hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

حكم الحاجب في الطهارة

تاريخ الاعداد: 11/13/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
249911
التحميل

حيدر حب الله([1])


1 ـ الرأي المعروف في ضرورة رفع الحاجب (القول بالإطلاق)

من الواضح أنّ مسألة رفع الحاجب في الطهارة، مثل الوضوء والغسل، من القضايا الفقهية التي يبتلي بها المكلّفون، حتى أنّ الكثير من أصحاب الأعمال والمهن تكاد تكون قضيةً يوميّة بالنسبة إليهم. وقد رأيت أنّه نظراً لأهمية هذا الموضوع ووجود بعض الطروحات المتأخرة حوله لا بأس بالتعرّض له هنا.

وفي هذا السياق، نحن نعرف أنّ المطلوب في الوضوء والغُسل هو إجراء الماء وتمريره على الجسد أو على مواضع الوضوء من الغَسل والمسح، والمعروف بين الفقهاء ضرورة وصول الماء إلى ظاهر البشرة بأكملها بحيث لو شذّ ولو مقدار بسيط كرأس إبرة لم يصحّ الوضوء ولا الغسل ووجبت الإعادة؛ بل قد يترتّب على ذلك وجوب إعادة الصلوات ونحوها.

ومن ضرورة وصول الماء إلى البشرة، حكم الفقهاء بلزوم رفع الحاجب المانع عن وصولها مهما كان، وقالوا بأنّ الحاجب ـ سواء كان متصلاً ملتصقاً بالبشرة كالصبغ أم منفصلاً عنها كالسوار ـ تجب إزالته مطلقاً.

ولم يقف الأمر هنا، بل حكموا ـ وفقاً للقاعدة ـ بأنّه لو شك في حاجبية شيء موجود على أحد أعضاء الوضوء أو الغسل ولم يدرَ هل هو حاجب أم لا؟ وجب رفعه؛ لأنّ الحكم هو لزوم إيصال الماء إلى أعضاء الوضوء والغسل، ولا يحرز ذلك إلا برفع هذا المشكوك الحاجبية؛ إذ مع الشك في حاجبيته يشك في وصول الماء إلى البشرة، والحكم ليس هو رفع الحاجب بل وصول الماء، واستصحاب عدم الحاجب لا يثب وصول الماء إلا بأصل مثبت، وهو لا يُثْبِت عندهم.

 

الإلزام برفع الحاجب مطلقاً، الأدلّة والشواهد

ولابد لنا من استعراض أدلّة المشهور بين المتأخرين ـ بعد استبعاد دليلي الإجماع والشهرة لوضوح المدركية فيهما لو تمّا صغروياً ـ وأهم ما ذكروه على ذلك الأدلّة التالية:

 

1 ـ 1 ـ مستند العمومات والمطلقات، نقد وتحديد

الدليل الأول هنا هو الاستناد إلى العمومات والمطلقات الآمرة بالوضوء والغسل والمحدّدة لمواضعهما، فإنّ هذه العمومات والمطلقات تدلّ مثلاً على لزوم غسل اليد من المرفق إلى أطراف الأصابع، وهذا معناه لزوم إيصال الماء إلى تمام أجزاء اليد حتى يصدق غسلها، إذ لو بقي مقدار بسيط جداً من اليد أو الوجه أو نحوهما لم يصل إليه الماء لصحّ سلب الغسل أو المسح عنهما، فلا يقال: مسح رجله أو غسل يده لو كان قد بقي مقدار غير مغسول، وإنما يقال: غسل بعض يده أو مسح بعض رجله، فصحّة السلب وعدم صحّة الحمل دليل واضح على لزوم رفع كلّ الموانع دون وصول الماء إلى تمام أجزاء مواضع الوضوء والغسل([2]).

إلا أنّ هذا الكلام غير واضحٍ على إطلاقه؛ لأنّ المرجع في صدق عنوان الغسل أو المسح ليس هو العقل الدقّي وإنما هو العرف، ومن الواضح أنّ العرف هنا يميّز بين المقدار الكثير الذي لم يصله الماء في أعضاء الغُسل أو الوضوء والمقدار القليل، فلو أنّ المكلّف لم يغسل نصف يده اليمنى في الوضوء فلا يصدق عرفاً أنه غسل يده اليمنى، أما لو غسلها لكن بقي مقدار رأس الإبرة أو ما شابه من بقعة صغيرة جداً في مكانٍ ما من اليد فإنه يقال عرفاً بأنه غسل يده، ولا يلتفت العرف إلى هذا المقدار البسيط، وليس المرجع هنا هو العقل الدقيق الفلسفي حتى يقال بصحّة السلب وعدم صحّة الحمل.

وقد حاول بعض الفقهاء المعاصرين الجواب عن هذا الكلام في الاستدلال، بالتفصيل بين الحاجب المنفصل والمتصل، فإنّ المنفصل ـ من السوار والخاتم ـ لا يصدق غسل اليد معه عرفاً، بخلاف غسل مثل اليد التي عليها بعض الطلاء أو الدهان فإنّ العرف في الحالة الأولى يرى أنّ هناك يداً وسواراً فيميّز بينهما فلا يصدق معه غسل اليد كلّها، بخلاف الحالة الثانية فإنّه ليس في البين إلا يدٌ مصبوغة أو مطلية([3]).

ويظهر منه أنّه يفهم من النصوص الروائية أنّ الحاجب المانع هو الحاجب المنفصل دون المتصل الملحق بالبشرة عرفاً، بلا فرق بين كون الحاجب المتصل كثيراً أو قليلاً، وكذلك المنفصل، وسيأتي التعليق على ذلك لاحقاً إن شاء الله، وأنّ عليه بعض الملاحظات.

وما ذكرناه من فهم الغسل والمسح فهماً عرفياً، يبدو أنّ هناك من مال إليه من الفقهاء، قال المحدّث البحراني: «ويظهر من بعض فضلاء متأخري المتأخرين الميل إلى العمل بظاهر الخبرين المذكورين من عدم الاعتداد ببقاء شيء يسير لا يخلّ عرفاً بغسل جميع البدن إما مطلقاً أو مع النسيان لو لم يكن الإجماع على خلافه، ثم قال: لكنّ الأولى أن لا يجترأ عليه»([4])، وأغلب الظنّ أنّ مراده المحقّق الخوانساري صاحب مشارق الشموس([5]).

 

2 ـ 1 ـ مستند الأحاديث الخاصّة، وقفات وتعليقات

ثاني الأدلّة هنا هو الروايات الخاصّة، وهي تارةً تتكلّم في الحاجب المنفصل وأخرى عن المتصل، ولا بدّ لنا من استعراضها جميعاً، ثم ذكر الأخبار المعارضة لها، وهي:

1ـ صحيحة عليّ بن جعفر، قال: سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها، لا تدري يجري الماء تحته أم لا، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال: «تحرّكه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه»، وعن الخاتم الضيّق لا يدرى هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا، كيف يصنع؟ قال: «إن علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ»([6]).

وهذه الرواية تامّة من حيث السند، وهي تدلّ على لزوم تحريك الحاجب بحيث يصل الماء إلى البشرة؛ فإنّ التركيز في السؤال والجواب كان حول جريان الماء تحت الخاتم والسوار، فليس هناك جانب تعبّدي في الموضوع بقدر ما الهدف هو إيصال الماء إلى البشرة.

نعم، هذه الرواية تتحدّث عن حاجب بمقدار السوار والدملج الذي هو شيء تضعه المرأة في يدها كالسوار وهو المعضد من الحليّ، وهذا القدر من الحاجب من الواضح أنه يضرّ عرفاً بصدق غسل اليد، لاسيما إذا افترضنا أن تحديد حجم الخاتم المتعارف أو السوار المتعارف في زمان صدور الرواية صعب، فقد يكون السوار كبيراً من حيث العرض وكذا الدملج والخاتم بحيث يغطّي مساحة معتدّ بها لا يصدق معه عرفاً غسل اليد، ويكفي حال الشك هنا؛ لأنّ السؤال والجواب لم ينصبّان على مطلق الخاتم والسوار، بل على ما هو المتعارف عادةً في تلك الأزمنة، ومع الشك نبقى مع ظاهر العمومات والمطلقات التي لا تطالبنا بأزيد من صدق الغسل والمسح عرفاً.

ولو لم يُقبل هذا الكلام فلا أقلّ من أنّ الرواية خاصّة بالحاجب المنفصل، وسيأتي مزيد تعليق إن شاء الله.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الرواية في مقطعها الثاني تلزم بإخراج الخاتم إذا علم المكلّف أنّ الماء لا يدخل تحته، وهذا ما يفهم منه أنه لو لم يحصل له علم بذلك بحيث شك في وصول الماء معه وعدمه لم يجب النزع، وكأنّ المانع هو العلم بعدم وصول الماء إلى البشرة معه، مع أنّ السؤال الأول وجوابه ظاهران في لزوم تحريك السوار حتى في حال الشك في الحاجبية، ودلالة المقطع الأول أقوى ظهوراً؛ لتقدّم المنطوق على المفهوم، بل صيرورته مع الاتصال مانعاً عن ولادة المفهوم نفسه، فيلتزم بها في هذه الرواية.

