظاهر الإثم، فيما يتحدّث باطنه عن باطن الإثم، كما قد يفهم من الربط الذي جاء في الرواية بين ظهر القرآن وبطنه من جهة وظاهر الإثم وباطنه من جهة ثانية، ولهذا فرضت الرواية أنّ الفقهيّات بعضها يؤخذ من باطن القرآن وليس من ظاهره، وليس فقط الأمور العرفانية أو الفلسفية، وبذلك تثبت نظرية البطون.
وهذا الخبر يثبت وجود ظاهر للقرآن وباطن، ولا يفيد تعدّد البطون أو الاستغراق فيها، والباطن كما يعني اللامتناهي في الاستغراق، كذلك يعني أيضاً كل ما لم يكن ظاهراً للجميع، بحيث يحتاج إلى تأمّل ومقاربات وتحليلات، كما هو المقدار المتيقّن من الدلالة اللغويّة للكلمة، فهذا المقدار يفي بحيثيّة البطن والظهر، وسوف نستفيد منه فيما بعد بعون الله سبحانه.
2 ـ خبر حمران بن أعين، قال: سألت أبا جعفر× عن ظهر القرآن وبطنه، فقال: «ظهره الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك»([19]).
فهذا الخبر يؤكّد وجود ظهر للقرآن وبطن، لكنّه يقرّر أنّ المراد بظهر القرآن هو من نزل فيهم، وأنّ بطنه هو تأويله، أي المصاديق الحادثة المستجدّة التي تكون منطَبَقاً للقرآن الكريم، فعنوان "أبو لهب" مثلاً ظهره هو أبو لهب عمّ النبي، لكنّ بطنه كلّ الذين يحاربون الدين ويؤذون المؤمنين ويهزؤون بهم إلى يوم القيامة.
وهذا التفسير الذي تقدّمه هذه الرواية، يختلف تماماً عن البطون الدلاليّة، فهو منسجمٌ انسجاماً تاماً مع بناء القرآن على لغة العرف، ولا يثبت وجود لغة غير عرفية أو دلالات باطنية للقرآن بالمعنى السائد.
3 ـ خبر عبد الله بن سنان، عن ذَرِيح المُحَارِبي، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّ الله أمرني في كتابه بأمر فأحبّ أن أعمله، قال: «وما ذاك؟»، قلت: قول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾، قال: «ليقضوا تفثهم لقاء الإمام، وليوفوا نذورهم تلك المناسك»، قال عبد الله بن سنان: فأتيت أبا عبد الله، فقلت: جعلت فداك، قول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾، قال: «أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك»، قال: قلت: جعلت فداك، إنّ ذريح المحاربي حدّثني عنك بأنك قلت له: ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ لقاء الإمام، ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ تلك المناسك، فقال: «صدق ذريح وصدقت، إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟!»([20]).
فهذا الخبر يدلّ على وجود ظاهر للقرآن وباطن، ويقوم بتفسير الباطن بمعنى الباطن الدلالي؛ لأنّ كلمة "قضاء التفث ووفاء النذور" تعني بظاهرها ما قاله الإمام الصادق لابن سنان، من إزالة شعث الإحرام، فيكون المعنى الذي قاله لذريح غير ظاهر من الدلالة، فيقوم على إشارةٍ خفيّة.
4 ـ خبر أبي إسحاق الليثي، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقر×.. ثمّ قال الباقر: «اقرأ يا أبا إبراهيم هذه الآية»، قلت: يا ابن رسول الله، أيّة آية؟ قال: «قوله تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ﴾، هو في الظاهر ما تفهمونه، هو والله في الباطن هذا بعينه [يقصد خبر الطينة وأنّه يؤخذ ما عند الناصب من خير فيعطى للشيعي]، يا إبراهيم، إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكماً ومتشابهاً وناسخاً ومنسوخاً..» ([21]).
فهذا الخبر واضح في البطن الدلالي؛ فهو يريد أن يدعم فكرة الطينة بهذه الآية التي يدلّ ظاهرها ـ مهما بالغنا فيه ـ على أمرٍ مختلف تماماً عن هذا الموضوع، إلا إذا قصد مجرّد الاستشهاد بجملة لا من باب أنها مقصودة، باعتبار التشبيه.
والخبر ضعيف جداً بأحمد بن محمد السيّاري الذي ضعّفوه جداً ([22]).
5 ـ 7 ـ خبر عبد الأعلى بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله×، يقول: «إنّي لأعلم ما في السماء، وأعلم ما في الأرض، وأعلم ما في الجنّة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان، وأعلم ما يكون، علمت ذلك من كتاب الله، إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾»([23]).
فإذا أخذ هذا الخبر على إطلاقه وتفصيله، فلا معنى له إلا أنّ القرآن يحتوي ما لا يتناهى من المعلومات، فيكون دالاً على أنّ له بطوناً كثيرة لا نفقهها بلغة العرف العادية القاصرة، وهو يؤيّد فكرة البيانية الشموليّة المستوعبة في الكتاب الكريم.
ونحو هذا الخبر رواية حمّاد اللحام([24])، وخبر جماعة فيهم عبد الأعلى والخثعمي والحرث بن المغيرة([25]).
8 ـ خبر جابر، عن أبي جعفر×، أنّه قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّه جمع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»([26]).
والخبر يؤكّد وجود باطن للقرآن، لكنّ هذا النحو من الباطن لا يؤكّد فكرة البطون التي تتخطّى اللغة العرفية؛ لأنّ العقلاء في تفسيرهم للنصوص قد يتفاوتون في دقّة ملاحظاتهم لما يشير إلى مراد المتكلّم، فيكتشف بعضهم دلالةً تخفى عن آخرين، وهذا يصدق عليه لغةً أنّه باطن، بمعنى أنّه مستور كما لو كان دلالةً التزاميّة أو نتيج مقارنة بين آيات عدّة.
والخبر ضعيف بمحمّد بن سنان، وكذلك بالمنخل بن جميل الذي ضعّفه النجاشي واتهم بالغلوّ([27]).
9 ـ خبر أبي لبيد البحراني، قال: .. فقال لي أبو جعفر×: «هذا تفسيرها في ظهر القرآن، أفلا أخبرك بتفسيرها في بطن القرآن؟» قلت: وللقرآن بطنٌ وظهر؟ فقال: «نعم؛ إنّ لكتاب الله ظاهراً وباطناً..»([28]).
10 ـ خبر جابر بن يزيد الجعفي، قال: سألت أبا جعفر× عن شيءٍ من التفسير، فأجابني، ثمّ سألته عنه ثانيةً فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا اليوم، فقال: «يا جابر، إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطناً، وله ظهر، وللظهر ظهر. يا جابر، ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل منصرف (متصرّف) على وجوه»([29]).
فهذا الخبر صريح بوجود طبقات ظاهريّة؛ لأنّه يجعل لظهر القرآن ظهراً أيضاً، وطبقات باطنيّة؛ لأنّه يجعل لبطنه بطناً، ثم يعقّب ذلك بصعوبة تفسير القرآن للرجال، وهذا كلّه يؤكّد الحالة الباطنيّة الدلاليّة في القرآن الكريم.
وقد نقل هذا الخبر جابرُ الجعفي المعروف بنزعته الصوفيّة أو الباطنيّة، وفي السند محمّد بن الفضيل الذي ضعّفه الشيخ الطوسي، كما قال بأنّه يُرمى بالغلوّ، وإذا كان غير ابن فضيل الأزدي فهو مجهول([30]). وكذلك بجهالة شريس الوابشي الوارد في السند أيضاً([31]).
11 ـ صحيحة الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا جعفر× عن هذه الرواية: «ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن»، فقال: «ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما يجري الشمس والقمر، كما جاء تأويل شيء منه يكون على الأموات كما يكون على الأحياء، قال الله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾ (و) نحن نعلمه»([32]).
هذا الخبر يشبه خبر حمران بن أعين (رقم: 2) المتقدّم؛ لأنّه يجعل ظاهر القرآن هو من نزل فيهم، فيما باطنه هو التأويل، أي المصاديق الحادثة فيما بعد، وليس في هذا الخبر دلالة على البطون الدلاليّة للكلام، كما هو واضح. والرواية تامّة السند.
