hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الصراعات الإسلامية ـ دراسة في فقه أهل البغي

تاريخ الاعداد: 2/11/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
111420
التحميل

حيدر حب الله([1])


تمهيد في أهميّة الموضوع وتفكيك مصطلحاته

تحدّث الفقهاء عن العلاقة مع أهل البغي والخلاف في الحياة الإسلامية، وأولوا هذا البحث أهميةً خاصّة من حيث الأحكام والشروط والتفاصيل، بل يمكن القول بأنّ موضوع أهل البغي ـ بالمعنى العام للكلمة ـ لم يقف عند حدود الدراسات الفقهية بل أخذ مجاله في الدراسات الإسلامية الأخرى، حيث تنامى في الذات الإسلامي الحديث عن أهل البغي، فركّز المتكلّمون المسلمون على الفرق الضالّة المنحرفة، عبر مفهوم جهاد أهل البدع أكثر من جهاد الكفار، بل ذهب من ذهب إلى عدم وجود حديث لهم عن النوع الثاني([2]).

ونحن نجد في بعض الكلمات الفقهيّة ما يوحي بأنّ قتال أهل البغي أفضل من مجاهدة الكفار، بل ذكر الآلوسي (1270هـ) أنّ بعض الحنابلة صرّح بذلك محتجّاً بأنّ الإمام عليّاً قد اشتغل في مدّة خلافته بقتال البغاة دون جهاد الكفار، وإن لم يوافق الآلوسي على إطلاق هذا الكلام([3])، والحقّ معه؛ فإنّ القضيّة تابعة لحجم المصالح والمفاسد التي ينبغي للمسلمين وإمامهم أن يلاحظوها في تقديم جهاد على آخر، ولا يوجد نصّ شرعي يثبت الأفضليّة المطلقة، وما صدر عن أمير المؤمنين× لا يثبت ذلك؛ لأنّه فعل صامت ويمكن أن يكون بملاك أنّ الظرف لم يكن يسمح بغير ذلك، بحيث كان اختيار ذلك بمثابة ترجيح للأولويات الزمنية لا عملاً بمقتضى القاعدة الشرعية الأوّليّة في الموضوع، علماً أنّنا بحثنا مفصّلاً في محلّه عن شرعية الجهاد الابتدائي وأنكرنا وجود هذا الجهاد في الشريعة الإسلامية([4]) ـ خلافاً لمشهور الفقهاء ـ فإذا أريد للإمام علي بن أبي طالب أن يقدّم جهاد البغاة على غيرهم، فلابدّ من إثبات وجود اعتداء من طرف الكفار في زمان خلافته على أطراف بلاد المسلمين، مع سكوته× عن ذلك مفضّلاً جهاد البغاة، وهو أمر يصعب تأكيده تاريخياً، ولو أكّدناه لم يمكن استبعاد الترجيح الزمني لملاك المصالح الوقتية.

وحتى لو لم نثبت أفضليّة جهاد البغاة على جهاد الكفار، مع ذلك يظلّ جهاد أهل البغي ـ ضمن التعريف العام لمفهوم البغي ـ موضوعاً بالغ الأهميّة جدّاً في سياق علاقات المسلمين ببعضهم؛ لأنّ ما سنرجّحه لاحقاً ـ إن شاء الله سبحانه ـ هو أنّ المراد بالبغي مطلق الاعتداء المسلّح أو نحوه من طرف جماعةٍ مسلمة على أخرى، ولا يقف عند حدود الخلاف بين السلطة والمعارضة، وهذا يعني أنّ قضيّة البغي تستوعب تمام النزاعات الداخل ـ إسلامية، ومن ثمّ فهذا الموضوع يحدّد المعايير الفقهية والأخلاقية في علاقات الدول الإسلامية ببعضها، وكذلك الجماعات والأحزاب والقوى والتيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، بل والعشائر والقبائل أيضاً، وهو ما يمنحه ضرورته الخاصّة التي تحتاج إلى المزيد من التأصيل الفقهي الإسلامي.

يقصد بالبغي في اللغة الطلب تارةً حيث يقال: بغيت الشيء أي طلبته، ومن ذلك البغية أي الحاجة، وتارةً أخرى الظلم والفجور والتعدّي والفساد، حيث يقال: بغى شخص على آخر إذا تعدّى عليه أو تصرّف معه بشيء من الفساد في الفعل([5])، ومنه إطلاق وصف البغيّ على المرأة الزانية من حيث فسادها وتجاوزها الحد.

أما في الاصطلاح الفقهي، فعلى المستوى الشيعي الإمامي نجد أنّه قد عرّفه الشيخ محمد حسن النجفي (1266هـ) بأنّه: «الخروج عن طاعة الإمام العادل..»([6])، ويقول السيد أبو القاسم الخوئي (1413هـ): «وهم الخوارج على الإمام المعصوم× الواجب إطاعته شرعاً»([7])، وهكذا سائر كلمات فقهاء الإماميّة([8]).

نعم، ذكر السيد محمد الشيرازي في تعريفهم أنهم mالثائرون على الدولة الإسلامية المشروعة، وكذلك المنحرفون عن الشريعة ممّن يظهرون الإسلامn([9]). ولكنّ الإضافة الأخيرة لم نجد لها وجوداً في الفقه الإمامي، كما أنّها غير واضحة فقهيّاً؛ فإنّ الانحراف عن الإسلام مع إظهاره إمّا هو الفسق العملي أو النفاق المصطلح فقهيّاً، وكلاهما لا ينطبق عليه عنوان البغي المأخوذ في الآيات والروايات هنا، وإن كان بغياً لغةً. وفي الفقه السنّي ما يشير إلى أنّ منع الإمام من حقوقه كالزكاة عن تأويل واجتهاد محكوم بالبغي([10])، وفي بعض الكلمات الشيعيّة ما يوحي بالمغايرة بين أهل البغي ومانعي الزكاة([11])، لكن ذلك لا يستوعب تمام ألوان الانحراف عن الشريعة، كما عبّر السيد الشيرازي، وإنمّا هو خاصّ بالتمرّد الحقوقي على الحاكم.

أمّا على المستوى السنّي، فنجد موفق الدين ابن قدامة الحنبلي (620هـ) عندما تحدّث عن أهل البغي في مباحث الجهاد والسِّيَر قال: mقوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة الذين نذكر في هذا الباب حكمهم، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتال البغاةn([12]).

وقال أبو بكر القاساني الحنفي (587هـ) في تعريف البغاة بأنّهم الذين: mيخرجون على إمام أهل العدل، ويستحلّون القتال والدماء والأموال بهذا التأويل، ولهم منعة وقوّةn([13]).

وهذه التعريفات وغيرها تفيد حصر مفهوم البغي بالثورة المسلّحة ضدّ النظام الشرعي الحاكم، أو ما نسمّيه اليوم بحركات التمرّد المسلّحة، ضمن شروط طرحها بعض الفقهاء لتبلور معنى البغي شرعاً، كي تترتب عليه أحكامه. ومن ثم يفترض في هذه التعاريف وأمثالها أن لا تشمل ـ للوهلة الأولى ـ مطلق النزاعات المسلّحة بين المسلمين، بل تحصر جهاد أهل البغي بمعنى خاص، وهم المعارضون للسلطة، وليس أيّ سلطة، بل السلطة الشرعية.

وسوف يأتي ـ بعون الله سبحانه ـ أنّ مستندات الحديث عن قتال أهل البغي في الكتاب والسنّة ليس فيها ما يشير إلى هذا الحصر في التعريف، وأنّ ما اشتهر بين الفقهاء في هذا المجال يمكن التوقّف عنده وتسجيل ملاحظات عليه، بل سوف نرى أنّ البغي له اصطلاحان في الفقه: أحدهما البغي على الإمام، وهو الذي شغل الفقهاء بالدرجة الأولى حتى غلبت على كلماتهم هذا النوع من البغي، وجعلوا الكثير من أحكام البغي الخاصّة راجعةً إليه، وثانيهما البغي على المؤمنين، وهو المعنى الأوسع الذي يندرج ضمنه النوع الأوّل من البغي، وقد وجدنا تعرّضاً لهذا النوع بشكل أقلّ.

وعلى أية حال، فالذي نراه أن البحث في حكم جهاد أهل البغي ـ ويقابلهم أهل العدل ـ يستدعي فرز نقاط، تنطلق من تحليل النص القرآني الذي هو المرجع الرئيس هنا، ثم التعرّض لنصوص السنّة الشريفة، ثم بعد ذلك دراسة المواقف الفقهيّة والشروط المطروحة في مواجهة أهل البغي، في ضوء النتائج التي تمّ التوصّل إليها في المرحلة السابقة عند البحث عن معطيات الكتاب والسنّة وإن لزم بعض التكرار، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أحكام وقائع الحرب وما يستتبعها من التعامل مع الأسرى والجرحى والغنائم والمدبرين نتركه لمباحثه الخاصّة.

والنقاط التي يدور البحث هنا حولها هي:

 

1 ـ التأصيل القرآني للعلاقات مع أهل البغي، تأسيس مبدأ المواجهة الجهاديّة في الداخل الإسلامي

من الواضح أنّ البغي حرام من الناحية التكليفيّة، لما يتضمّنه من الظلم والعدوان على الآخرين بغير حقّ، وهو ـ أي الظلم والعدوان ـ من المحرّمات القطعية في الشريعة الإسلامية بالأدلّة المعتبرة في الاجتهاد الفقهي، كما أنّ البغي بمعنى الخروج على الإمام العادل حرام هو الآخر؛ للأدلّة عينها، ولما دلّ أيضاً على وجوب إطاعة الحاكم الشرعي، وحرمة شقّ عصا المسلمين، وإثبات الولاية للدولة الإسلامية، وحرمة نقض البيعة، ونحو ذلك، بعد ملاحظة أنّ الباغي يشترط فيه قبل البغي أن يكون مسلماً؛ فلو خرج الذمي على السلطة العادلة لا يقال عن فعله: بغي، بل يقال: إنّه صار حربيّاً بذلك.

وتكاد تتفق كلمات فقهاء المسلمين([14]) أنّ أهل البغي تجب مواجهتهم لتفتيت حركة معارضتهم، ولو كان ذلك موجباً لفتح الحرب معهم، وتكون هذه الحرب جهاداً، بل ذكر النووي الشافعي (676هـ) أنّ جهاد البغاة من حقوق الله تعالى([15]).

لكن من الواضح أنّ هذا الاتفاق الإسلامي على مجاهدة أهل البغي لا قيمة له في حدّ نفسه؛ لأنّ الأدلّة الأخرى من الكتاب والسنّة العملية والقولية موجودة في هذا المجال، فمن الممكن جداً، بل من المطمأنّ به، أنّهم اعتمدوا على هذه الأدلّة في سياق الإفتاء بجهاد أهل البغي، وفي هذه الحال لا يكون للإجماع ـ مهما قَوي ـ أيّ قيمة كما بُيّن ذلك جليّاً في علم أصول الفقه الإمامي بالخصوص.

والأدلّة التي ذكرت لإثبات حكم جهاد أهل البغي ـ بعد استبعاد الإجماع؛ لما قلناه ـ متنوّعة تتحرّك تارةً في النص القرآني، وأخرى في نصّ السنّة الشريفة، وثالثة في السيرة العمليّة للمعصومين^ في هذه القضيّة.

أمّا على المستوى القرآني، فنحن لا نجد خروجاً عن قاعدة العلاقات السلمية في الداخل الإسلامي إلا في حالة واحدة وهي البغي، ويستند في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأُْخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى أَمْرِ الله فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: 9).

وتقريب الاستدلال بالآية أنه على تقدير وقوع مقاتلة بين طرفين مسلمين وشجار، يجب السعي في البداية لحلّ النزاع بالصلح والوفاق، فإذا فشلت ألوان المصالحة، وبغت وظلمت إحدى الطائفتين الأخرى، وجب مقاتلة الفئة الباغية حتى ترضخ لأمر الله وحكمه، وهذا منطبق تماماً على التمرّد المسلّح ضدّ النظام الشرعي أيضاً.

