hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

فدية طلاق الخلع ـ حدّها وتقديرها

تاريخ الاعداد: 10/30/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
196080
التحميل

حيدر حب الله([1])

 

تمهيد في الاتجاهات الفقهيّة في الموضوع

حكم الفقهاء المسلمون ـ انسجاماً مع الأدلّة القرآنية وغيرها ـ بحرمة أخذ الرجل المهر الذي دفعه لزوجته، دون طيب نفسٍ منها ورضا، وبيّنوا أنّه يجوز له الأخذ في حالتين هما: الخُلع والمبارأة.

وفي الوقت الذي كان الرأي السائد في المبارأة هو أنه يحقّ له أن يأخذ المهر كلّه، مع ذهاب بعض الفقهاء إلى اختصاص ما يحقّ له أخذه بما دون المهر، إلا أنّ الجميع ـ فيما يبدو ـ لم يختلفوا في حظر أخذه ما زاد على المهر.

لكنّ ذلك كلّه وقع على خلاف ما ذهبوا إليه في فدية الطلاق الخلعي:

1ـ أما في الفقه الشيعي، فقد ذهب كثير من الفقهاء([2]) إلى ثبوت الحقّ للرجل في أخذ أيّ مقدار شاء، والمطالبة به عوضاً في الخلع، سواء تساوى مع المهر أم نقص عنه أم زاد.

وفي مقابل هذا الرأي، ذهب بعض الفقهاء إلى تخصيص مقدار العوض بالمهر بوصفه الحدّ الأعلى، وهذا ما قد يبدو من كلمات مثل ابن إدريس الحلي والشهيد الثاني([3])، بل يظهر من السيد العاملي الميل إلى تحديد عوض الخلع بما دون المهر، مع احتمال كلامه في هذه النقطة أن يكون جارياً حول المبارأة دون الخلع.

2ـ وأما في الفقه السنّي، فيبدو أنّ هناك خلافاً أيضاً:

أـ ففيما ذهبت المالكية والشافعية وابن حزم من الظاهريّة إلى التعميم حيث يتراضيا.

ب ـ حكمت الحنابلة بعدم استحباب الزيادة، بل حرّمتها مع العضل، وقيل: ذهب أحمد إلى التحريم أيضاً.

ج ـ فيما ذهبت الحنفية إلى التفصيل بين كون النشوز منه فيحرم عليه الأخذ مطلقاً، ساوى المهر أم كان أقلّ منه أم أزيد، وبين كونه منها، فيجوز له الأخذ مطلقاً([4]).

والذي يظهر من الشيخ الطوسي نسبة القول بالجواز مطلقاً إلى كلّ من أبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والثوري، أما سائر الأئمة كابن حنبل وإسحاق والزهري فنسب إليهم القول بالمنع من الزيادة([5]).

كما نسب السيد المرتضى القول بالمنع ولو كان النشوز من المرأة إلى أبي حنيفة وأصحابه، وأنّ الشافعي قائلٌ بالجواز مطلقاً، أما الزهري وأحمد وإسحاق فلم يجوّزوا إلا مقدار المهر([6]).

من هذا كلّه، يظهر أنّ القضية تقع محلّ بحث بين الفقهاء المسلمين، وأنّه لا يوجد اتفاق إسلامي أو مذهبي على هذا الأمر، علماً أنّه لو وقعت الشهرة أو الإجماع فهما واضحا المدركية من خلال الأدلّة القادمة، فلا قيمة لهما.

من هنا، وبصرف النظر عن الإجماعات والشهرات، لابدّ من استعراض مستندات النظرية المعروفة في عدم تحديد مقدار عوض الخلع وفديته، وذلك على الشكل التالي:

 

1 ـ القول بعدم تحديد مقدار فدية الخُلع، أدلّة وقرائن

ذكرت عدّة أدلّة للقول بأنّ فدية الخلع وعوضه لا يحدّد بحدّ من المهر أو أقلّ أو أكثر، فيمكن للرجل ـ كي يطلّق خلعاً ـ أن يطالب بأيّ مبلغ شاء مقابل طلاقه لزوجته، وهذه الأدلّة هي:

 

1 ـ 1 ـ مرجعية الإطلاق في النصّ القرآني، تأملات وتعليقات

يعدّ النصّ القرآني أحد أهم الأدلّة المستند إليها هنا، والآية محلّ النظر هي قوله تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة: 229).

فإنّ هذه الآية التي عدّت الأصل القرآني في طلاق الخلع([7]) لم تضع أيّ تحديد لمقدار الفدية، بل جاءت مطلقةً غير محدّدة بسقفٍ أعلى أو أدنى، وهذا ما يعني ظهورها في إطلاق الحكم الشامل لحال الزيادة على المهر([8]). ولا أقلّ من عدم الدلالة على حرمة الزائد([9]).

إلا أنّ لنا أكثر من تعليق هنا على موضوع الاستناد لهذه الآية الكريمة:

التعليق الأول: قد يُذكر هنا أنّ هذه الآية لا علاقة لها بطلاق الخلع أساساً؛ وذلك أنّ الظاهر منها هو نسبة خوف التعدّي لحدود الله تعالى إلى كلا طرفي الزوجية على حدّ سواء، وهو أمرٌ يتنافى مع حقيقة الطلاق الخلعي، أو لا أقلّ من أنه غير ظاهر فيه، وفق المقرّر فقهياً، حيث ذكروا أنّ الكراهة لابدّ أن تكون في الطلاق الخلعي من طرف واحد وهو المرأة، أما لو كانت من الطرفين فإنه تكون هناك مبارأة، وقد حكموا فيها بعدم جواز الزيادة في الفدية على المهر؛ تمسّكاً بنصوص صحيحة السند.

وهذا ما يفتح الباب أمام التشكيك في وجود مبرّر لفرض كون الآية بصدد الحديث عن الطلاق الخلعي أساساً، بل ما يفترض تقريره ـ أولياً، وعلى مستوى البحث القرآني ـ هو حرمة أصل عوض الخلع؛ تمسّكاً بصدر هذه الآية الكريمة نفسها حيث حرّمت أخذ شيء مما آتاه الرجل للمرأة، بل وبآيات أخر في هذا المجال تحرّم العضل لأخذ ما أعطى الرجل للمرأة.

وليس هذا وحده ما يشكّكنا في تعرّض الآية لمفهوم طلاق الخلع؛ بل إنّ المتصفّح لمقاطع الآية يرى بوضوح ارتباطها بمفهوم آخر غير مفهوم الكراهة أساساً، والذي هو المفهوم العمدة في طلاقي الخلع والمبارأة عند بعض الفقهاء، وذاك المفهوم هو مفهوم الخوف من عدم إقامة حدود الله في العلاقة الزوجية، والنسبة بينه وبين الكراهة بالمعنى الذي طرحه بعض الفقهاء هي العموم والخصوص من وجه، ووفقاً للنظرية التي اختارها غير واحد من الفقهاء في تعريف طلاق الخلع لا تتطابق الآية الكريمة مع الخلع إطلاقاً، فكيف تجعل مستنداً للطلاق الخلعي، فضلاً عن أحكام العوض في هذا الطلاق؟!

ويلاحظ من تعبيرات بعض الفقهاء أنهم ساروا عند تعرّضهم للآية الكريمة في بحث الطلاق الخلعي، على أخذ قيد الخوف من ترك إقامة حدود الله([10]).

نعم، يظهر من بعض الفقهاء([11]) أنّ هذه الآية ليست مستنداً للطلاق الخلعي خاصّة، بل هي مستندٌ للطلاقين المشتملين على الفدية، وهما: الخلع والمبارأة معاً.

لكن ما الذي دفع الفقهاء إلى افتراض أنّ هذه الآية متصلة بطلاق الخلع؟

الظاهر أن المنشأ في ذلك أحد أمور:

الأوّل: ما جاء في أسباب نزول هذه الآية الكريمة، من أنّ زوجة ثابت بن قيس كانت تبغضه ولا تحبّه، لا لسوء خلقٍ أو دين فيه، بل لأمور أخرى، فاشتكت أمرها إلى النبي$ فنزلت هذه الآية، واختلعت منه([12]).

