القراءة التاريخيّة للفكر الديني
حيدر حب الله([1])
اعتادت العقليات الكلاسيكية على إلغاء الفاصلة بين الفكر والواقع بمعنى من المعاني، بين الأنا والـهو، بين الذاتي والعيني، بين الذهني والخارجي.. في إدراكها وتصوّرها للمعرفة البشرية، فعندما يعمد الباحث والمفكرّ إلى معالجة موضوعٍ ما لاكتشاف حقيقة وواقع أمرٍ معين فإن طيّه للمراحل الفكرية والتحليلية ومن ثَمّ وصولـه إلى النتيجة التي تولّدها هذه المقدّمات، يستتبعه نوعٌ من الإعراب عن الواقع عند الإفصاح عن النتيجة، أي أن الباحث لا يحكي عن فكرةٍ توصّل إليها من خلال معطيات ومواد علمية فحسب، وانما يتجاوز ذلك ليحكي عن الواقع الذي يراه إلى درجة أنّه يضارع ويساوي ويكثّف بين ما يراه وبين الواقع نفسه في عملية انصهارٍ وإذابة واتحاد، استدعتها اليقينية الحاسمة التي وصل إليها خلال أو نتيجة سعيه وبحثه العلمي.
بيد أن الأمر قد اتخذ وضعاً آخر في القرون الأخيرة خاصةً، كما بيّنا سابقاً، ليحصل هناك نوعٌ من الإمازة بين الشيء بما هو هو وبينه بما هو في أفق مداركنا، فمجرد انكشاف الشيء في أفقنا العقلي لا يعني الواقع وإنما هناك حلقةٌ وسطى بينهما، لا يحقّ لنا تجاوزها بالمطلق.
وبقطع النظر عن تقييم هذين التصوّرين للمعرفة وأيّهما الصحيح، حيث أسلفنا الحديث عنهما فيما سلف، كما وبغض النظر عن نوعٍ من النسبية التي يواجهها التصوّر الثاني الذي يسود اليوم على نطاق كبير.. فإن من خدمات هذا التصوّر ــ أي الثاني ــ على الصعيد الفكري العام تحويل المعرفة نفسها إلى مادّةٍ قابلة للقراءة دون إدخال عنصر الواقع في هذه القراءة([2])، وهو أمرٌ يجعل التعامل مع هذه المادّة بعيداً عن الصوابية والحقانية، ما دامت هاتان الصفتان تختـزنان ـــ عادةً ـــ استحضار الواقع الذي كان قد جرى استبعاده سلفاً.
وفي هذا المناخ تنمو وتـزدهر علومٌ من قبيل علم المعرفة وفلسفة العلوم وتاريخ العلوم و.. وتأخذ لنفسها وجوداً جادّاً كما تكتسب أهميةً خاصّة؛ لأن الحديث عن تاريخ علم من العلوم يكتسب أهميته بشكلٍ أكبر عندما ننجح ــ في وعينا ــ في فصل العلم والنظريات عن الواقع والصحّة، فتاريخ العلوم سعيٌ فكريٌّ لدراسة المعرفة الإنسانية دراسةً تاريخية تستبعد في أكثر الأحيان عناصر الصواب والخطأ والحكم والتقييم، وإن كانت نتائجه نافعة في الدرجة الثانية لتأكيد مقولات أخرى، وما سنسعى لـه هنا هو إطلالة عابرة على هذا العلم ــ تاريخ العلوم ــ في الإطار الديني.
ونستهدف من وراء هذه الإطلالة، ممارسة فعل من داخل العلوم الدينية السائدة لتأكيد الحاجة في الوسط العلمي الديني إلى ضرورة ممارسة قراءة تاريخية للنتاج المعرفي، وإعادة استنساخ هذه العلوم ضمن منهج آخر، والسبب الذي يؤكّد لنا هذه الحاجة هو أن الدرس الديني السائد يفتقر بشكل جادّ إلى هذا النوع من القراءة رغم العيّنات التي سوف نأتي على ذكرها، مما يعزّز ضرورة بعث الفهم التاريخي للعلوم الدينية في الوسط العلمي الديني المعاصر الذي نخاطبه في هذا الكتاب، الأمر الذي أمست المؤسسات والمراكز والمعاهد والحوزات الدينيّة في أمسّ الحاجة إليه في العصر ما بعد الحداثوي وفي مناخ علم المعرفة الثانوية، ولم يعد صواباً أن تكشح العلوم الدينية المعاصرة بوجهها عن هذا النمط من قراءة الدين بوصفه كياناً تاريخياً، مهما كانت النتائج التي يستهدفها باحث من هذه الدراسة سيما على الصعيد الفلسفي، كما فعلـه الدكتور عبد الكريم سروش خصوصاً في نظريّته تكامل المعرفة الدينية.
إنها المدرسة التاريخية التي غدت اليوم من أعظم مدارس الفكر في العالم، مقدّمةً لفلسفة المعرفة أهم وأثمن المعطيات.
غياب المنهج الحيادي في الدراسات الدينية
وفي إطار سلبيات غياب هذا النوع من القراءة في الأوساط الدينية، تظهر أمامنا حالة عدم العلم بوجود دراسات محايدة، فدراسات تاريخ العلوم تظلّ ــ في الطابع العام ــ محايدةً، بينما العقلية الحاكمة على الفكر الديني ومناهجه هي عقلية التصويب والتخطئة، لهذا لا تستساغ حالة الحيادية في عرض الآراء الأخرى، أو المشاهد الثقافية، على أساس أنّ الحيادية تساوي القبول، بمعنى أنّ عدم النقد يساوي الأخذ بما كنت على حياد إزاءه، وهذا المنهج في التفكير سببه ضعف الدراسات التاريخية والمقارنة الحيادية في المؤسّسات العلمية الدينية، إلا مؤخراً بعض الشيء، وهي نقطة جديرة بالاهتمام، تؤكد أهمية تفعيل هذا النوع من التعاطي المنهجي مع العلوم وسيرورتها وصيرورتها.
التاريخ العلمي في التراث الإسلامي، عيّنات داعمة([3]):
لقد كان للتاريخ العلمي حضور بين العلماء المسلمين بدرجةٍ أو بأخرى، فقد اهتم هؤلاء العلماء بدراسة أفكار وآراء من سبقهم، وكانوا حريصين كلّ الحرص على معرفة مواقفهم ونظرياتهم وإن لم يبلوروا جهودهم هذه على صيغة علم التاريخ العلمي بشكلـه المعاصر.
فعلى سبيل المثال ــ وعلى خطّ الكلام والعقيدة الإسلامية ــ تصنّف الجهود التي قام بها النوبختي (زهاء300هـ) والشهرستاني (548هـ) وغيرهما([4]) في مجال الفرق والمذاهب والنحل على أنها تعبيرٌ عميق عن جهدٍ تاريخيٍّ علمي يحاول قراءة تاريخ الآراء العقائدية ونحوها من خلال دراسة الاتجاهات والمذاهب والفرق الإسلامية وغير الإسلامية الصغيرة والكبيرة، وهو تكشيف مهمّ للنظريات التي شكّلت محاور هذه الفرق نفسها.
وكمثالٍ آخر على الخطّ الفقهي، يمكن التركيز على الجهود التي بذلـها السيد محمد جواد العاملي (1226هـ) في كتابه «مفتاح الكرامة»، والذي يدلّل بدرجة معيّنة على مدى الحضور المميز للتاريخ العلمي في وعي مؤلفه، وسعة الاطلاع والتتبع، والقدرة المميزة على تكشّف مواقف الفقهاء السابقين بدقةٍ ملحوظة، وعن تجربةٍ شخصية مباشرة، تستبعد الركون إلى نقل من سبقه للنسبة والاكتفاء بذلك عن ممارسة تحقيق تاريخي فقهي حول مسألةٍ أو فكرة فقهية معيّنة.. ولقد أدّت تجربة العاملي هذه إلى نوعٍ من نقلةٍ نوعية في هذا المجال كان لـها أثرٌ في الشخصيات التي جاءت بعده؛ إذ يُلاحظ مدى حضور التتبع الفقهي التاريخي في كلمات من بعده([5]) ــ ولو كان في بعضه نوعٌ من الاعتماد على الآخرين ــ كالشيخ محمّد حسن النجفي (1266هـ) في جواهر الكلام، والسيد محسن الحكيم (1390هـ) في مستمك العروة، والشيخ الأنصاري (1281هـ) في المكاسب وغيرهم. ومن هنا عدّت إجماعاته ــ العاملي ــ وشهراته ذات قيمةٍ علمية ملحوظة.
ويمكن تسجيل كتاب «الواضح في أصول الفقه» لأبي الوفاء الحنبلي، بوصفه موسوعةً في أصول الفقه السنّي، كما يمكن ذكر كتاب «فرائد الأصول» للشيخ مرتضى الأنصاري على أنّه نموذجٌ جيّدٌ على المستوى الأصولي في تكشّف مواقف الأصوليين؛ فقد سجّل الشيخ العديد من آراء وحتّى كلمات الأصوليين في كتابه هذا، كما تميّز أيضاً بنقلـه في هذا الكتاب النصوص الحرفية لكثيرٍ من كلمات الأصوليين فيما يتعلّق بجملة مسائل في هذا العلم، وهذه ميزةٌ مهمّة في التوثيق التاريخي العلمي.
وأما على صعيد علم التفسير والقرآنيات، فقد امتاز كتاب «مجمع البيان» للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ق6هـ) والتبيان للشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، بنقل وتوثيق الكثير من الآراء التفسيرية، إلى درجة أنّه يغلب على هذين الكتابين أحياناً طابع عدم اتخاذ موقفٍ في تفسير آيةٍ معينة، والاكتفاء بمجرّد نقل الأقوال الواردة في تفسيرها من جانب المفسّرين القدماء أو المتأخرين بحسب زمانهما.
وعلى صعيد علم الفلسفة، تتميز تعليقة الشيخ الشهيد مرتضـى مطهّري (1979م) على كتاب «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي» للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (1981م) صاحب تفسير الميزان، فالمطهري في هذه التعليقة انشغل كثيراً بمعالجة التاريخ الفلسفي، وكان يقرأ هذا التاريخ في مراحلـه الثلاث: اليونانية والإسلامية والغربية، وعلى سبيل المثال أسهب قبل دخولـه مباحث قيمة المعلومات التي تشكّل المقالة الرابعة من الكتاب في الشرح التاريخي للموقف من هذه المسألة، وهكذا الحال قبل وروده مباحث ظهور الكثرة في الإدراكات، وموضوع الفلسفة والسفسطة وغيرها من المواضيع.
