hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

فقه الاحتكار في الشريعة الإسلامية

تاريخ الاعداد: 10/11/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
376990
التحميل

حيدر حب الله(*)


تمهيد

تتصل قضية الاحتكار بشكل عام بأزمة السلطة العامة الشاملة للسلطة السياسية والاقتصادية، ولا تشكّل ظاهرةً جديدة في حياة الإنسان، لكنّ العصر الراهن شهد تطوّرات لهذه الظاهرة جعلها تتعدّى الاقتصادي إلى السياسي، ليكون تداول الأموال والبضائع متمركزاً في جهات معينة لأغراض سياسية واقتصادية معاً، حتى أنّه إذا أريد إسقاط حكومات ورفع أخرى بديلاً عنها استخدم الاحتكار بمعناه الواسع لتحقيق هذه الأغراض.

وهذا هو التطوّر اللافت في قضيّة الاحتكار اليوم، حيث لم يعد شأناً خاصاً بمالك سلعةٍ ما في قريةٍ أو مصر ما، وإنما صارت الدول الكبرى والشركات المتعدّدة الجنسية تستخدمه بطرق ذكية جداً وتحت ستر قانونية لتصفية حسابات سياسية معينة، وأحياناً لغايات غير سياسية، وهذا ما يسمّيه بعضهم بالاحتكار العالمي أو الدولي([1]).

وفي مواجهة ظاهرة الاحتكار سنّت القوانين في الدولة المختلفة، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين حيث اشتهرت بهذا الأمر.

وقد اهتمّت الشريعة الإسلامية بقضايا المال اهتماماً كبيراً، وكانت تهدف من ذلك إلى ضبط الميول البشرية في مسألة السلطة على مستوياتها كافة، ومن هنا كانت الأحكام المتصلة بعدم كنز الثروات وتشريع الفرائض المالية كالزكاة والخمس وغيرهما، إلى جانب الحيلولة دون تمركز المال، ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ (الحشر: 7)، حذراً من ظهور طبقية مجحفة قد تضرّ بالاستقرار الاجتماعي والسياسي العام.

في هذا السياق، تأتي مسألة الاحتكار التي ساهم الفقه الإسلامي في معالجتها ودراستها بمذاهبه المختلفة، في مواقف كانت تهدف لحماية المستهلك وتنظيم التوزيع العادل والصحيح، والحدّ من التضخّم المتعمّد والمقصود، وسوف نحاول في هذه الوريقات المتواضعة معالجة هذا الموضوع بما يوفقنا الله تعالى إليه، انطلاقاً من المعايير الفقهية الثابتة في الاجتهاد الإسلامي.

 

1 ـ الاحتكار في اللغة

تعدّدت الكلمات في كتب اللغة ومصادر العربية حول كلمة الاحتكار والحكرة. قال الفراهيدي: «الحكر، الظلم في النقص وسوء المعاشرة، وفلان يحكر فلاناً: أدخل عليه مشقةً ومضرّةً في معاشرته ومعايشته، وفلان يحكر فلاناً حكراً. والنعت حكر ... والحكر: ما احتكرت من طعام ونحوه مما يؤكل، ومعناه الجمع، والفعل: احتكر، وصاحبه محتكر ينتظر باحتباسه الغلاء»([2]).

وقال الجوهري: «احتكار الطعام: جمعه وحبسه يتربّص به الغلاء، وهو الحكرة بالضم»([3]).

وقال ابن فارس: «الحاء والكاف والراء أصلٌ واحد، وهو الحبس. والحكرة حبس الطعام منتظراً لغلائه، وهو الحكر، وأصله في كلام العرب الحكر، وهو الماء المجتمع كأنه احتكر لقلّته»([4]).

وقد ذكر ابن الأثير أنه الشراء والحبس حتى يقلّ فيغلو سعره، وأنّ أصله من الجمع والإمساك([5]).

وقال ابن منظور: «الحكر: ادّخار الطعام للتربص، وصاحبه محتكر. ابن سيدة: الاحتكار جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به.. والحِكر والحُكر جميعاً: ما احتكر. ابن شميل: إنّهم ليتحكّرون في بيعهم ينظرون ويتربصون، وإنه لحكر لا يزال يحبس سلعته والسوق مادّة حتى يبيع بالكثير من شدّة حكره، أي من شدّة احتباسه وتربّصه. قال: والسوق مادّة أي ملأى رجالاً وبيوعاً..» وذكر نحو ما تقدّم أيضاً([6]).

وقال الفيروزآبادي: «الحكر: الظلم، وإساءة المعاشرة.. وبالتحريك ما احتكر، أي احتبس انتظاراً لغلائه.. وفاعله: حكر..»([7]).

وقال الزبيدي: «الحكر، بفتحٍ فسكون: الظلم والتنقّص وإساءة المعاشرة والعسر والالتواء.. يقال: حكره يحكره حكراً: ظلمه وتنقّصه وأساء عشرته.. والحَكَر بالتحريك: ما احتكر من الطعام ونحوه مما يؤكل، أي احتبس انتظاراً لغلائه.. والتحكّر: الاحتكار.. والحُكرة، بالضم: اسم من الاحتكار» وذكر قريباً مما تقدّم أيضاً([8]).

وقد تعرّض اللغويون لمعانٍ أخرى للحكر لا تتصل بموضوع بحثنا، إلا من حيث جامع القلّة كالعقب الصغير، والماء القليل المجتمع، والماء القليل، كما استعملت ـ كما رأينا ـ بمعنى اللجاجة والاستبداد والمماراة والملاحاة، والعسر، والالتواء، والتحسّر.

 

وقفة تحليلة مع النصوص اللغويّة

يلاحظ من رصد كلمات اللغويين هنا ما يلي:

أولاً: إنّ الجذر اللغوي للمادّة «ح. ك. ر» ترجع إلى الحبس، في حين يظهر من مثل الفراهيدي أنّ المعنى الأوّل هو الظلم في النقص. ولا يبدو لنا وجود منافاة؛ فإنّ الحقّ ما ذهب إليه ابن فارس، وإنما ذكرت بعض الكلمات مسألة الظلم من حيث ارتباط الحبس الموجب لقلّة الأمر لظلمٍ وارد على الآخرين، فكأنّ بعض اللغويين عرّف الحكر بذاته وهويته بوصفه فعلاً، وبعض آخر عرّفه بآثاره اللازمة الناشئة عنه.

وهكذا إذا لاحظنا كلماتهم نجد ـ كما هي طريقتهم ـ تارةً يعرّفون الشيء بعناصره الأولية، وأخرى بأسبابه الملازمة له، وثالثة بآثاره الناتجة عنه وهكذا.

ثانياً: يظهر من كلمات اللغويين المتقدّمة ارتباط الاحتكار بالطعام حيث لاحظنا حضور هذا الأمر بشكل واضح، إلا أنّ ما يبدو من بعض الكلمات الأخرى لهم عدم ارتباطه بذلك بل هو عام، كما يظهر من جمهرة اللغة([9])، حيث كان الحديث عن مطلق السلعة، من هنا ذهب بعضهم إلى أنّ المدلول اللغوي لكلمة الحكرة والاحتكار لا يختصّ بالطعام وأنّه إنما ذكر لغلبة حصول الاحتكار في الأطعمة ومطلق ما يؤكل في ذلك الزمان، لا لكون نوعية السلعة المحتكرة ـ وهي ما يؤكل ـ ذات دور في تعيين هوية الاحتكار وحقيقته([10])، ولهذا ذهب المحقّق النراقي إلى أنّ الكلمات التي خصّت الاحتكار بالطعام يراد منها حسب الظاهر ما هو الممنوع من الاحتكار شرعاً، لا ما هو المدلول للاحتكار لغةً([11])، في إشارةٍ منه لقضيّة عامة تتصل بأداء اللغويين، حيث يتأثر بعضهم بالخلفيات والمرتكزات العقدية والفقهية في عرضه لدلالات الكلمات في اللغة العربية كما يتهم في ذلك الراغب الإصفهاني.

وهذا الكلام ممكن جداً من الناحية اللغوية، ويساعد عليه:

أ ـ الجذر اللغوي للكلمة فإنه ـ كما ذكر ابن فارس ـ مطلق الحبس بلا تقييد بنوعية خاصّة في الشيء المحبوس.

ب ـ المعنى العام الذي ذكره بعضهم للاحتكار من حيث الآثار، وهو النقص وسوء المعاشرة وإدخال مشقّة على الآخرين، كما جاء في كلمات الفراهيدي والفيروزآبادي والزبيدي؛ فإنّ هذه الآثار وإن كانت آثاراً لاحتكار خصوص الطعام إلا أنها تملك صلاحية الشمول، فذكرها بلا تقييد لها بالطعام يشكل قرينة ـ وليس دليلاً ـ على العموم.

ج ـ المعاني اللغوية الأخرى التي ذكرها اللغويون للكلمة والتي أسلفنا أنها تلتقي في جامع القلّة وسوء المعاشرة فتؤكّد ما قلناه سابقاً.

هذه الشواهد المساعدة تدفع للميل إلى عدم خصوصية الطعام في كلمات اللغويين وأنهم جروا فيه على عادتهم من ذكر الغالب لا التعريفات المنطقية الدقيقة، وإذا لم تكن هذه الشواهد حاسمة فلا أقلّ من أنها تعيق دلالة الحصر والتقييد بالطعام ونحوه في كلمات اللغويين.

إلا أنّ الإنصاف أنه لا مانع من وجود استخدامين لكلمة الاحتكار: أحدهما عام في الضيق أو الحبس أو غير ذلك، وثانيهما خاص بحبس الطعام بحيث عندما يربط الاحتكار بمجال السلع والبيوع يدلّ على المعنى الخاص، ومن ثم يكون ذلك في قوّة المشترك اللفظي الدائر بين العام والخاص، مثل الغنيمة، وفي هذه الحال لابدّ أن ينظر في سياق النصوص ليساعد على تحصيل المعنى العام أو الخاص.

ثالثاً: الذي يظهر من كلمات اللغويين أنّ الاحتكار ـ بوصفه عملاً وفعلاً ـ يحوي خصائص وهي:

1ـ الجمع والحبس، وهذا من الواضحات، ولا تمييز بين الجمع والحبس خلافاً لبعض الفقهاء([12])، فلم يظهر لنا أنّ عملية الجمع للسلع مقوّمة لهوية الاحتكار لغةً، فلو فرضنا أنه اشترى بضاعة بأعداد كبيرة لا يريد بذلك جمعها من السوق وصادف أنّ هذه البضاعة قد نفذت من السوق لا أنه جمعها، فتمنّعه هنا من البيع يصدق عليه الاحتكار لغةً.

نعم، إذا قصد من الجمع ما يقابل النشر والتفريق والتوزيع كان مقبولاً، لكنّه لا يبتعد كثيراً عن معنى الحبس المأخوذ هنا، وهو مراد اللغويين الذين عبّروا بالجمع، باستثناء ابن سيده الذي ذكر جمع الطعام ثم ذكر احتباسه بما يدلّ على المغايرة وإن احتمل العطف للتوضيح فقط.

وعليه، فليس الجمع ـ بما هو مصدر ـ مأخوذاً في هوية الاحتكار لغةً وعرفاً، وإن كان الاحتكار المسبوق بشراء السلع وجمعها من السوق عن قصد مسبق ونية متعمّدة لذلك من أوضح مصاديق الاحتكار، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى البحث على المستوى الفقهي في أخذ الشراء المسبق شرطاً في الاحتكار وعدمه.

2 ـ انتظار غلاء السعر والتربّص به لذلك، وقد كان هذا القيد واضحاً في مثل كلمات الفراهيدي والجوهري وابن فارس والفيروزآبادي وغيرهم، ما لم نحمل تعريفاتهم على المعنى الشرعي كما تقدّم من النراقي.

ومعنى ذلك أنّ حبس السلعة لغرض قوت نفسه وعياله وعشيرته لا بهدف ارتفاع القيم والأسعار، لا يدخل ضمن مفهوم الاحتكار لغةً. فالغاية التجارية شرط أساس في عملية الاحتكار، والمعيار العملي هو حصول ارتفاع القيم السلعيّة المحتكرة، ولهذا لا يوجد في كلمات أهل اللغة حديث لغوي عن تحديد زمني لمدّة الاحتكار، على خلاف الحال مما سيأتي التعرّض له في مواقف الفقهاء المسلمين وشروطهم من ثلاثة أيام وأربعين يوماً أو غير ذلك، فالمعيار هنا مرجعه إلى حالة الأسعار وحركة ارتفاع القيم لا مدّة زمنية معينة.

ووفقاً لذلك يمتاز الاحتكار عن الادّخار؛ فإن الثاني لا يرتبط بقصد ارتفاع الأسعار أو التحكّم بالسوق، فقد يدّخر الإنسان شيئاً لنفسه وعياله مهما كان كثيراً ولا يسمّى ذلك احتكاراً ما لم يدخل القصد التجاري والربحي في عملية الادّخار هذه.

وبالعملية نفسها يظهر أنّ الحبس أعم من الاحتكار أيضاً؛ لأنه يشمل الحبس لما يحتاجه الناس وغيره، والحبس بقصد ارتفاع الأسعار وغيره، وحبس السلع وغيرها.

3ـ كون المحتَكَر سلعةً تخضع للعرض والطلب في السوق أو طعاماً على الخلاف الذي أبنّاه قبل قليل، وهذا واضح في كلمات أهل اللغة، وعليه فأيّ حبس أو جمعٍ لأمور لا تدخل في إطار التداول في السوق لا يعني احتكاراً.

وعلى هذا الأساس تمّ تمييز بعضهم بين الاحتكار والادّخار من جهة ثانية، وهي نوعية المحتكَر، فإنّ الادّخار يشمل حبس النقود وجمعها، فيما لا يمتدّ الاحتكار ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ لحبس النقد؛ لأنّ المأخوذ فيه السلع والبضائع لا ما كان مثل النقد، يضاف إليه أنّ الادّخار قد يكون مطلوباً كادّخار الدولة حاجيات الشعب([13]).

ومن الواضح أنّ الادّخار مفهوم أعم، بل يختلف تقويمه من حيث الجواز والمنع شرعاً، بل من حيث المدح والذم عقلائياً وعرفاً، لكنّ حصر الاحتكار بحبس السلع غير النقدية يحتاج إلى نظر بعد غضّ الطرف عن قضية اختصاصه بالطعام وعدمه؛ فإنّ اللغويين إنما أشاروا إلى الطعام أو السلعة بملاحظة حاجة الناس إليها أو طلبهم لها، فيكون ناتج الحاجة أو الطلب ارتفاع قيمها السوقية مع قلّة وجودها وعرضها في السوق، والنقد قد يدخل هذه الدائرة، كما في بعض العملات الصعبة التي تكون ندرتها في السوق المحلّي موجبةً لارتفاع قيمتها، الأمر المضرّ جداً بقدرة الدولة على التجارة الخارجية ومضرّ للغاية بحركة الاستيراد والتصدير، كما هي الحال في الدولار الأمريكي في العصر الراهن، حتى أنّ غير دولة وسلطة تضطرّ لبيع بضائعها في السوق الخارجية بأسعار زهيدة نسبياً طمعاً في الحصول على العملة الصعبة، كي تتوفر لديها بما يمكّنها من الناحية الأخرى من شراء البضائع من الخارج لتأمين حاجات المجتمع من تلك البضائع غير المتوفرة في السوق المحلّي وغير المصنّعة داخلياً.

5 ـ قد يفهم من كلمات اللغويين أنّ الاحتكار مرتبط بالحاجة في طرف طالب السلعة المحتكرة أو بكونه ملحقاً الضرر أو المشقة أو التضييق على الناس، ويلاحظ ذلك من خلال المعاني الحافّة التي ذكرت للاحتكار كالعسر والظلم وسوء المعاشرة وإدخال المشقّة ونحو ذلك، وهذا معناه أنّ احتكار سلعةٍ ما لا يفضي إلى مشقة أو ضرر على الناس أو تضييق لا يدخل ضمن مفهوم الاحتكار لغةً حتى لو ارتفع سعرها وثمنها في السوق، كبعض السلع التي لا يطلبها في العادة إلا الأثرياء الذين لا يتضرّرون من ارتفاع قيمتها السوقية. اللهم إلا أن نحمل كلمات اللغويين على الحالة الغالبة للاحتكار، لاسيّما مع جعل قيد «الطعام» الذي أدرجوه ممّا يشير إلى هذه الحالة الغالبة آنذاك، لا أنّ المفهوم غير صادق لغةً.

ومن خلال هذا العرض الموجز يتضح أنّ هناك نوعين من القيود المأخوذة في الاحتكار: قيود موضوع، وقيود حكم.

ونقصد بقيود الموضوع، تلك الشروط والعناصر التي تقوّم المفهوم والهوية بحيث لا يتبلور الاحتكار في الواقع الخارجي من دونها ولا يسمّى الفعل المتحقّق احتكاراً، وهي قيود تستلّ من المراجع اللغوية، بعد فرض عدم خضوعها للثقافة الفقهية اللاحقة، ومن التحليل العقلاني والعقلائي للظاهرة أو الفعل محلّ البحث. أما قيود الحكم، فإنّ الاحتكار معها متحقّق، لكنّها تقيّد الحكم بحرمته أو كراهته بقيود، فالحكم هو المشروط لا الموضوع، وهذا ما نبحثه لاحقاً بعون الله تعالى.

 

2 ـ الاحتكار في الاصطلاح الفقهي

نقصد بالاصطلاح الفقهي هنا ما جاء في تعريف الاحتكار في كلمات الفقهاء المسلمين، حيث سنقوم برصد هذه التعريفات وإجراء مقارنات سريعة بينها والتعليق عليها، لننظر في نهاية الأمر هل للفقهاء اصطلاح خاص للاحتكار يختلف عن معناه اللغوي أم لا؟

فقد ميّز ابن عابدين (الفقه الحنفي) بين التعريف اللغوي والشرعي للاحتكار فعرّفه شرعاً بقوله: «اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء أربعين يوماً»([14]).

ومن الواضح هنا إدخال عنوان الشراء السابق في تعريف الاحتكار، وكذلك إقحام المدّة الزمنية فيه.

وعرّفه الكاساني الحنفي بقوله: «أن يشتري طعاماً في مصر ويمتنع عن بيعه وذلك يضرّ بالناس، وكذلك لو اشتراه من مكان قريب يحمل طعامه إلى مصر، وذلك المصر صغير، وهذا يضرّ به يكون محتكراً، وإن كان مصراً كبيراً لا يضرّ به لا يكون محتكراً»([15]).

ويبدو من الكاساني أنه يقحم الإضرار في تعريف الاحتكار من الزاوية الفقهية، فكأنّ الإضرار هو المعيار الذي يدور الاحتكار حوله، ولهذا ميّز بين المصر الصغير والمصر الكبير من هذه الناحية.

وفي كتاب الأحكام للإمام يحيى بن الحسين (الفقه الزيدي) جاء: «وإنما معنى الاحتكار أن يكون في حبسه (الطعام ظاهراً) شيء من الضرر»([16]).

ويفهم من شرح الأزهار (الفقه الزيدي) أنّ معنى الاحتكار هو حبس قوت الآدمي أو البهيمة ممّا فضل عن كفاية المحتكر وكفاية من يمون إلى الغلّة أو إلى سنة إن لم تكن غلّة، متربصاً به الغلاء مع حاجة الآخرين إليه ولا وجود للعين إلا مع محتكر مثله([17]).

وعرّفه النووي في المجموع (الفقه الشافعي) بعد تقييده بالأقوات بأن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه([18])، لكنه يقدّم له تعريفاً أكثر وضوحاً في روضة الطالبين فيقول: «أن يشتري الطعام في وقت الغلاء، ولا يدعه للضعفاء، ويحبسه ليبيعه بأكثر عند اشتداد الحاجة، ولا بأس بالشراء في وقت الرخص ليبيع في وقت الغلاء»([19]).

إنّ هذا التعريف الموجود عند الشافعية يحصر الاحتكار بعملية شراء السلعة وسحبها من الأسواق في وقت الغلاء لا الرخص، وهو قيد مهم جداً لم نجده في كلمات الكثير من الفقهاء، وقد تردّد هذا التعريف في كلمات فقهاء الشافعية مع اختلافات طفيفة، كما يظهر من غير واحد منهم([20])، والملفت أنّ العلامة الحلّي من الإمامية اختار هذا التعريف بعينه في كتابه «نهاية الإحكام»([21]). كما يبدو من التعريف الشافعي أخذ الشراء المقصود منه الاحتكار قيداً في تعريف الاحتكار.

وقد ذكر ابن حزم الأندلسي (الفقه الظاهري) أنّ الحكرة المضرّة حرام سواء في الشراء أو في إمساك ما اشترى([22]).

وعرّفه البهوتي في كشاف القناع (الفقه الحنبلي) بأنه شراء القوت للتجارة وحبسه ليقلّ فيغلو([23]).

وأما الإمامية، فقد عرّفه الشيخ الطوسي وغيره بأنه حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع مع الحاجة الشديدة إليها ولا باذل([24]). وظلّ هذا التعريف موجوداً عند غير واحد من الفقهاء بعده مع اختلاف طفيف، كإضافة الملح، أو بيان الغرض كالاستبقاء للزيادة([25]).

وعرّفه المحقق النراقي بأنه «حبس الشيء انتظاراً لغلائه»([26])، وتعريفه هذا لو استمرّ معه معناه عدم أخذ الشراء السابق والجمع المتقدّم في مفهوم الاحتكار.

كانت هذه بعض التعريفات الفقهية عند المذاهب الإسلامية، ويلاحظ منها عدّة أمور:

الأول: إنّ أغلب التعريفات، إن لم يكن جميعها، يدخل قيد الطعام في تعريف الاحتكار، الأمر الذي يتطابق مع ما فهمناه من المعنى اللغوي سابقاً، نعم فقهاء الإمامية قيّدوا الطعام في الغالب ببعض الأنواع التي بلغت الأربعة أو الخمسة أو الستّة وبعض قليل منهم ـ كما سيأتي ـ عمّم لمطلق الأطعمة ونادراً ما لاحظنا من اختار الشمول لغير الطعام.

الثاني: الملاحظ في غير واحد من التعريفات أخذ قيد الشراء والجمع بقصد الاحتكار، فلا يكون الاحتكار بمجرّد الحبس، بل يكون بعملية الشراء الهادفة إلى جمع الطعام من السوق بهدف حبسه انتظاراً للغلاء، وهذا ما قلنا سابقاً بأنّ التعريفات اللغوية غير ظاهرة فيه، وناقشنا كلام العلامة شمس الدين فيه. وفقط كلمات قليلة ـ كتعريف الشيخ النراقي ـ كانت خالية من عنصر الجمع السابق هذا.

الثالث: إن بعض التعريفات ـ مثل تفسير ابن عابدين ـ جاء فيها بيان المدّة الزمنية وبعضها الآخر لم يرد فيه ذلك.

الرابع: إنّ هناك قيدين ذكرا في تعريفات الفقهاء، فبعضهم عبّر بحاجة الناس إلى السلعة أو حاجتهم الشديدة أو حاجتهم الظاهرة، وبعضهم عبّر بالضرر، ومن الواضح أنّ مفهوم الحاجة وإن أطلق وأريد به ذلك إلا أنّه يظلّ أعم في كثير من الأحيان من مفهوم الضرر بما له من معطيات فقهية خاصّة، إلا أنّ الراجح أن الجميع قصد شيئاً واحداً؛ لأنّ الحاجة الشديدة تدفع الناس للشراء الذي سيلحق ضرراً مالياً بهم من خلال ارتفاع الأسعار ارتفاعاً غير معقول، وإذا لم يشتروا فسيتضرّرون أيضاً بحكم حاجتهم إلى الطعام.

الخامس: لاحظنا في بعض التعاريف ذكر قوت الآدمي والبهائم، فيما أطلقت تعاريف أخرى كلمة الطعام، وبيّنت ثالثة ـ كما في الفقه الإمامي ـ بعض أصناف الطعام. وإذا بقينا مع التعريفات فقد يدّعى أن المنصرف من الطعام والعناوين الخاصة ما كان للإنسان بخصوصه لا ما شمل البهائم والحيوانات المملوكة، إلا أنّه ليس من البعيد أن تكون مشمولةً حتى مع عدم التصريح بها؛ لأنّ عنصر الحاجة أو عنصر الضرر المأخوذ في التعريف له قدرة الشمول لطعام البهائم والحيوانات، إذ ستكون النتيجة إما موت الحيوانات أو هزالها وضعفها أو دفع مالكها المال الكثير لشراء الأطعمة لها، الأمر الذي يحقّق في الحالات الثلاث عنواني الضرر والحاجة.

السادس: يبدو من تعريف الفقه الشافعي أنّ الاحتكار إنما يكون بالابتياع للسلع المحتكرة وقت الغلاء لا وقت الرخص، وهذا التقييد لم نلاحظ وجوده عند أغلب فقهاء المذاهب الأخرى، ولا نرى موجباً له كما سيأتي؛ لخلوّ الدلالات اللغوية والعرفية عن ذلك إلى جانب عدم وجود نصوص دينيّة فيه، ولهذا عمّم ابن حزم ـ كما تقدم ـ الحكرة للشراء وإمساك ما اشترى.

السابع: لم يشر الفقهاء إلى المفهوم الاقتصادي المقابل للاحتكار، والذي هو عبارة عن العرض وكذلك المنافسة، فالسوق التي تقوم على المنافسة الحرّة يفترض أن تواجه الاحتكار بطبيعتها، كما يظهر ذلك من كلمات الاقتصاديين.

وهذا الأمر قد لا يكون دقيقاً في بعض الأحيان، أو يحتاج إلى توضيح؛ لأنّ السوق تارةً يحكمه الاحتكار وأخرى يقوم على التنافس التام وثالثة يقوم على التنافس الاحتكاري «كصناعة الملابس» ورابعة على ما يسمّى باحتكار القلّة وهي مجموعة تحتكر بضاعة لا فرداً واحداً.

ويقابل الاحتكار ظاهرة أخرى أيضاً وهي ظاهرة الإغراق التي تغرق السوق بسلعة بهدف الإضرار بدول معيّنة أو تجار محدّدين. وسوف يأتي إن شاء الله تعالى تحليل عناصر الالتقاء والافتراق بين مفهوم الاحتكار فقهيّاً وقانونياً واقتصادياً.

ومن خلال هذا العرض والتحليل الموجزين يتبيّن أنّ المعنى المصطلح للاحتكار لا يتطابق مع المعنى اللغوي، نعم هو من أفراده ومصاديقه وتطبيقاته، فإن قصد بالتطابق([27]) هذا المقدار كان صحيحاً، وإلا فإنّ المعنى اللغوي ليست فيه جملة وافرة من هذه القيود والتخصيصات.

 

3 ـ صفة الاحتكار أو حكمه التكليفي

بصرف النظر عن شروط الاحتكار وقيوده المأخوذة فيه شرعاً وقانوناً، لابدّ أوّلاً من البحث في حكمه إجمالاً، ثم النظر في المرحلة التالية في مساحة هذا الحكم ودائرته.

وعلى أية حال، فإنّ الفقه الإسلامي متفقٌ على مبدأ مرجوحية الاحتكار ولا خلاف في ذلك([28]).

بل اعتبره بعضهم من امتدادات نظرية الملكية في الإسلام، حيث تفيد أنّ الملكلية يراد لها في الفقه الإسلامي أن تساوق الانتفاع والاحتكار عبارة عن ملكية بلا انتفاع([29]).

 إلا أنّهم اختلفوا في أنّ مرجوحيّته على نحو الحرمة أو الكراهة التحريمية «بحسب اصطلاح الفقه الحنفي» والكراهة غير التحريمية، فليس في المسألة ـ بصرف النظر عن القيود والتفاصيل الآتية ـ إلا قولان هما: الحظر والكراهة. وسوف نستعرضهما للنظر في مستنداتهما للتوصّل إلى نتيجة بهذا الخصوص إن شاء الله تعالى.

 

1 ـ 3ـ نظرية تحريم الاحتكار

ذهب إلى هذا القول جمعٌ غفير من الفقهاء المسلمين من الفريقين مصرّحين به. ولسنا بحاجة إلى استعراض كلماتهم بعد شهرة هذا القول شهرة عظيمة، وحتى الأحناف الذين عبّروا بالكراهة دون تقييد إضافي يفهم منهم الكراهة التحريمية وفقاً لأصولهم الفقهية، وقد ذكر الشيخ آل عصفور البحراني أنّ القول بالكراهة هو الأشهر دون الحرمة([30]).

وما يمكن الاستدلال به للقول بحرمة الاحتكار ما يلي:

 

1ـ 1ـ 3ـ النصّ القرآني ومواجهة ثقافة الحكرة

الدليل الأوّل: الاستناد إلى مجموعة من النصوص القرآنية التي تؤسّس لنهج خاصّ في التعامل مع حركة المال وجمعه وحبسه، وهذه الآيات القرآنية هي:

1 ـ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ (النساء: 29).

فإنّ أكل المال عن طريق الاحتكار لا يصنّفه العقلاء إلا أكلاً للمال بالباطل، فيكون مشمولاً للآية الكريمة.

2 ـ قوله تعالى : ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ..﴾ (الحشر: 7). ومن الواضح أنّ الاحتكار يجعل المال خاصّاً في تداوله بين الأغنياء دون الفقراء، نظراً لما يستدعيه من ارتفاع الأسعار بما يعجز معه الفقير عن الشراء.

3 ـ قوله سبحانه : ﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾ (المعارج: 17 ـ 18)، حيث هي ناهيةٌ عن جمع المال وكنزه وعدم إخراجه.

4 ـ قوله عز من قائل: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ﴾ (الهمزة: 1 ـ 2)، وحاله حال الآية السابقة.

5 ـ قوله تبارك اسمه: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾ (النساء: 128).

6 ـ قوله تعالى: ﴿مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ (القلم: 12).

7 ـ وقوله تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبّاً جَمّاً﴾ (الفجر: 20).

8 ـ وقوله تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً﴾ (المعارج: 20 ـ 21).

9 ـ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 34).

فإنّ هذه الآيات القرآنية بمجموعها تدلّ دلالةً واضحة على تحريم كلّ ثقافة حكر وشحّ وجمع للمال دون نظر إلى الفقراء والمحتاجين، ومن الواضح أنّ الاحتكار من أجلى مظاهر ما تحدّثت عنه هذه الآيات ونهت وذمّت([31]).

وهذه الآيات جيّدة جداً في الدلالة على ثقافة تناقض ثقافة الاحتكار، ولا أقلّ من كونها تحرّمه في بعض مصاديقه لا كلّها مما تحدّث عنه الفقهاء، إلا أنّ الكلام في أنّ هذه الآيات تريد أن تؤسّس مبدأ الإنفاق والصدقة والتداول في مقابل مبدأ منع الحقوق والبخل وحبّ المال، وليس الاحتكار أو المحتكر كذلك بالضرورة، فقد يكون ملتزماً بجوانب الشريعة الأخرى من الزكاة والخمس والصدقات لكنه في بعض تجاراته وبهدف تحقيق المزيد من الربح يقوم بتأخير عرض السلع والبضائع إلى مدّة زمنية محدّدة وليس إلى الأبد، وطلب الربح لا يساوق مفاهيم حبّ المال أو منع الخير أو ما شابه ذلك، فهذا تماماً كالغني غير المحتاج الذي يواصل بحثه عن المزيد من تحقيق الأرباح، فلا يتصوّر أنّ مثل هذه الآيات الكريمة تشمله.

من هنا، فلعلّ أفضل آيتين هنا هما: الأولى والثانية، فإنّ الأولى إذا بنينا في تفسيرها على أنّ المراد منها كلّ سبب باطل، وفهمنا السبب فيها بالمعنى الواسع الذي لا يقف عند حدود نفس العقد الناقل، فلا يبعد أن يكون كذلك بنظر العقلاء، إذا لم نقل بأنّ الشراء بعد الاحتكار يكون عن تراضٍ حينئذٍ، ولو كان المشتري راضياً بوصفه مضطراً، فإنّ الإضطرار لا ينفي عنوان الرضا كما هو واضح، على خلاف الإكراه الرافع للرضا والاختيار.

فإذا نظرنا للظاهرة ككل، فقد يصف العقلاء ما يأكله المحتكر بأنه جاءه عن طريق باطل، وأما إذا فكّكنا الظاهرة فلن يكون الاستدلال بالآية جيداً.

وأما الآية الثانية، فرغم وجودها إلا أنّ الاستدلال بها أيضاً مشكل، لا أقلّ من كونها خاصّة بالفيء، فإنّ موردها الأموال العامة أو أموال بيت المال حيث نهت عن تخصيص تداولها ـ على الطريقة الجاهلية ـ بخصوص الأغنياء وأصحاب المكانة، ومن ثم فلا يمكن تعميمها لمطلق المال ضمن أيّ حركة سوقية تفرض شكلاً محدّداً من أشكال التمركز الذي يجامع الإنفاق الواجب والمندوب من الصدقات والوقوف والزكاة والخمس وغير ذلك.

من هنا، يمكن اعتبار هذه النصوص القرآنية مؤشرات عامة للحكم في الاحتكار، وليست أدلّة حاسمة، ولعلّه لذلك لم نجد ذكراً لها وأمثالها في كلام الفقهاء المسلمين.

 

2ـ 1ـ 3ـ مرجعية حرمة الضرر في حظر الاحتكار

الدليل الثاني: الاستناد إلى الحكم بحرمة الإضرار بالمسلمين؛ فإنّ الاحتكار يحتوي على مضرّة عظيمة للفقراء والمحتاجين، وقد كتبت الدراسات الاقتصادية الكثير حول مضارّ الاحتكار على المجتمع من نوع دوره في التضخّم وارتفاع الأسعار، ودوره في قلّة الإنتاج وانخفاض جودته وزوال المنافسة وكساد السلع، وتحدّث بعضٌ عن دوره في البطالة، وكذلك اتساع الهوّة الطبقية بين الفقراء والأغنياء، بل لا يبتعد الاحتكار بأشكاله الكبرى والدولية عن التأثير في اندلاع الحروب والفتن([32]).

وهذا الدليل جيّد، وهو يثبت حرمة الاحتكار في الجملة؛ إذ لا شكّ في أنّ بعض مصاديقه وموارده([33]) مما يصدق عليه عنوان الإضرار بالمسلمين وكذلك بالدولة الإسلامية فيكون حراماً، إلا أنّ الكلام في مساحة هذا التحريم، وسيأتي لاحقاً بعون الله تعالى، حيث إنّ التأثيرات النوعيّة الكبرى تحتاج إلى رصد من الخبراء في مديات تأثير المحتكرين الصغار مثلاً ـ بصورة مجتمعة أو متكاثرة أو متفرّقة قليلة ـ على الحال الاقتصادي، كما وينبغي التمييز بين التأثير السلبي للاحتكار على الاقتصاد عموماً وبين حيلولته دون ارتفاع مستويات التنمية والتقدّم الاقتصادي، وهي عناصر بأجمعها لا يمكن البتّ في تحريم مختلف أنواع الاحتكار قبل التأكّد مناطقياً أو على مستوى البلد بأكمله من تحقّقها وتأثيراتها السلبية، الأمر الذي يعطي التشخيص البشري دوره هنا في تحديد صدق عنوان الإضرار بمن لا يجوز الإضرار به. ولعلّ غير واحد من الفقهاء الذين قالوا بالكراهة هنا لا يقصدون بلوغ الاحتكار هذا الحدّ. كما لعلّ قول الشيخ جعفر كاشف الغطاء بثبوت الحرمة العقلية للاحتكار إلى جانب الحرمة الشرعية([34]) مردّه إلى هذا الأمر من أذية الآخرين والإضرار بهم.