وهذا ـ مع الغضّ عن إشكالية ثبوت ذلك صدوراً وتاريخياً؛ لأنها مرسلة من ابن جريج وغيره ـ لا يفيد إلا شمول الآية للخلع، لا اختصاصها به، كما ذكر المحدّث البحراني([13])، بل يمكن القول بأنّ ظاهر الآية ينافي سبب النزول المدّعى هنا؛ لأنّ خوف عدم إقامة حدود الله تعالى جاء في الآية ملحوظاً بنحو المجموع، لا بنحو يقبل الانحلال، وإلا فلو فرض أنّ الرجل هو الذي كره المرأة، كان يفترض أن يجوز له أخذ المهر ليطلّق بل ما هو أزيد منه؛ وفقاً لوحدة الحكم.

الثاني: أن يكون الفقهاء قد لاحظوا أنّ القرآن الكريم قد أصدر حظراً عاماً على الرجال بأخذ ما أعطوا النساء من المهور وغيرها، ثم لاحظوا أنه لا يوجد استثناء قرآني لهذه المسألة إلا هذا المورد الذي نحن فيه، ولما رجعوا إلى السنّة الشريفة لم يجدوا مصداقاً لحالة دفع المرأة فديةً للخلاص من الحياة الزوجية إلا في طلاقي الخلع والمباراة، فطبّقوا الاستثناء القرآني على الذي جاء في السنّة الشريفة، وبذلك صار هذا الاستثناء متصلاً بطلاق الخلع في وعيهم، وعلّلوه بأنّ خوف المرأة من عدم إقامة حدود الله هو الأصل، ويفضي إلى خوف الرجل من ردّ فعل منه على ذلك بأن لا يقيم حدود الله معها([14]).

ويناقش بأنه لا مانع من وجود استثناءات أخَر غير هذا الاستثناء تحدّثت السنّة عنها، فقد كان المفترض أن يؤخذ بالحظر القرآني ويفسّر الاستثناء القرآني على ظهوره الطبيعي ويشكّك بفكرة عوض الخلع، أو يعاد فهم الطلاق الخلعي بشكل مختلف، أو يلتزم بتخصيص أخبار طلاق الخلع للعام القرآني الذي يحظر على الزوج أخذ مهر امرأته، أو يقال ـ جمعاً بين الأدلّة ـ بأنّ ما يأخذه الرجل من المرأة في طلاقي الخلع والمباراة يجب أن يصدر من المرأة عن طيب نفس تام فيكون هذان الطلاقان مندرجان في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾ (النساء: 4)، دون أن يرتبط بالاستثناء. أمّا طرح هذا كلّه وجعل الاستثناء ناطقاً بالطلاق الخلعي، فهذا غير واضح لغةً وعرفاً.

وقد يقال بأنّه لا تنافر بين الآية وطلاق الخلع، من حيث ـ كما ذكر النووي ـ إنّ الخلع لا يتفق إلا في حالة الشقاق، ويستحيل بحكم العادة حصوله في حال الصفاء والسكون في الحياة الزوجية([15])، الأمر الذي يخلق مناخ الخوف من تجاوز حدود الله تعالى.

وهو غير صحيح، فقد تكون حياة الزوجين جيدةً إلا أنّ عارضاً صحياً على الزوج قد يوجب صيرورة المرأة غير قادرة على الاستمرار معه، بحيث تخشى على نفسها من الوقوع في الحرام، فلا تلازم أو ترابط بالضرورة بين هذه العناوين والمقولات.

الثالث: الروايات الواردة في باب طلاق الخلع، والتي أشارت إلى ربط هذا الطلاق بهذه الآية الكريمة.

إلا أنّ مراجعة هذه الروايات يضعنا أمام صورة مختلفة، فهذه الروايات هي:

1ـ خبر دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه: أنّ علياً× قال: «الخلع جائز إذا وضعه الرجل على موضعه، وذلك أن تقول له امرأته: إني أخاف أن لا أقيم حدود الله فيك، فأنا أعطيتك كذا وكذا، فيقول هو: وأنا أخاف أيضاً أن لا أقيم حدود الله فيك، فما تراضيا عليه من ذلك جاز لهما». قال جعفر بن محمد×: «إذا قالت المرأة لزوجها: لا أطيع لك أمراً ولا أبرأ لك قسماً، ولا اغتسل من جنابة، ولأوطئن فراشك.. جاز له أن يخلعها على ما تراضيا عليه.. وذلك لقول الله: ﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ..﴾»([16]).

والذي يبدو من هذا الحديث في مطلعه تطبيق المفهوم الذي ادّعينا أنّه مراد الآية الكريمة، لكنّ تكملة الكلام من الإمام الصادق بإطلاقه يقف ضمن المعنى المشهور عند الفقهاء، مع أنّه يمكن أن يكون تعليق الإمام الصادق هنا مجرّد توضيح زائد لما نقله هو نفسه عن الإمام علي، وإنما سكت عن القسم المتصل بالرجل لوضوحه أو غير ذلك.

يضاف إلى ذلك، أنّ الحديث جعل الخلع على ما تراضيا عليه، وإذا كان عوض الخلع تراضياً فيندرج ضمن: ﴿طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ﴾ دون حاجة للآية الثانية، ويكون المقدار الذي تريد المرأة دفعه أو التنازل عنه محلاً لرضاها لا استجابةً لاستفزاز الرجل بدفع كلّ مالها ومال أهلها حتى يطلّقها، فإنه ينافي مفهوم التراضي العرفي المأخوذ في الآية الكريمة.

هذا والخبر لا سند له، فلا يعتدّ به.

2ـ صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: «إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لا أطيع لك أمراً مفسرة أو غير مفسرة، حلّ له ما أخذ منها، وليس له عليها رجعة، وللرجل أن يأخذ من المختلعة فوق الصداق الذي أعطاها؛ لقول الله عز وجل: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾، والمبارأة لا يؤخذ..»([17]).

والرواية واضحة في دلالة الربط بين الآية وبين طلاق الخلع، دون أيّ إشارة إلى مفهوم إقامة حدود الله من طرف الزوج، والسند جيدّ، إلا أنّ هناك شكّاً في أن يكون قوله: «وللرجل أن يأخذ من المختلعة..» إلى آخر الرواية من كلام الإمام؛ لاحتمال أنه من كلام الشيخ الصدوق توضيحاً وزيادة، حيث قيل بأنّه كثر منه ذلك في «الفقيه»، وهو من الإدراج في الحديث، ويشهد لذلك أنّ الكليني نقل لنا هذه الرواية بعينها دون هذه الزيادة، وذلك بسندين يرجعان إلى جميل بن دراج عن محمد بن مسلم([18])، كما نقله بعينه ـ مثل الكليني، سنداً ومتناً ـ الشيخُ أبو جعفر الطوسي([19]).

ومن المعروف أن جميل بن دراج له كتاب مشترك مع محمد بن حمران، ومن المحتمل جداً أن يكون هذا الخبر موجوداً في هذا الكتاب المشترك، وقد نقله الكليني والطوسي بذكر اسم جميل، فيما نقله الصدوق بذكر اسم محمد بن حمران، والمرويّ عنه واحد، والإمام واحد، وهو الباقر×، وحيث عرف ـ أو اشتبه ـ عن الصدوق إدراجه في الحديث لا يحصل اطمئنان بكون المقطع الأخير من كلام الإمام، ولعلّه لذلك وضع محقّقو كتاب (الفقيه) القوسين عند الجملة التي تسبق هذا المقطع، وكأنهم ملتفتين لذلك. وقد حقّقنا في الأصول أنه في مثل هذه الموارد لا تجري أصالة خاصّة، بل يؤخذ بالمقدار المتيقّن، ومعه لا يحرز ربط الرواية موضوعَ الخلع بهذه الآية الكريمة.

3ـ خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن المختلعة كيف يكون خلعها؟ فقال: «لا يحلّ خلعها حتى تقول: والله لا أبرّ لك قسماً ولا أطيع لك أمراً.. وحلّ له ما أخذ منها من مهرها وما زاد، وهو قول الله: ﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾..»([20]).

والخبر لا سند له؛ إذ ورد فقط في تفسير العياشي، وما ذكره القمي في التفسير المنسوب إليه([21]) لا يحوي إلا وضعه هذه الرواية تحت الآية، لا أنّ الإمام هو الذي ربط بين الآية والخلع.

ولم ألاحظ ـ غير هذه الروايات الثلاث التي لا يمكن الاستدلال بها ـ أيَّ رواية أخرى، ولم ينقل في مصادر أهل السنّة ما يربط الآية بالطلاق الخلعي بكلام يرجع إلى النبي| إلا أسباب النزول التي أسلفنا الحديث عنها، والباقي كلّه منقول عن التابعين والصحابة وقدامى المفسّرين، مما لا توجد فيه جهة إلزام.

