فقه الإضرار بالنفس في الشريعة الإسلاميّة ومراجعة نقديّة لرأي العلامة فضل الله
حيدر حب الله([1])
قاعدة تحريم الإضرار بالنفس، أهميّتها المعاصرة ومستوياتها
ما نريد أن نتناوله في الحديث عن الحرمة العارضة ـ بعد وضوح ما تقدّم أو عدم قرآنيّته ـ هو الحرمة العارضة بملاك الضرر، حيث إنّ بعض ما يدخل الجوف من الطعام والشراب وغيره قد يُلحق الضررَ بالإنسان غالباً أو في حالات خاصّة، فهل يحرم تناوله، لا في ذاته، بل لهذه الحرمة العارِضة أو لا؟
من الواضح أنّه يحرم بملاك الضرر، وفي الحقيقة هو ليس بحرام، وإنّما الحرام هو الإضرار بالنفس، فإذا أكله وتضرّر لا يرتكب محرّمين: الإضرار والأكل، بل يرتكب حرمةً واحدة، وهو الإضرار الآتي من الأكل، وعليه فالبحث يجب أن ينصبّ على حرمة الإضرار بالنفس وهل هي ثابتة أو لا؟ وما هي دائرة الإضرار المحرَّم؟
وهذا البحث ـ أيّ الإضرار بالنفس ـ ليس خاصّاً بفقه الأطعمة والأشربة، بل هو عام شامل له ولغيره، لكنّنا سنبحثه هنا لأهميّته وكثرة ارتباطه بالأكل والشرب.
لقد صارت هذه المسألة من البحوث المهمّة التي تمّ تناولها في دراسة أمورٍ فقهية متعدّدة ومهمّة اليوم، ومن أبرز أمثلتها:
1 ـ التدخين بأنواعه، حيث ذهب بعض الفقهاء إلى حرمته؛ لكونه موجباً للضرر، وأنّ الضرر الذي فيه مشمولٌ للضرر المحرّم شرعاً. وهذه المسألة ابتلائيّة عامّة اليوم.
2 ـ المخدِّرات، حيث إنّها لا تندرج فقهّياً عند العديد من الفقهاء تحت عنوان المسكر، لهذا يحكم الكثير من هؤلاء بحرمتها بملاك الضرر الذي فيها فقط، ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى حرمة مثل الحشيش وسائر المخدّرات إذا كان ضرره بالغاً، إمّا لجهة زيادة الكميّة المأخوذة أو لجهة الضرر اللاحق من الإدمان عليه، وإلا فهو في نفسه غير محرّم. وهناك من أفتى بحرمته مطلقاً بالعنوان الأوّلي لكون الضرر الذي فيه وإن لم يؤدّ إلى التهلكة لكنّه حرام أيضاً.
3 ـ التطبير وأمثاله، حيث وقع خلاف في حرمته وعدم حرمته من باب الضرر.
ولا بأس هنا بالبحث في مسألة الإضرار بالنفس، ولو باختصار؛ للوصول فيها إلى نتيجة فنقول:
المستويات الأربعة لفكرة الإضرار بالنفس
إنّ الإضرار بالنفس له مستويات:
المستوى الأوّل: الإضرار المفضي فوراً أو في العاجل القريب عرفاً إلى الموت، وهنا لا شك في أنّه لو بلغ الإضرار بالنفس حدّ الموت كان محرّماً؛ لحرمة قتلِ الإنسان نفسه بإجماع العلماء. وأمّا المفضي إلى الموت في الآجل البعيد فهو مما يستحقّ البحث، وبحثنا هنا في أصل تأسيس القاعدة، فلا نخوض في مثل هذه الامتدادات.
المستوى الثاني: أن يبلغ الضرر حدّاً كبيراً لكن لا يفضي إلى الموت والهلاك وإزهاق الروح، كما لو أدّى إلى بتر عضوٍ من الأعضاء أو إتلاف طاقةٍ من الطاقات كالبصر أو السمع أو نحو ذلك.
وقد اتفقت كلمة الفقهاء هنا على القول بالحرمة أيضاً، ولو للإرتكاز العقلائي والمتشرّعي على مبغوضيّة ذلك، كالإرتكاز القائم على مبغوضيّة قتل النفس.
المستوى الثالث: أن يبلغ الضرر حدّاً معتداً به، لكن دون ما تقدّم، كما في جرح الإنسان نفسه، ولو جرحاً كبيراً، أو نحو ذلك. والمشهور جواز ذلك، وذهب بعضٌ إلى الحرمة.
المستوى الرابع: أن يكون الضرر خفيفاً عرفاً وطفيفاً، مثل السهر الطويل الموجب للصداع، أو العمل الكثير الموجب للإرهاق وبعض الأوجاع ونحو ذلك، وهذا مما اتفق الجميع على حليّته؛ لجريان السيرة العقلائيّة والمتشرّعيّة عليه قطعاً.
فمركز البحث هو المستوى الثالث، ويليه المستوى الثاني، أمّا الأول والرابع فهما واضحان فقهيّاً.
مستندات مبدأ حرمة الإضرار بالنفس
وعلى أيّة حال، فنحن نعرض الأدلّة على حرمة إضرار الإنسان بنفسه، للنظر في مقدار دلالتها وما تفيد بما يحدّد لنا الموقف في المستويات الأربعة المتقدّمة، وقد ادّعى الشيخ الأنصاري قيام الأدلّة العقلية والنقليّة على تحريم الإضرار بالنفس([2]).
وما يمكن طرحه من أدلّة هو الآتي:
1 ـ تحريم قتل الإنسان نفسَه، هل حرّم القرآن الانتحار؟!
الدليل الأوّل هنا هو الاستناد إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء: 29).
فإنّ هذه الآية تنهى المؤمن عن قتل نفسه، فهي دليل قرآني واضح على حرمة الانتحار، فكلّ طعام أو شراب يُفضي إلى قتل الإنسان لنفسه فهو حرام. وقد وردت بعض الروايات في تفسير هذه الآية بهذا المعنى([3]).
إلا أنّ الاستدلال بهذه الآية خاصّ بحال إفضاء الأمر إلى حدّ قتل النفس، أي المستوى الأوّل من المستويات الأربعة المتقدّمة، ولا يطال سائر المستويات.
بل قد نوقش في دلالة هذه الآية حتى على حرمة الانتحار نفسه، من حيث إنّ المراد بها قتل المؤمنين بعضهم بعضاً، ولا أقلّ من احتمال ذلك جداً، فيصعب معه الاستدلال، وذلك لمجموعة عناصر:
أ ـ إنّ صدر الآية ظاهرٌ في الحديث عن علاقات المؤمنين ببعضهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾، فالسياق ظاهر في علاقات المؤمنين ببعضهم، ويصعب معه فهم قتل النفس من ذيل الآية الكريمة.
ب ـ ما جاء في الآية اللاحقة فوراً، حيث قال تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا﴾ (النساء: 30)، فهو ظاهر في العدوانيّة والظلم بما يوحي بقتل الشخص لغيره.
ج ـ ورود هذا التعبير نفسه في القرآن الكريم في حقّ بني إسرائيل، بمعنى قتل بعضهم بعضاً، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 54)، حيث فسّرها المفسّرون بقتل بعضهم بعضاً.
وبهذا لا يصحّ الاستدلال بهذه الآية هنا على حرمة قتل الإنسان لنفسه، بل هذا الفهم للآية ذهب إليه غير واحدٍ من المفسّرين المسلمين.
لكن قد يجاب عن هذه المناقشة:
أوّلاً: إنّ مجرّد أنّ المقطع الأوّل في الآية يتحدّث عن علاقة الناس فيما بينهم، لا يفرض كون المقطع الثاني كذلك، فأيّ مانعٍ من أن تتعرّض الآية لأمرين أحدهما يتصل بعلاقة الناس فيما بينها، والآخر يتصل بعلاقتهم بأنفسهم، لاسيما وأنّ هذه الآية وقعت في سياق تعداد سلسلة من الأحكام الشرعيّة في الموضوعات المختلفة قبلها وبعدها بعشرات الآيات، فلا مانع من تعرّضها لحكمٍ شرعي يختصّ بأمرٍ يرجع بحقوق النفس على الإنسان.
ثانياً: قد يقال بأنّ الآية تنهى المؤمنين بما هم جماعة عن قتل أنفسهم، فقتل الجماعة لنفسها حرامٌ مطلقاً، وهو تارةً يكون بقتل بعضهم بعضاً وأخرى بقتل كلّ واحدٍ منهم نفسه، فإطلاق مفهوم قتل النفس ـ عندما يوجّه للجماعة ـ شاملٌ للحالتين معاً، وبهذا لا يكون سياق الآية مانعاً عن الشمول لحالة قتل الإنسان نفسه، بعد شمولها أيضاً لحالة قتله لغيره، وبهذه الملاحظة نجيب عن القرينة الأولى والثانية معاً.
ولعلّ هذا الذي قلناه كان يهدفه العلامة الطباطبائي حين قال: «ظاهر الجملة أنّها نهيٌ عن قتل الإنسان نفسه، لكنّ مقارنتها بقوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم، حيث إنّ ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مالٌ يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل، ربما أشعرت أو دلّت على أنّ المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الديني المأخوذة كنفس واحدة، نفسُ كلّ بعض هي نفس الآخر، فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه ونفس غيره أيضاً نفسه، فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه، وبهذه العناية تكون الجملة، أعني قوله: ولا تقتلوا أنفسكم، مطلقة تشمل الانتحار الذي هو قتل الإنسان نفسه وقتل الإنسان غيره من المؤمنين»([4]).
ثالثاً: إنّ ما ذكر في القرينة الثانية غير وجيه؛ فإنّ مفهوم العدوان والظلم لا يأبى عن الشمول لقتل الإنسان نفسه، لاسيّما بعد البناء على ما أثرناه قبل قليل، كيف والقرآن الكريم كرّر في آياته الحديثَ عن مسألة ظلم النفس (البقرة: 54، 231؛ والنساء: 110؛ الكهف: 35؛ وفاطر: 32؛ والصافات: 113؛ والممتحنة: 1؛ والطلاق: 1؛ والنمل: 44؛ والقصص: 16..)، فنسبة الظلم والعدوان إلى النفس ليست غريبة عن اللسان القرآني، بل وفي لسان السنّة الشريفة والأدعيّة المأثورة ثمّة الكثير من ذلك.
رابعاً: إنّ ما ذُكر في القرينة الثالثة ـ لو صحّ تفسير آية بني إسرائيل به، وقلنا بأنّه الراجح هناك اعتماداً على التفاسير الإسلاميّة القديمة وعلى ما جاء في التوراة نفسها([5]) ـ فهو لا يشكّل قرينة على المراد هنا؛ إذ لا ترابط بين الآيتين يفرض تفسير الثانية بالأولى.