 

3ـ 1ـ 3ـ نصوص السنّة في مسألة الاحتكار

الدليل الثالث: السنّة الشريفة، حيث دلّت مجموعة من الأحاديث على تحريم الاحتكار في الجملة، ومن هذه النصوص الحديثية ما يلي:

1ـ خبر ابن القدّاح، عن أبي عبد الله× وبسند آخر عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله$: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون»([35]).

فهذا الحديث الوارد عند الفريقين ظاهرٌ في لعن المحتكر، واللعن لابدّ وأن يفهم في سياق التحريم والمبغوضية الشديدة، فيكون دالاً على الحرمة.

لكن يناقش: بأنّ هذا الحديث ضعيف السند، فقد ورد من طرق الإمامية بسند فيه سهل بن زياد، ولم نعتقد بوثاقته كما بحثناه في محلّه، وورد من طرق أهل السنّة بسند فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف([36]). هذا مع غضّ الطرف عن مناقشة بعض الفقهاء في دلالة اللعن على التحريم([37]).

2ـ النبوي المعروف، والذي جاء فيه: «لا يحتكر الطعام إلا خاطئn([38])، بصيغته الواردة في المصادر الشيعية، أما في المصادر السنية فقد ورد تارةً بصيغة: «لا يحتكر إلا خاطئ»([39])، وأخرى بصيغة: «من احتكر الطعام فهو خاطئ»([40])، وثالثة بصيغة: «من احتكر يريد أن يتغالى بها على المسلمين فهو خاطئ»([41]).

والذي يفهم من كلمة «خاطئ» هنا هو الإثم، كما صرّح به بعضهم([42])، فتكون الرواية دالّةً على الحرمة.

لكن تلحق هذا الحديث مناقشات:

أولاً: إنه ضعيف السند بالسكوني، حيث توصّلنا في الأبحاث الرجالية إلى عدم ثبوت وثاقته.

إلا أنّ هذا الإشكال، وإن ورد على الحديث بطرق الإمامية، كما ترد إشكالات أخَر على الحديث ببعض طرق أهل السنّة، إلا أنّ الحديث في صحيح مسلم تام السند ومعتبر.

ثانياً: إنّ كلمة «الخاطئ» تحتمل معنى آخر([43])، وهو الكراهة؛ لأنه لو كان الاحتكار حراماً فإنّ هذه الرواية ستكون من بيان البديهيات على خلاف فرض الحكم بالكراهة فإنها سوف تقدّم معطى جديداً وهو شدّة الكراهة([44])، ومعه تدلّ على مطلق المرجوحية([45]).

وناقش العلامة شمس الدين هذا الكلام، تارةً بأنّ الرواية تبيّن حكم الاحتكار ببيان حال المحتكر، فنحن نعرف الحكم بها مع فرض عدم وجود نصّ غيرها، لا أننا عرفنا الحكم قبلها. وأخرى بأنّ الحمل على شدّة الكراهة يكفي فيه مثل جملة «المحتكر خاطئ» أما استخدام أسلوب الحصر في الحديث فهو متناسب مع إفادة الحرمة لا الكراهة([46]).

لكنّ هذين الجوابين غير واضحين؛ فإنّ التشديد بهذا المستوى يتناسب ـ مبدئيّاً ـ أيضاً مع الكراهة الشديدة كما نلمس ذلك من أسلوب الأحاديث التي قد تشدّد البيان على مبغوضية شيء بما لا يصل إلى حدّ التحريم، وأما ما ذكره أولاً فهو جيّد لكنه ناقص، ولعلّه أراد ما هو الجواب الصحيح هنا والذي ذكرناه مراراً من أنّ قياس وضوح بعض التشريعات في عصرنا على حالها في العصر الأول أو العكس غير صحيح، فهذا الحديث نبويٌّ، وأيّ مانعٍ من أن يكون قد صدر في بدايات تحريم الشريعة الإسلامية للاحتكار، فكيف تُفرض البداهة في ذلك العصر؟ ومن أين أتت هذه البداهة لولا مثل هذه النصوص؟

فالصحيح التركيز على توصيف «خاطئ»، وهو توصيف نفهم منه التحريم؛ لأنّ الخطأ كما يطلق على حالة الاشتباه غير العمدي، كذا يطلق على حالة العصيان، ولذلك استخدمت الخطيئة والخطايا في القرآن الكريم في معنى الذنب، كما أشار إليه العلامة شمس الدين نفسه، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء: 82)، وقوله سبحانه: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ﴾ (يوسف: 29). بل لو تخطّينا هذا الأمر فلا معنى لتفسير كلمة الخاطئ بمعنى الاشتباه؛ إذ لا معنى للاشتباه في فعل المحتكر، فهو لم يقصد شيئاً ثم أخطأة حتى يقال بأنه خاطئ إلا بتكلّف، والتعبير عن فعل المكروهات بمثل ذلك غير مألوف إن لم نقل بأنّه غير صحيح. فهذا الحديث تامّ السند والدلالة على المطلوب.

3 ـ ما جاء في عهد الإمام علي× لمالك الأشتر: «واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله$ منع منه.. فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقبه في غير إسراف»([47]).

فهذا الحديث صريحٌ وواضح في منع الاحتكار، وأنّ رسول الله$ منع منه، وفيه إشارة جلية إلى مبرّر المنع والتحريم، وهو فتح باب مضرّة على عامة الناس، فينسجم مع ما استدلّينا به من تحريمه بملاك الإضرار بالغير.

لكن قد يناقش في هذا الحديث:

أولاً: إنّ السياق الحافّ بهذا الحديث يعطي طابعاً ولائياً حكومياً، فتعبير: «بعد نهيك إياه» ظاهرٌ في ذلك، وأنه قبل النهي لم يكن يلحقه شيء، بل سياق العهد كلّه إلا ما خرج بالدليل يقتضي ـ بمناسبة صدوره من الخليفة إلى أحد الولاة ـ أن يقتصر فيه على العنصر الولائي حتى يثبت التعميم التشريعي بدليل. ولعلّه لذلك فهم السيد محمد باقر الصدر من الحكم بلزوم التسعير الوارد في المقطع نفسه بأنه ولائي من باب منطقة الفراغ([48]).

وقد أجاب الإمام الخميني وآخرون عن هذه الملاحظة بجواب عام، وهو أنّ الأحكام الولائية والسلطانية لرسول الله$ نافذةٌ أيضاً إلى الأبد، ومجرّد سلطانيّتها لا يلغي نفوذها على الأمّة كلّها حتى بعد عصره$([49])، وقد أوضح الشيخ المنتظري الفكرة بعد توسعتها لأهل البيت^ بأنّ ذلك راجعٌ إلى عموم ولايتهم، حيث لا تنحصر بأهل زمانهم، من هنا استشهد الإمام علي× في العهد نفسه بفعل الرسول$؛ لأنّ ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ تعمّ عصره وغيره، وتعم الحكم الولائي الذي أوتينا من قبله وغيره([50]).

إلا أنّ هذا الكلام قابل للمناقشة، وذلك:

أ ـ إنّ الاستدلال بالآية الكريمة وأمثالها مما استدلّ به على حجية السنّة لا ينفع هنا؛ لأنّ الذي يناقش في حجية الحكم الولائي بعد عصر النبي$ لا يرفض الأخذ بما جاء به النبي، وإنما يعتقد بأنّ ما أتى به النبي هو في نفسه غير شامل لما بعد عصره أو لعصرنا، فهذا تقيّد في الصادر منه$ لا ردّ له بعد إطلاقه، فهذا تماماً مثل عدم تطبيق الرجل الأحكام الخاصّة بالمرأة عليه، فهذا ليس ردّاً لما جاء به الرسول وإنما هو تقيّد في نفس الصادر لا يشمل معه الرجل نفسه.

هذا إضافةً إلى أنّنا بحثنا في محلّه بالتفصيل، وقلنا بأنّ هذه الآية الكريمة لا تدلّ على حجية السنّة([51]).

ب ـ إنّ الاستدلال باستناد الإمام علي× إلى الفعل النبوي بالمنع في عهد الأشتر ليس دليلاً على مرجعية الحكم الولائي في العصور اللاحقة إلا بعد فرض كون المنع النبوي من الاحتكار كان منعاً سلطانياً وليس منعاً إلهياً، وبالإمكان القول بأنّ استشهاد الإمام علي× بالمنع النبوي هو بنفسه دليلٌ على إلهية الحكم الصادر من علي× لا سلطانيّته، وأنّ هذه القرينة تصلح للخروج من سياق الأحكام السلطانية في عهد الأشتر، فلا موجب للتعديل في نوع الحكم الصادر، بل يكون استناد الإمام علي بنفسه دليلاً على إلهيّة المنع النبوي ومن ثمّ العلوي، وأيّ مرجّح لهذا على ذاك؟

نعم، إذا كان المراد مجرّد الجدل مع القائل بولائية الحكم الوارد في نصّ العهد فلا بأس.

ج ـ إنّ الحديث عن عموم ولاية النبي$ وأهل بيته^ لا بأس به ثبوتاً في حدّ نفسه، إلا أنه وفق الأصول الشيعية لا يبدو واضحاً، بمعنى أنّ وفاة الإمام السابق وفعلية إمامة الإمام اللاحق يستدعيان حينئذٍ ـ أي بناءً على امتداد الولاية السلطانية لما بعد وفاة الإمام السابق ـ سلطانية وولائية أحكام الإمام المتوفى والحيّ معاً، مع أنّ المفروض أنّ الولاية تكون للحيّ بشكل مقدّم على ولاية الميّت بمقتضى قانون الولاية فقهياً، وهنا إذا أمضى الإمام اللاحق ـ ولو من خلال سكوته ـ ما صدر عن السابق كان نافذاً، لكنّه يكون ولائيّاً بالنسبة إلى اللاحق، وتكون مرجعيّته الاعتبارية هي الإمام اللاحق نفسه، وأما إذا خالف الإمام اللاحق هذا الحكم فيؤخذ بما صدر منه؛ لفرض تقدّم ولايته أو لا أقلّ كشف ذلك عن عدم نفوذ الحكم الولائي للإمام السابق في المرحلة اللاحقة. ولا يعقل تصوّر عدم ولاية الإمام اللاحق في عصره؛ إذ ذلك خُلف المقدار المتيقّن من عموم ولايته، فلا يخلو أمره بين موافق على هذا الحكم ومعارض فتكون المرجعية له هو نفسه لا لعمومية الحكم الولائي. هذا كلّه على مستوى مرحلة الثبوت.

وأما على تقدير الشك إثباتاً في إمضائه له، فقد يقال بأنّ مقتضى الاستصحاب عدم الإمضاء، لكنّه يعارض باستصحاب عدم المعارضة بل باستصحاب الإمضاء في فترة حياة الإمام السابق؛ ولا يقال معه بأنّ نفوذ الحكم الولائي في السابق مرتبط بإمضاء الإمام اللاحق نظراً لفعلية ولايته في زمان حياته، لا بعدم معارضته إلا من باب أنّ عدم المعارضة كاشف عقلائي عن الإمضاء.

ولتأكيد ما نقول علينا أن نتصوّر أنّ الإمام علياً× مثلاً أصدر حكماً ولائياً فهل ننتظر سائر الأئمة ليحكموا فيه أم يأخذ أبناء عصره بما صدر عنه من أحكام سلطانية؟ هذا يعني أنّ كلّ إمام له المرجعية الفعلية زمان حياته في دائرة الأحكام السلطانية، وهذا لا يمنع من صدور حكم سلطاني نبوي يخصّ الأمّة الإسلامية إلى يوم الدين، إلا أنّ سلطانيته تقع ـ على أبعد تقدير ـ في عرض ولاية الأئمة في زمان فعليّة ولايتهم لا في طولها أو سابقة عليها بعد فرض عصمتهم جميعاً وولايتهم جميعاً.

د ـ إن المطلوب هنا هو التأمل في هوية الحكم السلطاني الولائي، فما هو المقصود منه؟

من الواضح أنّ الحكم الولائي غير الولاية التشريعية المعبّر عنها بالتفويض التشريعي والذي نفيناه في محلّه عن أهل البيت وأثبتناه لخصوص النبيّ$ مع قيد([52])؛ لأنّ الولاية التشريعية بمعنى التفويض بناء على ثبوتها عبارة أخرى عن جعل شرعي إلهي غايته يكون من خلال كمال الشخصية النبوية التي تدرك المصالح والمفاسد العامّة. وهذا معناه أنّ الحكم الولائي الذي لا ينبع هو الآخر إلا من المصالح والمفاسد لا من قضايا ذاتية، بحكم كون إعمال الولاية لابد وأن يكون على أساس ذلك، هذا الحكم لا يمكن صدوره أبدياً؛ إذ لو كان في هذا الحكم مصلحةٌ ملزمة فإنّ المفترض أنه حكم إلهي يتعلّق بالبشر إلى يوم الدين على أساس أنه ما من واقعة إلا ولها حكم، وإذا لم يكن عن مصلحة فهذا يعني أنّ هذا الحكم مزاجيٌّ شخصي، وهو غير صحيح في الأحكام الولائية الصادرة عن المعصومين، نعم صورياً يمكن تعقّل الحكم الولائي الأبدي بأن نفرض الأمّة كلّها على امتدادها الزماني والمكاني تحت الولاية، والحاكم يلاحظها بأجمعها ويشخّص لها مصلحةً ويصدر حكماً على أساس الولاية، إلا أنّ ذلك كما قلنا يرجع بالتحليل إلى حكم شرعي. ويصبح تفويضاً تشريعياً.

نعم، يمكن تعقل حكم ولائي ـ بصرف النظر عما تقدّم في النقطة السابقة ـ لمدّة زمنية طويلة ولو بعد وفاة المعصوم، وهذا يصحّح تصوّر شمول الحكم لنا مثلاً لكنه لما كان الحكم زمنياً مقيّداً بزمان خاص فهذا يعني أنه تاريخي، وحيث إننا نشك في أنه شامل لنا أو غير شامل لنا، فلا يصحّ إثبات الشمول، لما قلناه في مباحث تاريخية السنّة([53]) من أنه لا توجد مرجعية هنا تصحّح الشمول لا من الإطلاق الأزماني ولا من الاستصحاب، وتكون النتيجة عدم إمكان إثبات الحكم لنا مع الشك الحقيقي في الشمول.

ومع قبولنا بإمكان الحكم الولائي لما بعد عصر المعصوم، إلا أننا نميل إلى أنّ الأحكام الولائية أحكام تنطلق من مصالح زمنية ويتحرّك فيها الحاكم من خلال متغيّرات الوضع في زمانه، دون أن يلاحظ الأزمنة اللاحقة البعيدة، فإنّ هذه هي الأحكام السلطانية التي تتسم بطابع زمني، ولو أراد النبي أن يصدر حكماً ولائياً لما بعد عصره فإنّ طبيعة الأشياء تستدعي البيان خصوصاً مع تقيّد هذا الحكم بعمر زمني كقرن أو قرنين، وهذا بخلاف حكمه الولائي المقارن لحياته فإنّ قرينيّة التحديد الزماني موجودة من خلال الربط العقلائي في أحكام الحاكم بفعلية حكومته، ولهذا لا يتوهم الحاكم اليوم شمول حكمه لما بعد فترة ولايته إلا بإمضاء اللاحقين أو بوجود قانون مسبق يفرض ذلك.

وبهذا كلّه، يظهر أنّ من الأفضل الاستعاضة عن جواب الإمام الخميني والشيخ المنتظري بالقول بأنّ الولائية هنا غير محتملة؛ وذلك أنه حتى لو غضضنا الطرف عن استشهاد الإمام علي× بالمنع النبوي ممّا يعزّز إلهية الحكم .. وإلا لأسند الحكم إلى نفسه بصفته الخليفة والولي، فإنّ بيان الإمام علي× للعلّة في الحكم يكشف عن إلهيّته وثباته من حيث كون حكم العلّة معلوماً شرعاً، وهو الإضرار بالناس، فيكون الحكم المستنتج هو حرمة الاحتكار المضرّ بالناس شرعاً، والإمام ببيانه للعلّة يكون قد أصدر حكماً ـ ولو زمنياً ـ معلّلاً بعلّة إلهية، فيمكن تعميم الحكم بلحاظ العلّة حتى لو نعمّمه بلحاظ ذاته.

يضاف إلى ذلك أنّ تعبير «بعد نهيك إيّاه» لا يفيد ولائية الحكم؛ لأنّ هذه الجملة كما تنسجم مع الولائية تنسجم أيضاً مع قانون: لا عقوبة قبل العلم أو قانون التدرّج في الأمر والنهي.

وبهذا يظهر أنّ الإشكال على الاستناد لعهد الإمام علي إلى الأشتر من حيث السلطانية غير صحيح.

ثانياً: إنّ عهد الإمام علي× لمالك الأشتر الوارد في نهج البلاغة لا سند له، فلا يمكن الاعتماد عليه.

ونوقش:

أ ـ إنّ مثل هذا العهد لا يحتاج إلى سند؛ لتلقّي الأصحاب له بالقبول، نظراً لعلوّ مضامينه وجودة بيانه ونوارنيّته، مما يفيد الوثوق والاطمئنان بصدوره عنه([54]).

وقد ناقشنا في محلّه هذا النحو من الاستدلال فلا نطيل، وعلى أية حال هو أمر شخصي فمن حصل له هذا الاطمئنان بحيث اطمئنّ بصدور كل فقرة فقرة منه فبها وإلا فلا. وأما مسألة تلقي الأصحاب له بالقبول فغير محزر صغروياً.

ب ـ إنّه يمكن تعويض السند والحصول على طريق صحيح للعهد، وذلك بالقول: بأنّ الشيخ الطوسي في كتاب الفهرست لدى ترجمته للأصبغ بن نباتة ذكر أنه روى عهد الإمام علي× لمالك الأشتر لما ولاه مصر، ذكراً بعد ذلك طريقه إلى الأصبغ في هذا العهد نفسه، وهو طريق صحيح، وبهذا يصحّ لنا طريق تام إلى عهد الأشتر بطريق الطوسي في الفهرست.

إلا أنّ هذا التصحيح يواجه عدّة مشاكل وهي:

المشكلة الأولى: إنّ في السند ابن أبي جيد، وهذا الشخص مبنيةٌ وثاقته على جملة من النظريات الرجالية التي لم نلتزم بها في البحث الرجالي، مثل كونه من مشايخ الإجازة، أو كونه كثير الرواية ووقوعه كثيراً في الطرق، أو كونه من مشايخ النجاشي، وهي نظريات لم تصحّ عندنا كما حققناه مفصّلاً في محلّه.

وقد حاول السيد كاظم الحائري تجاوز هذه الإشكالية عبر نظرية التعويض السندي([55])، وقد فصّلنا البحث في هذه النظرية في دراساتنا الرجالية، ولم تثبت صحّتها عندنا.

المشكلة الثانية: وقوع الحسين بن علوان الكلبي في السند ولم تثبت وثاقته عندنا؛ لأنّ كلمة «ثقة» الواردة في ترجمته عند الشيخ النجاشي لا يحرز رجوعها إليه حيث قال: «الحسين بن علوان الكلبي مولاهم كوفي عامي، وأخوه الحسن يكنى أبا محمد ثقة، رويا عن أبي عبد الله×، وليس للحسن كتاب والحسن أخصّ بنا وأولى...»([56]). فإنّ التوثيق كما يحتمل عوده إلى الحسين، ولو بشاهد أنه المترجم في هذا النصّ، يحتمل أيضاً عوده إلى الحسن ولو بشاهد أنه قال بعده: «رويا»، مما يشير إلى انتهاء الحديث عن الحسن والعودة إلى الاثنين معاً، وإلا لقال: روى هو وأخوه. وأمّا قوله بعد ذلك بأنّ الحسن أخصّ بنا وأولى، فلا يصلح قرينةً ـ كما ذهب إليه بعضهم([57]) ـ لإرجاع التوثيق إلى الحسن؛ لأنّ هذه الجملة تتحدّث عن الاتجاه المذهبي الانتمائي للحسن الكلبي فيما التوثيق يحكي عن الجانب الإخباري عنده، بل هذه الجملة شاهد أنّ النجاشي في هذه الترجمة قد أكثر من التحدّث عن الحسن، فلا يصحّ الاعتماد على كون الحسين صاحب الترجمة لإرجاع التوثيق إليه. ونحن لا نجزم الآن بعود التوثيق إلى الحسن بل يكفي التردّد، ومعه لا تثبت وثاقة الحسين بن علوان الكلبي إلا بناءً على مثل تفسير القمي وليس بثابت، ما لم يصرّ شخص بأنّه في هذه الحال حيث يتردّد التوثيق نجري قانون تنجيز العلم الإجمالي بلحاظ الأخبار الإلزامية التي ينقلها الحسن أو الحسين.

المشكلة الثالثة: وبصرف النظر عن الإشكاليتين المتقدّمتين في السند، ولو فرضنا صحّة سند الطوسي المذكور في الفهرست، إلا أنّ الطوسي لم يرو لنا العهد الذي وصله بهذا الطريق، ومعه كيف نعرف أنّ عهد الأشتر الذي وصل إلى الشيخ الطوسي (460هـ) بهذا الطريق مطابقٌ في فقراته جميعاً ـ ولا أقلّ الفقرة موضع الشاهد ـ لما هو موجود في نصّ العهد في كتاب نهج البلاغة للشريف الرضي (413هـ)؟

وقد حاول السيد كاظم الحائري طرح محاولة هنا لم يظهر عليه تبنّيها بشكل حاسم، وهي أنّ تعبير الشيخ الطوسي في الفهرست بأنه أخبرنا بالعهد فلانٌ عن فلان «إشارة إلى نفس هذا العهد الذي لم يُعرف إلا بالنسخ المألوفة، فيثبت ما اتفقت عليه النسخ»([58]).

إلا أنّ هذا الكلام غير واضح، فإنه لا يحرز أنّ الرضي في نهج البلاغة قد اختار النسخة المعروفة المشهورة بحسب نظر الشيخ الطوسي، لاسيما وأنّ منهجه ليس حديثياً تاريخياً توثيقياً وإنما هو لغوي بلاغي، فلعلّه اختار من بين صيغ هذا العهد أفضلها بلاغةً وجمالاً وقام بنقلها في النهج. علماً أنّ الإشارة إلى العهد لا تمنع عن احتمال وجود بعض الاختلافات في نسخه بحيث لا نعرف أيّ نسخةٍ هي النسخة الواصلة إلى الطوسي، كما أنه من الممكن أن تشتهر صيغةٌ في زمان الطوسي ثم لا نجد لها حضوراً بعد ذلك، كيف وقد بذل الشيخ محمد باقر المحمودي جهداً مشكوراً في تتبّع مصادر هذا العهد ومن رواه، ولم يذكر سوى بعض الكتب القليلة التي لا تصنّف من الدرجة الأولى في مجال الحديث والتاريخ مثل نهج البلاغة وتحف العقول ودعائم الإسلام وفتوح الشام و...([59]). وكما يحتمل أنّ الطوسي أشار لما هو موجود في هذه الكتب كذلك يحتمل أنّ كتباً أو نسخاً أخرى كانت موجودةً وذهبت هي التي قصدها، علماً أن مجرّد إشارته إلى العهد لا يعني اشتهاره بصيغة واحدة.

لهذا، فإذا نقل الطوسي عن عهد الأشتر شيئاً برواية الأصبغ بن نباتة أمكن الأخذ به وتصحيحه، وإلا فلا، وهذا المقطع موضع الشاهد لم يرد في كتب الطوسي لا الفقهية ولا الحديثية ولا القرآنية، مع أنه لو كان عنده لناسب أن ينقل عنه هذا الدليل في مباحثه الفقهية في الاحتكار، كما لم يذكره في كتبه الحديثية.

لهذا، لا نجد صحيحاً الاستدلال هنا بعهد الأشتر إلا بنحو التأييد.

4 ـ صحيحة سالم الحناط، قال: قال لي أبو عبد الله×: «ما عملك؟»، قلت: حنّاط، وربما قدمت على نَفَاق([60])، وربما قدمت على كساد فحبست، فقال: «فما يقول من قِبَلَك فيه؟»، قلت: يقولون: محتكر. فقال: «يبيعه أحد غيرك؟» قلت: ما أبيع أنا من ألف جزء جزءاً. قال: «لا بأس، إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه، فمرّ عليه النبي$ فقال: يا حكيم، إياك أن تحتكر»([61]).

فإنّ ظاهر «إياك»، وكذلك ما كان مقابل «لا بأس» هو الحكم بالحرمة. واستشهاد الإمام بالفعل والنهي النبوي شاهدٌ على عدم الاختصاص بحكيم بن حزام. وقد ذكر بعض الفقهاء في محاولة للجواب عمّن فهم الكراهة من هذه الرواية([62])، أنّ ورود تعبير مثل «لا بأس وإياك» في الدلالة على المكروهات لا يمنع كون ظاهرها الأوّلي هو الحرمة وإنما أفادت الكراهة في مواردها بقرينة([63]).

وقد حاول المحقّق الإصفهاني جعل الرواية في سياق بيان موضوع الاحتكار وهو وجود الباذل وعدمه، لا في مقام بيان الحكم حتى يفهم منها التحريم أو الكراهة([64]). إلا أنّ كلامه غير واضح من جهة أنّ الحديث النبوي الذي ينقله الإمام هنا كان في مقام بيان أصل الحكم لحكيم بن حزام فيؤخذ به، كما أنّ كونه في مقام بيان الموضوع لا ينافي الاستدلال بالحديث إذا كانت فيه إفادات المفروغية عن الحرمة، وليس المقام مقام الاستناد إلى الإطلاق حتى يقال ما ذكره الإصفهاني، علماً أنّ عملية الاستفصال التي مارسها الإمام إلى جانب ارتكاز الذمّ في العرف بحسب نقل الراوي كلّه يساعد على التحريم أكثر منه على الكراهة.

5 ـ صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله× أنه سئل عن الحكرة، فقال: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس أن تلتمس لسلعتك الفضل»([65])، وزاد في الكافي والتهذيب: وسألته عن الزيت فقال: «إن كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه»([66]).

ودلالة هذه الصحيحة على التحريم قائمة على المفهوم، على أساس إثبات البأس في غير حالة البذل، والبأس هو العذاب، فتكون ظاهرةً في التحريم([67]). ولعلّ إشكال المحقّق الإصفهاني المتقدّم أظهر هنا، من حيث احتمال كون الحكم المفروغ عنه هو الكراهة، فيكون الحديث تفصيلاً في مورد تحقّق الكراهة، والاستدلال مبنيٌّ على أنّ البأس دالّ على الحرمة، وهو ما رفضه بعضهم في المسألة مثل المحقق الخراساني([68]).

6ـ خبر أبي مريم، عن أبي جعفر× قال: قال رسول الله$: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً، يريد به غلاء المسلمين، ثم باعه فتصدّق بثمنه، لم يكن كفارة لما صنع»([69]).

فإنّ لسان التشديد الوارد في هذا الحديث النبوي ظاهرٌ جلي في رتبة الحرمة حتى أنه لو تصدّق به ما كان كفارة على صنعه، فهو من حيث الدلالة جيد، خلافاً للمحقق العراقي الذي لم يفهم من هذا اللون من البيان إفادة الحرمة([70])، لكنّ سنده ضعيف بجهالة علي بن محمد بن الزبير الكوفي القرشي وغيره.

7 ـ خبر يعلي بن أمية، عن رسول الله$ أنه قال: «احتكار الطعام في الحرم إلحادٌ فيه»([71]). والإلحاد ميلٌ من الحقّ إلى الباطل، فيكون الحديث دالاً على التحريم كما فهمه بعضهم.

ويناقش أولاً: إنّ الحديث ضعيف السند بموسى بن باذان الذي لم يرد فيه توثيق([72])، إضافة إلى طعنهم في جعفر بن يحيى بن ثوبان([73]).

ثانياً: إنّ احتمال الاختصاص بالحرم واردٌ؛ وقد عُلم من الشرع أنّ هناك بعض الأحكام الخاصّة بالحرم، فلعلّ الشريعة نهت عن الحكرة في هذه الأماكن المقدّسة التي تعجّ بالناس؛ إذ قد يوجب ذلك صدّ الناس عن زيارتها، لا لحرمة الاحتكار في نفسه.

8 ـ خبر ابن عمر، عن النبي$ أنه قال: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه...»([74]). فإنّ هذه البراءة والقطيعة التامّة بينه وبين الله تعالى دليلٌ على شدّة مبغوضية هذا العمل وحرمته.

إلا أنّ المشكلة في سند هذا الحديث، فإن فيه أبا بشر الأملوكي وقد ضعّفه بعضهم([75])، كما أنّه مرفوع من ابن عمر.

9 ـ خبر أبي أمامة، قال: نهى رسول الله$ أن يحتكر الطعام([76]). وهو دالٌّ على الحرمة بمقتضى تعبير النهي، وفي السند عبد الرحمن بن يزيد ولم تثبت وثاقته.

10 ـ ما جاء في مجموعة ورام بن أبي فراس، عن النبي$، عن جبرئيل× قال: «اطّلعت في النار فرأيت وادياً في جهنم يغلي، فقلت: يا مالك، لمن هذا؟ فقال: لثلاثة: المحتكرين، والمدمنين الخمر، والقوادين»([77]).

والدلالة واضحة بعد ثبوت العذاب الكاشف عن الجرم، لكنّ الحديث لا سند له.

11 ـ خبر أبي هريرة، قال: قال رسول الله$: «يحشر الحكارون وقتلة الأنفس إلى جهنم في درجة واحدة»([78]).

والدلالة جيدة بمقدار حرمة كثرة الاحتكار المستفاد من صيغة التشديد والمبالغة (حكّار)، لا حرمة مطلق الاحتكار، كما أنّ السند غير تام، فنحن نتوقّف في حديث أبي هريرة، وقد وصف الذهبي هذا السند بأنّ فيه انقطاعاً([79]).

12 ـ خبر عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله$ يقول: «من احتكر على المسلمين طعاماً ضربه الله بالجذام والإفلاس»([80]). وقد وصف سند هذا الحديث بالصحيح أو الحسن ورجاله بالموثقين([81]). ودلالته مبنية على أنّ مثل هذه العقوبات الدنيوية كافية في إثبات الحرمة وليس كذلك، لكن لا بأس بدلالة الحديث من خلال تعبير «ضربه» الذي يفيد معنى العقوبة والعذاب.

13 ـ خبر هشام بن عروة، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله$: «من احتكر فوق أربعين يوماً فإنّ الجنّة توجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام، وإنه لحرام عليه»([82]).

والحديث كما هو واضح تعبيرٌ عن إبعاد المحتكر عن الجنّة، في إشارة إلى شدّة مبغوضية فعله وحرمة ما أقدم عليه. لكنّ مشكلة هذا الحديث أنّ مصدره كتاب الأعمال المانعة من الجنّة لجعفر بن أحمد القمي، وهذا الرجل حاول المحدّث النوري توثيقه إلا أنه لم تثبت وثاقته عندي، فضلاً عن أنّ هذا الكتاب لا نملك سنداً صحيحاً إليه، وإنما نقل هذا الخبر منه العلامة المجلسي في البحار.

إلى غير ذلك من الروايات المتفرّقة الدالّة ـ ظهوراً أو إشعاراً ـ على مبغوضية الاحتكار في الجملة، وغالبها ضعيف السند، وبعضها لا يدلّ؛ لهذا لا حاجة للتعرّض لها.

ونخلص من عرض هذه النصوص، إلى أنّ الرواية الثانية (وسندها صحيح بطرق الجمهور) والرابعة والخامسة ـ إلى حدّ ما ـ والثانية عشرة تامّة السند والدلالة، وسائر الروايات مؤيّدة لها ممّا كان فيه دلالة، فإذا أمكن تحصيل وثوق واطمئنان من خلال أربع روايات، اثنتان منها تامة السند بطريق الشيعة واثنتان كذلك بطريق السنّة، إضافة إلى تردّد هذه الروايات كلّها بين المصادر الشيعية والسنية فبها، وإلا كانت هذه الروايات مؤيدةً للحرمة في مورد الإضرار بمن يحرم الإضرار به.

وقد ذهب العلامة مغنية والشيخ شمس الدين إلى كون الروايات هنا متواترة بالمعنى أو تكاد، لاسيما وأنّ في بعضها ما يفهم منه ارتكاز التحريم في وعي المتشرّعة والسائلين([83])، وكلامه واضح الضعف.

الدليل الرابع: ما استدلّ به بعض الفقهاء، من الاستناد في الحكم بالتحريم إلى إجبار الحاكم المحتكر على البيع، فإنه لا معنى لإجباره على البيع إذا كان الاحتكار مكروهاً فقط، بل هذا خلاف قانون السلطنة، فيكون ترخيص الشريعة في إجبار الحاكم على البيع كاشفاً عن حرمة الفعل على المحتكر، وأنّ هذا الإجبار كان انطلاقاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([84]).

وقد نوقش في هذا الدليل:

أولاً: بما ذكره السيد العاملي، من أنه لا يمكن الاستناد إلى الإجبار هنا؛ لأنّ الإجبار متفقٌ عليه، أما التحريم فمختلف فيه، كما أنه قد يقع الجبر على أمرٍ مستحبّ كزيارة النبي$([85]).

وأجيب بأنه لا مانع من وجود اختلاف في شيء، لكن يستدلّ لأحد وجهي الخلاف بأمر آخر متفق عليه، ومجرّد أنّ الفقهاء لم يلتفتوا إلى ذلك وأنّ القائلين بالكراهة لم ينتبهوا إليه لا يدلّ على ما يريد، على أنه لم نفهم وجه الجبر على المستحبّ إلا إذا تعنون المستحب بعنوان ثانوي يخرجه عن الاستحباب([86]). وسيأتي بعض ما يفيد قريباً.

ثانياً: ما ذكره المحقق الإصفهاني من أنّ الاحتكار إما أن يقصد به الامتناع عن البيع أو حبس الطعام في مقابل إخراجه إلى السوق:

فعلى الأول يكشف الإجبار ـ من باب الأمر بالمعروف ـ عن حرمة الامتناع عن البيع الذي هو الاحتكار؛ إذ لا إلزام على غير الواجب، لكن من الممكن أن يكون الإجبار لمصلحة الرعية لا من باب الأمر بالمعروف، ويشهد له أنه ليس لغير الحاكم فعل هذا، والأمر بالمعروف لا يختصّ بالحاكم، وعليه لا يكون الإجبار كاشفاً عن حرمة الاحتكار.

