قاعدة الصحّة في العقود ـ الاتجاهات الفقهية بين التعميم والتخصيص
حيدر حب الله([1])
مقدّمة في بيان الاتجاهات والمناهج
تعدّ مسألة العقود المعهودة (المسمّاة) وغير المعهودة (غير المسمّاة)، من أهم بحوث فقه المعاملات والتجارات المعاصر، بل وغير المجال المالي والتجاري أيضاً؛ لأنّ هذا البحث يحدّد حركة الفقيه في التعامل مع مستجدّات العقود المالية المعاصرة، فقد شهد العالم أنماطاً جديدة من العقود والمعاملات في مجال التجارات والشركات والإجارات وغيرها، وواجه الفقيه هذه العقود الجديدة فأراد أن يعرف حكمها، وهنا تنوّع منهج الفقهاء في التعاطي مع هذا النوع من المعاملات والعقود، وكان الأبرز اتجاهان:
الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه السائد، حيث ذهب أنصاره الى اعتبار أصالة الفساد في العقود هي الأصل الأوّلي الحاكم بعدم ترتب الأثر الشرعي على أيّ عقدٍ من العقود ما لم نحكم بصحّته شرعاً. وبالرجوع إلى أدلّة تصحيح العقود، مثل: ﴿أوفوا بالعقود﴾، يلاحظ انصرافها إلى العقود التي كانت سائدةً زمان نزول النصّ كالبيع والإجارة والجعالة والنكاح والوكالة والحوالة والكفالة والمزارعة والمساقاة والمضاربة وغير ذلك، وتسمّى هذه العقود بالعقود المتعارفة أو العقود المعهودة أو العقود المسمّاة، وهذا يعني أنّ النص الذي صحّح العقدَ إنما صحّح هذه العقود المعهودة، ومن ثمّ فأيّ عقد جديد لم يُعهد سابقاً، كعقد التأمين مثلاً، فإنّ علينا أن نقوم بتحليل بُنيته المعامليّة، فإن وجدناه يرجع في روحه وحقيقته المعامليّة إلى عقدٍ من العقود المعهودة أمكن ترتيب آثار ذلك العقد عليه والحكم بصحّته تبعاً لذلك، ما لم يشتمل على ما يوجب بطلانه في الشرع.
وأما إذا لم نتمكّن من تحويل هذا العقد أو اكتشاف حقيقته المعامليّة بما يرجعه إلى أحد العقود المتعارفة، فإنّه سوف يظلّ مشمولاً لأصالة الفساد الأوليّة في العقود؛ حيث إنّ دليل أصالة الصحّة الثانويّة في العقود لا يشمله حسب الفرض، بعد اختصاصه بالعقود المعهودة، التي لا يعبّر هذا العقد عن واحدٍ منها ولا يندرج ضمنها.
وعلى هذا الأساس، لاحظنا الفقه الإسلامي خلال العقود والسنوات الأخيرة يشتغل في القضايا المالية على تقديم تكييفات وتخريجات فقهيّة لهذه المعاملات، تُرجعها إلى عقود صحيحة معهودة، وهذه هي طريقة الكثيرين منهم في معالجة قضايا التأمين أو البيع الزماني أو بعض مسائل البنوك والمصارف والنقود، وغير ذلك.
الاتجاه الثاني: وقد رأى أنصار هذا الاتجاه أنّ الطريقة التي عالج الفريق الأوّل الموضوعَ بها غير صحيحة؛ لأنّ البُنية التحتية لها غير سليمة، والسبب في ذلك أنّ أصالة الفساد الأوليّة محكومة أو مورودة لقاعدة الصحّة الثانويّة في العقود. وقاعدة الصحّة عندما نلاحظ دليلها نجده لا يختصّ بالعقود المعهودة المسمّاة، بل ينصبّ على كلّ عقد يقع بين الناس، بحيث يحتوي مقوّمات العقد وضرورات وجوده، وهذا معناه أنّ شمول دليل الصحّة للعقود المعهودة ليس نهائياً، بل هي مجرّد تطبيقات له، وإلا فهو قادر على الشمول لكلّ عقدٍ مستحدث، غاية الأمر أنّه يشترط أن لا يكون العقد المستحدث محتوياً على مكوّنات قد حكم الشرع ببطلان المعاملة معها، وهذا يعني أنه ليس المطلوب من الفقيه تحويل العقد الجديد إلى عقدٍ من العقود القديمة، وإنما المطلوب منه هو:
أ ـ التحقّق من عقديّة العقد الجديد وأنّه يصدق عليه عنوان العقد.
ب ـ التحقّق من عدم احتوائه على ما حكم الشرع بمنعه أو بالبطلان معه.
فإذا أحرزنا الأول، ولم نحرز المانع في الثاني، كفى ذلك في تصحيح العقود الحادثة والمستجدّة. وبهذا يفتح بابٌ كبير لتخريج الكثير من مستجدّات فقه المعاملات المعاصرة.
وعلى هذا الأساس، تبدو أهميّة هذا البحث في الفقه الإسلامي ومركزيّته ومساحة تأثيره الفقهي والقانوني؛ فإنّ القول بالرأي الثاني سوف يوفّر على الفقه الإسلامي الكثير من البحوث والتكييفات المطوّلة والطرق الكثيرة البعيدة المعقّدة للوصول إلى الهدف. أما اختيار القول الأوّل فسوف يفرض على الفقيه تقديم التخريجات الفقهيّة للمعاملات الجديدة بما يرجعها إلى عقدٍ من العقود المتعارفة، ومن ثم يلزم ترتيب أحكام هذا العقد الخاصّ على هذه المعاملة الجديدة.
وسوف نحاول في هذه الوريقات عرض الموضوع وتوضيحه، وبيان اتجاهات الرأي فيه، مع بعض الإثارات هنا وهناك، للخروج باستنتاج فقهي، ذلك كلّه بطريقة موجزة مختصرة.
تعارف العقود، شرح المعنى وتفكيك المصطلح
عندما نتأمّل في أحد التعابير الأكثر شيوعاً هنا، وهو (العقود المتعارفة والعقود غير المتعارفة)، نجد مدلولين للموضوع:
المدلول الأوّل: أن يكون التعارف وعدمه، ملاحظاً بالقياس إلى عصر النصّ والتشريع، فعندما نزلت آية الوفاء بالعقود كان نظرها إلى العقود المتعارفة في ذلك الزمان كالبيع والإجارة، دون غيرها كعقد التأمين مثلاً. وهذا الموضوع هو الذي يشكّل محور مقالتنا هذه.