وعليه، فلعلّ الأصحّ في فهم الآية هو القبول بشمولها لقتل الإنسان نفسه، فتكون دالّةً على حرمة الانتحار بأشكاله وطرقه التي منها الإضرار بنفسه حدّاً يوجب إزهاق الروح. ومجرّدُ ندرة الابتلاء بظاهرة الانتحار آنذاك لا يصلح دليلاً على نفي فهم الآية هنا بما يشمل الانتحار، بل إنّ الانتحار لا يقف عند حدود ما نراه اليوم من إطلاق شخصٍ الرصاص على نفسه أو رمي نفسه من شاهق، بل يشمل إهماله في علاج نفسه أو تعريض نفسه لمخاطر الموت بلا مبرّر، ونحو ذلك.
لكن ثمّة آية في القرآن الكريم قد تربك هذه النتيجة، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 84 ـ 85)، فالقرآن استخدم هنا مفهوم قتل النفس وإخراجها من الديار، لكنّه بعد ذلك فوراً كشف لنا أنّ المراد هو قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، ومن الواضح أنّ هذا الإستخدام يُربكنا هنا، ويجعل تعبير قتل النفس في سياق الحديث عن الجماعة أو في سياق مخاطبتها غير واضح في الشمول للإنتحار، إلا إذا قبلنا التعميم بوحدة النكتة والملاك أو عبر التعليق الثاني الذي ذكرناه آنفاً.
2 ـ النصّ القرآني والنهي عن قتل النفس المحترَمة
ثاني الأدلّة هنا هو قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا.. وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام: 151)، إذ تفيد الآية حرمة قتل النفس التي هي محترمة، ونفسُ كلّ إنسانٍ محترمةٌ، فلا يجوز له قتل نفسه بغير وجه حقٍّ أو مبرّر شرعي، فكلّ قتل لنفسٍ حرّمها الله ـ ومنها نَفْسُ القاتل ـ هو حرام عند الله تعالى.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ..﴾ (الإسراء: 33)، فإنّ هذه الآية وردت أيضاً في سياق تعداد ما حرّم الله تعالى.
وهاتان الآيتان تشبهان ـ لو صحّ الاستدلال بهما ـ الآيةَ السابقة، من حيث اختصاصهما بالمستوى الأوّل من مستويات الإضرار الأربعة المتقدّمة، وهو ما يفضي إلى إزهاق الروح، فلا تشملان سائر المستويات، كما هو واضح.
ويتأيّد ما نقول بقوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة: 32)، فقتل أيّ نفسٍ ـ باستخدام التنكير ـ دون أحد المبرّرين المذكورين (النفس ـ الفساد) يساوي قتل جميع الناس.
ولكنّ الاستدلال بهذه الآيات وإن كان في نفسه جيّداً، إلا أنّه قد يُدّعى وجود قرينة تصرف هذا التعبير إلى مسألة قتل الإنسان لغيره لا لنفسه، فالآيتان ـ الأولى والثانية ـ وقعتا في سياق تعداد المحرّمات العديدة، واستخدمتا التعبير عينه، لكنّ آية سورة الإسراء ذكرت تكملةً تبعث على الشكّ في إرادتها ما يشمل قتل الإنسان لنفسه؛ إذ تقول: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ (الإسراء: 33)، فإنّ تكملة الآية تجعل مساق الحديث عن قتل الإنسان لغيره مما يورث الشكّ في انعقاد إطلاق يشمل حالة قتل الإنسان لنفسه، ومع وحدة السياقين في الآيتين يصبح الاستدلال بهما مشكلاً، إلا بنحوٍ من التأييد لا أكثر.
وهكذا آية سورة المائدة، فإنّها مسبوقة بالحديث عن مسألة قتل أحد ابنَي آدم لأخيه، وهذا ما يكوّن مانعاً عن انعقاد إطلاق أو موجباً لتحقّق انصراف في الدلالة نحو قتل الشخص لغيره دون قتله لنفسه.
3 ـ القرآن الكريم والنهي عن إلقاء النفس في التهلكة
ثالثُ ما يمكن أن يستدلّ به هنا هو قوله تعالى: ﴿..وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ..﴾ (البقرة: 195)، فإنّ الآية تشير لمبدأ عام في حرمة أن يُلقي الإنسانُ نفسَه في التهلكة. والمقدار المتيقّن من التهلكة هو الموت، فتدلّ الآية على تحريم المستوى الأوّل من المستويات الأربعة المتقدّمة للإضرار([6]). وإذا تمّ الاستدلال بها سننظر في إمكانيّة دلالتها على ما هو أزيد من ذلك.
لكنّ الاستدلال بهذه الآية الكريمة قد يتعرّض لمناقشات، أبرزها:
سياق الآية بين الجهاد والحجّ، دلالات ومعطيات
المناقشة الأولى: إنّ الآيات السابقة على هذه الآية الكريمة، أي من الآية 190 وحتى الآية 194 من سورة البقرة، تتحدّث عن الجهاد وتحثّ عليه، فهي في سياق الدعوة للجهاد والترغيب فيه، فإذا جاء هذا التعبير ضمن هذا السياق فإنه سوف يعني النهي عن التقاعس عن الجهاد وتركه والتخلّي عن إعداد العُدَّة له، إذ بذلك سوف يقضي الآخرون على المسلمين، ولهذا قالت الآية السابقة مباشرةً: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 194)، فكأنّ الآية اللاحقة جاءت لتقول: لا تتركوا الجهاد وصدّ العدوان وممارسة القصاص على المعتدي، فبترك الجهاد ستزولون وسيكون هلاككم تماماً.
ومعه فلا علاقة لهذه الآية إطلاقاً بتحريم إضرار الفرد بنفسه، بل تدلّ على حرمة الإضرار بالجماعة وكينونتها، إذ بترك الجهاد سوف تتلاشى([7]).
ويجاب عن هذه المناقشة:
أوّلاً: لا دليل على ارتباط هذه الآية بما قبلها من نصوص القتال؛ لأنّ هذه قراءة متجزأة لمجموعة الآيات هنا، فهذه الآيات تتحدّث في الحقيقة ـ إذا قبلنا بسياقها ـ عن الحجّ، وهي تشرع من قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (البقرة: 189)، وبمناسبة الحديث عن الحجّ تحدّثت عن الجهاد مشيرةً إلى قضيّة هي محلّ ابتلاء المسلمين في حجّهم، وهي القتال في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام، كما جاء في الآيات (191 ـ 192، 194)، حيث قال تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.. الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.
فمناسبة الحديث عن الجهاد هو أنّ المسلمين صاروا هنا على شُرف فتح مكّة أو بُعيد ذلك، وهم يريدون الحج، وقد يواجهون جهاداً أو كفاراً، فأرادت الآيات أن تشرّع لهم مواجهة هؤلاء الكفّار، لكنّها حذّرت من المساس بالأشهر الحرم والمسجد الحرام إلا إذا بدأ الآخرون فإنّه يجوز ذلك، ومعه فالسياق هو سياق الحجّ.
ويشهد له أيضاً أنّه بعد آية التهلكة مباشرةً جاء قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.. وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (البقرة: 196)، لينتهي سياق الحديث عن الحجّ في الآية رقم 203 من السورة نفسها.
فالسياق سياق الحجّ لا سياق الجهاد. نعم جاء الحديث عن الجهاد بمناسبة الحجّ، لكن قبل الجهاد كان الحجّ وبعد آية التهلكة مباشرةً كان الحجّ أيضاً، فلا يُعلم تبعيّتها للسياق الجهادي، بل يحتمل ارتباطها بالسياق الحجّي، فمقاربة النقاش هنا من خلال فكرة سياق الجهاد غير مؤكّدة، ومن ثمّ فتفسير الآية بأنّها تريد التهلكة بترك الجهاد غير واضح وغير مؤكَّد، بل هو محتمل فقط احتمالاً أوّلياً.
هذا كلّه إذا لم يقل قائلٌ باحتمال أنّ الآية منفصلة عن السياق ونزلت مستقلةً وأنّ مجرّد العطف في أوّلها ﴿وأنفقوا..﴾ بالواو لا يدلّ على تبعيّتها في الموضوع لما قبلها؛ لأنّ الآية التي أتت بعدها مباشرة كانت في الحج، وكانت معطوفة بالواو أيضاً، وهي قوله تعالى: ﴿وأتمّوا الحجّ والعمرة لله..﴾ (البقرة: 196)، وبهذا لا يحصل اطمئنان بوقوع آية التهلكة في بطن سياق الجهاد؛ إذ لعلّها كالآية التي تليها قد استأنفت حديثاً جديداً أو نزلت نزولاً جديداً.
ثانياً: سلّمنا بأنّ المراد هو سياق الجهاد، لكنّ هذا السياق لا يفرض فهم الآية هنا بالطريقة المتقدّمة؛ لأنّه من الممكن إبقاءها على ظاهرها، فنقول: جاهدوا وقاتلوا، ولكنّ القتال لا يعني أن تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة، بل عليكم وأنتم تقومون بالجهاد أن تحافظوا على أرواحكم وأرواح المجاهدين قدر الإمكان، وليس المطلوب أن يستشهد المجاهدون، بل هم يطلبون النصرَ فإن لم يوفّقوا له فإنّ صدورهم مفتوحةٌ للشهادة.
والتعبيرُ بالتهلكة عن الموت في الحرب معقولٌ، فكأنّها تحرّم التهوّر أثناء القتال في سبيل الله بحجّة أنّه يُقاتل ويستشهد، فتكون الآية دالّةً على حرمة قتل النفس تهوّراً أثناء القتال في سبيل الله، فتدلّ على تحريم قتل النفس مطلقاً بطريقٍ أولى.
وعليه، فلا السياق المزعوم في هذه المناقشة بالمؤكّد، ولا الاستنتاج التفسيري على وفق السياق بالمؤكّد كذلك.
المناقشة الثانية: ما ذكره بعضُ المعاصرين، من أنّ كلمة الهلاك والتهلكة استعملت في القرآن والحديث في معانٍ متعدّدة:
منها: الموت، كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ..﴾ (الجاثية: 24)، أو كقوله سبحانه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ..﴾ (النساء: 176).
ومنها: العذاب، كقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (الأنعام: 26).
وقد صرّح الراغبُ الإصفهاني بأنّ الهلاك يُطلق على العذاب والخوف والفقر، ويُطلق على الموت بنحوٍ قليل([8])، وعليه فلا وجه لتفسير التهلكة في الآية هنا بالموت. بل لو سلّمنا فلابدّ أن يراد منه بعض حالات قتل النفس، ألا وهي الحالات المذمومة، فليس كلّ قتلٍ للنفس مشمولاً لهذه الآية، بل القتل الذي يثبت في المرحلة المسبقة كونه مذموماً([9]).