وبهذا نعرف أننا أمام إشكالية حقيقية في استحضار هذه الآية في محلّ البحث، بل المفترض أن تطال المباراة، وتفسّر المباراة بمعنى خوف الطرفين عدم مراعاة حدود الله لا مطلق الكراهية، أو يلتزم بأنّ كلام الآية مستقلٌّ عن كلا طلاقي الخلع والمباراة؛ فالاستدلال بالآية هنا في غير محلّه.

قد يقال: إنّ الآية ذكرت نسبة خوف عدم إقامة حدود الله إلى الاثنين معاً، لكن بنحوٍ يشمل حالتي: الانضمام والانفراد، فيكون المعنى أنّه في كلّ حالة يكون فيها خوف عدم إقامة حدود الله من الطرفين يكون مورد الخلع، وهذا معناه صورة الاجتماع، كما يمكن أن يشمل صورة انفراد الزوجة بالكراهية أو خوف عدم إقامة حدود الله، ومن ثم تكون هذه الآية الكريمة مرجعاً لطلاقي الخلع والمباراة معاً، فيؤخذ بإطلاق: ﴿مَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ فيهما، غايته أنّ السنّة الشريفة قيّدت هذا الإطلاق في خصوص المباراة بما لا يزيد عن مقدار المهر.

لكنّ هذه المحاولة غير واضحة أيضاً؛ لأنّ معنى أخذ الآية بنحو الانضمام والاستقلال معاً أنّه لو حصلت الكراهية أو الخوف من طرف الزوج خاصّة كان يمكنه أخذ الفدية، مع أنّ المفروض أنّ بإمكانه الطلاق، بل لا معنى لفرض الفدية هنا؛ لأنّ الافتداء هو دفع شيء مقابل الخلاص من شيء آخر، والمفروض أنّ المرأة لم تكره زوجها حتى يفرض الخلاص في حقها، فيكون هذا بنفسه قرينةً على اختصاص الآية بكلّ حالة تكون فيها كراهية من طرف المرأة أيضاً، فتخرج عن الخلع إلى المباراة.

ويظلّ في الآية سؤال، وهو أنها نفت الجناح عن الرجل والمرأة فيما افتدت به المرأة من المال للرجل، مع أنّ المفروض أنّ المال مالها وأنّ بإمكانها أن تدفعه أينما أرادت وكيف أرادت لمن أرادت إلا ما خرج بالدليل، وهذا هو مقتضى قانون السلطنة على الأموال أيضاً، كما أنّ صدر الآية كان حديثاً مع الرجال في أنه لا يجوز لهم أن يأخذوا مما آتوا النساء من الصداق، فما وجه نفي الجناح عن الطرفين في الآية الكريمة؟

ويمكن ذكر بعض الحلول هنا وهي:

الحل الأول: ما ذكره العلامة الطباطبائي([22])، من أنّ رفع الجناح عنها كان لأنّ إعطاءها له عند حرمة أخذه يصير إعانةً على الإثم والعدوان؛ لذا رفعت الآية الجناح عن أخذه وعطائها معاً.

إلا أنّ هذا الحلّ غير واضح؛ فإنّ بيان حلية أخذ الرجل لهذا المال كافٍ في انتفاء موضوع الإعانة على الإثم ورفعه رفعاً تاماً؛ لأنّ مركز الإشكالية ـ بناء على كلام الطباطبائي ـ في أخذ الرجل، فرفع الإشكالية من هناك يوجب رفعها من أيّ طرف محيط، ومعنى ذلك أنّه عندما يكون أخذ الزوج لهذا المال حلالاً ينتفي تلقائياّ معنى الحديث عن إعانة المرأة الرجل على الإثم؛ لأنّ المفروض أنّ أخذه لم يعد إثماً بنصّ الآية الكريمة فلا معنى للإشارة إلى هذا الموضوع.

الحل الثاني: أن يقال بأنّ حرمة أخذ الرجل مال المهر من المرأة، هل هي حرمة تكليفية تعبّدية مستقلة أم أنها حرمة من حيث عدم رضا المرأة بهذا الأخذ؟ فإذا بني على الأوّل فإنه يلتزم بحرمة أخذ الزوج مهر زوجته ولو كانت راضيةً بذلك، وهذا ما يفتح المجال على أن يكون إعطاء الزوجة المهر حراماً إذا كان للزوج، ويكون هذا حكماً تعبدياً متعلّقاً بالمهر خاصّة في حرمة عوده إلى لرجل، فيحرم على المرأة إعادته ويحرم على الرجل أخذه، وهنا يتصوّر نفي الجناح الموجود في الآية الكريمة بالنسبة للطرفين معاً، أما إذا بني على الثاني فيعود الإشكال قائماً من حيث عدم وجود مبرّر لرفع الجناح عنها، فيلتزم بالأول.

ويناقش بأنّ الأصحّ تعيّن الثاني؛ فإنّ إعطاء المرأة زوجها حقوقها من المهر بعد استحقاقها لها أو أخذها واستلامها شأنٌ مالكيٌّ يخضع لقانون السلطنة العام على الأموال، بل إنّ ظاهر الآيات القرآنية أنّ إشكالية أخذ الرجل المهر نشأت من حيث عدم رضا الزوجة بذلك، ولذلك نهى القرآن عن أن تعضل الزوجة للتخلّي عن حقها في المهر، وصرّحت الآية بقولها: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾ (النساء: 4)، وهذا يعني أنّ حيثية التحريم جاءت حمايةً لحقّ الملكية الفردية للمرأة في هذا المال، فاحتمال الحرمة بذاتها بصرف النظر عن هذه الحيثية ثم وضع حرمة إضافية تعبّدية على المرأة في ذلك يقع خلاف ظواهر الآيات القرآنية والجمع بينها، ولا أقلّ من أنّه لن يكون راجحاً عند العثور على تخريج آخر معقول.

الحلّ الثالث: ما ذكره الإمام الشافعي، من أنّ الآية لمّا بيّنت جواز أخذ الزوج للفدية، والمفروض أنّ المرأة لها أن تدفع الفدية، صارا معاً لا جناح عليهما، فضمّ الرجل الذي هو محلّ الكلام إلى المرأة المفروغ عن جواز إعطائها يصيّرهما معاً لا جناح عليهما([23]).

وهذا الحلّ غير واضح من الناحية العرفية في الكلام، فإنّه إذا جاز للصغار فعلٌ ما، مع وضوح جوازه لهم لكونهم غير مكلفين بالأحكام، ثم ثبت جواز هذا الفعل للكبار، فلا معنى للقول: يجوز هذا الفعل للكبار والصغار معاً، فإنّ هذا البيان مستهجنٌ؛ لأنّ العرف عندما يلاحظ نفي الجناح فهو يفهم أنه لولا هذه الحال التي نفي الجناح فيها لكان هناك مشكلة ما، فإقحام من لا شبهة في مورده وإن كان ممكناً لكنه خلاف المتفاهم العرفي.

الحل الرابع: ما نراه الأقرب، وهو أنّ المرأة هي التي تريد أن تفتدي نفسها للخروج من العلاقة الزوجية القائمة، والأصل أنه لا يجوز لها ذلك إلا بمبرّر؛ لأنّ العقد لازمٌ من طرفها، وفي قوّة الجائز من طرف الزوج بإعطائه حقّ الطلاق، فخروجها عن ربقة الزوجية وسعيها لذلك بدفع المال للزوج كي يرفع يده عنها فيه شبهة التحريم، فكأنّ الآية تريد أن تقول بأنه يجوز للزوجة في هذه الحال السعي للخروج من علقة الزوجية بدفع مالٍ مقابل ذلك، ويكون دفعها جائزاً مادام الزوج راضياً ويحقّ للزوج أخذ المال مقابل طلاقه لها مادام ذلك عن رضاً منها وقبول. فكأن أصل دفع المال للزوج كي يطلّقها فيه شبهة التحريم؛ لهذا ناسب ذكر جواز الأمر للمرأة؛ لأنّ هذا المال لا يدفع للعطاء المحض حتى يقال بأنّ جواز دفعه واضحٌ وضوح الشمس بمقتضى البناءات الشرعية والعقلائية في السلطنة على المال المملوك بالملكية الفردية، وإنما نتجت الإشكالية من أنّ دفعه جاء في مقابل هدم الحياة الزوجية، وهو أمرٌ فيه شبهة محذور عندما يكون من طرف المرأة؛ لعدم ثبوت حقّ لها بهدم هذه الحياة بعد احتمال كونه نشوزاً، إلا في موارد خاصّة هذه منها.

