الحيوانات المائيّة ذات القشور / مراجعة نقديّة في رأي السيّد محمد سعيد الحكيم
حيدر حبّ الله([1])
تمهيد في عرض المشهد العام ومنهجة البحث
يقصد بحيوان البحر أو ثمار البحر كلّ حيوان يعيش في الماء، أعمّ عندهم من أن يكون سمكاً أو غير سمك، وأعمّ من أن يكون له فَلس أو لا يكون له قشر، كما أنّ البحر أعمّ عندهم([2]) من أن يكون البحر المعروف مهما كان حجمه، أو النهر، فيشمل البحار والمحيطات والبحيرات والأنهار والروافد والمستنقعات المائية وما شابه ذلك.
بل حتى طير الماء يكاد يلحق في العديد من تعابير الفقهاء بالحيوانات المائيّة والبحريّة، لكنّه عندهم تجري عليه أحكام الطيور التي تقدّمت فيما سبق، فيما يصرّح بعضهم بأنّه حيوان غير مائي إذ لا يعيش في المياه وينغمس بها([3]).
وقد أجمع المسلمون قاطبةً فيما يبدو على حليّة السمك الذي له قشر، سواء كان قشره يبقى عليه أم كان قشره يزول عنه باحتكاكه بالأشياء أو الأرض([4])، وهذا هو المقدار المتّفق عليه بين المسلمين.
إنّما وقع البحث والكلام في أمرين:
1 ـ السمك الذي لا قشر له، والمشهور حرمته عند الإماميّة، وخالفهم في ذلك جمهور المسلمين، فلم يشترطوا في السمك أن يكون له فَلس. وجاء في بعض مصادر الإماميّة الحديثيّة رواية ذهاب أبي حنيفة إلى أخذ قيد القشر([5]).
2 ـ غير السمك من حيوانات الماء، وقد وقع فيه خلاف، فالمعروف بين الإماميّة والأحناف هو القول بحرمة غير السمك من حيوان البحر، كالسرطان، وحيّة البحر، وكلب البحر، وخنزير البحر، وفرس البحر، ونجم البحر، وقنديل البحر، والأخطبوط، والمحار، وغير ذلك. أمّا سائر فقهاء المذاهب، فذهبوا إلى حليّة غير السمك.
وقد ذهب المرجع الديني المعاصر السيد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم إلى حليّة كلّ حيوان بحري له قشر، والقشر عنده هو الصدف الذي يكسو الحيوان ويمكن أن ينفصل عنه، في مقابل ما يكسوه ولا ينفصل مثل السلحفاة والمحار والسرطان([6])، وعلى هذا الأساس يكون الروبيان حلالاً على القاعدة، ومن ثم فبعض ما لا يسمّى عند الآخرين سمكاً سوف يكون حلالاً في بعض الحالات عند السيد الحكيم، وسيأتي بحث وجهة نظره قريباً إن شاء الله تعالى.
وبهذا تكون المالكيّة والحنابلة والشافعيّة قائلةً بحليّة كلّ حيوان في البحر مطلقاً إلا ما خرج بنصٍّ خاص، فيما الأحناف يقولون بحليّة كلّ حيوان في البحر يندرج في السمك خاصّة بلا فرق بين أن يكون له قشر أو لا، وأمّا الإماميّة فترى ـ على المشهور ـ أنّ كلّ حيوان البحر حرامٌ إلا سمك له قشر خاصّة، باستثناء الربيثا والروبيان، فحكموا بحليّتهما([7]). وسيأتي معنى الروبيان والربيثا.
هذا هو المعروف السائد بين المذاهب، لكن ظهر مخالفون لهذه الآراء خالفوا المشهور، وسيأتي التعرّض لهم في محلّه...
...