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة:
أوّلاً: إنّ التهلكة مفهومٌ عامٍ يقابل البناء والوجود والكون والبقاء.. فلا هي بالتي تعني الموت لغةً، ولا بالتي تعني العذاب أو الفقر، بل هذه مصاديق لها. ووقوعُ بعض اللغويّين والمعجميّين في الخلط بين المعنى والمصداق الذي ورد فيه استعمال المعنى العام، كثيرٌ جدّاً.
وهذا معناه أنّ استنتاج هذا المعنى التطبيقي أو ذاك، مرجعه إلى ملاحقة السياق اللفظي والمضموني الذي يتحدّث عنه النصّ، وعليه فمجرّد قلّة ورود التعبير عن الموت بالتهلكة لا يعني عدم صحّة هذا التعبير، أو تعيّن غيره، فالمهمّ هو السياق، وهنا إذا تشاجر شخصان، ثمّ حمل كلّ واحدٍ منهما سكّيناً، وقيل لأحدهما: لا تدخل في هذا الشجار فتودي بنفسك إلى التهلكة، لم يفهم منه سوى الموت، وإذا كان رجلاً قويّاً جداً بحيث يُعلم أنّه سيكون الغالب حتماً، فقد يُفهم من توجيه هذه الجملة له دخولُه السجن وهكذا.. فالعبرة بالسياق بمعناه العام.
وبناءً على ما تقدّم، فإذا قصد المناقش هنا تقديمَ تحليلٍ للسياق ـ كما فيما تقدّم أو سيأتي ـ فذاك هو المتعيّن، وتكون هذه المناقشة مجرّد تكرار أو تمهيد، وأمّا إذا قصد الإبهام والإجمال في الآية، فلم يبيّن لنا سياق الآية حتى نتوصّل معه إلى الإبهام، لاسيما وأنّ المناقِش هنا قد قَبِلَ بنفسه دلالة الآية على سياق الجهاد، فلماذا لا يكون الأقرب في تفسيرها هو لزوم حفظ النفس عن الموت في الجهاد، وعدم جعل الجهاد مبرّراً لتفريط المجاهد بنفسه؟!
ثانياً: إنّ تقييد الموت المرفوض في هذه الآية، بعد التنازل عن المشكلة المتقدّمة، بخصوص الموت المذموم، هو أيضاً لا مبرّر له حتى نورّط أنفسنا في الإجمال التطبيقي، بل نتمسّك بإطلاق الآية الكريمة لكلّ تهلكة وموت إلا ما خرج بالدليل، كما في أصل الجهاد، فتكون الآية دالّةً على حرمة قتل الإنسان لنفسه وتعريضها للهلاك مطلقاً إلا ما خرج بدليل.
المناقشة الثالثة: إنّ الآية الكريمة تنهى عن قتل الإنسان للآخرين، فالمعنى: لا تلقوا أنفسكم ـ أي غيركم ـ بأيديكم إلى التهلكة، ويؤيّد ذلك سياق الإنفاق؛ فإنّ الامتناع عن الإنفاق يعود بالهلكة على المحتاجين.
ولكنّ هذه المناقشة واضحة الضعف كما أفاد بعض العلماء المعاصرين([10])؛ فإنّه إذا قبلنا بشمول اللفظ لها، لكنّ اللفظ لا ينفي الشمول لإلقاء الإنسان نفسه في التهلكة.
التهلكة بين الموت وسياق الاستهلاك المالي
المناقشة الرابعة: ما ذكره غيرُ واحدٍ من المفسّرين والباحثين، من أنّه لا يراد بالتهلكة هنا الموت، بل المراد عدم الإنفاق المالي، والإقامة على الأموال والاهتمام بها، وهو المنقول عن عدد من الصحابة والتابعين كابن عباس والسري ومقاتل و..([11]).
ومعنى هذا الكلام وتعميقُه هو أنّ الآية لا علاقة لها بقتل النفس ولا أقلّ من الإجمال، وذلك أنّ تمام الآية على الشكل الآتي: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: 195)، فالسياق الداخلي للآية نفسها يظهر منه الأمر بالإنفاق في أوّله، ثم التحذير من إلقاء النفس بالتهلكة، ثم الأمر بالإحسان، فيراد عدم الإفراط في الإنفاق حتى لا يقع الإنسان في الضيق المادي، أو يراد عدم الإنفاق فيقع في نقصان أمواله؛ لأنّ المال يزكو على الإنفاق، أو يراد ترك الإنفاق في مجال الجهاد فيتقوّى الأعداء على المسلمين حتى يضعف المسلمون([12]).
فسياق الآية سياق إنفاق ولا علاقة له بباب قتل النفس وما شابه ذلك.
وهذه المناقشة من أفضل المناقشات؛ لأنّ بدء الآية كان بالحديث عن الإنفاق، وختامها بالحديث عن الإحسان، فسياقها الداخلي قائم على مسألة المال، سواء فسّرنا الإحسان بالعطاء أم فسّرناه بإتقان العمل وتجويده، فيقرب جداً أن يراد منها الإفراط في النفقة أو عدم الإقدام عليها، سواء في الجهاد أم الحج أم غيرهما، ومن هنا نستوعب لماذا ذهبت كلمات المفسّرين الأوائل وروايات أسباب النزول إلى ربط الآية بقضيّة المال والإنفاق.
إلا أنّ هنا مسألة ألمح إليها بعض العلماء والمفسّرين([13])، حيث رأى أنّ هذا السياق تام، غايته أنّه قد وقع بمثابة السبب، والعبرةُ ـ كما تقول القاعدة ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى ذلك أنّ الآية تحرّم مطلق أنواع إلقاء النفس في التهلكة، ومطلق أنواع التهلكة الدنيويّة والأخرويّة، التي منها الإنفاق وغيره، فتعود الآية قانوناً عاماً يقبل الانطباق على السياق الداخلي للآية، والسياق الخارجي الجهادي، بل والسياق الخارجي في الحجّ كذلك.
وهذا الكلام يمكن فهمه بشكل أفضل عبر القول بأنّ الآية لما تحدّثت عن الإنفاق، عقّبت بقاعدةٍ عامة، ونتيجة السياق أن فُهمت القاعدة في باب الإنفاق، وإلا فلا كلمة التهلكة ولا الهلاك موضوعة أو مستعملة هنا في الإنفاق الزائد أو عدم الإنفاق، وإنّما استُعملت في مفهومها العام، فكأنّها تشير إلى قانون وكبرى كليّة فتعطي حكماً عاماً يعالج المورد الذي جاء في السياق نفسه، فهذا تماماً مثل روايات الاستصحاب الواردة في الطهارة والوضوء وغيرهما حيث فهموا منها قاعدةً عامة وفي الوقت عينه تصلح جواباً عن السؤال الموردي الذي وجّهه السائل للإمام في مجال الوضوء أو غيره.
وهذا الفهم غير بعيد، بل ربما يمكن القول بأنّه إذا كانت الآية تنهى الإنسان عن الإفراط في الإنفاق وعدم إلقاء النفس في التهلكة الاقتصاديّة، فإنّه يُفهم منها ـ بطريقٍ أولى ـ رفض إلقاء النفس في التهلكة الماديّة النفسيّة، فإذا كان إلقاء النفس في التهلكة الاقتصاديّة حرام فبطريق أولى إلقاؤها في الموت والهلاك والتلف، فتأمّل.
وعبر هذا الطريق يُفهم أنّ الآية يمكن أن تشمل المستوى الثاني من مستويات الإضرار المتقدّمة، لأن من يوقع نفسه في الشلل أو العمى أو يبتر أعضاءه من اليد أو الرجل أو العضو التناسلي أو غير ذلك، فهو يودي بنفسه في التهلكة تماماً بل أشدّ من المسألة المالية أحياناً كثيرة.
فليس من البعيد شمول الآية للمستوى الأول وجملة من مصاديق المستوى الثاني من مستويات الإضرار الأربعة المتقدّمة، دون غيرهما كما هو واضح؛ للشكّ في صدق عنوان التهلكة عليه.
نعم، قد يُقال بأنّ الخطاب ـ لاسيما بقرينة الحديث عن الجهاد ـ هو خطابٌ للجماعة، فلابد من الأخذ بعين الاعتبار عنوان الجماعة في التهلكة، فقد يكون في تعريض النفس للتهلكة الفرديّة ما لا يصدق عليه تهلكة الجماعة، بل بالعكس، فعدم ذهاب المجاهدين للدفاع عن الوطن الإسلامي يفضي إلى تهلكة الجماعة المؤمنة، فتنصرف الآية ـ بقرينة الحديث عن الجهاد نفسه الذي هو، نوعاً، ضربٌ من إلقاء النفس في معرض الهلاك ـ إلى أولويّة عنوان التهلكة الجماعيّة على التهلكة الفرديّة عند التزاحم، وبه يبطل الاستدلال بهذه الآية على تحريم العمليّات الاستشهاديّة في بعض الموارد على الأقلّ.
وخلاصة القول: إنّ الراجح أنّ القرآن ظاهرٌ في حرمة قتل الإنسان نفسه، بل قد يقال بظهوره في حرمة الإضرار البالغ بمستوى قطع الأعضاء أو إتلاف الطاقات في الجملة على الأقلّ.
4 ـ القرآن وقاعدة تحريم ما ضرره أكبر من نفعه، نقد قراءة العلامة فضل الله
رابع الأدلّة هنا هو قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة: 219).
استند بعض الفقهاء المعاصرين ـ منهم الشيخ يوسف القرضاوي والسيد محمّد حسين فضل الله ـ إلى هذه الآية القرآنية الكريمة للقول بأنّ كل شيء يكون فيه ضررٌ على الإنسان من دون نفعٍ أو مع نفعٍ أقلّ من حجم الضرر فهو حرام، فالآية تريد بيان معيار في الأمر المحرّم، والذي هو هنا الخمر والميسر، وهذا المعيار هو وجود ضرر مقابل نفع، لكن مع زيادة الضرر على النفع، وفي هذه الحال يكون الشيء حراماً، ولهذا حرّمت النصوص الدينيّة الخمر والميسر، فكلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، فإضرار الإنسان بنفسه سواء بلغ المرتبة الأولى أم الثانية أم الثالثة هو حرام، ما لم يكن في المقابل مصلحة أهمّ كما هي الحال في الجهاد وغيره.
ويرى هؤلاء الفقهاء أيضاً أنّ هذا المنطق الذي تقدّمه هذه الآية إنّما هو إشارة إلى النهج العقلائي في إصدار الأحكام([14]).