تجربة التراث وتطوّرات القراءة التاريخيّة
إلا أن هذه الجهود الكبيرة تمتاز ــ كما ألمحنا ــ بملاحظة الآراء والأقوال وتحقيق مدى صحّة النسبة التي تنسب إلى فلان أو فلان أو إلى مذهب أو آخر.. غير أن تطوّرات التاريخ العلمي أضافت إلى هذا النمط من الجهود جهوداً أخرى ذات أهمية أيضاً؛ ففي القراءات التاريخية المعاصرة يعمد إلى نظريةٍ معيّنة ويتمّ اكتشاف الآراء والمواقف التي أبرزت قبال هذه النظريّة، لكن لا بطريقةٍ عرضية دفعية تختـزل الموائز والفواصل الزمنية؛ ليكون الرأي الكلامي للشيخ المفيد (413هـ) في «أوائل المقالات» في عرض رأي العلامة الحلي (726هـ) في «نهج الحق» مثلاً، أو ليكون الرأي الفقهي لابن زهرة الحلبي (585هـ) في «غنية النـزوع» في مصاف رأي المحقق الشفتي (1260هـ) في «مطالع الأنوار» مثلاً، وإنما ليعبّر رأي الأوّل عن وضعيّة هذه النظرية في مرحلة أو حقبة زمنية معينة فيما يمثل رأي الثاني مستوى وحالة النظرية في مرحلة زمنية أخرى، ليتمّ أحياناً الخروج من ذلك بتحديد النظرية مرحلياً، أي تقطيعها بحسب عمرها إلى مقاطع ومراحل كما فعلـه الشهيد الصدر (1400هـ) إجمالاً لدى عرضه مواقف السيد الخوئي (1413هـ) من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية في علم أصول الفقه([6]).
وهكذا تتسع الدائرة ليحلّ علمٌ محل النظرية، فيدرس علم أصول الفقه مثلاً دراسة تاريخيّة تلاحظ مراحل هذا العلم ونجاحاته وإخفاقاته على المستوى التاريخي، وتقرأ المنعطفات التي مرّ بها، كنفوذ التيار العقلي فيه أو ظهور التيار الإخباري أو.. كما فعلـه الشهيد محمد باقر الصدر في «المعالم الجديدة للأصول»، وغيره([7]).
وكذلك الحال في علم الفقه الإسلامي؛ فإن القراءة التاريخية لـهذا العلم ومراحل وتاريخ مدارسه واتجاهاته، وتفاعلات هذه المدارس فيما بينها على مرّ التاريخ، ومقارنة عصوره الذهبية بعصور الرتابة والانحطاط النسبي، وملاحظة علاقاته وتفاعلاته ـــ تاريخياً ـــ مع علم الكلام والأصول واللغة.. ذلك كلّه وغيره ميدانٌ واسعٌ لإثراء المعرفة بهذا العلم ودراسة تجاربه وفعالياته، وقد بذلت في الفترة الأخيرة جملة جهودٍ أخذت هذه القراءة على عاتقها؛ من بينها ــ على صعيد علم الفقه الشيعي ــ ما قدّمه السيد حسين مدرسي الطباطبائي، فقد قسّم مراحل هذا العلم إلى ثمانية، بدءاً بعصر الحضور والقرن الأول بعد الغيبة وصولاً إلى المرحلة الصفوية، ومرحلتي الوحيد البهبهاني والشيخ مرتضى الأنصاري، وقد درس مميزات كل مرحلة بحسب وجهة نظره، وقد قام آخرون ــ كما أشرنا ــ بهذه المهمّة أيضاً من أبرزهم السيد هاشم معروف الحسني في «تاريخ الفقه الجعفري»، وأبو القاسم كرجي في «تاريخ فقه وفقها»، والشيخ محمد مهدي الآصفي في مقدماته على الروضة البهية، والفوائد الحائرية ورياض المسائل، وغيرهم([8]).
وعلى الصعيد السنّي، حصل اهتمام واضح بهذا البحث التاريخي الفقهي، مثل النتاجات التي اهتمّت بتاريخ التشريع الإسلامي، وتاريخ المدارس الفقهية عند المسلمين، وهي كثيرة.
وهكذا تدخل في هذا الميدان عناصر المقاربة والمقارنة سواءٌ بين شخصيات بارزة في علمٍ ما مثّلت رموزاً مدرسيةً كالمفيد والصدوق والحلي وكاشف الغطاء والمظفر والإيجي وابن روزبهان في علم الكلام، والانصاري والآخوند والأصفهاني والغزالي والآمِدي في علم الأصول، وأبي جعفر الطوسي والمحقق الحلّي والشهيدين الأوّل والثاني والسيد الخوئي والشافعي وابن حنبل وابن قدامة ومالك و.. في علم الفقه، وابن رشد والفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي وصدر المتألـهين والعلامة الطباطبائي في علم الفلسفة وهكذا.. أو بين مدارس واتجاهات داخل علمٍ معين كالإشراقية والمشائية في الفلسفة، والأصولية والإخبارية في الفقه والأصول، وكذلك مدارس التفسير المختلفة من المنهج العقلي والتحليلي والعرفاني، مروراً بالمنهج العرفي وتفسير الآيات ببعضها، وصولاً حتى المنهج الروائي والتاريخي..
فالدراسات المقارنة بين الشخصيات يمكنها أن تحدّد لنا على سبيل المثال مدى القيمة التي تكتسبها كل شخصية، وبالتالي ترتيب بعض الآثار على ذلك؛ وكأنموذج حاصل ــ غير ما قدّمناه عن صاحب مفتاح الكرامة ــ المقارنة التي قام بها جملةٌ من الرجاليين بين الشيخ الطوسي (460هـ) والشيخ النجاشي (450هـ)، فإن دراستهم للشخصية العلمية لـهما أدّت ببعضهم إلى تقديم آراء النجاشي في الرجال على الطوسي عند المعارضة وعدم وصول النوبة إلى التساقط، وهذا المعطى الذي لـه آثاره ما هو سوى نتاج لدراسة مقارنة بين هاتين الشخصيتين، فإن قراءة فكرهما ومميّزات كتبهما والاطلاع على خصوصيات الشخصية العلمية لـهما كافتراض الجهد العرضي في شخصية الطوسي التي اتسعت نشاطاتها لتشمل الفقه والأصول والكلام والرجال والحديث والتصدي للمرجعية العامة وغير ذلك، فيما اتسمت شخصية الشيخ النجاشي بالتخصّصية في مجال علم الرجال.. ربما لسكناه مدينة الكوفة آنذاك، ذلك كلّه ساعد ـــ ويساعد ــــ على اتخاذ مواقف من هذا القبيل، مما فعلـه بعض الرجاليين لدى التعارض بين الرجلين في التوثيق والتضعيف وغيرهما، وهكذا إذا قارنا بين شخصيةٍ مثل المحقق الأردبيلي (993هـ) في إجماعاته في mمجمع الفائدة والبرهانn وبين السيد العاملي في mمفتاح الكرامةn لأمكننا أحياناً تحديد موقفٍ ما إزاء التوثيق التاريخي للفتاوى إذا ما تعارضت التقييمات فيما بينها.
بيد أن العنصر الأكثر حداثةً في الدراسات التاريخية يكمن في البحث التاريخي المحيط بالفكر والمعرفة، ومحاولة تقديم تصويرات منطقية لترابطات ووشائج حاصلة بين الفكر وبين المحيط الخارجي من خلال افتراضٍ مسبق قائم على جدلية موجودة بين الفكر وبين الأنساق التي جاء فيها، فالفكر لا يولد من العدم، كما لا يولد دائماً من مجرّد المعطى العلمي المسبق الذي يمثل مقدمات منطقية بالنسبة إليه، بل إن للسياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب والسلم و.. دوراً مهماً ــ لا وحيداً ــ في تولّد أو تنامي المعطيات والمنجزات الفكرية، وهذه السياقات التاريخية التي تصاحب أو فلنقل: تحتضن معرفةً ما تمدّ وشائجها داخل هذه المعرفة أحياناً إلى حدٍّ لا يمكننا فهم الفكر نفسه دون فهم هذا السياق التاريخي، فلا يمكن مثلاً قراءة فكر فلاديمير لينين (1924م) مثلاً بمعزل عن الأوضاع والتطوّرات التي عصفت بروسيا القيصرية بدايات القرن العشرين، بل لا يمكننا فهم فكره بصورةٍ شاملة في كثير من الأحيان من دون معرفتنا بأفكار شخصيّات أخرى جاء لينين في سياقها، من أمثال كارل ماركس (1883م) وفريدريك إنجلز (1895م)، وهكذا لا يمكننا استشراف التصوّر العلماني للدين في أوروبا بعيداً عن تراكمات تاريخٍ حافل بالأحداث السياسية الكنسية وغيرها، وهذا يعني أنّ مجرّد الاطلاع على فكرةٍ ما دون مطالعة ما يكتنفها سوف يؤدّي في كثيرٍ من الأحيان إلى استنتاجات مغلوطة أو على أقل تقدير منقوصةٍ مفتقرة إلى الدقّة أو الشموليّة، كما وهكذا الحال على صعيد علم الكلام في مرحلته المعاصرة؛ فإن دراسة تطوّرات هذا العلم في هذه المرحلة لا يمكن أن تتمّ دون قراءة المحيط الثقافي والفكري و.. الذي أحاط الوضع الإسلامي والديني عموماً وأحاط شخصيات المتكلّمين أنفسهم في هذه الحقبة الزمنية، وتلقائياً سوف يلاحظ الباحث مراراً كيف أن السياق التاريخي ترك ويترك أثراً بالغاً في حركة هذا العلم في هذه المرحلة.
نحن هنا لا نريد أن نقيّم فكرةً أو معلومة، وإنما نريد أن نفهمها أكثر على ضوء ما احتفّ بها، تماماً كما ندرس النصوص الدينية التي لا نقرأها بعيداً عما يحيط بها من القرائن المقامية والحالية، وعن الانصرافات التي تولّدها في بعض الأحيان تبانيات عامة تقع في سياق تاريخي محض، وكذلك عن القرائن اللبيّة المتصلة التي تقوم أساساً على بعدٍ تاريخيٍّ في أكثر الأحيان، بل إن فكرة التقيّة نفسها إنّما هي إدخالٌ لعنصرٍ تاريخيٍّ بحت في عملية فهم النص نفسه، فالشهيد محمّد باقر الصدر حينما أراد قراءة الظاهرة الإخبارية في الفكر الشيعي الكلامي والفقهي لم يتعامل معها على أنها مجرّد مواقف معرفية إزاء العقل وفعالياته وإنتاجياته، وانما درسها دراسة نفسية حاول من خلال إدخال العنصر النفسي لعلماء الإخبارية اكتشاف أسباب تولّد نـزعةٍ من هذا القبيل([9])، إنّ خوف الإخباري ــ وهو متديّنٌ صادق ــ من ضياع التراث أمام تأليه العقل كان واحداً من الأسباب التي أدّت به إلى التحفظ إزاء دور العقل في عملية اكتشاف الحكم الشرعي، وهذا الخوف ليس وليداً منقطعاً عن الظروف والأسباب التي أحاطت بالإخباري نفسه وولّدت عنده ردّة الفعل هذه.