وعلى الثاني لا يكشف الإجبار عن حرمة الاحتكار، نعم لما كان الإخراج إلى السوق مقدّمة للبيع أمكن أن نستكشف إلزامه بالبيع ووجوب البيع عليه، ومن ثم يكون وجوب الإخراج من باب الوجوب المقدّمي، ومعه فلا منافاة بين كراهة الشيء في ذاته وإباحته كذلك وبين عروض الوجوب المقدّمي عليه([87]).

وأجيب بأنّ الحبس لا موضوعية له في تعريف الاحتكار لغةً وعرفاً، وإنما يراد منه الامتناع من البيع، وعليه نستفيد من الإجبار أنّ الاحتكار حرام؛ لأنّ مجرّد عدم جواز الإجبار على غير الحاكم لا يدلّ على أنّ الحالة التي نحن بصددها ليست من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ في الأمر بالمعروف ثمة موارد لا تجوز إلا بإذن الحاكم، كما في الجرح والقتل بل والضرب عند بعض الفقهاء، فلا مانع من افتراض كون الحالة من الأمر بالمعروف وكونها خاصّة ـ على المستوى التنفيذي ـ بالحاكم.

بل حتى لو تخطّينا مجال الأمر بالمعروف، يمكن القول بأنّ الحاكم الشرعي عندما يكون معصوماً تكون وظيفته الأوّلية بيان الحكم الشرعي الواقعي، وحتى لو كان بصدد إصدار حكمٍ حكومي، فإنّ هذا يعني أنّ الاحتكار حرام بالحكم التنظيمي السياسي الولايتي، إذ لو لم يكن محرّماً في هذه الحال لما جاز الإجبار على تركه حتى من الحاكم([88]).

لكنّ هذا الجواب غير واضح، وذلك:

أ ـ إنه قد وقع خلط في البحث هنا بين مطلق الحاكم وبين تفسير المنع الصادر عن النبي$ بأنه منع ولايتي حكومي، فنحن لا نبحث في أنّ المنع الصادر عن النبي كان بياناً لحكم واقعي وأنّ الإجبار وقع في هذا السياق، وإنما نتحدّث عن أنّ إعطاء مطلق الحاكم الشرعي صلاحية الإجبار على البيع بوصف هذا الإعطاء حكماً أولياً تبليغياً، هل يكشف عن حكم أوّلي آخر هو حرمة الاحتكار على المواطنين أنفسهم أم لا؟ فكأنّه حصل خلطٌ بين موضوعين.

ب ـ إنّ صيرورة الفعل في مورد الحكم الحكومي حراماً بحرمة تدبيرية إنما يعني تحقق ملاك التحريم لا فعليّته؛ لأنّ الفعلية مرتبطة بما بعد صدور الحكم من الحاكم لا قبل ذلك، ومعنى منح الشريعة الحاكم صلاحيةَ الإجبار أنّ بإمكانه تشخيص المصالح التي تفسح له بالإجبار بما يتبع نظره في الأمر، فقبل صدور الحكم منه كيف نعلم حرمة الاحتكار بنفسه على المكلّف حتى نطلق حكماً بحرمة الاحتكار في نفسه ولو بصرف النظر عن الإجبار الفعلي؟!

هذا على تقدير حصر صلاحيات الحاكم بما كان معنوناً بعنوان إلزامي، أما بناء على الولاية العامة للفقيه فإنّ بإمكان الفقيه الإجبار إذا رأى مصلحةً ولو لم تبلغ في حدّ نفسها حدّ الإلزام، بل كانت مصلحة بنحو الأفضل للمجتمع، فيجوز له الإجبار حتى لو كان الفعل غير محرّم في تلك الحال على مستوى مصالحه ومفاسده.

نعم، لو كان الحكم هو أنه يجب على الحاكم مطلقاً إجبار المحتكرين لا أنه من صلاحياته، وكان هذا حكماً أولياً، كشف ذلك ـ عرفاً وعقلائياً ـ عن الإلزام على المستوى الأولي في حقّ المحتكر أيضاً.

وعليه، فإشكال المحقق الإصفهاني من هذه الزاوية في محلّه، ومن ثمّ لا يصحّ الاستدلال على حرمة الاحتكار بالترخيص للحاكم في الإجبار على البيع.

الدليل الخامس: ما ذكره بعض فقهاء أهل السنّة، من أن الاحتكار ظلمٌ، وذلك أنّ ما هو موجود في المصر قد تعلّق به حقّ العامّة، فالحبس منع للعامّة من حقّهم، فيكون ظلماً، والظلم محرّم([89]).

وكأنّ هذا الدليل يريد أن يجعل دخول سلعةٍ في سوق مدينةٍ من المدن يصيّر هذه السلعةَ مورداً للحقّ العام لا الخاص، ولا يقصد بذلك خروجها من الملكية الخاصّة إلى الملكية العامة، وإنما تعلّق حقّ لهم بتوفرها بين أيديهم ولو مقابل ثمن، من هنا فلا معنى للإشكال الذي ذكره بعضهم هنا بأنه لا دليل على ثبوت ملكية أو سلطنة للعامة على ما ملكه الفرد بالملكية الخاصّة، وأنّ مبادئ التعاون والتعاضد والتكافل غاية ما تفيد رجحان البذل لا وجوبه مع حرمة الاحتكار([90]).

وعليه، لا يبعد صحّة هذا الدليل هنا، بمعنى أنّ الارتكاز العقلائي في مجال الحاجيات الضرورية في السلع قائمٌ على المنع من الاحتكار، إذا كانت معروضةً في السوق، ثم قام شخص بجمعها واحتكارها، وليس هذا المنع إلا لأنّ الذهن العقلائي يرى للناس حقاً في هذه السلعة أن تعرض في الأسواق، ولذلك يمكن أخذ البناء العقلائي هنا معيناً في توضيح جهة الحقّ العام هنا، بما لا يضرّ بملكية الفرد الخاصّة، بأن نطالبه بعرضها للبيع بصرف النظر عن السعر الذي يضعه لها؛ لأنّ موضوع السعر يظلّ مسألةً أخرى تحتاج إلى أدلّتها، ولو راجعنا البناء العقلائي في باب التجارات لوجدناه يذمّ بشدّة الاحتكار ويراه فعلاً ظالماً. وما نقوله ليس راجعاً إلى قاعدة حرمة الضرر والإضرار بحيث تكون مقيّدةً لقانون السلطنة، بل هو أمرٌ آخر يُصرف النظر فيه عن قضية الضرر، فتأمّل جيداً.

وبهذا ظهر أنّ الاحتكار حرامٌ في الجملة، إلا أنّ هذه النتيجة لا يمكنها أن تكون نهائيةً قبل استعراض أدلّة الفريق الآخر القائل بكراهة الاحتكار كراهةً تنزيهية لا تحريمية، لهذا نعرّج على النظرية التالية هنا لننظر في مضمونها ومعطياتها إن شاء الله تعالى.

 

2ـ 3 ـ نظرية كراهة الاحتكار، وقفات وتأملات

ذهب بعض الفقهاء المسلمين إلى القول بكراهة الاحتكار كراهةً لا تبلغ حدّ الحظر والمنع والتحريم([91])، ولكن في صحّة هذه النسبة إلى بعض الفقهاء نظر، فالشيخ المفيد في المقنعة عبّر كالتالي: «والحكرة احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها وضيق الأمر عليهم فيها، وذلك مكروه»([92])، وقال الشيخ الطوسي: «وأما الاحتكار فمكروه في الأقوات إذا أضرّ ذلك بالمسلمين، ولا يكون موجوداً إلا عند إنسانٍ بعينه»([93]).

وفي مثل هذه النصوص يستبعد إرادتهم للكراهة المصطلحة، إذ مع إضرارها بالمسلمين كيف يتصوّر جوازها؟! لهذا يحتمل في بعض الكلمات إرادة التحريم من الكراهة، كما هو ليس بالأمر الغريب في استخدامات القدماء للتعابير والمصطلحات. ولكنّ بعض الكلمات واضحة في وجود القول بالكراهة([94]).

وعلى أية حال، فقد ذكر لصالح القول بالكراهة عدّة أدلّة، هي:

 

1ـ 2ـ 3ـ الاستناد إلى الأصل العملي

الدليل الأوّل: ما ذكره العلامة الحلي وغيره، من الاستناد إلى الأصل، وأنه عدم التحريم([95]).

ومن الواضح أنّ هذا الدليل مبنيٌّ على إبطال تمام أدلّة القول بالحرمة، وقد تقدّم أنّ بعضها دالّ ومفيد للحرمة في الجملة فلا مورد للأصل هنا.

وقد علّق العلامة شمس الدين هنا بأنه حتى لو لم يثبت أيّ من أدلّة التحريم مع ذلك لا يصحّ الاستناد إلى أصالة البراءة هنا؛ لأنّ أصل البراءة واردٌ مورد الامتنان على الأمّة والإرفاق بها، فلابد في جريانه من أن لا يؤدّي إلى خلاف هذا الإرفاق، وفي موردنا وإن كان أصل البراءة واقعاً لصالح المحتكر ومساعداً له، لكنه على خلاف الإرفاق على الأمّة ومناقضاً للامتنان على عامّة الناس بعد أن كان الاحتكار مضراً بهم أو موجباً للشدّة والضيق عليهم، وفي مورد تعارض الامتنان يقدّم ما هو في الصالح العام بعد كون المحتكر مذموماً على فعله بالإجماع([96]).

وهذا الكلام صحيح، وقد ذكره الأصوليون أيضاً عند كلامهم عن حديث الرفع الذي يعدّ من أشهر الأحاديث النبوية المستدلّ بها على البراءة الشرعية، وما ذكره الأصوليون هناك في محلّه، من حيث سياق الحديث في تعبيره «عن أمتي» ونحو ذلك. لكن هل يعني ذلك أنّ أصل البراءة امتنانيٌّ مطلقاً؟

 يبدو لي أنه لابد للخروج بهذه النتيجة من ملاحظة نوعية الأدلّة التي تسوق إلى أصل البراءة، فإذا التزمنا بالبراءة العقلية، فإنّ مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أنّ تمام الموضوع هو عدم البيان المتحقّق في مثل موردنا، فلا معنى لفرض الامتنان فيه، فإذا لم يكن حديث الرفع شاملاً لمقامنا؛ لما بيّنه العلامة شمس الدين، لكنّ هذا لا يعني عدم شمول البراءة العقلية للمورد، وحتى البراءة الشرعية ببعض ألسنتها مثل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الإسراء: 15). لا تفيد ذلك؛ فإذا بني على أنّ المدرك الوحيد للبراءة هو حديث الرفع وأمثاله ممّا كان مسوقاً مساق الامتنان لم يمكن إجراء البراءة هنا، وإلا فلا موجب للمنع عن إجرائها في المقام.

قد تقول: لا معنى بعد البراءة العقلية لأصل الامتنان في حديث الرفع، ولعلّ في ذلك نقداً متنياً على هذا الحديث نفسه أو بطلاناً للإشكال المتقدّم.

والجواب: إنّ الرفع قد يعبّر عن عدم الوضع في المورد الذي يمكن فيه الوضع، فالمولى سبحانه يمكنه أن يضع المؤاخذة في مورد عدم العلم بأن يجعل الاحتمال منجزاً، كما جعل الظنّ منجزاً، فيكون الامتنان في أنّه لم يجعل ذلك عليهم مع أنّ نطاق مولويته يسمح له بذلك، وهذا لا يبطل مضمون القاعدة العقلية؛ لأنها تقضي بعدم العقاب حيث لا بيان، فيمكن للمولى البيان في أنه يرى تمام الاحتمالات منجّزة ويخرج المورد عن تحت القاعدة بالحكومة أو الورود، دون إبطال القاعدة نفسها، فالامتنان يكون بذلك، وعليه فيبقى الامتنان في حديث الرفع على حاله من هذه الجهة في أنه لم يجعل التنجيز في مورد عدم البيان مع قدرته على البيان وفرض التنجيز في نهاية المطاف.

قد تقول: حتى على هذا الفرض، كيف يمكنه أن يمتنّ في مورد يكون في عدم بيانه ووضعه التنجيز ضررٌ على فريقٍ من المسلمين كما في مثل موردنا؟ الأمر الذي يكشف أنّ مثل هذا المورد ليس مشمولاً للامتنان، ومعناه أنّه مشمول للتنجيز فيكون نفس سياق الامتنان هذا بعينه بياناً يمنع سائر أدلّة البراءة عن الشمول للمورد.

والجواب: إنّ ظاهر مثل حديث الرفع هو الامتنان بنوع رفع المؤاخذة في حال الجهل، فهذا الأمر هو في حدّ نفسه منّة يمكن الامتنان بها على الأمة، ولا يعني ذلك ملاحظة تمام المصاديق والحالات التي تجري فيها أصالة البراءة، وإنما يلاحظ نوع هذا الأمر، وإلا لزم عدم إجراء البراءة في كلّ الموارد المالية كالخمس والزكاة والخراج والصدقات والنفقات؛ لأنّ الامتنان هنا وإن كان لصالح صاحب المال لكنّه يفوّت على المحتاجين أو من هم مورد النفقة كسباً، فكيف يمتنّ عليهم بتفويت ربحٍ كان سيعود لهم؟

إنّ الامتنان هنا نوعي في مورد نوعي، ولا يصحّ فيه تطبيق الأسلوب التجزيئي الفردي، ومعه يكون دليل البراءة هنا ببعض مستنداته على الأقلّ شاملاً المقام لولا الأدلة التي ساقها أنصار نظرية تحريم الاحتكار، والتي منها عدم جواز الإضرار بالغير.

 

2ـ 2 ـ 3ـ مرجعية الأحاديث الخاصّة

الدليل الثاني: خبر الحلبي، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن الرجل يحتكر الطعام يتربّص به، هل يجوز ذلك (هل يصلح ذلك)؟ فقال: «إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به، وإن كان الطعام قليلاً ولا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام»([97]).

حيث استدلّ بهذا الخبر على الكراهة، انطلاقاً من طبيعة التعبير بالكراهة فيه([98])، حيث الأصل فيه الكراهة المصطلحة([99])، بل عدوله عن تعبير «لا يجوز» كما هو وارد في السؤال إلى تعبير يكره، قرينة على إرادة الكراهة المصطلحة([100]).

وهذا الخبر صحيح السند على المشهور، وفي طريقه إبراهيم بن هاشم. وقد نوقش في استفادة الكراهة منه بأنّ الكراهة هنا لا يراد منها المعنى الاصطلاحي بمعنى الكراهة التنزيهية، وإنما تستخدم في المعنى اللغوي؛ لأنّ المعنى الاصطلاحي متأخّر عن عصر النصّ، والمعنى اللغوي لها هو المبغوضية التي يمكنها أن تستوعب الحرمة والكراهة معاً([101])، بل شدّة الشيء من سنخه بخلاف ضعفه كما يقولون فلا يستفاد منها الكراهة حتى تقف في معارضة الروايات والأدلّة السابقة، ما لم يبرز شاهدٌ على إرادة الكراهة المصطلحة، فغاية ما في هذا الخبر أنه بنفسه لا يفيد الحرمة، لا أنه يفيد الكراهة المصطلحة.

بل قد يبرز شاهد على إرادة الحرمة هنا، وفقاً لما أفاده الشيخ الأنصاري([102])، من حيث إنها فرضت حالتين: الأولى حالة وجود الطعام ونفت فيها البأس، والثانية حالة عدم وجوده وأثبتت فيها الكراهة، ولابد أن يكون المراد بالبأس في الحالة الأولى النافية للبأس هو التحريم لا الكراهة؛ لأنّ الكراهة ثابتة على الاحتكار الذي يكون مع وجود الطعام فلا معنى لنفيها، فيكون ذلك شاهداً ـ بالمقابلة ـ على إرادة التحريم في الحالة الثانية.

وقد أفاد الإمام الخميني هنا أيضاً وجهاً لاستفادة الحرمة، وهو أنّ نفس البأس في جواب: «هل يصلح» أو «هل يجوز» يراد به الجواز، والمفهوم منه هو عدم الجواز عند عدم الشرط الذي هو وجود الطعام الذي يسع الناس، وهذا يعني أنّ قوله: «يكره» بعد ذلك يكون تعبيراً آخر عن المفهوم الثابت للجملة الأولى والمفيد للحرمة، على أنه من البعيد جداً عن مذاق الشارع الحكم بكراهة الاحتكار الموجب لترك الناس ليس لهم طعام([103]).

ويظهر من الحرّ العاملي أنّ روايات الحرمة تصلح قرينةً على إرادة الحرمة من الكراهة هنا([104])، فكأنه أقرّ بدلالة الخبر في حدّ نفسه على مطلق الكراهة، واستعان بالقرينة الخارجية لفهم التحريم منه.

وتوجد لدينا بعض التعليقات هنا لا بأس بالإشارة إليها:

أولاً: إنّ استشهاد بعضهم بعدول الإمام عن تعبير «لا يجوز» إلى تعبير «يكره» لاستفادة الكراهة المصطلحة، غير صحيح، فإنه بصرف النظر عن قضية النقل بالمعنى، لا يفيد هذا الكلام إلا إذا كان تعبير «يكره» ظاهراً في الكراهة المصطلحة، وإلا كان جواب الإمام بهذه الطريقة في محلّه بعد المقابلة مع الجملة الأولى التي نفت البأس، إذ المقابلة بنفسها بعد عموم معنى الكراهة تكون قرينةً على إفادة التحريم.

ثانياً: إنّ هناك فرقاً بين أن تفيد هذه الرواية الكراهة فتعارض دليل الحرمة وبين أن لا تفيد الحرمة، فإذا قصد المحقّق الأردبيلي من أنّ الأصل في هذا التعبير هو الكراهة المصطلحة هو ظهوره فيها فهذا غير معلوم، بل لم نعرف مراده من الأصل هنا، وإن قصد أنّ أقصاها إفادة الكراهة كونها القدر المتيقّن من تعبير الكراهة، والباقي منفي بالأصل، فهذا لا بأس به في نفسه، لكنه لا يلغي دلالة سائر الأدلّة على التحريم، لعدم نهوضه نفياً يقابل إثبات التحريم فيها.

ثالثاً: إنّ ما ذكره الشيخ الأنصاري، من أنّ الكراهة ثابتة للاحتكار مع وجود الطعام، جاعلاً ذلك قرينةً في الحديث على إفادة الحرمة.. لا نسلّم به؛ إذ ما هو المدرك للقول بكراهة الاحتكار مع وجود الطعام في السوق؟ بل صدق الاحتكار عليه محلّ نظر.

من هنا، فهذه الرواية إن لم تدلّ على الحرمة ـ لما قاله الإمام الخميني أو الحرّ العاملي ـ فلا أقلّ من دلالتها على مبدأ المبغوضية الأعم، فلا تثبت الكراهة في مقابل أدلّة الحرمة بادّعاء ظهورها فيها.

 

3ـ 2ـ 3ـ مستند قاعدة السلطنة

الدليل الثالث: الاستدلال بقاعدة السلطنة، وأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، مما يجيز للمالك أن يبيع وأن يمتنع من البيع، مما يكشف عن جواز الاحتكار([105])، وهي معتضدة بنصوص الاتّجار والحزم والتدبير و..([106]).

وأجيب بأنّ هذه القاعدة محكومة لما دلّ على المنع أو الإلزام من جهة تصرّف مالي معين؛ بعد كون سلطنة المولى سبحانه على المال متقدّمةً على سلطنة العبد، ويكون دليل التحريم هنا ـ كرفع السلطنة عند العارض ـ كافياً لتقييد السلطنة([107]). فمثل قاعدة نفي الضرر تتقدّم على قاعدة السلطنة لحكومتها على جميع الأدلّة الأولّية، إن لم نقل إنّ قاعدة السلطنة تفيد السلطنة في خصوص الانحاء المشروعة من التصرّفات فلا يمكن إجراءها في الحالة التي نحن فيها بعد الشك في المشروعية([108]).

وبهذا يظهر أنّ الصحيح هو القول بحرمة الاحتكار إذا أفضى إلى الضرر والتضييق على الناس، اعتماداً على حرمة الإضرار بالغير مع النصوص المتقدّمة التي نفهم القدر المتيقن الموثوق بصدوره منها في خصوص هذا المورد.

 

4 ـ عناصر الاحتكار أو مقوّماته وشروطه

للاحتكار مجموعة من العناصر والمكوّنات التي تؤخذ في موضوعه أو تؤخذ في حكمه، وهي متعدّدة لابدّ من رصدها وتحليلها.

 

1 ـ 4 ـ مقصدية زيادة الثمن (هدف المحتكر)

من الواضح أن حبس السلع أو الطعام له حالتان:

الأولى: أن يحبسه ليأكل هو منه مع أفراد أسرته ومن يرتبط به أو لقضاء حاجة أخرى فيه كأن يحبس البذر لكي يزرع لنفسه وما شابه ذلك. ومن الواضح في هذه الحال أنّه لا يحرم الاحتكار إذا سلّمنا بصدق عنوان الاحتكار فيها، إذ نحن نستبعد صدق هذا العنوان على مثل ذلك كما تقدّم في التحليل اللغوي، كما أنّ النصوص غير ظاهرة في هذا المورد، إضافة إلى أنّ العرف والعقلاء لا يرونه مرفوضاً إذا كان ضمن الحدّ المعقول.

الثانية: أن يحبسه لغرض تجاري، وهو التربص به بانتظار غلائه ليبيعه بسعر مرتفع، وهذا من الاحتكار بحسب كلمات الفقهاء بل بعض النصوص السابقة ـ مثل الحديث رقم 6، وبعض صيغ الحديث رقم 2، ويشعر به الحديث رقم 5، مضافاً إلى خبر الحلبي الذي استدلّ به القائلون بالكراهة ـ ولو تركنا النصوص فإنّ هذا المصداق يعدّ من الاحتكار في الذهن العرفي والعقلائي، لاسيما مع ربط الاحتكار بمفهومي الضرر والظلم.

والذي يظهر من تناول الفقه الإسلامي لهذا الموضوع([109]) أنهم فرضوا الصور على الشكل المتقدّم، وأن الحابس إما أن يحبس لقوت نفسه وعياله أو يحبس انتظاراً للغلاء ولأهداف ربحية، ويحتمل في هذا التقسيم الثنائي أن يراد منه ذكر الربح وزيادة الثمن من باب المثال لمطلق غرض مقابل لمثل قوت النفس والعيال ومن ثم فلا يكون عنوان «طلب الزيادة» مأخوذاً بشكل موضوعي في هوية الاحتكار أو حكمه، وإنما ذكر في الكلمات والنصوص جرياً على الحالة الغالبة في الاحتكار والتي تحبس البضائع والسلع بهدف تحصيل الزيادة المالية والربحية، ولهذا ذكر السيد الطباطبائي «وأما اشتراط استبقائه لزيادة الثمن فواضح إن أريد نفي الحكرة إن استبقاه للقوت، ومحلّ إشكال إن أريد الظاهر والإطلاق ولو لغير القوت، بل المنع فيه مع عدم احتياجه إليه محتمل، للإطلاقات وإشعار التعليل المتقدّم به»([110]).

ومؤدّى ذلك أنّ الأشكال الأخرى للاحتكار داخلة فيه حكماً وموضوعاً، كالاحتكار لأغراض سياسية أو للضغط على بعض الدول والمجتمعات، كما يحصل كثيراً في الآونة الأخيرة على المستوى العالمي، فإنّ هذا الاحتكار صادق عرفاً وعقلائياً ومصداق لقانون الضرر وحرمة التضييق والأذية. وهكذا الحال لو قصد من الحبس غرضاً تجاريّاً آخر غير الربح، كما لو كان المطلوب حفظ قيمة السلعة بحيث لا ينخفض سعرها في السوق وغير ذلك مما فيه تضييق على الناس وشدّة.

وقد ذهب السيد الخوانساري والعلامة شمس الدين إلى التعميم([111])، وهو الصحيح بمعنى أنّ الاحتكار هو حبس السلعة لغرض تجاري أم سياسي أم غيرهما، وسواء كان الغرض التجاري هو الاسترباح أم غيره، فليست العبرة بنوعية الغرض بقدر ما هي بآثار نفس الاحتكار، وإنما خرج القوت لنفسه وعياله لأنّ ذلك لغرض نبيل كما لو كانت هناك مصلحة أهم، بل لكونه لا يدخل في حبس الطعام؛ لأنّ المنصرف هو الحبس لغير قوت النفس والعيال، ففي زمان الاحتكار لا يقال لمن كان في بيته بعض الحنطة الزائدة لمؤونته وعياله إنه محتكر عرفاً، نعم، ما يكون حبساً لما يقال عرفاً إنّه لا تحتاجه النفس والعيال قد يصدق حينئذٍ، كما لو كان كثيراً جدّاً.

 

2 ـ 4 ـ عدم توفّر السلعة في السوق بقدر الكفاية

ذكر غير واحد من الفقهاء أنّ الاحتكار مأخوذ فيه عدم وجود باذل أو بائع آخر في السوق يقوم بعرض السلعة بمقدار كفاية الناس([112])، ولم يتعرّض فقه الجمهور في العادة لشرطٍ من هذا النوع، وقد علّل ذلك بأنّه لبداهته([113])، وهو كذلك، والدليل على هذا الشرط:

أولاً: إنه لا يصدق الاحتكار مع توفر السلعة في السوق بالمقدار الذي يحتاجه السوق، فلا يقال: احتكر فلان البضاعة الفلانية إذا خبأها في مخازنه ومستودعاته مع وجود كثير منها في السوق، فيكون هذا الشرط شرطاً موضوعياً لا حكمياً، ومعه لا تشمل هذه الحالةَ الأخبارُ المطلقة.

ثانياً: إنّ بعض الروايات دلّ على هذا القيد، كما في صحيحة سالم الحناط المتقدّمة (رقم 4)، وصحيحة الحلبي (رقم 5)، وكذلك خبر الحلبي الآخر الذي أوردناه في أدلّة القول بالكراهة، بل نحن نفهم من الروايات التي دلّت على شرط الاستبقاء لزيادة الثمن أنها تأخذ ضمناً هذه الحالة؛ لأنّ حبس السلعة لا يتحقق قصد رفع الثمن فيه إلا مع عدم توفرها بمقدار الكفاية في السوق، وبهذا نضم هذه الروايات إلى بعضها، فيكون مثل صحيح سالم الحناط وصحيح الحلبي قيداً يقيّد إطلاق سائر النصوص على تقدير انعقاد إطلاق فيها لمثل هذه الحالة.

ثالثاً: إنّ دليل نفي الضرر والظلم في مورد حقّ العامة لا يشملان أيضاً هذا المورد؛ لأنه لا يلحق بالناس ضررٌ بعد فرضنا أنّ البضاعة متوفرة في السوق بقدر حاجة الناس، كما لا يتصف هذا الفعل بالظلم والاعتداء على الحقّ العام في هذه الحالة.

وبهذا نثبت أن الأدلّة المانعة عن الاحتكار لا تطال حبس السلع مع وجودها في السوق.

ويبقى أن نشير أخيراً إلى أننا استبدلنا العنوان المتداول في كلماتهم هنا، وهو عدم وجود البائع أو الباذل بعنوان (عدم توفر السلعة في السوق بقدر الكفاية)؛ لأنه لا خصوصية إلا لتوفر السلعة سواء ببذل شخص أو بيعه لها أم لأيّ سبب آخر، كما أنّ إضافة قيد الكفاية يظلّ ضرورياً كما صرّح به بعضهم([114])، فلو كانت السلعة موجودةً لكنها كانت قليلة لا تكفي الناس، كما لو كانت تسدّ 5% من حاجاتهم فقط، فإنّ عنوان الاحتكار يصدق حينئذٍ، والروايات المقيّدة المتقدّمة يفهم منها هذا المعنى؛ لعبثية أصل وجود السلعة في السوق ولو بمقدار محدود كما هو واضح عرفاً وعقلائياً، ولهذا عبّرت رواية الحلبي: «..الطعام قليلاً لا يسع الناس».

 

3 ـ 4 ـ حبس السلع والبضائع

الذي يظهر بشكل واضح من ثنايا كلمات الفقهاء المسلمين أنّ الاحتكار قد أخذ فيه عنوان الحبس، أي احتجاز السلع وتخرينها في مقابل عرضها في السوق، وهذا معناه أنه لو عرضها للبيع وتمّ توفيرها في السوق فلا يقال عنه بأنه محتكر ولا يشمله حكم الاحتكار.

وقد طرح العلامة شمس الدين هنا موضوعاً للبحث، وهو أنّ الحبس هل يؤخذ بنحو الموضوعيّة أم أنّه قد أخذ على نحو الطريقية؟ ومعنى ذلك أنه هل الحبس بذاته عنصر أساس لتحقيق الاحتكار أم أنّ الحبس ليس إلا وسيلة للحيلولة بين الناس والسلعة، فيكون الموضوع هو تعجيز الناس في شراء السلعة رغم حاجتهم إليها، ومن ثم فلو قام التجّار بعرض السلعة في السوق بأسعار مرتفعة جداً أو بشروط قاسية فهل يكون هذا من الاحتكار أم لا؟ هل الحبس وسيلة مقصودة بذاتها في مسألة الاحتكار أم أنّها مجرّد طريق لأصل الحيلولة العرفيّة بين الناس والسلعة، فلو تحقّقت هذه الحيلولة بغير طريق الحبس كان احتكاراً محرماً أيضاً؟

وقد حاول العلامة شمس الدين أن يطرح ما يمكن أن يكون دليلاً لأخذ مفهوم الحبس في الاحتكار المحرّم، فذكر أمر ين:

1 ـ تقوّم مفهوم الاحتكار بالحبس في كلمات اللغويين، وهذا معناه أنّ اللغة نفسها لا تفسح المجال لصدق اسم الاحتكار من دون حبس.

2 ـ إنّ الحبس مأخوذ شرعاً أيضاً في الاحتكار، كما يفهم من الأخبار، بل يتعزّز هذا الأمر ببعض الروايات الخاصّة التي تكشف بشكل واضح عن دور الحبس في الاحتكار، وهي روايتان:

أ ـ خبر حذيفة بن منصور (عبد الله بن منصور)، عن أبي عبد الله× قال: «نفد الطعام على عهد رسول الله$، فأتاه المسلمون، فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان، فمره يبيعه الناس، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه»([115]). فإنّ الجمع بين نهيه له عن الحبس وترخيصه بالبيع كيف شاء معناه أنّ المشكلة كانت تكمن في حبسه له لا في أصل التعجيز عبر سعر مرتفع.

ب ـ خبر الحسين بن عبد الله بن ضمرة، عن أبيه، عن جدّه، (وخبر غياث بن ابراهيم)، عن علي بن أبي طالب× أنه قال: «رفع الحديث إلى رسول الله$ أنّه مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق، وحيث تنظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله$: لو قوّمت عليهم، فغضب رسول الله$ حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوّم عليهم؟! إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء»([116]).

فإنّ تمييزه بين الاحتكار وقضية التسعير خير دليل على أنّ أصل الحبس مقابل العرض في بطون الأسواق هو المحرّم في الاحتكار، بل كلّ النصوص التي استدلّ بها على المنع من التسعير تنفع هنا أيضاً.

ثم ناقش العلامة شمس الدين هذين الدليلين بعد أن جزم بأنّ الحبس لم يؤخذ في الاحتكار بنفسه، وإنما استحضر لكونه الأمر المتعارف عند من لا يريد البيع.

أما الدليل الأوّل، فلأنّ أهل اللغة مختلفين في اعتبار هذه الخصوصية في الاحتكار؛ إذ منهم من فسّر الاحتكار دون ذكر الحبس، مضافاً إلى أنّ المبحوث عنه هنا هو الاحتكار عند الشارع لا عند أهل اللغة؛ لأنّ الشارع قد تصرّف في مفهوم الاحتكار ولم يأتِ حكمه على نفس المعنى اللغوي، فلا يستفاد من التحديد اللغوي هنا.

وأما الدليل الثاني، فأجاب عنه شمس الدين بجوابين:

1 ـ إنّ الاحتكار نشاط بشري محض ولا توجد فيه ـ مادام كذلك ـ ألوان التعبّد الشرعي الغيبي ما دام موضوعاً للحكم الشرعي، ومن هنا يمكننا بالتحليل البشري العقلاني أن نفهم الاحتكار بوصفه دائراً مدار وصول السلعة إلى الناس أو الحيلولة بينهم وبينها ولو بتعجيزهم عن شرائها برفع ثمنها.

2 ـ إنّ الخبرين المتقدمين لا يدلان هنا أيضاً، إذ يمكن حملهما على أنّ السعر كان متعارفاً ومقدوراً للناس بعد إخراج البضاعة إلى الأسواق، فبعد خروج جميع السلع المحتكرة سوف يكون هناك تنافس في الأسعار مما يؤدي إلى انخفاض القيم الشرائية في السوق.

لكن بعد ذلك كلّه، تراجع الشيخ شمس الدين عن كلّ ما تقدّم، ليجعل الحبس مقوّماً لمفهوم الاحتكار، بيد أنه عاد وألحقه فيه حكماً بوحدة الملاك الذي يكشف عنه عموم التعليل في صحيحة الحلبي: «يكره أن يحتكر الطعام، ويترك الناس ليس لهم طعام»، وغيرها من الأخبار، وبهذا أدرج شمس الدين هذه الحالة في الاحتكار حكماً لا موضوعاً([117]).

ويمكن التعليق على محاولة العلامة شمس الدين بما يلي:

أولاً: إنّ اللغويين أخذوا الحبس في المعنى اللغوي للاحتكار كما تقدم، بل الجذر اللغوي يقوم على الحبس كما نقلنا عن ابن فارس، وإذا كانت عبارة أو عبارتين لم يرد فيهما ذكر الحبس فهذا لا يعني زوال هذا القيد أو كون المورد خلافياً، والمراجع لكلمات اللغويين يشرف على اليقين بما نقول، حتى أنّ الشيخ شمس الدين نفسه عندما كان في بدايات أبحاثه يعالج المعنى اللغوي قال: «وقد أجمعت كلمات أهل اللغة على اعتبار أمورٍ لا يتحقق الاحتكار بدونها وهي: جمع السلع طعاماً كانت أو غير ذلك وحبسها بالامتناع من البيع وانتظار غلاء سعرها»([118]). كما ذكر في موضعٍ آخر أنّ مفهوم الاحتكار لغةً متقوّم بثلاثة أمور عدّ منها حبس السلعة عن البيع([119]).

ثانياً: لم يتضح لي كيف أنّ الشارع تصرّف في مفهوم الاحتكار، لاسيما عند مثل العلامة شمس الدين الذي لم يقبل بغير قيدٍ من القيود التي ذكرت مما قد يفيد ذلك، كالقيد الزماني([120])، وقيد الشراء المسبق([121]) وغير ذلك، ثم إنه لابد من التفريق بين أن يكون الشارع قد تدخّل في الاحتكار بأنّ حرّم بعض مصاديقه وبين أن يكون قد تصرّف بأن يكون وسّع مفهومه ليحرّم ـ بعنوان الاحتكار ـ أمراً ليس من الاحتكار لغةً، ففي الحالة الأولى لا يعدّ ذلك تصرّفاً ما لم ينفِ الموضوع بنفسه نفياً لا يراد منه نفي الحكم فقط وإنما تعديل المفهوم؛ إذ في هذه الحالة يبقى المفهوم على حاله غاية الأمر أنّ الشريعة تحرّم بعض مصاديقه وتطبيقاته، وهذا غير التصرّف الموجب لتأسيس مفهوم جديد، وإلا ربما كانت أغلب الكلمات محمولةً على معنى شرعي غير لغوي كما هو واضح، وإنما يطلق أنّ الشارع عدّل في المفهوم عندما يدخل فيه فرداً جديداً أو يكشف معنى معيناً بحيث يتم هجران المعنى الأول كالصلاة والصوم، وإلا فالمفترض البقاء على المعنى اللغوي إلا ما خرج بالدليل.