2ـ صحيحة الحسين بن أبي العلا، قال: سألت أبا عبد الله× عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال: «حوّله من مكانه»، وقال في الوضوء: «تديره وإن نسيت حتى تقوم في الصلاة، فلا آمرك أن تعيد الصلاة»([7]).

وهذه الرواية ظاهرة أيضاً في لزوم تحريك الخاتم، إلا أنها لا تطالب بإعادة الصلاة على تقدير النسيان، فيؤخذ بها في هذا المورد، كما لم يستبعده المحقّق الخوانساري([8]). وإن اعتبره السيد الطباطبائي خبراً شاذاً لابدّ من طرحه([9]). لكنّ اعتباره في غير محلّه كما سيظهر من مطاوي ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وحمله المحقّق النجفي على حالة عدم إحراز وصول الماء معه، لا إحراز عدم الوصول([10])، كما حمله الشيخ الأنصاري على الخاتم الواسع، محتملاً كون مورده هو الشك بعد الفراغ([11]).

والجواب عن الاستدلال بهذا الحديث هو عينه الجواب عن الحديث المتقدّم من حيث الدلالة فلا نعيد.

3ـ صحيحة زرارة، قال: قلت لأبي جعفر×: ألا تخبرني من أين علمت، وقلت: «إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين»؟ فضحك، وقال: «يا زرارة، قاله رسول الله$ ونزل به الكتاب من الله؛ لأنّ الله عز وجل قال: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام (الكلامين)، فقال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾، فعرفنا حين قال: ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ أنّ المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء، ثم..»([12]).

فإنّ هذا الخبر صريحٌ في لزوم غسل كلّ الوجه وكلّ اليدين، وهو يؤيّد ما فهمه السيد الخوئي من المطلقات والعمومات من حيث إلزامها باستيعاب الغسل لكلّ الجزء المغسول، ويظهر من السيد فضل الله موافقة السيد الخوئي على ذلك من حيث المبدأ([13]).

إلا أنّ هذه الرواية غير ناظرة إلى ما نحن فيه، فإنّ الكلّية الواردة فيها إنما جاءت في مقابل البعضية المأخوذة في باب المسح على الرأس والرجلين، لا في مقابل الحاجب بلا فرق بين اللاصق وغيره، فإذا تمّ غسل بعض اليد كما لو غسل من وسط الذراع إلى أطراف الأصابع فهذا مرفوض؛ لأنّ الآية ظاهرة في الكلّية من المرفق إلى أطراف الأصابع، أما عندما يمسح بعض رأسه، وهو مقدّم الرأس مثلاً، فيصدق مسح الرأس؛ لأنّ الكلية ليست مرادة بل البعض هو المراد، فالكلية هنا وقعت في مقابل هذه البعضية، ولا نظر لها إلى لزوم رفع مقدار رأس أبرة أو غسل كلّ اليد لكن مع وجود بعض الحاجب فيها، بلا نظر إلى المتصل والمنفصل، فهذه الرواية أجنبية عن مورد بحثنا، لكونها في مقام بيان مقدار العضو المغسول والممسوح أولياً لا رفع الحاجب عنه.

4ـ صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال: «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: أبقيت لمعةً في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت، ثم مسح تلك اللمعة بيده»([14]).

حيث يقال بأنّ ظاهر هذا الخبر أنّ مقدار لمعة لم يصل إليه الماء يوجب بطلان الغسل، ولذا استدرك الإمام فمسح هذا المقدار، وهذا يستبطن أن لو كان هناك حاجب بهذا المقدار لم يصل إليه الماء لاستدعى الأمر الحكم نفسه، فيدلّ على لزوم إيصال الماء إلى البشرة كاملاً، وهذا ما يدعم فهم مثل السيد الخوئي للمطلقات والعمومات.

إلا أنّ الصحيح أنّ هذه الرواية يصعب الاستناد إليها، وذلك:

أولاً: على مبنى العلامة فضل الله ـ وكذلك على مبنانا ـ لا يرد هذا الاستدلال أساساً؛ لأنه يعتقد بأنّ الحاجب اللاصق لا يمنع من صدق الغسل أو المسح عرفاً، فهو يفترض جريان الماء على الحاجب غايته أنّ حيلولته دون الوصول إلى ما تحته لا يضرّ، وأين هذا من عدم وصول الماء أساساً إلى الجسد؟! والتمييز بينهما عرفاً واضح.

ثانياً: أما بصرف النظر عن مبنى السيد فضل الله، فإنّ الرواية تحكي عن عدم وصول الماء إلى مقدار لمعة، واللمعة مفهوم غير محدّد بدقّة، وإنما يعني بقعة صغيرة في الظهر، ونحن نعرف أنّ البقعة الصغيرة لا ترى عادةً إلا إذا بلغت مقداراً بحيث يمكن للناظر أن يلاحظها كحجم الكفّ أو أقلّ بقليل، ولا يمكن أن ترى لو كانت بمقدار النقطة أو أزيد بقليل، والرواية تحكي عن حدث، وليس فيها إطلاق لفظي، إذاً فنحن لا نعرف مقدار اللمعة التي ظهرت للناظر في جسد الإمام فقد تكون بمقدار يخلّ عرفاً بغسل كلّ الجسد، فلا يصحّ الاستناد إلى هذا الخبر هنا.

ثالثاً: إنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية أنّ الإمام مسح بعد اطّلاعه على عدم وصول الماء إلى اللمعة، وهذا لا يدل على الوجوب؛ لاحتمال كونه مستحباً، لاسيما وأنه لم يغسل هذا المقدار وإنما مسح عليه كما هو صريح الرواية، فلعلّه اكتفى بذلك لأجل الاستحباب لا لوجود وجوب في المقام، والفعل دليلٌ صامت.

علماً أن الشخص الثاني الذي أعلم الإمام بمقدار اللمعة لعلّه لم يتكلّم بملاحظة غسل الجنابة إذ أنّى له أن يعرف بجنابة الإمام؟ وهل كان الإمام يخبر أنه على جنابة؟ فلعلّه أعلم الإمام من باب مطلق الغسل أو لعلمه بأنّ الإمام لا يترك غسلاً ولو مستحباً عند كلّ دخول إلى الحمام.

5ـ موثقة عمار الساباطي، عن أبي عبد الله×، عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز له أن يجعل عليه علكاً؟ قال: «لا، ولا يجعل عليه إلا ما يقدر على أخذه عنه (منه) عند الوضوء، ولا يجعل عليه ما لا يصل الماء إليه»([15]).

فهذا الخبر واضح في ضرورة رفع الحاجب بما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء، بل إنّ العلك جسم لاصق، فيصلح هذا الخبر دليلاً على لزوم رفع الحاجب اللاصق أيضاً.

وقد يناقش أولاً: بما ذكره السيد فضل الله، من أنّ العلك شيء خارجي يوضع على القدم، ويشهد على أنّ الرواية تريد ذلك تعبيرها: «إلا ما يقدر على أخذه»، فإنها ترشد إلى العلك المتحرّك لا اللاصق، وهذا ما يجعل مورد الرواية هو الموانع الخارجية أو الحاجب المنفصل دون المتصل، والمفروض الالتزام بالمنع عن الحاجب المنفصل، فلا تدلّ الرواية على المنع عن الحاجب المتصل كالأصباغ، فإنّ هناك فرقاً بينها وبين العلك([16]).

إلا أنّ هذا التوجيه غير واضح، فإنّ جملة: «إلا ما يقدر على أخذه»، لا تعني كون الحاجب منفصلاً في مورد الرواية، وإنما يريد الإمام أن يبيّن أنّ وضعك للعلك يجب أن لا يضرّ بإمكانية الوضوء في وقته، فهذا الجسم الذي تضعه مكان الظفر المقطوع أو المقلوع يفترض أن يكون بحيث تتمكّن من إزالته عند الوضوء، أما لو لم تتمكّن من إزالته عند الوضوء لشدّة التصاقه بحيث يحتاج إلى مرور وقت ليمكن ذلك أو لأنّ في قلعه حال الوضوء مشقة أو ضرراً أو نحو ذلك، فهنا لا يجوز لك وضعه من الأساس، وهذا لا يعني التمييز بين المتصل والمنفصل، فإنّ إمكانية الرفع تجري في المتصل كما تجري في المنفصل، وفي بعض الموارد لا تجري فيهما معاً، فأيّ ربط لمفهوم الرفع عند الوضوء بمفهوم الاتصال والانفصال في نوعية الحاجب؟!