لكن يمكن أن يورد على الاستدلال بهذه الآية على قاعدة من هذا النوع بالآتي:
أوّلاً: قد تقدّم منّا أنّ الآية غير ظاهرة في تحريم الخمر، بل هي ظاهرة في بيان سلبيّته الزائدة على منافعه، دون أن يفهم منها الحرمة، ومعه فإذا لم تكن في نفسها دليلَ حرمةٍ، كيف تكون دليلاً على قاعدة في التحريم؟! إنّها لا تقول: كلّ ما ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، لكنّها تقول: إنّ الخمر والميسر ضررهما أكبر من نفعهما، وهو تحفيز للطبع العقلائيّ الذي يسعى للميل لتجنّب الشيء الذي ضرره أكبر من نفعه، لا أنّ الآية تريد أن تؤسّس حكماً بمفاد هذه القاعدة.
ومجرّد أن النصوص القرآنية الأخرى تحرّم الخمر والميسر لا يعني أنّ الملاك التامّ للتحريم كان مفاد هذه القاعدة.
ثانياً: سلّمنا أنّ الآية تريد بيان قاعدة، لكن يلزم من ذلك مشكلة، أثيرها بوصفها منبّهاً وجدانيّاً على بطلان القاعدة، وهي كيفيّة تفسير الأمر المكروه؟ فإذا كان المكروه هو الذي يكون نفع فعلِه أكبر من ضرر تركه لزم صيرورته واجباً أو مستحبّاً، وإذا تساويا لزمت الإباحة بالمعنى الأخصّ ولا مبرّر لكراهته، وإذا زاد ضرره على نفعه أو تمحّض في الضرر، لزم على هذه القاعدة الحكمُ بحرمته، فلا توجد حالة يمكن تصوّر الكراهة فيها إلا والضرر فيها أكبر من المنفعة، فكيف يتبلور المكروه وفقاً لهذه القاعدة؟
هذا يكشف عن بطلان هذه القاعدة أو عن بطلان وجود المستحبّ والمكروه في الشرع، ومن الواضح أنّ فكرة المكروه والمستحبّ ـ بصرف النظر عن التزام العلامة فضل الله نفسه بها في فقهه ـ هي فكرة عقلائيّة، حيث يحبّذ العقلاء بعضَ الأفعال دون أن يُلزِموا بها، أو يفضّلوا تركها دون أن يحرّموها، وعليه فهذا يكشف عن عدم صحّة هذه القاعدة أو القول بوضع حدود لها، وهي صيرورة الضرر الأكبر قد بلغ حداً عظيماً، الأمر الذي يحتاج إلى وضع معيار لضبط الدرجة التي يبلغها الضرر مقابل النفع حتى نحكم بالتحريم، فما هي هذه الدرجة عند الشارع حتى نحكم بالحرمة في شرعه؟
قد تقول: ليس في كلّ مكروهٍ ضرر، بل قد تكون هناك مفسدة. والمفسدةُ غير الضرر، وكلامنا فيما زاد ضرره على نفعه، لا فيما زادت مفسدتُه على مصلحته.
والجواب: إنّ هذا الكلام صحيحٌ نظريّاً، لكنّ ملاك الكثير من المكروهات هو الضرر بحسب ما يظهر من النصوص والتحليل العقلائي، كما في باب الأطعمة والأشربة المكروهة، وغير ذلك، وهذا ما نكاد نجزم به في الجملة.
يضاف إلى ذلك أنّ التمييز بين الضرر والمفسدة غير واضح هنا، فإذا كان العقلاء يحرّمون ما ضرره أكبر من نفعه، فمن المتوقّع جداً أنّهم يحرّمون ما مفسدته أكبر من مصلحته، علماً أنّ فصل الضرر عن المفسدة راجع إلى خصوصيّة الرؤية الفرديّة في الاجتهاد الفقهي، فعندما تلحق ظاهرة التدخين مثلاً مفاسد كبيرة في المجتمع فإنّ هذا يصدق عليه الإضرار بالمجتمع؛ ولأنّنا نظرنا للضرر نظرةً فردية صارت الكثير من المفاسد عندنا بعيدة عن مفهوم الضرر. واللافت أنّ العلامة فضل الله استخدم بنفسه الضرر مقابل المصلحة([15])، مما يعني أنّ الضرر والمفسدة متوازيان عنده.
وقد استخدم القرآن والحديث الضرر بمفهومٍ واسع يتصل حتى بالحالة الدينيّة والروحيّة لا بالحالة الجسديّة والمالية فقط عبر نقصٍ فيها، كما هو تفسير غير واحدٍ من الفقهاء والأصوليّين للضرر، ولعلّ منه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 105)، وقوله: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ..﴾ (البقرة: 233)، وقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ (الإسراء: 67) على احتمال في دلالة الآية الأخيرة، بل إطلاق النفع الشامل لكلّ مصلحة يقتضي إطلاق الضرر لكلّ مفسدة.
بل نحن لو قارنّا الآيات الكريمة لرأينا أنّ الآية التي كانت صريحة في تحريم الخمر قد بيّنت ـ مستخدمةً أداة الحصر ـ ما ينجم عن الخمر والميسر، بعد افتراض كونها شارحة لمعنى الإثم في هذه الآية هنا، ولكنّها لم تذكر الضرر بمعنى نقص الأطراف أو المال، بل اعتبرته الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة والفرقة والشجار بين الناس، وأين هذا من مفهوم الضرر الخاصّ، بل هو أقرب إلى مفهوم المفسدة؟! فتأمّل جيّداً.
وعليه، فالسير خلف هذه القاعدة يلزم منه التأمّل في باب المكروه.
بل لو كان ما ضرره أكبر من نفعه موجباً نصّاً وعقلائيّاً للتحريم، فلعلّ لازمه ـ عقلائيّاً ـ أن يكون ما نفعه أكبر من ضرره موجباً للوجوب، وبهذا ينعدم وجود المستحبّ أيضاً، وهل حقاً يحكم العقلاء الذين تشير الآية إلى إرتكازاتهم بحرمة ما ضرره أكبر من نفعه ولو بقليل، أو بوجوب ما نفعه أكبر من ضرره ولو بقليل؟!
وإنّما عبّرنا عن هذه الإشكاليّة بالمنبّه؛ لاحتمال أن يُجاب بأنّ هذه المكروهات هي في الأصل حرام، لكن بملاك التسهيل أو غيره أسقط المولى حرمتَها، وإن كان ذلك بعيداً نسبيّاً أيضاً بملاحظة الملابسات وحجم المكروه الذي من هذا النوع وطبيعة الروايات، خاصّة وأنّ الرواة والمتشرّعة ـ رغم إلمحاح النصوص لهم بالضرر، والذي لا يعقل أن يكون أقلّ من النفع مع كون الروايات بصدد التنفير من تناول هذا الطعام أو ذاك ـ لم يسألوا عن سبب عدم التحريم والحال كذلك، فلو كان هناك قاعدة شرعيّة مركوزة أو عقلائيّة كذلك لأثار الأمر استفهاماً.
ثالثاً: إذا التزمنا بهذه القاعدة بعرضها العريض لزم الحكم بحرمة الضرر الذي لا نفع يوازيه في مقابله.
ولابد هنا من فرض المنفعة أعمّ من الفرديّة أو الجماعيّة، وأعمّ من الجسد والمال والقضايا المعنويّة، وإلا لزم تحريم الجهاد و.. وعليه، فإذا رأينا شيئاً له ضررٌ كبير فلابد أن ننظر في مصالحه العامّة والفرديّة، ولا نلاحظ عنصر الضرر الفردي أو المادّي فيه فقط، كما أنّ الملاحظة يجب أن تأخذ جميع الزوايا، وهذا معناه أنّ إصدار حكم بحرمة التطبير ـ مثلاً ـ على أساس الضرر يجب أن يسبقه يقينٌ بأنّ المصالح النوعيّة ـ لا الفرديّة فقط ـ غير موازية للضرر الفردي، بل هي أقلّ منه، ومن ثمّ فالحكم بحرمة التطبير يجب أن يسبقه رصد مجتمعي وسياسي لدراسة آثاره الإيجابيّة والسلبيّة حتى يُحكم بالحرمة بالعنوان الأوّلي، فالتطبير لا يصحّ فهمه ـ بوصفه ظاهرة عامّة اليوم ـ في سياق أنّه حالة فرديّة تقع في البيت، بل هو ظاهرة جماعيّة عامّة لها بُعدٌ اجتماعي وديني وسياسي كبير، فمقاربة موضوعها من زاوية ضرر الجراحة فقط لا أظنّه صحيحاً.
وهذه ملاحظة تطبيقية مورديّة، لا على العلامة فضل الله، بل على مقاربة هذا الموضوع، فإنّ القائلين برجحان التطبير يرون فيه هيبةً وإلقاءً للرعب في نفوس الآخرين وترهيباً لهم، وهو ذو أبعاد سياسيّة كبيرة.
بل هذه هي الحال في التدخين أيضاً، فإذا أردتُ أن أدرسه من زاوية هذه القاعدة المفترضة هنا، فلا يصحّ أن أنظر إلى وجود تقارير علميّة طبية في مضارّ التدخين لاُفتي بحرمته مطلقاً، فإنّ إطلاق التحريم إمّا من باب سدّ الذرائع عبر صياغة الاحتياط الوجوبي مثلاً، وهذا لا بأس به، وإما من باب حكم شرعي كلّي فتوائيّ، وفي هذه الحال لو ثبتت أضرارُ التدخين علمياً لكنّ هذا لا يُثبت حرمة مطلق التدخين؛ لأنّ شرب سيجارة واحدة في العمر لا يصدق عليه أنّ ضرره أكبرمن نفعه حدّاً يوجب الحرمة، فهذا كمن يعرّض نفسه للسير في طريقٍ فيها سيارات كثيرة بحيث يتنشّق الهواء الملوّث مع قدرته في هذا اليوم على الأقلّ على الذهاب من طريقٍ آخر، فهل يحكم العقلاء أو الآية هنا بالحرمة؟!
من هنا، أرجّح في هذه الموارد عدم إصدار فتاوى تحظر التدخين أو غيره بعنوانه انطلاقاً من مفهوم الضرر، بل الأنسب ـ وفقاً للقواعد العلميّة وما هو من صلاحيات المفتي ـ أن تستبدل طريقة إصدار الفتاوى الكلية على العنوان الذاتي للشيء في الموارد المتحرّكة من هذا النوع، بطريقة إصدار الفتوى المعلّقة على العنوان المحرَّم ذاتاً، وهو الضرر البالغ مثلاً، ثمّ استخدام أسلوب التوعية العامّة وبيان المضارّ، بحيث نخلق في الوعي الشعبي ثقافةً تدفع الإنسان إلى تشخيص الأمور بطريقة أكثر عقلانيّة.
نعم، إصدار حكم ولائي بعنوان ثانوي أمرٌ آخر.
وعلى أية حال، فلم يظهر لنا ـ عقلائيّاً ولا قرآنياً ـ وجود قاعدة اسمُها حرمة كلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه، بل المتيقّن الضرر من النوع الأوّل والثاني، أمّا الاستناد لسائر الأدلّة لإثبات هذه القاعدة (ما كان ضرره أكبر من نفعه)، مثل الحديث الشريف، فليس موضع بحثنا هنا كما هو واضح.