12 ـ خبر إبراهيم بن عمر، قال: قال أبو عبد الله×: «إنّ في القرآن ما مضى، وما يحدث، وما هو كائن، كانت فيه أسماء الرجال فألقيت، وإنّما الاسم الواحد منه في وجوه لا يحصى، تعرف (يعرف) ذلك الوصاة»([33]).
وهذا الخبر يجعل كلّ اسم في القرآن حمّالاً لوجوه لا تحصى، ويؤكّد أنّ في القرآن الكريم كلّ الوقائع والأحداث، وهذا كلّه مما يشرعن البناء التحتي لنظريّة البطون المعنائية.
13 ـ مرسلة البرقي، عن أبي عبد الله×، في رسالة: «وأمّا ما سألت من القرآن فذلك أيضاً من خطراتك المتفاوتة؛ لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت، وكلّ ما سمعت فمعناه غير ما ذهبت إليه، وإنما القرآن أمثال لقومٍ يعلمون دون غيرهم، ولقوم يتلونه حقّ تلاوته، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه، وأما غيرهم فما أشدّ إشكاله عليهم، وأبعده من مذاهب قلوبهم، ولذلك قال رسول الله‘: ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن، وفي ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلا من شاء الله، وإنما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه، وأن يعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القيّام بكتابه..»([34]).
هذا الخبر يؤسّس لثلاث قواعد مهمّة جداً:
الأولى: قاعدة بناء القرآن على الأمثال، وربما يكون المراد بها ما يشبه نظريّة الرمزية التي نتحدّث عنها.
الثانية: قاعدة تعمية القرآن وتلغيزه، وتعني أنّ القرآن أخفاه الله وجعله ملغّزاً لا يراه الناس، بل يتحيّرون فيه.
الثالثة: قاعدة حصر مرجعيّة التفسير والفهم بأهل البيت؛ ولأجل هذه القاعدة كانت القاعدتان المتقدّمتان، كما يُفهم من الحديث نفسه.
وهذا كلّه تأسيس لبطون قرآنيّة؛ لأنّ البطن هو الجانب المخفيّ، وهذه الروايات تؤسّس للخفاء الشامل في القرآن الكريم.
14 ـ المرويّ عن النبيّ‘ أنّه قال: «إنّ للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن» ([35]).
وقد ذكر المحقّق الإصفهاني في الفصول الغروية أنّ الكثير من الأخبار دلّت على أنّ للقرآن سبعة أبطن أو سبعين بطناً([36])، وذكر العديد من العلماء وجود رواية السبعين([37])، ونُقل وجود رواية السبعمائة ورواية السبعين ألف بطن([38]).
ولكنّي لم أعثر ـ بعد البحث والتنقيب ـ على أيّ حديث في المصادر الحديثية السنّية والشيعية يفيد السبعين، وأمّا السبعة فلم أجده سوى في مصدر حديثي شيعي واحد هو عوالي اللآلي، فهذا الخبر لم أعثر له على قيمة سندية فضلاً عن تواتر واستفاضة وغير ذلك، نعم وجدناه في بعض كتب التفسير والفلسفة والعرفان والفقه، لكن بلا سند إطلاقاً، وأظنّه اشتهر دون أن يكون له مصدر موثوق حديثياً، ولعلّ سبب شهرته هم المتصوّفة والفلاسفة وأمثالهم، حيث بنوا عليه علم الباطن الذي تنتمي علومهم له([39]).
15 ـ حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، فقد ذكروا أنّ هناك من فسّره بالبطون السبعة حتى في الوسط الشيعي([40]).
إلى غير ذلك من الروايات المتناثرة([41]) الضعيفة السند وغير الواردة في أمّهات مصادر الحديث والتاريخ الإسلامي، مما لا نطيل باستعراضه وتتبّعه، وبعضه ليس برواية وإنما قول صحابي أو تابعي، وقد بحثنا في محلّه وتوصّلنا إلى عدم وجود دليل على حجيّة مذهب الصحابي أو التابعي وسنّتهما([42]).
وكذلك الحال في نصوص عدم حجيّة ظهورات القرآن، فقد ناقشها الأصوليون المتأخّرون برمّتها وأثبتوا عقمها عن تعطيل الظهور القرآني وعالجناها في موضع آخر، فلتراجع([43]).
والقدر المتيقّن من الأحاديث ـ على تقدير الصدور الإجمالي ـ هو مبدأ وجود بطن، وهو النتيجة التي يمكن الخروج بها مما حلّلناه من معطيات المرحلة الأولى من هذا البحث، لهذا لا بدّ من دراسة هذا القدر المتيقن لمعرفة، هل يفيد نظرية البطون المشهورة المستند إليها في الفلسفة والتصوّف والعرفان والتيارات الغنوصية والغالية وإلخ.. أو لا؟ هذا ما سنبحثه في المرحلة التالية إن شاء الله تعالى.
المرحلة الثانية: تفسير نظريّة البطن القرآني
إذا سلّمنا بأنّ للقرآن بطوناً، انطلاقاً من وجود الحديث الشريف في هذا المجال أو من أيّ دليل متقدّم، عدا اشتمال القرآن على تمام العلوم والمعارف، فهل تعني هذه النظريّة ما يُطرح في بعض الأوساط من البطن الذي لا يخضع للظهر ولو من خلال مروره عبره؟ وهل يعني ذلك أنّ ميزان اكتشاف البطن ليس ميزاناً عرفيّاً أيضاً؟ وهل حقّاً لا تعرف اللغة العرفيّة العامّة شيئاً عن الظهر والبطن؟ وما معنى الظاهر والباطن وفقاً لما تقدّم؟ وهل الظاهر والباطن بُعدان معرفيّان ايبستميان أو أنّهما بعدان وجوديان أنطولوجيان؟ لنرى في هذا الخضمّ أين تقع النظريّة الصحيحة وسط هذا السياق كلّه.
للجواب([44]) عن هذه الأسئلة، نطرح عدّة احتمالات وآراء وفرضيات([45])؛ لندرسها ونحاكمها، أهمّها:
1 ـ فرضية المعنى المقصود المقارن للكلام، مقولة الباطن المنفصل
الفرضيّة الأولى التي قد تطرح هنا في معنى الباطن القرآني هو ما ذكره المحقّق محمد كاظم الخراساني (1328هـ)([46])، من أن يكون المراد بالبطون مجموعة من المعاني أرادها المولى سبحانه حال الكلام دون أن يقصدها من اللفظ، كأن يقول احتمال: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ﴾، لكنه حال قوله هذا الذي يريد به وجوب إقامة الصلاة بالمعنى العرفي السائد، ينقدح في ذهنه ـ بعيداً عن دلالة الألفاظ أو استعمالها في ذلك ـ معاني ومفاهيم أخرى مثل وجوب الصوم، فهنا لم يستعمل الآية في وجوب الصوم ولم يقصد وجوبَ الصوم من قوله: أقم الصلاة، وإنما خطر في ذهنه إرادة الصوم حال تلفّظه بالنصّ المذكور، فيكون هذا المعنى ـ أي وجوب الصوم ـ هو باطن هذه الآية، فيما ظاهرها وجوب الصلاة، فيكون أشبه بتداعي المعاني.
وحيث إنّ الله تعالى يمكن أن يريد آلاف المعاني لحظة استعماله الجملة المذكورة، فتكون هذه المعاني كلّها بطوناً، ما يفسح المجال لتعدّد البطون إلى اللامتناهي، تبعاً لعدم تناهي علمه سبحانه وذاته وإلخ..
وهذا التفسير للبطون وإن كان ممكناً على المستوى الواقعي، غير أنه لا دليل على حصوله في الخارج، والنصوص والأدلّة العقلانيّة والعقلية المتقدّمة لا تفرضه ولا تعيّنه، يضاف إلى ذلك ما سجّله غير واحد من الأصوليّين([47]) من أنّه بهذه الطريقة لا يصحّ نسبة البطن إلى القرآن، إلا على تجوّز يطغى عليه التكلّف الشديد جداً؛ فإنّ هذا الباطن ـ بحسب تفسير الخراساني ـ لا علاقة عضوية له مع الظاهر، والكلام بناءً عليه ليس فيه باطن وظاهر؛ لأنه لم يستعمل سوى في معنى واحد حسب هذه النظرية، فكيف وصف بأنه باطن الكلام القرآني؟!