المدلول الثاني: أن يكون التعارف وعدمه، ملاحظاً بالقياس إلى العُرف العام، فعقد البيع عقد متعارف، وكذلك عقد التأمين فإنه متعارفٌ سائد اليوم بين العقلاء، لكنّ بعض العقود قد تكون معروفةً في دوائر محدودة جداً وغير متداولة، كأن تتعارف معاملة في بعض قرى شرق الأرض أو غربها، فهنا يكون هذا العقد غير متعارف، فليس المعيار هنا هو الزمان، ومعروفية عقد في زمان دون زمان، وإنما كونه عقداً نادراً، لا يعرفه الناس. وهنا إذا قال الفقيه بأنّ دليل صحّة العقود منصرفٌ إلى العقود المتعارفة، فليس قصده ما تعارف عصر النص، بل قصده العقد المعروف بين الناس والمتداول، في مقابل النادر أو الغريب. فلا ينبغي الخلط بين المفهومين كما قد يقع فيه كثيرون.
ولو أعدنا النظر في كلمات العلماء المتأخّرين مرّةً أخرى، وقمنا بتحليلها من جديد، لرأينا أنّ التعارف ـ بصرف النظر عن طبيعة المدلولين السابقين له ـ يقع على أنحاء:
النحو الأول: التعارف النوعي، بمعنى أنّ نوع هذه المعاملة معروفٌ إما في عصر النصّ أو في العُرف العام، مثل عقد البيع فهو عقد معروفٌ، وهذا معناه كفاية التعارف النوعي في تصحيح كلّ أنواع البيوع إلا ما خرج بالدليل، حتى لو كان صنفه غير معروف، مثل بعض البيوع المستجدّة، كالبيع الزماني، فإنّ النوع وهو البيع معروف كما تقدّم، لكن الصنف، وهو البيع الزماني، غير معروف.
النحو الثاني: التعارف النوعي والصنفي، بأن يكون نوعه وصنفه معروفين، لكنّ شخصه غير معروف، كأن يبيع الثمار (وهو بيع معروف نوعاً وصنفاً) لكن بطريقة وبخصوصيات يضعها الطرفان لا وجود لها عند غيرهم، فهذا يصدق عليه العموم، لكنّه مع ذلك فيه ضربٌ من الغرابة والندرة.
النحو الثالث: التعارف النوعي والصنفي والشخصي، وقد صار المعنى واضحاً.
وعليه، فسوف نلاحظ أنّ بعض الفقهاء أثار مسألة المعروفية على المستويات الثلاثة هذه، ونظرياً يمكن توضيح كلامه كما يلي:
1 ـ لو أخذنا المعروفية بالمعنى الزمني، أي العقود المعهودة عصر النصّ، فقد نفهم منها كفاية معروفيّة نوع العقد، وبهذا يصحّ التمسّك بالعموم لإثبات صحّة أو لزوم البيع الزماني، لصدق معروفيّة نوعه، وهو البيع. وقد نفهم منها ضرورة معروفيّة الصنف والنوع وعدم كفاية معروفيّة النوع خاصّة، وهنا قد لا نحكم بشمول العمومات للبيع الزماني، وهكذا.
2 ـ وأما لو أخذنا المعروفيّة بالمعنى العرفي العقلائي، فأيضاً قد نقول بانصراف العمومات إلى كفاية معروفيّة النوع، أو النوع والصنف، أو النوع والصنف والشخص و..
فهذا التعدّد في الأنحاء يتداخل مع بحث المعروفيّة بالمعنيين السابقين، ويجب التدقيق في تحليل كلمات الفقهاء على هذا الصعيد، تماماً كما يجب التدقيق في اختيار النتائج الاجتهاديّة.
التطوّر التاريخي لموضوع البحث
من الصعب العثور على بحث مركّز في مكان من الأبواب الفقهيّة، يعالج هذا الموضوع عند الفقهاء ما قبل الشيخ الوحيد البهبهاني (1205هـ)، أي ما قبل القرن الثالث عشر الهجري، وإنما ينبغي استنباط موقفهم من خلال طريقة تعاملهم مع المعاملات، فنحن لا نجدهم ـ عادةً ـ يتحدّثون عن عقدٍ جديد فيصحّحونه نتيجة الأخذ بعمومات الصحّة أو إطلاقاتها، بل مجمل كلماتهم تتركّز حول هذه العقود والإيقاعات المعروفة والمتداولة، كالبيع وغيره. ولعلّه من هنا يصعب الجزم بتبنّي المتقدّمين لقاعدة التصحيح والتوسعة هنا، ما لم نقم باستقراء موسّع وتحليلي جداً لمساحة هائلة من بحوث العلماء، ولسنا بصدده الساعة.
ولعلّ ما يشهد لذلك هو حكم المشهور ببطلان عقد المغارسة، ويقصد بهذا العقد أن يتفق الطرفان على أن تكون الأرض من أحدهما والغرس مع العمل من الآخر، على أن يكون الغرس بينهما بالنصف أو الربع أو..([2])، والفرق بين المغارسة وكلّ من المزارعة والمساقاة أنّ الحاصل خاصّة مشترك في الأخيرين، أمّا في المغارسة فتكون العين المغروسة نفسها مشتركاً بينهما وملكاً مشاعاً..([3])، فإنّ حكمهم ببطلان عقد المغارسة يظهر منه أنّه ناتج عن حداثته وعدم شمول العمومات له نتيجة ذلك، مضافاً إلى عناصر اُخَر ذكروها في محلّه.
لكن كلّما اتجهنا نحو متأخّري العلماء، لاحظنا ظهور ثنائي العقد المتعارف وغيره، مستخدمين أكثر من تعبير مثل: العقود المتعارفة والعقود غير المتعارفة، وكذلك العقود المسمّاة والعقود غير المسمّاة، وكذا العقود المعهودة والعقود غير المعهودة وأمثال هذه التعابير.