5 ـ شمول المفهوم القرآني لظلم النفس لظاهرة الإضرار، وقفة نقاش
خامس الأدلّة هنا النصوص الدينيّة التي تنهى عن ظلم الإنسان لنفسه وجنايته عليها، أو تذمّ ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: 118).
إنّ هذه الآية تدلّ على تقبيح ظلمهم لأنفسهم، ومن المعلوم أنّ صدق الظلم على مواقفهم العقديّة أو العلميّة يرتكز على استلزامه للضرر الذي يؤدّي بهم إلى النتائج السلبيّة في دنياهم واُخراهم. والآية وإن كان موردها العقاب الأخرويّ، إلا أنّها ركّزت عليه بوصفه ظلماً للنفس بما يؤدّي إليه من ضرر، فخصوصيّة الضرر ـ في كلتا الحالتين ـ هي العنوان في ظلمه لنفسه الذي هو قبيحٌ في ذاته، فالله لم يسلّط الإنسان على التصرّف في نفسه بما يضرّها([16]).
يقول الميرزا التبريزي: «لم يتمّ دليل على حرمة إدخال الضرر في النفس بالمرتبة التي لا تعدّ ظلماً وجناية على النفس، خصوصاً إذا كان في ارتكابه غرض عقلائيّ، بل وجود الحضاضة فيه مع كونه لغرض عقلائي غير ظاهر»([17]). وظاهره قبول الحكم في مورد صدق عنوان الظلم والجناية على النفس.
إلا أنّ الاستدلال بهذه الآية غير دقيق؛ فإنّ الآية واردة في تأصيل مبدأ نفي ظلم الله لهم وظلمهم لأنفسهم، ولم تَرِد الآية في سياق الآخرة أساساً، بل وردت في سياق تبرير تحريم الله على بني إسرائيل بعض الأمور التي هي حلالٌ طيّب في ذاتها. نعم، وردت آياتٌ اُخر شبيهة في سياقات أخرى.
فهذه الآيات إنّما تريد رفع تهمة الظلم ـ القبيح في ذاته ـ عن الله، وإلحاقها بالإنسان نفسه، من حيث إنّ هذه النتائج السلبيّة التي لحقته إنّما يتحمّل هو مسؤوليّتها وليس الله سبحانه. لكن الآيات لا تبيّن ما هو هذا الظلم؟ وما هي حدوده؟ وإنّما تشير إلى بعض موارده كالعقاب، وفي حالٍ من هذا النوع كيف نفهم من الآية الكريمة حدود التصرّفات التي يمارسها الإنسان تجاه النفس بحيث تعدّ ظلماً، وتلك التي ليست بظلم.
لتفرض أنّ الآيات تقول: لا تظلموا أنفسكم، وقد وردت النصوص بهذا اللسان وكانت عامّة تشمل مثل الإضرار الدنيوي بالنفس، لكن كيف نعرف أنّ الآية وغيرها تريد من ظلم النفس المستوى الثاني أو الثالث من الإضرار بالجسد؟ فإن قلت بأننا نرجع لدلالة نصّ الكتاب نفسه فهو لم يبيّن كما هو واضح، وإن قلت بأننا نرجع للعقل والعقلاء فإنّ المقدار المتيقّن ـ كما سيأتي ـ هو اعتبار العقلاء المستوى الأوّل والثاني (في الجملة) نوعاً من ظلم الإنسان لنفسه، أمّا المستوى الثالث والرابع فهو غير واضح أبداً، فها هم العقلاء يُلحقون بأنفسهم بعض الأضرار للتسلية، وما لم تبلغ حدّ الخطر الذي يعبّر عنه المستوى الأوّل والثاني، فمن غير المعلوم تقبيحهم إلى حدّ الحرمة، نعم، قد لا يحبّذون أو يرون ذلك مرجوحاً، لكنّ ارتكازهم ليس على المنع والتحريم إلا في الجملة أيضاً لا بالجملة وبعنوانه. والسيرة دليل لبّي يؤخذ فيها بالقدر المتيقّن.
وعليه، فالاستدلال بهذه الآية الكريمة وأمثالها أيضاً غير واضح.
كانت هذه هي أهمّ الأدلّة القرآنيّة على تحريم الإضرار بالنفس، وقد تبيّن أنّ غاية ما يمكن أن يثبت بها هو المستوى الأوّل، وعلى أبعد حدّ المستوى الثاني أيضاً، وأنّ ثبوت المستوى الثالث والرابع غير واضح. لكن نظراً لأهميّة البحث لا بأس بإكمال عرض سائر الأدلّة ذات الصلة هنا؛ للخروج بنتيجة نهائية حول هذه القاعدة.
6 ـ مرجعيّة حكم العقل العملي والبناء العقلائي
الدليل السادس الذي يُطرح هنا هو الرجوع إلى العقل في حكمه بقبح تعريض الإنسان نفسه للضرر ما لم تكن هناك مصلحة أهمّ، بل ليس حكم العقلاء إلا تعبيراً عن حكم العقل العملي نفسه، فالعقل يحكم بقبح ظلم الإنسان نفسه، والإضرار بالنفس ظلمٌ لها([18]).
وهنا:
إذا أخذنا العقل المحض، فغاية ما يمكنه إثبات المستويين الأوّلين من الإضرار، في الجملة أيضاً، ما لم تكن مصلحة أهمّ تعود على الفاعل نفسه، وأمّا إثبات أنّ العقل بحكم بقُبح جرح الإنسان نفسه دون تعطيل طاقة أو قطع عضو فهو غير واضح، بل حتى في المستوى الثاني المتقدّم قد تكون بعض موارده غير قبيحة عقلاً عندما تلاحَظ حيثيّاتها وجوانبها، كما في امرأةٍ لديها عشرة أولاد، ولا تريد إنجاب طفلٍ جديد مزاجاً، فإنّ قطع قدرة التناسل عندها لا نُحرز حكم العقل بقبحه، بخلاف شابّة في أوّل العمر والزواج، وهكذا بالنسبة إلى رجلٍ يملك أسرةً كبيرة وعمره سبعون سنة، فإنّ قتله لقدرة الإنجاب عنده لا يُحرز حكم العقل بقبحه.
وأمّا إذا أخذنا الموقف العقلائي، فسوف يكون الأمر أوضح؛ لأنّ السيرة العقلائية دليلٌ لبيّ يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن، وليس من يقينٍ بأكثر مما ذكرناه في دليل العقل، تماماً كما هو القدر المتيقّن من الإجماعات والشهرات هنا([19]).
بل لقد استند بعض الفقهاء للسيرة العقلائيّة لإثبات الترخيص في إضرار الإنسان بنفسه في الجملة، يقول السيّد الخوئي: «إنّ العقل لا يرى محذوراً في إضرار الإنسان بماله بأن يصرفه كيف يشاء بداعٍ من الدواعي العقلائيّة ما لم يبلغ حدّ الإسراف والتبذير، ولا بنفسه بأن يتحمّل ما يضرّ ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي، بل جرت عليه سيرة العقلاء؛ فإنّهم يسافرون للتجارة مع تضرّرهم من الحرارة والبرودة، بمقدار لو كان الحكم الشرعي موجباً لهذا المقدار من الضرر لكان الحكم المذكور مرفوعاً بقاعدة لا ضرر»([20]).
وقد ناقش العلامة فضل الله ما أفاده الخوئي، معتبراً أنّ المراد بالقبح العقلي والعقلائي هنا هو الإضرار بالنفس بلا مقابلٍ ربحي ذي قيمة، فصرف المال بلا مقابل من الراحة والنشاط والفرح يعدّ عند العقلاء قبيحاً وظلماً، وهكذا الإضرار بالجسد، فليس المراد من تحريم الإضرار بالنفس مطلق الإضرار، بل الإضرار الذي لا مقابل له عقلائيّاً، وبعبارة أخرى: الضرر المحرّم ليس ذات الضرر بل الضرر القبيح، وإيراد السيد الخوئي هنا لا يصلح جواباً عن هذه الدعوى([21]).
وهذا يعني أنّ السيد فضل الله لم يعد يرى حرمة الإضرار بالنفس في ذاته، بل العبرة بقياس النسبة بين الإضرار والعائد الآتي من ورائه، أو بتعبير آخر: بين الإضرار وصفة القبح التي فيه بالمنظار العقلي والعقلائي، وبهذا لا نستطيع الخروج بقاعدة منضبطة تحرّم الإضرار بالنفس بمختلف المراتب، بل علينا القول بأنّ الإضرار غير العقلائي حرام أو الإضرار الذي يراه العقلاء ظلماً وقبيحاً حرام، وبهذا يختلف الناس في تحديد مصاديق هذا النوع من الإضرار، فيرى القائل بالتطبير أنّ هذا الإضرار عقلائيٌّ تماماً؛ لأنّ له مردوداً عامّاً دينيّاً مثلاً، ويرى المدخّن أنّ الضرر البسيط الذي يلحقه بتناول كميّات قليلة من السجائر يقابلها غرض عقلائي وهو الإحساس بالراحة نتيجة وجود بعض الموادّ فيها، وهكذا قد يلاحظ المتعاطي للمخدّرات غير المدمن عليها أنّها تعطيه الكثير من الراحة والخروج من مآزقه، فليس لنا التدخّل في تشخيص المصاديق هنا بصورة كليّة، بل علينا إطلاق القاعدة الكليّة فقط.
وخلاصة القول: إنّ موضوع الإضرار بالنفس محكومٌ ـ عقلاً وعقلائيّاً ـ لملاحظة أطراف الحالة التي تقع، إن من زاوية وجود مصالح أكبر من الضرر الحاصل، أو من زاوية نفس السياق الحافّ بهذا الضرر اللاحق، فالأمر مختلف، لكن ما يمكن قوله هو أنّ غاية ما يثبت هو المستوى الأوّل والثاني من الإضرار ـ في الجملة وغالباً ـ أمّا المستوى الثالث والرابع فبعيد جداً إلا في حالات خاصّة ومورديّة، بل قد تختلف باختلاف الثقافات والشعوب في تعبيرها عن حالاتها بطرق متنوّعة تشمئزّ منها طباع في مكان دون آخر، وعند شعبٍ دون آخر.
ولعلّ ما يعزّز فهمنا لهذا الارتكاز العقلائي أنّ القوانين البشريّة لم تضع عقوبةً أو تجريماً لمن يفعل في جسده ذلك، وما ذلك إلا لاعتبارهم فعله مرجوحاً بيد أنّه لا يبلغ حدّ التحريم، أو على الأقل يشكّكنا في اعتبارهم المرحلة الثالثة من مستويات الإضرار المتقدّمة محرّمة وجُرماً.