القشر وعدمه بين الشمول لمطلق حيوان البحر والاختصاص بالأسماك
أشرنا فيما مضى إلى ذهاب بعض العلماء (السيد محمد سعيد الحكيم) إلى أنّ مسألة التفصيل في القشر وعدمه، تستوعبُ كلّ حيوانات البحر عدا ما كان مثل التمساح والسلحفاة فلا يعتبر ما عليها قشراً.
ويمكن أن يكون مستند هؤلاء أحد أمرين:
1 ـ صدق عنوان السمك على كلّ حيوان البحر، توثيق ونقد
الأمر الأوّل: صدق عنوان السمك على كلّ حيوان في البحر ولو لم يكن على صورة السمك، وأنّ هذا الصدق لغويٌّ ويُفهم من النصوص أيضاً.
1 ـ 1 ـ المقاربة اللغويّة المعجميّة لمفهوم السمك
قال في العين: «سمك: السمك في الماء، الواحدة سمكة»([8])، وقال: «.. والقرش سمك بالحجاز، يقال له: كلب الماء»([9]). وقال في المحيط في اللغة: «السمك: معروف..»([10]).
وقال الزمخشري: «[أَنْكَلَيْس] عليّ رضي الله عنه بعث عماراً إلى السوق، فقال: لا تأكلوا الأنكَلَيْس من السمك» قيل: هو الشَّلق، وقيل: سمك شبيه بالحيّات، وتزعُم الأطبّاء أنّه رديء الغذاء، وكَرِهَهُ لهذا، لا لأنّه محرّم، وفيه لغتان: الأنكَلَيْس والأَنقلَيس بفتح الهمزة واللام، ومنهم من يكسرهما»([11]).
والأنكَلَيْس يبدو أنّه عين المارماهي، كما ذكر ذلك ابن الأثير([12])، وقد أفاد ابن منظور أنّه عين الجرّي والجرّيث، وأيّدَ كلامَ الزمخشري وابن الأثير([13]). وقال ابن منظور: «السمك: الحوت من خلق الماء»([14]).
وقال الطريحي: «الإربيان سمكٌ معروفٌ في بلاده»([15]). وقال في تعريف السمك: «من خلق الماء، معروف»([16])، وقال الزبيدي: «.. والإربيان بالكسر: سمك، عن ابن دُرَيْد، وقال: أحسبه عربيّاً..»([17]). وقال: «.. والكلب: سمكٌ على هيئته..»([18]).
والذي يظهر بمراجعة كتب اللغة أنّ السمك حيوانات تعيش في الماء، أمّا هل أنّها كلُّ ما يعيش في الماء أو لا؟ فهذا ما لا تفيده كتب اللغة بوضوح، بل وجدناهم عند الحديث عن الصدف، قالوا بأنّه من حيوان البحر([19]) ولم يقولوا: إنّه سمك، ولما تحدّثوا عن الأرنب البحري قالوا: رأسه كرأس الأرنب وبدنه كبدن السمك، وهو من حيوان البحر([20]). كما عرّفوا الحيتان بأنّها السمك([21]).
نعم، الشيء الملفت في كلامهم هو إطلاق تعبير السمك على الإربيان، وهو متعدّد في كتبهم([22]).
لكنّ إطلاقهم السمك على الروبيان لا يمكن لوحده أن يسمح لنا ـ معجميّاً ـ باعتبار كلّ حيوانات البحر أسماكاً بشكل قاطع وحاسم، فالأمر ليس نصّاً واضحاً، وإن كان الأمر محتملاً جداً، لاسيما مع إضافة ما ذكرناه من كلامهم حول الأنكَلَيْس.
1 ـ 2 ـ المقاربة الحديثيّة لمفهوم السمك
ما تقدّم كان حديثاً عن الموضوع على المستوى المعجمي، وأمّا على مستوى الأحاديث والروايات، فإنّ موثقة عمار الساباطي التي نقلناها في بحث حكم الحيوان من غير السمك (رقم: 1) تفيد وجود ما هو غير سمك في البحر، بناءً على أحد المحتملات التفسيريّة للكلمة كما تقدّم. كما أنّه قد تقدّم معنى بعض الروايات التي تصف الإربيان بأنّه نوع من السمك مثل خبر يونس بن عبد الرحمن، وخبر محمّد بن جمهور، ويُفهم من بعضها أنّ الجرّي نوع من السمك، كما في خبر حنان بن سدير وخبر أبي بصير.