وبهذا ظهر أنّ الآية الكريمة تؤسّس لمبدء قائم بنفسه، وهو أنه في الحالات التي لا يتمكّن فيها الزوجان من رعاية شرع الله في حياتهما الزوجيّة، إما لكراهة حاصلة أو لغير ذلك، أمكن للزوج فكّ هذه الحياة بالطلاق الرجعي، ويمكن للزوجة أن تبادر إلى ذلك رغم أنّ الزواج عقد لازم تماماً من طرفها، وذلك بتشجيع الزوج عبر دفع المال له من مهرها، ويكون فعلُها هذا جائزاً وأخذه أيضاً جائزاً ما دام لم يصاحبه عضل أو نية سوء.

وهذه الصورة التي تقدّمها الآية لا ربط لها بنحو المطابقة بمفهوم الطلاق الخلعي بمعناه السائد في الفقه الإسلامي، نعم تتواصل معه.

التعليق الثاني: لو تنزلنا عن الإشكالية المتقدّمة، من حيث ربط الآية الكريمة بطلاق الخلع، يمكن أن يقال بأنّ الآية لا إطلاق فيها من حيث مقدار الفدية المدفوعة من طرف الزوجة للزوج؛ لأنّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما هي في مقام البيان من جهة جواز أخذ ما تعطيه المرأة في مقابل حرمة الأخذ الوارد بنحو الإطلاق في مطلع الآية الكريمة؛ ولا أقلّ من عدم الاطمئنان بانعقاد إطلاق بعد كون الآية في مقام بيان أصل جواز الأخذ في مقابل الحرمة.

بل يمكن أن يقال بأنّ الآية نفسها ظاهرة في خصوص أخذ ما أعطيت المرأة من قبل؛ لأنها ذكرت حرمة أخذ الرجل ما آتى المرأة، ثم استثنت ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ..﴾، فيتضمّن هذا الاستثناء أنّه يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ عند خوف عدم إقامة حدود الله وتقديم المرأة الفدية، فيكون الاستثناء استثناءً من حرمة أخذ ما أعطوا من قبل لا حرمة مطلق الأخذ، وهذا ما يضاعف إعاقة قدرة الاستدلال بالآية الكريمة، إلا إذا جعل الاستثناء منقطعاً.

وبهذا يظهر أنّ الآية القرآنية الكريمة لا تدلّ على جواز أن يكون عوض الخلع أكثر مما أعطى الرجل للمرأة.

2 ـ 1 ـ مرجعيّة نصوص السنّة الشريفة

إنّ مراجعة الأحاديث في مجال مقدار عوض الخلع يضعنا أمام عدّة مجموعات من النصوص، ينبغي علينا رصدها وتحليلها، وهي:

 

1 ـ 2 ـ 1 ـ مطلقات نصوص الأخذ من المرأة

المجموعة الأولى: وهي المجموعة التي تدلّ بإطلاقها على جواز أخذ ما زاد عما أعطاها الرجل من قبل، وهي عدّة روايات:

1ـ صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: «إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لا أطيع لك أمراً، مفسرة أو غير مفسرة، حلّ له ما أخذ منها، وليس له عليها رجعة»([24]). فإنّ إطلاق هذه الرواية «ما أخذ منهاn، يشمل صورة زيادة المأخوذ عن المهر وغيرها.

2ـ خبر الحلبي، عن أبي عبد الله×، قال: «لا يحلّ خلعها حتى تقول لزوجها: والله لا أبرّ لك قسماً، ولا أطيع لك أمراً، ولا أغتسل لك من جنابة، ولأوطئنّ فراشك، ولاذننّ عليك بغير إذنك، وقد كان الناس يرخصون فيما دون هذا، فإذا قالت المرأة ذلك لزوجها حلّ له ما أخذ منها، فكانت عنده على تطليقتين باقيتين، وكان الخلع تطليقة، وقال: يكون الكلام من عندها، وقال: لو كان الأمر إلينا لم نجز طلاقاً إلا للعدة»([25]).

هذه الرواية صحيحة السند على المشهور بعد وجود إبراهيم بن هاشم في السند، على أنّ الجملة التي وقعت في آخر الرواية تبدو غريبةً بعض الشيء؛ فإنها تدلّ على أنّ كلّ ما صدر عن أهل البيت من الحديث عن الطلاق البائن الذي لا عدّة فيه إما لم يصدر واقعاً أو صدر بنحو التقية، نظراً لحيثية الاستثناء من النفي الموجودة في الجملة الأخيرة، والتي تفيد هذا الاستيعاب، الأمر الذي يجعل هذا الحديث مما لا يمكن القبول به لمعارضته للمقطوع به، ومحاولة الشيخ الطوسي حمل هذه الرواية على التقية في مورد الخلع من باب أنّ الحكم الواقعي هو عدم كون الخلع تطليقة بائنة وإنما هو فسخ، وجعل مثل هذا النص شاهداً على ذلك([26]).. إنّ هذه المحاولة غير واضحة؛ فإنّ الرواية واضحة في عدم وقوع طلاق إطلاقاً إلا بعدّة، فلا وجود للطلاق البائن البتة، وهذا بنفسه يخالف التقية جداً، وبيانها بيان قاعدة عامة يمكن تطبيقها في مورد طلاق الخلع أيضاً.

وأما ما ذكره بعض المحدّثين من اختصاص ذيل الرواية بالطلاق في طهر غير المواقعة أو في الحيض([27]) فهو بلا دليل.

3ـ خبر محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله×، قال: «المختلعة التي تقول لزوجها: اخلعني وأنا أعطيك ما أخذت منك، فقال: لا يحلّ له أن يأخذ منها شيئاً حتى تقول: والله لا أبرّ لك قسماً، ولا أطيع لك أمراً، ولاذنن في بيتك بغير إذنك، ولأوطئن فراشك غيرك، فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حلّ له ما أخذ منها، وكانت تطليقة بغير طلاق يتبعها، فكانت بائناً بذلك، وكان خاطباً من الخطّاب»([28]).

وهذا الخبر يقع على عكس مفاد الخبر السابق، حيث يفيد كون الخلع طلاقاً بائناً، والخبر صحيح السند على المشهور، وفيه إبراهيم بن هاشم.

4ـ خبر أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله×، قال: «إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائنة، وهو خاطب من الخطّاب، ولا يحلّ له أن يخلعها حتى تكون هي التي تطلب ذلك منه من غير أن يضربها وحتى تقول: لا أبرّ لك قسماً، ولا أغتسل لك من جنابة، ولأدخلنّ بيتك من تكره، ولأوطين فراشك، ولا أقيم حدود الله، فإذا كان هذا منها فقد طاب له ما أخذ منها»([29]).

والخبر من حيث السند غير تام؛ فإنّ فيه محمد بن الفضيل ولم يثبت توثيقه إن لم نقل بضعفه.

5ـ خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله×، قال: «ليس يحلّ خلعها حتى تقول لزوجها»، ثم ذكر مثل ما ذكر أصحابه، ثم قال: قال أبو عبد الله×: «وقد كان يرخص للنساء هو دون هذا، فإذا قالت لزوجها ذلك حلّ خلعها وحلّ لزوجها ما أخذ منها، وكانت على تطليقتين باقيتين، وكان الخلع تطليقة، ولا يكون الكلام إلا من عندها»، ثم قال: «لو كان الأمر إلينا لم يكن الطلاق إلا للعدّة»([30]).

وهذه الرواية تشبه خبر الحلبي المتقدّم، والسند هنا ضعيف بسهل بن زياد الذي لم تثبت وثاقته عندنا.

6ـ صحيحة يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله×، أنه قال: «الخلع إذا قالت: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبرّ لك قسماً، ولأوطين فراشك من تكرهه، فإذا قالت له هذا حلّ له أن يخلعها، وحلّ له ما أخذ منها»([31]).

هذه هي روايات المجموعة الأولى، وقد ظهر بوضوح أنها ليست في مقام بيان مقدار عوض الخلع، وإنما هي في مقام بيان هوية الخلع من جهة، ومورده وموجبه من جهة ثانية.