والحالة التي نحن فيها لا تعدو أن تكون مجرّد بعض التقييدات الراجعة إلى الحكم لا تصرّفاً شرعياً في المفهوم.

ثالثاً: إنّ كون الاحتكار نشاطاً بشرياً لا يعني زوال التعبّدية، بمعنى عدم اكتشاف الملاك عنه، وقد ذكرنا في مناسبة أخرى وناقشنا هذه الفكرة التي طرحها العلامة شمس الدين والعلامة فضل الله، وذكرنا أنّ التمييز في التعبدية وكشف الملاك بين العبادات والمعاملات تمييز غير دقيق علمياً على إطلاقه.

رابعاً: إنّه حتى لو سلّمنا بمسألة كشف الملاك، فهذا لا يعني دخول رفع السعر في الاحتكار، نعم يثبت تحريم رفع السعر بملاك تحريم الاحتكار فيشتركان في علّة التحريم، وهذا ما ينتج حرمة الاحتكار وحرمة الغلاء الفاحش في الأسعار بوصفهما حكمين لموضوعين منفصلين بملاك واحد، وهذا تماماً كتحريم عشرات الأمور بملاك تحريم الإضرار بالناس، فلا يصحّ منهجياً جعل هذا البحث في الاحتكار وإنما هو ملحق به مغاير له.

خامساً: إنّ حمل الخبرين المتقدّمين على صورة السعر المقدور حملٌ تبرّعي لا شاهد عليه، ومجرّد إمكان الحمل لا يكفي، على أنّ إمكان الحمل غير معلوم فإنّ التعليل في الخبر الثاني بأنّ السعر الله فقط هو الذي يرفعه وهو الذي يخفضه ظاهرٌ في حصر التسعير بالله تعالى وأنّه لا يحقّ حتى للنبيّ$ التدخل في هذا الأمر، فلو كان يحرم البيع بسعر مرتفع تعجيزي لجاز للنبي$ التدخّل لتخفيض السعر دون تعيينه، وهذا خلاف ظاهر التعليل الدالّ على الحصر.

وربما يمكن المناقشة في السند، من حيث إنّ الخبر الثاني له طريقان:

أحدهما: ينتهي إلى غياث بن إبراهيم، وهو الطريق الذي ذكره الشيخ الصدوق في (التوحيد)، وهذا الطريق فيه إبراهيم بن هاشم، على أنّ ابن هاشم يروي فيه عن غياث، وغياث أقصى ما ذكر فيه أنه ممّن روى عن الكاظم×، مع أنّ روايته عنه قليلة جداً إن لم تكن معدومة، ولم يذكر إطلاقاً في طبقة الإمام الرضا×، في حين يوجد كلام في معاصرة إبراهيم بن هاشم للإمام الرضا، فكيف يمكن أن يكون قد روى عن غياث؟! كما أننا لم نعثر في الكتب الأربعة على رواية لإبراهيم بن هاشم عن غياث بن إبراهيم، الأمر الذي يشكّكنا في وجود إرسال خفي في هذا السند.

ثانيهما: وينتهي إلى ضمرة، وهذا السند ضعيف، فإنّ فيه الحسين بن عبد الله بن ضمرة، وهو رجل مجهول([122])، وكذلك الحال في ضمرة نفسه فهو رجل مهمل([123])، وكذلك عبد الله بن ضمرة فإنه مهمل كذلك([124]). وعليه فالخبر الثاني ضعيف السند بطريقيه.

وأما الخبر الأول ففي سنده محمد بن سنان، ولم يثبت توثيقه عندنا.

سادساً: إنّ الاستدلال ببعض الأخبار الخاصّة للحكم بتحريم هذا الفعل التعجيزي لا بأس به لو صحّت هذه الرواية وبلغت درجة الوثوق بالصدور الذي هو الحجّة في باب الأخبار.

والمتحصّل أنّ الاحتكار متقوّم بالحبس، ولو كان غيره حراماً فبعنوان آخر قد يلتقي معه في منطق الاستدلال.

 

4 ـ 4 ـ التحديد الزماني (مدّة الحبس والاحتكار)

ذهب بعض الفقهاء إلى الحديث عن تحديد زماني في الاحتكار حتى يكون محرّماً، فعلى مستوى مذاهب الجمهور لم يتعرّض لهذا الموضوع بشكل أساسي سوى الأحناف، حيث ذهب بعضهم إلى تحديد المدّة بأربعين يوماً، فيما ذهب آخرون إلى أنها شهر واحد([125]).

وأما عند الإمامية، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تحديد ذلك بأربعين يوماً في زمان الرخص والسعة، وبثلاثة أيام في زمان الغلاء واشتداد الأمر على الناس([126])، لكنّ أكثر الفقهاء لم يختاروا هذا الشرط والتحديد.

وقد استدلّ لصالح هذا التحديد الزماني ببعض الأدلّة التي عمدتها بعض الروايات الواردة عند الشيعة والسنّة، وأهمّها:

1 ـ رواية السكوني، عن أبي عبد الله× قال: «الحكرة في الخصب أربعون يوماً، وفي الشدّة والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون»([127]).

فإنّ هذه الرواية ظاهرة في التحديد الزماني مع تفصيل في الحالات والموارد، بحيث ما يكون أقلّ من هذا الوقت لا يكون حراماً.

وقد تناقش الرواية:

أولاً: بضعفها السندي؛ لعدم ثبوت وثاقة النوفلي على الأصحّ.

وثانياً: بما ذكره السيد الخوئي، من أنّه لا يمكن تصديق هذه الرواية؛ لأنه إذا كان للناس حاجة فلا يجوز الحبس ولو لساعة واحدة وإلا جاز لأكثر من سنة، فلا معنى للتحديد الوارد فيها([128]).

ولعلّ هذا هو ما أراده الشيخ شمس الدين من أنه لا معنى للتعبّد هنا، وأنّ ما ورد إنما هو على الغالب في تلك الأيام على مستوى الحاجة([129]). ويظهر من الشيخ الأنصاري وغيره رفع احتمال التعبّد أيضاً([130]).

وهذه الملاحظة تجرّ إلى قاعدة عامّة في أنّ غير واحد من نصوص النبي وأهل بيته كانت منطلقةً من شخصية بيان الموضوع وضبطه لتسهيل الأمر على المكلّفين، وأنّ هذه شخصيةٌ ثالثة في المعصوم إلى جانب شخصيته التبليغية والحكومية.

وعلى أية حال، فقد يجاب عن مناقشة السيد الخوئي بأنّ الفقهاء الذين منعوا من الاحتكار بملاك الروايات المطلقة، كخبر السكوني هذا، لا يهمّهم وجود الحاجة وعدمها بمعنى لحوق الضرر على الناس من الاحتكار وعدمه، إذ قد يفرض الاحتكار على نوعين: أحدهما أن يجري الاحتكار بحيث يفضي إلى الضرر وأذية المسلمين ووقوعهم في ضيق ومشقة، وهذا هو القدر المتيقّن من حرمة الاحتكار، وثانيهما أنه يحرم الاحتكار حتى ولو لم يكن فيه مشقة على الناس، وهنا يكون المطلوب وفرة السلعة في السوق مقابل عدم وفرتها المفضي إلى ارتفاع سعرها بما لا يوجب ضرراً ومشقة وغير ذلك، وهذا معناه أنه لابد من فرض أنّ الاحتكار الملحوظ في النصوص هو النوع الأوّل خاصّة لا مطلقاً، وإلا فلا يكون إشكال السيد الخوئي في محلّه، بل قد تجعل الرواية التي نحن فيها دليلاً على بطلان إشكاله؛ لأنها فرضت الاحتكار في الخصب وزمان اليسر مما يوحي بأنّ الزمان ليس زمان شدّة، فما ذكره بعض المعاصرين من جعل هذا الأمر في الرواية دليلاً على إرادة الكراهة من اللعن الوارد بعد الأربعين في حالة الخصب([131]) غير صحيح.

والذي يلاحظ بمراجعة النصوص الواردة في الاحتكار أنّ كثيراً منها ورد في الطعام الذي يستوعب الحنطة أو هي وغيرها من أساسيات الطعام، مما يعني أنّ القدر المتيقن من مورد النصوص قد يدّعى كونه الاحتكار المفضي بنوعه إلى ضرر ومشقة وضيق على الناس، بل هو ما يلاحظ من مثل عهد الإمام علي لمالك الأشتر، ومعه لا يحرز شمول التحريم لأكثر من هذا المقدار، فيكون خبر السكوني ناظراً إليه، فيصحّ إشكال السيد الخوئي، لاسيما بملاحظة التحديد بثلاثة أيام في الشدّة والبلاء؛ فإنه من البعيد رضا الشارع ببقاء الناس في الشدّة والبلاء ثلاثة أيام كما أشار إليه الإمام الخميني([132])، ما لم يجعل الثلاثة أيام بمثابة الفترة الطبيعية لاستهلاك الناس ما خزّنته من المؤن والحاجات.

وإذا كان هذا هو المعيار، يصبح من المنطقي حمل هذه الرواية على الحالة الغالبة كما فعل شمس الدين، ولهذا قال الشهيد الثاني: «ولا يتقيّد بثلاثة أيام في الغلاء، وأربعين في الرخص، وما روي عن التحديد بذلك محمول على حصول الحاجة في ذلك الوقت؛ لأنها مظنّها»([133]).

وثالثاً: بما ذكره المحقق النراقي، من عدم إمكان الأخذ بخبر السكوني؛ لمخالفته للشهرة العظيمة([134]).

وهنا إذا قصد من الشهرة تلك التي بين المتأخرين فلا قيمة لها، لاسيما وأنها قد تكون ناتجةً عن مقاربة النصوص والتوفيق بينها كما سنلاحظ، فلا توجب سقوط الرواية عن الاعتبار حتى لو قلنا بقاعدة الوهن، وأما إذا قصد الشهرة بين المتقدّمين، فإذا قصد تمام الفقهاء المسلمين فالشهرة متحقّقة، لكنّ إعراضهم لا يوجب سقوط الراوية؛ لأنّ الفرض أنّ سائر الفقهاء ما كانوا يبالون كثيراً بروايات أهل البيت، حيث لا يعتبرونها مصدراً تشريعياً، فلا يدلّ إعراضهم على إسقاط الحجّية الصدورية، وأما إذا قصد فقهاء الإمامية، فلا يحرز أنّ الشهرة بين المتقدّمين ـ لو غضضنا الطرف عما تقدّم ـ منعقدة على عدم أخذ هذا القيد، بعد ذهاب مثل الشيخ الطوسي([135])، وابن حمزة([136])، إلى هذا التقييد، بل حتى لو انعقدت يحتمل جدّاً أن يكونوا فهموا منها الإشارة إلى الحالة الغالبة لا بيان حكم شرعي تعبّدي، ومع هذا الاحتمال المعقول جدّاً ـ بقرينة ذهاب بعض الفقهاء الآخرين إليه ـ لا يكون إعراضهم موجباً لوهن السند كما هو واضح.

ورابعاً: بما ذكره الإمام الخميني والعلامة شمس الدين، وحاصل كلامهما ـ بعد ضمّه ـ أنّ خبر السكوني معارض ببعض الأخبار الأخرى، وهما خبر الحلبي (رقم 5) وخبر سالم الحناط (رقم 4)، حيث يفهم منهما أنّ العبرة بترك الناس بلا طعام، الأمر الذي يوقع المعارضة في مادّة الافتراق، فيتساقط المتعارضان ويرجع إلى مطلقات تحريم الاحتكار، أو ترجّح الروايات المخالفة لخبر السكوني؛ لكونها موافقة للاعتبار وفيها مناسبة بين الحكم والموضوع([137]).

وهذه المناقشة متفرّعة على حجية الأخبار، لكن يمكن أن يقال بأنه لا تنافي بين خبر السكوني وخبر سالم الحناط؛ لأنّ الأخير إنما كان بصدد الحديث عن سحب الطعام من الأسواق مقابل وجود باذل آخر وبائعين آخرين، فتكون العبرة هنا بملاحظة عنصر آخر غير العنصر الذي نحن فيه، وهكذا الحال في صحيح الحلبي (رقم 5). نعم صحيح الحلبي الذي أوردناه في روايات الكراهة ينفع هنا.

وخامساً: قد يقال بإمكان دعوى الجمع العرفي بين النصوص؛ لأنّ صحيحة الحلبي (رقم 5) وأمثالها ظاهرة في بيان مناط الحكم، فتكون بمثابة المفسّر والقرينة على أنّ ذلك التحديد الزماني إنما هو من جهة تحقّق مناط الحكم فيه عادةً أو غالباً، ولهذا وجدنا في كلمات بعض الفقهاء حديثاً عن أنّ هذا التحديد إنما هو من باب الغالب أو المظنّة، فلا تساقط ولا تحديد([138]).

وهذا الجمع عرفي مقبول، ولا يوصف أصل الحمل على الغلبة ـ كما فعل بعض الفقهاء([139]) ـ بأنّه خلاف الظاهر ولا شاهد له، فإنّ الذي يقرأ مجموع النصوص يفهم أنّ المناط والعبرة بحال الضيق، وترك الناس في عسر ومشقة، فتحمل هذه الرواية على الحال الغالب، على تقدير إمكان قبولها في نفسها.

نعم، إذا كانت الروايات في هذا المجال متعدّدة وصادرة في فترات زمنية مختلفة وأمكنة متفرّقة فقد يستبعد هذا الحمل لو اتحدت في تحديد الرقم مثلاً.

وبهذا كلّه يظهر أنه يشكل الأخذ بخبر السكوني بعد ما تقدّم.

2 ـ رواية أبي مريم، عن أبي جعفر× قال: قال رسول الله$: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً، يريد به غلاء المسلمين، ثم باعه فتصدّق بثمنه، لم يكن كفارة لما صنع»([140]).

ويناقش أولاً: بضعف السند ـ كما تقدم ـ بجهالة علي بن محمد بن الزبير الكوفي القرشي وغيره.

ثانياً: إنّه لا مفهوم لها ينفي الحرمة، وعلى تقديره تكون مثل الروايات الأخرى متقدّمةً عليه بالأظهرية، بل بالقرينية كما أسلفنا.

ثالثاً: ناقش السيد الخوئي في أصل دلالة الرواية بما ناقش خبر السكوني المتقدّم، معتبراً أنّ هذه الرواية هنا راجعة إلى بيان جهة أخلاقية تعبّداً؛ لأنّ الظاهر منها أنّ المحتكر لم يكن غرضه من الحبس الاسترباح وإنما كان نية السوء، وهو الغلاء ورفع الأسعار على المسلمين، ومعه فتكون الرواية خارجة عن بحث الاحتكار وناظرة إلى قباحة نية السوء([141]).

لكنّ هذه المناقشة في غير محلّها؛ وذلك:

أ ـ إنّ التعبير بـ «يريد به غلاء المسلمين» لا ينظر إلى جهة قصدية استثنائية في موضوع الاحتكار، بل الغاية المقصودة عادةً للمحتكر هي الغلاء، وإنما أضيف إلى المسلمين في الرواية لا لبيان مسألة أخلاقية، بل لبيان شناعة الاحتكار نفسه من حيث إفضائه إلى غلاء الأسعار على المسلمين المحترمين في نفوسهم وأموالهم، فتكون شرحاً لحال طبيعة الاحتكار.

ب ـ إنه لم يقم دليل معتبر على أنّ الاحتكار مرتبط بنية الاسترباح، وقد تقدّم أنّ طلب زيادة الثمن إنما هو الحالة الغالبة لا أكثر.

3 ـ خبر ابن عمر، عن النبي$ أنه قال: «من احتكر طعاماً أربعين ليلةً فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه...»([142]).

وحاله حال سابقه سنداً ودلالةً كما تقدّم.

وعلى وزان هذه الروايات روايات أخر، تقدّمت الإشارة إلى أغلبها، وهي ضعيفة السند، وحالها حال الروايتين الأخيرتين دلالةً.

فالصحيح أنه لا يؤخذ بالتحديد الزماني في باب الاحتكار، وإنما العبرة بما يوقع آثار الاحتكار، وهنا لا مانع من أن تتدخّل الدولة أو الجهات المشرفة في تحديد أزمنة محدّدة في كلّ عصر أو مكان تبعاً للحال الاقتصادية فتسنّ القوانين المنظمة لهذا الموضوع تحت مظلّة المقصد الشرعي أو المؤشر القانوني العام.

 

5 ـ 4 ـ الشراء (سبيل الحصول على السلع والبضائع)

ذهب جمهور الفقهاء من أهل السنّة إلى أنه يشترط في الاحتكار أن يكون تملّك السلعة المحتكرة فيه عن طريق الشراء، بمعنى أن يقوم المحتكر بشراء هذه السلعة ثم حبسها، فلو فرضنا أنه حصل على هذه السلع المخزّنة عنده في المستودعات لا عن طريق الشراء من السوق، وإنما بجلبها من سوق أخرى، كسوق أجنبية، أو عن طريق الادّخار لما يزيد عن حاجته، أو بحبس محاصيل أراضيه الزراعية وعدم عرضها في السوق، ففي مثل هذه الحالات لا يحكم بحرمة الاحتكار، بل قد لا يكون من الاحتكار موضوعاً.

والمنقول عن بعض المالكية وأبي يوسف من الأحناف عدم الأخذ بهذا الشرط، وأنّ العبرة بحبس السلعة بما يضرّ بالعامة كيفما كان السبيل الذي حصل تملّك السلعة من خلاله.

وقد يحرّم أنصار المذاهب الأخرى هذا الحبس أو يعطون للدولة الحقّ في المنع دفعاً للضرر، لكن دون أن يصدق عنوان الاحتكار الذي هو محطّ نظر الفقهاء هنا([143]).

أما على مستوى الفقه الإمامي، فقد ذهب فريقٌ من الفقهاء إلى أخذ الشراء شرطاً في الاحتكار([144])، إلاّ أنّ الكثير منهم لم يأخذ بهذا الشرط أيضاً([145])، وهو ظاهر الذين تحدّثوا عن الاحتكار دون أيّ تعرّض لهذا الشرط، لاسيما الرسائل العملية للفقهاء الإماميّة المتأخرين.

وإذا تمّ اختيار قيد الشراء في الاحتكار ينفتح موضوع جديد، وهو تحديد زمان الشراء وأنه في وقت الغلاء أو غيره كما سيأتي إن شاء الله تعالى، لهذا من الضروري بدايةً رصد مبرّرات أصل هذا القيد، للانتقال بعد ذلك إلى تفريعاته.

 

أ ـ مبرّرات قيد الشراء أو سبيل الحصول على السلعة

والذي يمكن أن يكون مستند التقييد بالشراء أحد أمرين:

الأول: مرجعية اللغة، فقد تقدّم في البحث اللغوي أنّ بعض اللغويين عبّر عن الاحتكار بالجمع والحبس، بحيث قد يفهم من كلامهم أنّ الجمع هنا بمعنى شراء السلعة من السوق، ويكون الحبس هو تخزينها والامتناع من بيعها بعد شرائها.

والجواب بما ناقشناه في محلّه سابقاً من أنّ الجمع هنا كما قد يعني المعنى المصدري قد يراد به المعنى اسم المصدري، بمعنى أن تكون السلع مخزونةً مكدّسةً في المستودعات مثلاً، وهذا هو المناسب مع الجذر اللغوي وسائر كلمات اللغويين الذين ركّزوا في المقام الأول على مقولة الحبس، فلا يظهر من اللغة أخذ قيد الشراء من السوق في مفهوم الاحتكار.

والذي لم يبد لي واضحاً أنّ العلامة شمس الدين رغم إقراره في البحث اللغوي بالتمييز بين الجمع والحبس، وأنها عنصران مستقلان متميزان مقوّمان للاحتكار لغةً، إلا أنه رفض بشدّة في موضع آخر قيد الشراء المسبق([146])، فإذا قصد بالجمع مجرّد ضمّ السلع إلى بعضها بعضاً فهذا لا معنى له، وإذا قصد الشراء المسبق وقع التناقض في كلامه؛ لأنّ المفروض أنّ النصوص الشرعية المحرّمة للاحتكار تحرّم المسمّى بهذا الإسم لغةً وعرفاً، والمفروض عدم الشمول لغير ما كان فيه شراء مسبق.

الثاني: النصوص الخاصّة، وأهمها ثلاثة نصوص هي:

1 ـ ما جاء في خبر الحلي المتقدم: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره..»؛ فإنّ ظاهر مفهوم الحصر في هذه الرواية أنّ مجرد الحبس دون الشراء المسبق ليس حكرةً، فلا يكون حراماً بعنوان الاحتكار.

2 ـ خبر أبي مريم، عن أبي جعفر×: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه.. لم يكن كفارة لما صنع».

3 ـ صحيحة سالم الحناط، في حديثها عن حكيم بن حزام حيث جاء فيها: «.. وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه..».

فإذا أخذنا بدلالة مفهوم الخبر الأوّل مؤيّداً بالخبرين الآخرين، أمكنّا تقييد سائر المطلقات به وحصر الحرمة بحالة الشراء المسبق.

وربما أمكن إضافة المقابلة في الحديث المتقدّم: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» بحيث إنّ الذي يجلب البضائع من خارج المدينة ممدوح، وهذا يعني أنّ المحتكر ليس من يجلب البضاعة من سوق أخرى، بل هو الذي يشتريها من السوق نفسه ثم يحبسها.

وقد يناقش الاستدلال بهذه الروايات بعدّة أمور:

أولاً: إنّ رواية أبي مريم مع صحيحة سالم الحناط لا مفهوم لهما؛ لأنهما تفترضان حالة الشراء لا أنهما تنفيان غيرها، كما أن قصّة حكيم بن حزام إنما وردت في مقام بيان جمع البضاعة كلّها في مقابل توفر السلعة في السوق معروضةً للبيع عند غيره، فجاءت قصّة حكيم الذي صادف أنه اشترى البضاعة، وليست في مقام الحديث عن الشراء حتى تكون لها دلالة على الحصر والتقييد والمفهوم أساساً.

ثانياً: إنّ الخبر الأخير لا يفيد تفسير الجالب بمعنى من يأتي بالبضائع من خارج المدينة لو امتنع من بيعها، وإنما هي في مقام الحث على توفير السلعة من خارج المدينة، أي «الاستيراد» لتأمين السلعة غير المتوفرة في المدينة، فإنّ الشخص يوفر للناس سلعةً غير متوفرة بينهم فيكون مستحقاً للمدح، في مقابل المحتكر الذي يمنع عنهم السلعة ولو كانت بينهم فهو مستحقّ للذم، فجهة المقابلة بين الاثنين في توفير السلعة وعدمه، لا في مثل احتكار الجالب للسلعة وأمثاله فليلاحظ.

ثالثاً: ما ذكره بعض الفقهاء، من أنّ خبر الحلبي ـ وهو الخبر الأول ـ واردٌ مورد الغالب؛ إذ الحالة الغالبة فيمن يريد الاحتكار أن يجمع البضاعة من السوق ويشتريها ليمتنع من بيعها، أو نقول: إنه وارد لمطلق المملوك بالمعاوضة من الأوّل، بل على هذا يمكن حمل سائر الروايات أيضاً([147]).

إلا أنّ هذه المناقشة لوحدها لا تفيد لاسيما في خبر الحلبي؛ لأنّ مجرد إمكان الحمل على الغالب لا يعيّنه بعد ورود أداة الحصر فيها، نعم يمكن أن يكون هذا الحمل مقبولاً بمعونة المناقشة التالية وهي:

رابعاً: إنّ مقتضى الجمع مع خبر الحلبي الآخر، وهو الذي يفصّل بين وجود طعام في المصر وعدم وجوده وأنه لا يترك الناس ليس لهم طعام، أنّ القضية تابعة لترك الناس ليس لهم طعام، فتكون هذه الدلالة أقوى في الإفادة، بحيث تسمح بحمل تلك على الغالب. وقد تبنّى بعض الفقهاء هذا الأمر([148]).

خامساً: ما هو الجواب الأفضل على خبر الحلبي، وهو أنّ حديث هذه الرواية ليس عن الشراء، يشهد لذلك قرينة المقابلة، فإنها قالت، «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس»، وهذا يدلّ على أنّ نظرها إلى وجود الطعام في السوق وعدم وجوده لا إلى كيفية الحصول عليه من خلال الشراء أو غيره، وإلا لقالت الرواية: فإن كان بغير اشتراء أو كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس، فمن عدم التعرّض في الفرض الثاني المقابل لظاهرة الشراء وعدمها، يفهم أنّ حديث الشراء جاء عرضاً في مقام ذكر الحالة الغالبة([149]). هذا كلّه فضلاً عن ضعف سند بعض هذه الروايات كما تقدّم.

الثالث: أن يقال بأنّ الاحتكار المتفرّع على الشراء من السوق يصدق عليه الإضرار بالناس والتضييق عليهم وعدم إعطائهم حقّهم العام في السلع المعروضة للبيع، أما لو حصل تاجرٌ ما على بضاعة من خارج السوق، كما لو تمّ ذلك عن طريق الاستيراد من الدول الأجنبية، بحيث كان السوق من البداية خالياً من هذه البضاعة، فلا يصدق أنّ للناس في هذه المدينة أو البلد حقاً عاماً حتى يصار إلى اتهام المحتكر بتفويته، وكذلك الحال في الإضرار، فكما أنه لا يجب عليه شراء هذه البضائع من السوق الأجنبية لبيعها في السوق المحلّية، فكذا عدم تخزينها حيث لا تمييز بين الحالتين.

والأمر عينه في الاستبقاء على السلع التي حصل عليها من داخل البلد بغير شراء، مثل محاصيل أراضيه الزراعية، فإنه لم تدخل هذه المحاصيل دائرة السوق المحلّية حتى يتعلّق بها حقّ عام وهكذا، ولذلك كان له ألا يزرع من الأول.

وبعبارة أخرى: هناك فرق بين قيام المحتكر بعمل إيجابي يصدق معه عنوان الإضرار أو سلب الحقّ، كأن يشتري السلع من السوق المحلّي ويحبسها، وبين مجرّد الفعل السلبي وهو أن لا يبيع ما كان عنده دون أن يكون له دور في إفراغ السوق، والأدلّة لا تستوعب الحالة الثانية، من هنا يكون هناك قصور في مقتضى الحرمة هنا.

وقد ناقش الشيخ شمس الدين في أصل مسألة الحقّ العام في باب الاحتكار، بأنه لا وجه معقول لفكرة الحقّ العام هذه؛ إذ لو أريد منه حقٌّ من نوع ملكية المجتمع للمال أو سلطنته عليه، فهذا مخالف لضروريات التشريع في أنه لا سلطنة ولا ملكية على المال من غير مالكه بالملكية الخاصّة، وأما إذا كان المراد معنى التعاون والتضامن والتكافل ومسؤولية القادر على سدّ حاجات الناس، فلا فرق في هذا المعنى بين ما كان داخل البلد وخارجه حتى يتمّ التمييز بين المستورد وغيره في بعض الكلمات، بل لا يفيد سوى رجحان البذل.

وأما إذا كان المقصود أن نتاج كلّ بلد لأهل ذلك البلد حقّ فيه، فيكونون أولى به دون ما أتى من الخارج فيكون الأولى به جالبه، فهذا تفريق في حكم المال بالنسبة إلى مالكه بلا دليل من شرع أو عقل؛ لأن الأولى بالمال دوماً هو مالكه لا غيره.

يضاف إلى ذلك أنه أيّ مانع من إلزامه بالزرع من باب الواجب الكفائي النظامي، وحتى لو سلم له أن لا يزرع فلا تلازم بينه وبين أن لا يبيع، وتكون النتيجة أنّ هذا المدخل لمعالجة الموضوع غير صحيح من الأوّل([150]).

ويمكن التعليق هنا:

أولاً: إن فكرة الحقّ العام هنا لا تعني دخول غير المالك بالملكية الخاصّة شريكاً مع المالك حتى يجعل ذلك مخالفاً لضروريات الشرع، بل بمعنى أنّ السلع التي تشكّل حاجيات المجتمع ـ سواء كانت نتاجاً للمجتمع نفسه أم لخارجه ـ يثبت للمجتمع حقّ في الحصول عليها بما لا ينافي ملكيّتها الخاصّة من رأس، فنحن نتحدّث هنا عن حقّ لا عن ملك، ولهذا يجب كفايةً تأمين هذه الحاجيات لأفراد المجتمع ولو بالبدل، فإنّ هذا هو الواجب النظامي كما حقّقناه في محلّه. فالمطلوب توافر السلع الضرورية في السوق ولو بأسعارها، وأين هذا من مخالفة الضرورة؟! نعم غايته مخالفة إطلاق السلطنة، وهي مخالفة يرتكبها الشيخ شمس الدين نفسه بمنعه من الاحتكار شرعاً.

ثانياً: لا تقف فكرة الحقّ العام هنا ـ بناءً على الأخذ بها ـ لتصحيح التمييز الذي ذكر في أصل الدليل، بمعنى أنه قد يفرض عدم الشراء لكن مع ذلك يثبت الحقّ العام؛ لأنّ الذي يقول بالحقّ العام هنا يرى أنّ معروضية السلعة في السوق يثبت في موردها حق عام، ومعه فيمكن أن يكون المحتكر قد اشترى البضاعة من السوق الأجنبية أو كانت نتاجاً لأراضيه الزراعية أو مصانعه المنتجة، ثم عرضها في السوق فتعلّق بها الحقّ العام، فحرم احتكارها عليه مع أنه لم يتحقق عنوان الشراء هنا.

فإذا كان الحقّ المذكور ثابتاً بصرف النظر عن عرضها في السوق وإنما بنفس وجودها عند التاجر، فلا فرق بين الشراء وغيره، وإذا كانا العرض هو العنصر الموجب لثبوت هذا الحقّ العام فقد تحقّق أيضاً، فلا يصحّ وفق هذا الدليل القول بقيدية الشراء.

ثالثاً: إنّ من يقول بفكرة الحقّ العام هنا في السلع الضرورية بإمكانه أن يلتزم بالوجوب الكفائي حتى على مستوى عرض المحصول الزراعي أو الصناعي الخاص أو الحصول عليه من السوق الأجنبية، تماماً كحال الواجبات النظامية الأخرى، فلا معنى للقول بأنه لم يكن يجب عليه الزرع من الأوّل، بل يمكن الالتزام به حينئذٍ في نطاق الحاجيات العامّة.

وعليه، فالقول بفكرة الضرر أو فكرة الحقّ العام لا يضيّق من قدرة الدليل على الشمول لغير حال الشراء، فالصحيح عدم أخذ الشراء قيداً في الاحتكار ولا في حكمه.

لكن لو فرض الأخذ بقيد الشراء في الاحتكار، ينفتح مجال البحث في تفصيلين هما:

 

ب ـ زمان الشراء

ذهب بعض فقهاء أهل السنّة إلى تقييد الشراء بأن يكون في وقت الغلاء، أما لو اشترى المحتكر الطعام في أيام الرخص وحبسه، ثم ارتفع السعر، فلا يكون امتناعه عن بيعه في هذه الحال احتكاراً، ونسب إلى بعض فقهاء الإباضية أخذ قيد الشراء وقت الرخص([151]) بعكس ما شرطه بعض فقهاء الجمهور تماماً.

ولا يظهر وجهٌ صحيح لهذا التمييز لا على المستوى اللغوي ولا على مستوى النصوص، إلا أن يكون المقصود أنّ الشراء يكون في أيام الرخص برجاء أن ترتفع الأسعار فإذا ارتفعت باع كما يفعله التجّار، وهذا ليس احتكاراً كما هو واضح.

من هنا، فالأدلّة المحرّمة للاحتكار لو قيّدت بالشراء فلا تقييد فيها بزمان خاص لهذا الشراء، لا وقت الغلاء ولا وقت الرخص.

 

ج ـ مكان الشراء

ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى التفصيل في مسألة الشراء على المستوى المكاني، فقيّدوه بأن يكون من نفس البلد أو حتى المدينة التي يجري الاحتكار فيها، فلو حصل الشراء من الخارج كالاستيراد فلا يكون هناك احتكارٌ محرّم.

والذي دفعهم إلى هذا التقييد أمور:

الأول: النبوي المتقدّم الذي ميّز بين الجالب فاعتبره مرزوقاً والمحتكر فاعتبره ملعوناً، حيث يفهم منه أن المحتكر مغايرٌ للجالب، فلا يرتبط الاحتكار بمفهوم الاستيراد.

ويناقش بما قدمناه من أنّ المراد بالجالب في مقابل المحتكر هو توفير السلعة في مقابل عدم توفيرها في السوق، لا مجرّد الاستيراد في مقابل عدمه ولو احتكر بعد ذلك، هذا فضلاً عن ضعف الحديث سنداً بطرقه الشيعية والسنية كما أسلفناه فيما مضى.

الثاني: المروي عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنه قال: «لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب، إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكرونه علينا. ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله»([152]).

وقريب منه خبر عمرو بن شعيب، قال: «وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدّين، فقال: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا، تقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعاً، وإلا فلا تبع في سوقنا، وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا، ثم بيعوا كيف شئتم»([153]).

ويناقش أولاً: بأننا لم نلتزم بحجية سنّة الصحابي ما لم ينقل عن رسول الله$ كما بحثناه في محلّه([154])، ولعلّ الخليفة هنا كان يمارس سلطةً تنفيذية بحسب ما يراه من المصلحة العامة، فلا يدلّ موقفه هذا على حكم شرعي إلهي.

ثانياً: إنّ الخبر الأول ضعيف السند بالإرسال، أما الثاني فإنّ «كيف شئتم» الواردة في آخره لا تفيد الترخيص مطلقاً حتى مع الغش مثلاً، بل تفيد ما قابل ما سبقها؛ لأنّ الرجل كان يبيع بأرخص من السوق، فمنعه عمر، ثم سمح له لو جلب أن يبيع بما هو أرخص أو أغلى.

الثالث: إنّ احتكار المستورد من خارج السوق المحلّي ليس حبساً لما تعلّق به حقّ العامّة بخلاف احتكار المشتري من السوق.

وهذا قد أجبنا عنه فيما تقدّم فلا نعيد.

ونتيجة الكلام في قيد الشراء أنه ليس بقيد، وعلى تقديره فلا زمان له ولا مكان.