وقد يحصل التعدّي أكثر في تفسير الظاهرة الإخبارية ليُربط ظهورها بظهور المذهب الحسّي والتجريبي في أوروبا زمن النهضة ــ نظراً لتحفّظ الإخباريين من النشاط العقلي مع منحهم في الوقت عينه القيمة للمعرفة الحسيّة ــ كما ينقل ذلك الشيخ مرتضى مطهري عن السيد البروجردي، ويناقش المطهري هذه المقولة بأن المذهب الحسّي لم يكن بعدُ قد دخل إيران زمان ظهور المحدّث محمّد أمين الاسترآبادي (1036هـ، 1626م) زعيم ومؤسّس المذهب الإخباري، فكيف تمّ هذا التلاقح أو هذه العلاقة المؤثّرة؟ ثم يقرّب الشهيد مطهري ذلك بكثرة أسفار المحدّث المذكور([10])، إنّ هذه الفكرة ومناقشاتها تثري معرفتنا بالظاهرة الإخبارية بوصفها تياراً كان لـه أثرٌ واسع على علوم الكلام والفقه والأصول والحديث، سواء قبلنا هذه الفكرة في النهاية أو توقّفنا فيها.
وهكذا المقولة التي ترى أن أمثال السيد المرتضى (436هـ) والشيخ الطوسي (460هـ) كانوا يطلقون الإجماع الكثير في كتبهم نظراً لسياق تاريخي معين أنتج هذه الكتب، وهو سياق المواجهة مع أهل السنّة الذين كانوا يعيّرون الشيعة بعدم وجود نتاجات فقهية ورجالية عندهم([11])، وهذا الأمر فرض الحاجة إلى إبراز نوع من الوحدة والتماسك في الموقف الشيعي، وتجاهلاً للعناصر المخالفة للشهرة القائمة لضروراتٍ تقتضيها طبيعة المواجهة، فنحن لا يمكننا قراءة كتب الشيخ الطوسي والنجاشي الرجالية وغيرها بعيداً عن هذا السياق حتّى نفهمها أكثر، وهذا كلـّه يعني أننا ندخل عناصر لم تختـزنها الأفكار الرجالية والفقهية المودعة في فهرست الشيخ أو رجال النجاشي أو مبسوط الطوسي، بل أحاطت هي نفسها بهذه الكتب لتشكّل الرحم الذي أنتجها والفضاء الذي صدرت فيه، وهذا نظير المقولة المنسوبة إلى السيد حسين البروجردي (1380هـ) والتي تقول بأن روايات أهل البيت ( إنما تعبّر عن حاشيةٍ على الفقه السنّي، فهذه المقولة ــ إذا صحّت ــ سوف تترك أثراً ملحوظاً في طبيعة التعاطي مع نصوص أهل البيت (، وبالتالي فلن يمكن فهم الكثير من هذه النصوص بمعزلٍ عن هذا السياق التاريخي الذي جاءت فيه، وهو ما قد يدفع بالفقيه أو المتكلّم إلى الخروج أحياناً عن نمطية البحث المتداول([12]).
والفكرة عينها التي عند السيد البروجردي يطبّقها السيد حسين مدرسي الطباطبائي على «مبسوط» الشيخ الطوسي في علم الفقه؛ فهو يرى أن قراءة النتاجات الفقهية السنيّة التي عاصرها الطوسي تؤكّد أن الشيخ كان يعمد إلى القيام بحاشية على هذا الفكر السنّي، تمثل إبرازاً لمواقف الشيعة في الموضوعات المطروحة آنذاك([13])، على غرار ظاهرة التعليق على الرسائل العملية عند المتأخّرين والمعاصرين من الفقهاء الشيعة، وهذه الفكرة إذا صحّت ــ ولم يدّع بعضهم العكس ــ تفتح أمامنا أفقاً جديداً في عملية قراءة الفقه الشيعي تاريخياً، فعلى سبيل المثال نسأل: هل أنّ نمط التقسيمات والتبويبات التي جُعل عليها الفقه زمن الشيخ وبعده كانت مستقاةً من الترتيب السنّي للأبواب، كما قد يظهر بالمقارنة مع الكتب التي سبقت كتب الشيخ ككتب المفيد (413هـ) والصدوق (381هـ)، من أمثال المقنعة والـهداية والمقنع..؟ أم أن الأمر ليس كذلك؟ هل يمكن أن نفترض ــ استتباعاً لما سلف ــ أن لتقسيم الفقه دوراً في نشاطه وتعبيراً عن منهجٍ معين في التعاطي مع الوقائع؟ وقد يجرنا ذلك إلى تساؤلاتٍ أوسع نطاقاً حول مدى العلاقة والتفاعل الثنائي الطرف بين الفقه أو الفكر السنّي والفقه أو الفكر الشيعي عموماً، وهو أمرٌ تمدّنا الدراسة التاريخيّة بالكثير من المعطيات حولـه.. ألم يدرس العلماء الشيعة ـــ من أمثال السيد هاشم معروف الحسني ــــ العلاقة بين التصوّف والتشيع دراسةً نظريّة وتاريخيّة أيضاً؟ ألم تكن مسألة العلاقة بين الاعتـزال والتشيع موضوعةً على بساط البحث في الفكر الإسلامي، وهي مسألةٌ تتصل بالفكر الكلامي وتعتمد في بعض الأحيان على معطياتٍ تاريخية؟
إن هذا كلّـه يجرنا إلى تعرّف مدى أهمية هذه الموضوعات، فلعلـّه ليس صحيحاً ما قد يراه بعضهم من أن التعرّف على رأي هذا الفقيه أو ذاك، أو هذا المتكلّم أو ذاك، أو هذا المفسّر أو ذاك، غير مفيدٍ ما دام الدليل هو مقصودنا ومطلبنا، إنّ هذا النمط من التفكير هو نمطٌ أحادي الجانب والزاوية، فهو يقرأ الكلام أو الفقه أو التفسير من زاويةٍ واحدة، إن الأمر ليس كذلك على ما يبدو؛ لأنّ تعرّف التاريخ الكلامي والفقهي والتفسيري وغير ذلك ــ حتّى على مستوى تعرّف الآراء ــ هو أمرٌ مفيد وذو ثمراتٍ عديدة كما سنلاحظ؛ فالقضية ليست قال فلان أو ذهب فلان إلى كذا أو كذا، إنّها في تقدير الكاتب أبعد من ذلك، فنحن في هذا النوع من القراءة نقف أمام العديد من النماذج ـــ علاوة على ما تقدم ــــ ترشّد وعينا ومعرفتنا بالعلوم التي ندرسها ونحقّقها، مثلاً دراسة تطوّر الرسائل العمليّة منذ المراسلات التي وقعت مع المتقدمين كالسيّد المرتضى في جوابات المسائل الطرابلسيات والموصليات والمسائل الرازية والطبرية، وكالشيخ الطوسي في أجوبة المسائل الحائرية، وكالمحقق الكركي (940هـ) في فتاواه وغيرهم، وحتّى صراط النجاة والعروة الوثقى ووسيلة النجاة للشيخ الأنصاري (1281هـ) والسيد الطباطبائي (1337هـ) والسيد أبي الحسن الاصفهاني (1365هـ)، أو دراسة تاريخ البنية التنظيمية للمرجعية الدينية، أو دراسة ظاهرة الاحتياط في الفتوى ومراحلـه ومبرّراته وظروفه، أو دراسة الظاهرة الحوزوية ككل ومراحلـها، أو دراسة تطوّر الدرس الحوزوي، أو دراسة تطوّر اللغة الفقهية بمراحلـها، وهي دراسةٌ مهمّة أيضاً، وأمثال ذلك الكثير على الصعيد الفقهي فضلاً عن غيره، ذلك كلّه يرشّد وعينا بالفقه والفقاهة والفقهاء بشكلٍ ملحوظ.
معطيات المنهج التاريخي وفوائده
ولابأس هنا بالإشارة إلى بعضٍ من الفوائد التي يمكن لدراسة تاريخ العلوم الدينية أن تغذي بها المعرفة الدينية عامةً، ألا وهي:
الفائدة الأولى: فهم العلم ونظرياته
إن دراسة التاريخ العلمي ــ كما تقدّم ــ تساهم بشكلٍ جادٍّ في فهم العلم نفسه ونظرياته من خلال فهم طبيعة المراكمة التي شكلت المكوّن النهائي الحالي لـهذه النظرية أو تلك، فإذا أخذنا مثلاً نظرية حجية خبر الواحد في علم الأصول، وحاولنا دراسة المراحل التاريخية التي مرّت بها، فإننا في إطار سيرنا التاريخي الذي سيفرض علينا المرور التدريجي بأفكار العلماء والمدارس الأصولية والإخبارية السنّية والشيعية سوف نتمكّن من تشكيل تصوّرٍ واضح عن هذه النظرية، إذ بقدرتنا على إبراز الموائز المستمدّة من الدراسة التاريخية سنستطيع ملاحظة عناصر الالتقاء والافتراق بين الإخباريين والأصوليين، الانفتاحيين والانسداديين.. أو بين ابن إدريس (598هـ) والسيد المرتضى وغيرهم، وهذه المعلومات سوف تصبّ في نهاية المطاف في اتضاح هذه النظرية لدينا بشكلٍ دقيق، سواء وافقنا عليها ــ أي النظرية ــ بعد ذلك في مرحلة التقييم أو لا؛ لأننا نقوم هنا ـــ وفي هذه المرحلة ـــ بمهمّةٍ توصيفية بحتة، ومن هنا نلاحظ أن عدم فهم بعض الدارسين والباحثين لبعض النظريات يرجع إلى ضعف اطلاعه التاريخي حولـها، وهو ما يشكّل عنده صورةً منقوصة عنها ليكون حتّى حكمه عليها في النهاية حكماً غير مبنيٍّ على وضوحٍ ودقّة.