وعندما تجيز هذه الروايات للرجل ما أخذ من المرأة فهي ناظرة إلى تخصيص أدلّة حرمة الأخذ من المرأة والمركوزة في الذهن المتشرعي نتيجة وجود الآيات والروايات ذات صلة بأخذ ما أعطيت المرأة من قبل الرجل، ومعه يؤخذ بالقدر المتيقن من الدلالة هنا.

ويؤيّد ذلك خبر محمد بن مسلم (الرواية الثالثة)، فإنّ تعبير «حلّ له ما أخذ منهاn، جاء ردّاً على قول السائل عن لسان المرأة: «وأنا أعطيك ما أخذت منك»، مما يعني الإشارة إلى هذا الأمر الذي يمثل الإشكالية الأساسية في الموضوع.

يضاف إلى ذلك أنّ هذه المجموعة من الروايات تظهر فيها المرأة مستخدمةً لغة التهديد مع الرجل وأنه إذا لم يطلّقها فإنها سوف ترتكب الحرام، وقد لا نقول بتوقّف إجراء الخلع على نطق المرأة بهذه الكلمات، لكنّ سياق بيان الروايات يعطي إيماءً بأنّ المرأة تستخدم لغةً تهديدية، فإما أن يلتزم باختصاص طلاق الخلع بهذه الحال ـ كما سيأتي ـ فيكون أخصّ بكثير من مطلق الكراهية، أو يقال بأنّ هذه الروايات تحكي عن بعض موارد الخلع، فإذا استفيد الإطلاق من قوله: «ما أخذ منها»، فيكون على التقدير الثاني خاصّاً ببعض حالات الطلاق الخلعي لا جميعها.

2 ـ 2 ـ 1 ـ نصوص أخذ الرجل ما وجده عند المرأة

المجموعة الثانية: ما دلّ على حلّية أخذ الرجل ما وجده عند المرأة، مع التصريح بالمهر أو بما أعطاها وما هو أقلّ منه وأكثر، ولا أقلّ من الظهور المباشر في ذلك، وهذه الروايات هي:

1ـ صحيحة سماعة بن مهران، قال: قلت لأبي عبد الله×: لا يجوز للرجل أن يأخذ من المختلعة حتى تتكلّم بهذا الكلام كلّه؟ فقال: «إذا قالت له: لا أطيع الله فيك حلّ له أن يأخذ منها ما وجد»([32]).

إنّ ظاهر هذه الرواية أنّ له كلَّ ما وجد عندها، ومفهوم «ما وجد» يستوعب كلّ شيء، ولم تكن النساء فقيرات كلّهنّ حتى يقال بأنّ مراده ما وجد من بقايا ما أعطاها، لهذا يدّعى ظهور هذه الرواية في ما هو أزيد من المهر.

2ـ خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن المختلعة كيف يكون خلعها؟ فقال: «لا يحلّ خلعها حتى تقول: والله لا أبرّ لك قسماً، ولا أطيع لك أمراً، ولأوطينّ فراشك، ولأدخلنّ عليك بغير إذنك، فإذا هي قالت ذلك حلّ خلعها، وحلّ له ما أخذ من مهرها وما زاد..»([33]).

فهذه الرواية صريحة في جواز أخذ ما زاد عن المهر، والتعبير بـ (ما أخذ) لا يضعنا أمام مفهوم رضاها، فالرواية ـ وغيرها ـ لم تقل: ما أعطته أو تراضيا عليه، وإنما عبّرت بـ (ما أخذ منها) الأعم ـ بحسب دلالته الأولية على الأقلّ ـ من الأخذ برضاها وعدمه. هذا، والرواية ضعيفة السند، حيث لم يذكر الطريق إلى أبي بصير، فتكون مرسلةً.

3ـ خبر زرارة، عن أبي جعفر×، قال: «المبارأة يؤخذ منها دون الصداق، والمختلعة يؤخذ منها ما شاء (شئت) أو ما تراضيا عليه، من صداق أو أكثر، وإنما صارت المبارية يؤخذ منها دون الصداق، والمختلعة يؤخذ منها ما شاء؛ لأنّ المختلعة تعتدي في الكلام وتكلّم بما لا يحلّ لها»([34]).

وهذه الرواية صريحة في التمييز بين المباراة والخلع، وأنه يجوز في الخلع ما زاد، نعم يبدو وجود ترديد بالأخذ منها ما شاء أو ما تراضيا عليه، وهو ترديد قد يكون ـ وهو الأرجح ـ من الراوي نفسه؛ لهذا نقتصر في الأخذ بالمقدار الموافق للقواعد حتى يحسم موضوع البحث.

والمهم في هذه الرواية تأكيدها ما قلناه سابقاً من أنّ ما تفعله المرأة يوحي بالعصيان والتمرّد والمواجهة غير الشرعية مع الزوج وكأنّ هذا الأخذ منها عقوبة، ومن الواضح أنّ الموضوع ليس موضوع كراهية، وإنما عنصر التمرّد غير الأخلاقي الذي تطرحه الزوجة في المقام.

وهناك العديد من الروايات الدالّة على ذلك، مثل مرسل ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله×، قال في المختلعة: «إنها لا تحلّ له حتى تتوب من قولها الذي قالت له عند الخلع»([35]).

هذا، والرواية هنا من حيث السند صحيحة على المشهور، وفيها إبراهيم بن هاشم.

4ـ صحيحة سماعة، قال: سألته عن المختلعة، فقال: «لا يحلّ لزوجها أن يخلعها حتى يقول: لا أبرّ لك قسماً، ولا أقيم حدود الله فيك، ولا أغتسل لك من جنابة، ولأوطئن فراشك، ولأدخلنّ بيتك من تكره، من غير أن تعلّم هذا ولا يتكلمونهم (يتكلّمون هم) وتكون هي التي تقول ذلك، فإذا هي اختلعت فهي بائن، وله أن يأخذ من مالها ما قدر عليه، وليس له أن يأخذ من المبارئة كلّ الذي أعطاها»([36]).

والرواية واضحة في التمييز، لكنّ المقابلة مع البائن في أنه لا يجوز أن يؤخذ منها إلا ما هو أقلّ مما أعطاها، قد يعطي دلالةً في أنّ التعبير بـ «ما قدر عليه» إنما يقصد منه ما يبلغ حتى تمام ما أعطاها، مع تحمّل الجملة للدلالة على المطلق وما هو أزيد من ذلك.

يضاف إلى ذلك أنّ هذه الرواية لا تقف عند حدود المهر حتى في المبارأة؛ لأنّ عنوان «كلّ الذي أعطاها» يشمل النفقة أو الهدايا أو غير ذلك، إلا إذا ادّعي الانصراف ـ بقرينة سائر الروايات ـ إلى المهر خاصّة.

ولعلّ الخبر الأول لسماعة وهذا الخبر يرجعان إلى خبر واحد، فيرتفع إشكال الإضمار، وإلا فالسند مشكل عندنا.

5ـ خبر زرارة، عن أبي جعفر×، قال: «لا يكون الخلع حتى تقول: لا أطيع لك أمراً، ولا أبرّ لك قسماً، ولا أقيم لك حداً، فخذ مني وطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يخلعها بما تراضيا عليه، من قليل أو كثير، ولا يكون ذلك إلا عند سلطان، فإذا فعلت ذلك فهي أملك بنفسها من غير أن يسمّى طلاقاً»([37]).

فهذا الخبر ـ غير التام سنداً؛ لوجود موسى بن بكر المجهول الحال فيه ـ يرخّص للرجل في الخلع في حال تهديدها بالخروج عن جادّة الشريعة وتقديمها الفدية للطلاق، كما أنّه يقيّد بما إذا تراضيا على المقدار المدفوع مهما كان، لكنّ الإضافة الجديدة التي فيه أنّه جعل الخلع عند سلطان، ولعلّ هذا ما ينسجم مع تركيب الآية القرآنية المتقدّمة؛ حيث كان الخطاب فيها في بعض فقراته موجّهاً إلى فريق ثالث غير الزوجين يتوقّع أن يكون القاضي أو من يمثل المسلمين، وهذه الإضافة غير موجودة في سائر النصوص.

أضف إلى ذلك أنّ هذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الخلع ليس طلاقاً، وإنما هو بينونة وفسخ بلا طلاق، وهو مخالفٌ لجملة من الروايات التي تقدّم بعضها.

6ـ خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال: «الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة لزوجها... فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها، وكلّ ما قدر عليه مما تعطيه من مالها، فإذا تراضيا على ذلك طلّقها على طهر بشهود..»([38]).