وفي سياق تحليل المعطيات الفقهية والقانونية التي تقدّمها هذه الآية الكريمة، التي هي الأصل في فقه أهل البغي، نجد ما يلي:

 

1 ـ 1 ـ تخطّي مفهوم البغي مقولةَ الخروج على القيادة المعصومة

لا يوجد في هذه الآية تخصيص بزمان حضور أحد المعصومين حتى يقال: إنها خاصة بالخروج على المعصوم، كما يفهم من كلمات بعض الفقهاء في البغي([16])، فإنّ فقهاء الإمامية يفهم منهم حصر الباغي بالخارج على الإمام المعصوم بحيث لو أريد تعدية العنوان وما يلحقه من أحكام حتى إلى السلطة الشرعية غير المعصومة كان لابدّ من دليل، مع أنّ هذه الآية لا إشارة فيها لا من قريب ولا من بعيد إلى عنصر العصمة في الذي بغي عليه، وإنّما هي عامة شاملة لتمام الأزمنة والأمكنة والجماعات، فليس فيها أيّ قيد بهذا الخصوص، وهذا معناه أنّه لو أريد تقييدها فلابد من تقديم دليل على ذلك.

 

2 ـ 1 ـ تخطّي مفهوم البغي ثنائيةَ السلطة والمعارضة في الحياة الإسلامية

إنّ هذه الآية وإن صحّ الاستناد إليها في محاربة الخارجين على النظام الشرعي، إلا أنّها غير خاصة بجهاد أهل البغي في التعريف الفقهي السائد؛ لأنها لا تفرض الطائفة التي بُغي عليها هي الحاكم الشرعي ـ سواء كان الإمامَ المعصوم أم غيره ـ بل تطلق لكلّ طائفتين مسلمتين حصل اقتتال بينهما سواء كان هناك نظام شرعي بين المسلمين أم لا، وسواء كان أحد الطرفين المتقاتلين هو هذا النظام الشرعي أم لا؛ فالحروب الداخلية في البلدان الإسلامية تشملها الآية، كما تشمل الحروب التي تقع اليوم بين الدول الإسلامية، حتى لو كانت الدولتان غير شرعيّتين في نفسيهما من حيث شرعية نظام السلطة، بل تشمل حتى مقاتلة الأحزاب والقبائل والعشائر وأمثالها لبعضها، وهذا المعنى الأوسع هو ما يظهر من ابن البراج الطرابلسي (481هـ)([17])، ومن بعض كلمات السيد الخوئي (1413هـ)([18])، ومن الشيخ محمد مهدي شمس الدين([19]).

وهذا ما يقود إلى ملاحظة أشرنا إليها فيما تقدّم، وهي أن بعض الأبحاث الفقهية ركّزت في الحروب الداخلية بين المسلمين على‌ جهاد البغاة ـ بالاصطلاح الفقهي الخاص ـ مستندةً إلى هذه الآية الكريمة، دون أن تفتح عنواناً أوسع، تحت شعار الحرب الإسلامية ـ الإسلامية، أو الحروب الداخلية بين المسلمين، ربما لأن القضية في الحروب الداخلية بين المسلمين في القرون الأولى غلب عليها ثنائي: السلطة والمعارضة، وهذا ما يؤكّد ما قلناه من ضرورة تعميم العنوان؛ لأنّ هذه الآية العمدة هنا تصلح حكماً لما هو أبعد من فقه جهاد أهل البغي بالمعنى الفقهي المصطلح؛ لاسيما بقرينة أسباب النزول القادمة الإشارة إليها بحول الله تعالى.

 

3 ـ 1 ـ مقصديّة الفيء إلى الحق في مجاهدة أهل البغي

الظاهر من هذه الآية الكريمة وجوب مقاتلة الطائفة الباغية؛ لظهور صيغة الأمر فيها في ذلك: ﴿فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾، كما أن منتهى مقاتلتهم هو ارتداعهم عما كانوا عليه وإقلاعهم عنه، وهذا ما يشهد له تعبير: ﴿حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى أَمْرِ الله﴾، فليس الهدف قتلهم، بل عودهم إلى الحقّ، وهذه نقطة مهمّة، تلمح إليها بعض الروايات الواردة في حكم البغاة الذين ليس لهم فئة كما سنشير إليها قريباً بإذن الله سبحانه، وأهميّة هذه النقطة تكمن في أنّ التعامل مع البغاة يغلب عليه في ثقافتنا العامّة وممارساتنا السياسية والاجتماعية استهداف القضاء عليهم وإبادتهم حتى أن الخصومة تكاد تكون مع أشخاصهم، فيما يفترض أن تكون مع حركتهم على مستوى إضعافها أو تقويتها.

من هنا، حكم العديد من الفقهاء بحرمة التعرّض للبغاة على تقدير فيئهم، سواء في نفوسهم أم في غيرها([20]).

 

4 ـ 1 ـ تقدّم مبدأ المصالحة والحلّ السلمي على مبدأ المواجهة والحسم العسكري

إن الآية ظاهرة في وجوب البدء بالطرق السلمية في مواجهة الطرف الباغي، وأن مجرّد بغيه ـ مع كون البغي ظلماً وعدواناً ـ لا يبرّر خوض الحرب معه، فلابدّ من استنفاد تمام الطرق السلمية لوقف القتال، وإن فشلت الجهود، تمّ البدء بمحاربة الظالم من الطرفين، وقرينة ذلك أن أوّل الأوامر في الآية بعد فرض الاقتتال هو: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾، وهو ظاهر في الترتيب والتقديم، وإعطاء الأولوية لمبدأ الإصلاح.

وهذا ما يؤكّد أكثر فأكثر أنّ الأصل في العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية هو المسالمة والصلح والمودّة والوئام مهما اختلف المسلمون، بل حتى في حالات الظلم والاعتداء ينبغي تقديم مبدأ المصالحة على غيره من مبادى فضّ النزاعات، وهذا ما يضع شكلاً من أشكال التقييد في إطلاق مثل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...﴾ (البقرة: 194)، على المستوى الاجتماعي الذي نحن فيه، حيث يلزم قبل ردّ الاعتداء السعي للصلح، وخطاب السعي للصلح وإن لم يكن موجّهاً في الآية الكريمة للمعتدى عليه، وإنما للطرف الثالث المحايد غير الداخل في المنازعة، إلا أنّه قد يقال بأنّ روح هذا الخطاب وملاكه يشملانه؛ لأنّ ملاكه تقديم الصلح على غيره من الوسائل والآليات في الصراعات الداخل ـ إسلامية، فإذا خاطب الطرف الثالث فهو بطريق أولى يخاطب الطرفين المتنازعين.

وربما يؤيّد ما نقول بأنّ الآية لم تشر إلى البغي في التقاتل الأول السابق على الصلح، ولعلّها بهذا تريد أن تحقّق الصلح الذي يتعالى حتى عن تحديد الظالم من المظلوم.

من هنا، يفهم ما ذكره بعض الفقهاء من لزوم إرشاد البغاة قبل إعلان الحرب عليهم، وتذكيرهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ووعظهم وتوعيتهم ومناظرتهم، واستنفاد كافة السبل المذكورة معهم، ومعرفة وجهة نظرهم فلو كان الحاكم مقصّراً في شيء معهم أو مع غيرهم فعله، ولو كانت لديهم فكرة ما حاورهم فيها، ولو كانت عندهم شبهة حاول رفعها لهم([21]). وسيرة الإمام علي× مع الخوارج كانت على ذلك؛ فلا يصحّ ما ذكره بعض فقهاء أهل السنّة من أنّ الوعظ والتذكير وكشف الشبهة أمر استحبابي، فلو قاتلهم الإمام بلا دعوة جاز([22])، فإنّ ذلك خلاف روح الآية القرآنية الكريمة.

نعم، إذا لاحظت الدولة الإسلامية أنّ أهل البغي يتجهّزون للقتال وإن لم يخرجوا بعدُ، واستنفدت السبل الإقناعية للحيلولة بينهم وبين ذلك، جازت مقاتلتهم، لا أن ينتظر حتى يقع القتال منهم، ثم الصلح، ثم يأتي دور القتال الشرعي، فإنّ هذا الترتيب يؤخذ من جانب الطرف المحايد كما هو مفروض الآية، وإلا فإنّ عناوين حفظ النظام والدفاع عن دولة الحق وردّ العدوان المحتمل وغير ذلك تجري هنا أيضاً، لاسيما بعدما طرحناه سابقاً في بحث الجهاد الابتدائي من أنّ مفهوم الجهاد الدفاعي يحوي حالة ما يسمّى اليوم بالضربات الاستباقية عند العلم بتهيّؤ العدوّ للعدوان، لا أن ينتظر لكي يغزو المسلمين في عقر دارهم وهناك يبدأ الدفاع، وسمّينا ذلك بالدفاع بمعناه العام، وقلنا بأنّ القرآن الكريم أشار إلى هذا الأمر من حيث الروح والمضمون في مثل قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ (الأنفال: 58)، وتفصيله في محلّه. ولعلّه لما قلناه ذكر بعض فقهاء المالكيّة أنّه لا تجب الدعوة إذا عاجل أهلُ البغي أهلَ العدل([23]).

لكن في مقابل ذلك كلّه، قد يطرح في الآية احتمال آخر، وهو أن لا يكون قوله: (فإن بغت) واقعاً بنحو الترتّب على قوله (فأصلحوا)، بل بنحو بيان الحالة المغايرة، بأن يكون المراد أنّه إذا تقاتلت طائفتان من المسلمين فالحكم هو الإصلاح، إلا في حال ما إذا كانت إحدى الطائفتين قد بغت على الأخرى فيجب مقاتلتها حينئذٍ.

إلا أنّ الإنصاف أنّ هذا المعنى غير ظاهر من الآية، ولو بقرينة التفريع بالفاء.

5 ـ 1 ـ اختصاص آية البغي بنزاع الجماعات دون الأفراد

الذي يبدو من ظاهر الآية الكريمة، انطلاقاً من تعبيرها عن الطرفين المتنازعين بـ (الطائفة)، أنها تتحدّث عن معركة بين جماعتين لا عن معركة فرد مسلم مع آخر مثله، بحيث تشمل مطلق حالات الخلاف ولو الشخصي بين فردين اثنين من المسلمين، وإن قيل بالتعميم لسبب أو لآخر، وهذا ما يجعلها خاصّة بحالات صراع الجماعات ـ من دول وأحزاب وقوى وعشائر وقبائل ونحو ذلك ـ لا الأفراد، الأمر الذي يجعلها أكثر التصاقاً بباب الجهاد والأمن منها بباب العقوبات الجزائية والجنائية وأمثالها.

لكن، روي عن مجاهد أن نزول آية البغي كان في رجلين([24])، وهو خلاف الظاهر من الآية، كما هو واضح، ولعلّه أراد أنّ بداية الاختلاف كانت بين رجلين، كما ستأتي الإشارة لذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ عند الحديث عن أسباب نزولها.

نعم، الآية اللاحقة: ﴿إنَّمَا المُؤْمِنُوْنَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوْا بَيْنَ أخَوَيْكُم...﴾، تفيد إطلاق وجوب الصلح بين مطلق الأخوين دون اختصاص بالجماعتين المتقاتلتين، ففيها توسعة مقارنةً بآية البغي نفسها، وقد ألمح إلى هذا الأمر ـ في الجملة ـ الفخر الرازي (606هـ)([25]).

 

6 ـ 1 ـ عدم إنتاج البغي للكفر، وشمول الآية لمطلق المسلمين

الظاهر أنّ المراد بالمؤمنين في الآية مطلق المسلمين؛ لأن ظاهر هذا الوصف في القرآن ذلك، وإطلاق وصف الإيمان والمؤمن على‌ خصوص الشيعي الاثني عشري أمر لاحق إذا تمّ؛ ولهذا لا تختصّ الآية بمحاربة طوائف من المذهب الخاص، بل تعم تمام فرق المسلمين فيما بينهم.

وهذا ما نراه في تمام الآيات القرآنية، مثل آية النهي عن غيبة المؤمن بقرينة جعل المؤمنين إخوةً في آيات لاحقة، مما يجعل إخراج المخالف بحاجة إلى دليل أو إلى اعتباره كافراً من رأس.

وثمة بحث هنا وقع بينهم، وهو أنّ غير واحدٍ من فقهاء الشيعة اعتبر الخارج عن الإمام المعصوم كافراً([26])، فيما تذهب الطوائف السنّية إلى اعتباره مسلماً فاسقاً غير خارج عن حدّ الإيمان([27])، بل رأى بعض الشافعيّة أنّه لا يندرج بالضرورة في عنوان الفسق فضلاً عن عنوان الكفر، فلا يكون البغي عندهم اسم ذمّ من الأساس، إذ قد يكون اسماً لمن اجتهد فأخطأ([28])، ولكي يكون الباغي فاسقاً عندهم يجب أن تضاف إليه خصوصيّة كأن يكون من الخوارج أو من أهل البدع، يقول ابن قدامة: mالبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين، وإنما هم يخطئون في تأويلهم، والإمام وأهل العدل مصيبون في قتالهم، فهم جميعاً كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام، من شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلاً، وهذا قول الشافعي، ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافاً، فأما الخوارج وأهل البدع إذا خرجوا على الإمام فلا تقبل شهادتهم؛ لأنهم فساق. وقال أبو حنيفة يفسقون بالبغي وخروجهم على الإمام، ولكن تقبل شهادتهم؛ لأنّ فسقهم من جهة الدين فلا تردّ به الشهادة، وقد قبل شهادة الكفار بعضهم على بعضn([29]).