 

6 ـ 4 ـ الحاجة والضرورة (درجة تأثير الاحتكار)

الظاهر من كلمات كثيرٍ من الفقهاء المسلمين أنهم يأخذون في الاحتكار ـ حكماً أو موضوعاً ـ حاجة الناس إلى الموادّ المحتَكَرَة، فلو لم تكن هناك حاجة لم يكن هناك احتكار، ويفهم ذلك من بعض الروايات المتقدّمة أيضاً، مثل خبر الحلبي: «.. وإن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام»، وخبره الآخر: «.. إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر وغيره». ونحو ذلك من الأحاديث والنصوص التي أخذ فيه نفي الوجود المتعلّق بمثل الطعام ممّا هو حاجة الناس نوعاً، إضافةً إلى أنّ دليل الضرر والأذية والحقّ العام قد تختصّ بحالة الحاجة لا غير.

إلا أنّ الكلام في مفهوم الحاجة ومقارنتها بمثل مفاهيم الاضطرار والضرورة والعسر والحرج والضيق والشدّة؛ لأنّ هناك قدراً من الهلامية النسبية في هذه المفاهيم، من هنا لا بدّ من التمييز الدقيق، لنرى ما هي الحالة المفروضة التي يحرم الاحتكار معها؟

الذي يفهم من الفقه الإسلامي وكلمات الفقهاء أنّ الضرورة والاضطرار هي الدرجة العليا هنا، يليها العسر والحرج، ثم مطلق الحاجة، مقابل مطلق الضيق والشدّة، وفي حين يظهر من بعض الكلمات اختصاص الضرورة والاضطرار بحالة الخوف على النفس أن تتلف([155])، إلا أنّ التفسير الذي يبدو أنه المعروف بين الفقهاء هو تحقّقه بذلك أو بخوف المرض ـ حدوثاً وزيادة وطولاً وعسراً ـ أو ما شابه ذلك([156]). ومن هنا تكون الضرورة في اصطلاح الفقهاء أخصّ من الحاجة، وإن ورد في بعض كلماتهم التعبير عن حالات العسر والمشقة وغيرها بالاضطرار. فإذا أخذنا الضرورة قيداً هنا كانت حرمة الاحتكار ضيّقة الدائرة على خلاف ما لو أخذنا مطلق الحاجة كما هو واضح.

ولو عدنا إلى الأدلّة لنرى ما الذي تنتجه هنا فسيظهر لنا:

1 ـ إنّ دليل حرمة الإضرار لا يثبت أكثر من مورد الضرر، ففي كلّ حالة يكون فيها ضررٌ على الناس يكون الاحتكار حراماً، ومن الواضح أنّ تحديد الضرر هنا، لمّا كان عاماً غالباً، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، وما تحدّده الدولة في هذا الإطار، ملاحظةً الحالة النوعية لا حالةً فردية، كالبطالة والكساد وضعف التنافس وتراجع جودة الإنتاج وغير ذلك مما يترك أثراً على التنمية وتقدّم المجتمع واستقراره، كما يضرّ بالخزينة العامة للبلاد، كما أنّ الجانب الشخصي يلاحظ فيه حجم الصرف المالي للأفراد قياساً بغير حال الاحتكار.

2 ـ إنّ دليل الحقّ العام ـ لو ثبت ـ يعطي دائرةً أوسع؛ لأنّ التباني العقلائي في هذا المجال يفرض مطلق الحاجيات التي يحتاجها الناس ولو لم يكن عدمها في السوق موجباً للضرر بالمعنى المتقدّم.

ولعلّه يمكن القول بأنّ الدليل الأوّل يحول دون ظهور الحاجة في المجتمع، أما الثاني فهو يضمن حالة الرفاه بدرجة أكبر من الأوّل.

3 ـ لو عدنا إلى الروايات في المقام فسوف نجدها:

أ ـ تارةً مطلقةً ليس فيها تقييدات توضح الجانب الذي نتحدّث عنه، مثل: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون.

ب ـ وأخرى فيها مثل قيد: «الطعام قليلاً لا يسع الناس» مما يفهم منه ـ خلافاً للشيخ شمس الدين([157]) ـ حالة الاضطرار؛ لأننا عندما نفرض طعاماً لا يسع الناس فنحن نفرض حالة ضرورة، حيث سيبقى بعض الناس بلا طعام، اللهم إلا إذا قيل بأنّ المراد من الطعام هنا خصوص الحنطة مع توفّر غيرها، فهنا لا تكون هناك حالة ضرورة وإنما حاجة.

والظاهر أن النوع الأوّل من الروايات ليس فيه إطلاق من ناحية الضرورة والحاجة، لأنّه بصدد الحديث عن أصل الاحتكار بصرف النظر عن مورده وتفاصيل أحكامه، فيكون النوع الثاني هو المرجع هنا.

وقد حاول العلامة شمس الدين هنا أن يبعد احتمال أنّ روايات الاحتكار واردة للحديث عن حالات الضرورة أو حتى العسر والحرج، مستنداً في ذلك إلى أنّ هذا الأمر ـ مع كثرة روايات الاحتكار وتنوّعها ـ يلزم منه لغوية هذه النصوص؛ إذ مع الاضطرار تكفي أدلّة الاضطرار كي ترفع قانون سلطنة المالكين على أموالهم. بل الظاهر من أدلّة الاحتكار أنه مفهوم خاص متميّز مخالف لمفهوم الاضطرار وحالاته وأنّ الأحكام التي جاءت متصلةً بالاحتكار مما يرجع إلى المحتكر والناس والدولة مخارجة تماماً لقضايا الضرورة والاضطرار، فمحذور اللغوية وظواهر النصوص تنفي هذا الاحتمال. بل إنّ ظاهر بعض كلمات الفقهاء أنّ مورد الحديث هو الاحتكار الذي لا اضطرار معه، ويستنتج من ذلك أنّ الاحتكار يدور مدار الحاجة لا مدار الاضطرار ولا العسر والمشقة([158]).

ويمكن مناقشة هذا الكلام بعدّة مناقشات:

أولاً: إنّ ظاهر كلام الشيخ شمس الدين هو الحديث عن الاضطرار، وهنا يمكن القول: إنّ أقصى ما يفيده دليل الاضطرار هو أنه يجوز للمضطرّ أخذ مال الغير بدون إذنه، وأنّ سلطنة المالك تصبح مقيّدةً بحيث يلزمه عرض السلعة، لكن هل وجود مفهوم الاضطرار يلزم منه لغوية نصوص الاحتكار؟

الذي يبدو لي أنّ الشيخ شمس الدين لم يلتفت إلى أن نصوص السنّة في كثير من حالاتها لا تكون سوى نصوص مطبّقة للقواعد، وهذا ما سمّيناه في مباحث الأصول من حجية السنّة بالسنّة المطبّقة([159])، حيث يقوم المعصوم بتطبيق قانون عام على حالةٍ ما فيصدر حكماً لهذه الحالة، منطلقاً في مبرراته من القانون العام، بحيث يبدو لنا أنه أراد إصدار حكم مستقلّ في هويته ومنطلقاته، وهذا الأمر كثير الحدوث بل هو طبيعي جداً، لاسيما وفقاً لنظرية الشيخ شمس الدين نفسه في تدبيرية السنّة، والغريب أنه صرّح في موضع آخر بأنّ نصوص الاحتكار جاءت تفصيلاً لعمومات نفي الضرر والحرج والعسر في الإسلام([160])، مما يوقع كلامه في مفارقة، وعليه ليس هناك من ملزم لفرض اللغوية هنا؛ لأنّ المشرّع لا يتمكّن من وضع الدساتير العامة، بل يحتاج في بعض الأحيان لأخذ تطبيقاتها بعين الاعتبار كي يصوغ في مناخ هذا التطبيق حكماً آخر متولّداً من الأول، وهذا أمر طبيعي وعقلاني أيضاً في مجال التقنين.

ثانياً: إنّ حديث العلامة شمس الدين عن أنّ ظواهر نصوص الاحتكار تفيد تميّزه عن مثل الضرورة والاضطرار غير واضح؛ إذ نحن لا نتحدّث في المفاهيم، بل نتحدّث في الجانب التشريعي ومنطلقاته، فصحيح أنّ مفهوم الاحتكار مغاير لمفهوم الاضطرار، لكن ما المانع أن يكون الاحتكار من الناحية الحكمية مقيّداً بحال الاضطرار؟! وأما عدم ذكر الاضطرار فيه صراحةً فقد يكون لوضوح الأمر ومركوزيّته، ولا أقلّ من مفهوم العسر والحرج.

من هنا، فالحديث عن قيد الحاجة والضرورة يتبع نوعية الدليل الذي يعتمده الفقيه في الاستدلال على الحرمة، فإذا اعتمد دليل حرمة الإضرار كانت الدائرة مختلفة وأضيق مما لو تمّ الاعتماد على دليل الحقّ العام وهكذا.

 

7 ـ 4 ـ إسلام المجتمع (نوعيّة المجتمع المتأثر بالاحتكار)

لم يتحدّث الفقهاء استقلالاً عن أنّ من شروط الاحتكار حكماً إسلامُ المجتمع الذي يتم في حقّه الاحتكار، ولم يفرد له حديثاً سوى بعض المعاصرين حفظه الله([161])، حيث ذهب إلى أنه لا يختصّ الأمر بالمسلمين، وإنما يشمل غيرهم ممّن هو تحت ولاية وليّ الأمر، إذ لو لم يكونوا مسلمين فهم إما أهل ذمّة أو مستأمنون، وهؤلاء جميعاً ممّن يجب حفظه واحترام ماله ونفسه، وإنما جاء ذكر المسلمين في بعض النصوص والفتاوى انطلاقاً من الحالة الغالبة أو لبيان مزيد بشاعة فعل الاحتكار([162]).

ولعلّ نظره إلى حال المجتمع الإسلامي الذي قد تعيش فيه أقلّية دينية غير مسلمة، فيما يفترض أن يكون محطّ النظر أوسع من ذلك.

وما يبدو لنا صحيحاً في هذا الموضوع ـ وفقاً لما بحثناه مفصّلاً في كتاب الجهاد ـ هو أنّ كل من كان محترماً شرعاً في نفسه وماله بحيث لا تجوز أذيّته أو الإضرار به أو التضييق عليه كان الاحتكار في حقّه محرماً، وقد حقّقنا هناك أنّ الأصل في الإنسان الاحترام والحرمة إلا ما خرج بالدليل، وفي حالة غير المسلم لم يخرج سوى الحربي، وقد اخترنا هناك في تعريف الحربي بأنه المتلبّس بالحرابه بالفعل أو بالقوّة القريبة من الفعل، بحيث يصدق عليه العدوان على المسلمين، لا مطلق الكافر غير الذمي ولا المستأمن (وإن طرحنا هناك إمكانية الحفاظ على التقسيم المشهور للكافر إلى حربي وذمي ومستأمن مع إدراج غير الحربي بمفهومنا الخاصّ في الأقسام الأخرى)، وبناءً عليه فتجري الأدلّة هنا في حقّه، ولا يجوز الاحتكار حتى في غير بلاد المسلمين بالعنوان الأولي، فضلاً عن العناوين الأخرى كالتعاقد وغير ذلك.

وهذا الحكم يشمل حالة ما لو كانت الدول نفسها محتكرة بلحاظ المسلمين، فإنه لا يجوز الاحتكار على الشعب فيها إلا إذا كان شريكاً في الأمر من خلال رضاه عن سياسته وحكومته تجاه بلاد المسلمين وعدم اعتراضه أو مشاركته في تقوية مثل هذه الحكومات.

وعلى هذا الأساس، فإذا دخل الاحتكار حيّز الصراع بين الدولة الإسلامية وغيرها كان تطبيقه على المدنيين خارج البلاد الإسلامية خاضعاً للقوانين الفقهية التي بحثناها مفصّلاً في كتاب الجهاد في مسألة المدنيين.

 

8 ـ 4 ـ الشركة والانفراد (احتكار الافراد والشركات والجماعات)

ظاهر كلمات فقهاء المسلمين وكأنّ المحتكر شخصٌ واحد يقوم بأخذ البضائع من السوق والامتناع من بيعها، لكن في كثير من الأحيان لا يكون ما يمتنع المالك من بيعه بحيث يحقّق عنوان الاحتكار بما يحمله من نتائج اقتصادية واجتماعية، وإنما يشترك بعض التجّار الذين يملكون هذه السلعة في اتخاذ قرار الامتناع من بيعها، وفي هذه الحال يصدق على جميعهم عنوان المحتكر، حتى لو كان كل واحدٍ منهم لا يملك ما لو عرضه في السوق لأخرج الحال من الاحتكار إلى غيره؛ نظراً للصدق العرفي في هذه الحال، إضافة إلى وحدة الملاك في الحكم.

ولا فرق بين ما إذا اتفق التجار صراحةً على القيام بالامتناع عن بيع السلعة أو كان هناك اتفاق ضمني أو وضع ما في الحالة الاقتصادية يفرض ذلك، فليس الانفراد الشخصي قيداً في الاحتكار، بل يصدق على الشركات المساهمة والمتعدّدة الجنسية والدول وغير ذلك أيضاً. وهذا وإن لم يذكروه إلا أنّه لابد وأن يكون واضحاً حتى وفق أصولهم الفقهيّة.

 

5 ـ مجال الاحتكار أو موارده

تعدّدت الأقوال في الفقه الإسلامي فيما يختصّ بمتعلّق الاحتكار أو ما يجري فيه الاحتكار، وذلك كالتالي:

القول الأول: ما يظهر من بعض فقهاء الإمامية، من اختصاصه بالحنطة والشعير والتمر والزبيب وهذا هو ظاهر الشيخ أبي الصلاح الحلبي، حيث عبّر بالغلات([163])، وهو تعبير ظاهر فيما يبدو في هذه الأربعة.

القول الثاني: ما يظهر من غير واحد من فقهاء الإمامية أيضاً، من اختصاصه بالحنطة والشعير والتمر والزبيب مع إضافة السمن([164])، وقد نفى الشيخ الأنصاري الخلاف ظاهراً في هذه([165]).

القول الثالث: ما يبدو من غير واحدٍ أيضاً من فقهاء الإمامية، من الاختصاص بستة أشياء، وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت([166]).

القول الرابع: ما يظهر من بعض الفقهاء، من اختصاصه بالستة المتقدّمة عينها مع تبديل الزيت بالملح([167]).

القول الخامس: ما يظهر أيضاً من بعض فقهاء الإمامية، من جريانه في سبعة أشياء، وهي الغلات الأربع مع الزيت والسمن والملح([168]).

القول السادس: ما ذهب إليه جملة من فقهاء الشيعة والسنّة، من شمول الحكم لمطلق الطعام والقوت، كما رآه أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة([169]). ويتبع في ذلك البلد الذي يجري الاحتكار فيه من حيث عدّه طعامَ ذلك البلد أم لا، حسب رأي بعضهم.

القول السابع: ما نسب إلى محمد بن الحسن من الحنفية، من جريانه في القوت والثياب([170]).

القول الثامن: ما ذهب إليه أبو يوسف من الأحناف والمالكية وبعض فقهاء الإمامية، من جريان الاحتكار في كلّ ما يحتاجه الناس ويتأذّون من احتكاره([171]).

ولكي ندرس هذه الأقوال، علينا الرجوع مباشرةً إلى مستند القول بحرمة الاحتكار، لننظر في المقدار الذي يوفره لنا هذا المستند:

1 ـ أما دليل الضرر وأمثاله، فهو يثبت حرمة الاحتكار في كلّ مورد كان الاحتكار فيه مضراً بالعامّة، بلا تقييد بمجال الطعام، فضلاً عن أنواع خاصّة منه، الأمر الذي يختلف باختلاف الحالات والأزمنة والأمكنة.

2 ـ وأما دليل الحقّ العام، فالمقدار المتيقّن منه هو السلع والحاجات الأساسية في المجتمع كلٌ حسب حاله، بلا فرق بين الأطعمة والثياب وغيرها مما يصدق أنّ وجوده معروضاً في الأسواق صار بمثابة الأمر المفروغ منه بين الناس، بحيث يكون عدمه اعتداءً عليهم وتضييقاً.

3 ـ وأما دليل النصوص الخاصّة، فهو الذي وقع موقع الجدل؛ لأنّ هذه النصوص يبدو عليها الاختلاف فيما بينها، ولهذا لابد من ملاحظة مجموعات النصوص للنظر فيما يمكن استنتاجه منها.

ومجموعات النصوص هي:

المجموعة الأولى: النصوص المطلقة، بمعنى تلك التي لا حديث فيها عن أشياء بعينها تقع مورداً للاحتكار، مثل: «المحتكر ملعون»، وهذه النصوص لو أخذ بإطلاقها أثبتت الحرمة في احتكار مطلق الأشياء.

إلا أنّ الكلام في انعقاد إطلاق في هذه المجموعة من النصوص، حيث يمكن أن ندّعي أنها واردة لبيان أصل حرمة الاحتكار وقبحه، فعندما يقول بأنّ الجالب مرزوق فيما المتحكر ملعون فإنّ مثل هذا النص لا ينظر إلى تحديد نوعية البضائع المحتكرة، وإنما إلى أصل الاحتكار مقابل الاستيراد وتوفير البضائع للناس.

نعم، الذي يظهر من عهد الإمام علي× لمالك الأشتر هو الإطلاق لما كان منفعةً للناس، لأنه قال: «أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات.. فامنع من الاحتكار»، حيث يستفاد هنا أنّ الاحتكار الممنوع هو احتكار المنافع، مما يعطي دلالةً على منع احتكار المنافع، وهذا المفهوم عام لكلّ منفعة تصل إلى الناس، إلا أنّ المشكلة ـ كما قلنا سابقاً ـ في سند العهد المذكور.

كما أنّ صحيحة الحلبي المتقدّمة قد تفيد هنا، حيث ورد فيها «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس أن تلتمس لسلعتك الفضل»، فإن الترديد «أو متاع غيره» يفيد مطلق الأمتعة إذا فهمنا المتاع بمعنى مطلق الشيء. إلا أنّ الاكتفاء بخبر واحدٍ مثل هذا، لاسيما مع احتمال كون الترديد من الراوي، يبدو صعباً بناءً على ما نبني عليه من حجيّة خصوص الخبر الموثوق بصدوره، كما فصّلنا الحديث فيه في كتابنا mحجية الحديثn؛ لهذا لا نملك مطلقات موثوقة من ناحية الصدور والدلالة تمنع جميع أنواع الاحتكار.

المجموعة الثانية: النصوص الدالة على احتكار الأطعمة والأقوات دون تعيين لها أو تحديد لنوعٍ خاص منها، وذلك مثل خبر الحلبي المتقدّم: «إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به، وإن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام»، وكذلك خبره الآخر: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره..»، وكذلك النبوي المتقدّم: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه»، ونحوه خبر معاذ عن رسول الله$: «من احتكر طعاماً على أمتي أربعين يوماً وتصدّق به، لم تقبل منه»، وكذلك النبوي المتقدّم: «لا يحتكر الطعام إلا خاطئ»، وكذلك صحيح ابن سالم المتقدّم في قصّة حكيم بن حزام الذي كان يشتري الأطعمة، وكذلك خبر أبي مريم المتقدّم: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً..»، وكذلك خبر يعلى بن أمية المتقدّم عن رسول الله$: «احتكار الطعام في الحرم إلحادٌ فيه»، وكذا خبر عمر بن الخطاب عن رسول الله، وغير ذلك من النصوص، حيث يلاحظ حضور كثير للطعام في مجمل نصوص الاحتكار.

وهذه النصوص إن أريد منها أنها لا تدلّ على التحريم في غير الطعام، فهذا المقدار لا بأس به، لكن إذا أريد بها تقييد المطلقات على تقدير انعقادها أو إفادة الحصر بحيث يكون لها مفهوم، فهذا ممنوع؛ إذ بصرف النظر عن ضعف أسانيد أكثرها ليس فيها ما يفيد النفي في غير الأطعمة، ومن الممكن جداً فهم السبب في تردّد الحديث عن الطعام في عدد لا بأس به من نصوص الاحتكار، انطلاقاً من أنّ الاحتكار في الطعام كان أوفر من غيره في تلك الأزمنه وأضرّ بالناس، فكثرة تردّد الطعام في النصوص يمكن فهمه وفقاً لهذا الأمر، بلا حاجة إلى افتراض أنّ هذه الكثرة شاهدٌ على تخصيص الشارع الحكم بالطعام.

نعم، من بين هذه النصوص قد يدّعى وجود خبر صحيح السند، وهو صحيح الحلبي الذي اشتمل على أداة حصر: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره..»، فإنه يفيد حصر الاحتكار بشراء الطعام حيث لا يوجد غيره، فيدلّ بمفهوم الحصر على أنّ غير الطعام لا يدخل في الحكرة المحرّمة.

إلا أن ذلك غير صحيح؛ لأنّ الحصر هنا إضافيّ جاء بملاحظة حالة وجود باذل في السوق للسلعة المحتكرة وعدمه، ولذلك ذكرت الرواية نفسها في المقطع التالي أنه لو كان هناك باذل للسلعة فلا بأس أن يلتمس لها الفضل، مما يكشف ـ بقرينة المقابلة ـ أنّ دائرة الحصر كانت في خصوص توفر السلعة وعدمه في السوق لا غير، ولا أقلّ من أنّ ذلك يمنع من استظهار شمولية الحصر هنا.

وبهذا يثبت أنّ النسبة بين المطلقات ونصوص الأطعمة هي النسبة بين المثبتَين، وفي هذه الحال قد يدّعى أنه لا تعارض بينهما، بل قد يدّعى أنّ أحدها جاء في سياق بيان بعض مصاديق الثاني.

إلا أنّ المشكلة تكمن فيما أسلفناه في البحث اللغوي، حيث لم نستطع استخراج مفهوم الاحتكار الخاصّ في غير الأطعمة، وكأنّ هذه الكلمة صارت خاصّةً بذلك، بمعنى أنّ هذا اللفظ دائر مدار معنيين ثبتا له بالفعل ويشترك بينهما، أحدهما عام والثاني خاصّ بالأطعمة، ومعه فتكون المطلقات في المجموعة الأولى ـ بصرف النظر عن التعليق المتقدّم فيها ـ غير صالحة لإثبات ما هو أوسع من نصوص المجموعة الثانية هنا، بناء على عدم فهم خصوص الحنطة من الطعام.

وبصرف النظر عمّا تقدّم، هل يمكن إلغاء خصوصية الطعام من هذه النصوص بفرض كونها في سياق ذكر مثال بارز لمطلق ما يحتاج إليه حاجةً ماسّة أم أنّ للطعام خصوصية ولو تعبدية مجهولة الملاك هنا، ومن ثم يحكم بحرمة الاحتكار مطلقاً ويكون رفع الخصوصيّة عرفاً شاهداً على إرادة المعنى العام للاحتكار دون الخاص؟

قد يدّعى أنه لا خصوصية للطعام، حيث لم يؤخذ هنا إلا من حيث كونه حاجةً أساسية في قيامة الحياة البشرية على الأرض، ومن ثم فيمكننا تسرية الحكم لكلّ ما كان أساسياً في قيام الحياة الإنسانية، إذ مهما فرضنا للطعام خصوصيةً فلن تكون أقرب من هذه الخصوصية التي يحملها، وإلا ففرض خصوصية تعبدية هنا غير واضح.

إلا أنّ هذه الدعوى غير واضحة؛ لأنّ احتكار الطعام هنا له حالتان:

الأولى: أن يحتكر الأطعمة بحيث لا يكون للناس طعام، وهذا ما يفهم من مثل خبر الحلبي، حيث فرض فيه ترك الناس ليس لهم طعام.

الثانية: أن يحتكر طعاماً من الأطعمة، وهذه الحالة لا تستدعي صورة قيام الحياة الإنسانية عليها، كاحتكار بعض أنواع الخضراوات أو الفواكه، وجملة من النصوص المتقدّمة هنا لا تصلح لأكثر من احتكار بعض الأطعمة بحيث يصدق أنه احتكر طعاماً، لاسيما النصوص التي ورد فيها ذكر الطعام بصورة النكرة.

ففي الحالة الأولى قد يلغي العرف خصوصية الطعام فيراه إشارة إلى أبرز حالات الحاجة لقيام الحياة فيسري الحكم إلى غيره، إلا أنّ سائر النصوص في الحالة الثانية لا تفيد ذلك إطلاقاً، ومن ثم يصعب تسرية الحكم إلى غير الطعام.

وقد يدّعي مدّعٍ ـ بصرف النظر عن الأدلّة الخارجية في الضرر والأذية وغير ذلك ـ أنّ الطعام يظلّ على أيّ حال حالةً استثنائية في نوعية الحاجات التي يقوم عليها معاش الناس، وهو بذلك يختلف عن سائر الأمور، فيحتمل الخصوصيّة.

إلا أن هذا الكلام غير دقيق، فاللباس أيضاً كذلك والسكن أيضاً كذلك، فادّعاء التمييز فيه تكلّف واضح. وعليه، فخبر الحلبي قد يكون هو الخبر الوحيد المفيد هنا في التعميم دون غيره.

ورغم مجمل ما تقدم تظلّ إشكالية أخرى تتصل بمعنى كلمة «الطعام»، فإنّ هذه الكلمة لها معنيان في اللغة العربية، حيث تطلق تارةً على مطلق القوت والغذاء وما شابه ذلك أي كلّ مطعوم، فيما تطلق أخرى على معنى خاص وهو عبارة عن خصوص البُر والحنطة، فإذا فرض أنّ المراد هو الأول تمّ مجمل كلامنا المتقدّم، لكن لو فرض أنّ المراد هو الثاني أشكل الأمر، بل صارت هذه المجموعة من النصوص أضيق دائرةً من المجموعة اللاحقة التي تعيّن بعض أنواع الأطعمة والتي منها الحنطة.

إلا أنّ الصحيح أنّ المراد من الطعام في هذه النصوص هو المعنى الغالب المنصرف إليه وهو مطلق الأطعمة؛ لكثرة استعمال الطعام في هذا المعنى العام قياساً بالمعنى الخاص، ولذلك عندما شرح الجوهري معنى الطعام قال: «ما يؤكل، وربما خصّ بالطعام البرّ»([172])، وقال الفراهيدي: «والطعام اسمٌ جامع لكلّ ما يؤكل، وكذلك الشراب لكلّ ما يشرب، والعالي في كلام العرب: أن الطعام هو البرّ خاصّة...»([173])، ويتعزّر هذا الزعم باشتهار الطعام في المعنى العام أنّ سائر اشتقاقات كلمة الطعام يفهم منها ـ عرفاً ولغةً ـ ما يتصل بمطلق ما يؤكل، مثل: أطعم، يطعم، طعم، تطعمون وغير ذلك، ولهذا ورد في القرآن الكريم استخدام الطعام في المعنى العام قال تعالى: ﴿.. لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ..﴾ (البقرة: 61)، وقال سبحانه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً..﴾ (عبس: 24 ـ 31).

من هنا، يترجّح الأخذ بالمعنى العرفي العام، ويكون مفاد هذه المجموعة النهي عن احتكار الأطعمة مطلقاً.

المجموعة الثالثة: وهي النصوص الدالّة على تعيين الاحتكار بأصناف محدّدة معينة مسمّاة من الطعام، وليس مطلق الطعام، وهذه النصوص تحظى بأهمية على مستوى الفقه الإمامي كما أشرنا من قبل.

وهذه النصوص هي:

1 ـ معتبرة غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: «ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت»([174]).

وهذا الخبر يحصر في ستة أصناف، وبحسب بعض المصادر في خمسة، مع حذف الزيت.

2 ـ خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه: أنّ علياً× كان ينهى عن الحكرة في الأمصار، فقال: «أن ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن»([175]).

وهذه الرواية تشابه خبر غياث بن إبراهيم في نقل الطوسي، لكنها ضعيفة السند بأبي البختري، فهو رجل ضعيف، كما أنّ دلالتها ـ كسابقتها ـ على الحصر جيّدة.

3 ـ خبر السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي× قال: قال رسول الله$: «الحكرة في ستة أشياء: في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت»([176]).

وظاهر الخبر أنه في مقام بيان موارد الاحتكار وأنّ هذا التعداد الذي قام به يراد منه حصر موارده، وإن لم يشتمل على أداة حصر كالخبرين السابقين، لكنّ هذا الحديث ضعيف السند بكلّ من: حمزة بن محمد بن أحمد العلوي، والنوفلي، حيث لم تثبت وثاقتهما عندنا، هذا مع غضّ النظر عن السكوني نفسه.

4 ـ خبر دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد، أنه قال: «.. وقال: ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والزيت والزبيب والتمر..»([177]).

فهذا الخبر يحصر مورد الاحتكار بخمسة أشياء ولا يذكر السمن، وهو ضعيف السند، حيث لم يذكر له سند أساساً.

5 ـ خبر أبي العباس المستغفري في طبّ النبي$، قال: «الاحتكار في عشرة، والمحتكر ملعون: البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والذرة، والسمن، والعسل، والجبن، والجوز، والزيت»([178]).

وهذا الخبر يضيف الذرة والعسل والجبن والجوز، وهو ضعيف السند بالإرسال.

هذه هي الروايات الحاصرة في أنواع بعينها، وليس بينها خبر يفيد إدخال الملح، والذين أضافوه من الفقهاء علّلوا هذه الإضافة بفحوى التعليل الموجود في بعض الأخبار العامة الحاكية عن حاجة الناس وعدم تركهم بلا طعام([179])، وقد تبيّن بنظرة تجزيئية أوّلية أنها ضعيفة السند باستثناء الخبر الأوّل، وهو خبر غياث بن إبراهيم، ولست أدري ما وجه توقّف العلامة شمس الدين([180]) في شخص غياث بن إبراهيم، ولعلّه لما روي في حديث الطيرمن كذبه بمحضر الخليفة العباسي، لكنّ هذا الخبر غير ثابت، علماً أننا نحتمل أنّ ذلك الشخص يغاير غياث بن إبراهيم الوارد في المصادر الحديثية الشيعية، وغياث بن إبراهيم هنا هوالذي وثقه النجاشي، على أنّ الشيخ شمس الدين نفسه أخذ بخبر آخر لغياث، ووصفه بأنه موثق([181]).

ومع ذلك، فقد ذكر بعضهم أنّ هذه الأخبار لا يمكن الأخذ بها وذلك:

أولاً: إنه قد وقع فيها اختلاف في عدد الأشياء التي تقع مورداً للاحتكار وفي نوعها، فهي من حيث العدد تردّدت بين خمسة وستة وعشرة، ومن حيث النوع وجدنا الزيت والسمن يتردّدان، ومع هذا الاضطراب لا ثقة بصدورها، وعلى تقدير صدورها فيفهم منها الحصر غير الحقيقي، بمعنى التركيز على هذه في مقابل بعض الأنواع الأخرى غير المحتاج إليها في ذلك الزمان([182]). بل حتى لو أخذنا خبر غياث نفسه سنجد فيه اختلافاً، حيث ذكر الزيت في موضع، ولم يذكر في موضعٍ آخر.

وهذه المناقشة تارةً يلاحظ فيها خصوص المعتبر من الأخبار، وأخرى تلاحظ بأجمعها معاً:

فإن لوحظت بأجمعها، فقد يقال بأنّ أخذها جميعاً يوقع التعارض بينها، ومن الواضح أنّ هذا التعارض هو بالعموم والخصوص مطلقاً؛ لأنّ المعارضة في واقع الحال تقع بين أخبار الخمسة وأخبار الستة والعشرة، ومن الواضح أنّ أخبار الخمسة نسبتها ـ بملاحظة مفهومها ـ إلى العشرة والستة نسبة الأعمّ، فتسقط دلالة المفهوم في الزائد، ويكون القدر الناتج هو العشرة حينئذٍ، فيكون مفهوم أخبار الخمسة مقيّداً بمنطوق أخبار الستة والعشرة، وهذا لا يوجب تضارب الأخبار حينئذٍ حتى يدّعى سقوطها عن الحجيّة نتيجة ذلك. هذا إذا لم يقل شخصٌ بأنّه في هذه الحال نأخذ بأخبار الخمسة كونها القدر المتيقّن ونترك الباقي.

إلا أنّ ذلك يمكن مناقشته بأن العبرة في باب الظهورات والجمع بين النصوص هو العرف العفوي، لا القواعد الأصولية، ففي المرحلة الأولى نرجع إلى ما يحمله العرف من انطباع عن الموقف، فإن لم نظفر بموقف خاص ناتج عن خصوصيات الموضوع وملابساته نرجع حينئذٍ إلى مقتضيات القواعد العامة، وهنا نرى أنّ العرف عندما يواجه مجموعات نصوص حاصرة بهذه الطريقة يحصل له، إما فقدان وثوق بصدورها أو فهمها وفقاً للحصر الإضافي أو ما شابه ذلك، أما أن يكون مراد المتكلّم هو القدر الجامع بين النصوص وتكون البقية غير مراده جداً له أو تقييد بيانه في التحديد في بعضها بمنطوق البعض الآخر، فهذا بعيد بنظر العرف وغير مستأنس به، لاسيما وأنّ الجملة التي دلّت على القاسم المشترك والزائد هي جملة واحدة تقع في بيان موضوع شيء لا في مقام ذكر حكم فحسب، مما يصعّب من إمكانية إجراء قواعد التخصيص والتقييد في المقام.

أما إذا لوحظ خصوص الأخبار المعتبرة، فلا نجد تعارضاً؛ إذ ليس بينها سوى خبر واحد صحيح السند، وأما قضية التردّد الموجود في مصادر هذا الخبر فهذا لا يسقط حجية الخبر في القاسم المشترك؛ لأنه يحتمل حصول سهو ومن ثمّ سقوط الفرد الأخير ـ وهو الزيت ـ من كتب الشيخ الطوسي، والاستبصار أخذه من التهذيب مما يبرّر تكرّر الخطأ مرتين عنده، كما يحتمل أنّ الصدوق زاد الزيت اشتباهاً أو إدراجاً أو خلطاً بين الروايات، وإن كان الاحتمال الأوّل هنا أقوى، بعد أن ناقشنا في محلّه في كبرى أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة، إلى جانب كثرة التصحيفات في كتب الطوسي الحديثيّة. وعلى أية حال، فهذه المناقشة في غير محلّها بشقها الثاني الذي هو الصحيح بعد الضعف الشديد في أسانيد سائر الروايات، بناءً على إمكان الاكتفاء بخبر واحد آحادي.

ثانياً: ما ذكره العلامة شمس الدين أيضاً وغيره، من أنّ الحكم في باب الاحتكار ليس تعبّدياً غيبياً، وإنما هو تشريع امتناني لتنظيم حياة المسلمين وما في صالحهم العام، ومن الواضح أنّ البلدان تختلف في أطعمتها الأساسية، ففي بعضها يكون الأرز وفي بعضها يكون التمر وفي بعضها لا يكونان بل تكون الحنطة وهكذا، ومعه فلا يعقل أن تحرّم الشريعة بعض الأشياء خاصّة حتى لو لم تكن في بلدٍ من البلدان طعاماً أساسياً، فيما تجيز الاحتكار في أشياء أخرى حتى لو كانت في بلدٍ طعاماً أساسياً كالأرز وهكذا.. وبهذا يفهم أنّ الحصر في هذه النصوص حصرٌ إضافي، مؤيداً ذلك بتعدّي بعض الفقهاء إلى مطلق الأطعمة أو بعضها مثل الملح مما لم يرد في هذه النصوص، فإنّ قولهم هذا لا يستقيم إلا مع فهم الحصر الإضافي من هذه النصوص([183]).