يضاف إلى ذلك ما ذكره الميرزا الإيرواني، وتبعه السيد الخوئي، من أنّ ظاهر الروايات الواردة في المقام أنّها بصدد إثبات فضيلة القرآن الكريم وعظمته باشتماله على الظاهر والباطن، فكيف ينسجم هذا التعظيم مع كون القرآن له معنى واحد لا يختلف عن سائر الكلام الملفوظ والمكتوب، غايته أنه حصل في ذهن المتكلّم إرادة معاني ومفاهيم أخرى حال الكلام، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يتحقق في أيّ كلام، وما هي ميزة الكلام حينئذٍ لو جامع صدوره انقداح أو خطور هذه المعاني في ذهن المتكلّم؟([48]).
وعليه، فهذا التفسير للبطون مجرد افتراض لا قيمة له، بل هو خلاف ظاهر بعض الروايات الواردة في الموضوع.
2 ـ فرضية تعدّد المصداق، نظرية البطون التأويليّة
الفرضية الثانية هنا هي ما ذكره بعض العلماء من أنّه يمكن أن يكون المراد من البطون هو المصاديق المتعدّدة للفظ الواحد، بحيث يكون وضوح انتساب بعض المصاديق إلى اللفظ أشدّ من سائرها فيصحّ لأجل ذلك إطلاق الظاهر والباطن عليه، تبعاً لدرجة الظهور والخفاء في الالتحاق بالعنوان الكلي الموجود في اللفظ، من هنا قد لا يفهم البطون كلّها إلا الأنبياء والأوصياء؛ لأنّ عقولهم تستطيع الانتباه إلى المصاديق الخفية، وإلا فالمعنى واحد من اللفظ([49]).
وهذا التفسير الذي تلوح بذوره مما نسب إلى الصحابي عبد الله بن مسعود وغيره([50])، تدعمه ـ كما قلنا سابقاً ـ مثل رواية حمران بن أعين ورواية الفضيل بن يسار، حيث دلّتا على ذلك، ويصحّ وفق هذا التفسير اعتبار المصداق باطناً؛ لأنّ تطبيق الآية على هذا المورد أو ذاك يظلّ ـ أحياناً ـ غير واضح ويسير، تماماً كما هي المهمّات التي يقوم بها المفسّرون والفقهاء أحياناً، فيصح إطلاق الظاهر والباطن بملاحظة انطباق الآيات على الموارد والحالات المتجدّدة الحادثة والمصاديق المتنوّعة الطارئة، وهذا هو أحد معاني (التأويل) المطروحة في الاستخدام القرآني لهذه الكلمة.
فهذا التفسير محتمل جداً وقريب، وتبعاً لذلك لا يمانع هذا التفسير للبطون عن مرجعية الفهم العرفي العقلائي؛ لأنّه لا يبتكر مرجعيةً بديلة لفهم النصّ القرآني، وإنما يعدّ فهم النص مرحلة مسبقة على مرحلة اكتشاف البطون، لها مرجعيّتها المستقلّة؛ لأنّ اكتشاف انطباق الكلّي والعام على المصداق والخاص، ليس من شؤون تفسير النص بل من شؤون تطبيقه.
3 ـ فرضية الدلالات الالتزامية، الانفتاح على المفهوم النسبي للبطون
الفرضية الثالثة من فرضيات تفسير البطون القرآنية، هو ما ذكره العديد من العلماء من أنّ المراد بالظاهر هو المدلول المطابقي للكلام، فيما يراد من الباطن اللوازم التي يكون بعضها عادةً أخفى من بعض، فكلّما زادت درجة الخفاء في اللازم اتسم بأنّه من الباطن، ثم باطن الباطن وهكذا([51]).
وطبقاً لهذه النظريّة لا يخرج النصّ القرآني عن قواعد الفهم العرفي والعقلائي؛ لأنّ العرف لا يمانعون من الدلالة الالتزامية، إذ هذه الدلالة تأتي تبعاً للدلالة المطابقية الحاكية عنها، فالترابط العضوي بين الدلالات الالتزامية نفسها وبينها وبين المطابقية لا يسمح للبطون بأن تشكّل مأزقاً لنهج الفهم العقلائي للنصوص. فلو قلت: إنّ زيداً كثير الرماد، فالمدلول المطابقي للكلام هو أنّ لديه رماداً كثيراً، ولكن المدلول الالتزامي لهذه الكلمة أنّه شخص يشعل ناراً، ومدلول التزامي آخر أن من يشعل ناراً هو من يشوي اللحم، ومدلول التزامي آخر لماذا يشوي اللحم كثيراً؟ لأنه يأتيه ضيوف، فإذاً زيد كثير الرماد يساوي زيد كريم. ومن أين حصلت على أن زيداً كريم؟ حصلت عليه من الدلالات الالتزامية، فكأنها سلسلة مرتبطة ببعضها، فأنت تعطي طرف السلسلة ويبدأ الذهن الانتقال من جزئية إلى جزئية حتى يصل إلى الجزئية الأخيرة، وهذه السلسلة كلها نسمّيها مداليل التزامية أو مداليل مترابطة طولياً. فبعض هذه المداليل قد يلتفت إليه الناس، والبعض الآخر لا يلتفت إليه الناس. مثلاً المدلول الالتزامي رقم 3 أبعد ورقم 4 أبعد أكثر وهكذا.. فهذا بطن وهذا بطن البطن، وهكذا تسير بطون القرآن سيراً طولياً على شكل خطّ من الأعلى إلى الأسفل، وليس بشكل دائري، وطرف هذا الخط هو ما في بالي، وباقي أطرافه النازلة تبتدئ تختفي تدريجياً إلى أن نصل إلى باطن من الصعب أن يظهر إلا للقليل القليل من الناس الذين يعرفون بطون القرآن الكريم. كذلك عندما أطلب منك: لو سمحت آتني بكوب من الماء، ستفهم أني عطشان، من أين فهمت هذا مع أنني لم أقل إنني عطشان؟ لأن هذا مدلول التزامي لازم الخطاب.
نعم، قد يقال: إنّ لا تناهي الدلالات الالتزامية أمرٌ غير عرفي، ممّا يعني أنّ المتكلم لم يستخدم لغة عرفية؛ لعدم توفر لغة من هذا النوع قادرة على استبطان اللامتناهي ـ تقريباً ـ من الدلالات الالتزامية.
وهذا كلام صحيح تام، إلا أن يقال: إن عدم وجود هذه الظاهرة في حياة العقلاء ليس لأنّ اللغة تمنع ذلك؛ بل لعدم وجود عقل إنساني يحتوي فكرةً بدلالات التزامية لا نهاية لها، حتى يطلقها في نصّ واحد.
والخلاصة إنّ تفسير البطون باللوازم المقصودة، ممكن لا مانع منه ـ لغةً وعقلاً ـ بجامع الخفاء، فنفي السيد البروجردي لهذا التفسير مع عدم إيضاحه مبرّر النفي([52])، لم نفهم سببه، وكذا دعوى الفيروزآبادي أنه خلاف الظاهر من الروايات([53]).
4 ـ فرضيّة المعنى بالتناسب مع مستوى العقل الإنساني
ذكر السيد حسين البروجردي أنّ المراد من البطون القرآنية أنّ لمعاني الألفاظ القرآنية مراتب تفهم حسب مستوى الإدراك العقلي للإنسان؛ فكلّما ارتفع مستوى الإدراك العقلي استطاع العقل الإنساني أن يرى مرتبةً من مراتب المعنى أرقى وأرفع.