وليس كلُّ ما يذمّ العقلاء فعلَه فهو حرام بسكوت الشارع، بل لابد أن يكون الذمّ قد بلغ مرتبةً قويّة بحيث تساوي مفهوم التحريم في الشريعة، وإلا فإنّ هناك كثيراً من الأمور التي قد يذمّها العقلاء، لكنّها ليست محرّمة بالعنوان الأوّلي، كأن يعيش الإنسان مشرّداً خارج المنزل بلا ضرورة ولا إكراه، وكالامتلاء والبطنة في الأكل، وغير ذلك كثير، وهذا أصلٌ عام في السيرة العقلائيّة في مجال المدح والذم، فليس كلّ ممدوح عندهم واجباً، ولا كلّ مرجوح أو مذموم حراماً. كما أنّه ليس كلّ ما لا مبرّر له عند العقلاء فهو قبيح بالمفهوم الخاصّ لكلمة القبح.
هذا كلّه لو قبلنا الاستناد للسيرة العقلائيّة في إثبات حكمٍ شرعي، إذ على ما بنينا عليه في كتابنا «شمول الشريعة»، فإنّ سكوت الشارع عن جملة من البناءات العقلائيّة لا يُعلم أنّه عن رضا بها يحتويها ضمن شريعته، فلعلّه ليس له حكم شرعيّ فيها، بل تركها للعقلاء ينظّمون أمورهم بها، دون أن يتدخّل في إنشاء حكمٍ شرعيّ على وفق بناءاتهم، فراجع.
7 ـ مرجعيّة الحديث الشريف في تأصيل قاعدة الإضرار بالنفس
سابع الأدلّة هنا هو مجموعة من الروايات التي يُفهم منها حرمة إضرار الإنسان بنفسه مطلقاً، والتي ادّعى السيد فضل الله تواترها المعنوي([22])، وأهمّها:
الرواية الأولى: خبر «تحف العقول»، عن الإمام الصادق×، قال: «.. وكلّ شيء تكون فيه المضرّة على الإنسان في بدنه فحرام أكلُه إلا في حال الضرورة..»([23]). وعموم التعليل يثبت القاعدة.
الرواية الثانية: خبر المفضّل بن عمر وغيره، قال: قلت لأبي عبدالله×: أخبرني ـ جعلني الله فداك ـ لم حرّم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ قال: «إنّ الله سبحانه وتعالى لم يحرّم ذلك على عبادة وأحلّ لهم سواه رغبةً منه فيما حرّم عليهم، ولا زهداً فيما أحلّ لهم، ولكنّه خلق الخلق وعلم عزّ وجل ما تقوم به أبدانهم، وما يصلحهم، فأحلّه لهم وأباحه تفضّلاً منه عليهم به تبارك وتعالى لمصلحتهم، وعلم ما يضرّ (هم) فنهاهم عنه وحرّمه عليهم، ثم أباحه للمضطرّ وأحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك ـ ثم قال ـ: أمّا الميتة فإنّه لا يُدمنها أحدٌ إلا ضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوّته وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة..»([24]).
الرواية الثالثة: خبر الفقه الرضوي، عن الإمام الرضا× أنّه قال: «اعلم ـ يرحمك الله ـ أنّ الله تبارك وتعالى.. ولم يحرّم إلا ما فيه الضرر والتلف والفساد.. وكلّ مضرٍّ يُذهب بالقوّة أو قاتل فحرام، مثل السموم والميتة والدم ولحم الخنزير»([25]).
الرواية الرابعة: خبر محمد بن سنان، عن الإمام الرضا×، قال: «وحرّمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة..»([26]).
الرواية الخامسة: خبر زياد بن أبي زياد، عن أبي جعفر× قال: «.. ومن أكل طيناً فضعف عن قوّته التي كانت قبل أن يأكله، وضعُف عن العمل الذي كان يعمله قبل أن يأكله، حوسب على ما بين قوّته وضعفه وعذّب عليه»([27]).
الرواية السادسة: خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله، عن أبيه، قال: «قرأت في كتاب عليّ× أنّ رسول الله‘ كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب: أنّ الجارّ كالنفس غير مضارّ ولا آثم، وحرمة الجارّ على الجار كحرمة أمّه وأبيه..»([28]).
فهذه الروايات وأمثالها ـ مثل حديث نفي الضرر ـ تدلّ على معياريّة الضرر في تحريم الأمور وتحليلها، فتُثبت مركوزيّة حرمة الإضرار بالنفس، لاسيما مع ورود الكثير منها في مجال الأطعمة والأشربة([29]).
إلا أنّ هذه الروايات ـ مضافاً إلى ضعف أسانيد أغلبها، إن لم يكن جميعها، فضلاً عن أنّ بعضها لا يعلم كونه رواية مثل الفقه الرضوي ـ قليلة العدد أيضاً، بحيث يصعب تحصيل الوثوق بصدور الدالّ منها، حيث إنّ بعضها لا دلالة فيه.
وبالوقفة التفصيلية مع هذه النصوص نلاحظ:
أ ـ إنّ خبر «تحف العقول» ـ الضعيف السند ـ يشير إلى الضرر على البدن، وهو يشمل الضرر الخفيف، مما لا يقولون بحرمته، فارتكاز عدم حرمة الضرر الخفيف عند العقلاء والمتشرّعة يوجب إعادة النظر في المراد من المضرّة هنا، ولهذا لزمنا العود مجدّداً إلى الرواية لنحاول اقتناص فهمها للضرر، وقد لاحظنا أنّ هذا الحديث قال في ذيله ما يلوح منه أنّه يقصد مستوى خاصّاً من الضرر، حيث جاء فيه: «جميع صنوف البقول والنبات وكلّ شيء تنبت الأرض من البقول كلّها مما فيه منافع الإنسان وغذاء له فحلال أكله. وما كان من صنوف البقول مما فيه المضرّة على الإنسان في أكله، نظير بقول السموم القاتلة ونظير الدِّفلَى وغير ذلك من صنوف السمّ القاتل، فحرام أكله».
فإنّه وإن كان يبيّن بعض مصاديق الضرر والمضرّ، لكنّه قد يربك فهم الإطلاق والعموم منه، خاصّة مع عدم إرادة هذا الإطلاق والعموم بعرضه العريض حتماً.
لكن قد يقال بأنّ خروج ما هو واضح الجواز من مراتب الضرر لا ينافي الإطلاق؛ لأنّه يكون بمثابة قرينة متصلة لبيّة ارتكازيّة. والمثال الذي ذكرته الرواية بعد ذلك غير مضرّ؛ لأنّه تمثيل بما هو الأبرز، فلا يفرض تقييد الإطلاق في صدر الرواية، فيبقى الإشكال السندي فقط.
ب ـ إنّ خبر الفقه الرضوي واضحٌ في نظره إلى مستوى خاصّ من الضرر، فقد عبّر بـ «لم يحرّم إلا ما فيه الضرر والتلف والفساد» مما يوحي بمستوى معيّن من الضرر، وهكذا تعبير «كلّ مضرّ يذهب بالقوّة أو قاتل»، فهو يشير إلى المستوى الأوّل والثاني لا غير.
ومثله خبر محمّد بن سنان، حيث يشير للآفة وفساد الأبدان، وهي تعابير لا تشمل بالتأكيد مطلق الضرر، بل مستوى أعلى من ذلك.
ج ـ إنّ ظاهر رواية العذاب ما بين القوّة والضعف (خبر زياد بن أبي زياد) هو حصول حالة له تُسقط قوّته، لا أنّه يحصل له تعبٌ وتعطّل عن العمل لمدّة أيام، فليس هذا هو المراد بالحديث، وإلا لزم تحريم اللعب أحياناً، علماً أنّ الإضرار بالنفس لا يحصل فيه دوماً ما يشير إليه هذا الحديث من الامتياز بين القوّة والضعف، فلو أتلف الإنسان طاقة الذوق عنده فلا يتحقّق فيه هذا العنوان وهكذا، ما لم نقل بوحدة المناط.
د ـ ذهب السيد الروحاني إلى أنّ بعض هذه النصوص ـ مثل خبر المفضل بن عمر ـ ظاهر في معياريّة الضرر في باب الأطعمة والأشربة لا في مطلق الأمور، فكلّ مضرّ أكله فهو حرام، لا أنّ كلّ مضرّ فهو حرام([30]).
وهذا محتمل ما لم نقل بأنّ العرف يفهم التعميم من التعليل وعدم خصوصيّة للأكل، فينقّح المناط.
هـ ـ ردّ السيد الخوئي الاستدلال الحديث الأخير بأنّه ناظر للجانب الواقعي لا للجانب التشريعي، بمعنى أنّه يريد أن يقول بأنّ الإنسان في العادة لا يضرّ نفسه، فكذلك ينبغي أن لا يضرّ جاره. وقد عارضه السيد فضل الله بأنّ المتكلّم ينظر هنا بما هو مشرّع([31]).
إلا أنّ الإنصاف أنّه إذا لم يصحّ تفسير السيّد الخوئي هنا، فإنّ تفسير السيّد فضل الله غير ظاهر من الحديث؛ فحتى لو كان المتكلّم في مقام البيان التشريعي، فإنّ استخدام هذه التعابير يظلّ ممكناً؛ إذ الهدف من هذا التعبير أنّه حيث لا تُلحق أنت الضرر بنفسك عادةً، ويهمّك أن لا تتضرّر، لهذا عليك التفكير بجارك بنفس الطريقة التي تفكّر فيها بنفسك، فتكون هذه الرواية قريبة جداً من إفادة القاعدة الأخلاقيّة الذهبيّة (أحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها)، وكأنّ الرواية تستخدم نوعاً من الاعتبار الأدبي الهادف لإيقاع التأثير النفسي على المتلقّي.
ويشهد لذلك أنّ الجملة اللاحقة قالت بأنّ حرمة الجار كحرمة الأمّ والأب، وهو واضح في أنه يريد رفع مستوى الجارّ ليكون بمثابة الأمّ والأب، الأمر الذي يدفع المتلقّي للتعامل باهتمامٍ عالٍ معه، فلو لم يكن الأمر مراعياً لنوع من الاعتبار الأدبي أو القاعدة الذهبيّة للزم القول بأنّ الرواية ظاهرة في إثبات تمام حقوق الأم والأب للجارّ!
فليس في الحديث نظر لحرمة مطلق الضرر على النفس، بل إنّ الأمر بالعكس تماماً، فلو صحّ ما قاله السيد فضل الله للزم في البداية إثبات أنّه هل كلّ ضرر على النفس حرام أو لا؟ فإذا لم يثبت أنّ كلّ ضرر حرام، وثبت أنّ الحرام بعض مستويات الضرر، فهذا معناه أنّ الحديث يريد تنزيل الجار منزلة النفس، فيحرم الإضرار به بما يحرم الإضرار بها، فكيف يكون الحديث ذا لسانٍ إطلاقيّ بالنسبة للنفس عينها مع أنّه في مقام البيان بالنسبة للجارّ؟!