وطبقاً للتفسير السنّي، لا مشكلة في إطلاق وصف المؤمنين على الطائفتين معاً، لإمكان كون الإمام والخارجين عليه مؤمنين عندهم، أما عند بعض فقهاء الإمامية فلابدّ من تقديم افتراض إضافي لتفسير الموقف، وفي هذا الصدد ذكرت حلول ثلاثة هي:

1 ـ افتراض أن توصيفهم بالمؤمنين كان بلحاظ حالة ما قبل البغي لا ما بعده، وهذا جائز بنظام المجاز في اللغة العربية حيث يوصف الشيء باعتبار ما سبق بوصف لا يصدق عليه في المرحلة اللاحقة صدقاً حقيقيّاً.

2 ـ إنّ هذا التوصيف كان بناءً على ظاهرهم؛ إذ ظاهر حالهم أنّهم مؤمنون فتمّ التعامل مع ظاهر الحال هذا وأطلق الوصف بلحاظه.

3 ـ إنّ هذا التوصيف كان على أساس ما يعتقده البغاة في أنفسهم، حيث يعتقدون بأنّهم مؤمنون، فتم إطلاق الوصف عليهم تنـزّلاً على ما يعتقدون([30]).

وهذه التأويلات غير صحيحة، ولعلّه لعدم صحّتها لم يدرج المقداد السيوري هذه الآية في أحكام أهل البغي على الإمام، بل جعلها خاصّة بالبغي بين المؤمنين([31])، وهو غير صحيح؛ لمخالفته إطلاق الآية بلا موجب كما سيظهر، وحاصل الوجه في عدم صحّة هذه التأويلات:

أولاً: إنّ الآية ـ كما قلنا ـ لا تتحدّث عن البغي المصطلح فقط، بل عن مطلق صراعات المسلمين مع بعضهم بما في ذلك الصراع مع الإمام العادل غير المعصوم، وعليه فإذا كان المراد من المؤمنين إطلاق الوصف بلحاظ ما كان، أو بلحاظ الظاهر، أو بلحاظ اعتقادهم، فيما لو كان الطرفان هما: السلطة الشرعية المعصومة والمعارضة المتمرّدة، وإطلاقه على معناه الحقيقي في سائر موارد البغي الأخرى، فإنّ هذا يكون من استعمال اللفظ وإرادة معنيين، وهو ـ بقطع النظر عن استحالته طبق ما بحثوه في علم أصول الفقه ـ خلاف الظاهر عرفاً.

نعم، أصل الإطلاق بلحاظ ما كان لا مانع منه، كما يقال: لو ارتدّ مؤمن وجب قتله كما يقول الشيخ الطوسي([32])، وإن كان هناك بعض الفرق.

من هنا، يظهر أنّ ما ذكره السيد علي الطباطبائي (1231هـ) من أنّ المجازات المشار إليها جيدة ولو كانت على خلاف الأصل، عملاً ببعض الروايات الضعيفة السند لكنها مدعومة بالشهرة([33])، غير وجيه؛ لأنّ ذلك يستدعي هدر البيان القرآني برواية ضعيفة السند ـ وهي رواية الأسياف القادمة بعون الله ـ بلا موجب، بل الأولى جعل بلاغة الآية دليلاً على تضعيف تلك الرواية، وسوف نرى أنّ بعض الروايات جعلت المستند في فقه أهل البغي هو هذه الآية الكريمة، فيفترض تقييد الروايات بمفاد الآية لا العكس على تقدير تساوي النسبة، وذلك بأن نقول: إنّه لا توجد بأيدينا رواية صحيحة السند تدلّ على كفر الباغي بعنوانه، ومعه فتكون الروايات المعتمدة هنا هي الدالة على كفر الناصب بدعوى شمولها للباغي المتحقّق فيه النصب، فيقع التعارض بين روايات الناصب والآية الكريمة الدالّة بإطلاقها على إيمان الباغي، ولا معنى لتقديم روايات النصب؛ لأنّ التعارض حينئذٍ بالعموم والخصوص من وجه، فليس كلّ ناصب باغٍ، وليس كل باغ بناصب العداء للإمام؛ لصدق البغي بين المؤمنين دون دخول الإمام طرفاً فيه، ومع كون التعارض بالعموم والخصوص من وجه يلتزم بتقديم الدلالة القرآنية؛ لأنّه من التعارض المستقرّ الذي تشمله أخبار العرض على الكتاب، وحيث إنّ ظاهرها عدم تفوّه أهل البيت بما يعارض الكتاب يلتزم بعدم إرادة البغي من النصب، وهذا ما يرجّح وجهة نظر أمثال السيد الخميني الآتية، وحتى لو لم نلتزم بتقديم النصّ الكتابي هنا على عموم روايات الناصب، فلابد من الالتزام بالتساقط في مادّة الاجتماع وفق القاعدة في باب التعارض، وبتساقط دلالة الآية وأخبار النصب يرجع إلى العمومات الفوقانية في تحديد الإسلام بالنطق بالشهادتين، أو يرجع على تقدير عدم وجود عام فوقاني إلى استصحاب إسلام الباغي الذي كان ثابتاً له قبل البغي، ما لم يلتزم بوجود عام فوقاني آخر وهو كفر مطلق المخالف، وتفصيله في محلّه.

ثانياً: قد يتبنّى هنا رأي بعض الفقهاء في النواصب([34]) وأنهم فرقة‌ دينية، ومن ثم ليس كل من حارب ونصب العداء ـ ولو لسبب دنيوي ـ يكون كافراً، بل خصوص من نصبه اعتقاداً وإيماناً، بحيث كان نصبه العداء لأهل البيت جزءاً من عقيدته الدينية، لا لمصالح سياسية، من هنا فعائشة أم المؤمنين وكذا طلحة والزبير ومعاوية و... لا يحكم بكفرهم من هذه الزاوية، لأنهم ما جعلوا نصبهم العداء عن عقيدة وديانة، بل ـ وفق العقيدة الشيعية ـ عن مصالح دنيوية أو رغبات مادية أو مواقف سياسية، فلا يحكم بكفر مثل هذا الشخص، وفقاً لهذه النظرية.

ويبدو أنّ الموقف الشيعي فيه قولٌ بعدم الحكم بكفر الباغي ولو في الجملة؛ فقد أشار الشيخ الطوسي إلى ذلك بقوله: mالباغي: من خرج على إمام عادل، وقاتله، ومنع تسليم الحقّ إليه، وهو اسم ذم. وفي أصحابنا من يقول: إنه كافرn([35])، وقال العلامة الحلي: mأهل البغي فساق، وبعضهم كفار، فلا تقبل شهادتهم وإن كان عدلاً في مذهبه، سواء شهد لهم أو عليهم، وسواء كان على طريق التدين أو لا على وجه التديّنn([36])، إلا إذا أراد الأخير المفهوم العام للبغي.

والمرجع في الخلاف هنا يكمن في تعريف مفهوم النصب، فمن أخذ مطلق العداوة في النصب أدخل الباغي على الإمام في هذا العنوان الذي ثبت عنده في المرحلة السابقة أنّه كافر، وتكون النسبة حينئذٍ بين العنوانين هي العموم والخصوص المطلق، وأمّا من أخذ في النصب الاعتقاد بالعداوة تديّناً كان من الطبيعي أن تكون النسبة عنده بين الباغي على الإمام والناصب له العداء هي العموم والخصوص من وجه، ومن ثم لا يكون عنوان البغي بنفسه موجباً للكفر.

وقد ذكر السيد الحكيم أنّ المقدار المتيقن من معقد الإجماع الشيعي في النصب هو النصب لعلي× مع تديّن بذلك([37])، كما تعقّل السيد محمد باقر الصدر وجود الخارج على الإمام بدون بغض([38])، وتفصيل هذا البحث في محلّه فلا نطيل.

ثالثاً: إنّ الآية اللاحقة نفسها حكمت بأخوّة الجميع؛ ورتبت عليها وجوب الإصلاح بينهم، وهذا معناه أنّها تلاحظ حالهم بعد الاقتتال، وتحكم بالأخوّة في هذه الحال، وهو خُلْفُ فرض كفر هذا الفريق، إذ كان المناسب التعبير بالارتداد عن الدين، وهذا شاهد قويّ على عدم كفر مطلق الباغي.

7 ـ 1 ـ اختصاص البغي بالخلاف المسلّح دون الخلاف السلمي

الظاهر من الآية الشريفة أنّ حالة البغي ـ كما يقول الشيخ الآصفي([39]) ـ حالة مسلّحة، وليست مطلق حالة اختلاف بين الجماعتين المؤمنتين، والشاهد على ذلك التعبير بـ«فقاتلوا» ولم يقل: «فاقتلوا» أو غير ذلك، فإنّه لو لم تكن هناك حالة منعة لدى الطرف الباغي لما صحّ التعبير بالمقاتلة، بل لعبّر عنه بإيقاع الجزاء عليه كالقتل، تماماً كالمحاربين الذين حكمت الآيات بلزوم قتلهم، وهذا ما يدخل البحث هنا في إطار المعارضة المسلّحة للنظام الشرعي ـ عندما يكون الحديث عن انطباق مفهوم البغي على موضوع المعارضة ـ لا المعارضة السلمية وما شابهها. وهذا معناه أنّ مجرد عدم اعتقاد بعض المسلمين بإمامة هذا الحاكم الشرعي أو ذاك، وعدم انصياعها له بمبايعته ـ حتى لو لم يكن حلالاً ـ لا يندرج في البغي ما لم تعلن هذه الجماعة الخروج المسلّح عليه لتواجهه، كما صرّح بذلك بعضهم، معززاً ذلك بقوله: mويدلّ له ما ثبت من قول علي ـ رضي الله عنه ـ للخوارج: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً، ولا تقطعوا سبيلاً، ولا تظلموا أحداً، فإن فعلتم نفذت إليكم بالحرب. وهذا ثابت عنه بألفاظ مختلفة. أخرجه أحمد والطبراني والحاكم من طريق عبد الله بن شداد. قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرامn([40]).

وهذا ما يجعل الشروط الثلاثة التي ذكرها بعضهم ـ وستأتي ـ مفهومة؛ حيث شرطوا في تحقق مفهوم البغي أن يكون الباغي متمرّداً على سلطة الدولة، وقد ناقشنا هذا الكلام من حيث تخصيص البغي به، وأن يكون له قوّة تمنعه وتمكّنه وتحميه، وأن يمارس خروجاً مسلحّاً([41]).

وعليه، فما ذكره بعض العلماء من شمول الآية لمطلق الخلافات حتى غير القتالية([42]) غير واضح، وربما يقصد ما يرجع لروح الآية من حيث مسألة الإصلاح، كما يلوح من كلامه. ومن الطبيعي أنّه لا يقصد بالسلاح نوعاً خاصّاً منه بل مطلق حالة التقوّي والمواجهة بمختلف أشكالها.

 

8 ـ 1 ـ الإصلاح المتعقّب لقتال الفئة الباغية

لقد ورد في الآية الكريمة فرضان هما:

الأول: أن تقتتل طائفتان من المؤمنين، والحكم هنا هو المصالحة بينهما والوفاق.

الثاني: أن يحصل بغي من إحدى الطائفتين على الأخرى، فيجب المقاتلة، وهو ظاهر ـ كما يقول الشيخ الآصفي([43]) ـ في مشاركة الفريق المحايد المصلح في الحرب لصدّ البغي عن الطائفة التي معها الحق، وقد ذكر هنا أنه بعد الفيء يجب الإصلاح أيضاً، فيكون المراد بالفيء الكفّ عن القتال والرجوع عنه،‌ لكنّ الإصلاح اللاحق هذا شُرط في الآية بالعدل، ولعلّه لكون الطرف المصلح قد شارك في القتال هذه المرّة بنفسه، فيترقب منه الخروج عن جادة الحياد والموضوعية، وفي الآية قيم أخلاقية عالية في التعامل مع الفريق الآخر المسلم الذي نختلف معه.