ويمثل البروجردي لما يقول بأنّ كلمة الشمس لا يفهم منها العقل العامي إلا هذا الجرم السماوي المرئي، أما العقول العالية فإنها تحاول التصرّف في المعنى فتأخذ الصورة مع الالتفات إلى إلغاء المادّة لتعبّر الشمسُ عن حيثية النورية والإضاءة، وهذا ما يتفاوت بحسب تفاوت العقول([54]). فنقول النبي شمس والإمام شمس، والآية إنما قصدت الإمام بالشمس أو الفقيه والعارف. فكلها تصبح شموساً. فالدلالة الأولية هي الجرم السماوي، وأما روح الدلالة فهي الإضاءة، وهذا هو باطن القرآن. وقد يقول قائل في هذا المجال بأن الشمس والقمر هما الإمام علي والسيدة الزهراء؛ لأنّني جرّدت الكوكبين من البعد المادي وأخذت بُعد الإضاءة والنوريّة، ومن بعدها النورية المعنوية، وهكذا.
وقد حاول السيد محسن الحكيم وتبعه بعض العلماء([55]) تقديم تفسير للبطون يقترب جداً من هذه الفرضية ولعل المراد منهما واحد، حيث ذهب إلى احتمال أن يكون المراد أنّ القرآن في العناوين والمقولات التي يطرحها إنما يريد الجامع الكلي، وما ينصرف إلى ذهننا ليس سوى أحد الأفراد البارزة للمعاني وفقاً لمستوياتنا التفسيرية. ومثال ذلك كلمة: الميزان، فإن المراد منها مطلق العنوان الجامع، أي كلّ ما يوزن به مهما كان الوزن والموزون وآلة الوزن، لكن لأنّ الميزان في حياتنا البشرية منصرفٌ إلى الميزان الذي يكون مع الكيل، فسّرنا الآية بذلك، والحال أنّ المعنى المراد هو العام الجامع، ولهذا أمكن تفسير الميزان بالعقل أو بالإمام أو بالدّين أو بما شابه ذلك، فيكون التفسير الآخر هو المعنى الباطن، وهذا أمرٌ لا ينافي الاستعمال الطبيعي للكلام.
ووفقاً لهذا الكلام نقترب كثيراً من فرضيّة البروجردي والفرضيّة الثانية، وفي اعتقادي إنّ هذه النظريّات الثلاث ترجع إلى روح واحدة أو يمكن صهرها في نظريّة واحدة لا غير.
من هنا نرى أنّ هذا التفسير جيّد في الجملة، بمعنى أنّه محتمل، ويمكن تطويره بقيامته ـ بحسب المثال الذي ذكره ـ على ما نسمّيه بنظرية تجريد النصوص، أي خلع السياقات الحرفية والزمكانية لها، بما يسمح به السياق اللفظي والفهم العرفي، فمثلاً نستفيد من قوله تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24) توسعة مفهوم الطعام، فبدل أن يقتصر على الطعام المادي، يتم خلع الصورة المادية عنه، ليشمل الطعام المعنوي، مثل العلم، ولهذا ورد في بعض الروايات في تفسير هذه الآية أنّ المراد منها العلم، ومن هذا القبيل ما يؤخذ على نحو المثاليّة في النصوص، مثل ما ورد في القرآن حول نساء النبي، إذ بالتجريد نعمّم المفهوم لمطلق من له حيثية خاصّة في المجتمع، ليكون الفعل الحسن منه حاملاً لثوابين وحسنتين، فيما الفعل السيئ حاملاً لسيّئتين، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ (الأحزاب: 30 ـ 32)؛ وكذلك استلهام العبر من الأمثال والقصص القرآني وتوسيع مفهومها وتطوير مقولها.. ذلك كلّه يتبع تطوّر الوعي الإنساني، فهذه النظرية ـ من حيث المبدأ ـ ممكنة، وربما أمكننا ضمّها إلى جانب نظرية المصاديق والتطبيقات التي أثارها المحقّق العراقي لتكون من أفضل النظريات في تفسير البطن القرآني بما يتناسب ومنهج الفهم العرفي؛ لأنّ هذا التجريد يفترض أن يخضع لطرائق العقلاء في العبور من اللفظ إلى المعنى، ومن المعنى إلى المغزى الذي هو الرسالة الكامنة خلف النص، وبهذا القدر يمكن فهم المداليل الالتزامية أيضاً إذا لم تخرج عن الحدّ المعقول الإنساني، فهذه الفرضية تنسجم أيضاً مع بناء النص القرآني على اللغة العرفية.
5 ـ فرضية تعدّد البطون بتعدّد النزول
الفرضية الخامسة التي تثار هنا هو ما ذكره بعض العلماء([56])، من أنّ المراد بالبطون أنّ القرآن الكريم نزل نزولات متعدّدة بعدد بطون القرآن إلى جانب النزول المتصل بالظاهر القرآني، فلو كان لكلّ آية سبعون بطناً فهذا معناه أنّ القرآن نزل واحداً وسبعين مرّة، ولو كان له بطن واحد، لنزل مرتين، وهكذا وربما يكون لبعض الآيات عدد أكبر من النزول مقارنةً بآيات أخرى؛ فعندما يقال هذا تفسير بالباطن أي بالنزول الثاني للقرآن، وقد ورد في بعض الآيات والسور أنها نزلت غير مرّة، مثل ما قيل عن سورة الحمد. ففي كلّ نزول يراد معنى جديد غير الأوّل، وبهذا ربطوا تعدّد البطون بتعدّد النزول.
لكنّ هذا التفسير يعاني من مشاكل ـ فضلاً عن عدم وجود دليل عليه ـ، وذلك:
أوّلاً: إذا أريد أنّ القرآن نزل على مرأى المسلمين مرّات عديدة، وأخذنا برواية الباطن أو السبعة والسبعين، فهذا معناه أنّ كل آية نزلت سبعين مرة أو سبع مرات أو مرتين، وهذا لو وقع لتداولته كتب التاريخ والقرآنيات، ولكان لنزوله المكرّر صدى ليكوّن ظاهرةً في النزول القرآني، فيما لا عين ولا أثر لذلك كلّه، سوى في بعض الحالات المحدودة جداً والتي يدلّ نقلها بخصوصها على كونها استثناءً وليس قاعدة، وذلك مثل سورة الحمد لو تمت الرواية في نزولها مكيةً ومدنية، وعليه فالتاريخ ينفي هذا الافتراض، إلا إذا جعلت القراءات السبع دليلاً، لكنّ إثبات النزول سبع مرات، أو صدور الآيات من النبيّ سبع مرات على سبع قراءات غير صحيح، وتفصيله في محلّه.
ثانياً: لو قصد بكلّ نزول معنى ظاهر، لكانت كلّ المعاني ظاهرة، فلماذا عبّر بالظاهر والباطن في الأحاديث؟ إلا أن يقال: إنّه نزل وقصد باطنه في المرّة الثانية وإن توهموا أنّ المراد ظاهره الأوّل، وهذا أيضاً تحكّم وتكلّف ظاهر، فضلاً عن أنّه لا يبيّن لنا طبيعة العلاقة بين النص والمعنى الباطن المقصود في النزول الثاني.
ثالثاً: إذا قصد أنّه نزل مرّة واحدة على الملأ، وفي بقيّة المرات نزل على النبيّ لوحده، دون أن ينقله النبيّ مرّةً ثانية للناس؛ فلا أدري ما الفائدة من ذلك؟! فلينطق به الله تعالى في عرشه ألف مرّة، ثم لينزله مرّةً واحدة، ويُخبر النبي أنّ هذا النص أردت منه كذا وكذا بلا حاجة لتعدّد النزول؛ وعليه فهذه الفرضية في غاية الضعف.
6 ـ البطون القرآني وثنائية الإخبار والاتعاظ، دائرة القصص القرآني
الفرضيّة السادسة هنا هو ما قد يلوح من الشيخ أبي جعفر الطوسي (460هـ) تبنّيه، حيث ينسبه إلى الأخبار الواردة عن الصادقَين ـ عليهما السلام ـ، كما ينسبه إلى أبي عبيدة، والنسبة الأخيرة موجودة في كلمات الزركشي أيضاً([57])، وحصيلة هذه الفرضيّة أنّ الظاهر هو القصص الواردة في أخبار هلاك الأولين والأمم السابقة، فالجانب الإخباري هو الظاهر من الآيات، فيما الجانب الوعظي، أي العظة التي تكون للآخرين عندما يرون حال المتقدّمين، هو الباطن القرآني.