وقد احتملنا في بعض هذه الروايات أن تكون توضيحاً من أحد الرواة هو الذي قام يقول: إنّ كذا وكذا من السمك.
هذا غاية ما يمكن قوله لإثبات أنّ عنوان السمك يُطلق على كلّ حيوان البحر عدا البرمائي ونحو ذلك.
وأقوى ما فيه قرينة هنا هو مسألة الروبيان الذي عدّ في بعض الروايات وبعض كلمات اللغويّين سمكاً، مع أنّه لا يُشبه صورة السمك، لكنّ الاعتماد على هذا لوحده وعلى مثل فكرة وحدة الأنكليس والجرّي والمارماهي مع القول بأنّ المارماهي لا يُشبه السمك، بل هو حيّة البحر، لا يسمح بالاطمئنان بالقضيّة، لاسيما وأنّ أهل اللغة اليوم لا يطلقون اسم السمك عادةً على ما لا يشبه صورة السمك ولو لم يكن برمائيّاً كقنديل البحر، والاُخطبوط، وصغار الحيوانات البحريّة التي هي أشبه بالحشرات، والأصداف البحريّة.
أضف إلى ذلك أنّ بعض روايات حرمة ما ليس بسمك تعطي أنّ الإمام يفهم من حيوانٍ أنّه ليس بسمك مع أنّه يعيش في الماء حتماً مثل سؤاله عن الربيثا، فيجيب بأنّنا لا نعرفها في السمك، فمهما كان المراد من الجواب فإنّ كونها من حيوان البحر معلوم حسب الظاهر، فراجع.
والنتيجة عدم وجود دليل قويّ معتمد يمكن الوثوق به، يُثبت أنّ كلّ ما في البحر سمكٌ غير البرمائيّات، فما تعامل به المشهور هنا هو الصحيح.
2 ـ شمول نصوص الفَلس والقشر لغير السمك، نقد وتعليق
يمكن أن يكون منطلق القضيّة هنا، والتي تبرّر ما ذهب إليه السيد محمّد سعيد الحكيم، أنّ نصوص حرمة أكل غير السمك باطلة، ولم تثبت، فنرجع لنصوص الفلس والقشر، فنرى أنّ بعضها على الأقلّ له إطلاق بحيث لا يتكلّم عن السمك فقط، بل يشمل مطلق ما في الماء، فنجعل القشر معياراً لمطلق حيوان الماء، فتثبت مقولة السيد الحكيم، وهو ما يتناسب أكثر مع صياغته الفتوائيّة.
يقول السيد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم: «لا يحلّ من حيوان البحر إلا ما له قشر. والمراد بالقشر الصدف الذي يكسو الحيوان ويمكن أن ينفصل عنه، كفلس السمك، وقشر الإربيان الذي يعرف في عصورنا بالروبيان وغيرهما. أمّا الصدف اللازم للحيوان الملتصق به ـ كصدف السلحفاة والسرطان والمحار ـ فلا يكفي في تحليله»([23]).
لكنّنا بالمراجعة لم نجد روايات في القشر تتصل بالموضوع عدا:
أوّلاً: خبر أحمد بن إسحاق (الرواية رقم: 7 من المجموعة الأولى)، حيث تتكلّم عن الإسقنقور، وخبر الدعائم (الرواية رقم: 13 من المجموعة الأولى) حيث تعبر بدواب البحر.