وعندما نراجع كلمات الوحيد البهبهاني (1205هـ) نجد تعبيراً يوحي بأنّ جمهور الفقهاء والسائد بينهم هو انحصار العقود بالمعهودة، ففي بحثه حول الكفالة ـ معلّقاً على كلمات المحقّق الأردبيلي ـ قال: «ولو قال: أنا أحضره أو أؤدي ما عليه، لم يكن كفالة، بل وعدةٌ وشرط غير داخل في عقد الكفالة، ولا غيره من العقود المعهودة المذكورة في كتب الفقهاء، وعقودهم منحصرة فيما ذكروه، كما لا يخفى...»([4]). فإنّ تعبيره يوحي بأنّ عقود الفقهاء هي هذه التي ذكروها في كتبهم، وأنّ أيّ عقدٍ جديد لا يدخل في ضمن ما حكموا بمشروعيّته وترتيب الآثار عليه.
ويستمرّ السيد علي الطباطبائي (1231هـ)، بمسيرة الاختصاص هذه، رافضاً شمول النصوص للعقود الجديدة([5]).
ويواصل المحقّق النجفي (1266هـ) مسيرة الفقه المدرسي في الحصر بالعقود المتعارفة، معتبراً أنّ عموم الوفاء بالعقود يراد منه ما هو المنساق من العقود المعهودة المتعارفة([6])، فانصراف الآية الكريمة يقع لصالح المتعارف من العقود([7]).
ويذهب الميرزا حبيب الله الرشتي (1312هـ) إلى النظرية المدرسيّة، معتبراً أنّ الألف واللام في آية الوفاء بالعقود إنما هي للعهد لا للجنس، فتختصّ بما تعارف من العقود آنذاك([8])، بل يظهر منه نسبة ذلك إلى طريقة الأصحاب واتفاقهم([9])، وإن أوحت بعض كلماته عدم قبوله بالتخصيص([10]).
ويبدو من الآخوند الخراساني (1329هـ) الميل للحصر والاختصاص، حيث قال: «..مع احتمال إرادة خصوص العقود المتعارفة، بأن يكون اللام للعهد فلا يكون حينئذٍ العموم دليلاً إلا على إمضائها في الجملة، ولا مجال للتشبّث بإطلاقها في نفوذها بأيّ نحوٍ وجدت وبأيّ طورٍ تحقّقت؛ لعدم وروده إلا في مقام بيان إمضاء أصل العقود المتعارفة، كما هو الحال في سائر إطلاقات الكتاب..»([11]).
ويعتبر السيد عبد الحسين اللاري (1342هـ)، أنّ احتمال شمولها لمطلق العقود ـ ولو المخترعة والحادثة ـ هو أبعد الاحتمالات جداً وأضعفها، مختاراً أنّ المهم هو تداول نوع العقد لا شخصه أو صنفه بالضرورة([12])، وقد بلغت هذه العقود عنده ثمانية عشر عقداً([13]). لكن في أكثر من موضع من كلامه ما يوحي بقصده التعارف بالمعنى الثاني لا الأوّل.
كما يميل السيد مصطفى الخميني (1398هـ) لاختصاص العمومات بالعقود المتعارفة بين الملل والأقوام حسب تعبيره([14])، ممّا يضعه أيضاً في سياق المعنى الثاني للتعارف دون الأوّل.
ويظهر الميرزا القمّي (1231هـ) أنّه من الأوائل الذين مالوا ـ في بعض أبحاثهم ـ إلى شمول أدلّة الوفاء بالعقود لكلّ معاوضة ولو لم تكن من العقود المتعارفة([15])، وإن ظهر من كلامٍ آخر له ما هو العكس تماماً([16]).
ويأتي بعده موقفٌ واضح وصريح من السيد محمد الطباطبائي (1241هـ)، حيث يرى أنّ «العقود جمعٌ معرّف باللام، فيفيد العموم الاستغراقي، وخروج بعض الأفراد منه بالدليل لا يوجب سقوط حجيّته بالنسبة إلى ما لم يقم دليل على خروجه، فإنّ العام المخصّص حجّةٌ في الباقي..»([17]).
ويظهر من المحقّق المامقاني (1323هـ)، إقراره الضمني بنظريّة الاختصاص بالعقود المتعارفة، حيث يناقش في كيفية إحراز معهوديّتها في العصر النبوي فقط([18]).
ويذهب السيد كاظم اليزدي (1337هـ) في غير موضع من كلماته إلى الالتزام بإمكان التمسّك بالعمومات للشمول لكلّ ما صدق عليه عنوان العقد ولو لم يكن متعارفا ومعهوداً. يقول في بحث المعاطاة: «لا يضرّ ذلك؛ لأنه يشمله العمومات من قوله أوفوا بالعقود وتجارة عن تراض والناس مسلطون والمؤمنون ونحوها. ودعوى انصرافها إلى المعهود كما ترى، فهو نوع من العقد، بل من التجارة؛ إذ ليس إلا الاكتساب. ويصدق في المقام. ولا يلزم في المعاوضة المالية أن يكون المبادلة بين المالين من حيث الملكيّة، بل قد يكون من حيث الإباحة من أحد الطرفين أو كليهما..»([19]).
ونجد الميرزا الإيرواني (1354هـ) يؤيّد التعميم أيضاً، فهو يقول في بحثه حول أجرة الحمّامي: «وأمّا الإشكال الثاني الذي ذكره المصنّف المختصّ بموضوع الإباحة بالعوض، وحاصله خروج هذه المعاملة عن المعاملات المعهودة شرعاً، ففيه منع الخروج؛ فإنّ الدخول في الحمّامات مع إعطاء العوض من المعاملات الشائعة من عصر الشارع إلى زماننا هذا، وكذلك الدخول في المطاعم وأشباه ذلك، والظاهر أنّ الكلّ من قبيل الإباحة بالعوض، ويشبه أن يكون المقام من قبيل العارية بعوض. مع أنّ عدم المعهوديّة لا يضرّ بعد شمول عموم أدلَّة المعاملات له من مثل أوفوا بالعقود وتجارة عن تراض والناس مسلَّطون..»([20]).
ونلاحظ الميرزا النائيني (1355هـ)، يذهب إلى المدرسة الجديدة التي عمّمت العقود، فيلمح في بعض أبحاثه إلى منعه القول بنظريّة العقود المعهودة([21]).
وقد ذهب الشيخ محمد جواد مغنية (1400هـ) إلى أنّ أصول الفقه الجعفري وقواعده تقتضي صحّة العقود غير المسمّاة، مع توفّر سائر الشروط فيها وعدم منافاتها لمبدأ من مبادئ الشرع المقدّس، معتمداً أيضاً على إطلاقات الآيات وعموماتها، بل قد ترقّى واستنتج قائلاً: «المعاملات لا تحتاج في صحّتها ولزومها إلى النصّ، بل يكفي عدم ثبوت النهي عنها»([22]).