والخبر دالّ على الزائد مع قيد التراضي من الطرفين، لكنّه ضعيف السند؛ لعدم صحّة نسبة كتاب تفسير القمّي الذي بأيدينا إليه حتى لو وصل إلى الحر العاملي إلى علي بن إبراهيم على ما بحثناه مفصّلاً في محلّه؛ فإنّ جامع التفسير وراويه لم تثبت وثاقته أيضاً.

هذه هي المجموعة الدالّة على إمكانية أخذ الزائد عن المهر، وقد تبيّن أنّ ما صحّ منها هو الرواية الأولى (صحيحة سماعة) والرابعة (صحيحة سماعة الأخرى) على مبنى في ذلك، وباقي الروايات لم يثبت سنده عندنا، وإن صحّ الخبر الثالث (خبر زرارة) على المشهور، وما دلّت عليه الأخبار التامة السند عندي هنا يفيد جواز أخذ ما قدر أو ما وجد من مالها، وقد بينّا أنّ خبر سماعة الثاني يَحْتَمِل ـ بقرينة المقابلة ـ أخذ كل ما قدر مما أعطاها.

 

3 ـ 2 ـ 1 ـ النصوص المنقولة عن بعض الخلفاء والصحابة

المجموعة الثالثة: الأخبار الواردة عن بعض الخلفاء والصحابة، وهي:

1ـ خبر كثيرة مولى سمرة: «أنّ امرأةً نشزت من زوجها في إمارة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، فمكثت فيه ثلاثة أيام، ثم أخرجها، فقال لها: كيف رأيت؟ قالت: ما وجدت الراحة إلا في هذه الأيام، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: اختلعها ولو من قرطها»([39]).

فإنّ الخليفة يتحدّث عن الخلع ولو بحيث يؤخذ منها قرطها، كنايةً عن أخذ جميع أموالها منها.

2ـ خبر نافع ـ مولى ابن عمر ـ عن مولاة لصفية بنت أبي عبيد، أنها اختلعت من زوجها بكلّ شيء، فلم ينكر ذلك ابن عمر([40]).

والظاهر أنّ الأمر قد حصل بمرأى ومسمع من ابن عمر، ولعلّ الطرفين جاءا عند ابن عمر وأوقع الرجل الخلع عنده فلم يستنكر ابن عمر ذلك.

3ـ خبر الربيع بنت معوذ، قالت: «كان بيني وبين ابن عمر كلام ـ وكان زوجها ـ قالت: فقلت له: لك كلّ شيء وفارقني، قال: قد فعلت، فأخذ والله كلّ فراشي، فجئت عثمان وهو محصور، فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عِقَاص رأسها»([41]).

فإنّ عثمان بن عفان أنفذ هذا الشرط وألزم بمقتضاه وجعله موجباً لتملّك الرجل كلّ مال المرأة، وفيه دلالة واضحة على ذلك.

4ـ خبر عمر بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «يأخذ منها حتى قرطها»([42])، وفي بعض المصادر في الهامش نقل ذلك عن عكرمة نفسه.

وهناك نصوص أخرى لكن منقولة عن بعض التابعين مثل إبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب ـ على تفصيل بسيط عند الأخير ـ([43]).

فهذه النصوص تفيد ترخيص الصحابة بأخذ كلّ المال بلا تحديد بالمهر أو نحوه.

والاستدلال بهذه النصوص يكون عبر طريقين:

الأول: أن يقال بأنّ هؤلاء الصحابة لم يكونوا ليقولوا بهذا لو لم يكونوا سمعوه من رسول الله$، فإنّ مقتضى أمانتهم وعدالتهم هو ذلك، فيستكشف من قولهم بذلك قول رسول الله$.

وهذا الطريق في الاستدلال غير صحيح؛ إذ من المحتمل جداً أنّهم اجتهدوا في فهم الآية القرآنية الكريمة، ورأوا أنها بإطلاقها تفيد جواز أخذ الرجل ما يريد من المرأة، ولا يوجد دافع لهذا الاحتمال، واجتهادهم ليس بحجّة علينا، وقد بحثنا في محلّه حجية سنّة الصحابي وتوصّلنا إلى عدم ثبوتها([44]).

الثاني: ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين، من أنّ هذا الموقف من هؤلاء الصحابة لو كان غير مطابق للحقّ لأنكر عليهم صحابةٌ آخرون، ولما لم نسمع بهذا الإنكار عنى ذلك انعقاد إجماع الصحابة على ذلك، وإجماعهم حجّة([45]).

وقد أجاب هذا الباحث نفسه بأنّ إقرار سائر الصحابة على ذلك قد يكون من باب إقرارهم باجتهاد الحاكم أو القاضي، فإنّ له ذلك في بعض الحالات المعيّنة التي يرى المصلحة فيها كما لو كانت الزوجة متعسّفةً أو نحو ذلك([46])، فليس السكوت إقراراً للحكم بعنوان الأولي.

بل يمكننا القول ـ إضافةً إلى هذا الجواب ـ بأنّ إحراز اطّلاع عامة الصحابة على ذلك مشكلٌ، لاسيما في عصر الخليفة عثمان بن عفان، حيث تفرّق الكثير من الصحابة في الأمصار والبلدان، فكيف نعرف أنهم جميعاً أقرّوا بحكمٍ قضائي جزئي وموردي؟!

وعليه، فهذه النصوص لو ثبتت تاريخياً لا تفيد ـ على أبعد تقدير ـ سوى اجتهادات لا تلزم المتأخرين في شيء.

 

4 ـ 2 ـ 1 ـ نصوص عدم جواز أخذ الزيادة

المجموعة الرابعة: ما دلّ على عدم جواز أخذ الزيادة، وهي عدّة نصوص:

1ـ ما رواه أبو الزبير محمد بن مسلم الأسدي، من أنّ ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده بنت عبد الله بن أبي سلول، وكان أصدقها حديقة، فقال النبي$: «أتردّين عليه حديقته التي أعطاك؟» قالت: نعم وزيادة، فقال النبي$: «أما الزيادة فلا ولكن حديقته»، قالت: نعم، فأخذها له وخلّى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس، قال: قد قبلت قضاء رسول الله([47]).

فهذا الخبر دالّ على عدم قبول النبي$ بالزيادة عن الحديقة التي هي صداق هذه المرأة.

لكن يناقش أولاً: إنّ هذا الخبر مرسلٌ من حيث السند؛ لأنّ أبا الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس القرشي الأسدي المكّي مولى حكيم بن حزام، وقد توفي عام 128هـ أو قبل عام 126هـ([48])، ولم يكن من الصحابة ولا يُدرى عمّن أخذ هذا الحديث، فيكون الخبر مرسلاً حتى لو قيل بعدالة جميع الصحابة؛ لاحتمال أخذه عمّن أخذه عن الصحابة، فلم يصحّ السند حتى يعتمد على هذا الخبر.

ثانياً: لو غضضنا الطرف عن إشكالية الثبوت الصدوري، لا يحرز أنّ الرسول$ قد حال دون الزيادة نتيجة موقف شرعي؛ لأنه كان في مقام القضاء، ولعلّه رأى أنه لا مصلحة في الزيادة عن مقدار الصداق، ونظراً لولايته قام بتخلية سبيلها رافضاً أن تقدّم المزيد، وأين هذا من وجود حكم شرعي أوّلي في الموضوع؟!

ثالثاً: إنّ هذا الخبر بهذه الصيغة لا يظهر منه بشكل حاسم كونه بياناً لطلاق خلعي؛ إذ لم تبيّن الرواية كراهة المرأة لزوجها أو خوفها من عدم إقامة حدود الله تعالى فيه، فلعلّ الطلاق كان قضائياً من الرسول$ أو ربما كان فسخاً منه$؛ نظراً لولايته على المسلمين بنفوسهم وأرواحهم، ولم يكن خلعاً أساساً.

نعم، بقرينة رواية ابن جريج ـ مرسلاً ـ خبر نزول الآية بزوجة ثابت بن قيس، وما سيأتي أيضاً، يمكن فهم هذا الخبر بأنه في سياق الطلاق الخلعي وأنّ الصيغة التي قدّمها أبو الزبير أو غيره لم تكن مكتملة من حيث نقل تمام حيثيات الحدث، لاسيما وأنّ ابن جريح قد وقع في سند هذا الخبر أيضاً، بصرف النظر عما أسلفناه في الآية الكريمة.