يضاف إلى ذلك أنّ تمييز العلامة فضل الله بين الحاجب المتصل والعلك بحيث لا يلحق العلك به لصدق الغسل معه دونه.. هو الآخر غير واضح؛ فإنّ حجم العلك هو الذي يبدو أنه أدّى إلى تصوّر أنّ العلك غير لون الحبر أو الصبغ مع أنّ قانون الحاجب المتصل والمنفصل يفترض أن لا يميّز فيه ـ أولياً ـ بين المتصل الكثيف والرقيق، فما دام لا يمكن أخذ العلك عند الوضوء فهذا يعني أنه التصق جداً بمكان الظفر، فأيّ فرق بينه وبين ما تضعه النسوة على أظفارهنّ من زينة؟!

ثانياً: بما ذكره الشيخ النجفي، من أنّ في سند هذه الرواية عمار بن موسى الساباطي، «وقد طعن فيه بأنه متفرّد برواية الغرائب»([17])، ولعلّ هذه الرواية من تلك الغرائب «إذ لا يخفى دلالتها على لزوم استيعاب المسح لتمام القدم، وهو خلاف المعروف بينهم، بل خلاف الأدلّة في المقام»([18]).

يضاف إلى ذلك، ما ذكره بعضهم من أنّ هذا الخبر معرَضٌ عنه عند الأصحاب([19])، من حيث إنه يفيد عدم جواز التداوي ويشمل حتى حالات الضرورة.

ويمكن التعليق بأنّ إعراض الأصحاب قد يكون لفهمهم الإطلاق من الخبر، وهو غير صحيح؛ حيث يمكن تقييد الخبر بمقيّد خارجي يخرج منه صورة الحرج والضرورة، ولهذا حمله الشيخ الطوسي على ذلك([20])، مع أنه من غير المعلوم أنّ وضع العلك كان للتداوي، إذ لعلّه كان لمجرّد تحسين المظهر الخارجي لموضع الظفر المقطوع.

وأما أنّ هذه الرواية تدلّ على ضرورة استيعاب المسح لتمام القدم، وهو خلاف المعروف بينهم، فهذا متوقّف على أن يراد من الرواية ظفر القدم، مع أنه لا دلالة فيها على ذلك؛ إذ لم تشر الرواية إلى القدم إطلاقاً، والظفر كما يطلق على أظافر القدم في الإنسان كذلك يطلق على أظافر اليد، فلعلّ المراد أحد أظافر اليد، بل إن تعبير «يصل الماء إليه» الوارد في آخر الرواية لعلّه يرجّح ـ تأييداً ـ كون المورد من موارد الغسل لا المسح، إذ لو كان من موارد المسح لعبّر بوصول الرطوبة إليه.

وأما الطعن بعمار الساباطي فهو في غير محلّه، حيث وثق في كلماتهم، وروايته الغرائب أو وجود اضطراب في بعض عبائره ربما يرجع إلى عدم كونه عربيّ الأصل وكان ينقل بالمعنى، وهذا يستدعي التثبت في منقولاته لا طرحها فوراً، وهذه الرواية ليس فيها محذور داخلي يضاعف من مبررات طرحها. فالرواية تامّة السند والدلالة.

6ـ موثقة عمار الساباطي الأخرى، عن أبي عبد الله×، في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء، فلا يقدر أن يمسح عليه (أن يحلّه) لحال الجبر إذا أجبر (جبر) كيف يصنع؟ قال: «إذا أراد أن يتوضأ فليضع إناءً فيه ماء، ويضع موضع الجبر في الماء، حتى يصل الماء إلى جلده، وقد أجزأه ذلك من غير أن يحلّه»([21]).

وذلك أنّه لا معنى لهذا الحديث إلا ضرورة إيصال الماء إلى البشرة، فلو كان محلّ الجبيرة حاجبٌ للزم رفعه أو فعل العملية نفسها مع ضمان الوصول إلى البشرة.

وقد حمل الشيخ الطوسي هذه الرواية على ضربٍ من الاستحباب؛ وذلك أنّ الجبائر يكفي فيها المسح عليها([22])، وقد دلّت عليه النصوص، وهذه الرواية لا يبعد أن يتوقّف فيها؛ لمعارضتها النصوص المأخوذ بها في كيفية وضوء الجبيرة؛ إذ يكفي في وضوء الجبيرة المسح على الجبيرة وهو المعروف بين الفقهاء، فلا معنى لوضع الجبيرة في الماء، هذا إذا التزم بهذه الفتوى المعروفة هناك.

وبصرف النظر عن هذه الإشكالية، لا علاقة لهذه الرواية بمحلّ بحثنا؛ لأنّ الجبيرة لا يصدق معها غسل اليد؛ نظراً لسماكتها عادةً إلى جانب المساحة التي تغطيها من اليد، ولا يقال عرفاً لمن مسح على الجبيرة بأنه مسح على قدمه أو لمن غسلها بأنه غسل يده، فصدق العنوان غير محرز هنا أساساً، وأين هذا من الحاجب المتعارف كالصبغ في موضع بسيط هنا أو هناك أو طلاء ظفرٍ أو نحو ذلك؟!

وعليه فالرواية تامة سنداً غير تامة دلالةً.

7ـ صحيحة زرارة؛ عن أبي جعفر× في الوضوء، قال: «إذا مسّ جلدك الماء فحسبك»([23]).

وذلك أنّ مفهوم هذه الرواية أنّه إذا لم يمسّ الماء الجلد فلا يكفي، مما يؤسّس لمفهوم اتصال الماء بالبشرة، وهو المفهوم الذي يستدعي رفع الحاجب تمهيداً للوصول.

والجواب: إنّ هذه الرواية أجنبية تماماً عن المقام، وذلك أنها ليست في مقام بيان ضرورة وصول الماء إلى البشرة، وإنما هي في مقام بيان كفاية المسمّى في مقابل ما هو أزيد من ذلك مثل إسباغ الوضوء، بقرينة كلمة «فحسبك»، فالرواية تريد أن تؤكّد أنه ليس المطلوب إغراق اليد بالماء حتى يحصل الوضوء، بل يكفي مجرد تماس الماء مع اليد، وأين هذا ممّا نحن فيه؟!

ولعلّه لهذا وجدنا الكليني والحرّ العاملي قد وضعا هذه الرواية في سياق الإسراف في ماء الوضوء وإسباغ الوضوء ومقدار الماء الذي يُحتاج للوضوء والغسل([24]).

يضاف إلى ذلك أنّه حتى لو التزمنا بارتباط الرواية بمحلّ بحثنا، إلا أنّ غاية ما تفيد كفاية مسّ الجلد في صدق الوضوء، ومن الواضح صدق مسّ الجلد في الوضوء مع وجود حاجب على أحد أعضاء الوضوء، إذ يصدق عرفاً أنه حصل مسّ الماء للجلد عندما يكون الحاجب محدوداً وقليلاً كما قلنا، لا مستوعباً لتمام اليد مثلاً، وليس في الرواية إطلاق لتمام أجزاء ومساحات كلّ عضو من أعضاء الوضوء والغسل.

وعليه، فهذه الرواية تامة سنداً ضعيفة دلالةً.

8ـ مرفوعة محمد بن يحيى، عن أبي عبد الله×، في الذي يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال: «لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه بالماء»([25]).

فهذا الخبر دليل واضح على أنّ مثل الحناء ـ وهو من الحاجب المتصل لا المنفصل ـ يجب رفعه تمهيداً للوضوء.

ويجاب أولاً: بضعف سند الرواية، فإنها مرفوعة من محمد بن يحيى العطار ـ شيخ الكليني ـ إلى الإمام الصادق فلا يستند إليها.

ثانياً: بأننا لم نفهم مضمون هذه الرواية، فهل كان السائل قد خضّب رأسه أم شعره؟ فالمفروض أنّ الخضاب للشعر في الرجال في العادة.. وعليه فما معنى إلزامه بإيصال الماء في المسح إلى بشرة الرأس، إلا إذا قيل بأنه حيث لا يقدر على المسح على شعره لمكان الحناء أُلزم بالمسح على بشرة رأسه التي ليس فيها هذا الحاجب، إلا إذا قيل بأنّ صدق المسح بلا حاجب على بشرة رأس الرجل الذي عليه شعر مخضّب مشكل، فليلحظ ذلك فإنّ المورد مورد المسح لا الغسل، نعم سيأتي خضاب الرأس بعد حلق الشعر.

ثالثاً: إنّ هذا الخبر معارَض بنصوص صريحة في موضوع الحناء مخالفة له تماماً وستأتي.