الفائدة الثانية: جلاء النـزاعات اللفظية واتضاح المصطلح
قد يشتبه الأمر في بعض الأحيان على الباحث؛ فيتصوّر أن المصطلح المستخدم في عصرين مثلاً يدلّ على مؤدّى واحد فيما الأمر ليس كذلك، والسبب في ذلك يرجع أحياناً كثيرة إلى عدم ممارسته القراءة التاريخية؛ لأن هذه القراءة من شأنها أن تدلّنا على السياق الذي جاء فيه الاستخدام السابق لنجد من خلال ذلك أن المراد لم يكن ليرتبط مع المصطلح الذي استخدمه المفكرّ الآخر، وهو أمرٌ طبيعي، فمثلاً نظريّة الولاية التكوينية التي ينتابها في علم الكلام الشيعي بعض الغموض ــ على المستوى التصوّري ــ أحياناً، لدرجة أن بعض كبار علماء الشيعة المعاصرين يضطرّ لعرض جملة التفسيرات المحتملة لـهذه النظرية، ومن ثم يحاكم كل تفسير على حدة([14])، فهل تعني الولاية القدرة على التدخّل التكويني أو الواسطة في الفيض أو الغاية في الوجود أو.. فعندما نمرّ على النظرية مروراً تاريخياً نجد تطوّراتها واضحةً، وتتحدّد ـــ من ثمّ ـــ معالمها وامتداداتها أكثر، وهكذا الحال في نظرية الإجماع التي استُخدمت في علم الكلام والفقه، والتي اتفقت على تعبير ٍواحد تقريباً، بيد أنها اختلفت في المحتوى والمضمون، فعندما يراد الحكم على إجماعٍ ادعاه فقيهٌ من الفقهاء مثلاً فلابدّ ــ من باب الحفاظ على منطقية الحوار معه ــ من فهم رؤاه حول هذا المصطلح؛ لنعرف السياق الذي دفعه إلى الاستدلال به، فهل يعبّر من ادعائه الاجماع عن توصيفٍ للواقع الفقهي، أو قفزة إلى عملية استكشاف الحكم الشرعي أو رأي المعصوم، أو تقديم تحليلٍ معين حدسيّ، كما يشير إليه صاحب الرسائل([15])، فالقضية إذاً ليست على نسقٍ واحد.
وكمثال آخر مصطلح الاجتهاد الذي كان يعني الرأي قبال مرجعية النص إلى زمن المحقق الحلّي على رأي البعض([16])، أو إلى أواخر القرن الرابع على رأي البعض الآخر([17])، وهكذا مصطلح الصحيح والضعيف في علم الحديث حيث كانا يدلان على مطلق الحديث الحجّة والمعتبر وغيرهما في فترةٍ قبال الخبر الذي يرويه الثقة الإمامي عن مثلـه حتى الوصول إلى الإمام% في فترة أخرى، وهكذا الحال في مصطلح المتقدّمين والمتأخّرين، وهو مصطلحٌ يرتّب عليه بعضهم آثاراً عدّة على صعيد علمي الرجال والفقه الشيعيّين، فهل الشيخ الطوسي هو الفاصل، أو أن القضية تتسع إلى أوسع من هذا الحدّ الدقيق، كما يذهب إليه بعض العلماء المعاصرين([18])؟
وهكـذا نرى أن البحث التاريخي يمكنه أن يحدّ من النـزاعات اللفظية، ومن ثمّ يختـزل الوقت أمام الباحث أو المتكلّم أو الأصولي أو الفقيه أو غيرهم.
الفائدة الثالثة: اكتشاف مدى ترابط العلوم بعضها ببعض وطبيعة هذا الترابط
عندما يحاول الباحث أن يحدّد المسار المنطقي لعلاقة علم الكلام بالفلسفة، فإن دراسته التاريخية لـهذه العلاقة في مرحلة التخاصم التي سبقت نصير الدين الطوسي (672هـ) والفخر الرازي (606هـ) أو فيما بعدها يمكنها أن تمدّه بعيّنةٍ من التجربة التي ترشده إلى الكثير من الإيجابيات والسلبيات في هذه العلاقة، وبالتالي توجّهه نحو تبنّي موقفٍ علمي ميداني من العلاقة المثالية في تصوّره الخاص، إنّه بالدراسة التاريخية سيعرف الفائدة التي جناها هذان العلمان عندما كانا منفصلين ـــ منهجاً ومضموناً ـــ نظراً لظاهرة التباري بينهما، كما أنه سيلاحظ الثمار التي أغنت علم الكلام عندما أغرقته الفلسفة بآخر تطوّرات العقل البشري في مجال المنطقيات والرياضيات والطبيعيات..
وهكذا أيضاً إذا أردنا دراسة علاقة علمي الفقه والأصول بعلمي الفلسفة والمنطق مثلاً، معتمدين على رؤيةٍ نظرية تحليلية مجرّدة لا تحاكي الواقع ولا تنظر إلى طبيعة التجربة التاريخية لـهذه العلاقة؛ فقد نصل إلى تصوّر معين، لكن الاطلاع على العلاقة التاريخية الحاصلة منذ قرون بين هذه العلوم وملاحقة مواقع التأثير والتأثر وتقييم هذه المواقع.. يمكنه أن يغيّر أحياناً من قناعتنا؛ لأن هذه التجربة الغنيّة بالمعطيات تمدّنا بمادّةٍ مهمة لتحديد تقييمنا لـهذه العلاقة تحديداً عملياً ميدانياً، ينطلق من نفس الواقع والتجربة والمجريات، فعندما نقول مثلاً بأنّ العقليات تحرف الذهن عن عرفيّته في فهم النص، يمكننا أن نرجع إلى التجربة التي سبقت الوحيد البهبهاني (1205هـ) ونقارنها بالتجربة التي لحقته، والتي كان للعقليات فيها نفوذٌ أكبر، فهل نلاحظ ميزات بين منهج الشهيدين: الأول (786هـ) والثاني (965هـ) في الفهم وبين السيد محمد حسين الإصفهاني (1361هـ) في أبحاثه الفقهية، أو المحقق العراقي (1361هـ) في تعليقته على العروة؟ هل هناك تمايزٌ من هذا الجانب بين صاحب المدارك (1009هـ) أو صاحب الشرائع (676هـ) وبين الشيخ الأنصاري في مكاسبه أو طهارته والمحقّق الـهمداني (1322هـ) في مصباحه..؟ إنّ قراءة التجربة يمكنها أن ترفدنا بمعطياتٍ إضافية على البحث النظري، وترشّد وعينا بهذه العلاقة لتبعد عنه الأحكام المبتسرة والمتسرّعة.
وهكذا أيضاً تلاحظ العلاقة بين تطوّرات مباحث الإثبات في علم أصول الفقه وبين وضعيّات علم الرجال، فهل أن رؤية السيد أبي القاسم الخوئي (1413هـ) الأصولية لحجيّة خبر الواحد كان لـها أثرٌ في النموّ الأخير لعلم الرجال في الوسط العلمي الشيعي؟ وهل أن لنظرية الانجبار والوهن تأثيراً تاريخيّاً في ضمور علم الرجال لمراحل طويلة أحياناً؟([19])
إن هذه العلاقة بين أصول الفقه وعلم الجرح والتعديل يمكن تكشّفها تحليلياً، بيد أنّ التجربة التاريخية تضيف إلى مخزوناتنا معطياتٍ جديدة نتعلّمها من تجارب الآخرين.
الفائدة الرابعة: اكتشاف أدوار النظريات بعضها ببعض داخل علمٍ واحد أو فيما بين العلوم
فعندما نقرأ فكراً معيناً لشخصيةٍ ما في مجالٍ من المجالات، ثم نحاول إبراز مقارنةٍ بينه وبين الذين لا يؤمنون بميزات فكره، سنجد حينئذٍ ــــ بوضوح ـــ مدى تأثير بعض الأفكار على بعضها الآخر، وكيف أن التـزام هذا العالم بنظريةٍ معينة قد جرّه إلى سلسلة أفكارٍ أخرى، فمثلاً نظريّة الإنسان الكامل العرفانية ومفهوم الولي عند ابن عربي كان لـهما علاقة بالنظريات الكلامية الشيعية فيما يخصّ الإمامة إما علاقة سببية من هذا الطرف أو ذاك أو علاقة جدلية تفاعليّة، وهكذا النظريات التي تفسّر مبدأ وضرورة النبوّة وعلاقتها بمبدأ العصمة الكلامي، كما هو الملاحظ لدى بعض المتكلّمين المتأخرين، وهكذا أيضاً اتخاذ الإمام أبي حنيفة النعمان (150هـ) مسلكاً متشدّداً من السنّة النبويّة ــ كما قيل([20]) ــ يمكن أن يفسّر لنا قولـه بالقياس وأمثالـه، وتشدّد السيد المرتضى وابن إدريس في حجية خبر الواحد قد يفسّر لنا موقفهما الواثق من الإجماع ويقينيته، بينما الاعتقاد الواسع للمدرسة الإخبارية بالنص الروائي يرشدنا إلى أسباب هجوم الشيخ يوسف البحراني (1186هـ) في «الحدائق الناضرة» على الإجماع واعتباره وليداً سنيّاً([21])، وكذلك انتقاد التقسيم الرباعي للحديث من طرف الإخباريين عامةً، كما يمكننا على هذا النهج أن نفهم تفسير الشهيد الصدر لظهور السيرة العقلائية والمتشرعيّة في الفقه والأصول بعد الشيخ الأنصاري؛ حيث كان يرى بأنّ تراجع نظريتي الإجماع والشهرة وما كان من قبيلـهما قد سبّب بروز نظرية السيرة في العقل الأصولي ضمن تحليلٍ خاصٍّ لا مجال لذكره هنا، وهكذا نلاحظ العلاقة بين الموقف من الأخبار والروايات وبين المنهج الانسدادي في علم الأصول، أو بين التحسين والتقبيح والكثير من المسائل الكلامية الأخرى كالأصلح وقاعدة اللطف والجبر والتكليف بما لا يطاق و.. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تكشف لنا عن هذا الترابط أو التباين على مرّ التاريخ العلمي بين النظريات والأفكار، وهو ما قد يساعدنا أحياناً على نقد أو تأييد فكرةٍ معيّنة من خلال تحليل الروافد الفكريّة التي أتت بها أو أثّرت عليها.
الفائدة الخامسة: رصد واكتشاف شتات فكري منسي أو مهمّش
تؤكّد التجربة أنّ سعة الاطلاع على التاريخ العلمي تفنّد ـــ في بعض الأحيان ـــ الأنماط التي يجري فيها استخدام تعميمات غير مرتكزة جيداً على أسس استقصائية وإحصائية دقيقة، فهناك الكثير جداً من الأفكار التي لا تتم مراجعتها وهي ما تـزال متجاهلة على الصعيد العلمي العام فضلاً عن أن بعضها ما يزال مدفوناً في بطون المخطوطات، وإخراج هذه الآراء ووجهات النظر كما يدلّل على ثراء سابق في مجالٍ من المجالات، يمكنه أن يثري حتى الوضع العلمي والثقافي المعاصر أو أن يمدّه بالزخم والعطاء.