2ـ خبر ابن عباس: أنّ جميلة بنت سلول أتت النبي$ فقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكنّي أكره الكفر في الإسلام. لا أطيقه بغضاً. فقال لها النبي$: «أتردّين عليه حديقته»؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله$ أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد([49]). وقد وردت هذه القصّة في صحيح البخاري وغيره بلا حديث عن الزيادة([50]).

وقد يناقش هذا الخبر من جهات:

أولاً: بما ذكره السيد المرتضى، من أنّ الزوج في هذه الرواية هو الذي لم يطلب أكثر من الحديقة، فلذلك لم يجز له أن يأخذ ما زاد عنها([51]).

ويجاب بأنه لا يوجد مؤشر في الحديث على أنّ الرجل لم يرضَ بالزائد، بل الحديث يفيد أنّ النبي هو الذي حال دون الزيادة، وهذا ما تدعمه رواية أبو الزبير المتقدّمة، ولا أقلّ من أنّ ما ذكره المرتضى لا شاهد عليه من الكلام.

ثانياً: بما ذكره بعضهم من إرسال الحديث([52])، فيكون ضعيف السند. ولم يظهر لي وجه الإرسال في الحديث.

نعم، هذا الخبر فيه أزهر بن مروان (243هـ)، حيث لم يوثقه إلا ابن حبان وبعض المتأخّرين([53])، ومثل هذا لا يفيد عندي توثيقاً.

ثالثاً: لقد تضاربت الروايات واختلفت في قصّة زوجة ثابت بن قيس وتفاصيل أحداث طلاقها وما جرى فيه، كما رأينا، فبعضها يفيد حضور ثابت، وبعضها عدم حضوره، وبعضها يفيد مجيؤها إلى النبي وبعضها مجيء أخيها، وبعضها أنه جيد ولكن تكرهه وبعضها أنّه ضربها، ومن هنا لا نأخذ بهذه الزيادة الموجودة في الحديث للشك في أمرها.

ولعلّ الشيء المشترك أنّ النبي عرض عليها التخلّي عن الحديقة التي لثابت ففعلت فوقع الطلاق على هذا الأساس، فالأصحّ عدم الأخذ بهذه الزيادة.

وبهذا ظهر أنه لا يوجد ما يدلّ على النهي عن أخذ الزيادة من المرأة المختلعة.

ومن هذا كلّه، نستنتج أن نصوص الأحاديث والروايات لا يوجد فيها ما يمنع الأخذ بالزيادة، بل فيها ما هو دالّ على جواز أخذ الزيادة، ومنه ما هو صحيح السند، فما ذكره المشهور تامّ ـ حتى الآن ـ على مستوى ما تقتضيه الروايات في المقام وفقاً لحجية خبر الثقة.

 

2 ـ القول المختار (تصوّرات جديدة في حقيقة الخلع وفديته)

والذي يمكن أن يفهم بملاحظة نصوص الكتاب والسنّة، ما يلي:

لا يوجد في الكتاب والسنّة الصحيحة مفهوم مطلق كراهة الزوجة بوصفه مقوّماً للخلع، وإنما الذي يظهر:

أ ـ من الكتاب، هو وصول الزوجين إلى حالة لا يقدران معها ـ لأيّ سببٍ كان ـ على مراعاة القواعد الشرعيّة في العلاقة الزوجيّة وضبط علاقاتهما الأخلاقيّة خارج إطار الأسرة، فهذا هو الخُلع ـ لو أصرّينا على الحفاظ على التسمية ـ في القرآن الكريم.

ب ـ وأمّا السنّة الصحيحة، فيظهر منها أنّ عدم إقامة حدود الله تعالى هو المعيار والمفصل في هذا الموضوع، وحيث إنه في الغالب يكون عن كراهة فقد لوحظت الكراهة في بعض النصوص القليلة، أو يقال: إنّ المأخوذ في الخلع كراهة خاصّة بمعنى كراهة البقاء على علقة الزوجية وإبراز هذه الكراهة (أو وصولها) لتصل حداً تبلغ شُرُف الحرام والتهديد به، وهذا هو ما يظهر من حقيقة الخلع في التشريع الإسلامي وهو أن يبلغ الحال بالمرأة أنّها لو ظلّت على علاقة الزوجيّة لوقعت في الحرام الكبير من الزنا وهتك حقوق الزوجية ونحو ذلك، بحيث يفهم ذلك إدانةً للمرأة وتمرّداً منها بغير حقّ، فهذا هو القدر المتيقّن من مجموع النصوص والذي يمكن الوثوق بصدوره. ومعه فيكون في السنّة مطلبٌ إضافي على ما توصّلنا إليه في البحث الكتابي. هذا هو مقدار فهمي في حقيقة الخلع في الكتاب والسنّة، على خلاف ما تمّ التعارف عليه([54]) من تفسير الخلع في كلمات غير واحدٍ من الفقهاء المسلمين([55]). ولعلّه لذلك سمّي خلعاً فكأنّ الرجل يخلعها في إشارة إلى ارتكابها شيئاً يستحق النبذ والتقريع.

ومن هنا أيضاً ذهب بعضٌ إلى عدم وقوع الخلع لو كانت كراهية الزوجة لزوجها ناشئةً عن ظلمه المتعمّد لإجبارها على التنازل عن المهر، فإنّ هذه الحال تساعد بنحو التأييد على تحميل المرأة مسؤولية الحدث الذي ينتهي بطلاق الخلع.

لا يجوز للرجل أذية زوجته وإكراهها على التنازل عن حقّها في المهر وعضلها لذلك، فهو أمرٌ منهي عنه في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ (النساء: 19).

يفهم من بعض الروايات أنّ هذا الأخذ للزائد منها جاء عقوبةً على اعتدائها بالكلام وتهديدها بالخروج عن الشرع وهدم كلّ معايير حُسن العلاقة الزوجية، وهذا معناه أنّ الزوج ما دام غير مضرّ بها وكان صالحاً معها لكنها مع ذلك تمرّدت بهذا المستوى من التمرّد حقّ له أخذ مهره؛ لإخلالها بما اتفقا عليه في عقد الزواج مع عدم ثبوت حقّ الطلاق لها ـ حسب الفرض ـ في الشريعة الإسلامية، بل حقّ له أن يحتفظ بحقّه في الإبقاء عليها حتى لو دفعت مهرها، بحيث يمكنه أن يرضى عند ارتفاع المبلغ المدفوع، وأخذ الزائد خاصّ بهذه الحال ولم يثبت جوازه فيما هو أزيد.

لا يفهم من الروايات المساومة في الطلاق الخلعي على دفع مبالغ زائدة، بمعنى أن يقول الرجل: لا أطلقك إلا أن تدفعي لي كذا وكذا مما زاد عن المهر، وإنما الموجود فيها أنّ له أن لا يطلّق وفقاً للقواعد العامة في باب الطلاق، ما لم يطرأ شيء يغيّر من وجهة نظره، نعم مقتضى الأصل جواز هذه المساومة.

هذا الكلام كلّه مبنيٌّ على ثبوت الحقّ للرجل في الطلاق وعدمه في حالة المرأة التي تهدّد بفعل الحرام، أما لو بني على وجوب الطلاق عليه لو بلغت الزوجة هذه الحال، كما يفهم من كلمات بعض الفقهاء([56])، ولو استناداً إلى قانون وجوب النهي عن المنكر الشامل لرفع المنكر ودفعه، إلى جانب الارتكاز العقلائي في باب العقود التي منها النكاح([57])، ففي هذه الحال يلزمه الطلاق وله أخذ حقّه في المهر اعتماداً على الروايات التي ظاهرها أنه يحلّ له ما أخذ منها دون تقييد برضاها، بل ظاهر الروايات أنّ هذا مفروغ منه في أنّ المرأة تعطيه، لاسيما إذا تمّ الالتزام بأنّ الخلع فسخ وليس بطلاق. أما ما زاد على المهر فإن رضيت جاز؛ للنصوص المتقدّمة لاسيما التي أخذت قيد الرضا والتراضي مثل خبر عبد الله بن سنان (رقم 6 من المجموعة الثانية) وخبر زرارة (رقم 5 من المجموعة الثانية)، وأما إذا لم ترضَ المرأة بدفع العوض المذكور لم تكن آثمة؛ لعدم وجود دليل يثبت وجوب دفعه عليها، وعلى تقدير عدم الدفع يظلّ وجوب طلاق الخلع عليه سارياً؛ لتحقّق ملاك الأدلّة التي أوجبته، فيجب عليه الخُلِع حينئذٍ بوصفه ـ على الأقلّ ـ تكليفاً شرعياً لا حقّاً من حقوق الزوجية.