9ـ صحيحة زرارة (على المشهور)، عن أبي جعفر×، قال: «إذا كنت قاعداً على وضوء ولم تدر أغسلت ذراعك أم لا، فأعد عليها و.. وإن شككت في مسح رأسك وأصبت في لحيتك بلّةً فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك.. وإن تيقّنت أنك لم تتمّ وضوءك فأعد على ما تركت يقيناً حتى تأتي على الوضوء»، قال حماد: وقال حريز: قال زرارة: قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة؟ فقال: «إذا شكّ ثم كانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه، وإن كان استيقن رجع وأعاد عليه الماء..»([26]).

ولعلّ تقريب الاستدلال بها أنها تلزم بإتمام الوضوء، كما أنها ظاهرة في أنّ ترك بعض الجسد أو بعض الذراع في الغسل موجبٌ للعود والتصحيح، فإذا كان هناك حاجب صدق أنه ترك بعض ذراعه أو أنه لم يتمّ وضوءه.

إلا أنّ الاستدلال بهذه الرواية مشكل أيضاً؛ فإنّ عنوان تمامية الوضوء صادق عرفاً حتى مع وجود حاجب هنا أو هناك محدود المساحة صغير الحجم، وهذا ما قلناه عند التعليق على الدليل الأول المتقدّم وهو التمسّك بالعمومات والمطلقات، وحيث إنّ العبرة بالعرف فيصدق إتمام الغسل والمسح هنا.

وأما عدم غسل بعض الذراع في الغسل، فهو ظاهر في ترك مساحة كبيرة من يده لم يمرّ عليها الماء، لا ترك بقعة صغيرة جدّاً عليها بعض الحبر، علماً أنّ عدم إيصال الماء من رأس إلى بعض الذراع أمرٌ زائد على إيصال الماء، لكن مع وجود الحاجب لم يتصل الماء بالبشرة، فإنّ هذين مفهومان مختلفان عرفاً كما أشرنا سابقاً؛ إذ يصدق غسل اليد في الثانية دون الأولى، وارتكاز لزوم إيصال الماء إلى تمام البشرة حتى رأس الإبرة في الذهن الفقهي هو الذي صار يوجب الإحساس بعدم الفرق، وإلا فالعرف يرى أنّ من غسل يده وترك جزءاً لم يغسله غير من غسلها بأكملها لكن كان على بعضها حاجب.

وعليه، فالرواية لا تدلّ على المطلوب في المقام.

هذا كلّه، فضلاً عن أنّ العلامة فضل الله بإمكانه الجواب هنا على مبانيه من أنّ الحاجب اللاصق ملحقٌ باليد عرفاً فتصدق تلقائياً عنده كلّ العناوين المأخوذة في الرواية.

10ـ صحيحة الحلبي (على المشهور)، عن أبي عبد الله×، قال: «إن ذكرت وأنت في صلاتك أنك قد تركت شيئاً من وضوئك المفروض عليك، فانصرف، فأتمّ الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك، ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدّم رأسك»([27]).

على أساس أنها تشترط إتمام الوضوء، وموردنا مشمول لجملة «تركت شيئاً من وضوئك».

والجواب صار واضحاً؛ فإنّنا ندّعي أنه لم يتحقق ترك أيّ شيء من الوضوء إلا بعد ثبوت النظرية المشهورة من لزوم رفع الحاجب، وإلا فقد تقدّم أنّ العرف يرى صدق غسل اليد والوجه ومسح الرأس والقدمين حتى مع وجود بعض الحاجب اللاصق، ويكفينا الصدق العرفي. بل لعلّ ظاهر الرواية منصرفٌ عن ترك غسل بعض اليد إلى ترك غسل عضو من أعضاء الوضوء، ولهذا عقّب في آخرها بخصوصية تتصل بترك الممسوح من الرأس والقدمين، فظهور الرواية فيما نحن فيه مشكل.

11ـ خبر محمد سهل، عن أبيه، قال: سألت أبا الحسن الرضا×، عن الرجل يبقى عن وجهه إذا توضأ، يجزيه أن يبلّه من بعض جسده»([28]). ويبدو أنّ كلمة «يجزيه أن..» هي جواب الإمام، وأنه سقط سهواً ذكر كلمة: «فقال:n قبل ذلك.

ويقرب جدّاً من هذا الخبر ما جاء مرسلاً في mالفقيهn عن أبي الحسن موسى بن جعفر، وفيه أنّ جملة: يجزيه وما بعدها، هي جواب الإمام([29]).

ويناقش أولاً: إنّ الرواية ضعيفة السند؛ فهي مرسلة في الفقيه، وأما في العيون ففي سندها محمد بن سهل الأشعري ولم تثبت وثاقته([30]).

ثانياً: إنّ ظاهرها عدم وصول الماء أساساً إلى مكان ما من جسده، وهذا غير وصول الماء إلى اليد كلّها أو الوجه كلّه غايته أنه لأجل المانع لم يحصل تماسّ مع البشرة، ففي المورد الثاني يصدق غسل اليد عرفاً بالتأكيد كما بيّنا مراراً. وعليه فالرواية أجنبية عن المقام.

هذا هو مهم الروايات المستدلّ بها في المقام، وقد ظهر أنّ التام سنداً والدالّ منها ليس سوى خبر واحد، وهو رواية عمار الساباطي (رقم: 5) المتقدّمة، وسائر الأخبار ليس فيها دلالة يُركن إليها على النظرية المشهورة بتفاصيلها، وعلى أيّة حال فلابدّ من النظر في النصوص والأدلّة المعارضة، وإلا فعلى مبنانا من حجيّة الخبر الموثوق بصدوره لا يحرز الوثوق بالصدور من خبرٍ واحدٍ تام السند والدلالة، فلا دليل من الأساس على لزوم رفع الحاجب المتصل إذا كان بمقدار يصدق معه عرفاً غسل اليد، بحيث لم يستوعب مساحة كبيرة من اليد ويكون حجمه سميكاً يشكّل طبقةً عازلة على اليد عرفاً.

2ـ عدم وجوب رفع الحاجب المتصل (القول بالتفصيل)

أشرنا إلى أنّه ذهب العلامة السيد محمد حسين فضل الله مؤخّراً إلى القول بالتفصيل في مسألة الحاجب بين كونه متصلاً ملحقاً بالبشرة عرفاً كالصبغ والطلاء وبين كونه منفصلاً كالسوار والخاتم ونحوهما، فأجاز الحاجب في الأوّل دون الثاني.

 

القول بالتفصيل، الشواهد والمعطيات

وقد يستدلّ لذلك ـ بعدما تقدّم ـ بجملة من الأدلّة، أبرزها:

 

1 ـ 2 ـ مستند العمومات والمطلقات

أوّل الأدلّة هنا هو الاستناد إلى العمومات والمطلقات، بعدما أسلفناه من أنها صالحة لإفادة الصدق العرفي في الغسل والمسح.

لكنّ هذا الدليل لا يثبت تماماً نظرية التفصيل التي ذكرها العلامة فضل الله؛ بل يثبت مرجعيّة الصدق العرفي، ونحن نشكّك في صدق غسل اليد عرفاً على حالة استيعاب الطلاء لليد كلّها ولو كان الطلاء حاجباً لاصقاً متصلاً، كما أنّ بعض الحواجب المنفصلة الصغيرة جدّاً التي إذا وضعت لا تنافي صدق غسل اليد لا يمكن بالعمومات نفيها، فالنسبة بين هذا الدليل ورأي العلامة فضل الله هي العموم والخصوص من وجه، وليست نسبة المطابقة.

ومع ذلك، يظلّ هذا الدليل محكوماً للأدلّة الخاصّة الروائية التي قدّمها أنصار القول الأوّل ـ على تقدير تماميتها ـ لأنه لا ينفيها بنفسه، بل هي تضيف مطلباً إلى مفاده.

2 ـ 2 ـ مرجعيّة السيرة

الدليل الثاني هنا هو الاستناد إلى السيرة، كما ذكره العلامة فضل الله، فإنّ الأعمال التي يزاولها الإنسان عادةً تستوجب لصوق الحواجب اللاصقة على أعضاء الوضوء أو الغسل، لاسيما مع تراكم العمل يوماً بعد آخر مما يجعل لها سمكاً يمنع وصول الماء إلى البشرة، ومع ذلك كلّه لم نجد أحداً يسأل النبي أو الأئمة عن هذا الأمر، مع توفّر دواعي النقل وكثرة الابتلاء بهذا الموضوع للرجال والنساء، ومحدودية السيرة بكونها دليلاً لبياً لا يمنع بعد أن أمكن الأخذ بالنكتة الارتكازية وهي صدق الغسل أو المسح مع وجود اللاصق بالبشرة المانع عن وصول الماء([31]).

وهذا الدليل ـ على تقدير تماميته، وإطلاقه عندي محلّ تأمل ـ يسقط أدلّة الطرف الآخر عن الاعتبار؛ لأنه يوجب سقوطها عن الوثوق أو الظنّ بالوفاق، على اعتبار أنّ السيرة دليل مفيد للاطمئنان.