وبهذا يتبيّن أنّ ما يصحّ دلالةً من هذه النصوص لا يرقى لمستوى حديثين أو ثلاثة ضعيفة الإسناد، فكيف يمكن تأصيل قاعدة كليّة عامّة بمثل هذه النصوص التي لا يحصل وثوق اطمئناني بصدورها عادةً.
وعليه، فغاية ما يثبت بالحديث الشريف هو ما ثبت عقلائيّاً من حرمة قتل النفس أو تعطيل طاقة لها أو بتر عضو منها في الجملة بحسب الموارد، وليس فيها إطلاق تحريم الإضرار.
8 ـ التشريعات الترخيصيّة والمبنيّة على الضرر، ودورها في إنشاء قاعدة الإضرار
يعتمد هذا الدليل على الرجوع إلى ما دلّ على وجوب التداوي، وما رخّص في أكل الأطعمة المحرّمة عند الضرورة، أو في الإفطار إذا أضرّ الصوم بالبدن ونحو ذلك، فهذه بمجموعها تثبت أنّ لحوق الضرر ببدن الإنسان مرفوض شرعاً الى حدّ أنّ المحرّمات تسقط لأجل عدم وقوعه.
إلا أنّ هذا الدليل المركّب من ثلاثة أدلّة مجتمعةً يمكن مناقشته:
أوّلاً: إنّ ما دلّ على أكل الأطعمة المحرّمة عند الضرورة أو في الإفطار، له صورتان:
الصورة الأولى: أن يفرض أنّ لسان الأدلّة هو لسان الترخيص بالأكل لا لسان الإلزام به، وفي هذه الحال غاية ما هنالك سقوطُ حكمٍ إلزامي في حال الضرر أو الإضطرار، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ المصالح الكامنة في الحكم الإلزامي بحرمة الأطعمة أو وجوب الصوم لا يعود لها وجود حال الضرر الناتج منها، أو قد يكون ذلك منّةً وتخفيفاً على العباد، وأين هذا من حرمة إضرار الإنسان بنفسه وبدنه؟!
قد يقال: إنّ الاستدلال هنا قائم على افتراض أنّ مفسدة إضرار النفس تزاحمت مع مصلحة الصوم مثلاً فكانت أقوى منها، وهذا كاشف عن قوّة المفسدة في الإضرار بحيث استطاعت إسقاط حكمٍ إلزامي من الأحكام الشرعيّة الواضحة، ولا معنى لذلك سوى كونها من القوّة بحيث تستدعي بنفسها حكماً إلزاميّاً تحريمياً، إذ لو كان الإضرار بالنفس والبدن مكروهاً مثلاً فأيّ معنى لسقوط الحرمة أو الوجوب بمعارضتهما لأمرٍ مكروه لا غير؟!
إلا أنّ هذه المقاربة للمشهد غير مؤكّدة؛ إذ ثمّة فرضية أخرى في عالم الملاكات يمكن أن تبرّر سقوط الحرمة أو الوجوب، وهي وجود ملاك التخفيف والتيسير من المولى على عباده، فإنّ نفس قيام أحكامه على ملاك التيسير هو الذي جعله يخصّص الوجوب أو الحرمة بحال عدم الضرر، تماماً كما حكم بسقوط الصوم عن المسافر رغم انعدام الضرر، أو سقوطه عن الحائض كذلك، فإنّ سقوط تكليفٍ ما لا ينحصر بوجود حكم إلزامي في مقابله، بل يكفي كون الحالة من الحالات التي ينعدم فيها ملاك الإلزام نفسه.
ولو لم يصحّ ما نقول لزم القول بحرمة إيقاع الإنسان نفسه في الحرج، لسقوط التكاليف في حال الحرج، ولا أظنّ القائل هنا يلتزم بذلك.
الصورة الثانية: أن يُفرض أنّ لسان الأدلّة هو لسان الإلزام بالأكل لا لسان الترخيص به فقط، وفي هذه الحال قد يتصوّر أنّ ذلك لا معنى له سوى حرمة الإضرار بالنفس وأنّ ملاكها كان أقوى من ملاك حرمة الأطعمة الخاصّة، ومن ملاك وجوب الصوم، وبذلك تثبت حرمة الإضرار بالنفس.
لكنّ هذا التصوّر غير صحيح أيضاً؛ إذ ربما يكون المولى متشدّداً في نفي الضرر الآتي من التزام المكلّف بأحكامه الشرعيّة، أو أدائه لأمورٍ عباديّة أو طقوسيّة، فإنّ المولى لو رخّص له في الإفطار فقد يفطر وقد لا يفطر، وعلى تقدير عدم الإفطار فهذا معناه أنّه سوف يصوم بحيث يؤدّي صومه إلى ضرره، والمولى متشدّد جداً في إلحاق أحكامه الضررَ بالإنسان، ولو لم تكن أحكاماً لزوميّة، فكلّ ضرر يُسنَد إلى تشريع المولى سبحانه لحكمٍ ما، ولو لم يكن إلزاميّاً، فهو مرفوض جداً، ولهذا يتشدّد في الإفطار حتى يقطع إمكانيّة لحوق الضرر بالإنسان نتيجة رغبته في الصوم الذي هو في أصله تشريعٌ إلهي، فلا يكشف تشدّده هذا عن حرمة إضرار الإنسان لبدنه في حالةٍ لا يوجد فيها تشريع مولوي. وإنّما لحق الضرر بالإنسان هنا لرغبة منه في القيام بهذا التشريع المولوي ولو لم يكن هذا التشريع إلزاميّاً.
وهذا يختلف عن الحال العادية التي ليس للمولى فيها تشريعٌ يُسند الضرر إليه، ولو منضماً إلى رغبة المكلّف به، كما في تشريعه الأولي إباحة إضرار الإنسان بنفسه، فإنّ هذا التشريع لا يملك ملاكاً، ولهذا بلغ حدّ الإباحة، فإذا أضرّ الإنسان بنفسه فلا يُسند الإضرار إلى الشريعة بل إليه، أمّا في حال الصوم فإنّ الإضرار يُسنَد إلى المكلّف حال إرادته فعل أمرٍ رغبت فيه الشريعة من حيث المبدأ، لا أنّها سكتت عنه، وربما يكون المولى متشدّداً في هذا القدر من النسبة إليه، فلا يكشف الوجوب في الإفطار أو الأكل عن وجود تشريعٍ مولوي مسبق بحرمة إضرار الإنسان لنفسه.
يضاف إلى ذلك أنّنا أثبتنا فيما مضى أنّ المقدار المؤكّد من حرمة الإضرار هو قتل الإنسان لنفسه أو بعض حالات بتر أعضائه أو قتل طاقاته مما يعدّ قبيحاً عقلائياً بحيث يحرَز قبحُه، وبناءً عليه لا نجد حديثاً أو آية يلزمان بالأكل أو الإفطار في غير هاتين الحالتين، وإنّما النصوص لسانها لسان ترخيص لا إلزام، بل في آية سورة المائدة قال: ﴿..فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: 3)، وقد تكرّر ذكر وصف المغفرة والرحمة في سائر الآيات أيضاً، فإنّ تعبير المخمصة ظاهرٌ في حال المجاعة الذي هو حالٌ يطال المقدار المتيقّن من حرمة الإضرار، بل إنّ تعبير «الغفور الرحيم» المتكرّر في هذه الآيات قد يوحي ببقاء ملاك الحرمة حتى حال الإضطرار، غايته أنّ المولى لمغفرته ورحمته يغضّ الطرف، وقد بنى أحكامه على المغفرة والرحمة لما يفعلونه، وأين هذا من لسان الإلزام بالأكل؟!
بل نفس تقييد الترخيص بـ «غير باغٍ ولا عاد» يفهم منه أنّ الباغي أو العادي لا يشمله الترخيص، فلو كان الإضرار بالنفس حراماً في نفسه وأنّه هو الذي أسقط ملاك التحريم لما كان وجهٌ لبقاء الحرمة في حقّ الباغي والعادي، فإنّه أيضاً لا يجوز له أوليّاً الإضرار بالنفس فتأمّل، وسيأتي بحث الباغي والعادي إن شاء الله.
وأمّا الترخيص بالإفطار فهو واضح في خصوصيّة الترخيص، بل في خصوصيّة التيسير التي أشرنا إليها، حيث قال تعالى: ﴿..وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185). فليس في هذه الألسنة ما يساعد على فهم أنّ مبرّر الإفطار هو حرمة الإضرار، وإن كان محتملاً.
نعم، ورد في مرسلة الصدوق، عن الإمام الصادق، أنه قال: «من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئاً من ذلك حتى يموت فهو كافر»([32])، وهذا واضح في المرتبة الأولى من مراتب الإضرار بالنفس، وقد أثبتنا حرمتها.
وكذلك الحال في خبر المفضل بن عمر المتقدّم، حيث أفاد الأمر للمضطرّ بالأكل ممّا اضطرّ إليه، إلا أنّه ضعيف سنداً.
وقد ورد في الإفطار ما يفيد الإلزام، وسوف يأتي أنّ هذا كلّه لا يزيد شيئاً عما أثبتنا حرمته أو أنّ الإلزام لا يفيد أساساً في اكتشاف حرمة الإضرار؛ لما قلناه آنفاً.
وعليه، فلا يصحّ الاستدلال بأدلّة الأكل والإفطار لتحريم الإضرار بالنفس، ولو صحّ فهو لا يفيد أكثر من المقدار الذي أثبتنا حرمته سابقاً. هذا كلّه في الإفطار والأكل.
المجموعات النصيّة المتصلة بالموقف من التداوي، نظرة شموليّة
ثانياً: إذا راجعنا نصوص التداوي بنظرة شموليّة (Panorama)، فنحن نجدها على مجموعات:
المجموعة الأولى: ما دلّ على الإرشاد إلى أدوية خاصّة، وبيان ما ينفع وما لا ينفع، وكيفيّة معالجة الأمراض، وخصائص النباتات والعلاجات وغير ذلك. وهذه هي نصوص الطبّ النبوي أو طبّ الأئمّة، وهي نصوص كثيرة ومتعدّدة.
إلا أنّ نصوص هذه المجموعة لا تفيد وجوب التداوي، ولو أفادته فلا إطلاق فيها يشمل غير حال المستوى الأوّل والمتيقّن من المستوى الثاني من مستويات الإضرار الأربعة المتقدّمة.
المجموعة الثانية: ما دلّ على رجحان عدم التداوي، فحيث يمكن للإنسان فمن الأفضل له أن لا يتداوي، وقد فُسّر ذلك بأنّه حيث يقدر الجسم على تحمّل الداء ومعالجته بنفسه، فلا يحسن استعمال الأدويّة؛ فإنّه ما من دواء إلا ويهيج داءً، كما ورد في الخبر([33]). وورد في خبر بكر بن صالح الجعفري قال: سمعتُ أبا الحسن موسى بن جعفر× وهو يقول: «ادفعوا معالجة الأطبّاء ما اندفع الداء عنكم، فإنّه بمنزلة البناء، قليله يجرّ إلى كثيره»([34]).