كما يظهر من الإمام الخميني (1410هـ)، عدم ميله للحصر بنظرية العقود المتعارفة([23]).
أمّا السيّد الخوئي (1413)، فقد كان واضحاً في غير موضع، في تبنّيه خيار التعميم، حيث ذهب الى أنّ «المطلقات والعمومات الواردة في الأدلّة والأخبار لا يعتبر في شمولها لشيء إلا صدق الطبيعي عليه، وكونه فرداً من أفراده، وأما كونه متعارفاً أيضاً فلا، نعم. ربما يتوهّم في خصوص المطلقات عدم شمولها لغير المتعارف؛ فإنّ الإطلاق موقوف على عدم بيان القيد، فربما يتخيّل كفاية التعارف الخارجي في البيان، فلا يتم الإطلاق، ولكنّ العمومات لا يجري فيها هذا التوهّم»([24]).
وهذا ما يأخذه تلميذه الشيخ جواد التبريزي (1427هـ)، عندما يرى انصراف الآية للعقود المتعارفة في كلّ زمان، لا في خصوص زمان نزول الآية الآمرة بالوفاء بالعقود([25])، وهذا يعطي للمعروفيّة بعدها العقلائي دون الزمني. ويؤيده الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في هذه النقطة([26]).
ويستمرّ الموقف مع السيّد عبد الأعلى السبزواري (1414هـ)، حيث يرى المنع عن حصر المعاملات بالمعهودة، إذ لا دليل عليه من عقل أو نقل([27]).
كما يظهر الميل لهذه التوسعة من قبل الشيخ حسين علي المنتظري (2010م)، حيث وسّع من دلالة الآية الكريمة لتشمل مطلق المواثيق والعهود حتى التي بين الإنسان وربّه، انطلاقاً من سياق الآية التي أعقبت بالحكم بحليّة البهائم([28]). وأصل هذا الموضوع كان ألمح إليه المحقّق الإصفهاني (1361هـ) في بعض أبحاثه([29]).
وقد تبنّى غير واحدٍ من المعاصرين نظريّة التوسعة وفكّ الحصر، حيث اختار أستاذنا السيد محمود الهاشمي إمكان التمسّك بالعمومات لإثبات صحّة العقد ولو لم يندرج ضمن العقود المتعارفة([30])، كما نجد ما يظهر منه التبنّي في كلمات الشيخ محمد سند البحراني، لافتاً النظر إلى أنّ العقد الحادث إذا رجع في حقيقته المعامليّة الى أحد العقود المتعارفة ـ حتى لو سُمّي لفظاً باسم جديد ـ فإنه تلحقه أحكام العقد السابق([31]).
كما يرى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي أنّه لا معنى لتخصيص آية الوفاء بالعقود بتلك المتعارفة زمن التشريع، بل تشمل كلّ عقد، ويعتبر ذلك أساساً مهماً من أساسيّات فقه المسائل المستحدثة([32]).
كما يظهر الاختيار للتوسعة من السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، حيث نفى الاختصاص واعتبره مخالفاً للاعتبار([33]). وبعض كلمات السيد محمد صادق الروحاني تساعد على التعميم أيضاً([34]).
ولو أردنا الإطلال على الفقه السنّي، لوجدنا أيضاً نزوعاً واضحاً عند السابقين من الفقهاء بحصر العقود بالمتعارفة، ومن باب المثال، نجد لدى حديثه عن إرجاع عقد الصلح إلى أقرب العقود له كالبيع، أنّ ابن عابدين (1306هـ) يذكر أنّه مع عدم إمكان الحمل على أحد العقود المتعارفة ولم يكن مصحّح آخر يحكم بالفساد([35]).
وبهذا يظهر جليّاً أنّنا كلّما رجعنا لعصر المتقدّمين زمناً نجد نظريّة الحصر أوضح، وكلّما اقتربنا من العصر الحاضر نجد فسحةً منها ليأخذ الفقهاء بنظريّة التوسعة.
الاتجاهات الفقهية، الأدلّة والشواهد والمعطيات
تبيّن حتى الآن أنّ هناك اتجاهين أساسيّين في موضوع البحث، وهما: اتجاه التعميم، واتجاه التخصيص بالعقود المتعارفة المسمّاة المعهودة. وشمول النصوص بإطلاقاتها وعموماتها، وكذلك السير العقلائيّة والمتشرعيّة، مع الإجماع أو الشهرة أو غير ذلك.. للعقود المتعارفة زمن النص هو المقدار المتيقن من دلالتها، ولم يناقش فيه أحد، إلا من ناحيتين:
الأولى: شمول الإطلاقات والعمومات للعقود الجائزة والإذنية وعدمه، فقد ذكروا أنّ عمومات الإلزام لا تشمل مثل العقود الإذنية؛ لأنّ المضمون المعاملي لهذه العقود لا ينسجم مع الأمر بالوفاء، على تفصيل بيّنوه في محلّه([36]).
الثانية: شمول العمومات والإطلاقات لمثل عقود المضاربة والمزارعة والمساقاة وعدمه، فقد استشكل فيه بعض الفقهاء كالسيّد الخوئي، حيث ذهب الى أنّ هذه العقود تقع على خلاف الأصل، وذلك أنها لو أريد منها تملّك العامل ابتداءً لحصّة من المنافع والنماء، فهذا يقع على خلاف قانون تبعية المنافع والنماءات للأصل، فيخالف الشرع فيبطل. وإن أريد تملّكه في طول تملّك المالك للأصل، فهو خلاف قانون المضاربة والمزارعة والمساقاة، كما أنّ فيه تمليك ما لا يملك([37]). وقد تعرّض غيرُ واحد لمناقشة هذا القول([38])، بما لا يرتبط ببحثنا الساعة.
من هنا، سوف نركّز الحديث حول ادّعاء التعميم في العمومات والمطلقات وغيرها، وهل يمكن به إثبات صحّة كلّ عقد جديد إلا ما خرج بالدليل أم لا؟ ومنه تظهر أدلّة وجهة النظر القائلة بالتخصيص.