 

3 ـ 2 ـ مستند النصوص الخاصّة

ثالث الأدلّة هنا هو الروايات الخاصّة، وهي متعدّدة، أهمها ما يلي:

1ـ صحيحة إبراهيم بن أبي محمود، قال: قلت للرضا×: الرجل يجنب فيصيب جسده ورأسه الخلوق، والطيب، والشيء اللكد (اللزق) مثل علك الروم والطرار [الطراد، الظرب] وما أشبهه فيغتسل، فإذا فرغ وجد شيئاً قد بقي في جسده من أثر الخلوق والطيب وغيره، قال: «لا بأس»([32]).

واللكد هو اللصق، بمعنى أن يلتصق شيء لزج بالجسد، وعليه فتكون هذه الرواية صريحة فيما نريد؛ لأنها تشمل الجوهر اللاصق على البدن، وعلك الروم من الواضح أنه ليس في عداد الألوان وإنما هو جوهر لاصق([33]).

وقد يناقش الاستدلال بهذه الرواية:

أولاً: ما علق به بعض الفقهاء على مضمون هذه الرواية بأنها لا تفيد الترخيص في الغسل مع وجود الحاجب اللاصق؛ لأنها ظاهرة في الأثر الذي لا يمنع وصول الماء إلى البشرة، فالباقي هو أثر الخلوق والطيب والعلك، لا العين. والأثر لا يمنع الوصول، ولا إشارة في الرواية إلى العين([34]).

نعم، لم يستبعد المحقق الخوانساري أخذ الرواية بمعنى بقاء الشيء اليسير الذي يخلّ وجوده بصدق الغسل عرفاً([35]).

وأجيب بأنّ حمل هذه الصحيحة على ذلك خلاف ظاهرها جداً، فإنها تقضي بأنّه كان على جسده هذه الأجسام اللاصقة وأنه اغتسل وهي عليه، ولما فرغ لاحظ وجود الآثار، وهذا ظاهر في المانعية([36]).

وهذا الجواب في محلّه؛ لأنّ الرواية ذكرت أنّ على جسده ذلك فيغتسل، فأوقعت الغسل وتلك الأجسام اللاصقة على جسده، وإنما تحدّثت عن الأثر بعد فراغه من الغسل، فهو قد اغتسل لكن بعد الفراغ لاحظ وجود أثر الخلوق والطيب وغيرهما لا أنه اغتسل وكان عليه الأثر، وهذا ما أوقع المناقشين في تصوّر أنّ الغسل وقع وكان على الجسد أثر ذلك لا عينه، مع أنّ الرواية واضحة في خلاف ذلك.

قد يقال: إنّ الرواية وإن فرضت وقوع الغسل حال كون العين على الجسد إلا أنه بعده لم يكن قد بقي سوى الأثر واللون، وهذا يعني أنّ الأعيان زالت أثناء الغسل، وهذا كافٍ في صحّة الغسل حينئذٍ.

والجواب بأنّ هذا خلاف ظاهر الرواية؛ وذلك أنّ بقاء الأثر بعد الغسل لا يعني بالضرورة وصول الماء إلى البشرة، علماً بأننا نسأل: لماذا وجّه السائل سؤاله؟ هل كان عالماً مسبقاً بحكم الحاجب شرعاً أم لا؟ فإذا كان عالماً فهو يسأل عن إجزاء الغسل مع زوال العين بعد الفراغ، وهذا سؤال معقول، وإذا كان جاهلاً فهو يسأل عن أصل الحكم، وفي هذه الحال كان من المناسب للإمام أن يوضح له أصل الحكم وهو لزوم إزالة المانع قبل الغسل، فلو كان هذا الحكم موجوداً لكان ذكره هنا مناسباً؛ لأنّ السائل أقدم على الغسل عالماً بوجود الحاجب. والاحتمالان عندي لا أقلّ من أنّهما متساويان، ومعه لا يمكن الاستدلال بالرواية على المطلوب ولا على عكسه.

ثانياً: ما ذكره السيد محسن الحكيم، من حمل الرواية على صورة الشك([37])، فالسائل هنا يشكّ في أنّ غسله وقع مع الحاجب أم بدونه؟

ولعلّ مراده) ما يرجع إلى ما قلناه، من أنه يسأل عن حالة الإقدام على الغسل مع الحاجب، لكن لأنه لم يرَ إلا الأثر بعد الفراغ من الغسل شكّ في وصول الماء وعدم وصوله، فطبّق له الإمام قاعدة الفراغ أو غيرها.

ثالثاً: ما ذكره بعض الفقهاء المعاصرين من أنّ المتيقن من مفاد الخبر الصحيح هو العفو عن وجود المانع مع الالتفات إليه بعد الفراغ، فلا مجال لتعميمه لصورة الالتفات إليه قبله، فضلاً عما إذا كان عدم الغسل من دون وجود مانع([38]).

وهذا الكلام ظاهر في أنّه فهم من الرواية بقاء العين بعد الغسل لا الأثر من اللون ونحوه، وهذا على عكس ما فهمه أصحاب المناقشة الأولى المتقدّمة.

إلا أنّ هذا القدر المتيقن المدّعى هنا غير واضح، فليس في الرواية أنه التفت بعد الفراغ أو نحو ذلك من التعابير المفيدة للعلم بعد الفراغ، فيكون هذا صرف احتمال محض، فكيف يرقى إلى مستوى القدر المتيقن مع وجود الفرضيات الوجيهة التي تقدّمت آنفاً؟!

رابعاً: ما ذكره الفاضل الهندي، من حمل الرواية على حالة عسر الزوال الذي لا يجب إزالته في التطهير من النجاسات فيكون المورد هنا أولى([39]).

ويناقش بأنه لا عين ولا أثر لعسر الزوال في الرواية إطلاقاً، فهذا الحمل تبرّعي لا يناسب الفهم العرفي للحديث.

خامساً: ما يظهر من المحقّق النراقي، من أنّ هذه الرواية وأمثالها في الباب لا تنهض لمعارضة سائر الروايات الدالّة على ضرورة رفع الحاجب؛ لشذوذها، ومخالفتها عمل الأصحاب، بما يسقطها عن الحجية([40]).

وهذا الكلام غير دقيق؛ فإنها ليست شاذة بل يوجد روايات أخر في الباب تساندها، ولا أقلّ من احتمال دلالتها جداً على المطلوب، وأما إعراض الأصحاب فهو اجتهاديٌّ واضح بترجيحهم تلك الروايات عليها، أو اعتبارها معارضة لعمومات الكتاب ومطلقاته، وفي هذه الحال لا يجري قانون الوهن بالإعراض، حتى لو قبلنا قاعدته وقانونه العام.

من هنا، فالأقرب في فهم هذه الرواية هو الالتزام بإجمالها؛ لدورانها بين احتمال العلم المسبق للسائل بالحكم وعدم علمه، كما أسلفنا، ومعه لا يمكن الاستدلال بها على العفو عن الحاجب الملتصق بالبدن رغم صحّتها السندية، إلا إذا فسّرنا كلمة mأثرn بالبقايا العينية للحاجب لا باللون والرائحة.

2ـ معتبرة عمار بن موسى الساباطي، عن أبي عبد الله×، في الحائض تغتسل وعلى جسدها الزعفران لم يذهب به الماء؟ قال: «لا بأس»([41]).

فإنّ هذه الرواية ظاهرة في عدم المانع من غسل المرأة حتى مع وجود الزعفران الذي لم يذهب به الماء، وعدم تفصيل الإمام وعدم استفصاله بين حالات الزعفران ومقداره وكونه بحيث يوجب الحجب والحيلولة دون وصول الماء إلى البشرة دليلٌ واضح على أنه يجوز الغسل حتى مع مثل هذا النوع من الحاجب.

وقد يناقش تارةً باختصاصه بحال عسر الزوال كما حمله المحقق الهندي([42])، وأخرى بالشذوذ والإعراض([43])، ونحو ذلك مما تقدّم وأجبنا عنه.

لكنّ المحقق النراقي وغيره ذكروا هنا أنّ الرواية لا تفيد عدم وصول الماء إلى البشرة؛ لأنّ عدم زوال الزعفران بالماء لا يعني ذلك؛ إذ الذي يبقى منه هو اللون ونحو ذلك([44]).

وهذا ما يحتاج لمعرفة نوعية الزعفران الذي كانت تضعه النسوة وهل له جرم وحجم بحيث يمنع وصول الماء إلى البشرة أم لا؟ والأقرب أن يكون اللون هو المتبقي على الجسد، وحيث لا نستطيع ـ في الحدّ الأدنى ـ التأكّد من أنّ الزعفران يبقي جرماً إن لم نتأكّد من العدم، فلا يصحّ الاستدلال بهذه الرواية؛ ولعلّه لهذا لم يدرجها مجوّزو الحاجب اللاصق في أدلّتهم.