وهذا الفهم للنصوص بالحصر الإضافي إن قصد منه أنه قد طرح السائل سؤالاً على النبي$ أو الإمام× معدّداً بعض الأمور التي يريد أن يعرف حكم احتكارها فأجابه الإمام بالحصر بحيث كان الحصر مضافاً إلى خصوص أفراد بعينها طرحت في السؤال في طرف السكوت أو كانت مفروضةً في ذهن الطرفين: السائل والمجيب، فإنه يمكن تعقّل ذلك وفقاً لأساسيات المناقشة التي قدّمها شمس الدين، لكنّ النصوص المتقدّمة لا تحتوي في أغلبها حديثاً عن سؤال أو إشارة إلى هذا الأمر، بما في ذلك الخبر الوحيد المعتبر السند.

أما إذا قصد أنّ المعصوم قد أقدم ابتداءً على إفادة الحصر ناظراً إلى سائر أصناف المأكولات والمشروبات التي في المنطقة التي يعيش فيها، فإنّ الأمر يغدو مشكلاً ؛ إذ هذا الحصر لو كان إضافياً بهذا المعنى فهو غير معقول وفقاً للنتيجة التي يريدها العلامة شمس الدين، إذ كيف نفهم كون الزبيب أساسياً في تلك المجتمعات فيما اللبن ومشتقاته واللحوم وما يرتبط بها سواء بعد الذبح أو قبله ـ أي الأنعام ـ ليست كذلك؟ وهل يمكن تصوّر هذا الأمر في مثل عصر الإمام الباقر أو الصادق حيث كانت الحالة الإسلامية متقدّمة على الصعيد المعاشي، وليس كحال العصر النبوي وأمثاله؟ إلا إذا نفي احتمال إمكان الاحتكار في هذه الموارد في تلك العصور.

ولو أردنا أخذ مجموع النصوص المتقدّمة بعين الاعتبار، فكيف يمكن تفسير مثل العسل والجوز حينئذٍ؟ وهل كانت ممّا تقوم عليه حياة الناس في ذلك الوقت؟ لاسيما وأنّ هذا الحديث نبويّ أيضاً.

إنّ لسان هذه النصوص ـ لو لم نفترض وجود نقص فيها من خلال عدم وضوح سياقات الأسئلة الموجّهة ـ يصعب فهمه وفقاً لطريقة تفسير العلامة شمس الدين، إلا على الفرض الأوّل المتقدّم.

وحتى لو أخذنا بالافتراض الذي قدّمه الشيخ شمس الدين في موضعٍ آخر من أنّ وجه الحصر في هذه الأشياء هو اشتهار الحاجة إليها وأنها من أظهر المصاديق، إلى جانب أنّ الحصر إضافي بملاحظة أطعمة الترف كبعض المطعومات البحرية كالكافيار أو بعض أنواع الفاكهة النادرة ونحو ذلك([184]).. حتى لو أخذنا بهذا الافتراض تظلّ هناك مشكلة؛ إذ الأنواع التي ذكرناها آنفاً لا تعدّ من أطعمة الترف كما هو واضح، ولو كانت هذه الأفراد هي من أشهر المصاديق فقط وهناك غيرها فما هذه المصادفة أننا لم نجد في أيّ من هذه النصوص ذكر تعقيب «ونحو ذلك» و«وما كان من هذا القبيل» وغير ذلك مما يفيد، علماً أنّ الشروع في بعض هذه النصوص بقوله: إنّ الاحتكار في ستة أشياء أو عشرة تنافي دلالتُها فهمَ الإشارة إلى أبرز المصاديق.

ثالثاً: ما ذكره السيد الخوئي، من أنه لا يمكن العمل بالروايات الحاصرة؛ لضعف أسانيدها جميعاً، فنبقى مع الطوائف السابقة حينئذٍ([185]).

ونوقش بأنّ العبرة في حجية الخبر هو الوثوق لا الوثاقة، والوثوق يحصل من مجموع هذه الأخبار، فلا أثر لضعف سند كلّ واحد منها([186]).

ويمكن التعليق:

1 ـ إنّ هناك رواية صحيحة السند كما تقدّم، فلا يصحّ ما ذكره السيد الخوئي من ضعف أسانيدها جميعاً، ولعلّه لهذا أفتى فيما بعد باختصاص الحرمة بما ورد في رواية غياث بن إبراهيم المعتبرة السند([187])، حيث يبدو أنّه عدل عن موقفه من غياث نفسه كما تفيد أبحاثه الرجالية([188]).

2 ـ إن ادّعاء حصول الوثوق من هذه المجموعة القليلة من النصوص يبدو لي غير واضح، فلم يرد منها في الكتب الأربعة إلا خبر غياث بن إبراهيم، بل لم يرد في الكافي أيّ خبر منها على الإطلاق، ولم يرد نظيرها في كلّ مصادر حديث أهل السنّة، كما أنّ الأخيرين منها لا سند لهما أساساً، وفي الخبر الثاني يوجد رجل متهمٌ صريحاً بالكذب، إضافةً إلى الاختلاف الواقع بينها عدداً ونوعاً كما تقدّم، وقلّة عددها (5 روايات فقط) وعدم تعدّد أسانيدها ولا مصدرها بما يثري الوثوق بها حديثياً، ومخالفتها لظواهر الطائفة السابقة ولو مخالفة أوّلية، ومع هذا كيف يدّعى الاطمئنان بصدورها وحصول الوثوق بذلك، لاسيما وأنّ المدّعي أخذ فرض ضعف جميعها سنداً؟

من هنا، وحيث نبني على حجية الخبر المطمأنّ بصدوره لا يحصل لنا اطمئنان بصدور هذه الأخبار.

رابعاً: ما ذكره بعض المعاصرين من حكم العقل بقبح الاحتكار المفضي إلى الضيق والظلم وأذية الناس، وأحكام العقل لا تقبل التخصيص، بل هي مؤيدة بالنصوص الدينية هنا، ومفهوم هذه الروايات يناقض هذا الحكم العقلي فيطرح هذا المفهوم([189]).

إنّ هذا الكلام يتمّ لو أريد من النصوص الاحتكار الشامل لما هو المفضي إلى ذلك، وقد أسلفنا سابقاً أنّ الاحتكار قد أخذ فيه عنصر الحاجة فيكون الدليل الشرعي أيضاً ـ لاسيما مثل خبر الحلبي ـ مساعداً على ذلك، ومعه كيف تكون للناس حاجة ومع ذلك يجوز الاحتكار؟ اللهم إلا إذا لم يصدق عنوان الضرر والأذية والظلم؛ إذ مطلق الحاجة لا يوجب صرف الإنسان ماله للغير ولو بعوض.

هذا كلّه، بصرف النظر عن مدى التصديق بوجود حكم عقلي هنا غير قابل للتخصيص؛ إذ غايته أنه يرى اقتضاء القبح في الاحتكار لا كونه علّةً تامة. وتفصيلُه في المباحث الأصولية.

خامساً: ما ذكره الشيخ المنتظري)، من أنّ الأخبار الحاصرة يمكن حملها على أنّ أبا حنيفة ومالك ـ فقيهَي العراق والحجاز ـ ربما تكون فتواهما القاضية بحرمة احتكار كلّ ما يحتاج إليه الناس، مورداً لعمل الخلفاء وعمّالهم في البلاد الإسلامية في عصر الإمام جعفر الصادق، وكانوا على هذا الأساس يتعرّضون لأموال الناس باسم المنع من الاحتكار، مع عدم كون غير هذه الأشياء الخاصّة محلاً لحاجة الناس الشديدة، فأراد الإمام الصادق ردعهم عن ذلك ببيان أنّ عملهم على خلاف الموازين. كما يبدو أنّ لحن تعبير الروايات الحاصرة يشعر بأنه كان في تلك الأعصار من يصرّ على عموم الحكرة، ولهذا حكي قول النبي$ وقول الإمام علي× لإلزامهم، وهذا ما يصبّ في نهاية المطاف في جعل النصوص الحاصرة نصوصاً خارجية لا حقيقية([190]).

ويناقش بأمور، الأول: إنّ المنسوب في وسط أهل السنّة لأبي حنيفة نفسه هو ذهابه إلى الاختصاص بالطعام والقوت لا مطلق ما يحتاجه الناس، نعم المنسوب للأحناف من بعده ـ على مستوى بعضهم مثل أبي يوسف ـ أنهم يقولون بالاحتكار في كلّ ما يحتاجه الناس، فإحراز النسبة المدّعاة في كلام الشيخ المنتظري مشكل، وعصر أبي يوسف وسائر الأحناف كان بعد وفاة الإمام الصادق (148هـ ) الذي توفي قبل الإمام أبي حنيفة (150هـ ).

الثاني: إنّ هذه المحاولة تعاني من خلل في المعطيات التاريخية، فأبو حنيفة لم يكن فقهه سائداً أساساً في زمن الإمام الصادق على مستوى عمل الدولة به، وإنما بدأ يشتهر في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري على يدي تلميذيه: أبي يوسف والشيباني اللذين مدّا جسور التواصل، بل المعروف تاريخياً أنّ أبا حنيفة رفض تولّي القضاء في الدولة العباسية، وكانا يميل ـ سياسياً ـ إلى معارضة الدولة العباسية، كما تعرّض للسجن أيضاً من قبل هذه الدولة، فكيف يتصوّر أن تكون الدولة العباسية في عصره عاملةً بفتواه وكأنّ مذهبه كانت له مكانة ونفوذ في الوسط الحكومي آنذاك؟!

نعم، الإمام مالك كان موضع احترام العباسيين الذين عرضوا عليه جعل كتابه دستوراً للبلاد ولكنه رفض، ومع ذلك ليس هناك مؤشرات على نفوذ فتاويه في حياة الإمام الصادق؛ لأنّ الدولة العباسية في هذه الفترة كانت في بدايات نشوئها، ولم تبلغ مرحلة الاستقرار السياسي الذي يؤهّلها لمثل ذلك.

الثالث: لست أدري إذا كان الإمام الصادق× يرى أنّ الاحتكار مورده ما يحتاج إليه الناس، وكان يريد بيان أنّ ما يقدم عليه العمال غير صحيح، فلماذا يختار أسلوب الحصر في أشياء معيّنة بدل أن يبيّن الموقف بشكل واضح؟! ألم يكن بإمكانه أن يبيّن أنّ غير هذه ممّا لا يحتاجه الناس بدل أن يقدّم بياناً موهماً؟! علماً أنّ إثبات كون هذه الأشياء المنصوصة هي مورد حاجة الناس دون غيرها مشكل كما تقدّم.

الرابع: إنّ تعرّض الشيخ المنتظري للنصوص التي تمّ الاستشهاد فيها بقول النبي وعلي، معناه إدخاله النصوص غير الصحيحة السند بعين الاعتبار، وهذا يعني أنّ هناك نصوصاً نبوية وعلوية تستخدم نفس منهج البيان في نصّ الإمام الصادق، إضافة إلى أنّ الإمام الصادق نفسه في بعض الأخبار ـ ومنها خبر غياث بن إبراهيم ـ لا يتكلّم من نفسه، وإنما يقع هو بدوره في السند راوياً عن والده الإمام الباقر (114هـ) الذي توفي قبل ظهور الدولة العباسيّة، وعليه فكيف يفسّر الشيخ المنتظري صدور هذه النصوص أيضاً ما دام تفسيره لصدور نصوص الحصر أنّها كانت مراعاةً لواقع عباسي خاص؟ بل نحن لا نملك بين الأخبار أيّ رواية عن الإمام الصادق نفسه، فكلّها إما عن أبيه أو عمّن قبله بتوسّط نقله تارةً وبدونه أخرى، عدا خبر دعائم الإسلام الذي لا سند له، فكلّ محاولة الشيخ المنتظري لا تبدو واضحة.

سادساً: ما ذكره الشيخ المنتظري أيضاً، من أنّ المناسب للشريعة السهلة السمحة التي تشرّع لتمام العصور أن تطلق القوانين والكليات حتى تصلح للانطباق على كلّ عصر ومصر، فيما يتمّ تفويض الأمور الجزئية إلى الحكّام والولاة، ووفقاً لذلك لا يمكن أن تكون النصوص الحاصرة هنا ذات طابع إلهي، بل هي أحكام ولائية لعصر خاص ومكان خاص، وهذا تماماً كالاحتمال الوارد في الأصناف التسعة الزكوية.

ويشهد لكون ذلك حكماً ولائياً وأنّ التعيين الموردي في الاحتكار هو شأن الحاكم، هو أمر الإمام علي× مالك الأشتر بالنهي عن الحكرة ومعاقبة المتخلّفين، وكذا أمر الرسول$ بإخراج السلع إلى بطون الأسواق كما تقدّم، وعموم الأحكام الولائية زمانياً أمرٌ مقبول ما لم تقم قرينة، وهي موجودة هنا، وهي التأمل في ملاك الحكم ومقارنته بالأشياء الخاصّة الأمر الذي يفهم منه الاختصاص بعصر خاص في النصوص الحاصرة([191])، وبهذا يكون تعيين موارد الاحتكار من شؤون الحاكم.

وهذه المحاولة جيّدة على بعض المستويات، لكنّها بهذه الصيغة الإطلاقية لا تبدو مقنعة، وذلك:

أ ـ إنّ مفهوم الكلّية والجزئية في طبيعة الحكم مفهوم هلامي غير واضح، ويحتاج إلى تعيين، فكيف صارت المدّة الزمنية للعدّة في الطلاق والوفاة قانوناً كلياً ولم تكن الأصناف الستة هنا كذلك بحيث يقال بأنّه يحرم احتكارها مطلقاً أمّا غيرها فيجوز إلا مع طروّ عنوان ثانوي والذي منه تدخّل الحاكم فيما يراه من مصالح لاسيما بناءً على الولاية العامّة للفقيه؟ وكيف صارت كلّ تفاصيل أحكام الطهارة والديات والقصاص وغيرها قوانين كلّية ثابتة دون غيرها؟ وما هو المعيار في التحديد؟

هذا يعني أنه لابدّ من وضع معيار اجتهادي مبرهن عليه في عملية التمييز هذه، وإلا خرجنا من الضوابط ودخلنا في الاستنسابات.

ب ـ إنّ مجرّد أمر الإمام علي لمالك الأشتر أو أمر الرسول بإخراج السلع لا يعني الولائية، وكأنه تمّ تصوّر أنّ الحاكم بوصفه حاكماً لا يصدر منه تطبيق صرف لحكم إلهي ثابت، وإنما ممارساته لابد وأن تفهم على أنها ولائية، فلو منع رسول الله$ من بيع الخمر فهل يجعل ذلك حكماً ولائياً في مورد بيعها؟ وهكذا .. وقد أسلفنا الحديث عن العهد العلوي لمالك الأشتر من هذه الزاوية فلا نعيد.

سابعاً: ما ذكره بعض الفقهاء، من أنّ صحيحة الحلبي المتقدّمة: «يكره أن يترك الناس ليس لهم طعام»، قد وردت في سياق الإشارة إلى كبرى أو قاعدة مركوزة ومستكنّة، وفي هذه الحال يمكن جمع هذه الرواية بالخصوص مع النصوص الحاصرة، وذلك بجعل تلك النصوص مشيرةً إلى مصاديق بارزة فقط. بل يمكن القول بأنّ كل ما يكون مقوّماً للطعام أيضاً يفهم من النصوص حرمة احتكاره، وذلك أنّ الزيت والسمت الواردين في النصوص الحاصرة ليسا من الطعام، بل من مقوّماته، فلا يبعد أنّ مثل النفط ومشتقاته والغاز يحرم احتكارها من باب كونها من مقوّمات الطعام أيضاً، بسبب الحاجة إلى النار في تهيئة الطعام([192]).

والأخذ بصحيحة الحلبي جيد، ومضمونها يصدق حتى من دون احتكار النصوص، كما لو لم تكن الموارد المنصوصة في النصوص الحاصرة متوفرة أساساً في البلد، فقام التاجر باحتكار طعامٍ آخر فيه، فإنّ مضمون الصحيحة يصدق حينئذٍ. نعم لا يصحّ الاستناد إلى النصوص الحاصرة التي ورد فيها الزيت والسمن لجعل ذلك دليلاً على حرمة احتكار مقوّمات الطعام، مثل ما يلزم لطبخه ونحو ذلك لتسهيل أكله؛ لأنّ المفروض أنّ النصوص الحاصرة لا تبيّن خصوصية الطعام، بل تحصر في أشياء بعينها، نعم بعد تحصيل الجمع بين النصوص الحاصرة وصحيح الحلبي يمكن إضافة هذا الأمر.

إلا أنّ هذا كلّه مرتبط بدلالة صحيح الحلبي على تحريم الاحتكار حتى لبعض الأطعمة دون بعض من غير المنصوصات، ففي هذه الحال لا تصدق الكبرى المشار إليها؛ لفرض أنه لم يترك الناس ليس لهم طعام، كما هو واضح.

وعليه، فالصحيح في مناقشة النصوص الحاصرة أنّ العبرة بحصول الاطمئنان بصدور الخبر كما حقّقناه في الأصول، ولا يحصل لنا اطمئنان بذلك من مجرّد هذه الروايات كما قلنا سابقاً وبينّا سببه، مضافاً إلى تأييد ذلك بجملة هذه المناقشات المتقدمة. وإذا أصرّ شخص على الأخذ بخبر غياث بن إبراهيم كونه الخبر الصحيح السند فيلتزم بحرمة احتكار هذه المنصوصة مطلقاً، أما في غيرها من الأطعمة فيرجع إلى الأدلّة السابقة من حرمة الضرر والظلم وغير ذلك عند تحقّق مفادها في هذا المورد أو ذاك، حتى لو لم يقم الحاكم بإصدار منع فضلاً عما لو أصدره.

وأما غير الطعام، فلا يستفاد من النصوص حرمة احتكاره؛ لأننا رفضنا وجود إطلاق في النصوص التي لا يوجد فيها قيد الطعام، خلافاً لما فهمه مثل الشوكاني([193])، ومعه فيلتزم بجواز الاحتكار فيها بملاحظة النصوص، وبحرمة الاحتكار بملاحظة سائر الأدلّة عند تحقّق موضوعها وموردها، بعد فرض استبعاد أنّ نصوص الحصر تفيد جواز الاحتكار في غير المنصوص حتى لو لزم من ذلك الإضرار بالمسلم.

 

الاحتكار بين الأعيان والأعمال والمنافع

يفهم مما أسلفناه ويظهر من كلمات الفقهاء أنّ الاحتكار حتى لو عمّمنا مورده، يطال الأعيان سواء المنصوصة أم مطلق الطعام أم مطلق الأشياء، ولا يلاحظ في كلمات الفقه الإسلامي وجود حديث عن احتكار المنافع والأعمال والخدمات، مع أنّ ذلك موجود، وقد طرح هذا الموضوع ابن القيم الجوزية ونسب إلى بعض الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه المنع عن اشتراك القسّامين الذي يقسمون العقارات ويفرزونها أن يشتركوا؛ لأنهم إذا اشتركوا رفعوا السعر على الناس مع حاجة الناس إليهم، وكذلك الحال في الحمّالين ومغسّلي الموتى([194]).

وفي هذه الحال تارةً يكون مرجعنا هو القواعد مثل نفي الضرر والأذى عن الناس فيلتزم بالتحريم هنا بمقدار تحقّق الموضوع، وإن لم يسمّ احتكاراً، وأخرى يكون المرجع هو النصوص الخاصّة، وهنا نرى أنه من الصعب الأخذ بها؛ لأنه ـ كما قلنا ـ ليس فيها إطلاق لهذه الحال، إلا إذا فهم الملاك منها كما تقدّم، وأنه في كلّ ما يحتاجه الناس فيكون شاملاً.

من هنا، فاحتكار منافع البيوت والمساكن والمحالّ ولو بنحو الاشتراك بين مجموعة التجار والأغنياء، بهدف رفع الإيجار على الناس، وكذا احتكار سائر المنافع والخدمات من قبل العمّال أو سائقي التاكسي أو غير ذلك تطبّق عليه القواعد المذكورة.

 

6 ـ الاحتكار بين الفقه الإسلامي وتصوّرات النظام الرأسمالي (الحكرة: نظام السوق  والحقوق الحصريّة)

يمكن أن يطلق الاحتكار في الاصطلاح الجديد على قصر إنتاج سلعةٍ ما على شركةٍ أو مؤسّسة خاصة أو متعدّدة، وفي هذه الحال ـ أي حقوق حصر الإنتاج أو التوزيع أو التسويق أو غير ذلك ـ هل يمكن اعتبار هذا المعنى للاحتكار، وهو معنى متداول اليوم في الاستخدام القانوني، مشمولاً لأدلّة حرمة الاحتكار أم أنه لا علاقة له به؟

إنّ هذا المدلول الجديد للاحتكار (monopoly) وهو المدلول السائد في النظام الرأسمالي يحتاج إلى دراسة مركزّة؛ لأنّ الخلط المصطلحي والمفاهيمي أوجب تداخلاً كبيراً هنا، فهل الاحتكار الذي منعت عنه الشريعة الإسلامية يستوعب هذا المعنى للاحتكار أم أنه لا علاقة له به ولا يرتبط به أساساً؟

ولم نجد معالجةً جادّة لهذا الموضوع، ولو على مستوى العرض والتحليل والمقارنة في كلمات اللفقهاء حتى في القرن الأخير إلا قليلاً هنا أو هناك، مع أنّ الموضوع يحتاج إلى متابعة.

ولكي تنجلي الصورة، نقوم في البداية بشرح طبيعة المفهوم في النظام الرأسمالي الحديث، ثم نقوم بإجراء مقارنة لمعرفة هل هناك حكم واحد للحالين أم لا؟

 

أ ـ مفهوم الاحتكار في النظام الرأسمالي

لفهم سوق الاحتكار في النظام الرأسمالي، لابدّ من فهم نقيضه، وهو سوق المنافسة الحرّة التامّة، وهي سوق تتوفر على الخصائص التالية:

1 ـ كثرة البائعين والمشترين، فهذه الكثرة تحول دون تأثير أحد البائعين أو المشترين بمواقفه أو قراراته أو دخوله أو خروجه، على القيم والأسعار، كما تصيّر الشركات ذات أحجام صغيرة.

2 ـ حرية دخول السوق والخروج منه وعدم وجود اتفاق بين أطرافه، الأمر الذي يحول دون إمساك جهة ما بمفاصل الإنتاج والتوزيع.

3 ـ التجانس بين السلع المنتجة، بمعنى أنّ المستهلك يرى السلع المعروضة التي تشكّل بدائل وافيةً بأن تحلّ محلّ بعضها وإلا كانت كلّ سلعة لوحدها.

4 ـ معرفة البائع والمشتري بظروف السوق وأسعاره وغير ذلك.

وتحقق هذه الشروط والخصائص قليلٌ في الواقع العملي، لكنه يشكّل المثال /الأنموذج الذي يتجه النظام الرأسمالي ـ نظرياً ـ لتبنّيه، حيث يرى أنه كفيل بتحقيق التوازن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

وتتعدّد أشكال الاحتكار في النظام الرأسمالي، ويمكن اختصارها على الشكل التالي:

1 ـ الاحتكار التام

ويسمّى بالاحتكار الكامل أو الخالص أو البحت، ويراد منه سوق معيّنة تنعدم فيها المنافسة وتتوفر فيها الشروط التالية:

أ ـ أن يكون هناك منتج واحد للسلعة أو مؤسّسة واحدة تكون هي المسؤولة عن الإنتاج أو عن خدمة معينة، وتكون هذه السلعة أو السلع هي الصناعة الكاملة في هذا البلد.

ب ـ أن لا يكون هناك بديل تام لهذه السلعة أو الخدمة المنتَجَة.

ج ـ أن تكون هناك عوائق جادّة تحول دون دخول مؤسّسات جديدة إلى هذه السوق، وذلك مثل العوائق القانونية التي تشكّل ـ مثلاً ـ امتيازات حكومية، أو العوائق الاقتصادية كسيطرة المؤسّسة المحتكرة على الموادّ الخام الرئيسة التي يحتاجها إنتاج هذه السلعة.

د ـ أن يكون المستهلكون لهذه السلعة متوفّرون بأعداد كبيرة، مما يعني أنه لا يتمكّن مستهلك واحد أن يؤثر على قيمة تلك السلعة في السوق.

هـ ـ وصول المحتكر إلى أقصى ربح ممكن عبر تحكّمه بالكميات المعروضة من السلعة.

هذا النوع من الاحتكار يعدّه الاقتصاديون صعب التحقّق، وإن كان متصوّراً نظرياً، فهو على النقيض تماماً من سوق المنافسة الحرّة؛ لأنّ الشروط المذكورة له ـ لاسيما عدم وجود بدائل للسلعة ـ تغدو بعيدة التحقيق في الحياة العامة، إلا في حالات نادرة.

2 ـ المنافسة الاحتكارية

وهي سوق تختلف شروطها عن السوق الأولى، وتقوم على:

أ ـ وجود عدد كبير من المؤسّسات المنتجة وكل واحدة منها لها سلوكها المستقلّ عن نشاط الثانية، إلا أنّ عددها لا يصل إلى عدد الشركات والمؤسّسات التي يعرفها سوق المنافسة التامّة.

ب ـ أن تكون القوّة الاحتكارية لكلّ مؤسسة منها ضعيفة، والسبب في ذلك هو عدم وجود تجانس بين المنتوجات، بل يكون هناك اختلاف ولو بسيط بينها، إلا أنّ السلع تعدّ بدائل قريبة من بعضها، وهذا ما يفرض على كلّ مؤسسة أن تأخذ في تسعيرها لبضائعها اهتمام الزبائن بالبديل الخاص الذي تنتجه، كما يفرض عليها تقديم أسعار تكون في الغالب قريبةً من أسعار منتوجات الشركات المنافسة لها.

ج ـ تتوفر في هذه السوق حرية الدخول إلى المجال الصناعي ورفع العوائق دون ذلك، وهذا هو الذي يعطي هذه السوق صفة التنافس التي يتّسم بها.

3 ـ احتكار القلّة (oligopoly)

وهي سوق تمثل أضيق أنواع المنافسة الاحتكارية، ويكون عدد المنتجين فيها قليلاً، مما يفرض تأثير كل مؤسّسة في مواقفها على سائر المؤسّسات، فلو خفضت واحدة منها سعر منتوجاتها فرض ذلك على سائر المؤسّسات والشركات تخفيض السعر دون العكس.

وتختلف الحال مع السلع المنتجة في هذه السوق، فقد تكون متجانسة بشكل تام وقد تكون مختلفة لكنها تمثل بدائل لبعضها، والذي يحصل أحياناً أن تتفق هذه المؤسّسات والشركات فيما بينها فتكوّن «كارتل» اقتصادي للتنسيق وتوحيد الرأي، الأمر الذي يقارب هذه السوق من الاحتكار التام. ومثال ذلك على صعيد الاقتصاد العالمي منظمة «أوبك».

إلا أن ّ وجود اختلاف بين المنتجين في حجم الكمّيات المعروضة والأسعار وحصص الإنتاج وغير ذلك يفضي إلى تضعضع هذا الكارتل الاقتصادي، كما حصل تماماً مع منظمة أوبك.

يشار إلى أنّ أسواق المنافسة الاحتكارية واحتكار القلّة تمثل العديد من الأسواق الحالية في العالم، مثل صناعة السيارات والسجائر وشبكات البث المرئي، والمطاعم، والصناعة، والخدمات المصرفية.

4 ـ الاحتكار البسيط

وهو السوق التي ينفرد فيها المنتج أو العارض بسلعته التي يكون لها بديل قريب، لكنّ المعارضة والمنافسة لا تكون شديدة.

هذه هي أشكال الاحتكار في السوق الرأسمالي، وهي تعبّر عن أنماط متعدّدة من السوق، ويطلق الاقتصاد الوضعي عنوان الاحتكار على هذه السوق نظراً إلى:

قيمة السلع فيه تكون أعلى منها في سوق المنافسة التامّة.

كميات السلع المعروضة والمنتجة تكون أقلّ في العادة مما لو توافرت شركات كثيرة.

3 ـ توفر إمكانية سوء الاستغلال الاقتصادي، انطلاقاً مما تقدّم، الأمر الذي لا يوفر لنا الأنموذج المنشود للرفاه الاقتصادي.

تراجع مستوى الإبداع والتجديد في الإنتاج وفنونه؛ لأنّ المؤسّسة أو الشركة تجد نفسها قد توفرت على أرباح طائلة من خلال طبيعة هذه السوق، وحيث إنه لا يوجد لها منافس خطر فإنها لا تسعى لتطوير الإنتاج وتحسين الجودة.

لكن مع هذا كلّه، ثمّة نوع من الاحتكار ينظر إليه بنظرة إيجابية في تحسينه للكفاءة الاقتصادية، لهذا يتم تشجيع الاحتكار في بعض الحالات، ويطلقون على هذا النوع من الاحتكار عنوان «الاحتكار الطبيعي» أو natural monopoly، ويتميّز بانخفاض تكلفة الإنتاج عندما يتم إسناد الإنتاج إلى مؤسّسة واحدة ويمثلون لذلك بشركات الكهرباء.

وإلى جانب ذلك، هناك في ثقافة النظام الرأسمالي فكرة الحقوق الحصريّة التي تستوعب بعض ما تقدّم إلى جانب حقوق الابتكار والنشر والتوزيع والاختراع وغير ذلك.

 

ب ـ مفهوم الاحتكار في النظام الإسلامي

تبيّن مما سبق من أبحاث أنّ الاحتكار في التصوّر الفقهي الإسلامي هو حبس الطعام أو مطلق ما يحتاج إليه الناس يتربّص به الغلاء، وأنّ الامتناع عن البيع مع عدم توفر السلعة في السوق عند أطراف آخرين يعدّ جريمة في الإسلام.

وقد شرط الفقه الإسلامي ـ على مستوى بعض مدارسه ـ مدداً زمنية في الاحتكار، وسبقه بالشراء لا الحصول على السلعة التي يمتنع عن بيعها بغير طريق الشراء.. وغير ذلك من القيود التي تعرّضنا لها وناقشنا في كثير منها.

 

ج ـ مقارنة بين الاحتكار بمفهومه الوضعي والإسلامي

إنّ المقارنة بين مفهومي الاحتكار في الاقتصاد الوضعي والفقه الإسلامي تعطي نتيجة واضحة عن وجود اختلاف جوهري بينهما، وأنّ الخلط الذي وقع فيه بعض المشتغلين في الفقه الإسلامي لم يكن صحيحاً إطلاقاً. ويتضح التغاير المدّعى هنا عبر النقاط التالية:

أولاً: إنّ الاحتكار في التشريع الإسلامي يعني حبس السلع والحيلولة دون وصول الناس إليها، فيما في الاقتصاد الوضعي لا يستبطن الاحتكار أيّ عنصر من عناصر حبس السلع، وإنما هو تركيبة أو هيكلية معيّنة للسوق تسمح لشركة واحدة أو متعامل واحد فيه بإنتاج سلعة أو خدمة ما وحمايته من منافسة الآخرين له، فالاحتكار عند القانونيين إنما يجعل إنتاج السلع أو توزيعها وعرضها بيد جهة خاصّة لا تمتنع عن الإنتاج بل تتفرّد به مع التصدّي التام له، وإنما جعل ذلك احتكاراً من باب وجود القدرة على التحكّم في الإنتاج تارةً والقيم أخرى، فيما لا يعبّر الاحتكار في الفقه الإسلامي عن مطلق القدرة التحكّمية في السوق، بل عن التحكّم به عن طريق المنع عن تداول السلعة فيه خاصّة.

ثانياً: إنّ الاحتكار في الاقتصاد الوضعي إنما يواجه مشكلة التحكّم في الأسعار بوصفه غرضاً نهائياً للشركات الاحتكارية، وهذا معناه أنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي مرتبطٌ فقهياً بمسألة التسعير وحجم الربح، وليس مرتبطاً بالاحتكار بمفهومه الإسلامي، والمعروف في الفقه الإسلامي أنه لا يوجد تسعير إلا في إطار العناوين الثانوية وتدخّل الدولة بما تراه من مصالح زمنية تضبط الأسعار، فمن يقول بجواز أن يسعّر المالك سلعته ويربح دون ضابط للربح لا يرى الاحتكار الوضعي حراماً من هذه الزاوية.

وهذا يعني أن دراسة الاحتكار بمفهومه الوضعي يجب أن لا ترتبط فقط بمفهومه في الفقه الإسلامي، وإنما بمجموعة مفاهيم أخرى كحجم الربح والتسعير وغير ذلك، فإذا استدلّ الفقيه على حرمة الاحتكار بقانون تحريم الضرر فلا يمكن أن يحكم من خلاله بحرمة الاحتكار بمفهومه الوضعي، لاسيما في نوع المنافسة الاحتكارية؛ لأنه من الصعب إثبات الضرر في هذه الحال، وكذلك الحال في دليل الحقّ العام حيث يصعب على الفقيه أن يمنع عن سوق المنافسة الحرّة أو احتكار القلّة مثلاً بدليل الحقّ العام، هذا فضلاً عمّا إذا جعلنا النصوص الخاصّة هي المرجع في الاستدلال الفقهي، فإنّها غير مرتبطة أساساً بهذا الموضوع كما صار واضحاً.

ثالثاً: إنّ متعلّق الاحتكار في الفقه الإسلامي هو بعض الأطعمة أو مطلق الطعام والقوت أو مطلق ما يحتاجه الناس من أساسيات الاستهلاك على أبعد تقدير، في حين نحن نجد أنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي لا يقف عند هذا الحدّ، فقد يطال السلع الكمالية أيضاً، إذاً فهناك اختلاف في دائرة الموادّ المحتكرة بين المفهومين الوضعي والإسلامي.

رابعاً: إنّ غير نظرية من نظريات الفقه الإسلامي تقدّم الاقتصاد الإسلامي احتكارياً بالمفهوم الوضعي، حيث تذهب إلى جعل الأراضي بأجمعها أو الصناعات الكبرى أو المعادن العظيمة كالنفط تحت تصرّف الدولة مباشرةً، وقد طرح أمثال السيد محمد باقر الصدر اتجاهاً قريباً من هذا في أطروحة (اقتصادنا) التي قدّمها، ومن ثم لا يصحّ القول بأنّ الفقه الإسلامي يحرّم الاحتكار بمفهومه الوضعي مطلقاً، بل قد نجده ميّالاً لبعض أشكاله على بعض النظريات.

خامساً: قد أشرنا سابقاً إلى أنّ هناك أشكالاً من الاحتكار بمفهومه الوضعي تعدّ مطلوبةً ومفيدةً للاقتصاد، ومن الواضح في هذه الحال أنه لا يصحّ القول على إطلاقه بأنّ الاحتكار بهذا المعنى حرام في الإسلام.

هذا كلّه، مع غض النظر عن بعض الشروط الأخرى التي أخذتها بعض المدارس الفقهية في الاحتكار ولم نوافق عليها، وعلى تقدير أخذها تزداد الهوّة بين مفهوم الاحتكار الإسلامي والوضعي، مثل سبق الشراء أو المدّة الزمنية المعينة في حبس السلع أو غير ذلك.