والقضية التي تحصل في أكثر العلوم الدينية هي طفو بعض الشخصيات أو الكتب على السطح والواجهة، نظراً لميزاتٍ فيها مما يؤثر على بقية الشخصيات والدراسات التي قد تقف في درجة تالية، وهو ما يؤدّي ـــ على المدى البعيد ـــ إلى غياب هذه الشخصيات أو الدراسات عن كثير وربما معظم الأبحاث، ومن ثم يجري تصوّر أن كل الواقع العلمي إنما تعبّر عنه هذه الشخصيات أو الكتب ذات الدرجة الأولى، فعلى صعيد علم الكلام تبرز أسماء المفيد والصدوق والحلّي والمظفّر وكاشف الغطاء والمطهري والإيجي واللاهيجي والقاضي المعتـزلي وابن روزبهان و.. فيما تختفي أسماء العشرات الآخرين من ذوي النشاط والفعالية في تنمية علم الكلام أو مداولته على الأقل كالحلبيين؛ أبي الصلاح (الكافي في الفقه)، وابن زهرة (غنية النـزوع)، والحرّ العاملي (إثبات الـهداة)، والفيض الكاشاني (علم اليقين) والسيد شبّر (حقّ اليقين) وغيرهم، وهكذا الحال على صعيد علم الأصول تبرز شخصيات النائيني (1355هـ)، والإصفهاني (1361هـ)، والخراساني (1329هـ)، والأنصاري (1281هـ)، والعراقي والخوئي (1413هـ) والصدر (1400هـ)، فيما تختفي ــ نسبياً ــ الكثير من الشخصيات التي ربما توزّعت أفكارها الأصولية داخل كتبها الفقهية، كصاحب الجواهر والسيد الحكيم والمحقق أحمد النراقي وأمثالـهم..
نحن هنا لا نريد الحديث عن أدلتهم بل حتى عن نفس رأيهم لننظر إلى الواقع العلمي بإنصافٍ وأمانة علميين والاطلاع على مجمل تجربتهم على هذا الصعيد.
وهكذا الحال على صعيد الفقه هناك خمسة عشر أو عشرين فقيهاً ـــ على الصعيد الشيعي ـــ يتمّ تداول أسمائهم غالباً في الفقه، بينما لا يلاحظ العديد من الفقهاء الآخرين، أو حتى يلاحظ فقيه في كتاب لـه دون آخر، والمسألة عينها تجري في علم الفلسفة، وفي التفسير أيضاً.
إنّ المفترض ـــ قبل إصدار أحكام تعميمية ــــ أن تكون هناك خبرة في مجال معرفة الآراء والأقوال والمواقف حتّى يتسنّى الحكم وبدقة على آراء ومواقف الآخرين ودون تسرّع أو عجلة بادعاء قيام إجماع إسلامي أو مذهبي أو شهرة كذلك على فكرة معينة، دون التدقيق في مسارها التاريخ بشكل جيد.
وقد لاحظنا في الكثير من السجالات الفكرية الدينية، كيف تُعتبر فكرةٌ ما إجماعيةً أو مسلّمة فيما الرصد التاريخي لا يعطي النتيجة عينها إن لم يُعطِ العكس، وعلى سبيل المثال ما عالجناه في كتابنا «نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي» من تاريخ نظرية خبر الواحد، حيث توصّلنا إلى القول بأنّ الفكرة التي كانت سائدةً ــ شيعياً ــ حتى القرن السابع الهجري، مع استثناء طفيف تقريباً، هي فكرة عدم حجية أخبار الآحاد الظنية، وهذه النتيجة تختلف تماماً مع ما بات يرسله العلماء المتأخرون إرسال المسلّمات في كتبهم، من شهرة حجية خبر الواحد عند متقدّمي الشيعة، فإذا كان موضوعٌ بهذه الحساسية قد وقع فيه ــ بناءً على صحّة ما توصّلنا إليه هناك ــ خطأ، ترك أثراً نفسياً على بعض الباحثين في هذا المجال، فما ظنّنا بأفكار أخرى، أقل خطورة، كما في أيّ مسألة فقهية عادية، حيث نجد الكثير من المسائل الفقهية ــ شيعياً ــ لم يكن لها وجود يُذكر قبل القرن الخامس الهجري مع الشيخ الطوسي (460هـ)، وقد ثبت لنا بدراسات عديدة صحّة هذا الأمر، بما لا مجال للتفصيل فيه هنا.
الفائدة السادسة: تحديد أسباب النجاح والإخفاق المرحليين في علمٍ ما
تساعدنا الدراسة التاريخية على تكشّف أسباب النجاح والإخفاق المرحليين في علمٍ من العلوم، وذلك من قبيل ما حدث بالنسبة للكلام والأصول والفقه عقيب وفاة الشيخ الطوسي (460هـ) كما يقال، وما تركته كاريزما الطوسي من أثر بالغ على شلّ الحركة العلمية بعد وفاته، وأيضاً من هذا القبيل ما حدث عقيب نفوذ المد الغربي داخل العالم الإسلامي وتنامي التيارات القومية والعلمانية أو تأثيرات ما يسمى بعصر الانحطاط في تسويق ثقافة الرفض للتفكير الفلسفي وتضاؤل الحضور الفلسفي في الساحة الثقافية والفكرية ليتنامى بدلاً عن ذلك الفقه والأصول أو التاريخ والأخبار، وهكذا دراسة تأثير المرحلة الأندلسية على الفكر والعقل الإسلامي ربما نتيجة نوع من التلاقح أو الحضور في الساحة الأوروبية، وهكذا الحال في عصرنا الحاضر حيث أدّت الثورة الإسلامية في إيران إلى خلق جوٍّ عام كان لـه بالغ الأثر في نموّ قسم من الدراسات المتعلقة بالدين، سيما ما يخصّ الفكر الكلامي والفلسفي الديني الحديث، وما يرتبط بالفكر السياسي الإسلامي، حتى قيل: إن دراسات الفكر السياسي التي كتبها الشيعة منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين تفوق ما أنتجوه طيلة ألف وثلاثمائة عام تقريباً.
الفائدة السابعة: إقصاء النـزعات الشخصانيّة والفئويّة وتقليص دورها
تساهم الدراسات التاريخية فيما يتعلّق بالشخصيات العلميّة في إزالة الثقل النفسي الذي تتركه مثل هذه الشخصيات على الصعيد العلمي والمعرفي، فعدم دراسة شخصيةٍ من الشخصيات دراسةً علمية تاريخية تقوم على مبادىء المقارنة والمقاربة، وعلى تكشّف النجاحات والإخفاقات التي واجهتها هذه الشخصية، وعلى الانتقادات والدفاعات التي أحاطت الحديث عنها على مرّ العصور من قبل المؤيدين لـها أو من قبل المعارضين، إن عدم ذلك كلـّه سيترك البعد العاطفي والنفسي يتصدّر كرسي الحكم على الأمور سواءٌ قدّم هذا البعد جواباً إيجابياً أو سلبياً، فالتصوّرات التي قد يصحّ التعبير عنها بأنّها أوليّة عن شخصيةٍ ما ونابعة ـــ عادةً ـــ من وثائق أشبه بالصحفية، يمكنها أن تسطّح وَعْيَنَا بهذه الشخصية نفسها، وتجعل الانفعال متحكّماً بالموقف كلـه، بحيث يفترض بعضهم أنّ هذه الشخصية ــ ومن حبّه لـها ــ قد ولدت من العدم وكأنّه لا تراكمات أتت بها، إنّه يحاول أن يقرأ فكر هذا الشخص دون مقارنةٍ بأمثالـه على أقل تقدير، وإذا به يتوصّل إلى نتيجةٍ تقول بأنّ هذا الشخص لا نظير لـه أبداً، أمّا لو درس تاريخية الشخصيات بنظرةٍ شموليّة تستوعب الظروف المحيطة، فسيجد أن هذه الشخصية ــ مع الاعتراف الكامل بتفوّقها وتقدّمها وعطاءاتها ــ إنما تقدمت خطوةً أو خطواتٍ في طريق ساهم الآلاف ــ وما يزالون ــ في طيّه، ولم تكن القضية انبثاقاً من عماءٍ مطلق أو فراغ أزليّ.
وهكذا الحال في الموقف السلبي من بعض الشخصيات أو من شخصيات بعض الاتجاهات، فإن الحمولات المسبقة التي لا تدرس الشخصيات دراسةً مستوفية في تاريخها قد تؤدّي إلى تفويت فرصٍ على علوم بأكملـها، فالمذهبيّة التي تلفّ علم الكلام تفوّت عليه الكثير من التلاقحات الضرورية التي تثريه وتضاعف من إنتاجياته، فعلى سبيل المثال، الصراع الذي وقع في تاريخ علم الكلام الإسلامي حول قضية التحسين والتقبيح كان لـه تأثيرٌ بالغ في تطوير الدراسات العقلية وتحديد قيمة العقل في الفكر الديني عموماً، لكن البقاء اليوم على هذه الثنائية أي ثنائية العدلي وغيره أو ثنائية المعتـزلي والأشعري في هذه القضية سوف يرهق علم الكلام قبال النظريات الجديدة التي أغرقت العالم الغربي في هذا الموضوع منذ «كانط» ومن سبقه وحتى عصرنا الحاضر، بمعنى أن الضرورة (المعرفية) صارت تفرض اليوم تشكيل جبهة موحّدة في التيار الديني إزاء هذه الموضوعات، ولم يعد هناك معنى للتحفظ إزاء عمليات المزاوجة والانتقائية الإيجابية بين التيارات التقليدية القديمة، وهذا معناه أن الشعور بالثنائية داخل الإطار الديني صارت لـه أضرار عديدة وفقاً للمستجدات، والحال أن هذه القضية يجب أن تخرج عن دائرة التداول المذهبي، وبالتالي يجب أن يزول التقسيم الذي يجعل قضية العقل العملي وأمثالـها داخلةً في الأطر المذهبية، بحيث يقال: إن هذه المقولة تابعة للمذهب الشيعي، وتلك تابعة للمذهب السني والأشعري؛ لأن هذه المذهبية ـــ وهي نتاج تاريخي ـــ سوف تربك طبيعة المستجدات وهي تتجاهل الواقع العالمي الفكري اليوم الذي يفرض إلغاء الطابع المذهبي الديني لقضيةٍ من هذا القبيل، فالتحسين والتقبيح ليست مسألة الإمامة، وإن اتصلت بها، بيد أن إدخالـها بوصفها ورقة صراع مذهبي يضرّ بحركة البحث وحيويته ضرراً بالغاً جداً، وهكذا الحال في بعض القضايا الأخرى التي تعكس المذهبيةُ ضرراً كبيراً عليها من قبيل مسألة النظر والمعرفة في علم الكلام وغيرها.