 

9 ـ 1 ـ دراسة في أسباب نزول آية البغي، معطيات واستنتاجات

ذهب العلماء المسلمون في سبب نزول آية البغي مذاهب، أبرزها:

أ ـ إنّ الآية نزلت في الأوس والخزرج، تقاتلا بالسعف والنعال، وهذا هو المرويّ عن مجاهد وسعيد بن جبير([44])، والآية تحتمل هذا الافتراض؛ لأنّ الأوس والخزرج كانوا مؤمنين في المدينة، والسورة ـ أي الحجرات ـ مدنية، ولعلّه إليه يشير ما قيل من أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار([45]).

ب ـ إنها نزلت في رهط عبدالله بن أبي سلول من الخزرج ورهطٍ لعبد الله بن رواحة من الأوس، وسبب ذلك أن النبي| وقف على ‌عبدالله بن أبيّ، فراث حمار رسول الله، فأمسك عبدالله أنفه، وقال: إليك عني، فقال عبدالله بن رواحة: لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك ومن أبيك، فغضب قومه، وأعان ابن رواحة قومه، وتضارب الفريقان([46])، وهناك رواية أخرى تشبهها مع اختلافات خفيفة جاءت في مصادر السيرة والحديث والتفسير([47]).

وهذه الرواية في سبب النزول لا تختلف مع الرواية السابقة، غاية الأمر أنّها تدخل أكثر منها في تفاصيل الأحداث التي وقعت، وذلك أنّ الرواية الثانية ترجع إلى تقاتل الأوس والخزرج أيضاً.

وقد تحفظ العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان على هذا السبب، وقال بأن الآية لا تنسجم معه دون أن يبيّن مبرّر عدم الانسجام([48])، إلا أن الشيخ الآصفي الذي وافقه بيّن ذلك، من خلال أنّ الآية تضفي صفة الإيمان على المقتتلين، مع أنّ عبدالله بن أبيّ وجماعته كانوا منافقين، فلا يصحّ إطلاق لفظ الإيمان عليهم، حتى طبق المجازات التي سلف الحديث عنها([49]).

لكنّ هذه الملاحظة غير واضحة؛ فإنّ الرواية لا تحكي عن أنّ الجماعة التي وقفت معه كانوا منافقين أيضاً، إذ لعلّهم كانوا مؤمنين حرّكتهم العصبية القبلية معه لا غير، لا بغضاً برسول الله، تماماً كما توحيه بعض الأخبار المتقدّمة، ومن ثم وإن كان سبب الحرب شخصاً منافقاً إلا أنّ أطراف القتال كانوا من المسلمين.

ومن الواضح أنّ روايات أسباب النزول هنا لا تحكي أيٌّ منها عن معارضة مسلّحة مع السلطة الشرعية للدولة الإسلامية، وهذا ما يعزّز أكثر فأكثر المفهوم الواسع للبغي كما طرحناه فيما تقدّم.

والنتيجة التي نخرج بها من مطالعة الآية الكريمة هي دلالتها على حكم جهاد أهل البغي بالمفهوم العام للبغي، وذلك ضمن مسلسل الخطوات والغايات التي طرحتها، فالاستدلال بهذه الآية على جهاد أهل البغي تام، كما هو تام على مبدأ الإصلاح بين المسلمين.

 

2 ـ السنّة الشريفة والموقف من أهل البغي

تحدّثت نصوص السنّة الشريفة عن الموقف من أهل البغي، تماماً كما جاء في القرآن الكريم، ووردت في هذا الصدد روايات عديدة نشير إلى أهمّها فيما يلي:

1ـ خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه قال: mذكرت الحرورية عند علي× فقال: إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم؛ فإنّ لهم في ذلك مقالاً»([50]).

والرواية تميّز في الخروج بين الخروج على إمام عادل ـ أي السلطة الشرعية ـ وإمام جائر غير شرعي، فتأمر بمقاتلة الخارج على الإمام العادل وتنهى عن مقاتلة غيره، وهي واضحة الدلالة على وجوب قتال البغاة. كما أنّ في الرواية إضافة «الخروج على جماعة»، وهذا يحتمل الخروج على جماعة عادلة ولو لم يكن الإمام منهم، أو يكون المراد شقّ عصا المسلمين والخروج على كلمتهم بقطع النظر عن الإمام، على أساس افتراض أنّ هناك سقطاً للألف واللام من كلمة (جماعة) بحيث لولاه لدلّت على جماعة المسلمين. نعم في علل الشرائع تعبير: mإن خرجوا مع جماعة أو على إمام عادل..n، ولكن يبدو أن في النص تصحيفاً بالتقديم والتأخير؛ لأنّ الخروج مع جماعة لا خصوصيّة فيه هنا، إلا أن يكون المراد أنّ عندهم من يرجعون إليه بعد الحرب، كما سيأتي الحديث عنه في شروط أهل البغي.

ولا إشارة في الرواية إلى لزوم أخذ العصمة في الإمام الذي يخرج عليه الباغي، فإنها شرطت العدالة، أي أن لا يظلم، وقد أشرنا في مباحث أخرى إلى أنّ المنصرف عند وصف الإمام بالعادل هو أن يكون شرعيّاً غير ظالم ولا جائر، فالخروج على الحاكم الشرعي العادل ـ سواء كان فقيهاً أم غيره تبعاً لنظرية الباحث في الفقه السياسي الإسلامي ـ يشمله إطلاق هذه الرواية.

والنقطة الإضافيّة في الرواية أنّها حالت دون مقاتلة البغاة عندما يخرجون على إمام جائر، معلّلةً ذلك بأنّ لهم في ذلك مقالاً، وهذا التعليل إما أن يراد به أنّ مقالتهم صحيحة فلا يحقّ قتالهم لمقاتلتهم من يجوز قتاله، مع أنّه لا إشارة في الرواية إلى صحّة مقالتهم، وإمّا أنّ مقاتلة الظالم ولو عن خطئ واشتباه لكن عن نظرية واجتهاد، لا يبرّر لمن ليست لديه نظريّة تجوّز مقاتلة هذا الظالم أن يقاتل الثائرين عليه، فكأنّ الرواية تريد أن تمنع عن مقاتلة الخارجين على الظالم عن اجتهاد ومقالة، حتى لو كان خروجهم هذا في نفسه غير صحيح، بل الحياد حينئذِ هو المطلوب أو السعي للصلح، لا الوقوف مع الظالم ضدّهم.

ويبقى أمرٌ واحد في هذه الرواية، وهو احتمال اختصاص الحكم الوارد فيها بالحرورية الخوارج؛ لأنّ الحديث كان عنهم؛ فكيف لنا التعميم لمطلق خارج أو باغٍ ولو كان من غيرهم؟! فإن تمكّن الفقيه هنا من إلغاء الخصوصيّة تمّ الاستناد إلى هذه الرواية، وإلا أشكل ذلك من الناحية الاستدلاليّة.

هذا، والرواية من حيث السند تامة على المعروف، لا نقاش فيها، وإن كان لنا تحفّظ استعرضناه في موضعه في وثاقة السكونيّ نفسه.

2 ـ خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه^، قال: «ما فرغ أمير المؤمنين× من أهل النهروان، فقال: لا يقاتلهم بعدي إلا من هم أولى بالحق منه (من هو أولى بالحق منهم)»([51]).

والنسخة الصحيحة هي التي جعلت على هامش مخطوط كتاب mتفصيل وسائل الشيعةn، ووضعناها بين القوسين؛ لأنها المنسجمة مع المعنى، وهي تنهى عن أن يقاتل الخوارج إلاّ من هو أقرب إلى الحقّ منهم، أي المؤمنين، في إشارة إلى أنه ليس المطلوب قتالهم كيف كان، بل أن يقاتلهم أصحاب الحقّ.

لكن الرواية لا دلالة فيها على وجوب قتال البغاة، كما أنّه من المحتمل أن تكون خاصّة بوضع الخوارج أيام علي×، لاسيما مع وجود روايات أخرى بهذا المضمون في الخوارج، لكي لا تسمح للمسلمين أن يقاتلوهم دون أن تكون الفئة الأقرب إلى الحقّ هي المتولّية لهذا الأمر، كي لا يفسح في المجال لمن شاء أن يواصل الحرب الداخلية بين المسلمين، مضافاً إلى عدم اشتراطها في البغي معارضة المعصوم ولا سائر الشروط التي ذكروها في أحكام البغاة.

هذا، والرواية من حيث السند ضعيفة عندنا بالنوفلي.

وفي سياق هذه الرواية، يأتي الخبر المرسل عن أمير المؤمنين× أنّه قال: «لا تقتلوا الخوارج بعدي؛ فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه»([52]).

وقد تردّد هذا الخبر بتعبير «تقاتلوا الخوارج بعدي»، لا تقتلوا، ونسب إلى نهج البلاغة([53]).

وهذه الرواية:

أولاً: ضعيفة السند بالإرسال، بكل صيغها؛ فلا يحتجّ بها مستقلاً، ومجرّد ورودها في نهج البلاغة لا يصحّحها من الناحية الصدوريّة.

ثانياً: إنها مخالفة لدلالة القرآن الإطلاقية في آية البغي، إذ لو حرم مقاتلة الخوارج بعده، وهم بغاة لكان ذلك منافياً للآية الكريمة الآمرة بقتال البغاة في كل عصر وزمان كما ذكرنا لدى البحث عنها، ولا يبدو أنّ هناك احتمالاً في التخصيص، فهل يجوز ترك الفئة التي كانت تمارس القتل والبطش، لاسيما ما هو معروف عن بعض الخوارج في هذا المجال تاريخياً؟!

وقد حاول الشيخ النجفي تفسير الرواية ابتداءً بأنّ معناها تنقيح موضوع البغاة كي تجري عليهم الأحكام والتثبت في هذا الأمر، وإلا فقد يجب قتلهم من باب كونهم محاربين أو ما شابه([54]). وذكر السيد الكلبايكاني أنّ هذه الرواية وأمثالها واردة على مستوى العنوان الثانوي، كخوف وقوع الفتن ومثل ذلك، لا العنوان الأولي([55]). أما العلامة المجلسي فقد طرح احتمالاً في المقام رأى فيه أنّ النهي عن قتل الخوارج إنما كان بهدف إعطاء الأولوية لمحاربة معاوية الذي لم يكن قتاله لعلي عن شبهة وإنما عناد، فأولوية الجهاد كانت على خطّ معاوية لا الخوارج([56])، وهذا التفسير يمكن أن يجعل تطبيقاً للقاعدة التي وظفها السيد الكلبايكاني هنا.

وقد نجد بعض من يقول: إنّ مقاتلة الخوارج نصرٌ لمعاوية؛ لأنهم كانوا أعداءه، فتكون مجاهدتهم في مصلحته.

والذي نحتمله هو:

أ ـ إذا كانت صيغة الرواية «تقتلوا»، فلا علاقة لها بباب قتال البغاة، فهي تتحدّث عن قتل الخوارج أينما وجدوا، إما لانحرافهم، أو كردّ فعل على مقتل أمير المؤمنين، أو غير ذلك، فالإمام علّل العفو القضائي عنهم بنيّتهم الصادقة وإرادتهم الحقّ، غاية الأمر أنهم أخطؤوه، وتعبير القتل يختلف عن تعبير المقاتلة، فلا تكون الرواية كثيرة الارتباط ببحثنا، كما لا يظهر منها ما ينافي الدلالة الإطلاقية في الآية الكريمة.

ب ـ أما إذا كانت صيغة الرواية «تقاتلوا»، فالأرجح في الاحتمال أن يكون الحكم زمنياً تاريخياً لمصالح واعتبارات آنية، قد تكون بعض ما نقلناه عن بعضهم، وقد تكون غير ذلك، ولا ندري؛ وذلك أن التعليل الذي ذكره الإمام للنهي عن مقاتلتهم يشمل زمان حياته أيضاً، فلماذا قاتلهم مع أنّ المفروض هو العدم؟! وإذا كانت هناك خصوصيّة له من حيث كونه معصوماً فالمفروض أنّ الإمام الحسن× كان هو الخليفة بعده، فما الفرق بين الأمرين؟! إنّ هذا ما يكشف عن وجود عنوان ما في تلك الظروف نحتمله ولا نجزم بتعيينه.

والمستنتج من هذا النوع من المرويات أنّه ذو طابع تاريخي لو ثبت صدوره عن أهل البيت^، ومن ثم يصعب الخروج بنتيجة كليّة منه.

3 ـ خبر إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله×: «مال الناصب وكل شيء يملكه حلال إلا امرأته، فإن نكاح أهل الشرك جائز، وذلك أنّ رسول الله| قال: لا تسبوّا أهل الشرك؛ فإن لكلّ قوم نكاحاً، ولولا أنّا نخاف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم، والرجل منكم خير من ألف (رجل) منهم، (ومائة ألف منهم)، لأمرناكم بالقتل لهم، ولكنّ ذلك إلى الإمام»([57]).