3ـ خبر إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه(، قال: «كنّ نساء النبي$ إذا اغتسلن من الجنابة يبقين (أبقين) صفرة الطيب على أجسادهنّ؛ وذلك أن النبي$ أمرهنّ أن يصببن الماء صبّاً على أجسادهنّ»([45]).

فقد ذكر أنّ «هذه الرواية وإن لم تدلّ على ما نحن بصدده؛ لأنّ الصفرة لونٌ وليست محلاً للنزاع بعد الاتفاق على عدم قدحها بوصول الماء إلى البشرة، إلا أنّ التعليل الوارد ـ مع ما هو المشار إليه في خلفية الحكم الوارد في الحكاية عن نساء النبي ـ يصلح مؤيداً على الأقلّ، إن لم يشكّل ظهوراً في عموم الحكم لكلّ ما علق بالبدن، ولاسيما أنها تدلّ صراحةً على صبّ الماء في شكل طبيعي، من دون حاجة إلى المبالغة في تتبّع ما يعلق بالبدن»([46]).

وقد يناقش في الرواية بضعف سندها؛ فإنّ إسماعيل بن أبي زياد هو السكوني، ولم تثبت وثاقته، بل صرّح العلامة الحلي بأنّ فيه ضعفاً([47]).

وأجيب بأنّ الأصحاب تلقوها بالقبول([48])، وهي دعوى تحتاج إلى دليل في إثبات اعتمادهم على هذه الرواية بالذات في الحكم، لاسيما لو تمّ ما فهمه المستدلّ هنا منها.

كما نوقش الاستدلال بحمل الخبر على عسر الزوال([49])، وقد تقدّم الجواب، ونوقش بحمل الرواية على الأثر غير المانع من وصول الماء إلى البشرة([50]). وكذلك نوقش بالشذوذ والإعراض([51]) كما تقدّم.

إلا أن الإنصاف أنّ ظهورها في التأييد جيّد؛ فإنّه لا ربط بين فعل نساء النبي وبين الأمر النبوي إلا أنّ النبي لم يكن يطلب سوى صبّ الماء على الجسد دون التدقيق في وجود اللون أو نحو ذلك، ففيها إشعار قويّ بهذا المضمون، لكنّها ضعيفة السند.

4 ـ 5 ـ خبر محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله×، في الرجل يحلق رأسه، ثم يطليه بالحناء، ويتوضأ للصلاة، قال: «لا بأس بأن يمسح رأسه والحنّاء عليه»([52]). وذلك أنّ الحناء يمثل جرماً مانعاً من وصول الماء إلى البشرة([53]).

ونحو هذه الرواية خبر عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد الله× عن الرجل يخضب بالحناء، ثم يبدو له في الوضوء، قال: «يمسح فوق الحناء»([54]).

وقد يناقش ذلك أولاً: إنّ هذه الرواية محمولة على حال الضرورة([55])، كما لو كان ذلك دواءً، وقد ورد في خبر الوشاء قال: سألت أبا الحسن× الدواء إذا كان على يدي الرجل أيجزيه أن يمسح على طلاء (طلا، طلي) الدواء؟ فقال: «نعم، يجزيه أن يمسح عليه»([56]).

والجواب: إنّ ظهور خبر الوشاء في حال الدواء لا يبرّر حمل صحيحة محمد بن مسلم على حال الضرورة؛ لعدم وجود ترابط بينهما، لاسيما وأنّ خبر الوشاء يتحدّث عن اليدين لا عن حلق الرأس ثم طليه بالحناء حتى يفرض تشابهُ الموردين قرينةً. نعم، قد تكون حالة حلق الرأس ثم طليه بالحناء موجبةً لهذا التصوّر، لكنه محض احتمال يحتاج إلى شواهد مؤيّدة. مضافاً إلى أنّ خبر عمر بن يزيد ليس فيه أيّ إشارة لحال الحلق أو نحو ذلك.

وثانياً: إننا نحمل الحديث على أنّ المراد به الخضاب بماء الحناء، كما يقال لما صبغ بماء الزعفران: إنه صبغ بالزعفران، وماء الحناء لو حصل الخضاب به لا يشكّل مانعاً عن وصول الماء إلى البشرة([57])، أو يقال بأنّ المراد من أثر الحناء هو اللون([58]).

وهذا الحمل، مضافاً إلى عدم وجود أيّ شاهد عليه، بل هو صرف احتمال يثار لتحصيل جمع تبرعي بين الأخبار، خلاف ظاهر التعبير بـ«يطليه بالحناء»، فإنّ هذا التعبير ظاهر في وجود جرم لا مجرد ماء ملوَّن بلون الحناء([59]). بل ذكر السيد الخوئي أنّ التعبير (فوق الحناء) يفيد ذلك؛ إذ لو كان لوناً فلا يقال فوقه([60])، ولعلّه لذلك استبعده المحقق السبزواري([61]).

ثالثاً: أن تحمل الرواية على المسح على الرأس مع وجود الحناء عليه، لا المسح على الحناء، فكأنّ في الرأس حناءً في موضعٍ منه، لكنّ المسح يكون على موضعٍ آخر، فلا تدلّ الرواية على المسح فوق الحناء، فيكون الحديث رداً على بعض أهل السنّة من حكمهم بلزوم استيعاب المسح للرأس كلّه([62]).

ويجاب بأنّ هذا من الحمل الغريب، فلو كان كذلك فلماذا سأل السائل إذاً؟ فإذا لم يكن يعرف الحكم الشيعي وظنّ أنّ المسح يكون على كلّ الرأس فلماذا طرح سؤاله بصيغة الحناء والطلاء، ولم يسأل مباشرةً عن مقدار الممسوح في الرأس؟ وإذا كان عالماً بكفاية المقدّم فما معنى أن يسأل ـ وهو محمد بن مسلم الفقيه المعروف ـ عن المسح على المقدّم مع وجود الحناء على مؤخرة الرأس؟ بل لو كان هناك شيء من ذلك فلماذا لا يظهر له أيّ وجود أو أثر في الرواية حتى أنّ الإمام لم يميّز له موضع المسح عن موضع الحناء؟ فهذا الحمل غير عرفي إطلاقاً. ولعلّه لما ذكرناه جعل المحدّث البحراني هذا الاحتمال وارداً، لكن مع استبعاد([63]).

رابعاً: ما ذكره الفاضل الهندي في خصوص خبر عمر بن يزيد، من حمل الجواب فيه على الإنكار، فكأنّ الإمام استنكر المسح فوق الحناء لا أنه أمضاه([64]).

وهذا الجواب غير واضح، فإنه وإنه كان في نفسه محتملاً وتؤيّده مرفوعة محمد بن يحيى المتقدّمة في أدلة القائلين بلزوم رفع الحاجب مطلقاً، غير أنه يفترض في الراوي ـ بمقتضى أمانته ـ أن يبيّن ذلك ولو من خلال قرينة، كأن يقول: فقال مستنكراً.. وإلا لأخلّ بأمانة النقل عندما ينقل من مرحلة الشفوية إلى مرحلة التدوين، مع قبولنا بأصل هذا النوع من الاحتمالات في بعض الموارد.

خامساً: إننا نفرض الوجوه المتقدّمة نتيجة إعراض الأصحاب عن هذا النوع من الروايات([65])؛ وكأنه يراد القول بأنّ أنواع الحمل المتقدّمة وإن كانت مستبعدةً لكن بعد إعراض الأصحاب عن هذه الروايات يمكن حملها بمحمل ما بدلاً من طرحها بالكلّية.

وقد تقدّم الجواب عن مسألة الإعراض، فلا نعيد.

سادساً: ما ذكره السيد الخوئي، من أنّ هاتين الروايتين لابد من طرحهما لجماع عنصرين:

الأول: إنهما موافقتان للجمهور فتحملان على التقية.

الثاني: إنهما نادرتان شاذتان تخالفان مشهور الروايات المتقدّمة، فتطرحان لصدق عنوان الشاذ النادر عليهما([66]).

ويناقش: أما الشذوذ فغير واضح، فإن قصد به الإعراض فهو لا يبني على كبرى موهنية الإعراض، فضلاً عما قلناه سابقاً حول الإعراض، وأما إذا قصد إنهما تواجهان الروايات الكثيرة المعتبرة، فقد أسلفنا أنّ الدال من الروايات ليس سوى واحدة ولنفرض على أبعد تقدير توجد خمس روايات دالّة على لزوم رفع الحاجب مطلقاً، فهل هذا يجعل هاتين الروايتين الصحيحتين سنداً والمؤيّدتين بغيرهما ـ ولو تأييداً ـ بحكم الشاذ النادر لو صرفنا النظر عن موقف الفقهاء من العمل بهما؟ مع أنّ هاتين الروايتين وردتا في تهذيب الأحكام، وهو أحد الكتب الأربعة.