الدليل الأوّل: الاستناد إلى المطلقات والعمومات، مثل قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ﴾، فإنّ التجارة شاملة لمطلق المعاملات المالية، كما أنّ الألف واللام في (العقود) جنسيّة استغراقية أو فقل حقيقيّة، تشمل كلّ ما يقدّر ويفرض أنه عقد، سواء كان متعارفاً في عصر النص أم غير متعارف؛ إذ لا موجب للتقييد بحسب دلالة الآية الكريمة.
إلا أنّ أنصار التخصيص بالعقود المعهودة قدّموا هنا عدّة مناقشات، أهمّها:
المناقشة الأولى: إنّ التجارة خاصّة بالبيع والشراء؛ لأنّ هذا هو المدلول اللغوي لها، أما اللام في (العقود) فهي عهدية، أي تلك العقود المتعارفة المعهودة المشار إليها والقائمة والمتداولة بينكم، ولا أقلّ من التردّد، الأمر الذي يساوق الإجمال، ويفرض الأخذ بالقدر المتيقّن، وهو العقود المتعارفة، ويكون الاستغراق عرفياً([39]).
يضاف إلى ذلك ما ذكره بعض المحقّقين، من أنّ آية الوفاء بالعقود لو لاحظنا سياقها، فسنجد أنّ المرجّح إرادة الأحكام الشرعية والمواثيق الإلهية بها، وليس العقود الواقعة بين الناس في معاملاتهم؛ فإنّ قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾ إلى آخر الآية الكريمة شاهدٌ على أنّ المراد بالعقود تلك الالتزامات التي تكون بين العباد وربّهم، وهي طاعتهم له والعمل بأحكامه ودينه لا غير، فتكون هذه العمومات والمطلقات الواردة في المقام غير محرزة الشمول لموضوع بحثنا أساساً([40])، وبهذا يكون الأمر بالوفاء بالعقود على نحو التكليف، على وزان الأمر بإطاعة الله ورسوله.
ويمكن التعليق على هذه المناقشة:
أولاً: ما ذكره بعضهم من أنّ ظاهر الخطابات الشرعية أنّها مسوقة على نهج القضية الحقيقيّة، وهذا ما يرجّح كون الألف واللام في (العقود) للاستغراق، بعد عدم وجود أيّ موجب للعهدية؛ إذ ليس في داخل النصّ أو خارجه أو قرينة سياقيّة أو حالية.. تفرض التخصيص بالعقود المعهودة، فمقتضى ظهور اللفظ هو الاستغراق لمطلق ما هو عقد بنحو القضيّة الحقيقية، بل على حدّ تعبير المحقّق المراغي: إنّ عدم تعارف الوجود لا يضرّ بدلالة العام([41]).
ثانياً: ما ذكره السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب وغيره، حيث رأى أنّ المراد من العقود في الآية الكريمة مطلق العهود الأعمّ من التكاليف الإلهية وتلك التي بين الخلق والخالق كالنذر، والعهود التي تكون بين المخلوقين أنفسهم([42])، وبهذا لا يؤثر السياق في دلالة الآية الكريمة على الشمول لمطلق العقد الواقع بين الناس، وبعبارة أخرى: إنّ تعبير حليّة البهائم الوارد في الآية الكريمة قرينة على شمول الآية للتكاليف لا على اختصاصها بالتكاليف، والروايات التي فسّرت العقد هنا بالعهد مع الله واردة من باب الجري والتطبيق فلا موجب لتخصيصها([43])، فنضمّ هذه المناقشة إلى سابقتها ويثبت المطلوب، بعد افتراض أنّ العقديّة التي بيننا وبين الله هي عقديّة فطريّة أثبتها النصّ الديني، وإلا فقد يدّعي شخصٌ أنّ كلّ فردٍ منّا لا يعلم أنّه أوقع هذا العقد ـ بالغاً عاقلاً ـ مع الله سبحانه، كما نوقع العقود فيما بيننا وبين بعضنا.
وقد واجه السيد اليزدي هنا مشكلةً، وهي أنّ المواثيق التي بين الإنسان وربّه بعضها ليس على نحو الوجوب، وكذلك الحال في المواثيق والعقود التي بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ لأنّ منها ما هو جائز وليست كلّها من العقود اللازمة، فإذا اعتقدنا بإطلاق الآية فسوف يفضي ذلك بنا إلى الإلزام بالعقود الجائزة وبالمستحبات أيضاً، وهو واضح الفساد.
وحاول المحقّق اليزدي هنا الخروج من هذه المشكلة بإثارة احتمالين:
أحدهما: جعل الأمر في الآية على نحو الوجوب، مع الالتزام بخروج العقود الجائزة وكذا المستحبّات بالتخصيص.
ثانيهما: جعل الأمر في الآية الكريمة للجامع بين الوجوب والندب ـ على خلاف ظاهره ـ مجازاً. إلا أنّ ذلك يسقط الاستدلال بهذه الآية الكريمة في أبواب المعاملات. ومن هنا رجّح السيد اليزدي الاحتمال الأوّل؛ انطلاقاً من ترجيح التخصيص على المجاز.
ثم رفض السيّد اليزدي القول بالخروج بالتخصّصي للمستحبّات، على أساس أنّ العقود أخذ فيها مفهوم التوثيق الشديد، وهو مفهوم لا وجود له في المستحبّات، وعلّل المحقّق اليزدي رفضه هذا بعدم إحراز أخذ التوثيق في العقود، مضافاً لشمول هذا الإشكال للعقود الجائزة، فيلزم منه عدم إمكان التمسّك بالآية الشريفة عند الشك في كون العقد لازماً أو جائزاً([44]).