والرواية ـ من جهة بحثنا ـ تشير إلى نقطتين: إحداهما مشكلة حجم الخسائر في قتال النواصب حيث تأخذ هذا الحجم بعين الاعتبار، والثانية: إحالة الموضوع إلى الإمام ـ إمام المسلمين ـ لا إلى آحادهم، لكي يبتّ في ذلك.

إلا أنّه يسجّل على الاستدلال بهذه الرواية التي أوردها الحرّ العاملي في باب «حكم قتال البغاة» أنه ليس فيها إشارة إلى البغاة، بل حديثها عن النواصب، وصدورها كان في عصر الإمام الصادق×، ولم يكن مبسوط اليد حتى يخرج النواصب عليه خروجاً مسلّحاً، وليس كل عداء للإمام× في الموقف والعقيدة معناه صدق عنوان البغاة، بل لعلّ الأمر بقتلهم كان لكفرهم بين المسلمين، لا لخروجهم عن الإمام العادل، والذي يؤكّد لنا أن الموضوع غير تابع لمسألة الجهاد والمقاتلة أنّ الإمام قال: «لأمرناكم بالقتل لهم»، ولم يقل: بقتالهم أو مقاتلتهم، أي لولا الخوف من التأثير السلبي لتصفيتهم لأمرناكم بتصفيتهم وقتلهم، ولو فرداً فرداً، لا حرباً ولا غزاة. وهذا كلّه يشكّكنا في ربط الرواية بباب جهاد أهل البغي، ولا اشتراط للعصمة فيها أيضاً؛ لأنّ كلمة الإمام لا انصراف فيها للمعصوم، بل هي بحاجة إلى قرينة كما حقّقناه في محلّه، وفاقاً لبعض الفقهاء المعاصرين من أمثال السيد كاظم الحائري.

هذا، والرواية ضعيفة السند بالإرسال؛ فإنّ أحمد بن محمد بن عيسى رواها عن «بعض أصحابنا»، عن محمد بن عبد الله، فتكون مرسلةً لا يحتجّ بها، ومراسيل ابن عيسى لا يؤخذ بها، إذ لم تصحّ عندنا نظرية وثاقة كلّ مشايخه.

4 ـ خبر محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جدّه، أنّ النبي| قال له: «يا علي! إنّ الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي، كما كتب عليهم جهاد المشركين معي، فقلت: يا رسول الله، وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله، وهم مخالفون لسنّتي وطاعنون في ديني، فقلت: فعلام نقاتلهم يا رسول الله، وهم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله؟! فقال: على إحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي..»([58]).

وذكر قريب هذه الرواية عن الإمام علي× أبو بكر ابن مردويه الإصفهاني الحافظ (410هـ)، فقال: عن علي، قال: mلما نزلت هذه السورة على النبي| (إذا جاء نصر الله والفتح) أرسل النبي ـ | ـ إلى علي فقال: يا علي! إنه قد جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبحت ربّي بحمده واستغفرت ربي إنه كان تواباً، إنّ الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي، قالوا: يا رسول الله! وكيف نقاتلهم وهم يقولون قد آمنّا؟ قال: على إحداثهم في دينهم، وهلك المحدثون في دين اللهn([59]).

وهي صريحة بقرينة «كتبn والمقارنة مع جهاد المشركين، بوجوب جهاد هذه الطائفة التي تصرّح الرواية بإسلامها، لكنّ الرواية لا تشير إلى البغي بمعنى الخروج على الإمام، إلاّ من حيث الحديث عن استحلال دماء العترة، وهو لوحده ليس بدالّ، فلعلّ الغرض منها قتال أهل البدع الذين يقتلون المسلمين ويحلّلون قتلهم ـ على طريقة بعض الخوارج ـ فلا يرعون لهم حرمةً، فيجب مجاهدتهم لخروجهم على جماعة المسلمين حينئذٍ واعتدائهم عليهم.

قال بعض الفقهاء المعاصرين: mوعدم اختصاص هذا الخبر بالباغي على الإمام مستقيماً، وشموله لحكّام الجور في هذا الزمان، الذين يبدعون في الدين ويخالفون المجتهدين ويغيّرون أحكام الله، واضحٌ لا سترة عليهn([60]).

وحتى لو تمّت الرواية في الحصر بمواجهة أهل البيت فهي لا تنفي المعنى الواسع للبغي ولا تقيّد إطلاق الآية الكريمة وبعض النصوص، لكونهما مثبتين ولا وجه للتقييد بينهما.

وعلى أية حال، فالرواية ضعيفة السند، لا أقلّ بعلي بن صالح المكّي المجهول([61])، كما أنّ سندها في مصادر أهل السنّة ضعيف أيضاً؛ فإنّ مصدر الحديث هو ابن مردويه الإصفهاني (410هـ) وقد ذكر هذا الحديث بلا سند، كما تمّ التصريح بضعف السند في كتب أهل السنّة أيضاً([62]).

5 ـ رواية مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه: «أن علياً× لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك، ولا إلى النفاق، ولكنّه كان يقول: هم إخواننا بغوا علينا»([63]).

والرواية صريحة في اعتبار من حاربهم× بغاةً، بغوا على الفريق المسلم فكانوا مصداقاً للآية الشريفة بامتياز، لورود التعبير بالبغي فيها، مضافاً إلى تنزيههم عن الشرك والنفاق، مما يؤكّد أن قتلهم كان لبغيهم لا لكفرهم أو ارتدادهم.

وقد حمل الحرّ العاملي([64]) وجماعة هذه الرواية على التقية؛ لعدم جعلها البغاة على علي× مشركين أو منافقين، وقد لا تكون هناك ضرورة لذلك على مثل ما قلناه سابقاً، وقد ذكر المحقق النجفي (1266هـ) ترتّب أحكام المسلمين على البغاة في زمن الهدنة([65])، مثلهم مثل سائر المسلمين من غير الإمامية على رأي بعض الفقهاء مثل السيد الخوئي([66])، وبهذه الطريقة أنكر الشيخ المنتظري (1431هـ) الحمل على التقيّة هنا؛ لأجل تعامل الإمام علي % معهم معاملة المسلمين([67]).

وظاهر الرواية إثبات الأخوّة لهم، لا إثبات آثارها الدنيوية ـ للضرورة ـ مع عدم ثبوتها حقيقةً؛ فلسانها لا يسمح بمثل هذا التأويل.

والرواية من حيث السند تامة؛ حيث رواها الحميري، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، وكلّهم ثقات، وقد وردت بعض الروايات المتقاربة في المضمون مع هذه الرواية في مصادر عدّة للمذاهب المختلفة للمسلمين([68]).

لكنّ الشيخ المفيد رفض هذه الرواية وقال: mهذا خبر شاذ، لم يأت به التواتر من الأخبار، ولا أجمع على صحّته رواة الآثار، وقد قابله ما هو أشهر منهn([69]).

لكنّنا لم نجد ما يقابله بعد دلالة الآية والرواية، وقضيّة الناصب غير ظاهرة كما قلنا فيما سبق.

6 ـ خبر أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي×، أنه قال: «والقتال قتالان: قتال الفئة الباغية حتى يفيئوا، وقتال الفئة الكافرة حتى يسلموا»([70]).

والرواية واضحة في جعل قتال البغاة إلى جانب قتال الكفار، ولا إشارة فيها إلى شرط الخروج على المعصوم أو حتى مطلق السلطة الشرعيّة، بل هي مطلقة كالآية الكريمة، كما جعلت منتهى الحرب الفيء فيها، كما في الآية، ومقابلتها جهاد البغاة مع جهاد الكفار ربما يوحي بعدم كفر البغاة. لكنّ الرواية ضعيفة السند بأبي البختري.

7 ـ خبر حفص بن غياث ـ المعروف برواية الأسياف ـ عن أبي عبد الله× قال: mسأل رجل أبي× عن حروب أمير المؤمنين×، وكان السائل من محبّينا، فقال له أبو جعفر×: بعث الله محمداً| بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة.. وسيف منها مكفوف (ملفوف)، وسيف منها مغمود، سلّه إلى غيرنا، وحكمه إلينا... وأما السيف المكفوف، فسيف على أهل البغي والتأويل، قال الله عز وجل: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله|: إنّ منكم من يقاتل من بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبي|: من هو؟ فقال: خاصف النعل ـ يعني أمير المؤمنين× ـ ... وأما السيف المغمود، فالسيف الذي يقوم (يقام) به القصاص..»([71]).

فهذه الرواية صريحة في أنّ سيف البغي من السيوف التي بعث بها رسول الله|، وأنه جزء من الديانة الإسلامية، كما تمسّكت الرواية بالآية وطبّقتها، فلم يكن فيها ما يزيد عليها.

إلا أن مشكلة هذا الخبر هو ضعفه السندي، فقد ورد مرسلاً في تحف العقول وتفسير العياشي، وفي باقي المصادر ورد مسنداً بأسانيد ترجع جميعها إلى القاسم بن محمد، وهو اسم مشترك ـ بدواً ـ بين عشرين شخصاً، إلاّ أنه بعد تحليل الراوي والمروي عنه، لاحظنا أنّ الذي روى عنه علي بن محمد القاساني وإبراهيم بن هاشم، الواردين في سند هذه الرواية، مردّد بين اثنين، هما: القاسم بن محمد الإصفهاني القمي، والقاسم بن محمد الجوهري، بل إن سعد بن عبد الله الذي روى هذه الرواية عن القاسم بن محمد لم نجد له رواية عن القاسم بن محمد الجوهري، مما يقوّي احتمال أن يكون المراد بالقاسم بن محمد هنا هو الإصفهاني، ولا أقلّ من التردّد.

أما القاسم بن محمد الإصفهاني القمّي فضعّفه النجاشي، وقال عنه: لم يكن بالمرضي، كما ضعّفه ابن داوود والغضائري، ولم يرد توثيق له، ولم يرد في أسانيد مثل: كامل الزيارة، وتفسير القمي، و.. فيكون ضعيفاً. وأما القاسم بن محمد الجوهري فوثق على أساس كثرة روايته، ورواية الأجلاء عنه، ورواية بعض الثلاثة عنه، كابن أبي عمير، وتوثيق ابن داوود له، ووروده في أسانيد كامل الزيارة([72]).

ولو سلّمنا بصحّة هذه الأسس الرجالية ـ والمفترض على الرأي الأخير للسيد الخوئي عدم توثيقه ـ يقع الاشتراك؛ فإذا لم نقل بأنّ الأرجح في هذه الرواية أن يكون الإصفهاني المضعّف؛ لأنه روى عنه هنا سعد بن عبد الله، ولم يعثر على رواية له عن الجوهري، فتكون الرواية ضعيفة، فلا أقلّ من التردّد الشديد، مع عدم إمكان التمييز؛ ممّا يسقط الرواية أيضاً عن الاعتبار.

قد يقال: إن الرواية واردة في تفسير القمي فيكون القاسم بن محمد ـ أياً يكن ـ ثقةً على نظرية توثيق رجال تفسير القمي.

ويجاب عنه: بأنّ هذا يتم لولا تضعيف النجاشي للإصفهاني، فيتعارض تضعيفه مع توثيق القمي ـ على تقدير صحّة نظرية توثيق القمي، وليس الراوي هنا من المشايخ المباشرين ـ، فيتساقطان في الحدّ الأدنى، فيعود مجهولاً، فيتردّد السند بين مجهول وموثق، فيسقط عن الاعتبار أيضاً.

وعلى أيّة حال، فقد ورد في بعض الطرق أيضاً علي بن محمد القاساني المجهول، فلا يُستند إلى هذه الرواية، وتعدّد طرقها لا يصيّرها متواترة، لرجوعها بأكملها إلى القاسم بن محمد، عن سليمان بن داوود المنقري، عن حفص، فالخبر آحادي جزماً، ضعيف سنداً.

8 ـ صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن أبي الحسن الرضا×، قال: ذكر له رجل من بني فلان، فقال: إنما نخالفهم إذا كنّا مع هؤلاء الذين خرجوا بالكوفة فقال: mقاتلهم، فإنما ولد فلان مثل الترك والروم، وإنما هم ثغر من ثغور العدو فقاتلهم»([73]).

والرواية ـ بعد تمامية سندها ـ تفيد وجود فريق تحلّ مقاتلته ومجاهدته كمجاهدة الكفار، ولا معنى لهذا سوى مجاهدة أهل البغي، وإلا كان الخبر مجملاً.