لكن يمكن النقاش بأنّ الرواية الأولى فيها غموض سبق أن تحدّثنا عنه، فضلاً عن أنّ الروايتين ضعيفتان جداً من حيث الإسناد، وقليلتان من حيث العدد، ومختلف الروايات الأخرى يستخدم تعبير السمك والفلوس ولا يستخدم غيره، فلا يكفي هذا المقدار لتبرير جعل فكرة القشر والفلوس عامّة.
ثانياً: تحليل الروبيان، والمفروض أنّ له قشراً.
لكنّ هذا لا يكفي؛ لاحتمال كونه استثناءً من حكم غير السمك، وهو معقول جدّاً.
وعليه، فلم يثبت لنا أو لم نفهم مبرّر فتوى السيد الحكيم المخالفة للمشهور هنا.
([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (فقه الأطعمة والأشربة 2: 97 ـ 99، 175 ـ 179) تأليف حيدر حبّ الله، والذي صدرت طبعته الأولى عن دار روافد في بيروت، عام 2020م.
([2]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: لسان العرب 4: 41.
([3]) انظر: مستند الشيعة 15: 94؛ والموسوعة الفقهيّة (الكويتيّة) 5: 129.
([4]) انظر: المسالك 12: 10؛ والنهاية: 576؛ والسرائر 3: 98، 99؛ والشرائع 3: 217؛ وتحرير الأحكام 4: 636؛ والدروس 3: 7؛ وكشف اللثام 9: 245؛ والرياض 12: 135 ـ 136؛ ومستند الشيعة 15: 59؛ 62؛ والحكيم، منهاج الصالحين 2: 367؛ وجامع المدارك 5: 136؛ وتحرير الوسيلة 2: 137؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 344؛ والغنية: 397 ـ 398؛ ومجمع الفائدة والبرهان 11: 187؛ وجواهر الكلام 36: 243؛ ومسالك الأفهام 12: 10؛ وكفاية الأحكام 2: 596.
([5]) انظر: مستدرك الوسائل 16: 177.
([6]) انظر: محمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 3: 217.
([7]) انظر في هذا كلّه: الانتصار: 400؛ والمبسوط 4: 671؛ والسرائر 3: 98 ـ 99؛ والقواعد 3: 324؛ والدروس 3: 7، 9؛ والرياض 12: 135، 138، 142؛ ومستند الشيعة 15: 59، 62 ـ 66؛ والشرائع 3: 217؛ والتحرير 4: 636؛ وكشف اللثام 9: 245؛ وجواهرالكلام 36: 241 ـ 243، 253؛ والحكيم، منهاج الصالحين 2: 367؛ وجامع المدارك 5: 136؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 344؛ ومجمع الفائدة 11: 187؛ والخلاف 6: 31؛ ومسالك الأفهام 12: 10؛ وبدائع الصنائع 5: 35 ـ 39؛ والزيلعي، تبيين الحقائق 5: 294 ـ 297؛ والدرّ المختار 5: 214 ـ 217؛ والدمشقي الحنفي، اللباب 3: 228 ـ 231؛ والزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته 3: 679 ـ 680؛ والموسوعة الفقهيّة (الكويتيّة) 5: 128 ـ 129؛ والمقنعة: 576؛ وشرح الخرشي على مختصر أبي الضياء 3: 26؛ ومغني المحتاج 4: 273؛ وابن قدامة، المغني والشرح 11: 84 ـ 85 وغير ذلك.
([10]) المحيط في اللغة 6: 195.
([11]) الفائق في غريب الحديث 1: 57.
([12]) النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 77.
([13]) لسان العرب 6: 17؛ وانظر: تاج العروس 6: 181.
([19]) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 17؛ ولسان العرب 9: 188.
([20]) انظر: تاج العروس 2: 40.
([21]) انظر: العين 3: 282؛ والمحيط في اللغة 3: 185.
([22]) انظر: المحيط في اللغة 10: 235، 277؛ والصحاح 6: 2351؛ ولسان العرب 14: 307؛ ومجمع البحرين 2: 7؛ وتاج العروس 1: 300، و19: 444.