إلا أنّ كلّ المشكلة التي أثارها السيد اليزدي يمكن الجواب عنها، بصرف النظر عن كلّ ما تقدّم، وذلك أنّ الأمر بالوفاء بالعقود إما منصرفٌ عن المستحبّات والعقود الجائزة عرفاً، أو هو ثابت بنحو الوجوب على الإطلاق، غاية الأمر أنّ الوفاء تابعٌ لمضمون العقد، فعقد البيع يكون وفاؤه بتسليم الثمن إلى البائع مثلاً، أما عقد الصلاة الواجبة ـ إذا صحّ التعبير ـ فيكون وفاؤه بإقامتها أو أدائها وهكذا. وفي المستحبات جاء العقد متكوّناً من شقّين: الرغبة في الفعل وتسليم العبد لهذه الرغبة، وكذلك الرخصة في عدم الفعل وتسليم العبد لهذه الرخصة، فإذا ألزمنا العبد بفعل المستحبّ بمقتضى الوفاء بالعقود، كان معنى ذلك نقض مقتضى العقد نفسه؛ لأنّ إمكانية عدم العمل جزءٌ من هذا العقد بين العبد وربّه. وكذلك الحال في العقود الإذنيّة والجائزة، فإنّ الالتزام بها لا ينافي الفسخ؛ لأنّه جزء من العقد، فهذا مثل الأمر بإطاعة الله ورسوله في شموله للمستحبّات، فالجواب هناك هو الجواب هنا: إما القبول بشموله مع اعتبار فسخ العقد الجائز أو ترك المستحب غير مناقض للوفاء بأصل العقد، أو ـ وهو قريب أيضاً ـ انصراف الدليل عن مثل المستحبّ والعقد الجائز؛ لعدم تحمّل بُنيتهما لمفهوم لزوم الوفاء بالعقود، فلا حاجة لافتراض التخصيص ولا المجاز ولا غير ذلك.
واللطيف أنّ السيد اليزدي نفسه ذكر في موضع آخر أنّ معنى الوفاء قد يكون هو العمل بمقتضى العقد، إن جائزاً فجائز وإن لازماً فلازم([45])، ولعلّه يقصد عين ما بيّناه هنا.
من هنا يتضح وجه استدلال بعض المتأخّرين، كما ذكرنا سابقاً، بمثل آية الوفاء بالعقود لكلّ عقدٍ جديد.
المناقشة الثانية: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ ماهيات العقود كلّها ترجع حصراً ـ مهما زادت واستجدّت ـ إلى العقود المتعارفة، وهذا من قبيل تقييد الصغرى لتحديد الكبرى، وتقريبه أنّ التعاوض والتعاقد إما أن يكون على جوهر أو عرض، فإن كان على جوهر فهو بيع أو صلح، وإن كان على عرض فهو إما عرض بلحاظ ثباته، أي المنفعة كوصفٍ للعين، فهي الإجارة أو الجعالة، أو المنفعة لا كوصفٍ ثابت، بل بما هي متجدّدة، وهو الانتفاع كالعارية وهكذا.. فدعوى وجود ماهيات جديدة لا معنى لها؛ لأنّ كلّ ما هو جديد يرجع إلى العقود المتعارفة ولو بنحو التلفيق بينها، بل بعض العقود المتعارفة بنفسه يرجع إلى بعضها الآخر كالمضاربة، فإنها ليست عقداً مستقلاً، بل مركّبة من عدّة عقود، فأمّهات العقود معدودةٌ، والبقيةُ مؤلّفة منها.
وقد أجاب صاحبُ هذه المناقشة بأنّ الحصر العقلي غير مسلّم، ولو سلّم فهو لموارد العقود لا لنفس العقود، وفرقٌ بينها([46]).
وهذه المناقشة تحاول أن ترجع العقود كافّة إلى العقود المتعارفة، والمفترض بها إذاً أن تصحّح العقود الحادثة جميعها، لكنّها تغدو مناقشةً نقديّة في المقام إذا لاحظنا أنّها تفرض علينا ـ أولاً ـ تخريج كلّ عقدٍ جديد بإحالته لعقد متعارف كي نرتّب آثاره عليه، وتمنع ـ ثانياً ـ من فهم الإطلاق أو العموم من آية الوفاء بالعقود، ولهذا جعلناها مناقشةً هنا.
وهذا الكلام كلّه قد يعلّق عليه بتعليق منهجي، وهو أنّ الشارع عندما نظر إلى العقود المعهودة، هل نظر إليها كما ينظر العرف، أم أنه نظر إلى بُنيتها المعامليّة المخضَعة للتحليل والتفكيك؟ فهل قرأ المزارعة مثلاً على أنها عقدٌ مستقلّ مغاير للشركة أو الإجارة، أم تعامل معها ـ عندما كان يضع القوانين المعامليّة ـ بوصفها عقد إجارة أو عقد شركة؛ لأنه يمكن إرجاعها بالتحليل إلى عقد شركة أو إجارة؟
مقتضى الكلام المتقدّم أنّ الشارع ناظرٌ إلى البنى التحليليّة لمضمون المعاملة، لا إلى التلقّي العرفي والعقلائي العام لها، فالعقلاء ـ مثلاً ـ لا يجعلون المزارعة شركةً أو إجارة، بل يفهمونها عقداً مستقلاً عن سائر العقود، فلو سمعوا المولى يقول: عقد الإجارة صحيح، فمن غير المعلوم أن يفهموا منه تصحيح عقد المضاربة؛ لأنّ عقد الإجارة في ذهنهم العقلائي ينصرف إلى الإجارات المعروفة التي لم يخصّص لها العقلاء تسميةً خاصّة إضافيّة لا توحي بإجاريّتها، حتى ولو استطاع الفقيه والقانوني تحليلَ عقد المضاربة بما يرجعه إلى إجارة، ولهذا لو شرط معلوميّة مقدار الأجرة في الإجارة، فهو لا يرى ذلك معارضاً لما دلّ على جواز المضاربة أو المزارعة التي لا يُعلم بها مقدار نصيب العامل من الربح حال العقد، بل يراهما ظاهرتين مستقلّتين على مستوى التلقّي العقلائي العام.
ولو استطعنا إثبات أنّ العقلاء يفهمون المضاربة مثلاً على أنّها شكل من أشكال الشركة فلا بأس بذلك، لكنّ هذا غير أن نقول بأنّه يمكن بالتحليل إرجاع المضاربة إلى شركة، فإنّ الإمكان التحليلي هذا لا يعني بالضرورة تلقّي العقلاء بفهمهم العام لمضمونه حتى لو كان صحيحاً واقعاً.
نعم، من الممكن أن يرتّب الشارع أحكاماً على خصوصيّةٍ ما نجدها متوفّرةً في عدّة عقود دون عقودٍ أخرى، فيكون ترتيب الأثر ـ بحسب الملاك عنده ـ منصباً على تلك الخصوصيّة، وهذا غير ترتيبه الأثر بعنوان الإجارة، فإنّ العرف لا يفهم الشمول لعقد آخر، حتى لو حلّلناه بما يرجع لعقد إجارة، مادام له في الذهن العقلائي اعتباره الخاص.