9 ـ خبر الأصبغ بن نباتة، قال: جاء رجل إلى علي×، فقال: يا أمير المؤمنين! هؤلاء الذين نقاتلهم، الدعوة واحدة، والرسول واحد، والصلاة واحدة، والحج واحد، فبم نسمّيهم؟ فقال له أمير المؤمنين×: «سمّهم بما سمّاهم الله تعالى (به) في كتابه، فقال: ما كلّ ما في كتاب الله أعلمه، فقال: أما سمعت (سمعته تعالى) الله يقول في كتابه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا ... وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾. فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله عز وجل وبدينه، وبالنبي|، وبالكتاب، وبالحقّ، فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا، وشاء الله منّا قتلهم فقتلناهم (قتالهم فقاتلناهم) بمشيئته (وأمره) وإرادته»([74]).

وهذه الرواية تطبّق مفهوم الكفر على البغاة، ولعلّه لخصوصيّة خروجهم على الإمام المعصوم× فتوافق قول جماعة من فقهاء الشيعة بكفرهم، ولا يمكن تعميم هذه الرواية على غير من خرج عن المعصوم، وهي تدلّ على أمر الله بمقاتلتهم وإرادته ذلك.

إلا أن الرواية ضعيفة السند بعلي بن الحزور المهمل عند الإمامية([75])، وهو شيعي من متشيّعة الكوفة شديدي التشيع متروك ضعيف عند أهل السنّة، كما يذكر ذلك غير واحدٍ منهم كابن عدي وابن حجر([76])، وكذلك بيحيى بن يعلى الأسلمي الذي نصّ على عدم العلم به أحمد بن حنبل([77])، بل وصفه البخاري بمضطرب الحديث([78])، مع كونه مجهولاً تماماً في مصادر الرجال الشيعية، فالرواية لا يعتمد عليها، وإن رواها ابن مزاحم والطوسي والمفيد وأمثالهم؛ لأنّ تمام طرقها تنتهي إلى هذين الرجلين.

10 ـ خبر فرات بن إبراهيم الكوفي، عن الحسن بن علي بن بزيع، معنعناً عن أبي جعفر×، قال: mقال أمير المؤمنين×: يا معشر المسلمين! قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون، ثم قال: هؤلاء القوم ثمّ (هم) وربّ الكعبة، يعني أهل صفين والبصرة والخوارج»([79]).

وحال هذه الرواية كحال سابقتها في الدلالة، كما أن سندها ضعيف بالإرسال، وبجهالة الحسن بن علي بن بزيع أيضاً([80]). ونحو هذه الرواية مرسلتي العياشي عن حنان بن سدير وأبي الطفيل([81])، إلى غيرها من الروايات الضعيفة السند. علماً بأنّ روايات أحكامهم التفصيليّة من التعامل مع الجرحى والأسرى والمدبرين وغير ذلك كلّها تصلح لتأسيس مبدأ المواجهة مع أهل البغي.

والنتيجة التي نخرج بها من هذه الروايات:

أ ـ أغلبها ضعيف السند.

ب ـ إن معطياتها ـ فيما نحن فيه ـ لا تزيد على دلالة الآية الكريمة فيما أسّست له، فهي إما أعطت نفس المضمون أو طبقت مضمونها على هذه الحرب أو تلك.

ج ـ إن بعض هذه الروايات يصعب تعميمه لغير الخروج على الإمام، لكنّ الروايات الأخرى ـ كما الآية الشريفة ـ تشمل الخروج على الإمام المعصوم وغيره، ولم تثبت رواية تامة السند تدلّ على شرط العصمة في الإمام الذي يخرج البغاة عليه، وإذا كانت بعض الروايات لا إطلاق فيها، فهذا قصور في دلالة التعميم فيها، لا أنها تخصّص سائر الأدلّة.

د ـ إن خبر مسعدة بن زياد (الرواية الخامسة)، وهو صحيح السند، يؤيّد ما دلّت عليه الآية الكريمة من أنّ البغي لا يخرج الطرفين عن الإيمان والأخوّة بنفسه، ما لم يطرأ عنوان آخر، وهذا ما يدعم التفسير الذي ذكره أهل السنّة للآية الكريمة، كما مرّ سابقاً.

 

3 ـ سيرة الإمامين علي والحسن، وتكوين المستند الرئيس لفقه أهل البغي

يستند لإثبات أحكام جهاد البغاة إلى سيرة الإمام علي بن أبي طالب× في حروبه الداخلية الثلاثة، وكذلك إلى سيرة الإمام الحسن بن علي× في حربه مع معاوية ولو لفترة قصيرة، فإنّ هذه الحروب تشكّل دليلاً قاطعاً على وجوب مجاهدة البغاة، وإلا فهل يجوز زجّ المسلمين في دماء إلا إذا كان هناك واجب أعظم من حرمة سفك دماء المسلمين؟!

بل الذي يبدو من تضاعيف الفقه الإسلامي ومصادره القديمة أنّ التجربة العلوية شكّلت المصدر الرئيس لأحكام فقه البغاة([82])؛ فقد اعتقد بعض الفقهاء أنّ فقه أهل البغي لا يؤخذ من الآية الكريمة ولا من أكثر النصوص الحديثيّة المتقدّمة، وإنّما يعرف من سيرة الإمام علي بن أبي طالب في هذا المجال، بل قد نقل عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) أنّه كان يرى أنّ فقه أهل البغي لم نعرفه إلا من خلال سيرة الإمام علي، وهذا التفكيك يضعنا أمام صورة فقهية تكاد تتضح أكثر فأكثر، وهي أنّ لبعض الفقهاء ـ مثل السيد الخوئي ـ اصطلاحين في أهل البغي: أحدهما المفهوم العام للتقاتل الداخل ـ إسلامي والمأخوذة أحكامه من الآية القرآنية الكريمة، وثانيهما المفهوم الخاص للبغي وهو الخروج على الإمام، وأنّ الأحكام التفصيلية التي ذكرت للحرب مع البغاة مثل التعامل مع جرحاهم وأسراهم وأموالهم وغنائمهم ونحو ذلك راجع إلى البغي بالمعنى الثاني لا الأوّل، وهذا ما جعل سيرة الإمام علي× المستند الرئيس في الفقه المدرسي لأخذ أحكام البغاة.

والاستناد إلى سيرة الإمام علي× استناد جيدّ، لكن بحكم كونها فعلاً تظلّ محكومةً لقوانين الاستدلال بالفعل المعصوم، ومنها أنّه يؤخذ منه بالقدر المتيقن، وهو:

أ ـ أن يكون الطرف الباغي قد خرج على إمام الزمان بالحقّ، فلا تشمل هذه السيرة وقوع التنازع بين فئتين، دون أن يكون له ارتباط بمفهومي: السلطة والمعارضة.

ب ـ أن يهدف الطرف المقابل الإمساك بالسلطة بوصفه إماماً للمسلمين وخليفةً لهم، لا بوصفه زعيماً لا يدّعي الزعامة الدينية، وهذا التفريق في قضية التنازع على السلطة سببه أن الصراعات الإسلامية ـ الإسلامية القديمة كانت في أغلبها صراعات على خلافة المسلمين دينياً، أي الحكم باسم الدين، لا مطلق الحكم، ولعلّ لادّعاء منصب الإمامة الدينية خصوصية نحتمل دخلها في ترتب بعض الأحكام التي أجراها الإمام علي×، فيؤخذ بالقدر المتيقّن.

ج ـ إذا أخذنا بالنظرية التي ترى أنّ البغي على المعصوم ومحاربته توجب الكفر الواقعي، فهذا ما قد يخلق خصوصيّة إضافيّة تعطّل مجمل عناصر الاستدلال بالسيرة العلويّة والحسنيّة؛ إذ من المحتمل أنّ هذه السيرة رتّبت الأحكام بهذا اللحاظ؛ فإذا وقع خلاف بين السلطة الشرعيّة والمعارضة في ظلّ عدم حضور المعصوم، فمن غير المعلوم حينئذٍ إمكان إجراء هذه الأحكام التي أجراها هذان الإمامان؛ لعدم كفر المخالف للسلطة الشرعية غير المعصومة بالاتفاق، وهذا ما سيعقّد الاستدلال هنا ويحيجنا إلى الاستعانة ببعض النصوص التفصيلية التي تساعد على قدرٍ من التعميم.

ولعلّه لأجل ما قلناه ـ إلى جانب اعتبار سيرة الإمام علي المدرك الوحيد لسياسة التعامل مع البغاة ـ ذهب الفقهاء إلى التعريف المقيّد للبغي كي يرتّبوا الآثار الفقهية الخاصّة، كما تلك الواردة في مجال الأسرى والجرحى، لكنّ بإمكاننا الأخذ بإطلاقات الآيات والروايات لترتيب أحكام عامّة على البغي، غايته مع تقييد بعض الأحكام الخاصّة التي لم نجد لها مدركاً سوى سيرة الإمام علي، بهذه القيود المتقدّمة، وهذا غير جعل البغي مفهوماً خاصّاً من الأوّل كما فعل جمهور الفقهاء.

هذا كلّه، فضلاً عن إمكانية التشكيك في وجود أحكام خاصّة بجرحى البغاة وأسراهم ومدبريهم، تزيد عمّا تقتضيه القواعد العامّة في التعامل مع مطلق المسلم؛ لضعف مستند النصوص الخاصّة اللفظية سنداً، وعلى تقدير تمييز الإمام علي× في هذا المجال فلا يعلم كونه من باب الحكم الإلهي؛ لاحتمال انطلاقه من ولايته على النفوس والأموال، انطلاقاً من حالة الصمت في أفعال المعصوم كما قرّر في علم الأصول، فالحقّ عدم الأخذ بهذا الحكم الخاصّ بالجرحى والأسرى والمدبرين، وفاقاً في ذلك للسيد الخوئي([83]).

بل لنا أن نضيف أمراً في هذا المجال، وهو أنّه لو كان البغي مختصّاً بالخروج على الإمام المعصوم، وكانت كلّ أحكامه التي بحثها الفقهاء ـ من التعامل مع الجرحى والمدبرين والأسرى والغنائم المنقولة وغيرها ـ مرتبطةً بهذه الحالة الخاصّة، فلماذا يبحث الفقهاء عنها؟ وما هي الفائدة من ذلك والمفروض أنّ المعصوم حينها سيكون حاضراً حتى يصدق الخروج عليه وهو أدرى بتكليفه فيهم؟!

والنتيجة التي نخرج بها من مطالعة مفهوم البغي وأدلّة المواجهة مع البغاة هو أنّ البغي حرام مطلقاً، ويجب على المسلمين في حال حصوله السعي لإيجاد الصلح والسلم والوئام بين الأطراف المتنازعة، فإنّ لم ينفع ذلك وظلّ البغي قائماً يحكم بوجوب مجاهدة البغاة، بلا فرق بين خروجهم على السلطة الشرعية أو غيرها من سائر المؤمنين، ولا بين كون السلطة الشرعية هي الإمام المعصوم أو غيره، وهذا معناه بطلان أساس المفهوم المصطلح الفقهي لمفردة «الباغي»، وضرورة إعادة تشكيل هذا المصطلح من جديد، بعيداً عن حصره بثنائي: السلطة والمعارضة، كما توارثته الأجيال الإسلامية.

4 ـ جهاد البغاة، الشروط والاعتبارات

ذكر بعض الفقهاء ـ صريحاً أو استبطاناً ـ عدّة شروط لجهاد أهل البغي، وصيرورته واجباً، وهناك احتمالان بدويان في هذه الشروط التي ذكروها: أحدهما أن تكون هذه الشروط شروطاً لتحقّق الموضوع والعنوان الذي هو البغي، فلا يكون هناك بغي من دونها، وثانيهما أن تكون هذه شروطاً لترتّب الحكم بوجوب الجهاد، بحيث يفصّل بين أنواع البغي فبعضها يحكم بوجوب جهاده وبعضها لا يحكم فيه بذلك، وسوف ندرس هذه الشروط وفقاً للنتائج التي توصّلنا إليها بدراسة الكتاب والسنّة، وبه يتبيّن حالها من أيّ النوعين المذكورين، إن شاء الله، وهذه الشروط هي:

 

1 ـ 4 ـ عصمة السلطة الشرعيّة

شرط الكثير من فقهاء الإماميّة في إجراء أحكام البغي أن يكون الإمام الذي يخرج عليه البغاة معصوماً، فلو لم يكن كذلك لا تترتّب أحكام البغي بمفهومه الفقهي الخاص.