وأما مسألة التقية، فلم يظهر لي وجهها، فإنّ الفقه السني يذهب إلى ما ذهب إليه مشهور الفقه الشيعي من ضرورة إزالة ما يمنع عن وصول الماء إلى البشرة، حتى أنّ بعضهم ذكر الحناء نصّاً([67]). ولم أجد رأياً سنياً مشهوراً بعدم وجوب رفع الحاجب أثناء الغسل أو الوضوء، فكيف نحمل الروايتين على التقية؟! مع أنه لو أردنا تطبيق قواعد الحمل على التقية لكان الأنسب حمل أخبار رفع الحاجب عليها. علماً أنّنا لم نفهم مبرّر الحمل على التقية، فهل هناك دليل تاريخي واحد على أنّه في عصر الإمام الصادق كان هناك قول سنّي بعدم لزوم رفع الحناء، مع أنّ الشافعي وابن حنبل لم يكن قد ظهر مذهبهما بعدُ، والأحناف كان زعيمهم أبو حنيفة حاله حال الإمام الصادق في ظلم الدولة العباسية له، فكيف أثبت السياق التاريخي لتبرير الحمل على التقية حتى لو ثبت القول المنسوب إلى أبي حنيفة من جواز المسح فوق الحائل كما ذكر الخوئي نفسه([68])؟! وعليه فما ذكره السيد الخوئي في غير محلّه.

والجواب الصحيح عن هاتين الروايتين هو القول بضعفهما سنداً؛ لأنّ الشيخ الطوسي رواهما في التهذيب بسنده إلى محمد بن علي بن محبوب، وطريق الشيخ إلى ابن محبوب في مشيخة التهذيب ضعيف بعدم ثبوت وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى العطار القمي إلا على القول بنظرية التعويض بين سندي الفهرست والمشيخة للطوسي.

6ـ صحيحة حريز، عن أبي عبد الله×، أنه «كان لا يرى بأساً بأن تكتحل المرأة وتدّهن وتغتسل بعد هذا كلّه للإحرام»([69]). وذلك أنها لم تذكر أيّ تفصيل يتصل بحجم الكحل الذي تضعه المرأة، مما يفهم منه أنّ الكحل مطلقاً ولو كان حاجباً لا يضرّ بصحّة الغسل([70]).

والدلالة جيدة، إلا إذا قيل بالتفصيل بين الأغسال المستحبّة والواجبة، لاسيما مع عدم القول بإجزاء غير غسل الجنابة عن الوضوء، أو قيل بأنّ الرواية في مقام بيان عدم إضرار الكحل والدهن السابقين على غسل الإحرام في صحّة الإحرام من حيث تروك الإحرام لا من حيث صحّة الغسل، فتفرض الدهن والكحل غير مضرّين من هذه الناحية بالذات، لاسيما وأنّ الرواية ليست نصّ كلام الإمام وإنما إخبار الراوي بعصارة رأي الإمام، أو قيل ـ كما أثاره المستدلّ نفسه([71]) ـ بأنّ الكحل قد يعدّ من البواطن بوضعه، لا أنّه يوضع على الظاهر.

7ـ معتبرة محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله×: «لا بأس بأن يدّهن الرجل قبل أن يغتسل للإحرام أو بعده، وكان يكره الدهن الخاثر الذي يبقى»([72]). والدهن الخاثر هو الغليظ، فتكون الرواية دالّةً على عدم مانعية الحاجب.

وقد يناقش بأنّ الرواية دلّت على كراهة الإمام الدهن الخاثر والكراهة في لسان الروايات تطلق على الحرمة، لا فقط على الكراهة المصطلحة (التنزيهيّة)، ومعه فتدلّ على النهي التحريمي عن الدهن الخاثر، فتكون أدلّ على مراد المانعين هنا من المجيزين.

والجواب بأنّ إطلاقها على الكراهة صحيح؛ لكنه غير منحصر به، بل هو أعمّ، فلا تدلّ على خصوص الحرمة إلا بقرينة([73]).

كما قد يناقش بأنّ الدهن ولو الخاثر يزول بالماء أو إنه لا يمنع وصول الماء إلى البشرة، ولا أقلّ من عدم الإحراز.

هذا، وروايات نفي البأس عن الادّهان قبل الغسل معارضةٌ برواية حريز([74]) الدالّة على النهي عن ذلك، ولكنّها ضعيفة السند بعبد الله بن بحر.

وبهذا يظهر أنّ روايات عدم لزوم رفع الحاجب اللاصق كلّها بين ضعيف السند وضعيف الدلالة، فلا تكون الدالّة منها سوى مؤيّدات لا غير. أما روايات لزوم رفع الحاجب فالذي تمّ منها سنداً ودلالةً هو موثقة عمار الساباطي (رقم 5)، مدعومةً بصحيحتي علي بن جعفر (رقم 1) والحسين بن أبي العلاء (رقم 2) الصريحتين في الحاجب المنفصل.

وهنا نكون أمام حالات:

أ ـ إذا بقينا مع موثقة عمار وقلنا بالتمييز بين المتصل والمنفصل، أمكن الالتزام بعدم لزوم رفع الحاجب المتصل؛ لأنّ رواية عمار لوحدها مع بعض المؤيّدات لا يحصل اطمئنانٌ بصدورها، لاسيما مع وجود المعارض بدرجةٍ من الدرجات ولو كان ضعيف السند، فإنّ ضعف السند لا يضرّ بأصل التأثير على انعقاد الاطمئنان بموثقة عمار الساباطي، ومعه نرجع إلى العمومات والمطلقات.

ب ـ أما إذا أدخلنا الصحيحتين الواردتين في المنفصل بالحسبان ارتفع معدّل الوثوق.

من هنا، يثار البحث عن معقولية التمييز بين المتصل والمنفصل، حيث ذهب العلامة فضل الله إلى هذا التمييز، فإذا تعقّلنا التمييز عرفاً أو لم نحرز إلغاء العرف لهذا التمييز لم يعد يمكن الانتقال من الصحيحتين وغيرهما إلى الحاجب المتصل، وإلا أمكن.

قد يقال: إنّ العرف يرى عنوان غسل اليد كاملةً مع وجود السوار أو اللباس أو الدملج أو الخاتم غير صادق، بخلاف غسل اليد مع وجود الحاجب اللاصق، ويؤيّد هذا الظنّ العرفي ما ذكره العلامة فضل الله من أنّه لو مسّ إنسانٌ سوار المرأة وهي تلبسه فلا يصدق عرفاً عنوان مسّ اليد، أما لو وضع يده على الصبغ والشحوم التي على يدها فإنه يقال بأنه مسّ يدها([75])، فالعرف في الحالة الأولى لا يرى السوار ملحقاً باليد في أنه يجري عليه ما يجري عليها، بخلاف الحالة الثانية حيث يصبح الصبغ ملحقاً باليد عرفاً.

لكنّ هذا التمييز تمييزٌ لعنوان مسّ اليد، بصرف النظر عن عنوان الغسل، وقياسُ الموردين غير واضح.

أما على مستوى عنوان غسل اليد الذي هو العنوان المأخوذ في بابي الوضوء والغسل، فمن الواضح أنّ المسألة غير مرتبطة بما تقدّم بقدر ما هي مرتبطة بعنوان وصول الماء أو صدق عنوان الغَسل، فلو طليت يده بالصبغ اللاصق من أوّلها إلى آخرها، ثم مرَّ الماء عليها فلا يقال: غَسَل يده. إنّ مساحة الجسم اللاصق التي تأخذها من البدن المغسول، وكذلك سمكها، له تأثير في صدق عنوان الغسل أو المسح، والصحيحتين المذكورتين يفهم منهما ربط المسألة بوصول الماء بما يحقّق عنوان الغسل، من هنا لا يبعد القول بالنتيجة التالية:

 

نتيجة البحث

إنّ مقتضى الإطلاقات والعمومات هو الاكتفاء بصدق عنوان الغسل أو المسح، والعرف يرى ذلك صادقاً حتى مع الحاجب المنفصل الصغير المساحة مثل الخاتم، فالعرف يرى صدق أنّه غسل يده ولو كان عليها الخاتم، والآية القرآنية لا تطالب بأكثر من هذا العنوان، وليس فيها تعبير غسل اليد كاملةً، فمقتضى العمومات التفصيل في الحاجب بحسب المساحة والكثافة، مما يؤثر في صدق عنوان الغسل أو المسح، لا التفصيل بين المتصل والمنفصل كما فعل العلامة فضل الله.