وهذه النصوص لا تفيد وجوب التداوي، بل هي ترغّب في تركه ما أمكن، فلا تصلح دليلاً هنا.
المجموعة الثالثة: ما دلّ على النهي عن التداوي ببعض الأمور، سواء فهم هذا النهي نهياً تحريميّاً أم كراهتيّاً، أم غيرهما، مثل ما ورد من النهي عن التداوي بالخمر والنبيذ والمسكر، وكذلك ما ورد من نهي الرسول عن التداوي بالمياه الحارّة والعيون الجارية والحارّة تحت الجبال والتي يستشمّ منها رائحة الكبريت([35]).
ومثله ما ورد من النهي عن التداوي قدر الإمكان لبعض العوارض الخاصّة، مثل الزكام والدماميل والرمَد والسّعال.
وهذه المجموعة أيضاً لا تفيد؛ إذ قد يتصوّر أنّ الأصل جواز التداوي، خرج منه التداوي بمثل هذه، فنُهيَ عنها، فلا تدلّ على وجوب التداوي.
المجموعة الرابعة: ما دلّ على الأمر بالتداوي في مقام رفع الحظر المتوهّم في التداوي، وأنّ فيه منافاةً للتوكّل على الله أو كونه هو الذي يشفي وهو الذي يُمرض، أو دلّ على جواز التداوي لا الأمر به.
وهذه المجموعة لا تنفع أيضاً، فهي تفيد شرعيّة التداوي وأنّه لا ينافي التوكّل على الله، وأنّ ترك التداوي بحجّة أنّ الله شافٍ غيرُ صحيح، فهي ناظرة لهذه الجهة ولا إطلاق فيها.
المجموعة الخامسة: ما دلّ على الأمر بالتداوي والدعوة إليه، بل والإقدام على أخذ الدواء الذي يحتمل معه قليلاً أن يموت.
وهذه المجموعة هي الأفضل هنا، إلا أنّ هذه الأحاديث يمكن توصيف حالها كالآتي:
أ ـ إنّ أغلبيّتها إن لم يكن جميعها ضعيفٌ من حيث الإسناد، فراجع.
ب ـ إنّ كثيراً منها وارد في موقع الإرشاد، حيث يسأله شخص عن مرضٍ ما، فيأمره بأخذ كذا وكذا، وهذا غير ظاهر في المولويّة، بل ظاهر في شرح العلاج وبيان ما هو الدواء.
ج ـ إنّ بعضها ظاهر في التداوي الذي من دونه يُصاب بمرضٍ عضال أو يموت، أو هو ظاهر في مبدأ وجوب التداوي لا في حدوده، وأنّه هل يشمل جميع الأمراض أو بعضها؟ وهذا غير الحكم بوجوب مطلق التداوي.
د ـ إنّ ما هو غير ذلك قليلٌ جداً وضعيف سنداً، ولا يحصل منه وثوق.
وخلاصة القول في التداوي: إنّه واجبٌ إذا لزم من تركه الموت أو ذهاب طاقته أو أحد أعضائه أو تعطيل قدرة فعاليّته في الحياة، أمّا ما هو غير ذلك فلا يوجد نصّ معتبر موثوق يُلزِم به، فلو جُرح الإنسان فلا دليل يُلزم بوجب وضع الدواء، ما دام الجسم يتدارك نفسه، وهذا معناه جواز جرح نفسه، تماماً كما في حال التطبير وضرب الرأس بالسيف وغير ذلك، فغاية ما يفيده دليل التداوي هو أن يتعاضد مع الأدلّة السابقة ليُثبت القدرَ المتيقّن الذي أشرنا له مراراً، لا مطلق الإضرار بما يشمل المرتبة الثالثة بتمام مساحتها، فضلاً عن الرابعة.
نتيجة البحث في قاعدة الإضرار بالنفس
والنتيجة: إنّ أيّ طعام أو شراب أو غيرهما، يؤدّي إلى الموت، أو إلى تعطيل طاقة الإنسان أو بتر عضوٍ من أعضائه (في الجملة) أو تعطيله عن القيام بواجباته الدينيّة نوعاً فهو حرام، وإلا فالأصل الجواز.
____________________________([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (فقه الأطعمة والأشربة 1: 218 ـ 249) تأليف حيدر حبّ الله، والذي صدرت طبعته الأولى عن دار روافد في بيروت، عام 2020م.
([2]) انظر: الأنصاري، رسائل فقهيّة: 116.
([3]) انظر: تفصيل وسائل الشيعة 29: 24؛ وجامع أحاديث الشيعة 26: 130؛ ومسند ابن حنبل 2: 435؛ و..
([4]) الميزان في تفسير القرآن 4: 320.
([5]) جاء في التوراة: «وَقَفَ مُوسَى فِي بَابِ الْمَحَلَّةِ وَقَالَ: مَنْ لِلرَّبِّ فَإِلَيَّ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ بَنِي لاَوِي. فَقَالَ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ. فَفَعَلَ بَنُو لاَوِي بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. وَوَقَعَ مِنَ الشَّعْبِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُل. وَقَالَ مُوسَى: امْلأُوا أَيْدِيَكُمُ الْيَوْمَ لِلرَّبِّ حَتَّى كُلُّ وَاحِدٍ بِابْنِهِ وَبِأَخِيهِ فَيُعْطِيَكُمُ الْيَوْمَ بَرَكَةً» (سفر الخروج 32: 26 ـ 29).
([6]) انظر: الطوسي، المبسوط 6: 284؛ ومغنية، الكاشف 1: 301؛ والعراقي، شرح تبصرة المتعلّمين 1: 300.
([7]) انظر: موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت 17: 351.
([8]) انظر: المفردات: 544 ـ 545.
([9]) انظر: مالك وهبي، العمليّات الاستشهادية، دراسة في المشروعيّة الفقهيّة، مجلّة الحياة الطيّبة، العدد 10: 123 ـ 124.
([10]) انظر: حسين الخشن، في فقه السلامة الصحيّة: 155 ـ 156.
([11]) انظر: التبيان 2: 152؛ ومجمع البيان 2: 35؛ ونواف هايل تكروري، العمليّات الاستشهادية في الميزان الفقهي: 70 ـ 72؛ وحسين الخشن، في فقه السلامة الصحيّة: 152 ـ 153 (وإن ناقش بعد ذلك).
([12]) انظر: مالك وهبي، العمليّات الاستشهاديّة، مصدر سابق: 124 ـ 125.
([13]) فتح القدير 1: 193 ـ 194؛ وانظر: من وحي القرآن 4: 86 ـ 87؛ والميزان 2: 64؛ والأمثل 2: 35؛ والتبيان 2: 152؛ وآلاء الرحمن 1: 167؛ ومجمع البيان 2: 35.
([14]) انظر: فضل الله، من وحي القرآن 4: 225 ـ 227؛ وحوار معه حول: الاجتهاد وإمكانيّات التجديد في منهج التفكير، مجلّة المنطلق، العدد 111: 56، عام 1995م؛ والقرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام: 35؛ وحسين الخشن، في فقه السلامة الصحيّة: 157؛ وسيد سابق، فقه السنّة 2: 382؛ وتفسير المنار 1: 103.
([15]) لاحظ ـ على سبيل المثال ـ: فضل الله، فقه الأطعمة والأشربة: 39 ـ 41.
([16]) انظر: فقه الأطعمة والأشربة: 39؛ وقاعدة لا ضرر ولا ضرار: 161؛ وكتاب النكاح 2: 193، 197، 201، 202.
([17]) تنقيح مباني العروة (كتاب الطهارة) 7: 514.
([18]) راجع: فضل الله، قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 160 ـ 161؛ وفي فقه السلامة الصحيّة: 179 ـ 180، 181 ـ 183.
([19]) يذهب السيد الخوئي إلى أنّ النصوص الدينية تدلّ على حرمة إلقاء النفس في التهلكة، أمّا المستوى الثاني فيرى أنّه ثابت الحرمة بالإجماع، وكأنّه لم يثبت لديه بدليل نصّي، بل هو يرى أنّ جواز الإضرار بالنفس من بديهيّات الفقه، فانظر له: الهداية في الأصول 3: 565 ـ 566؛ وراجع له: دراسات في علم الأصول 3: 520 ـ 524؛ ومصباح الأصول 2: 548 ـ 551؛ ويحتمل استظهار تحريم الإضرار بالنفس عبر الإجماع من كلام العراقي فراجع له: شرح تبصرة المتعلّمين 1: 300.
([20]) الخوئي، مصباح الأصول 2: 548 ـ 549؛ وانظر: البيارجمندي، مدارك العروة 3: 127؛ والروحاني، زبدة الأصول 3: 503.
([21]) انظر: فضل الله، قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 162 ـ 164؛ وكتاب النكاح 2: 195 ـ 197، 201، 202، 204 ـ 205.
([22]) انظر: قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 177 ـ 178.
([23]) تحف العقول: 337؛ وراجع: دعائم الإسلام 2: 122 ـ 123؛ ومستدرك الوسائل 16: 207.
([24]) الكافي 6: 242؛ وانظر: أمالي الصدوق: 763؛ وعلل الشرائع 2: 483 ـ 484.
([26]) عيون أخبار الرضا 1: 101.
([27]) الكافي 6: 266؛ وتهذيب الأحكام 9: 89؛ وعلل الشرائع 2: 533.
([28]) الكافي 2: 666، و5: 31، 292؛ وتهذيب الأحكام 6: 141، و7: 146؛ وانظر: سيرة ابن هشام 2: 350.
([29]) راجع: النراقي، مستند الشيعة 15: 15 ـ 17؛ والحرّ العاملي، الفوائد الطوسيّة: 224؛ والعراقي، شرح تبصرة المتعلّمين 1: 300؛ وفضل الله، كتاب النكاح 2: 202 ـ 207.
([30]) انظر: زبدة الأصول: 3: 506.
([31]) راجع: الخوئي، الهداية في الأصول 3: 565 ـ 566؛ ودراسات في علم الأصول 3: 521؛ ومصباح الأصول 2: 548 ـ 551؛ والروحاني، زبدة الأصول 3: 507؛ وفقه الصادق 18: 450، و24: 101؛ والنراقي، عوائد الأيّام: 45؛ وفضل الله، قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 165 ـ 166؛ وكتاب النكاح 2: 206 ـ 207؛ والسيفي المازندراني، دليل تحرير الوسيلة (إحياء الموات): 61؛ ومحمّد باقر الخالصي، رفع الغرر عن قاعدة لا ضرر: 8.
([32]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 345.