وهكذا الحال في علمي الرجال والحديث؛ فإن المذهبية تفوّت على هذين العلمين موادّاً كبيرة قدّمتها شخصياتٌ من اتجاهات أخرى، تماماً كما يقول الشيعة في تعليقهم على موقف أهل السنّة من روايات الراوي الشيعي، فإنّ ردّ أهل السنّة لـهذه الروايات باتهام الرفض في راويها، قد ضيّع عليهم فرصاً كبيرةً في التعرّف على الموروث الإسلامي والعكس صحيح، والكلام عينه على صعيد عدم الأخذ بتوثيقات أو تضعيفات الرجاليين الشيعة أو السنّة.
إن هذه الدراسات ــ وبهذا الشكل ــ سوف تقلّص من تأثيرات النـزعات الشخصانية في العقل والفكر كلـّه، دون أن تلغي مبدأ التفاعل العاطفي والمرجعي معها، كما أنها ستمنح الاعتراف الطبيعي ـــ لا المنقوص ــــ بكلّ أو أكثر النتاجات الفكرية والعلمية، وتحدّ ـــ من ثمّ ـــ من اختـزال المعرفة أو احتكارها.
بيد أنّ هذا لا يعني الإنقاص أو ممارسة الاحتقار والتقزيم لجهود الآخرين نتيجة نـزعةٍ تبسيطية للأمور، وهو أمرٌ يلاحظ التورّط به لدى بعض الباحثين المعاصرين، فممارسة طريق الاعتدال يمكنها أنّ تجنبنا الإفراط والتفريط في هذا المجال اذا أتقنّا هذه الممارسة.
ونفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على فكرٍ أو مدرسةٍ أو.. كما حاولـه المفكّر المعروف روجيه غارودي في تعاملـه مع الفكر الغربي، وتأكيده في أكثر من كتاب لا سيّما «حوار الحضارات» على طبيعية الظاهرة الغربية وعدم كونها إعجازاً استثنائياً على قطيعةٍ مع الحضارات والأمم والثقافات السابقة والمعاصرة لـه.
وفي تقدير الكاتب، فما لم يجر ممارسة نوع من الجرأة المؤدّبة في حق التجارب الفكرية الدينية مهما بلغت من العظمة والكبرياء والشموخ فلن يكون بالإمكان عبور هذه التجارب نحو المزيد من التقدّم، لأن الثبات في مراحل العظماء ــــ كتجاوزهم ــــ مشكلتان تعيقان نموّ الفكر وتطوّر المعرفة الإنسانية، دونما استثناءٍ بارز على هذا الصعيد، من هنا يجب تحييد التعاطي التبجيلي مع التجارب السابقة دون التورّط في النقد المشوّه واللاهث، وكما يقول بعض الباحثين المعاصرين فإن طريقة «الإطراء والتبجيل (الإطلاقية) القائمة على عقدة (الدهشة والتعجّب) والتي تتسم بأنها تعجز عن أن تغطّي الجانب الفكري.. طريقة تفضي إلى الخروج بحصيلة مشوّشة ومضلّلة عن الفكر المقروء إن لم نقل أنها تقع في التناقض لما تـزاولـه من مهنة النقل والبقالة، حيث التعامل بروح واحدة مع كل من المهجور والمعوّل عليه أو القديم والجديد»([22]).
وفي هذا الإطار، ننظر بتحفّظ نسبي إلى كثير من الدراسات والمؤلّفات والمؤتمرات والمشاريع والندوات و.. التي تمركزت على دراسة شخصية تاريخيّة؛ حيث نجد منطق التبجيل مهيمناً، وأنّ الهدف الرئيس من وراء هذه الأعمال هو ـــ في الغالب ـــ تقديم الجانب الإيجابي من الشخصيّة، الأمر الذي قد يبرّر أحياناً بأنّ المرحلة لا تسمح بحركة نقد واسعة، بل المطلوب ـــ أولاً ـــ التعريف بالتراث والكشف عن مزاياه الحميدة.
إنّ هذا اللون من التفكير ــــ على صحّته النسبية ـــ ليس مكتملاً؛ إذ من قال: إن المفترض في البداية عرض الموروث بصورته الإيجابية وتأجيل الجوانب السلبية؟ وما هي المبرّرات الموضوعية لاستخدام هذا الأسلوب في الحياة العلمية حيث كلامنا فعلاً؟
من هنا، نرى ضرورة فتح باب القراءات العلمية ــ بما للكلمة من معنى ــ للشخصيات والموروث التاريخي، بعيداً عن منطق الدعاية والإعلام، أو عن منطق التجريح والتشفي، فليست هذه دعوة لفضح العلماء والسابقين، بل هي رغبة في إعادة هيكلة آليات التعامل معهم، وسوف يأتي ـــ إن شاء الله تعالى ـــ مزيد توضيح لهذه النقطة لدى الحديث عن إشكاليات المنهج في قراءة التاريخ الإسلامي.
الفائدة الثامنة: القدرة على قراءة التجربة من الخارج
وهذه نقطة مهمة، فعلى سبيل المثال تمدّنا القراءة التاريخية للفكر بالمزيد من المعرفة بأمور لم يلتفت إليها حتى أصحاب التجربة أنفسهم؛ لأن خوض التجربة يفرض التأطّر بأطرٍ تفرضها طبيعة الظرف والصراع والتحولات بحيث قد يصعب أحياناً لمن يقف داخل التجربة أن يلاحظ المجمل العام للأحداث بشكلٍ واع، أما من يقف خارج التجربة بعد أن تهدأ الأمور فإن بإمكانه أن يلاحظ العديد من النقاط التي لعبت دوراً في التجربة نفسها، ومن ثم، بإمكانه أن يحدّد نقاط الضعف ونقاط القوة هنا أو هناك، ما دام غير خاضعٍ لتأثير حرارة وسخونة التجربة نفسها، وأفضل مثالٍ على ذلك على صعيد علم الكلام المعاصر هو الصراع الكلامي مع المذهب الماركسي الذي امتدّ منذ بدايات القرن العشرين تقريباً وحتى أواخر الثمانينات، فنحن اليوم غير خاضعين لحرارة الجوّ الماركسي والخلاف الديني الإلحادي، من هنا بإمكاننا أن نضع الملاحظات على تجربة المتكلّم الإسلامي قبال ظاهرة الإلحاد دون أيّ تحفظ، والسبب في هذا الأمر عادةً هو أن طبيعة التجربة حينما تكون في أوجها وذروتها تدخل فيها اللعبة السياسية والاجتماعية، ومن ثمّ، لن تعود لعبةً فكرية خالصة مادام لـهذه اللعبة تأثير بالغ على الأوضاع الحياتية، أما حينما تنتهي التجربة فإن الأطراف سوف يكونون أقدر على بيان واقع الأمور دون مواربة؛ ذلك أنه ليس ثمة تأثيرات سلبية حتى للنقد البنّاء الداخلي بهذا الحجم الذي كان موجوداً زمان التجربة، وهذا يعني أن القراءة الخارجية ــ بهذا المعنى للخارجية ــ تلعب دوراً كبيراً في تحديدٍ أوضح لنقاط الضعف والقوّة ربما أكثر من أصحاب التجربة نفسها وروّادها.
الفائدة التاسعة: تحديد نقاط الفراغ وكشف المبادئ المستورة
تساعد القراءة التاريخية على اكتشاف نقاط الفراغ التي خفيت أو لم يلتفت إليها السابقون والمتقدّمون، وكذلك اكتشاف أسس ومباني معرفية أو مضمونية انطلق منها المتقدّمون دون أن يسجّلوها في أفكارهم ونظرياتهم، بحيث لا يصحّ القول بأن هذه النظرية أو تلك كانت مصيبةً دون إضافة هذا النقص البنيوي الذي لم يجر التنظير لـه، وإنما تمت ممارسته فقط.
والسبب الرئيس في عمليتي الاكتشاف هاتين هو طبيعة عنصر المراكمة العلمي، ذلك أن الأفكار ــ ولا سيما منها النظريات والمشاريع الفكرية ــ لا تولد عادةً بشكل دفعي، وإنما تخضع لنظام حياة متكامل؛ إذ تتراكم المعلومات والأفكار والتصوّرات نتيجة البحث والجدل والمناظرة والحوار بمختلف أشكال هذه الوسائل، وعلى إثر هذا التراكم تبدأ النظرية في أخذ تشكّلات أكثر اكتمالاً، فالنظريات ـــ كالصور والرسومات ـــ عندما تبدء النقطة الأولى منها لا تظهر جلياً بأجزائها ومكوّناتها ونواقصها، لكنها عندما تصبح شبه مكتملة تبدأ نقاط الفراغ بالبروز وأخذ المعالم الخاصة بها مما يسهل على الناظر لـها إكمال تكوينها واكتشاف مميزات عناصرها وإخراجها المخرج النهائي، وهذا الإكمال لا يتسنى عادةً ما لم تكن هناك قراءة تاريخية تبيّن لنا: كيف اكتمل ما اكتمل من الصورة تدريجياً؟
وكمثالٍ بارز على هذا الأمر تجربة تأسيس فقه النظرية، الذي نادى به جماعة من كبار العلماء من أبرزهم السيد محمد باقر الصدر([23])، فإن فقه النظرية تعبيرٌ آخر ــ من الناحية العملية ــ عن إعادة تشكيل صور متكاملة للفقه، تعيد إنتاجه ضمن محاور وأبواب وعناوين ومداخل مختلفة، والأمر الذي يحصل ــ وهو ما أكّدته تجربة النصف الثاني من القرن العشرين ــ هو أن تجميع المفردات الفقهية المتناثرة جداً والمتصلة بنظريةٍ ما كالنظرية الاقتصادية أو السياسيّة أو الاجتماعية.. يؤدي إلى تشكّل صورة كبيرة مبرقشة، أي تتناثر فيها نقاط فراغ لم تكتمل، إن إعادة تشكيل الفقه وفق أسس ذات طابع كلي حديث ــــ كالدولة والفرد والمجتمع والاقتصاد والعالم والأسرة و.. وهي عناوين جديدة تلعب دوراً هاماً في إعادة إنتاج الفقه الإسلامي إذا تمّت الموافقة على اعتبارها مداخل لـهذا الفقه ـــ أدى ــ ويؤدي ــ إلى تشكّل صور جديدة لا تخلو من نقاط فراغ، وهذا معناه أن دراسة المسار التطوّري التاريخي للفقه يحدّد لنا ــ من خلال التجارب السابقة ــ حجم الفراغ الذي تمّ ملؤه تدريجياً، وعلى صعيد الجهود التي سعت لتحقيق مشروع فقه النظريات والفقه الكلي، كما يحدد حجم الفراغ الذي برز عندما بدأت تجربة فقه النظرية بالدخول إلى حيّز الوجود الفكري والبحثي.