والمرجع في ذلك هو أنّ هذه العقود وآثارها اعتبارات قانونيّة، فكما يمكن للمقنّن أن يلاحظ البُنية التحليليّة للمعاملة ويشرعنها ويرتب الأثر عليها أينما كانت، ولو ضمن عقد آخر باسمٍ آخر، كذلك من الممكن له أن يلاحظ ما يراه العقلاء إجارة ولا يعتبرونه عقداً آخر كالمساقاة مثلاً، فيرتب الأثر على هذا العنوان.
ولعلّ ما يؤيّد ما نقول أنّه بالإمكان إرجاع كثيرٍ من العقود لغيرها وبالعكس، الأمر الذي قد يخلق فوضى في الأحكام وتعارضاً في النصوص والفتاوى، كأن نجعل، من باب مجرّد التمثيل، الوقفَ ـ بناءً على عقديّته ـ معاملةً بيعيّة مع الله تعالى، وحيث يفترض معلوميّة العوض فيبطل مع عدم العلم بمقدار الثواب الذي سيعطينا إياه الله تعالى وهكذا. بل بعض العقود والمعاملات تصلح لأنّ تُصوّر بأكثر من تصوير، بما يُرجعها لأكثر من نوع من العقود، وهنا لو صحّت هذه الطريقة في المعالجة للزم ترتيب آثار عقدين على عقدٍ واحد، ولا أظنّ أن يُلتزم بذلك.
فالأقرب أنّ الشارع سار على اعتبارات العقلاء ورتّب الأحكام عليها، فلا قيمة لكلّ هذه الإرجاعات، بل رجوع بعضها إلى بعض كما ذكره المناقش هنا دليلٌ على صحّة ما نقول. وهذا أمرٌ لا نجزم به الساعة بقدر ما نثيره للتأمّل والتفكير.
المناقشة الثالثة: ما ذكره السيد كاظم الحائري، من أنّه قد يقال بأنّ أدلّة الوفاء بالعقود وأمثالها خاصّة بالدلالة على اللزوم، ولا معنى للزوم العقد إلا بعد فرضه صحيحاً، فتكون خاصّة بما ثبت صحّته في المرحلة السابقة، ولا يمكن بها تصحيح العقود التي لم يثبت بدليل آخر صحّتها. بل يمكن القول بأنّه لو قيل بأنّ أسامي المعاملات ثابتة للأعم من الصحيح والفاسد لصحّ الاستدلال، ولو كانت ثابتة لخصوص الصحيح لم يصحّ، فيكون التمسّك بالعام هنا من التمسّك به في الشبهة المصداقيّة، وهو لا يجوز([47]).
وقد أجاب السيد الحائري عن ذلك بأنّ انعقاد العقد ليس إلا عبارة عن ارتباط قرار بقرار، سواء نفذ شرعاً أو عرفاً أم لا([48]). وكلامه صحيح ـ دون أن نطيل في مسألة دلالة آية الوفاء على الصحّة أو على لزوم ما هو صحيح، ودون أن نتوسّع في القول بأنّ الدلالة على اللزوم بالمطابقة تعطي الدلالة على الصحّة بالالتزام، لا أنّها تفرض الصحّة، وفرقٌ بينهما ـ وذلك أنّ المهم هو صدق العنوان المأخوذ في الآية الكريمة، وهو عنوان العقد، والعرف والعقلاء يرون ذلك عقداً، سواء حكموا بصحّته أم لا، فلا يتوقّف صدق عنوان العقد على تصحيحه في المرحلة السابقة، ولمّا كان عنوان العقد والبيع والشرط وغير ذلك مما هو مأخوذ في ألسنة النصوص العامّة من هذا النوع، فيكفي فيه صدقه، فلا يناقش أحد في أنّ التأمين عقد، حتى لو أبطله العقلاء لخصوصيّة معينة، أو لم يصحّحه الشارع كذلك.
والنتيجة أنّ الدليل الأوّل ـ وهو وجود العمومات والمطلقات الشاملة لكلّ عقد ولو ذاك الحادث الجديد ـ تامّ وجيّد في إفادة المطلوب.
الدليل الثاني: أن ندّعي ـ ولعلّ هذا هو ما أراده العلامة مغنية، وفقاً لما أسلفناه ـ أنّنا لسنا بحاجة لعمومات الوفاء بالعقود وأمثالها، بل يكفي سكوت الشارع؛ وذلك أنّ السيرة العقلائية جارية منذ بدء الخلق على اختلاق معاملات كلّما تطوّرت بها الحياة، وأنّ الشارع على علمٍ بهذه التطوّرات، وأنه يعلم بأنّه بعد عصر النص ستظهر معاملات جديدة في حياة العقلاء، فسكوته عن هذه الاعتبارات القانونية إمضاءٌ لها، فهو لا يمضي العقود المعهودة، بل هو يمضي نكتة العقديّة التي يستعين بها العقلاء لتسهيل مهمّات تعاملهم فيما بينهم. ونظام التشريع الإسلامي في باب المعاملات نظامٌ إمضائي، فلم يؤسّس الشرع للبشر معاملات جديدة، وإنما نظر إلى التجربة البشريّة ووضع ما يعتبره المحاذير والموانع والمحرّمات والضوابط، تاركاً كلّ العمليّات الاقتصادية على حالها.
ويشهد لذلك أنّ تسعةً وتسعين في المائة من أحكام المعاملات الماليّة تكمن أدلّتها إما في العمومات أو في الارتكازات العقلائيّة أو في النصوص الخاصّة الموافقة للعمومات والارتكازات أو في بعض التعديلات الجزئية، كما يلاحظ بمراجعة كتب الاستدلال الفقهي، لاسيما عند المتأخّرين.
من هنا يقال بأنّ الشارع أمضى النهج العقلائي في باب المعاملات، وليس واقع التجربة الزمنيّة المعاصرة لزمن النصّ فقط، وترك للعقلاء الحريّة في تنظيم حياتهم ومعاملاتهم الاقتصادية، غاية الأمر أنّه وضع مجموعةً من الضوابط الأخلاقيّة والشرعيّة كحرمة الربا وأكل المال بالباطل ونحو ذلك مما ليس بالقليل، الأمر الذي يُفهم منه أنّ أيّ معاملة يقوم بها العقلاء (والعقد شريعة المتعاقدين) هي شأنٌ راجعٌ إليهم، وأنّ الشارع يتمركز غرضه في عدم تخطّي تلك الحدود والمحاذير والمعايير، لا في النظر في وضع العقود وتفاصيلها، وبهذا البيان يتمّ تخطّي مسألة الاعتماد على أصالة الفساد الأوّلية.