لكننا أسلفنا عدم صحّة هذا الشرط، حيث قلنا بأنّه يكفي في السلطة التي يواجهها البغاة أن تكون سلطةً شرعيّة وفقاً للنظريّة المعتمدة لشرعيّة السلطة في الفقه السياسي الإسلامي، لا فرق في ذلك ـ شيعياً ـ بين عصر الحضور أو الغيبة.

 

2 ـ 4 ـ التمرّد على السلطة الشرعيّة، سياق ثنائي السلطة والمعارضة

اشترط العلماء في البغي وترتيب آثاره الشرعية أن تكون الفئة الباغية خارجةً على السلطة الشرعية بحيث تشكّل معارضةً لها، وهذا الشرط أخذ في مفهوم البغي بالمعنى الاصطلاحي كما أسلفنا.

لكن قد تبيّن ممّا سبق عند ذكر المستندات الشرعيّة لفقه أهل البغي أنّ هذا الشرط غير صحيح، وأنّ الثابت من الكتاب والسّنة هو صدق عنوان البغي على هذا النوع، وصدقه أيضاً على مطلق الاعتداء والتعدّي على المؤمنين، فلا قيد السلطة مأخوذ هنا ولا شرعيّتها ولا عصمتها كذلك.

 

3 ـ 4 ـ شرط الممانعة العسكريّة

ذكر العديد من الفقهاء المسلمين في ترتيب آثار البغي وأحكامه على البغاة أن يكونوا في منعة وقوّة، بحيث يحتاج تفريقهم إلى تجهيز الجيوش وإعداد العساكر، أما إذا لم يكونوا كذلك، بحيث كان يمكن حلّ مشكلتهم وتفتيت أمرهم بالقوّة ولو من دون ذلك فلا يصدق عليهم عنوان البغي أو لا تترتب أحكام البغي الجهادية عليهم([84]).

لكن بعض الفقهاء توقف في هذا الشرط، وليس من البعيد أن يكون نظره إلى الشرط القادم الذي يأخذ عنصر العدد، كما سوف نشير([85]).

وهذا الشرط بديهيٌّ من وجهة نظرنا إذا فسّر بأن يكونوا في حالة تستدعي المقاتلة معهم؛ لأنه إذا كان يمكن حلّ قضية البغاة بلا حاجة إلى جيوش وحرب، ولم يكونوا في حصانة ومنعة من أمرهم، فلا موضوع للجهاد، نعم قد تجري عليهم أحكام قضائية أو قصاصية، وهذا غير موضوع الجهاد الذي نحن فيه.

ومعنى ذلك أنّ مسألة القتال ـ كما تبيّنه الآية الكريمة وهو المقدار المتيقن من سيرة المعصوم ـ تفترض وجود جماعتين تتعاركان، وإلا لو كان الباغي غير قادر على أن يمنع عن نفسه فلا يصحّ أن يقال في حقه: إنه يقاتل ونحن نقاتله، فالمفهوم عرفاً من المقاتلة حصول حالة الحرب، لا مجرّد وجود ملاحقات قانونية أو ما شابه ذلك.

من هنا، فليس مطلق معارضة الحاكم تسمّى بغياً، بل لابدّ فيها من معارضة مسلّحة بحيث يحتاج إلى مقاتلة لإنهاء أمرهم، ومعنى ذلك أنّ ما ذكره بعض فقهاء أهل السنّة من كفاية خروج الباغي عن طاعة الإمام ـ ولو بعدم إعطائه حقّه من الأموال ـ في صدق عنوان البغي عليه، ويلوح من كلام بعض الإمامية ذلك أيضاً، غير دقيق؛ فإن العصيان لأوامره لا تشمله الآية الكريمة ما دام لا تسلّح في البين ولا إبداء ممانعة عسكرية، كي يصدق مفهوم (فقاتلوا التي تبغي) ويتحقّق المقدار المتيقن من السيرة المعصومة، كما أنّ الغرض الذي تطرحه الآية هو رجوعهم إلى أمر الله، وهذا يجعل ـ ولو بالإجبار على الطاعة ـ عندما لا يبدون ممانعة مسلّحة، فلماذا يلتزم بوجوب المقاتلة مع أنّ غرضها يمكن تحقيقه بدونها؟! والمهم هو الأغراض لا الأفعال، فهي الملاكات التي تدور مدارها الأحكام، لاسيما في ظلّ عمومات التعامل السلمي مع الآخر المسلم.

وعليه، لا يجوز للحاكم ـ ولو كانت حكومته شرعيّةً ـ ممارسة القتال والغارة وتطبيق أحكام البغي والجهاد على التيارات المعارضة، مهما كان لون معارضتها، عندما لا تستخدم العنف والتمرّد العسكري وأساليب العصيان الدموي، حتى لو صدق ـ لغةً ـ عنوان البغي بمعنى من المعاني؛ فالآية الكريمة وكذلك الروايات المتقدّمة، وسيرة الإمامين: علي والحسن، مع المقدار المتيقن من معقد الإجماع الذي هو في الأصل دليل لبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقن.. ذلك كلّه لا يسمح بإجراء هذه الأحكام على هؤلاء حتى لو لم تكن معارضتهم شرعيّةً من الأساس، وإنّما تلاحظ الأبعاد القانونية الأخرى في ذلك.

 

4 ـ 4 ـ شرط الكثرة العددية

الذي يظهر من الآية القرآنية الكريمة أنّ الباغي يفترض أن يكون جماعةً لا أفراداً([86])، وهذا هو الظاهر من الروايات المتقدّمة ومن دليل سيرة المعصوم×؛ وذلك أنّ التعبير بالطائفة يرشد إلى ذلك، من هنا لو خرج شخصٌ لوحده أو اعتدى مسلمٌ على آخر، فلا ينطبق عنوان البغي بما له من أحكام فقهيّة، بل تترتب عليه أحكام الدفاع الشخصي والقوانين الجزائيّة والجنائية؛ لانصراف الكتاب والسنّة عن مثله.

والذي يظهر من بعض كلمات الفقهاء في مسألة المنعة، أنّهم أخذوا العنصر الكمّي فيها، مع أنّ العنصر الكمّي يمثل أحد العناصر التي تحقق المنعة، فينبغي الفصل بين العنوانين كما فعلنا، وقد صرّح بعضهم بعدم الفرق بين الواحد والكثير في تحقق البغي([87]).

وهذا ما يجيب عن تساؤل الشيخ الطوسي عن أمر الإمام علي× بقتل عبد الرحمن بن ملجم([88])؛ فإن قتله لم يكن لأجل البغي، لاسيما بعد تمزق الخوارج وتلاشي جمعهم العسكري، وكونه فرداً، بل لأجل قتله للمسلم، وهذا من باب المقاصّة والجزاء، لا من باب محاربة أهل البغي.

ويشهد لذلك أنّه لو ألقي القبض على ابن ملجم فهو مندرج فيمن ليس له فئة؛ لأنّ الخوارج كانوا قد تفرّق شملهم في تلك الفترة، فالمفروض عدم قتل أسيرهم ولا الإجهاز على جريحهم بمقتضى الفتوى المشهورة، فكيف أجاز الأمير قتله بملاك البغي؟!

وبهذا يظهر أن جواب الشيخ الطوسي هنا ليس دقيقاً، فقد علّل الحكم بقتله أنّه بسبب كفره أو أنّ السابّ للإمام محكوم بكفره فكيف بمن يريد قتله؟!([89])، فإنّ السابّ للإمام لا دليل على كفره بمحض سبّه، كما أنه لا شاهد على أمره بقتله بملاك كفره، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع بعد إقدامه على قتل أمير المؤمنين× أن يكون الأمر بقتله لقتله إمام المسلمين الشرعي، فيكون ذلك عقاباً لمن يقتل إمام المسلمين، فإنّ الإمام وإن كان في قتله جانب شخصي يحمله أولياء الدم ولهذا نجد في بعض النصوص تعليق الإمام ذلك على إرادتهم القتل، إلا أنّ فيه جانب عام؛ لانّ الإمام يدخل ـ إذا جاز التعبير ـ في الحق العام والاعتداء على أصل الدولة الإسلامية، فيمكن تصوّر عقوبة شرعيّة غير مربوطة فقط بباب القصاص والحقوق الجنائية، وإنما بباب الحدود والحقوق الجزائية.

ويؤيّد كون الحكم مربوطاً بجوانب عقابية جنائية أو جزائية، ما ذكره بعض الفقهاء المعاصرين([90]) من الاستناد إلى قول الإمام علي×: mإن عشتُ فأنا أولى بما صنع بي، إن شئت استقدت، وإن شئت عفوت، وإن شئت صالحت، وإن متّ فذلك إليكم، فإن بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثلوا بهn([91]). إلا أنّ المشكلة في هذه الرواية أنّها ضعيفة السندي جدّاً بأبي البختري وهب بن وهب الكذاب الوضاع.

ومن خلال ما تقدّم في النقطتين الأخيرتين، يظهر أنّ ما ذهب إليه بعض الشافعية من لزوم أن يكون للبغاة إمام مطاع فيهم، لا وجه له؛ لعدم الدليل عليه، كما أنّ الحديث عن ضرورة انفصالهم ببقعة جغرافية من البلد الإسلامي هو الآخر لا دليل عليه([92]).

 

5 ـ 4 ـ البغي بين النظرية السياسية ومطلق الخلاف القتالي، اشتراط التأويل

ذكر بعض الفقهاء ضرورة أن يكون البغاة قد باينوا وانشقّوا على أساس تأويل سائغ عندهم([93])، ومعنى ذلك أن تكون حركتهم حركةً سياسية قامت على تصوّر سياسي مناهض للسلطة، وتأوّلت واجتهدت الأمور فأخطأتها، ونتيجة ذلك أنّه لو سطت مجموعة مسلّحة على أملاك الدولة، فلا تحسب باغيةً بل تُحسب محاربةً أو من قطّاع الطرق، فحركة البغي عبارة عن حركة سياسية ذات نظرية تنطلق منها في خروجها على السلطة الحاكمة.

وهذا الشرط قائم على تصوّر البغي جزءاً من ثنائي: السلطة والمعارضة، ومن الطبيعي حينئذ أن لا تصدق المعارضة للنظام القائم إلا في ظل تصوّر سياسي خاصّ مختلف عن تصوّر الدولة الحاكمة، لكنّنا ذكرنا سابقاً أنّ الآية الكريمة ـ التي نراها المدرك الأساس هنا ـ عامة لا تختص بصورة الحروب السياسية، ولا ثنائي السلطة والمعارضة، نعم، المتيقّن من بعض الروايات وكذلك دليلا السيرة والإجماع هو الموضوع السياسي، فيصحّ أخذ هذا الشرط في مضمونها، أما الآية الكريمة فلا يوجد فيها لصدق البغي وجود تصوّر سياسي للفئة الباغية، وسائر الأدلّة لا تقيّد الآية لكونها مثبتة مثلها.

والذي نراه صدق البغي بدون ذلك، وأما مسألة الاعتداء على خزائن الدولة أو غير ذلك، فهذا النوع يخرج عن البغي لا من باب التصوّر السياسي وجوداً وعدماً، بل من باب أنّ الآية الكريمة ظاهرة في وجود اقتتال بين طائفتين بحيث يحصل بعد استخدام وسائل الصلح بينهما بغيٌ من فئة على أخرى، وهنا لا وجود لذلك غالباً، فلا يصدق عرفاً أنّ هناك طائفتين تقتتلان، وأن إحداهما رغم مساعي الصلح أجحفت وظلمت ولم تعد إلى أمر الله، لذلك مثل هذه الموارد لا تندرج في مفهوم البغي، لا لخصوصيّة التأوّل السياسي المعارض.

ومن تصوّراتنا المتقدّمة لتحليل مفهوم البغي، يظهر أنّ التأوّل السياسي لا يشترط فيه العذر أو أن يكون عن خطأ في الاجتهاد كما هو ظاهر كلماتهم، بل حتى لو خرج على السلطة الحاكمة الشرعية قوم يعلمون أنّهم على غير حقّ، فضلاً عن أن يكونوا مشتبهين أو في شكّ من أمرهم، يصدق عليهم أيضاً عنوان البغي لغةً وعرفاً فتشملهم الآية الكريمة وسائر العمومات والمطلقات، من هنا لسنا بحاجة إلى إنكار شرط التأوّل السائغ بالقول ـ كما ذهب إليه الشيخ النجفي ـ بأنّه لو كان التأوّل معياراً لما صدق على الخوارج وأهل الجمل وصفين أنّهم بغاة؛ لأنّهم لم يجتهدوا فيخطؤوا بل كانوا على علم بخطئهم([94]).