وإذا أخذنا نفس تجربة فقه النظريات أنموذجاً، سنجد من جهةٍ أخرى الأسس التي سار الفقه عليها في مرحلة ما قبل هذا المشروع دون أن يلاحظ هذا الفقه نفسه هذه الأسس وهذه المسارات التي حكمته وتحكمّت في نشاطه، فعندما كان يتحدّث الشهيد الصدر في إطار قراءته منجزات الشيخ محمد جواد مغنية وغيرها عن موضوع اعتماد الفقه على النظرة الفردية الانكماشية والحاجة إلى الفقه الاجتماعي([24])، فقد كان يصدر في ذلك عن دراسة لتاريخ منجزات هذا الفقه، فلو لم يكن على اطلاع على تاريخ هذا الفقه ومساراته ونتاجات علمائه لما أمكنه تحديد نقطة بهذا النوع من الحساسية، لكن الأهم من ذلك هو نفس مشروعه حول فقه النظرية، ذلك أن هذا المشروع كشف عن ثغرات في بنية الفقه، ووضع الفقه أمام سلسلة من التساؤلات الكبيرة والكثيرة.
ومقصودنا من أنموذج فقه النظرية التدليل على أن قراءة تاريخ الفقه ما قبل هذا المشروع وما بعده بالنسبة لنا يكشف لنا عن نقاط فراغ عديدة عانى ويعاني منها الفقه نفسه، فعنصر المراكمة الذي عززته مقولة فقه النظرية ساعد في الإطلالة على الفقه من زاوية أخرى، زاوية تتجاوز منطق التبجيل والتعظيم الذي لا يمثل في حدّ نفسه خطأ وإنما يشكل تخطّيه وسيلةً إضافية لإكمال مسيرة الفقه كلـّه.
ويمكن هنا إضافة مثال آخر يوضح الفكرة ويعززها، وهو مثال تفسيري، وهو قاعدة الجري والانطباق التي نظّر لـها ومارسها العلامة المفسّر السيد محمد حسين الطباطبائي (1981م) مستنتجاً إياها من الأحاديث الشريفة([25])، إن دراسة الأداء التفسيري السابق على العلامة فيما يخصّ هذا الموضوع (وسنعتبر هنا أن العلامة هو الحدّ الفاصل ما قبل نظرية الجري والانطباق وما بعدها بعيداً عن أي تحديد تاريخي مدروس حول الفكرة، لأن جانب عدم تخصّص الوارد بالمورد من جوانب قاعدة الجري القديمة التطبيق والممارسة، بيد أن جانب تطبيق التأويل والبطن القرآني فيه شيء من الجدة دون استباق النتائج)، ومن ثم ملاحظة إنجاز العلامة في هذه القاعدة وصياغتها وبلورتها، يفضي إلى اكتشاف خللٍ ما في النظام التفسيري السابق الذي ــ حسب الفرض ــ كان يفتقد في تصوّراته قاعدةً من هذا القبيل، وهذا معناه أننا أمام احتمالين هما:
أ ــ أن تكون القاعدة المذكورة منطلقاً تفسيرياً للعلماء السابقين حينما كانوا يأخذون بالنصوص الروائية التي تطبّق آيةً على موارد متعددة.
ب ــ أن يكون هناك خلل معين اكتشفناه عندما عثرنا في الدراسة التاريخية على قاعدة الجري، لكن ما يبدو للباحث بعد ذلك أكثر صعوبةً واشكاليةً هو فيما إذا رفض قاعدة الجري أو حدّ من دائرتها ولو بحجّة أنها قاعدة مقبولة نظرياً لكنها على خلاف ألسِنة الروايات التي افترضت مصاديق لـها، أو لا أقل بعض هذه الروايات عملياً، وهو ما سيكشف لنا عن خلل وفراغ في النظرية التفسيرية الماضية نصبح مطالبين بملئه أو بوضع إجابة منطقية عنه، الأمر الذي لم يكن ليحصل لولا الاطلاع التاريخي على نتاج شخص كالعلامة الطباطبائي.
وبهذا نجد من خلال قراءة المسار التطوّري التاريخي للنظريات والمحاور العلمية نقاط الخلل أو الفراغ التي جرى ملؤها تدريجياً، وبالتالي اكتشاف هذه النقاط، ومن ثم محاولة ملئها مجدداً إذا لم تتم الموافقة على الخطوات السابقة للعلماء على هذا الصعيد.
الفائدة العاشرة: رصد المسار التطوّري للعلم واستشراف المستقبل
ومن إسهامات القراءة التاريخية محاولة استكشاف مستقبل علمٍ ما من خلال قراءة مساره التطوّري حتى اللحظة الحاضرة، فإذا جاز التعبير، تشبه العلوم في حركتها التاريخية حركة التاريخ كلـّه، لقد مثلت المادية التاريخية التي أطلقها الفكر الماركسي نقطةً في غاية الأهمية حتى لو رفضنا مضمون هذه المادية، ذلك أن ما تعتمد عليه فلسفة التاريخ الماركسي ــ ومن قبلـها تطوّرات البحث التاريخي مع عصر النهضة نفسه ــ هو وجود أنظمة كونية تتحكّم بمسار التاريخ، وكأن التاريخ كتلة نلاحظ مسار تشكلـها وتطوّرها ونكتشف قوانينها في مختبرٍ ما، وهذه الظاهرة ــ الفكرة نجدها عند عبدالرحمن بن خلدون الذي مثل البدايات الـهامّة لعلمي: التاريخ والاجتماع في قراءة أنظمة الحياة على شبه قراءة أنظمة الطبيعة، وتنامى الوضع إلى أن وصل مع أرنولد توينبي (1975م) وأوزفالد شبنجلر (1936م) إلى مراحل من التنبؤ بالمستقبل([26])، وأساس هذا النوع من التنبؤ قائم على مذهب الحتمية القائل بأنظمة علّية ومعلولية في حركة الحياة كالطبيعة، ويرى مذهب الحتمية هذا في التاريخ مقولة لابلاس في الطبيعة، في أننا لو حصلنا على معرفة بحالة الكون في وقت محدد فبالإمكان التنبؤ بكل ما يستدعي ويتلو هذه الحالة إلى نهاية تاريخ الكون.
لا نريد ممارسة التطبيق الحرفي لـهذه المفاهيم على حركة العلوم، لكنها بالتأكيد تحظى بدرجة من الصحّة في الحياة العلمية، من هنا بإمكان القارىء لحركة علمٍ من العلوم استشراف مستقبل هذا العلم، لا أقل مستقبلـه القريب من النموّ أو الضمور، والنجاح أو الكسل والفشل و.. فإذا قرأنا مثلاً تاريخ علم الفقه مع الدولة البويهية أو الصفوية مثلاً للاحظنا نسقاً خاصاً من التطوّر كان يحصل لـهذا الفقه عقب دخولـه الحركة السياسية وأنظمة الحكم بدرجة من الدرجات، وانطلاقاً من قراءة سلسلة تجارب الفقه الشيعي مع الدولة / الأمة / السياسة / الحكم.. في سلسلة حقبات ماضية، يمكننا استشراف حالـة ما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران نهاية السبعينات من القرن العشرين إلى عقود أخرى ـــ بعيداً عن القول القاضي بأن الحركات الإسلامية في القرن العشرين والجمهورية الإسلامية في إيران كشفت عن خوار الفقه وضعفه ووهنه ورفعت القناع عن واقعه الزائف كما يراه البعض، فهذه مقولة أخرى تحتاج لدراسة مستقلّة ـــ وذلك انطلاقاً من ضغط الواقع الذي لـه نتائجه المتعددة.
وهكذا إذا حاولنا قراءة تجربة التفسير الطبيعي العلمي للقرآن الكريم والتي مثّل طنطاوي جوهري وأحمد الاسكندراني، ومن بعدهما الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار (1935م)، أنموذجاً بارزاً فيها من خلال إخضاع الآيات والنصوص لنتائج العلوم الطبيعية، فقد ظهر تيار كبير بين العلماء المسلمين رأى ضرورة مواكبة العلوم الطبيعية؛ فاضطرّه ضغط الواقع لتقديم منهج تفسيري قرآني يحاول تحقيق وصلةٍ وانسجام ما بين النصّ القرآني والنتاجات العلمية الحديثة، هذه التجربة عندما تقرأ تاريخياً ثم تقيّم مضمونياً، سنجد فيها ـــ وهذا موقف شخصي بحت قد لا تتم الموافقة عليه ـــ درجة عالية من الخلل الذي يعود ـــ بالدرجة الأولى ـــ إلى عمليات إخضاع النص تحت تأثير مخاوف اللاوعي وهرباً من ضغط الواقع دون أن نتنكّر لدور العلوم الطبيعية في كشف حيثيات في النص الديني لم يكن ليلتفت إليها المفسّر أصلاً، وهذه المخاوف جرّت بعضهم إلى تصوّر أن القرآن الكريم يمثل كتاباً علمياً كيميائياً فيزيائياً طبياً، ثم ظهر اتجاه يعطي الشرعية لـهذه المقولات انطلاقاً من كون القرآن تبياناً لكلّ شيء، حتى ظهرت أخيراً جماعة «فرهنكستان قم» في إيران، تدّعي وجود جميع العلوم في القرآن، على شبه ما ذهب إليه الغزالي (505هـ) في كتابه «جواهر القرآن»، ووصل الحال إلى إصدار كتاب تحت عنوان «البرنامج الكمبيوتري التوحيدي»، والذي يدّعي وجود نظام كمبيوتري على أساس مفهوم التوحيد.
وبعيداً عن تحديد مدى صدق هذه المقولة التي يرفضها العديد من العلماء الآخرين، إلا أنها حاولت أن تعطي للقرآن دوراً في الحياة من خلال إدراجه في مصادر المعرفة العلمية، ما دام هذا النوع من المعرفة هو السائد، وكنتيجة طبيعية لذلك صار من الضروري إنهاض النص وتثويره لكي يضخّ بالمعطيات العلمية.