ولا نخرج عن هذه النتيجة إلا بضمّ دليل آخر، فإذا قبلنا بدليل الروايات الثلاث المتقدمة بحيث حصل الاطمئنان والعلم العادي بصدورها.. التزمنا بأنّ الحاجب الذي يكون بمقدار مساحة الخاتم وسماكته أو السوار أو الدملج أو العلك على الظفر الكامل يجب رفعه، أما ما هو أقلّ من ذلك، مثل نقطة حبر أو نقطتين أو صبغ قليل الكثافة صغير المساحة فهذا لا تشمله روايات رفع الحاجب، فنبقى فيه مع المطلقات.

هذا كلّه، لو لم نقل بعدم حصول الوثوق واليقين بالصدور من ثلاث أو أربع روايات تعارضها بعض الروايات الأخَر ولو الضعيفة سنداً، أما لو قلنا بذلك ـ كما هو الصحيح ـ فلا عبرة بالروايات حينئذٍ، لا على مستوى الحاجب المتصل ولا المنفصل، بل نبقى مع العمومات.

وأما إذا أدخلنا الروايات المعارضة وصحّحناها سنداً ودلالة، فالصحيح ترجيحها بعدما أسلفناه؛ لموافقتها للعمومات والمطلقات القرآنية، فتقدّم بملاك الترجيح بموافقة الكتاب، بل وبملاك مخالفة القوم ـ من حيث المبدأ ـ كما بيّناه سابقاً، والله العالم.

 _______________

([1])  نشرت هذه الدراسة في المجلّد الثالث من كتاب: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر، للمؤلّف، بتاريخ عام 2011م.

([2]) انظر: أبو طالب الأراكي، شرح نجاة العباد 1: 347؛ والخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى 4: 83؛ والقمي، مباني منهاج الصالحين 1: 344؛ والحكيم، مستمسك العروة الوثقى 2: 342؛ ومصباح المنهاج 2: 247.

([3]) محمد حسين فضل الله، حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 19 ـ 24، دار الملاك، بيروت، الطبعة الأولى، 2009م.

([4]) الحدائق الناضرة 3: 91.

([5]) انظر: مشارق الشموس 1: 170.

([6]) الكافي 3: 44؛ وقرب الإسناد: 176؛ وتهذيب الأحكام 1: 85.

([7]) الكافي 3: 45؛ وتفصيل وسائل الشيعة 1: 468.

([8]) مشارق الشموس 1: 170.

([9]) رياض المسائل 1: 295 ـ 296.

([10]) جواهر الكلام 2: 290.

([11]) الأنصاري، كتاب الطهارة 2: 352.

([12]) كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 103؛ والاستبصار 1: 62 ـ 63؛ وتفسير العياشي 1: 299؛ والكافي 3: 30؛ وعلل الشرائع 1: 279؛ وتهذيب الأحكام 1: 61.

([13]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 19 ـ 20.

([14]) الكافي 3: 45؛ ونحوه في تهذيب الأحكام 1: 365، عن أبي بصير.

([15]) الاستبصار 1: 78؛ وتهذيب الأحكام 1: 425.

([16]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 46 ـ 47.

([17]) جواهر الكلام 2: 302.

([18]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 48.

([19]) محمد سعيد الحكيم، مصباح المنهاج (الطهارة) 2: 425.

([20]) الطوسي، الاستبصار 1: 78.

([21]) تهذيب الأحكام 1: 426؛ والاستبصار 1: 78.

([22]) المصدر نفسه.

([23]) الكافي 3: 22؛ والاستبصار 1: 123؛ وتهذيب الأحكام 1: 137.

([24]) انظر: الكافي 3: 21 ـ 22؛ وتفصيل وسائل الشيعة 1: 484 ـ 485.

([25]) الكافي 3: 31؛ وتهذيب الأحكام 1: 359.

([26]) الكافي 3: 33 ـ 34؛ وتهذيب الأحكام 1: 100 ـ 101؛ وانظر: مصباح المنهاج (الطهارة) 2: 247.

([27]) تهذيب الأحكام 1: 101؛ وانظر: مصباح المنهاج (الطهارة) 2: 247.

([28]) عيون أخبار الرضا 1: 25.

([29]) كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 60؛ وانظر: مصباح المنهاج (الطهارة) 2: 247.

([30]) لمزيد من الاطلاع، راجع: معجم رجال الحديث 17: 180 ـ 182، قم: 10955.

([31]) انظر: فضل الله، حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 42 ـ 44.

([32]) الكافي 3: 51؛ وتهذيب الأحكام 1: 130.

([33]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 29.

([34]) انظر: ذخيرة المعاد ج1، ق1: 57؛ ومشارق الشموس 1: 170؛ وكشف اللثام 2: 14؛ والحدائق الناضرة 3: 91؛ ومستند الشيعة 2: 318؛ والتنقيح (الطهارة) 5: 446؛ وفقه الصادق 1: 399.

([35]) مشارق الشموس 1: 170.

([36]) مصباح المنهاج (الطهارة) 3: 494؛ وحكم الحاجب اللاصق: 32 ـ 33.

([37]) مستمسك العروة الوثقى 3: 74؛ وانظر: مصباح المنهاج (الطهارة) 3: 494.

([38]) محمد سعيد الحكيم، مصباح المنهاج (الطهارة) 3: 495.

([39]) كشف اللثام 2: 14.

([40]) مستند الشيعة 2: 318.

([41]) الكافي 3: 82 ـ 83؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 100؛ وتهذيب الأحكام 1: 400.

([42]) كشف اللثام 2: 14.

([43]) مستند الشيعة 2: 318.

([44]) المصدر نفسه؛ والتنقيح (الطهارة) 5: 447؛ ومصباح المنهاج 3: 494.

([45]) تهذيب الأحكام 1: 369؛ وعلل الشرائع 1: 293.

([46]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 34.

([47]) منتهى المطلب (ط. ق) 2: 260 ـ 261.

([48]) المصدر نفسه 2: 261.

([49]) كشف اللثام 2: 14.

([50]) الحدائق الناضرة 3: 91؛ ورياض المسائل 1: 296؛ ومصباح الفقيه ج1، ق1: 241؛ ومستمسك العروة الوثقى 3: 74؛ والتنقيح (الطهارة) 5: 447؛ وفقه الصادق 1: 399؛ ومصباح المنهاج (الطهارة) 3: 494.

([51]) مستند الشيعة 2: 318؛ وجواهر الكلام 3: 81.

([52]) تهذيب الأحكام 1: 359.

([53]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 35.

([54]) تهذيب الأحكام 1: 359.

([55]) مشرق الشمسين: 300؛ وكشف اللثام 1: 543؛ والحدائق الناضرة 2: 311؛ وجواهر الكلام 2: 205، 301؛ ومنتقى الجمان 1: 164؛ وتفصيل وسائل الشيعة 1: 456.

([56]) الاستبصار 1: 76؛ وتهذيب الأحكام 1: 364؛ وتفصيل وسائل الشيعة 1: 455، 465 ـ 466.

([57]) مشرق الشمسين: 300؛ وجواهر الكلام 2: 205.

([58]) مشارق الشموس 1: 114؛ وكشف اللثام 1: 543؛ وجواهر الكلام 2: 205؛ وتفصيل وسائل الشيعة 1: 456؛ وذكرى الشيعة 2: 138.

([59]) لاحظت بعد تسجيلي هذه الملاحظة أنّه قد ألمح إليها المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة 2: 311؛ والسيد الخوئي، التنقيح 4: 153.

([60]) التنقيح 4: 153.

([61]) ذخيرة المعاد ج1، ق1: 30.

([62]) مشرق الشمسين: 300؛ وكشف اللثام 1: 543؛ وجواهر الكلام 2: 205.

([63]) الحدائق الناضرة 2: 311.

([64]) كشف اللثام 1: 543.

([65]) انظر: جواهر الكلام 2: 205؛ ومصباح الفقيه ج1، ق1: 156؛ وكتاب الطهارة (الكلبايكاني)، الأول: 88؛ ومصباح المنهاج 2: 342.

([66]) التنقيح 4: 153 ـ 154.

([67]) انظر: الإقناع 1: 37؛ ومغني المحتاج 1: 50؛ وكشاف القناع 1: 99، 116، 181 ـ 182؛ والمرداوي، الإنصاف 1: 144، 254؛ والنووي، المجموع 1: 426، 467 ـ 468، و2: 198؛ ومواهب الجليل 1: 291.

([68]) انظر: التنقيح (الطهارة) 4: 152 ـ 153.

([69]) كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 310.

([70]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 39.

([71]) المصدر نفسه: 42.

([72]) الكافي 4: 330.

([73]) انظر: حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 40 ـ 41؛ ورياض المسائل 6: 320؛ والخوئي، المعتمد 4: 194؛ والفياض، تعاليق مبسوطة 10: 231.

([74]) انظر: الكافي 3: 51؛ والاستبصار 1: 117؛ وتهذيب الأحكام 1: 129.

([75]) حكم الحاجب اللاصق في الوضوء والغسل: 22.