وهذه الفرضية لا تنافي إطلاقاً نظام اللغة العرفية العقلائية؛ لأنّ تحصيل العظة ووجود رسالة من وراء الإخبار بحال الأمم السابقة، ليس بالأمر المتعالي عن بناء الدلالة العرفيّة؛ فالعرف يستخدمون القصّة للوعظ، بل القرآن شاهد بنفسه على أنّه فعل ذلك، بلا حاجة إلى مجيء الروايات أو أقوال العلماء، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111)؛ وقال تعالى: ﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 120)، وقال سبحانه: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾([58]) (الأعراف: 176) و.. وهذا كلّه يعني أنّ نظريّة البطون ـ وفقاً لهذه الفرضية ـ لا تختزن شيئاً جديداً في النظام الدلالي.
وهذه الفرضيّة محتملة؛ لأنّ العبرة والرسالة ليست ظاهرةً حال قيام القاصّ بقصّ قصّته؛ وإنما هي أمرٌ فيه خفاء نسبي كما هو واضح، لكن تظلّ هذه الفرضية ـ رغم منطقيّة احتمالها ـ تعاني من مشكلة أنّ بعض الروايات دلّ على أنّ لكلّ آية في القرآن ظاهراً وباطناً، فيما هذه الفرضية كأنها تحصر الأمر بدائرة القصص القرآني، ولا تفسّر الشموليّة في البطن القرآني، الأمر الذي يضعها في قدرٍ من الاستبعاد أو المحدوديّة.
7 ـ فرضيّة الإجمال في تفسير البطون القرآنيّة
ذهب السيد أبو الحسن الإصفهاني إلى وجود التشابه والإجمال في تفسير معنى الظاهر والباطن الوارد في النصوص([59]). ولعلّ الذي دفعه إلى ذلك أنه رأى الاحتمالات متساوية وأنّه من الصعب حسم الموقف لصالح واحدٍ من هذه الاحتمالات، الأمر الذي يجعل الباحث يقف أمام إجمال، كقضية استواء الله على العرش مثلاً، ولهذا يكون الحديث في هذه الحال من الأخبار المجملة المتشابهة.
وتعليقاً على هذا الكلام يمكن القول بأنّ الجهل بتحديد المعنى الحقيقي الدقيق للفكرة الواردة في هذه النصوص، ربما لا يضرّ ضرراً نهائياً بها، بحيث يعطّل إمكانية الاستفادة منها؛ لأنها تظلّ تجتمع تحت سقف واحد، وهو أنّ المدلولات السطحية المنسبقة إلى الذهن العرفي بمجرّد سماع الآية وإن كانت صحيحة، إلا أنّ هذا لا يعني عدم إمكانية ممارسة تأمل ـ قد يخضع أيضاً لضوابط الفهم العقلائي للكلام ـ بهدف الكشف عن مساحات جديدة في المعنى كانت خافيةً، وكأنّ الروايات تريد أن تفتح في النص القرآني فسحة المقاربات والمقارنات والجمع والضمّ والتأمل لاكتشاف دلالات جديدة، فهذا هو الباطن، أي الجانب المخفي، وهذا معنى الأبعاد المتعدّدة في القرآن الكريم على حدّ تعبير الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والعلامة محمد حسين فضل الله([60]). وسيأتي ما يزيد القضية وضوحاً إن شاء الله تعالى.
8 ـ البطون وفرضية استعمال اللفظ في غير معنى
الفرضيّة الثامنة هنا هو أن يكون المراد أنّ القرآن استعملت ألفاظه في غير معنى دفعة واحدة، بحيث كانت بعض المعاني أقرب إلى العقل العام من بعضها الآخر، فكلمة (طعام) استعملت في الأكل المادي، واستعملت في الوقت عينه في العلم، لكنّ أحد المعاني المستعمل فيها اللفظ كان أقرب إلى ذهن العرف من غيره فتصوّره ولم يلتفت إلى الآخر فسمّي الأول ظاهراً، وسمّي الثاني باطناً.
هذه الفرضية محتملة أيضاً، إلا على تقدير القول بثبوت النظرية القائلة باستحالة استعمال اللفظ الواحد في غير معنى، كما ذهب إلى ذلك جمعٌ من علماء أصول الفقه؛ فإنّه مع هذه النظريّة تصبح نظرية البطون نظريةً مستحيلة، أمّا إذا قلنا بإمكان استعمال اللفظ في غير معنى، غايته أنّه خلاف الظاهر من الكلام أو قليل التحقّق، فإنّ روايات البطون كأنها تريد أن تعلن أنّ القرآن جاء على نظام غير متداول كثيراً في اللغة العقلائية، الأمر الذي يفرض تلقائياً أن يكون النظام اللغوي القرآني عرفياً وما فوق عرفي معاً.
وقد علّق السيد محمّد حسين فضل الله على نظريّة استعمال اللفظ في غير معنى وارتباطها ببطون القرآن بالقول: «إنّ تعدّد المعنى في الاستعمال الواحد ليس مألوفاً في الطريقة العامّة للكلام؛ لأنّه لا ينسجم مع أسلوب التفاهم، حتى في الكلمات المشتركة بين غير معنى؛ لأنّ الوضع للمعاني المتعدّدة لا يفرض استعمالها، بل يعني حاجة كلّ واحد منها في إرادته من اللفظ إلى قرينة حالية أو مقالية، وإذا كان الناس يتحدّثون عن "المجمل"، فإنّه يوحي بالإجمال في معرفة المعنى المراد من اللفظ مع احتماله بين غير معنى، ولذلك فإنّ المسألة ليست مسألة الإمكان والاستحالة من حيث الذات، بل هي مسألة المنهل الفني في استعمال الكلام في التفهيم لدى العرب، فلو أريد هذا اللون من التعدّد من الكلام لكان بعيداً عن النهج المألوف لديهم من خلال إخلاله بالوضوح، وابتعاده ـ بذلك ـ عن مستوى البلاغة الذي يتنافى مع الإعجاز الفني الذي يرتفع به القرآن إلى أعلى قمّة في الفنّ البلاغي»([61]).
9 ـ فرضيّة إرادة الإشارة لدقة المعاني القرآنية
الفرضية التاسعة هنا هو ما نقله الميرزا الإيرواني مشافهةً عن مجلس درس الآخوند الخراساني([62])، من أنّ هذه الروايات لا تعني أنّ للقرآن معاني متعدّدة، بعضها ظاهر وبعضها باطن، وإنما هي تعبير بلاغي أريد به أنّ معاني القرآن دقيقة لا يفهمها الإنسان السطحي بل تحتاج إلى متخصّص وناظر ومتأمل أو إلى أشخاص معيّنين يدركون هذه المعاني، فبدل أن يقول: إنّ معاني القرآن دقيقة ولا ينالها الفهم العادي، عبّر بالبطون، مشبّهاً عدم رؤية الذهن العادي لها بالحجاب أو البطن؛ لأنّ البطن تحجب عن رؤية ما فيها.
وهذه الفرضية معقولة، وربما يدعمها رقم سبعة وسبعين الدالَّين على المبالغة، فيكون المراد الدعوة إلى عدم الاستخفاف بالمقاصد القرآنية والتأمّل في النص، أو الدعوة إلى حصر فهم القرآن بأشخاص معيّنين مثل أهل البيت.
10 ـ البطون وثنائي العبور والاستيحاء، نظريّة العلامة فضل الله
الفرضية العاشرة هنا هو ما ذكره العلامة السيد محمد حسين فضل الله([63])، فقد دخل فضل الله هذا البحث ـ في سياق الحديث عن بعض الوجوه السابقة مثل التعدّد المصداقي وتعدّد الأبعاد، ونظرية اللوازم وقبوله الإجماليّ لها([64]) ـ فقام بتحليل أوّلي لمفردتي: الظاهر والباطن، حيث قال: «إنّنا لا نستطيع تصوّر مسألة الظاهر والباطن بالطريقة المادية التي تجعل للفظ طبقتين من المعنى، تماماً كما هو ظاهر الشيء وباطنه، الذي تتعدّد فيه العناصر، وتتنوّع فيه الخصائص، أو كما هو الظهر الذي يمثل جانباً من الجسد يختلف عن الباطن الذي يمثل جانباً آخر، فهناك حالتان عضويّتان متعدّدتان؛ لأنّ اللفظ حالة صوتية بسيطة توحي بحالة ذهنية مماثلة فيما هو المألوف من الطريقة المألوفة في اللغة العربية، لذلك لا بدّ من استنطاق هذا المصطلح على أساس إرادة المعنى الواحد الذي تختلف طريقة فهمه تبعاً لاختلاف ثقافة الإنسان..»([65]).