ونتيجة القول: إنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي لا يمكن أخذ أحكامه من الاحتكار بمفهومه الإسلامي، وإنما من مجمل النظرية الاقتصادية العامّة المتصلة بمجمل عناصر السوق ونحو ذلك.

وتجدر الإشارة أخيراً إلى أنّ ابن القيم قد طرح كلاماً حول ما سمّي في الفقه السنّي باحتكار الصنف، وفسّره بأن يحتكر بيعَ سلعةٍ ما أشخاصٌ معروفون معينون، لا تُباع إلا لهم من قبل المنتجين ولا يبيعها في السوق غيرهم، ومن ثم فإنّ لهم بيعها كما يريدون، وقد اعتبر ابن القيم هذا النوع من الاحتكار بغياً في الأرض وفساداً، نافياً التردّد في ذلك عند أحدٍ من العلماء([195]).

وهذا الموقف يقترب من مسألة الاحتكار بمفهومه الوضعي، إلا أنّ إطلاق اعتباره بغياً في الأرض غير واضح؛ وذلك أنّ الاحتكار بمفهومه الوضعي لا يلازم منع أحد عن التدخل في المنافسة، لكنه يجعل السوق بحيث لا يقوم طرف ثالث مثلاً بالمنافسة، فالاحتكار وصف لحال السوق في مفهومه الوضعي، وقد ترافقه في بعض الأحيان ـ كما أشرنا من قبل ـ بعض الامتيازات القانونية التي تمنحها الدولة لهذه الشركة أو تلك، نعم الحقوق الحصرية بالمعنى المعاصر يطابق ما يريده ابن القيم.

كما أنّ جعله مفسداً مطلقاً غير واضحٍ بدوره، فإنّ المسألة تحتاج لرصد لحال السوق لتحديد الحالات، وقد أشرنا إلى أنّ بعض حالات الاحتكار بمفهومه الوضعي أمرٌ مطلوب ومنشود ويجرّ منافع على الاقتصاد عموماً، وبعض حالاته الاخرى قد يكون ضاراً فيجب تتبّع ذلك من قبل خبراء الاقتصاد أنفسهم.

 

7 ـ مواجهة الاحتكار، سلطة الردع والإجبار

النقطة الأخيره في فقه الاحتكار هي السبيل القانونية التي وضعت في التشريع الإسلامي لمواجهة ظاهرة الاحتكار، حيث لابدّ من معرفة هل هناك سلطة رادعة تستطع القيام بخطوات لمنع وقوع الاحتكار في المجتمع والاقتصاد أم لا؟

والبحث حول هذا الموضوع يقع ضمن نقاط عدّة، أهمها:

 

1 ـ 7 ـ إجبار المحتكر على البيع

ذهب الكثير من الفقهاء المسلمين إلى أنّ الدولة الشرعية والحاكم الشرعي يمنعان المحتكر من الاحتكار ويجبرانه على البيع([196])، وقد ادّعي عليه أو نقل فيه الإجماع([197]). ويبدو أنّ ذكرهم البيع كان من باب كونه أشهر وسائل المعاوضة، وإلا فإنّ العبرة بعرضه في السوق ووصوله إلى يد المستهلك ولو بعوض، فضلاً عما إذا كان من دونه، فيدخل الصلح أو القرض أو الهبة المعوّضة وغيرها ونحو ذلك كما أشار إلى هذا الأمر بعضهم([198]).

ويبدو من بعض تعابير الفقهاء أنّ السلطان ملزم بإجباره على البيع، لا أنّ له الحقّ في ذلك فحسب([199])، وربما يكون مراد من عبّر بأنه يجبَر أو يُكره هو ذلك لا بيان الجواز كما احتمله بعضهم([200]).

وقد ذكر هنا أنّ فقه الجمهور غير متفق على مسألة الإجبار، بل لديه تفصيل في ذلك، من حيث إنه إذا خيف الضرر على الناس أجبر المحتكر على البيع، بل أخذ منه وبيع، وأنّ هذا متفقٌ عليه بين فقهاء أهل السنّة، أما إذا لم يكن هناك مثل هذا الخوف فقد ذهبت المالكية والشافعية والحنابلة والشيباني من الأحناف إلى أنّ للحاكم الشرعي إجباره، فيما خالف في ذلك أبو حنيفة ـ على رواية ـ وأبو يوسف، فذهبا إلى أنه لا يجبر على البيع، وأنّ غاية ما في الأمر أن يثبت في حقّه التعزير والعقوبة([201])، إلا أنّ الملاحظ وجود خلافات داخل فقهاء المذاهب وأنّ هذا التقسيم ليس على إطلاقه.

وعلى أية حال، فمن الواضح ـ كما ذكر العلامة شمس الدين([202]) ـ أن الإجبار لا يكون بمجرّد الاحتكار، وإنما طبيعة الأمر تستدعي أن يوجّه إليه الحاكم أمراً بالبيع وينذره فإن لم ينفع ألزم بالبيع، والمرجع في هذا الأمر واضح، وعبارة الحلبي في الكافي دالّة على ذلك([203])؛ إذ الحكم تابعٌ للغرض هنا وليس أمراً تعبدياً، فلا موجب للانتقال إلى إكراه المحتكرين إذا كان في توجيه الخطاب إليهم كفاية، وما أعطى الحاكم صلاحية الإكراه يؤخذ فيه بالقدر المتيقن حينئذٍ.

وعلى أية حال، فمن اللازم رصد الأدلّة التي تعطي للدولة الحقّ في إجبار المحتكر على البيع، ويمكن عرضها كما يلي:

الدليل الأول: الرجوع إلى أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أساس أنّ المحتكر قد ارتكب حراماً بفعله هذا، فيجبر ـ من باب النهي عن المنكر ـ أن يقلع عن هذا الحرام، ويكون ذلك بتدخّل الحاكم([204]).

ومن الواضح أنّ هذا الدليل إنما يمكن التمسّك به بناءً على القول بحرمة الاحتكار، أما الفقهاء الذين يذهبون إلى الكراهة فلا يمكنهم أخذ هذا الدليل هنا مستنداً.

يضاف إلى ذلك أنّ هذا الدليل لا يقف عند حدود الحاكم أو الدولة الشرعية، بل يتعدّى إلى كل مسلم مخاطب بنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسائر المسلمين يمكنهم إجبار المحتكر أيضاً ما لم يستدع ذلك عنواناً طارئاً يحول دونه، كأن يكون نهيهم فيه تصرّفٌ في جسد المنهي أو ماله وشَرَطْنَا تصدّي الحاكم لمثل هذه المرتبة أو إذنه على الأقلّ. كما أنّ هذا الدليل يثبت وحوب الإجبار لا جوازه فحسب، وذلك عند من اجتمعت في حقّه شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إلا أنّ المشكلة الوحيدة التي تواجه هذا الدليل هي أننا منعنا في مباحثنا في الأمر بالمعروف دلالة أدلّة هذه الفريضة على استخدام أسلوب القهر أو الضرب أو نحو ذلك([205])، فإذا جامع الإجبار هنا غير هذه الأساليب والتي منها التصرّف في مال الشخص المنهي عن المنكر كان هذا الدليل جيداً وإلا فلا، فلا يكون دليل الأمر والنهي مثبتاً للجواز مطلقاً هنا.

الدليل الثاني: الاستناد إلى أدلّة صلاحيات الدولة في التدخّل لما فيه الصالح العام والحيلولة دون لحوق الضرر أو سلب الحقوق أو نحو ذلك على المواطنين عندها، وهذا معناه أنه إذا أعطينا الحاكم ولاية الأمور العامة فمن الطبيعي أن تمتدّ ولايته لمثل شؤون الاحتكار، لاسيما مع تفشّيه وإلحاقه الضرر العام، فإنّ هذا هو القدر المتيقن من ولايته([206]).

وهذا الدليل خاصّ بمن تثبت له الولاية وصلاحيات عمل الدولة، ولا يتعدّى إلى عامّة المسلمين كما هو واضح. يضاف إليه أنه يمكن تصوّر هذا الدليل حتى لو قلنا بكراهة الاحتكار، فإنّه ما دام للدولة صلاحية التدخّل في الأمور العامة وكانت هذه منها ورأت صلاحاً في ذلك أمكنها حتى لو كان المورد غير إلزامي من الناحية الشرعية بناءً على الولاية العامّة للفقيه، وقد سبق أن تحدّثنا عن هذا الأمر لدى استعراض أدلّة تحريم الاحتكار.

ولا يفيد هذا الدليل إلا إعطاء الحقّ للدولة في منع المحتكرين، دون إلزامها بذلك ما لم يصل الأمر إلى حدّ الضرر أو الإخلال العام الذي يفرض عليها التدخّل لحماية مصالح مواطنيها.

وهذا الدليل من وجهة نظرنا جيّد، لكنه تابع للنظرية السياسية التي يختارها الفقيه؛ لأنّ هذه النظرية تحدّد سعة وضيق ومساحة نشاط الدولة في الموضوع الذي نحن فيه، وهو بحث آخر يعالج في محلّه، حيث قد يثبت هناك أيضاً أنّ الدولة غير الشرعية قد يكون لها الإلزام أيضاً ـ بعد التخطّي عن شرعيتها في ذاتها ـ على كلام طويل هناك.

الدليل الثالث: النصوص الدينية الخاصّة، وهذه النصوص في قضية الإجبار محدودة، وهي كما يلي:

1ـ خبر غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصادق×، عن أبيه: «أنه$ مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله$: لو قوّمت عليهم، فغضب رسول الله$ حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوّم عليهم؟! إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء»([207]). فهذا الخبر يكشف عن الفعل النبوي في إجبار المحتكرين على عرض سلعهم في السوق.

وقد يناقش في الاعتماد على هذه الرواية من جهات:

أولاً: بما ذكرناه سابقاً، من ضعفها السندي بطريقي الطوسي والصدوق معاً، فلا نعيد.

ثانياً: إنّ هذه الرواية غاية ما تدلّ عليه فعلٌ نبوي، والفعل دليلٌ صامت مجمل، فلعلّ هناك حالةً استثنائية أو عنواناً زمنياً فرض ذلك، مما لا يسمح لنا بالخروج بحكم شرعي إلهي عام.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأنّ الرواية ولو كانت مجملةً لكنها على أيّة حال تثبت أنّ الإجبار مشروع من طرف وليّ الأمر، والفعل النبوي ليس عبثياً ولا صادراً عن تشهي فاعله، فلابد أن يفرض تعبيراً عن حكم شرعي إلهي يسمح للحاكم بالإجبار على البيع([208]).

إلا أنّ هذا الجواب لا ينفع؛ لأنّ الفقهاء والأصوليين عندما يتحدّثون عن الصمت في الأفعال لا يمنعون عن إثبات الجواز في الجملة من خلالها ولو بعنوان ثانوي، لكن ما يقولونه هو أنّه حيث لا نعرف مبرّرات الفعل ولا يحكي الفعل في حدّ ذاته عن حدوده ومنطلقاته ومساحته، لهذا نصفه بالصمت والإجمال، والأمر هنا كذلك فإنّ أصل إفادة هذا الفعل لوجود حقٍ ما للحاكم في ظروفٍ ما أن يمنع عن الاحتكار ثابتٌ، لكنّ هذا لا يسمح للحاكم الآن بالإجبار إلا في نفس الحدود المفروضة المتيقّنة، مع أننا لا نعرفها، وهذا هو الإجمال. فلكي يتمّ الجواب هنا لابدّ من فرض قدر متيقّن ليكون الاستدلال بالفعل النبويّ المذكور جيداً، فمن تصوّره في المقام أمكنه الأخذ به.

ثالثاً: إنّ هذا الفعل النبوي قد يكون حكومياً ولايتياً ومن ثم يفقد بُعده الإلهي الثابت.

وأجيب أيضاً بأن الوظيفة الأساسية للنبي$ هي تبليغ الأحكام الإلهية بالقول والفعل والتقرير، والحكومية والزمنية حالة طارئة تحتاج إلى شاهد ودليل وهو مفقود هنا، بل حتى لو كان المورد حكومياً فإنّ هذا لا ينافي مرجعيّته وصيرورته مشمولاً لأدلّة حجية السنّة الشريفة ما لم تثبت زمنيته، ولا دليل عليها هنا([209]).

وقد أجبنا سابقاً عن هذا النمط من فهم الحكم الولايتي فلا نعيد، ونضيف هنا بأنّ الحديث عن أنّ الأصل في النبي هو تبليغ الأحكام الإلهية الثابتة سبق أن ناقشناه في أبحاثنا الأصولية في حجية السنّة([210]). وأنه مصادرة لا دليل عليها، ويزداد حالها وضوحاً هنا فإنّ المجيب يجعل الأصل في الفعل النبوي أيضاً ـ وليس فقط القول ـ هو التبليغ، وهذا ما يصعب جداً إثباته، لاسيما مع نبيّ مارس السلطة وقضايا السلم والحرب وأقام مجتمعاً رجع في كلّ شؤونه إليه، فمن أين نعرف أنّ الأصل في أيّ فعلٍ يفعله هو أنه يريد أن يبلّغ حكماً شرعياً إلهياً بالمعنى الذي طرحه المجيب؟! وبهذا كله يظهر أنّ الاستناد إلى هذا الخبر غير جيّد.

2 ـ خبر حذيفة بن منصور (أو عبد الله بن منصور)، عن أبي عبد الله، قال: «نفد الطعام على عهد رسول الله$، فأتاه المسلمون، فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره يبيعه الناس، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت، ولا تحبسه»([211]). فإنّ هذا الحديث يدلّ على تدخّل النبي للمنع من الاحتكار([212]).

ويناقش أولاً: إنّ الحديث ـ كما قلنا سابقاً ـ ضعيف السند بمحمد بن سنان الذي لم تثبت وثاقته عندنا.

ثانياً: بما ذكره العلامة شمس الدين من أنّ غاية ما في هذا الحديث أنّ الرسول$ أمر المحتكر بإخراج السلع وبيعها ونهاه عن حبسها، وهذا لا يعبّر عن إجباره له([213]).

وهذه الملاحظة النقدية في محلّها حيث لا يفوح من الحديث إلا رائحة تدخّل النبي في الموضوع، أما الإجبار وأمثاله فلا يفهم منه، ما لم نثبت أنّ أمر النبي بمثل إلقاء خطبة أمام الملأ يخلق ظاهرة إجبار اجتماعي، كما لعلّه ليس بالبعيد.

ثالثاً: نحتمل جدّاً أنّ هذا الحديث خاصّ بحالة مطالبة المسلمين للحاكم بالتدخّل، فلعلّه لا يجوز له التدخّل إلا عند مطالبتهم، كون ذلك من حقوقهم العامّة التي إن لم يطالبوا بها سقطت، وحيث إنّ مورد الرواية هو حالة المطالبة فيقتصر فيها على حدودها.

3 ـ ما جاء في العهد العلوي إلى مالك الأشتر: «فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله$ منع منه.. فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقب في غير إسراف»([214]). فإنّ هذا الحديث دالّ على أنّ الرسول والحاكم له حقّ الإجبار والإلزام، فإنّ طلب أمير المؤمنين من مالك أن يمنع، والتعليل بالمنع النبوي، ثم وضع عقوبة شاهدٌ واضح على مسألة الإلزام والإجبار([215]).

وهذا البيان إن قصد منه ضمّ جميع هذه العناصر إلى بعضها، لاسيما مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الموجّه إليه الخطاب بالمنع هو والي مصر فهو جيّد ومفيد، وإلا فإنّ الاقتصار على جانب العقوبة لا ينفع؛ لأنّ العقوبة لا تعني الإجبار بالضرورة بتمام معانيه، بل قد رأينا تفكيك بعض فقهاء أهل السنّة بين العقوبة والإجبار.

نعم، ورد في خبر دعائم الإسلام ـ وهو مرسل ـ عن علي× أنه كتب إلى رفاعة ـ قاضيه على الأهواز ـ :«إنْهَ عن الحكرة، فمن ركب النهي فأوجعه، ثم عاقبه بإظهار ما احتكر»([216]). حيث جعل إظهار البضائع بعينه عقوبةً، ممّا يربط بين مفهومي العقوبة والإجبار على البيع.

وعلى أية حال فقد توقفنا سابقاً في سند العهد العلوي، إضافة إلى إرسال خبر الدعائم.

وعليه، فكلّ الأخبار الخاصّة هنا ضعيفة السند وبعضها ضعيف الدلالة وهي قليلة جدّاً، بل لو سلّمنا بمرجعيّة النصوص الحديثية الخاصّة هنا فهي تدلّ على أنّ حقّ الإجبار من وظيفة الحاكم أو من نصبه كما هو واضح؛ إذ ليس فيها أيّ كلام عن غيرهما في تولّي هذا الأمر، فإذا جعلت مرجعاً لم يعط هذا الحقّ لعدول المؤمنين إلا بضم قاعدة عامة بديلة.

وبهذا يظهر الاختلاف بين الأدلّة الثلاثة هنا، فالأول يثبت الحقّ لكلّ مسلم على المشهور، فيما يختصّ الأمر على الثاني والثالث بالحاكم أوالمسؤول من قبله، وعلى تقدير فقدهما يرجع إلى النظرية السياسية العامة في هذا الموضوع.

كما قد تبيّن من نوعية الأدلّة السابقة أنّ الدليل الأول يجعل الإجبار وظيفةً إلزامية على الدولة، وأما الثاني فيصيّره حقاً ما لم يبلغ الاحتكار حدّ الضرر أو الإخلال بالنظام العام، وأما دليل النصوص الخاصّة فخبر غياث بن إبراهيم وخبر حذيفة بن منصور لا يدلان على أزيد من الحقّ، إذ ليس فيهما أية إشارة إلى أنّ الفعل النبوي كان على نحو الإلزام لشخص النبي$ بفعل ذلك، أما العهد العلوي فظاهره أمر مالك الأشتر بالمنع من الاحتكار وبالعقاب عليه، مما يفهم منه وجوب ذلك على الوالي، إلا إذا قيل بعدم كونه واجباً على الحاكم، بل جائز، وأنّ أمير المؤمنين× قد استخدم حقّه هذا بإلزام واليه فصار الإلزام ثانوياً في حقّ الوالي، وإن أفاد العهد العلوي الحرمةَ أولياً بملاحظة نفس الاحتكار، كما أسلفناه في محلّه.

 

2 ـ 7 ـ هل يجوز التسعير على المحتكر؟

ذهب الكثير من الفقهاء ـ وقيل: هو الأشهر([217]) ـ إلى أنّ إعطاء الدولة حقّ إجبار المحتكر على البيع أو إلزامها بذلك لا يعني أنّ لها الحقّ في وضع سعر محدّد له([218])، وذكر بعضهم أنّ لها ذلك لو تشدّد المحتكر في السعر ورفعه بشكل مفرط بعد عرضه البضاعة في السوق([219])، لكنّ فريقاً منهم جعل حقّ الدولة ـ على تقدير التشدّد في السعر ـ في أن تلزمه بالتخفيض لا أن تعيّن له السعر من طرفها([220])، واحتاط بعضهم في عدم تعيين السعر له إلا مع الإجحاف، فيفرض عليه النزول، فلو أصرّ على عدم تعيين سعرٍ عيّنت له الأسعار([221]).

وفي المقابل خالف بعض الفقهاء، فذهب إلى أنّ للسلطان التسعير هنا بما يراه من المصلحة على أن لا يكون هذا التسعير مما يلحق الخسارة بأصحاب السلع([222]).

أما على مستوى الفقه غير الإمامي، فالمنسوب إلى الشافعية والحنابلة والشوكاني هو القول بحرمة التسعير.

ومن الواضح أنّ هذه المسألة التي نحن فيها تأتي بعد الفراغ عن أنّ الدولة ليس لها ـ من حيث المبدأ ـ التدخّل في الأسعار بشكل عام، بصرف النظر عن المحتكر وعدمه، وإلا فإذا بنى الفقيه من دليل آخر على أنّ الدولة تملك هذا الحقّ فسيكون حقّها في التسعير للمحتكر ثابتٌ بشكل طبيعي إن لم يكن بطريق أولى.

والذي يحول دون ثبوت الحقّ لأحد في التسعير على المحتكر جملة أدلّة بعد استبعاد دليل الإجماع كما صار واضحاً من حاله:

الدليل الأول: الاستناد إلى أنّ التسعير على المحتكر مخالفٌ للقواعد الفقهية العامّة في نظرية الملكية في الفقه الإسلامي، فإنّ الناس مسلّطون على أموالهم([223])، وليس لأحد الحقّ في التدخّل في أموالهم بدون رضاهم إلا بدليل، فلو ألزم بسعر خاص وهو لا يرضى فإنّ المال المأخوذ منه سيكون عن غير طيب نفس([224])، ومن الواضح أنّ ذلك مخالفٌ للأوليات الفقهية.

وهذا الدليل جيد إذا لم يثبت دليل آخر يقدّم عليه مثل قاعدة نفي الضرر ببعض معانيها ونحو ذلك، من هنا يمكن الأخذ بهذا الدليل حتى حين.

الدليل الثاني: ما استند إليه بعض الفقهاء من أصالة عدم نفوذ حكم أحد على غيره في شيء إلا بدليل، ومن ذلك أن يفرض عليه سعراً خاصّاً في معاملاته المالية، والمفروض أنه لا توجد أيّ مستندات في النصوص الدينية حول هذا الأمر، فلا يجوز التسعير مطلقاً([225])، وإثبات حقّ التسعير حكمٌ شرعي بحاجة لدليل([226]).

وهذا الأصل جيد، إلا أنّه يتبع نظرية الفقيه في ولاية الدولة، فإذا ذهب إلى الولاية العامّة للفقيه فإنّ هذا الدليل يكون محكوماً لما دلّ على سلطنة الفقيه على الأموال بما فيه الصالح العام، وإذا ذهب إلى ولاية الدولة في حدود معينة فلابدّ من النظر في أنّ قضية التسعير على المحتكر هل تكون مشمولةً لهذه الحدود فيجوز التسعير أم لا؟

الدليل الثالث: النصوص الخاصّة، وهي عبارة عن الخبرين المتقدّمين عن حذيفة بن منصور وغياث بن إبراهيم، وقد ادّعى ابن إدريس الحلّي أنّ الأخبار عن الأئمة الأطهار قد تواترت في ذلك([227]).

والذي يبدو أنّ نظر ابن إدريس كان إلى مجمل أخبار نفي التسعير الأعمّ من حال الاحتكار وعدمه، فإنها تربو على عشرة روايات لو أدخلنا روايات أهل السنّة في الحسبان، لكن حتى هذا المقدار يصعب تحصيل التواتر منه، على بحثٍ نتركه إلى مسألة التسعير، وإلا فلو اقتصرنا على روايات التسعير في خصوص حال الاحتكار فهي قليلة جداً لا تبلغ حدّ التواتر حتماً. كما أنه قد تقدّم سابقاً أنّ هاتين الروايتين ضعيفتا السند أيضاً فلم يسلم خبرٌ صحيح ولا متواتر في النهي عن التسعير على المحتكر بالخصوص.

لكن لو صرفنا النظر عن هذه الجهة، فلا ينبغي التوقّف في أنّ خبر غياث بن إبراهيم دالّ على مرجوحية التسعير بل حرمته، بمعنى أنه ليس من حقّ حتى النبي أن يتدخّل في تقويم الأسعار، وأنّ هذا الأمر متروكٌ إلى الله تعالى بوصفه حاكم عالم التكوين، وإلا فلا معنى لغضبه وتعجّبه مما طلبه منه المسلمون بالتقويم، ثم التعليق على ذلك بأنّ الأمر محصور بالله تعالى مستخدماً أداة الحصر (إنما)، فيكون هذا الخبر سالباً الدولة حقّ التسعير لا ساكتاً عن ذلك فحسب.

من هنا، لا نجد تفسيراً معقولاً لما ذكره العلامة شمس الدين، من أنّ خبر غياث بن إبراهيم لا يدلّ سوى على أنّ التسعير لم يشرّع في الإسلام لا أنه محرّم، وهناك فرقٌ بين عدم وجود شريعة التسعير في الفقه الإسلامي وكون التسعير غير مشروع في حدّ نفسه حتى نسلبه عن الحاكم أيضاً، والغضب النبوي الذي يفهم من الحديث غير دالّ بنفسه على الحرمة، إذ لعلّه من جهة خصوصية في السؤال أو في السائل أو نحو ذلك، مما يجعل الغضب مجملاً فيعقّد إمكانية استفادة التحريم منه([228]).

إذ لو كان هذا التفسير صحيحاً من الشيخ شمس الدين، فلماذا رفض الرسول$ أن يسعّر ما دام التسعير مشروعاً، حاصراً التسعير بالله تعالى؟! كما أنّ غضبه واضحٌ تعلّقه بالعَرْض الذي قدّم له، فلا معنى لجعله مجملاً. ولو كان المورد حالةً خاصّة فلا معنى للتعليل العام بحصر التسعير بالله سبحانه.

وقد يقال ـ كما ذكره الشيخ المنتظري ـ بأنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى الحال الطبيعي، حيث طلب المسلمون التقويم فرفض الرسول معلّلً بأنّ الأسعار الطبيعية ترجع إلى الله ولا يراد الأسعار المجحفة والظالمة، وهذا يعني أنّ التصرّف في الأسعار الطبيعية غير جائر بخلاف الأسعار الظالمة([229])، بل ذكر بعض المعاصرين أنّ النزاع هنا لفظيٌّ؛ لأنّ المانع عن التسعير يمنعه في الحال الطبيعي والمجيز يجيزه في الحال الاستثنائي([230]).

لكن يمكن التعليق بأنّ نصوص التسعير على المحتكر لا تقبل هذا التفسير، وتجعله تحكّماً، حيث المفترض أنّ المسلمين عندما طالبوا النبي بالتقويم على المحتكر أنّ ذلك كان للحيلولة دون رفعه السعر بطريقة غير عادية؛ لأنّ هذا هو المترقب من المحتكر الذي نفد مع احتكاره الطعامُ من المدينة المنوّرة، ولو كان تسعير المحتكر عاديّاً فلماذا تدخّل المسلمون في هذا الأمر، فجهة مطالبة الناس بالتسعير في حال الاحتكار هو إفراط المحتكر في الثمن لا أصل أنّه يسعّر حتى لو كان تسعيره طبيعيّاً ومعقولاً، ومن ثم لا معنى لجعل النزاع لفظياً، مع صريح عباراتهم في المقام.

نعم، خبر حذيفة بن منصور لا يدلّ على عدم مشروعية التسعير؛ لأنّ المفروض فيه أنّ الرسول$ طلب من المحتكر أن يبيع مرخّصاً له في السعر الذي يريد، لكن لا يحقّ له حبس السلعة، وهذا الترخيص النبوي لا يكشف عن عدم امتلاك النبي ـ بوصفه حاكماً ـ لحقّ التسعير، غاية الأمر أنه لم يمارس هذا الحق، نعم القول بوجوب التسعير ينافيه هذا الخبر.

وعلى أية حال، فلا يوجد دليل يمنع عن التسعير إلا القواعد العامة التي لابد من النظر في محكوميتها للأدلّة الأخرى.

والذي قد يصلح حاكماً على الأدلّة العامة المتقدّمة، هو:

دليل الضرر في حالة الإجحاف بالسعر، فإنّ الضرر والضرار منفيين في شريعة الإسلام وفقاً لبعض تفسيرات النفي هنا، وهذا يعني أنّه لابد من التسعير؛ إذ بدونه يلزم الضرر على عامة الناس([231]).

وقد يصاغ الدليل بأنّ في الإجحاف في السعر ضرراً على الناس، ولابدّ للحاكم من رفع الضرر هذا([232])، وكأنه لوجوب دفع الضرر عن المسلمين على من يقدر على ذلك.

ويمكن أن يناقش أولاً: إنّ دفع الضرر في حال الإجحاف يمكن تحقّقه دون تدخل في القيمة ووضع سعرٍ بعينه؛ وذلك أنّ الدولة إذا رأت الضرر والإجحاف أمكنها التدخل بإلزامه بالتخفيض دون تعيين سعرٍ له، ومن هنا ذهب بعض الفقهاء ـ كما قلنا ـ إلى اختيار أمره بالتخفيض مع الإجحاف دون تسعير بعينه؛ لأنّ الأدلّة تفي بهذه النسبة من تدخّل الدولة.

وناقش بعضهم في ذلك، بأنّ الحديث عن أمره بالتخفيض دون تعيين سعر له، أمرٌ له حالتان:

الأولى: أن يكون تحديد التخفيض بتحديده للسعر في الجملة، كأن يقول له: عليك أن تبيع ما بين السعر الفلاني والآخر الفلاني، مثل أن تبيع بين عشرة دراهم وعشرين، وفي هذه الحال سيكون هذا تسعيراً، بل يلزم منه نقض الغرض؛ لأنّ المشتري سيطالب بأدنى الحدين والبائع سيطالب بأعلاهما فتقع المنازعة.

الثانية: أن يتمّ الاقتصار على نهيه عن الإجحاف دون أيّ تحديد ولو كان إجمالياً، وهذا مما لا فائدة منه؛ لأنه مجرّد اكتفاء بالموعظة التي قد لا تفيد في دفع الضرر على الناس. فلا يعود هناك معنى لأصل هذا القول، فضلاً عن أن يجعل مناقشةً لدليل نفي الضرر([233]).

ويجاب بأنّ الحالة الأولى ولو سمّيت تسعيراً إلا أنه إذا وفى بها الدليل ورفع الحاجة من خلالها فلا يصحّ مع ذلك إطلاق القول بالتسعير ولو بغير هذه الطريقة، كما يظهر من كلمات القائلين بالتسعير مع الإجحاف.

يضاف إلى ذلك أنه لا معنى لفرض نقض الغرض وتنازع المشتري والبائع؛ لأنّ الحاكم أعطى الخيار للبائع في البيع ضمن الحدّين، فيكون تعيين السعر ضمن الحدّين من حقوقه، رجوعاً إلى القواعد العامّة التي لا دليل على إخراجها في هذا المقدار، فما هو الموجب لإعطاء المشتري الحقّ حينئذٍ حتى ينازع البائع؟!

وأما الحالة الثانية، فلا تقف عند حدود الموعظة؛ لأنّ الدولة تمارس منعاً للبائعين عن أن يبيعوا بالسعر المجحف؛ فإذا خفّضوا السعر نظرت الدولة في سعرهم الجديد فإن ألحق الضرر طالبتهم بالمزيد من التخفيض إلى أن يبلغوا حداً لا يعلم شمول الضرر له، فلا يعود لها حقّ التدخل الإلزامي بالقوّة.

ثانياً: إنّ قاعدة الضرر ترفع الحكم الضرري، ولكنها غير قادرة على وضع حكم، وهو هنا حقّ التسعير للدولة في حال إجحاف البائعين المحتكرين؛ لأنها تنفي ولا تثبت، وقد توصّل البحث العلمي إلى الطابع النافي غير المثبت لقاعدة نفي الضرر.

وقد يجاب أولاً: إنّ قاعدة الضرر ترفع سلطان المالك على ماله بمقدارها فيخرج عن تحت سلطنة المالك ويدخل في سلطنة الحاكم، فلا تنافي الروح العامة للقاعدة تطبيقها فيما نحن فيه([234]).

ويرد عليه أنّ إسقاطها سلطنة المالك بمقدار الضرر يمكن تصوّره؛ لأنه حيثية نفي تفي به القاعدة؛ لكنّ النقاش في ثبوت التسعير ضمن حقّ الدولة وصيرورة الحاكم قادراً على التسعير، فإنّ هذا هو الأمر الإثباتي في المقام، ولم يشرح المجيب هنا كيف ثبت بهذه القاعدة دخول السعر تحت سلطان الحاكم؟!

وإذا قيل بأنّ قاعدة نفي الضرر تسقط سلطنة المالك الخاصّ، فيما عموم ولاية الحاكم يجري في هذا المال حينئذٍ بلا معارض، فيثبت له حقّ التسعير، كان الجواب بأنّ سقوط سلطنة المالك كان بمقدار الإجحاف، فيكون ثبوت سلطنة الحاكم بمقدار رفع الإجحاف، وهذا غير التسعير الذي يحوي تحديداً إضافيّاً كما قلنا.

ثانياً: إنكار أنّ القاعدة ذات طابع نافٍ فقط، والقول بأنّ نفي الضرر لو توقف على إثبات حكم كان مثبتاً له([235]). وهذه مناقشة كبروية مقبولة في الجملة، تراجع في محلّها، لكن غاية ما تثبته هنا هو حقّ الدولة في التدخّل لرفع الإجحاف لا التسعير الذي فيه حظّ أكبر من التدخّل.

ثالثاً: لسنا بحاجة أساساً لقاعدة نفي الضرر، بل قد لا تصحّ هنا؛ لأنّ الضرر آتٍ من البائع في اختياره السعر الأعلى لا من الشريعة كما قد يقال، بل يمكن صياغة الدليل ـ كما قلنا ـ بطريقة أخرى لا يرد معها الإشكال، وذلك بأن نقول بأنّ الدولة ملزمة بدفع الضرر عن مواطنيها وعامّة المسلمين فيجب عليها دفع هذا الضرر عنهم، وليس هذا من تعارض ضرري المشتري والبائع؛ فإنّ المشتري يتضرّر لكنّ البائع لا يربح الزائد، وعدم الربح الزائد ليس ضرراً دائماً، بل لو سلّم التعارض قدّم الضرر العام على الخاص لأرجحيّته؛ ولأنّ القاعدة امتنانية بالمعنى الجمعي كما قلنا سابقاً عند الحديث عن دليل البراءة.

وهذا يثبت للدولة حقّ التدخل لرفع الإجحاف، لا للتسعير بعينه كما هو واضح.

والمتحصّل مما تقدّم أنّ دليل الضرر ـ كيفما فسّر ـ لا يسمح للحاكم بالتسعير، فنخرج عن مقتضى القواعد العامة المتقدّمة بمقدار رفع الإجحاف المضرّ دون التسعير.

2 ـ إن يُرجع إلى نفس أدلّة حقّ الدولة في الإجبار على البيع، فإنّ هذه الأدلّة لا معنى لها مع عدم التسعير؛ لأنّ الفائدة منها سوف تزول لو تشدّد البائعون في الأسعار، وسيبقى المال على حاله، فيعود محذور الاحتكار مجدّداً وتظلّ روحه قائمة([236]).

وقد بات الجواب عن هذا الدليل واضحاً؛ فإنّ الإجبار يظلّ مفيداً مع إلزامه بالتخفيض عن السعر المطروح دون تعيين سعر بديل له، كما قلنا في مناقشة دليل الضرر.

3 ـ الرجوع إلى أدلّة ولاية الدولة والحاكم، فإنّ الأسعار من الشأن العام الذي تكون للحاكم فيه ولاية، فيرجع إلى دليل الولاية لإعطاء الحاكم الحقّ في التسعير في مورد الإجحاف.

وهذا الكلام جيد ـ كما قلنا سابقاً ـ لكنّه محدود بالنظرية الفقهية السياسية التي يراها الفقيه من حيث حدود ولاية الدولة والحاكم، فلو كانت عامةً، كما في الولاية العامة للفقيه، كان له التسعير حتى دون إجحاف، بل دون احتكار، كما هو واضح.