لكننا عندما نقرأ التجربة بعد تراجع ضغط تلك المرحلة، سنجد ــ بهدوء أعصابنا ــ أن الكثير من هذه التفاسير ــ وليس جميعها ــ كان تحميلاً لا ينسجم مع قواعد اللغة العربية أو بلاغتها أو ظهورها الطبيعي، وهذه التجربة ستصبح منطلقاً لنا لندرس واقعنا الفعلي والمستقبلي على ضوئها؛ لنطبّقها في تجارب أخرى نقع فيها، وهذا ما نلاحظه اليوم بالضبط، إذ التيارات المتعددة تحاول في ظرف ضغط الواقع السياسي أو الاجتماعي هنا أو هناك أن تستنطق النصّ القرآني لصالحها، والتجارب السابقة سوف تعطينا قناعة بأن نتائج قراءة خاضعة للضغط بهذا الشكل ستكون خاطئة بدرجة عالية، وهو ما سيجعلنا أكثر انضباطاً، بل أكثر شكّاً في صحّة ما توصلنا إليه، وأكثر تواضعاً مهما كان اتجاهنا الذي نميل لـه؛ لأن نتائج قراءة النصّ في ظروف كهذه تقول التجربة عنها: إنها خاطئة في كثير من الأحيان ومتسرّعة وتحميلية وما شابه ذلك.
ولا نريد من هذا المثال الانتقاص من قيمة التفسير الطبيعي العلمي للنصّ القرآني الذي لا ننكر اشتمالـه على موضوعات علمية، كما لا نريد ادعاء وجود قراءة موضوعية نـزيهة، لكن ما نريده هو تحديد تعاطي هذا المنهج التفسيري وضبط حدوده ونطاقه وأساليبه، ومن ثم توظيف هذه التجربة في تقييم تجارب حالية أو تحديد نمط التعاطي المستقبلي مع تجارب لاحقة.
وهكذا الحال في تجربة الدعوة إلى الالتحاق بالركب الغربي والانصهار به التي ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وأخذت أشكالاً متطوّرة مع شخصيات من أمثال سلامة موسى (1958م) وطه حسين (1973م) في بدايات حياته في الساحة العربية، وحسن تقي زاده (1969م) و.. في الساحة الإيرانية، أو تجربة الرفض المطلق للوافد الغربي والتي امتازت بها مجموعة من التيارات السلفية..
هذه التجارب التي نلاحظ مشكلاتها الحادّة اليوم يمكنها أن تعطينا استشرافاً لمستقبل المشاريع الحاضرة المشابهة لـها أو المطابقة، مع الحفاظ على الخصوصيات وعلى الزمان والمكان، وبالتالي تحدّد نمط التعاطي اللازم الإجراء مع مثل هذه المشاريع والأفكار.
وبذلك نجد أن قراءة تجارب معرفية وعلمية متقدّمة قراءة تاريخية خاصة تجعلنا أكثر قدرةً على تحديد أوضاع أفكار أو علوم أو آراء معاصرة، لاسيما من زاوية معرفية ومنهجية، ومن ثمّ تحديد المستقبل على ضوء هذه المعرفة بالواقع الحاضر.
وبعبارة أخيرة موجزة: إن العقل التاريخي ضرورة للمعرفة الدينية، وما لم نفعّل هذا العقل في نشاطاتنا الفكرية فلن نتمكّن من تجاوز الكثير من المشكلات العالقة في ساحة الفكر الديني.
__________________________________________________
([1]) نشر هذا المقال في العدد السابع من مجلة المنطلق الجديد في بيروت، عام 2004م، ثم نشر في كتاب (مسألة المنهج في الفكر الديني) للمؤلّف، عام 2007م.
([2]) لا يعني ذلك حصر هذه النتيجة به، بل تميّزه بها على نطاقٍ أكبر.
([3]) نذكّر بأننا سنتعمّد الاقتصار في شواهدنا على شواهد من داخل العلوم الدينية الكلاسيكية المعروفة، وإلا فإن الدراسات التاريخ علمية من جانب الباحثين الآخرين كثيرة جدّاً في الفترة الراهنة.
([4]) من أمثال البلخي، والشيخ المفيد (413هـ)، وأبي الحسن الأشعري (324هـ)، وعبدالقاهر البغدادي (429هـ)، وابن حزم الظاهري (456هـ)، وأبي بكر الباقلاني، وغيرهم من المعاصرين، من أمثال الشيخ جعفر السبحاني والدكتور محمد جواد مشكور.
([5]) لا نقصد النفي المطلق على مستوى المرحلة التي سبقته؛ فالفاضل الهندي (1100هـ) في «كشف اللثام» يعبّر عن مستوى متقدّم على هذا الصعيد، وإنما نقصد أن القفزة النوعية الملحوظة قد حصلت على يد صاحب مفتاح الكرامة، إلى درجة أنه يُنقل عن السيد البروجردي أن مرجع صاحب الجواهر كان صاحب المفتاح، راجع بصدد هذا النقل: محمد باقر الخالصي، مقدمته على كتاب مفتاح الكرامة 1: 10، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الأولى، 1419هـ.
([6]) الصدر، بحوث في علم الأصول 6: 128.
([7]) انظر أيضاً: أبو القاسم كرجي، أصول الفقه والصيرورية التاريخية، دراسة في نشوء علم الأصول و..، مجلّة نصوص معاصرة، العددان 4 ــ 5؛ وعدنان فرحان، حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية، و..
([8]) من أمثال محمود شهابي في «أدوار الفقه»، وعلي كاشف الغطاء في «أدوار علم الفقه وأطواره»، وما قدّمه السيد محمود الهاشمي مما اعتُمِد أساساً للعمل في تدوين «دائرة المعارف الفقهية على طبق مذهب أهل البيت (»، وقد بيّنه السيد منذر الحكيم في «مراحل تطوّر الاجتهاد»، مجلّة فقه أهل البيت، الأعداد 13 ــ 14 ــ 15 ــ 16 ــ 17، فقد قسّمها السيد الهاشمي إلى مراحل ست، هي: مرحلة التأسيس، مرحلة الانطلاق، مرحلة الاستقلال، مرحلة التطرّف، مرحلة الاعتدال، ومرحلة الكمال.
([9]) السيد محمّد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 82 ــ 87.
([10]) مرتضى مطهري، تعليم وتربيت در إسلام: 310 ــ 311.
([11]) ويشهد له ــ كما احتمله بعض ــ تعبير السيد المرتضى أحياناً بإجماع أهل البيت (، الذي اعتبر بمثابة ملاحظةٍ للطائفة الزيديّة التي ركّز نظره الفقهي عليها في كتابه الناصريات، راجع مسائل الناصريات، تحقيق مركز البحوث والدراسات العلمية، إيران، 1997م، المقدّمة في ترجمة المؤلف، ص42، وراجع فيما يرتبط بقضية الدافع إلى التأليف، كتاب رجال النجاشي: 3؛ وكذلك راجع: الطوسي، المبسوط 1: 1 ـ 2.
([12]) من اللازم الإشارة هنا إلى أن السياق التاريخي لا يمثل حصراً للناتج العلمي أو الديني بقدر ما يعبّر عن مُعين لفهمه سواء كان بعد ذلك محصوراً أو لا، هذا هو مقصودنا هنا، أما دخالة البُعد التاريخي في حصر النصوص والأفكار في إطارها الزمني ــ كما هو الإطار المرجعي الذي يسير عليه بعض الباحثين المعاصرين من أمثال الدكتور نصر حامد أبوزيد والدكتور محمّد أركون وعلي حرب وغيرهم ــ فهو أمرٌ آخر لا علاقة له هنا مباشرةً ببحثنا.
([13]) انظر: حسين مدرّسي طباطبائي، مقدمه بر فقه شيعه : 49، وقد فسّر على أساس ذلك ما وصفه بالاضطراب الحاصل في كتب الشيخ الطوسي، والتي يرى أن العلامة الحلّي قد قام بإعادة تنظيم الفقه، وبالتالي رفع هذا الاضطراب فيها.
([14]) السيد كاظم الحائري، الإمامة وقيادة المجتمع: 118 ــ 132؛ ويراجع بهذا الخصوص أيضاً كتاب الولاية التكوينية للشيخ هشام شرّي العاملي.
([15]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 1: 124 ــ 166.
([16]) محمد باقر الصـدر، دروس في علم الأصول: 249 ــ 255.
([17]) حسين مدرّسي الطباطبائي مقدّمة بر فقه شيعه: 35.
([18]) الداوري، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: 196، عند بحثه عن كتاب بشارة المصطفى لشيعة المرتضى.
([19]) يرى السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي في دراساته الأصولية أن السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع قد انصبّت على الخبر الذي يأتي به الثقة لا الخبر الموثوق ولو لم يأتِ به الثقة، وهذا الموقف أردفه السيد الخوئي بـموقفٍ آخر اتسم بالتحفّظ الشديد إزاء قاعدتي جبر الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ووهن الخبر الصحيح بإعراضهم عنه، وهو ما ضيّق من مساحة النصّ المعتمد في دائرة الرواة الثقاة، وقد فرض ذلك تلقائياً على السيد الخوئي ومدرسته مضاعفة الجهد فيما يخصّ طبيعة الرواة ومواصفاتهم ووثاقتهم، وهو ما ترك أثراً بالغاً تمثّل أوّلاً في موسوعة «معجم رجال الحديث» الرجالية للسيد الخوئي، وثانياً في اهتمامٍ واسع بعلم الرجال من طرف أبناء مدرسته الذين يمثلون اليوم تياراً واسعاً في الحوزات الدينية الشيعية، انظر بصدد نظريات السيد الخوئي المتقدّمة كتابه: مصباح الأصول 2: 200 ــ 203؛ وحيدر حب الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 439 ـــ 470، 494 ـــ 497.
([20]) انظر كمثال: الدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته 1: 30.
([21]) الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 1: 35 ــــ 40، وأيضاً ج9: 361 ــــ 378.
([22]) يحيى محمّد، المهمل والمجهول في فكر الشهيد الصدر، مجلّة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 11 ــ 12: 160.
([23]) انظر: اقتصادنا: 355 ــ 405، وله أيضاً «الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد»، مجلة فقه أهل البيت (، العدد 1: 13 ــ 21، وراجع حول النظرية عند السيد الشهيد: خالد الغفوري، مجلة فقه أهل البيت (، العدد 20، فقه النظرية لدى الشهيد الصدر: 123 ــ 204؛ وسلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، العدد 30، فقه النظرية عند الشهيد الصدر، باقر برّي.
([24]) انظر مجلّة فقه أهل البيت (، العدد الأول، مصدر سابق، وسلسلة اخترنا لك، بحوث إسلامية، محمد باقر الصدر، الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق (: 234 ــ 241.
([25]) محمد حسين الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 56 ـــ 57.
([26]) اعتمد توينبي المنهج الاستقرائي في دراسة التاريخ ليصل به إلى تعميمات، موسّعاً بذلك ما أتى به قبله شبنجلر في كتابه الشهير «أفول الغرب».