وقد رفض السيد فضل الله فكرة الظاهر والباطن بالمعنى الذي يستدعي وجود معانٍ للقرآن الكريم على الطريقة الصوفية أو الرمزية أو غيرها([66])، وقال بأنّ المنظور من البطون ليس التأسيس لنظام لغوي مختلف عن نظام التعبير العربي الذي يفهمه العرب بقراءتهم للنصوص والخطابات، وإنما يقوم على أساسين نوضحهما على طريقتنا:
الأول: العبور من الجزئي إلى الكلّي أو من المادي إلى المعنوي، بمعنى أنّ القرآن قد يطلق موارد جزئية لكنه يؤسّس فيها لقواعد عامة، كما في قصص الأنبياء والتجارب التي أعطى منها موقفاً في أحداث وقعت في الصدر الإسلامي الأوّل في الحروب والعلاقة مع المنافقين وغير ذلك، فإنّ الانتقال إلى الكلي يسمح بإعادة إنتاج القرآن ضمن سياق عام يقبل تطبيقه خارج الإطار الجزئي الزمكاني الذي كان فيه.
وبهذا يلتقي فضل الله أو يعيد إنتاج نظرية المصاديق أو يريد الانتقال من المادي إلى المعنوي، كأن نفسّر إحياء النفس الذي هو بمنزلة إحياء للجميع في إطار الإحياء المعنوي، كما جاء في بعض الروايات، ففضل الله هنا يدمج بين نظرية التجريد المادي للوصول إلى المعنى العام الجامع وبين إعادة صبّ هذا المعنى الجامع على المصداق الجديد.
وفكرة العبور من المادي إلى المعنوي، يرجع أساسها إلى الاتجاهات العرفانية ونحوها، وقد طرح العلامة الطباطبائي هذه الفكرة عندما فسّر بها بطون القرآن أيضاً، ليجعل القرآن مسوقاً في كثير من مواقفه على طريقة الأمثال التي تقرّب المعنوي إلى الذهن البشري الذي يألف الحسّ([67]).
الثاني: الاستيحاء، بمعنى أنّ الناظر في القرآن يلحظ فيه إشارات ولطائف ودلالات متحرّكة يمكن استيحاء تصوّرات منها وفقاً لنظام اللغة العربية، فقد يستوحي من قصّة ملكة سبأ، أنّ القرآن يريد أن يركّز مفهوم قدرة المرأة على ممارسة إدارة سياسية حسنة للسلطة، وينتفع الفقيه بهذا الاستيحاء، أو قد يستوحي الفقيه من سرد كبرى الفرائض في الإسلام فيضع القرآن الأمر بالمعروف إلى جانب الصلاة والزكاة والإيمان بالله وطاعة الرسول، فصحيح أنه لا يوجد صيغة أمر أو مادة أمرية، لكنّ هذا السياق يقدّم استيحاءً بعظمة هذه الفريضة.
إنّ الاستيحاء يعني تجاوزاً مدروساً لحرفيّة النصّ خاضعاً لمنهج الفهم اللغوي، وتخطّياً للبعد المعجمي والقاموسي، وكلّ ما نحصل عليه من تجاوز الجزئي إلى الكلي والمحسوس إلى المعنوي وما نستوحيه بطريقة تعدّد الأبعاد القرآنية، هو الذي يسمّى بطناً؛ لأنه لا يبدو لنا للوهلة الأولى، بل فيه قدرٌ من الخفاء.
من هنا ربط العلامة فضل الله بين البطون والتأويل والاستيحاء، فذكر: «أنّ التأويل ليس إلا عمليّة استيحاء للمعنى من خلال التقاء المعاني ببعضها البعض في الأهداف التي يستهدفها القرآن في القضايا التي يثيرها أمام الناس، والمفاهيم التي يوحيها إليهم..»([68]).
ففضل الله يريد هنا بناء فكرة الاستيحاء تارةً على المقاربة والمقارنة بين النصوص القرآنية، وأخرى على الربط بين المعاني والمفاهيم المأخوذة من القرآن الكريم، وربما ثالثة على فكرة الذوق التفسيري الذي يملكه المفسّر من خلال خبرته بالنص القرآني تماماً كما يملك الفقيه ذوقاً فقهيّاً أو شمّاً فقاهتيّاً كما يقولون؛ من هنا كان فضل الله ميّالاً للجمع بين بطون اللفظ وبطون المعنى بالطريقة الخاضعة لنظام اللغة.
وأعتقد أنّ العلامة فضل الله طرح فكرة الاستيحاء ليعطي العملية التفسيرية طابعاً مرناً يمكنه من خلاله تحريك الاستناد إلى النصوص وتحريك التعاطي مع المعاني بما يخدم الجري القرآني والتطبيق القرآني على مختلف مرافق الحياة بمظاهرها الجديدة.
وهذه الفرضية في تفسير البطون محتملة أيضاً، ولا تأباها اللغة العربية في تفسير الكلمة، وأعتقد أنّ السيد فضل الله كان يريد ـ بشدّة ـ الحفاظ على مرجعية اللغة العربية، وعدم القبول بالتفاسير التي تستنكرها هذه اللغة، وتتصادم مع فهمها العرفي؛ ولهذا ذكر في نهاية كلامه قائلاً: «إنّنا لا نحتاج إلى الخروج عن المألوف من قواعد اللغة العربية في تفسيره، أو إلى إبعاده عن القضايا العامّة، من أجل التركيز على هذه الحقيقة أو تلك، أو هذا الرمز الشرعي للحقّ؛ لأنّ الخطوط العامّة المتناثرة فيه، والنماذج الحيّة المتحرّكة في داخله، يمكن أن توحي لنا بما نريد، في عالم الدليل والبرهان»([69]).
وهذا هو ما قلناه من أنّ فضل الله كان يريد من جهة الحفاظ على مرجعيّة اللغة، وكذلك الحفاظ على سعة المعطيات القرآنية وقابليتها للاستمرار من دون خنقها في حقيقة من الحقائق أو مفهوم محدّد من المفاهيم. وهكذا نجد أنّ العلامة فضل الله يبتعد عن بعض الفرضيات السابقة ويقترب من بعضها الآخر.
ونجد شيئاً يشبه ذلك ـ أي ضرورة تحكيم المرجعية اللغوية بهذا المعنى ـ عند السيد محمد باقر الصدر، ففي تعليقه على رواية عبد الرحمن بن كثير التي جاءت في سياق تفسير آية: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ﴾، قال الإمام الصادق×: «أمير المؤمنين والأئمّة ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ قال: فلان وفلان ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أصحابهم وأهل ولايتهم ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾ أمير المؤمنين والأئمّة»([70]). قال السيد الصدر: «ومثل هذه الرواية على طريقتنا لا يعمل بها؛ لأنها مخالفة للكتاب.. أمّا المخالفة مع الكتاب فلما سوف يأتي في بحوث التعادل والتراجيح من أنّ كل رواية تكون مخالفةً لكتاب الله سبحانه زخرف باطل لم يقله الأئمّة، وأيّ مخالفة أشدّ من مثل هذه التأويلات الباطنية التي لا يمكن تطبيقها بوجه من الوجوه مع الكتاب الكريم»([71]).
إنّ هذه الرواية ليس فيها مشكلة وفقاً للنظريّات السائدة في بطون القرآن، لكنّ رفض السيد الصدر لها معناه أنه يرى أنّ فهمنا العرفي للقرآن وسياقاته يصلح له طرح هذه الروايات دون السماح بتعليلها بفكرة البطون، وهذا يعني خضوع فكرة البطون عنده لمعيارية الفهم العرفي بالشكل الذي تقدّم.