4 ـ أن يلتزم بحرمة الإجحاف في الأسعار في حدّ نفسه، ويكون ذلك حكماً شرعياً إلهياً في تحديد الزيادات الربحية للتجّار والملاك، فإذا أجحف كان من حقّ الدولة أو الناس الإلزام بسعر معين من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا الكلام مبنيٌّ على الحرمة، ولو سلّمت أمكن الاكتفاء بالتخفيض دون تسعير، هذا على تقدير إمكان التمسّك بأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل المقام كما ألمحنا سابقاً.

نعم قد يستفاد التسعير من العهد العلوي: «وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع»، لكنه لا يدلّ ـ لو سلّم صدوراً ـ على أزيد من التوازن في الأسعار، لا تسعير الحاكم نفسه.

والنتيجة إنه لا يحقّ للدولة ـ بصرف النظر عن كبرى النظرية السياسية ـ التسعير على البائع المحتكر، وإنما لها أن تلزمه بالتخفيض إلى الحدّ الذي يرفع الضرر، على أن تراعى مصالح البائعين أيضاً ضمن توازن المصلحة العامّة، فالقول الثالث من الأقوال المتقدّمة هو الصحيح.

 

3 ـ 7 ـ عقوبة الاحتكار

بعد الفراغ عن ثبوت حرمة الاحتكار وعدم الاقتصار على الكراهة، يأتي الحديث عن وجود عقوبة شرعية دنيوية فيه بصرف النظر عن العقاب الأخروي، وبصرف النظر عن اعتبار التسعير عقوبةً كما تقدّم عن بعضهم([237])، وإن كان في اعتبار التسعير عقوبةً نظر، فضلاً عن أنّ النصوص والأدلّة التي استند إليها في التسعير لا تستبطن ولا تستدعي مفهوم التعزير.

وعلى أية حال، فلم يرد في نصّ الشرع عقوبةٌ خاصّة على الاحتكار حتى لو ارتكبه فاعله عدّة مرات، من هنا لا يندرج الاحتكار في المخالفات الشرعية والقانونية الثابتة في موردها حدودٌ شرعية في العقوبات، ولذا يظهر في كلمات الفقهاء والباحثين الذين تعرّضوا لهذا الموضوع أنّ الثابت هنا هوالتعزير([238])، وهو تلك العقوبة غير المقدّرة شرعاً والتي ينزلها الحاكم بالفاعل مقدّراً لها بما يراه صلاحاً. والمرجع في إعطاء الحاكم هذا الحقّ هنا هو تلك القاعدة الفقهية التي تتحدّث عن ثبوت التعزير في كلّ معصية، فإذا ثبتت هذه القاعدة أمكن الحكم بأنّ للحاكم الحقّ في تعزير المحتكرين، وكان بإمكانه استخدام الصيغة المناسبة من العقاب البدني أو السجن أو الإلزام بغرامات مالية أو منعه من بعض الحقوق المدنية أو التجارية أو نحو ذلك.

وإذا تجاوزنا القاعدة العامّة المذكورة، والتي لا يخلو إطلاقها من نظر نتركه لمناسبة أخرى، قد يدّعى وجود دليل خاص في المقام على وجود عقوبة، وهو عبارة عن بعض النصوص الخاصّة وهي:

ما تقدّم في العهد العلوي: «فمن قارف حكرةً بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف»، فهو يدلّ على إعطاء الوالي صلاحية إنزال العقوبة بالمحتكر بعد نهيه، على أن تكون العقوبة متوازنة ومعقولة.

لكن قد تقدّم أنّ هذا العهد غير تامّ السند.

2 ـ الخبر المتقدّم في دعائم الإسلام، عن الإمام علي× أيضاً في كتابه إلى رفاعة ـ قاضيه على الأهواز ـ: «إنْهَ عن الحكرة، فمن ركب النهي فأوجعه، ثم عاقبه بإظهار ما احتكر».

لكن تقدّم أنّ الخبر ضعيف السند بالإرسال.

3 ـ خبر الحكم (أبي الحكم) قال: أخبر علي برجل احتكر طعاماً بمائة ألف فأمر به أن يحرق([239]).

ومن البعيد أن يكون المحرَق هو الشخص، لهذا يفهم من هذا الحديث أنّ الإمام علياً أحرق الطعام المحْتَكَر عقوبةً للمحْتَكِر.

إلا أنّ هذا الخبر يناقش بأنّه إذا أحرق علي بن أبي طالب الطعام المحتَكَر قبل تأمين بديله للناس فهذا خلاف الغرض؛ إذ ما معنى الإحراق حينئذٍ إلا المزيد من الضيق على الناس؟! وإذا كان الإحراق بعد تأمين البديل للناس فلا نجد ذلك منسجماً مع القواعد العامة في النهي عن الإسراف، وقد كان يمكن مصادرة المال المذكور وبيعه ويعود الربح كلّه إلى بيت المال، فما معنى إحراق النعم الإلهية من الأطعمةالتي بها حياة الناس؟!

لهذا لا نتعقّل مثل هذا الفعل من الإمام علي، ولا سكوت الصحابة أيضاً عن ذلك، اللهم إلا أن تكون هناك خصوصيات ذات طابع استثنائي والعلم عند الله.

يضاف إلى ذلك كلّه، أنّ في سند هذا الحديث ليث بن أبي سليم، وهو رجل مجهول الحال عند الإمامية، ومضعّف في جهات من حديثه عند أهل السنة([240])، فمن هنا لا يصحّ هذا الحديث أيضاً.

4 ـ خبر عبد الرحمن بن قيس، قال: قال حبيش (قيس): أحرق لي علي بن أبي طالب بيادر بالسواد كنت أحتكرها، لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة([241]).

ويرد على هذا الخبر ما أوردناه على سابقه، إضافةً إلى أنّ عبد الرحمن بن قيس الوارد في السند مجهول الحال، والظاهر أنه الكندي، بقرينة الرواية عن أبيه، ولا أقلّ من تردّده بين الثقة وغيره([242]).

وعليه، فلم يقم دليل معتبر خاصّ على ثبوت التعزير والعقوبة في حقّ المحتكر، فإن ثبتت القاعدة العامة المتقدمة ثبت التعزير وإلا أشكل الأمر، وفي عموم هذه القاعدة عندي نظر يبحث في محله إن شاء الله.

 

نتيجة البحث

الاحتكار ـ بمعناه في الفقه الإسلامي ـ حرام إذا ألحق الضرر (وليس عدم النفع فقط) بالمجتمع أو الدولة الإسلامية، ضرراً لا يقف عند الحدود الفردية لزيدٍ أو عمرو وإنما يعيّنه خبراء الاقتصاد بما يملكون من رؤية متشابكة لمجمل عناصر الاقتصاد ومكوّناته.

ولا يشترط في تحريم هذا الاحتكار قصد زيادة الثمن بل يحرم في كل غرض لا يعود لمؤونة نفسه وعياله مما يكون ادّخاراً. ولابد من عدم توفر السلعة في السوق حتى يصدق الاحتكار المحرم. كما أن الاحتكار متقوّم بالحبس للسلع فلو عرضها بأسعار مرتفعة لم يكن احتكاراً ولو حرم فمن جهةٍ أخرى.

ولا يوجد في الاحتكار أيّ تحديد زماني خاصّ، بل الأمر يتبع طبيعة السوق والمصالح العامّة، كما لا يشترط فيه أن يكون حصول المحتكر على البضائع عبر الشراء السابق بل يتم في أيّ شكل من أشكال تملّك البضائع، ولو فرض أخذ الشراء السابق قيداً فليس له زمان خاص أو مكان كذلك.

كما يشمل التحريم الاحتكار المضرّ والاحتكار المفضي إلى التضييق على الناس، بمعنى سلب حقها العام في توافر السلع الضرورية والحاجية.

ولا يشترط في تحريمه كون المحتكر عليه مسلماً بل يكفي كونه محترم النفس والمال، كما لا يلزم أن يكون المحتكر شخصاً واحداً بل يستوعب الفرد والشركات والجماعات.

أما مجال الاحتكار وموارده فهي كل أمر من طعامٍ أو غيره يكون في احتكاره ضرراً على الناس أو سلباً لحقها في الحاجيات الضرورية.

ويجوز للحاكم إجبار المحتكر على البيع ونحوه وعرض السلعة، لكن لا يحقّ له التسعير له ـ بصرف النظر عن نظرية التسعير العامّة ـ ولو أجحف كان بإمكانه مطالبته بالتخفيض حتى يزول الإلحاق والإضرار. ولا عقوبة خاصّة للاحتكار إلا إذا ثبت التعزيز في كل حرام شرعي يُرتكب.

هذا، والاحتكار بمفهومه الفقهي يغاير مفهومه الاقتصادي الحديث، فلا ينبغي الخلط بين الاثنين. والله العالم.

 _______________

(*) نشر هذا البحث في كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر) المجلّد الثالث، للمؤلّف، عام 2011م.

([1]) أسامة السيد عبد السميع، الاحتكار في ميزان الشريعة الإسلامية وأثره في الاقتصاد والمجتمع «رؤية فقهية جديدة»: 11، دار الجامعة الجديدة، مصر، 2007م.

([2]) العين 3: 61 ـ 62.

([3]) الصحاح 2: 635.

([4]) معجم مقاييس اللغة 2: 92.

([5]) انظر: النهاية في غريب الحديث 1: 417 ـ 418.

([6]) لسان العرب 4: 208.

([7]) القاموس المحيط 2: 12 ـ 13.

([8]) تاج العروس 6: 300 ـ 301.

([9]) انظر: جمهرة اللغة 1: 520.

([10]) انظر: المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 13 ـ 14، نشر: سازمان انتشارات وآموزش انقلاب إسلامي با همكاري بنياد دائرة المعارف بزرك اسلامي، إيران، ط 1، 1406هـ؛ ومحمد مهدي شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية، بحث فقهي مقارن: 27 ـ 28، المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر والمؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ط 1، 1990م.

([11]) النراقي، مستند الشيعة 14: 45.

([12]) انظر: شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 29.

([13]) انظر: الموسوعة الفقهيّة mالكويتيةn 2: 90، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، الطبعة الثانية، 1983م؛ وموسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت 6: 123.

([14]) حاشية ردّ المحتار 6: 717.

([15]) بدائع الصنائع 5: 129.

([16]) كتاب الأحكام في الحلال والحرام 2: 39.

([17]) الإمام أحمد المرتضى، المنتزع المختار 3: 80 ـ 81.

([18]) المجموع 13: 44.

([19]) روضة الطالبين 3: 78.

([20]) انظر: مغني المحتاج 2: 38؛ وحواشي الشرواني والعبادي 4: 317 ـ 318؛ والبكري الدمياطي، إعانة الطالبين 3: 31.

([21]) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 2: 513.

([22]) المحلّى 9: 64.

([23]) كشاف القناع 3: 216.

([24]) الطوسي، النهاية: 374؛ وشمس الدين محمد بن شجاع القطّان الحلّي، معالم الدين في فقه آل ياسين 1: 337.

([25]) انظر: ابن حمزة، الوسيلة: 260؛ والحلي، السرائر 2: 238 ـ 239؛ وجامع الخلاف والوفاق: 279؛ وتحرير الأحكام 2: 254؛ وتذكرة الفقهاء 12: 166؛ وقواعد الأحكام 2: 11؛ والدروس الشرعية 3: 180؛ وتحرير الوسيلة 1: 501 ـ 502؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 13؛ وهداية العباد 1: 347.

([26]) مستند الشيعة 14: 44؛ وانظر: الشريف الجرجاني، التعريفات: 4؛ وأحمد بن علي كاشف الغطاء، سفينة النجاة ومشكاة الهدى ومصباح السعادات 3: 159؛ ومحمد علي التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1: 109، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1996م.

([27]) انظر دعوى التطابق في: موسوعة الفقه الإسلامي 6: 123.

([28]) انظر: الأنصاري، المكاسب 4: 363؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 3: 813.

([29]) انظر: حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة 3: 357.

([30]) انظر: الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع 11: 94 ـ 95.

([31]) انظر: علي الشفيعي، الاحتكار وما يلحقه من الأحكام والآثار: 14 ـ 16، مؤسّسة انتشارات خوزستان، إيران، 1419هـ؛ وأسامة السيد عبد السميع، الاحتكار في ميزان الشريعة الإسلامية: 45.

([32]) انظر: محمد بن أحمد النراقي، مشارق الأحكام: 265؛ وأسامة السيد عبد السميع، الاحتكار في ميزان الشريعة الإسلامية: 79 ـ 90؛ وهوشنك شامبياني، احتكار، مجلّة ماهنامة دادرسي، العدد 5 ـ 6: 15، من عام 1997م.

([33]) كأنّما تريث الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي في صدق عنوان الإضرار هنا وجعله من نوع عدم النفع، ثم قرّب الإضرار فانظر له: التعليقة الاستدلالية على تحرير الوسيلة: 401؛ وصدق الإضرار واضح بعد خسارة الناس أموالها بسبب الغلاء.

([34]) انظر: كاشف الغطاء، شرح القواعد: 87، ط الذخائر؛ وحسن بن جعفر كاشف الغطاء، أنوار الفقاهة (كتاب المكاسب): 147؛ ومحمد حسين كاشف الغطاء، وجيزة الأحكام 2: 20.

([35]) الكافي 5: 165؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 266؛ والاستبصار 3: 114؛ وسنن الدارمي 2: 249؛ وسنن ابن ماجة 2: 728؛ والبيهقي، السنن الكبرى 6: 30.

([36]) انظر: المزي، تهذيب الكمال 20: 434 ـ 445.

([37]) انظر ـ على سبيل المثال ـ : آل عصفور البحراني، الأنوار اللوامع 11: 96؛ والمحقق العراقي، شرح تبصرة المتعلّمين 5: 120 ـ 121.

([38]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 266؛ والاستبصار 3: 114؛ وتهذيب الأحكام 7: 159.

([39]) صحيح مسلم 5: 56؛ وسنن ابن ماجة 2: 728؛ وسنن أبي داوود: 134؛ وسنن الترمذي 2: 369.

([40]) صحيح مسلم 5: 56؛ والبيهقي، السنن الكبرى 6: 29؛ والمعجم الكبير 20: 455.

([41]) النيسابوري، المستدرك 2: 12.

([42]) انظر: العلامة الحلي، نهاية الإحكام 2: 513؛ وجامع المقاصد 4: 40؛ ومسالك الأفهام 3: 191؛ وشمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 162؛ والخميني، كتاب البيع 3: 605.

([43]) انظر: مجمع الفائدة والبرهان 8: 22.

([44]) انظر: جواهر الكلام 22: 480.

([45]) القمي، مباني منهاج الصالحين 7: 357.

([46]) انظر: شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 163.

([47]) نهج البلاغة 3: 100.

([48]) انظر : اقتصادنا: 692.

([49]) الخميني، كتاب البيع 3: 603 ـ 604.

([50]) المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 21 ـ 22.

([51]) راجع: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 120 ـ 124، مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011م.

([52]) راجع: المصدر نفسه: 517 ـ 569.

([53]) المصدر نفسه: 663 ـ 740.

([54]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 4: 305؛ والمحمودي، نهج السعادة 5: 125؛ والخميني، كتاب البيع 3: 603.

([55]) كاظم الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي: 52.

([56]) رجال النجاشي: 52.

([57]) الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي: 65 ـ 66؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 5: 376.

([58]) الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي: 66.

([59]) المحمودي، نهج السعادة 5: 124 ـ 125.

([60]) أي الرواج.

([61]) الكافي 5: 165؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 266؛ والاستبصار3: 115؛ وتهذيب الأحكام 7: 160.

([62]) مثل الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 8: 23؛ والخراساني، حاشية المكاسب: 139.

([63]) انظر: الخميني، كتاب البيع 3: 602؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 631 ـ 632؛ وشمس الدين، الاحتكار: 169 ـ 170.

([64]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 419 ـ 420.

([65]) الصدوق، التوحيد: 389 ـ 390؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 266.

([66]) الكافي 5: 165؛ والاستبصار 3: 115؛ وتهذيب الأحكام 7: 160.

([67]) انظر: النراقي، مستند الشيعة 14: 45.

([68]) الخراساني، حاشية المكاسب: 139.

([69]) الطوسي، الأمالي: 676.

([70]) العراقي، شرح تبصرة المتعلّمين 5: 121.

([71]) سنن أبي داوود 1: 449؛ والجامع الصغير 1: 41.

([72]) انظر: تهذيب الكمال 29: 38.

([73]) راجع: ميزان الاعتدال 1: 420.

([74]) مسند أحمد 2: 33؛ والمستدرك 2: 11 ـ 12.

([75]) انظر: الهيثمي، مجمع الزوائد 4: 100.

([76]) المستدرك 2: 11؛ والبيهقي، السنن الكبرى 6: 30؛ والكوفي، المصنّف 5: 47؛ والمعجم الكبير 8: 188؛ ومسند الشاميين 1: 339؛ والاستذكار 6: 410.

([77]) تفصيل وسائل الشيعة 17: 426، باب 27 من أبواب آداب التجارة، ح11.

([78]) ابن عدي، الكامل 2: 78؛ وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 61: 311.

([79]) سير أعلام النبلاء 8: 528.

([80]) سنن ابن ماجة 2: 729؛ ومنتخب مسند عبد بن حميد: 34 ـ 35.

([81]) انظر: فتح الباري 4: 291؛ والقول المسدّد في الذبّ عن المسند لأحمد: 35.

([82]) بحار الأنوار 100: 89؛ وجامع أحاديث الشيعة 18: 66.

([83]) محمد جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق 3: 142؛ وشمس الدين، الاحتكار: 172 ـ 173.

([84]) انظر: الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 3: 17؛ والأنصاري، المكاسب 4: 367، 373؛ وشمس الدين، الاحتكار: 173 ـ 178؛ وآل عصفور البحراني، الأنوار اللوامع 11: 97.

([85]) مفتاح الكرامة 12: 361؛ وانظر: كاشف الغطاء، شرح القواعد: 88، ط الذخائر.

([86]) شمس الدين، الاحتكار: 174.

([87]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 420 ـ 421.

([88]) شمس الدين، الاحتكار: 175 ـ 178.

([89]) راجع: بدائع الصنائع 5: 129؛ والقادري الحنفي، تكملة البحر الرائق 2: 370؛ وحاشية ردّ المحتار 6: 719.

([90]) شمس الدين، الاحتكار: 179.

([91]) انظر: الحلبي، الكافي في الفقه: 283؛ وشرائع الإسلام 2: 275؛ ومختلف الشيعة 5: 38؛ ومفتاح الكرامة 12: 353.

([92]) المفيد، المقنعة: 616.

([93]) المبسوط 2: 195.

([94]) انظر: العلامة الحلي، تلخيص المرام في معرفة الأحكام: 93؛ وقواعد الأحكام 2: 11.

([95]) انظر: مختلف الشيعة 5: 38؛ والفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 3: 16.

([96]) شمس الدين، الاحتكار: 158.

([97]) الكافي 5: 165؛ والاستبصار 3: 116؛ وتهذيب الأحكام 7: 160؛ وعوالي اللئالي 3: 207.

([98]) انظر: تذكرة الفقهاء 12: 166؛ ومختلف الشيعة 5: 38 ـ 39؛ والجزائري، التحفة السنية: 226.

([99]) مجمع الفائدة 8: 21.

([100]) راجع: مفتاح الكرامة 12: 354؛ ورياض المسائل 8: 173.

([101]) انظر: ابن فهد الحلي، المهذب البارع 2: 369؛ ومصباح الفقاهة 3: 815.

([102]) المكاسب 4: 366؛ وانظر: الخوانساري، جامع المدارك 3: 141.

([103]) الخميني، كتاب البيع 3: 607 ـ 608؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 633؛ وفقه الصادق 15: 178.

([104]) تفصيل وسائل الشيعة 17: 424.

([105]) مختلف الشيعة 5: 39؛ ومجمع الفائدة والبرهان 8: 21؛ ومفتاح الكرامة 12: 353؛ ورياض المسائل 8: 172.

([106]) جواهر الكلام 22: 478.

([107]) المهذب البارع 2: 369.

([108]) شمس الدين، الاحتكار: 158 ـ 160.

([109]) يظهر من بعض الكلمات في الفقه الزيدي عدم أخذ قصد زيادة الثمن في الاحتكار صريحاً، فراجع: العنسي الصنعاني، التاج المذهّب لأحكام المذهب 2: 385، نشر مكتبة اليمن؛ والسيل الجرار 3: 85.

([110]) رياض المسائل 8: 174 ـ 175؛ وانظر: جامع المدارك 3: 142.

([111]) شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 81 ـ 83؛ وجامع المدارك 3: 142.

([112]) انظر: الأنصاري، المكاسب 4: 364.

([113]) أسامة السيد عبد السميع، الاحتكار في ميزان الشريعة الإسلامية: 74.

([114]) الأنصاري، المكاسب 4: 364؛ والعاملي، مفتاح الكرامة 12: 360؛ وشمس الدين، الاحتكار: 85 ـ 86.

([115]) الكافي 5: 164؛ والاستبصار 3: 114.

([116]) تهذيب الأحكام 7: 161 ـ 162؛ والاستبصار 3: 114 ـ 115؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 265؛ والتوحيد: 388؛ وعوالي اللئالي 3: 208.

([117]) انظر: محمد مهدي شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 87 ـ 91.

([118]) المصدر نفسه: 27.

([119]) المصدر نفسه: 29.

([120]) المصدر نفسه: 46.

([121]) المصدر نفسه: 51.

([122]) انظر: معجم رجال الحديث 7: 17 ـ 18، رقم: 3473 ـ 3474.

([123]) المصدر نفسه 10: 166، رقم: 5979.

([124]) المصدر نفسه 11: 240، رقم: 6940.

([125]) انظر: الموسوعة الفقهية mالكويتيةn 2: 94.

([126]) ابن حمزة الطوسي، الوسيلة: 260؛ والطوسي، النهاية: 374 ـ 375.

([127]) الكافي 5: 165؛ ودعائم الإسلام 2: 36؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 267؛ والاستبصار 3: 114؛ وتهذيب الأحكام 7: 159.

([128]) انظر: مصباح الفقاهة 3: 821.

([129]) شمس الدين، الاحتكار: 44 ـ 45؛ وانظر: آل عصفور البحراني، سداد العباد ورشاد العباد: 501.

([130]) الأنصاري، المكاسب 4: 371؛ والمنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 28 ـ 29.

([131]) انظر: علي الشفيعي، الاحتكار: 71.

([132]) الخميني، البيع 3: 609.

([133]) الروضة البهية 3: 299؛ وأحمد بن علي كاشف الغطاء، سفينة النجاة ومشكاة الهدى ومصباح السعادات 3: 159.

([134]) انظر: مستند الشيعة 14: 50.

([135]) النهاية: 374 ـ 375.

([136]) الوسيلة: 260.

([137]) الخميني، البيع 3: 608 ـ 609؛ وشمس الدين، الاحتكار: 45 ـ 46.

([138]) انظر: موسوعة الفقه الإسلامي 6: 141.

([139]) انظر: الروحاني، فقه الصادق 15: 180؛ ومنهاج الفقاهة 5: 191.

([140]) الطوسي، الأمالي: 676.

([141]) انظر: مصباح الفقاهة 3: 815.

([142]) مسند أحمد 2: 33؛ والمستدرك 2: 11 ـ 12.

([143]) الموسوعة الفقهية mالكويتيةn 2: 93.

([144]) انظر ـ على سبيل المثال ـ : الحلي، نهاية الإحكام 2: 514؛ والكركي، جامع المقاصد 4: 41؛ والنراقي، مستند الشيعة 14: 50.

([145]) انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 192؛ والطباطبائي، رياض المسائل 8: 174؛ والنجفي، جواهر الكلام22: 484؛ والأنصاري، المكاسب 4: 371؛ والخميني، البيع 3: 416؛ وشمس الدين، الاحتكار: 51، وأحمد بن علي كاشف الغطاء، سفينة النجاة ومشكاة الهدى ومصباح السعادات 3: 159.

([146]) انظر: شمس الدين، الاحتكار: 29، 51.

([147]) انظر: مجمع الفائدة والبرهان 8: 25؛ ورياض المسائل 8: 174؛ وجواهر الكلام 22: 484؛ وشمس الدين، الاحتكار:50.

([148]) انظر: رياض المسائل 8: 174؛ والأنصاري، المكاسب 4: 371؛ والمنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 52؛ والخميني، كتاب البيع 3: 612.

([149]) راجع: مجمع الفائدة 8: 25 ـ 26؛ ورسالة في الاحتكار والتسعير: 52؛ والخميني، كتاب البيع 3: 611 ـ 612.

([150]) محمد مهدي شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 55 ـ 57.

([151]) أسامة السيد عبد السميع، الاحتكار: 71 ـ 72.

([152]) الموطأ 2: 651؛ والاستذكار 6: 409 ـ 410.

([153]) الصنعاني، المصنّف 8: 207.

([154]) راجع: حيدر حب الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي: 349 ـ 368.

([155]) انظر: النهاية: 586؛ ومختلف الشيعة 8: 337 ـ 338.

([156]) انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 12: 113.

([157]) شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 76 ـ 77.

([158]) انظر: المصدر نفسه: 76، 77.

([159]) انظر: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي: 249.

([160]) شمس الدين، الاحتكار: 139.

([161]) علي الشفيعي، الاحتكار وما يلحقه من الأحكام والآثار: 68 ـ 69.

([162]) المصدر نفسه: 68.

([163]) الكافي في الفقه: 360.

([164]) انظر: النهاية: 374؛ والسرائر 2: 238؛ والشرائع 2: 21؛ والمختصر النافع: 144؛ ومنتهى المطلب 2 : 1007؛ وتحرير الأحكام الشرعية 2: 254.

([165]) المكاسب 4: 368.

([166]) انظر: المقنع: 372؛ ومستند الشيعة 14: 49؛ ورياض المسائل 8: 173؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 13؛ وتحرير الوسيلة 1: 461.

([167]) راجع: المبسوط 2: 195؛ والوسيلة: 260؛ وإرشاد الأذهان 1: 356؛ وتذكرة الفقهاء 12: 166؛ وقواعد الأحكام 2: 11؛ ونهاية الإحكام 2: 514.

([168]) اللمعة الدمشقية: 110؛ والدروس الشرعية 3: 180؛ وجامع المقاصد 4: 40؛ ومسالك الأفهام 3: 192؛ والروضة البهية 3: 299.

([169]) راجع: الموسوعة الفقهية 2: 92؛ ومصباح الفقاهة 5: 497 ـ 498.

([170]) راجع: الموسوعة الفقهية 2: 92.

([171]) راجع: المصدر نفسه؛ وكاشف الغطاء، شرح القواعد 1: 314 ـ 315؛ ومغنية، فقه الإمام جعفر الصادق 3: 144؛ والسبزواري، مهذب الأحكام 16: 34؛ ومحمد حسين كاشف الغطاء، وجيزة الأحكام 2: 20؛ وشمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 140.

([172]) الصحاح 5: 1974.

([173]) كتاب العين 2: 25.

([174]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 265؛ والاستبصار 3: 114؛ وتهذيب الأحكام 7: 159، لكن في التهذيب والاستبصار لم يرد ذكر الزيت.

([175]) قرب الإسناد: 135.

([176]) الصدوق، الخصال: 329.

([177]) دعائم الإسلام 2: 35.

([178]) مستدرك الوسائل 13: 275؛ وبحار الأنوار 59: 292؛ وجامع أحاديث الشيعة 18: 69.

([179]) انظر: الحدائق 23: 62؛ ورياض المسائل 8: 174؛ ومفتاح الكرامة 12: 355.

([180]) انظر: الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 101، الهامش: 3.

([181]) انظر: المصدر نفسه: 183.

([182]) انظر: المصدر نفسه: 119 ـ 120.

([183]) المصدر نفسه: 120 ـ 123؛ وعلي الشفيعي، الاحتكار: 52 ـ 53، 54؛ ورسالة في الاحتكار والتسعير: 44 ـ 45، 46.

([184]) شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 125.

([185]) مصباح الفقاهة 3: 819.

([186]) علي الشفيعي، الاحتكار وما يلحقه من الأحكام والآثار: 52.

([187]) الخوئي، منهاج الصالحين 2: 13.

([188]) الخوئي، معجم رجال الحديث 14: 250 ـ 253، رقم: 9299.

([189]) علي الشفيعي، الاحتكار: 54 ـ 55.

([190]) المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 46 ـ 47.

([191]) المصدر نفسه: 47 ـ 48.

([192]) انظر: مرتضى الحائري، ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة 1: 197؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 3: 819 ـ 820؛ والمنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 44؛ والشفيعي، الاحتكار: 60؛ وشمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 127 ـ 128.

([193]) الشوكاني، نيل الأوطار 5: 337.

([194]) انظر: المجموع 30؛ التكملة الثانية؛ والطرق الحكمية: 245 ـ 246.

([195]) انظر: الطرق الحكمية: 245؛ والموسوعة الفقهية (الكويتية) 2: 94.

([196]) انظر: الطوسي، المبسوط 2: 195؛ والوسيلة: 260؛ وكلمة التقوى 4: 27؛ والمختصر النافع: 120؛ وشرائع الإسلام 2: 275؛ وتحرير الوسيلة 1: 502؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 13؛ ومحمد الروحاني، منهاج الصالحين 2: 14؛ وإرشاد الأذهان 1: 356؛ وتبصرة المتعلّمين: 120؛ وجامع المقاصد 4: 42؛ والجامع للشرائع: 258؛ والمقنعة: 616؛ والسرائر 2: 239؛ والكافي في الفقه: 360؛ ومستند الشيعة 14: 51؛ والقطّان الحلّي، معالم الدين في فقه آل ياسين 1: 337؛ وجواهر الكلام 22: 485؛ وهداية العباد 1: 347؛ ومحمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 2: 30؛ والمراسم العلوية: 183.

([197]) راجع: مصطفى الخميني، مستند تحرير الوسيلة 1: 481؛ والمهذب البارع 2: 370.

([198]) انظر: مصطفى الخميني، مستند تحرير الوسيلة 1: 482.

([199]) انظر: النهاية: 374؛ وتحرير الأحكام الشرعية 2: 255.

([200]) انظر: موسوعة الفقه الإسلامي 6: 143 ـ 144.

([201]) راجع: الموسوعة الفقهية mالكويتيةn 2: 95؛ وأسامة السيد عبد السميع، الاحتكار: 96 ـ 98.

([202]) شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 187.

([203]) الكافي في الفقه: 360.

([204]) النراقي، مستند الشيعة 14: 51؛ وانظر: شمس الدين، الاحتكار: 191.

([205]) انظر: حيدر حب الله، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 470 ـ 507.

([206]) انظر: جواد التبريزي، إرشاد الطالب 3: 282.

([207]) تهذيب الأحكام 7: 161 ـ 162؛ والاستبصار 3: 114 ـ 115؛ والتوحيد: 388؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 265.

([208]) شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 189.

([209]) المصدر نفسه.

([210]) حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي: 711 ـ 712.

([211]) الكافي 5: 164؛ والاستبصار 3: 114.

([212]) اللنكراني، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (المكاسب المحرّمة): 260.

([213]) شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 190 ـ 191.

([214]) نهج البلاغة 3: 100.

([215]) انظر: المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 56؛ والشفيعي، الاحتكار: 96؛ وشمس الدين، الاحتكار: 190.

([216]) دعائم الإسلام 2: 36.

([217]) الطباطبائي، الشرح الصغير في شرح مختصر النافع 2: 38؛ وآل عصفور البحراني، الأنوار اللوامع 11: 99.

([218]) الطوسي، المبسوط 2: 195؛ والمختصر النافع: 120؛ وشرائع الإسلام 2: 275؛ وإرشاد الأذهان 1: 356؛ وتبصرة المتعلّمين: 120؛ والسرائر 2: 239؛ والنهاية: 374؛ وتحرير الأحكام 2: 255؛ وغنية النزوع: 231؛ وكشف الرموز 1: 456؛ والقطّان الحلي، معالم الدين في فقه آل ياسين 1: 337.

([219]) الوسيلة: 260؛ ومسالك الأفهام 3: 193؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 13؛ ومحمد الروحاني، منهاج الصالحين 2: 14؛ وجامع المقاصد 4: 42؛ والجامع للشرائع: 258؛ وجواهر الكلام 22: 486؛ ومحمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 2: 30؛ وابن فهد، المقتصر: 168؛ والتنقيح الرائع 2: 43؛ ومختلف الشيعة 5: 72؛ واللمعة: 110؛ والدروس 3: 180؛ والحدائق الناضرة 18: 64.

([220])مفاتيح الشرائع 3: 17؛ والشرح الصغير في شرح مختصر النافع (حديقة المؤمنين) 2: 38؛ وحسن كاشف الغطاء، أنوار الفقاهة (كتاب المكاسب): 148؛ وكلمة التقوى 4: 27 ـ 28؛ ومستند الشيعة 14: 52؛ وهداية العباد 1: 348.

([221]) تحرير الوسيلة 1: 502.

([222]) المقنعة: 616؛ والمراسم العلوية: 183.

([223]) رياض المسائل 8: 176؛ ومهذب الأحكام 16: 34؛ ونيل الأوطار 3: 335؛ ومفتاح الكرامة 12: 361.

([224]) مختلف الشيعة 5: 72.

([225]) رياض المسائل 8: 176؛ وكشف الرموز 1: 456؛ ومهذب الأحكام 16: 34.

([226]) السرائر 2: 239.

([227]) المصدر نفسه.

([228]) شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 210 ـ 211.

([229]) المنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 65 ـ 66.

([230]) الشفيعي، الاحتكار: 103.

([231]) انظر: الحدائق الناضرة 18: 65؛ والروضة 3: 299؛ والمكاسب 4: 374؛ ومفتاح الكرامة 12: 362.

([232]) انظر: ابن عبد البر، الكافي في فقه أهل المدينة: 730، ط الرياض.

([233]) انظر: شمس الدين، الاحتكار: 219.

([234]) المصدر نفسه: 221.

([235]) المصدر نفسه.

([236]) انظر: إيضاح الفوائد 1: 409؛ ورياض المسائل 8: 176؛ ومفاتيح الشرائع 3: 17؛ والخميني، البيع 3: 416 ـ 417.

([237]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: أسامة السيد عبد السميع، الاحتكار: 105، 107.

([238]) انظر: العلامة الحلي، نهاية الإحكام 2: 515 (متحدّثاً عن مخالفة تسعير الإمام بعد الاحتكار)؛ والبحر الزخار 3: 319 ـ 320.

([239]) ابن أبي شيبة، المصنّف 5: 47؛ وابن حزم، المحلّى 9: 64 ـ 65.

([240]) راجع: المزي، تهذيب الكمال 24: 279 ـ 288؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 15: 143 ـ 144، رقم: 9795 ـ 9796.

([241]) ابن حزم، المحلّى 9: 65؛ وابن أبي شيبة، المصنّف 5: 48.

([242]) انظر حوله: ابن حجر، تقريب التهذيب 1: 587.