ولو عصى حتى دفعت المهر وأزيد وقع خلعاً وكان المال حلالاً، بل يمكن الترقّي لإجراء عين هذا الكلام في المهر نفسه حيث لا يجب دفعه؛ لأنّ ظاهر الروايات الصحيحة السند أو شبه الصحيحة حليّة أخذه المهر لا وجوب دفعها له، كذلك الحال في الآية الكريمة التي ظاهرها نفي الجناح عن الذي تفتديه المرأة لا بيان وجوب الفدية عليها، وإنما ذكرت الفدية بوصفها مرغباً في الطلاق من طرفها حيث لا تملك حقّ الطلاق.

وما يقال من أنّه يضيع عليه المهر على هذا التقدير مع عدم رغبته في الطلاق مردود، بأنّ المهر قد أخذ ما يقابله من الحياة الزوجية ومقاربة المرأة، ولو لم يكن دخول كان له أخذ نصف المهر بعد فرض الخلع طلاقاً، فيكون مشمولاً لما دلّ على تعيّن نصف المهر بعد عدم الدخول. نعم، لو لم تدفع المهر وطلّق لا يكون خلعياً بل رجعياً.

 _______________

([1]) نشر هذا المقال في الجزء الثالث من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، وذلك عام 2011م.

([2]) تبصرة المتعلّمين: 193؛ والناصريات: 353 ـ 354؛ والخلاف 4: 425؛ وغنية النـزوع: 375؛ ومسالك الأفهام 9: 386 ـ 387؛ وكشف اللثام 8: 205؛ والحدائق 25: 586 ـ 587؛ ورياض المسائل 11: 174 ـ 175؛ وجواهر الكلام 33: 19 ـ 20.

([3]) انظر: الروضة البهيّة 6: 102 ـ 103؛ والسرائر 2: 724.

([4]) الاستذكار 6: 77؛ والجصاص، أحكام القرآن 1: 475؛ ومالك، المدوّنة الكبرى 2: 340 ـ 341؛ والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن 3: 139؛ والشافعي، كتاب الأم 5: 211؛ وابن قدامة، المغني 8: 175 ـ 176؛ وابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2: 54 ـ 55؛ والعيني، عمدة القاري 20: 262؛ وابن حزم، المحلى 10: 235، 240؛ والمرداوي، الإنصاف 8: 398؛ و الموسوعة الفقهيّة (الكويتية): 19: 243 و..

([5]) الخلاف 4: 425.

([6]) الناصريات: 353 ـ 354.

([7]) انظر: الطوسي، المبسوط 4: 342؛ وإيضاح الفوائد 3: 375؛ وشرح الأزهار 2: 433.

([8]) الناصريات: 354؛ والخلاف 4: 425 ـ 426؛ وغنية النزوع: 375؛ ومسالك الأفهام 9: 386 ـ 387؛ وكتاب الأم 5: 122.

([9]) النحاس، معاني القرآن الكريم 1: 204.

([10]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: السرائر 2: 724؛ وجامع الخلاف والوفاق: 489.

([11]) انظر: مختلف الشيعة 7: 400؛ والمهذب البارع 3: 516.

([12]) انظر: كتاب الأم 5: 122؛ وجامع البيان 2: 627؛ والتبيان 2: 244.

([13]) الحدائق الناضرة 25: 570.

([14]) انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير 6: 108.

([15]) انظر: النووي، المجموع 11: 352.

([16]) دعائم الإسلام 2: 269 ـ 270.

([17]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 523 ـ 524.

([18]) الكافي 6: 141.

([19]) الاستبصار 3: 316؛ والتهذيب 8: 97.

([20]) تفسير العياشي 1: 117.

([21]) تفسير القمي 1: 75.

([22]) الميزان في تفسير القرآن 2: 234.

([23]) انظر: الشافعي، أحكام القرآن 1: 218.

([24]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 523 ـ 524؛ والكافي 6: 141؛ والاستبصار 3: 316؛ والتهذيب 8: 97.

([25]) الكافي 6: 139 ـ 140؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 523؛ والاستبصار 3: 315؛ وتهذيب الأحكام 8: 95.

([26]) انظر: الاستبصار 3: 317 ـ 318.

([27]) انظر: المجلسي، مرآة العقول 21: 234؛ والسبحاني، نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية الغراء: 363، 382؛ وروضة المتقين 9: 139.

([28]) الكافي 6: 140؛ والاستبصار 3: 315 ـ 316؛ وتهذيب الأحكام 8: 95 ـ 96.

([29]) الكافي 6: 140؛ والاستبصار 3: 316؛ وتهذيب الأحكام 8: 96.

([30]) الكافي 6: 141؛ والاستبصار 3: 316؛ وتهذيب الأحكام 8: 96.

([31]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 522 ـ 523.

([32]) تهذيب الأحكام 8: 96 ـ 97؛ والاستبصار 3: 316.

([33]) تفسير العياشي 1: 117.

([34]) الكافي 6: 142.

([35]) المصدر نفسه 6: 141.

([36]) المصدر نفسه 6: 140؛ والاستبصار 3: 315؛ وتهذيب الأحكام 8: 95.

([37]) تهذيب الأحكام 8: 98؛ والاستبصار 3: 318.

([38]) تفسير القمي 1: 75 ـ 76.

([39]) البيهقي، السنن الكبرى 7: 315؛ والصنعاني، المصنّف 6: 505؛ والكوفي، المصنّف 4: 93؛ وجامع البيان 2: 637 ـ 638؛ وانظر: المدوّنة الكبرى 2: 341؛ والمحلى 10: 240.

([40]) البيهقي، معرفة السنن والآثار 4: 462، و5: 442؛ والاستذكار 6: 76؛ والتمهيد 23: 371.

([41]) المجموع 17: 8؛ ونيل الأوطار 7: 40 ـ 41؛ وفتح الباري 9: 348؛ وسير أعلام النبلاء 3: 200؛ والصنعاني، المصنّف 6: 504؛ ومسند ابن الجعد: 350؛ وجامع البيان 2: 639.

([42]) الصنعاني، المصنّف 6: 505؛ وجامع البيان 2: 639.

([43]) انظر: عمرو عبد المنعم سليم، الجامع في أحكام الطلاق وفقهه وأدلّته: 211 ـ 212.

([44]) انظر: حيدر حب الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي: 349 ـ 368.

([45]) عامر سعيد الزيباري، أحكام الخلع في الشريعة الإسلامية: 170.

([46]) المصدر نفسه.

([47]) راجع: الصنعاني، المصنّف 6: 502 ـ 503؛ ونيل الأوطار 7: 35؛ والبيهقي، السنن الكبرى 7: 314؛ وسنن الدارقطني 3: 178؛ ونصب الراية 3: 500؛ والسيوطي، الدرّ المنثور 1: 281.

([48]) انظر: المزي، تهذيب الكمال 26: 410.

([49]) سنن ابن ماجة 1: 663؛ والمعجم الكبير 11: 246.

([50]) راجع: مسند أحمد 4: 3؛ وصحيح البخاري 6: 170؛ وسنن النسائي 6: 169؛ ومجمع الزوائد 5: 4 و..

([51]) الناصريات: 354.

([52]) انظر: الزيباري، أحكام الخلع في الشريعة الإسلامية: 172.

([53]) انظر: المزي، تهذيب الكمال 2: 330 ـ 331 (مع الهامش).

([54]) انظر: الحدائق الناضرة 25: 576 ـ 580؛ وجواهر الكلام 33: 41 ـ 44.

([55]) يفهم من بعض الفقهاء الميل إلى أخذ مسألة خوف الوقوع في الحرام، فانظر ـ على سبيل المثال ـ: الخوئي، منهاج الصالحين 2: 305؛ والقمي، مباني منهاج الصالحين 10: 474؛ والروحاني، منهاج الصالحين 2: 336؛ والوحيد الخراساني، منهاج الصالحين 3: 347؛ وفضل الله، فقه الشريعة 3: 579؛ ونحن نميل إلى هذا الرأي؛ وراجع: مرآة العقول 21: 235.

([56]) انظر: الطوسي، النهاية: 529.

([57]) يوسف الصانعي، مقاربات في التجديد الفقهي: 129 ـ 135، نشر مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م، ترجمة وإعداد وتقديم: حيدر حب الله.