نتائج رصد النظريّات والفرضيات
إنّ الفرضيات الممكنة، بعضها ينسجم أو فيه قابلية الانسجام مع عرفية اللغة، وبعضها الآخر يستدعي لغةً ما فوق عرفية، وبعضها لا يفيد شيئاً، كالقول بالتشابه والإجمال.
على خطّ آخر، لاحظنا أنّ النظريات المطروحة حول البطون القرآنية يمكن تصنيفها ضمن إطارين:
الأوّل: إطار ثنائي الوجود والمعرفة، حيث رأينا أنّ أغلب النظريات والفرضيات المطروحة هي نظريات معرفية؛ لأنّها ترى الظاهر والباطن مراتب للمعرفة، وهذا يعني أنّ الظهور والبطون درجات للمعرفة، فعندما نقول بنظرية اللوازم فهذا يعني أنّ الباطن هو معرفة لا تأتي للوهلة الأولى وإنّما يحتاج الوعي الإنساني للمرور بمرحلة معرفية أولى هي الظاهر للوصول إلى المرحلة المعرفية الثانية التي هي الباطن، وهذا على خلاف الحال في نظرية العرفاء، فإنّ الظاهر والباطن فيها رتبٌ وجودية وليست درجات معرفية، فباطن القرآن رتبة وجودية أرقى من الرتبة الوجودية الظاهريّة له.
من هنا يمكن تقسيم الموقف الإسلامي من مقولة الظاهر والباطن إلى قسمين: تيار معرفي، وآخر وجودي، وقد انتبه إلى هذا التقسيم بعض الباحثين المعاصرين أيضاً([72]).
الثاني: إطار ثنائي اللغة العرفية العقلائية والما فوق عرفية وعقلائية، حيث وجدنا من خلال ما تقدّم أنّ بعض النظريات التي طرحت تنسجم مع اللغة العقلائية، ولا تفرض لغةً ما فوق عقلائية أو وضعاً ما فوق عقلائي، فيما رأينا أنّ بعض النظريات الأخرى تفرض هذا الوضع، بل وتعدّه حجر الزاوية في تفسيرها لفكرتي: الظاهر والباطن.
وبناء عليه، فالذي يبدو لنا أنّ الباحث يقف هنا أمام احتمالين وسط هذا الكمّ من الفرضيات والنظريات والمواقف والمعطيات والأدلّة؛ وذلك أنّه:
أ ـ إمّا نقول بالتشابه والإجمال؛ لتساوي احتمالات الفرضيات الممكنة، وفي هذه الحال لا يمكننا التأكّد من أنّ نظرية البطون بإمكانها أن تحسم لنا وجود لغة (ما وفق) غير عرفية في القرآن الكريم؛ لأنّ الاحتمالات متساوية، فكما يمكن أن يكون الواقع احتمالاً يستدعي لغةً غير عرفية، كذا من الممكن أن يكون احتمالاً لا يستدعي ذلك، فوفقاً لحالة تردّد الباحث ينبغي الخروج بنتيجة تحفظ المعطيات المؤكّدة بين الأطراف والأدلّة، وهي اللغة العرفية والعقلائية وخضوع القرآن لها؛ فإنّ هذا هو الأمر المؤكّد في هذا المضمار وسط هذا التردّد.
ب ـ أو أن نقول بالجامع المشترك الذي تستدعيه طبيعة التعبير بالبطن أو الباطن، فإنّ هذه الكلمة أخذت من الخفاء؛ لأنّ البطن أو باطن الشيء يكون مخفياً عادةً، فشبّه المخفي بالباطن والبطن، فيما الظاهر يكون له ظهور لا بطون، وإذا أخذنا هذا القاسم المشترك سنجد أنّ القرآن توجد بعض دلالاته ومعطياته واضحة ظاهرة بيّنة يفهمها الإنسان عندما يطالع الآيات القرآنيّة، لكنّ هذا لا يمنع أن تكون بعض رسائل القرآن الكريم ومعانيه غير ظاهرة، بمعنى أنها تحتاج إلى حفر وتحليل ومقاربة ومقارنة ورصد المناخ المحيط لفظياً ومقامياً وحالياً وغير ذلك.
وهذا ما يفعله العلماء والمفسرّون، ولا سيّما في التفسير الموضوعي؛ ذلك أنهم يقومون بمزيد من الجهد للكشف عن دلالات القرآن، وهذه هي سيرورة التجربة البشرية في تفسير هذا النص المقدّس، وذلك كلّه تحت سقف مرجعية اللغة والعرف، بما يستوعب المعجم والسياقات التاريخية والاجتماعية والمضمونية والقرائن الحالية والمقامية واللفظية والداخلية والخارجية وغير ذلك، فما يفعله الكثير من الفقهاء والمفسّرين والأصوليين وعلماء القرآنيات والكلام هو كشف للباطن بكلّ ما للكلمة من معنى، ولعلّ هذا الباطن هو الذي يسمّيه السيد محمد باقر الصدر بالظهور المعقّد مقابل الظهور البسيط([73])، وإن تركّز في الوعي الإسلامي ربط فكرة الباطن بالاتجاهات الباطنية كالصوفية والإسماعيلية الباطنية والغلاة والفلاسفة والعرفاء وأمثالهم، وهذا الارتكاز تاريخيّ السبب، وإلا فلا ربط بين باطن القرآن ـ بحسب الدلالة اللغوية للكلمة والمعطى المضموني للمفهوم ـ وبين هذا النوع من البطون.
ويؤيّد ذلك الرواية الأولى من سلسلة الروايات التي عرضناها سابقاً، حيث أشرنا إلى حديثها عن محرّمات تؤخذ من باطن القرآن الكريم([74]).
وبهذا يتبيّن أنّ نظرية البطون القرآنية نظرية صحيحة بالمعنى الذي ذكرناه، حتى لو لم تدلّ عليها الروايات، وهي لا تنافي اللغة العرفية، ولا تثبت شكلاً لغوياً آخر يختصّ به الكتاب العزيز. غاية الأمر أنّ هذه البواطن:
1 ـ عرفية عقلائية لا تعبّر عن نظام لغوي قرآني خاص.
2 ـ على صلة بالظواهر ولو عبر الواسطة.
3 ـ تخدم القرآن في شموليّته وسعته وبقائه وحيويته.
4 ـ تحتاج إلى تدبّر وتأمل وتفكّر في الكتاب الكريم، وهذا ما يرشد إلى ما تريده الآيات والأحاديث الآمرة بالتدبّر في الكتاب، بمعنى أنّها تريدنا العبور من دلالته الأولية إلى معاني أعمق وأكبر وأشمل.
([1]) هذا تقرير لأربع محاضرات ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، بتاريخ (14 ـ 21 ـ 28) 3 ـ 2023، و3 ـ 4 ـ 2023م، وقد قام بتحريرها وتنظيمها الدكتور محمد طرّاف، ثمّ راجعها وأضاف عليها الشيخ حبّ الله.
([2]) كالحروف المقطّعة في القرآن، واختلاف المفسّرين فيها.
([3]) البيان في تفسير القرآن: 263، بيروت: دار الزهراء، 1975.
([4]) راجع: كاشف الغطاء، الحقّ المبين: 24؛ وكشف الغطاء 1: 191 ـ 192؛ والقمي، القوانين المحكمة 1: 379؛ والإصفهاني، وقاية الأذهان: 504 ـ 505؛ والإيرواني، الأصول في علم الأصول 2: 250 ـ 251؛ والتبريزي، أوثق الوسائل: 77؛ والخوئي، البيان: 262؛ ومصباح الأصول 2: 122 ـ 123؛ ودراسات في علم الأصول 3: 131؛ واللنكراني، مدخل التفسير: 162.
([5]) انظر: الأعرجي، شرح مقدّمة الحدائق (مخطوط)، الورقة رقم: 46؛ والصدر، مباحث الأصول 2: 241 ـ 242؛ وبحوث في علم الأصول 4: 289 ـ 290؛ والحلقة الثانية: 223 ـ 224؛ والبروجردي، نهاية الأصول: 476، 478، 479؛ وتقريرات في أصول الفقه: 254 ـ 255؛ وجوادي آملي، تفسير تسنيم 1: 74؛ وعلي كمالي، شناخت قرآن: 71.