ولعلّه يمكن تسمية مقتضى هذا الدليل باتجاه عدم توقيفيّة العقود، في مقابل القول بتوقيفيّتها، وهو ـ أي التوقيفيّة ـ تعبير مستخدم في بعض الكلمات([49]).
خلاصة واستنتاج
قد ظهر أنّ الفقه الإسلامي كان يتعاطى لمدّة طويلة في مجال التعامل مع العقود والمعاملات بذهنيّة التوقيف، وأنّ النصوص المصحّحة لهذه العقود خاصّة بتلك التي كانت زمن النصّ، بينما أخذ الفقهاء المتأخّرون ـ ومنهم السيد اليزدي والسيد الخوئي وغيرهما ـ ينحون ناحية أصالة الصحّة في العقود مطلقاً القديم منها والحادث، وهذا ما يؤدّي بطبيعته إلى فسحة واسعة من مجال تصحيح المعاملات الجديدة شرط عدم منافاتها للشريعة الإسلاميّة في ذاتها أو في بندٍ من بنودها.
وما نفهمه بنظرنا القاصر هو صحّة منهج المتأخّرين، بل نميل جدّاً إلى ما طرحه العلامة مغنيّة، من أنّ الشريعة ومنهجها العام في التعامل مع قضايا المعاملات لم تقم على إبداء نظر في العقود والاقتصاديات بقدر قيامها على وضع الضوابط والمحاذير والموانع والتوجيهات العامّة، كما يفيده استقراء النصوص في هذا المضمار، فإذا تمّت مراعاة حرمات الله وحدوده المعيّنة، فإنّ شأن التوافقات شأنٌ بشريّ قامت عليه حياة العقلاء فتترتّب عليها ما يرتّبه العقلاء عليها، ممّا لا ينافي الشرع الحنيف.
_______________
([1]) نشر هذا المقال في العدد 66 من مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام، عام 2012م، ثم نشر في المجلد الرابع من كتاب دراسات في الفقه الاسلامي المعاصر، للمؤلف، وذلك عام 2013م.
([2]) راجع: إيضاح الفوائد 2: 298؛ وجامع المقاصد 7: 392 ـ 393؛ وجواهر الكلام 27: 93؛ والحدائق الناضرة 21: 392؛ والروضة البهيّة 4: 320 ـ 321؛ ومسالك الأفهام 5: 71.
([3]) انظر: الهاشمي، بحوث في الفقه الزراعي: 369 ـ 370.
([4]) البهبهاني، حاشية مجمع الفائدة والبرهان: 428 ـ 429، وانظر: المصدر نفسه: 482.
([5]) انظر: رياض المسائل 8: 591.
([6]) جواهر الكلام 22: 212 ـ 213.
([7]) انظر: جواهر الكلام 22: 248، 250، 275، و23: 233 ـ 234، و26: 161، 170، و27: 59.
([8]) فقه الإماميّة (الخيارات): 376.
([9]) كتاب الإجارة: 253.
([10]) كتاب الإجارة: 10.
([11]) قطرات من يراع بحر العلوم وشذرات من عقدها المنظوم (كتاب الوقف): 5.
([12]) اللاري، التعلیقة على المکاسب 1: 317، 444، 447.
([13]) المصدر نفسه 2: 334.
([14]) مستند تحرير الوسيلة 2: 7.
([15]) انظر: جامع الشتات 2: 356.
([16]) راجع: المصدر نفسه 4: 463.
([17]) المناهل: 149.
([18]) انظر: غاية الآمال (ط. ق): 338.
([19]) اليزدي، حاشية المكاسب 1: 81.
([20]) الإيرواني، حاشية المكاسب 1: 85.
([21]) انظر: منية الطالب 3: 224ـ 225.
([22]) مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق× 3: 14؛ وانظر: المصدر نفسه 4: 45، 64 ـ 65، 107، 194.
([23]) انظر: كتاب البيع 1: 113، 264، 324.
([24]) الخوئي، التنقیح في شرح المکاسب ـ البیع (موسوعة الإمام الخوئي) 36: 220؛ وانظر له: شرح العروة ـ الإجارة 30: 402؛ ومصباح الفقاهة 2: 315.
([25]) إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب 4: 49.
([26]) انظر: بحوث فقهية هامة: 367.
([27]) انظر: مهذب الأحكام 20: 126.
([28]) المنتظري، دراسات في المكاسب المحرّمة 1: 35 ـ 37.
([29]) الإصفهاني، نخبة الأزهار: 35.
([30]) انظر: بحوث في الفقه الزراعي: 95، 227، 370 ـ 371؛ وقراءات فقهية معاصرة 2: 305.
([31]) انظر: فقه المصارف والنقود: 205، 394، 452 ـ 453.
([32]) راجع: بحوث فقهية مهمّة: 255، 256.
([33]) انظر: فقه المضاربة 3: 29.
([34]) منهاج الفقاهة 3: 213.
([35]) انظر: تكملة حاشية ردّ المحتار 2: 362.
([36]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: اليزدي، العروة الوثقى 5: 160؛ ومحمود الهاشمي، كتاب المضاربة: 16.
([37]) مباني العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 31: 8.
([38]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: محمود الهاشمي، كتاب المضاربة: 22 ـ 28.
([39]) انظر: المراغي، العناوين 2: 14.
([40]) انظر: الإصفهاني، نخبة الأزهار: 35.
([41]) المراغي، العناوين 2: 15.
([42]) اليزدي، حاشية المكاسب 2: 3؛ والطباطبائي، الميزان 5: 157 ـ 158.
([43]) كاظم الحسيني الحائري، فقه العقود 1: 208 ـ 209.
([44]) حاشیة المكاسب 2: 3.
([45]) راجع: العروة الوثقى 6: 201.
([46]) انظر: محمد سند، فقه المصارف والنقود: 444، 445.
([47]) انظر: الحائري، فقه العقود 1: 209، 212.
([48]) انظر: المصدر نفسه 1: 209 ـ 210، 213.
([49]) انظر: الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 259؛ والجزائري، التحفة السنيّة: 272؛ والأنصاري، المكاسب 3: 130؛ والمروّج، هدى الطالب 2: 370؛ والقمّي، جامع الشتات 2: 307، وغيرهم.