([6]) التوحيد: 235؛ ومعاني الأخبار: 44.
([7]) انظر: مجلة معرفت (فارسية) 19: 16 ـ 18.
([9]) انظر: كشف الأسرار (فارسي): 322.
([10]) الكليني، الكافي 1: 91؛ والصدوق، التوحيد: 283 ـ 284.
([11]) انظر: محمد هادي معرفت، مجلّة بينات، العدد 1: 54؛ والهادوي الطهراني، مباني كلامي اجتهاد: 118، 306.
([12]) الميزان في تفسير القرآن 2: 175، و3: 292، و12: 15 ـ 16.
([13]) قرآن در إسلام: 46؛ والميزان 3: 22.
([15]) الميزان 1: 11، و3: 76، و5: 381.
([16]) حول نظريّة العلامة الطباطبائي، انظر: محمّد حسن قدردان قراملكي، كلام فلسفي: 303 ـ 320.
([17]) انظر: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 246 ـ 248، مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م.
([19]) معاني الأخبار: 259؛ ونحوه تفسير العياشي 1: 11.
([20]) الكافي 4: 549؛ ومعاني الأخبار: 340؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 2: 485 ـ 486.
([22]) انظر: معجم رجال الحديث 3: 71 ـ 73، رقم: 874.
([23]) بصائر الدرجات: 147 ـ 148.
([27]) انظر حوله: معجم رجال الحديث 19: 356 ـ 358، رقم: 12667 ـ 12669.
([29]) المصدر نفسه 2: 300؛ وتفسير العياشي 1: 11، 12.
([30]) انظر: معجم رجال الحديث 18: 146 ـ 155، رقم 11588 ـ 11599.
([31]) راجع: المصدر نفسه 10: 21، رقم: 5718.
([32]) بصائر الدرجات: 216، 223؛ وقريب منه في: تفسير العياشي 1: 11؛ وبحار الأنوار 89: 94.
([33]) تفسير العياشي 1: 12؛ وبصائر الدرجات: 215 ـ 216.
([35]) الفيض الكاشاني، التفسير الصافي 1: 31، 59؛ والفناري، مصباح الأنس بين المعقول والمشهود: 17؛ وصدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية 3: 36؛ والأحسائي، عوالي اللئالي 4: 107.
([37]) يذكر ـ على سبيل المثال ـ: جواهر الكلام 9: 295، ومفتاح الكرامة 7: 221.
([38]) انظر: محمد كاظم شاكر، روشهاى تأويل قرآن: 88 ـ 89.
([39]) انظر: مصباح الأنس بين المعقول والمشهود: 17: 18؛ والحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 3: 36 ـ 40.
([40]) انظر: العاملي، مفتاح الكرامة 7: 221؛ وجواهر الكلام 9: 295؛ ومصباح الفقيه ج2، ق1: 274 (ط.ق).
([41]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: السيوطي، الإتقان 2: 487، وسائر الكتب المخصّصة لعلوم القرآن، مثل كتاب البرهان للزركشي، والصافي للكاشاني، وغيرهما..
([42]) انظر: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي قراءة وتقويم: 349 ـ 368.
([43]) انظر: حيدر حب الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي التكوّن والصيرورة: 297 ـ 361.
([44]) بالمناسبة، تعرّض علماء أصول الفقه في الفترة المتأخرة لدراسة نظرية البطون القرآنية بإيجاز شديد، وذلك في سياق دراسة مسألة استعمال اللفظ في غير معنى، حيث طرحت نظرية تجوّز ذلك، واستدل بعضهم على الوقوع فضلاً عن الجواز بالنصوص الدالّة على أنّ للقرآن بطوناً، حيث اعتبروا ذلك تعدّداً في المستعمل فيه اللفظ.
([45]) سوف نتعامل مع هذه الآراء بوصفها فرضيات؛ لأنّ الكثير منها طرحه أصحابه بصفة فرضية، وليس بوصفه نظرية حاسمة، وإلا فإنّ غير واحدة من هذه الفرضيات قد تبنّاه بعض العلماء، كما قد تتداخل بعض هذه النظريات، لكنّنا فرزناها لمزيد توضيح واستجلاء.
([46]) الخراساني، كفاية الأصول: 55؛ والإصفهاني، وسيلة الوصول: 133؛ وآل الشيخ راضي، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول 1: 162 ـ 163.
([47]) البروجردي، نهاية الأصول: 56؛ والخوئي، محاضرات في أصول الفقه 1: 239؛ وبداية الوصول في شرح كفاية الأصول 1: 163؛ والروحاني، زبدة الأصول 1: 121؛ والفيروزآبادي، عناية الأصول 1: 115؛ والميرزا الإيرواني، نهاية النهاية 1: 60.
([48]) انظر: الإيرواني، نهاية النهاية 1: 60؛ ومحاضرات في أصول الفقه 1: 239 ـ 240؛ وزبدة الأصول 1: 121.
([49]) انظر: نهاية النهاية 1: 60 ـ 61؛ والعراقي، نهاية الأفكار 1 ـ 2: 117 ـ 118.
([50]) انظر: التبيان 1: 9؛ والبرهان 2: 169؛ والسيوطي، الإتقان 2: 486.
([51]) انظر: كفاية الأصول: 55 ـ 56؛ ونهاية الأفكار 1 ـ 2: 117 ـ 118؛ ومحاضرات في أصول الفقه 1: 240؛ وبداية الوصول 1: 162؛ وزبدة الأصول 1: 121؛ والقزويني، تعليقة على معالم الأصول 1: 523؛ ومحمد هادي معرفة، التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب 1: 24.
([54]) البروجردي، الحاشية على كفاية الأصول 1: 110؛ ونهاية الأصول: 56.
([55]) الحكيم، حقائق الأصول 1: 95؛ وزبدة الأصول 1: 122؛ وعناية الأصول 1: 115؛ والتفسير والمفسّرون 2: 527.
([56]) بداية الوصول 1: 162؛ وانظر: تعليقة على معالم الأصول 1: 524.
([57]) انظر: التبيان 1: 9؛ والزركشي، البرهان 2: 169؛ والإتقان 2: 486؛ والزمخشري، الفائق في غريب 2: 322.
([58]) بناءً على شمولها لمحلّ البحث هنا.
([59]) الإصفهاني، وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول: 133.
([60]) انظر: الأمثل 1: 5 ـ 6؛ وتأملات في المنهج البياني للقرآن، مجلة رسالة القرآن، العدد 9: 23 ـ 24.
([61]) تفسير من وحي القرآن 1: 10.
([63]) تأملات في المنهج البياني للقرآن، مصدر سابق: 21 ـ 24؛ والندوة 1: 240؛ وصورة النبي محمد في القرآن، مجلة الثقافة الإسلامية، العدد 65: 50.
([64]) انظر: تفسير من وحي القرآن 1: 14 ـ 18.
([66]) المصدر نفسه 8: 144؛ وله أيضاً: مفاهيم إسلامية عامّة، الحلقة 3 ـ 4: 59، نشر دار الأضواء، بيروت.
([67]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 28 ـ 32.
([68]) تفسير من وحي القرآن 8: 144.
([71]) الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 283.
([72]) انظر: جواد علي كسار، فهم القرآن دراسة على ضوء المدرسة السلوكية: 389 ـ 423، نشر مؤسسة العروج، إيران، الطبعة الأولى، 1424هـ.
([73]) الصدر، المدرسة القرآنية: 292 ـ 293، نشر المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر.
([74]) لقد فسّر الشيخ المفيد الباطن بأمثلة تصب كلّها في إطار الاجتهاد الإسلامي المعروف الذي لا يقف عند حدود اللفظ بجذره اللغوي بل يحاول تحليل القرائن والسياقات الداخلية والخارجية فراجع له كتاب: مختصر التذكرة في أصول الفقه الموجود في كتاب الكراجكي، كنـز الفوائد: 187.