 

6 ـ 4 ـ الحاكم الشرعي ودوره القانوني في جهاد البغاة

ذكر بعض الفقهاء أنّ جهاد أهل البغي يؤخذ فيه أمر إمام المسلمين ـ وقد يكون خصوص المعصوم كما يفهم من بعضهم ـ والسلطة الشرعية بمقاتلتهم، وهذا معناه أنّه إذا لم يحكم قائد المسلمين بمواجهة أهل البغي تحرم مواجهتهم، أمّا إذا أصدر أمراً بذلك، فيكون أمره إلزاميّاً بنحو الوجوب الكفائي الذي يحكم وجوبية الجهاد عموماً، وعليه فإذا قام بالجهاد من به الكفاية سقط التكليف عن سائر المسلمين، وإلا عوقبوا جميعاً([95]).

وقد جاء في كتاب mالمنتزع المختارn من الفقه الزيدي أنّ الحرب على البغاة من الأمور التي توكل إلى الأئمة لا إلى الآحاد من الناس فلا تجوز لغير الإمام، وأنّ هناك تفصيلاً في الفقه الزيدي بين من يقول بجواز قصدهم بدون الإمام، ومن يرى حصره بالإمام، ومن يرى حرمة قصدهم أساساً بل ينتظر حتى يأتوا إلينا([96]).

وقد أجرينا في مناسبة أخرى دراسة مستقلّة حول دور الحاكم في إدارة عمليّة الجهاد بأنواعه، وتوصّلنا هناك إلى أنّه في ظلّ وجود حاكم شرعي فإنّ مختلف أنواع الجهاد ـ بما فيه الجهاد الدفاعي بغير معنى الدفاع الشخصي ـ يصبح مشروطاً بإذنه، وتطبيق هذه النتيجة على الحالة التي نحن فيها يؤدّي إلى القول بأنّ جهاد أهل البغي يشرط بإذن الحاكم الشرعي أيضاً عند وجوده؛ لأن باب الجهاد من الأبواب الحكومية والمجتمعية فلا تُناط ـ وفق القاعدة ـ بآحاد الناس، بل توكل إلى الوجه الجمعي للأمّة، ألا وهو الحاكم الشرعي أو الدولة الإسلامية، ومع فقده يُرجع إلى غيره على الترتيب المبحوث في نظريّة الولاية في الفقه الإسلامي.

وبهذه الصياغة التي عرضناها يتبيّن أنّ هذا الشرط ليس خاصاً بجهاد أهل البغي، بل هو من شؤون قضيّة الجهاد بشكل عام، لا من شؤون جهاد أهل البغي بعنوانه الخاص، وبه يظهر عدم صحّة التفصيل الوارد في الفقه الزيدي، فإنّ الذهاب إليهم أو غيره كله مربوط بالحاكم، إلا إذا دخل المورد في الدفاع الشخصي، فيخرج عن باب الجهاد.

 

هل قتال أهل البغي جهادٌ شرعي؟

ذهب العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين([97]) والدكتور محمد خير هيكل الباحث المتخصّص بفقه الجهاد، إلى نظريّة تقول: إنّ مقاتلة أهل البغي ليست جهاداً في سبيل الله إلاّ مجازاً، واستدلّ على ذلك بأنّ الجهاد هو إعلاء كلمة الله، أما قتال البغاة فهو مواجهة للمسلمين الذين خرجوا عن الطاعة بغية تأديبهم، كما أنّ أحكام الشهداء لا تجري على الذي يسقط في حرب البغاة، وإن كان في حكم الشهيد في الآخرة([98]).

وهذه النظرية لم نفهمها جيداً، وذلك:

أولاً: لنفرض أنّ الشهيد الذي يسقط في قتال أهل البغي لا تترتّب عليه أحكام الشهيد الدنيوية ـ مع أنها تترتب حسب المعروف في الفقه الإمامي، وهو صريح كلمات بعض الفقهاء([99])، وكذا على رأي جماعة في الفقه السنّي حسبما نقل هيكل نفسه ذلك عن الماوردي والفراء وابن قدامة والقاساني وغيرهم([100]) ـ لكن ما ربط ذلك بصدق عنوان الجهاد؟! ألا يمكن التفكيك في أحكام الجهاد بين أنواعه؟ بل ألم يفكّك الفقهاء أنفسهم في الأحكام والشرائط بين الجهاد الابتدائي الدعوي والجهاد الدفاعي؟ إنّ الاختلاف والتمييز في الأحكام الخاصّة بالشهيد ليس دليلاً على خروج قتال أهل البغي عن الجهاد بالمعنى الشرعي.

ثانياً: إنّ تعريف الجهاد بأنّه القتال لإعلاء كلمة الله تعريفٌ فقهي استخدمه بعض الفقهاء، أما لو بقينا والقرآن الكريم فإنّ الجهاد يساوي القتال في سبيل الله، ومن الواضح أن مقاتلة أهل البغي هي قتالٌ في سبيل الله، فإنّ وصفها بأنها قتال قد استخدم في الآية نفسها: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾، وأمّا أنّه في سبيل الله فهذا يستلّ من سياق الآية في بيانها للغاية؛ فإنّها قالت: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾، وهذا يعني أنّ الغرض من هذا القتال هو أمر الله تعالى وليس شأناً آخر، وهذا هو سبيل الله دون سبيل الشيطان، وهذا يعني صدق عنوان القتال في سبيل الله عليه، وهو العنوان الأكثر شيوعاً في القرآن الكريم تعبيراً عن الجهاد.

هذا، إضافةً إلى تصريح العديد من فقهاء الإسلام بأنّه من الجهاد الشرعي، حيث أدرجوه في مباحث الجهاد وكثير منهم عندما قسّموا الجهاد قسّموه إلى جهاد الكفار وجهاد أهل البغي، وهذا كلّه يشي بارتكاز انتساب هذا القتال إلى مفهوم الجهاد الشرعي.

ثالثاً: إنّ مراجعة نصوص الإمام علي× ـ وهو الرمز التاريخي في حرب البغاة عند المسلمين كما تقدّم ـ تشير كلّها، كما يقرّ هيكل نفسه([101])، إلى الجهاد؛ فهذه خطبة الجهاد المعروفة إنما قالها أمير المؤمنين لحث المؤمنين معه على مواجهة أهل البغي، واستخدامه× لمفردة الجهاد في حروبه كثير يلاحظه كل من يراجع كلماته، وعدم استغراب المسلمين لتوظيف هذه المفردة شاهد مؤكّد آخر على أنّ مصطلح الجهاد يشمل في الذهن المتشرّعي محاربة أهل البغي.

رابعاً: سبق أن استعرضنا في موقف السنّة الشريفة من حرب البغاة عدداً من الروايات ـ ولو الضعيفة السند ـ تستخدم مفردة الجهاد في وصف هذه الحرب، وتضع مجاهدتهم إلى جانب مجاهدة الكفار، بل في بعض الروايات الشيعية ـ ولو الضعيفة السند ـ ما يشير إلى أفضلية مجاهدة البغاة على مجاهدة المشركين. وهذا كلّه شاهد مؤكّد على اندراج هذه الحرب في أنواع الجهاد في الشريعة الإسلامية، وإن كانت لها ـ على تقديره ـ بعض أحكامها الخاصّة.

 

جريان الشروط العامّة في الجهاد على جهاد أهل البغي

من مجموعة النقاط التي سبق أن تعرضنا لها يظهر أنّ الشروط التي تؤخذ في الجهاد بمفهومه العام توخذ في جهاد أهل البغي، وتمام ما يلحق الجهاد بعنوانه الكلّي يلحق هذا النوع من الجهاد، سواء من الشروط الفردية كالبلوغ والعقل و.. أو المجتمعية كالمُكنة وحضور المعصوم ـ على القول به ـ ومرجعيّة الحاكم، أو من الأحكام كحرمة الفرار وما شابه ذلك، إلاّ ما خرج بالدليل، كما في العديد من أحكام الغنائم والأسرى والجرحى التي وردت نصوص خاصّة فيها تعطي حكماً استثنائيًا متعلّقا بجهاد البغاة فقط، بناءً على الأخذ بها، كما أنّ الأحكام الخاصّة بجهاد الكفار بما هم كفار لا تشمل هذا النوع من الجهاد.

 

البغي، والضمان في النفوس والأموال

من الواضح أنّ الحرب تستدعي بطبيعتها إتلافاً للنفوس والأموال الثابتة والمنقولة، من هنا عندما يشرّع الكتاب والسنّة مقاتلة أهل البغي فهذا معناه أنّ الشريعة تسمح بإتلاف النفوس والأموال ضمن القانون الذي تضعه، إلا أنّ السؤال في أنّه هل يثبت ضمان على المتلف في هذه الحال بحيث يجب عليه دفع العوض أو البدل إلى صاحب المال الأصلي أو يجب على بيت المال ذلك أم لا؟

المستفاد من إطلاق النصوص عدم الضمان؛ بل هو الظاهر من السماح بالقتل عندما تستدعيه الحرب، فالذي يأذن بالقتل دون أن يبيّن وجود ضمان للنفوس والأموال فهو يهدر ـ ضمناً ـ بحسب الفهم العرفي حرمة هذه النفوس والأموال في النطاق الذي أذن فيه، ولهذا حكم بعض الفقهاء بعدم الضمان هنا([102]).

نعم، لو جاء إتلاف النفوس والأموال بمعزل عن قرار الحرب معهم والقتال، بل من ناحية أخرى، كما لو اعتدى مسلمٌ من أهل الحق على واحد من البغاة في خلافٍ شخصي فقتله أو أتلف له مالاً ضمن حينئذ؛ استناداً إلى عمومات الضمان الشرعية والعقلائية، حيث لا إذن بالإتلاف في هذا المورد، وهو مشمول لحرمة الاعتداء على أموال ونفوس المسلمين ولو حكماً.

وعليه، فلا يجب على الفئة التي بغي عليها وقاتلت ولا على الدولة العادلة التي تمرّد عليها بعض المواطنين بغير حقّ، أن تضمن المتلفات من أموال المعتدين أو تدفع دية نفوسهم أو أطرافهم وجوارحهم، كما لا كفارة في البين في مواردها المقرّرة في الفقه الإسلامي، كما في القتل وغيره. لكن ليس لها الحقّ في مصادرة أموالهم المنقولة وغيرها أو احتجازهم واعتقالهم بما لا يتصل بالغنائم التي حواها العسكر أو بضرورات الحرب والمواجهة، فلم تسقط حرمة نفوسهم وأموالهم الشخصيّة بالبغي، بل هي باقية على العمومات الدالّة على احترامها، لا يُخرج عنها إلا بمقدار التكليف الثابت بوجوب القتال لا غير. نعم، تملّك غنائمهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وقتل جريحهم والإجهاز عليه، واتّباع مدبرهم، وما شابه ذلك.. له بحث آخر لا نتعرّض له الساعة، وقد بحثناه في محلّه بالتفصيل.

هذا على الخطّ الأوّل، أما ما يتلفه البغاة من الممتلكات العامّة أو الخاصّة فلا شكّ في ضمانهم له، كضمانهم النفوس والأطراف والجوارح؛ استناداً إلى عمومات الديات والضمان على المستويين: الشرعي والعقلائي، إذ لا موجب للخروج عن القوانين العامّة في باب الضمان والديات، بلا فرق في ذلك بين ما يتلفه الباغي حال الحرب أو خارجها، فإنّ حال الحرب بالنسبة إليه لا خصوصية فيه تسقط عنه الضمان، بل هو أوضح في الضمان بعد الحرمة الشرعية وصدق عنوان العدوان فيه، وقد أقرّ بذلك جملة من الفقهاء([103]).

نعم، ذهب بعض فقهاء أهل السنّة ـ وهو المنسوب إلى ابن الجنيد من الإماميّة في خصوص القود في مورد الأسير القاتل([104]) ـ إلى عدم ثبوت الضمان لو كان التلف حال الحرب، مستندين في ذلك إلى فعل الإمام علي بن أبي طالب، حيث ذكروا بأنّه لم يرد أنّه كان يضمّن البغاة متلفات النفوس والأموال، فلو كان هناك شيء من ذلك لفعله×.

لكنّ هذا الاستدلال قد يناقش في صحّته، لا بما قاله العلامة الحلي من أنّه قد يكون الإمام علي قد ألزمهم الضمان والدية ولكن لم يصلنا([105])، إذ لو حصل ذلك في ثلاثة حروب متتالية ـ مع كثرة النفوس التي أزهقت والأموال التي أتلفت ـ لوصل إلينا ولو عبر خبر واحد ضعيف الإسناد، والمفروض عدم وصوله، فيستكشف عدمه بمقتضى المنطق الطبيعي للأشياء.. وإنّما لأنّ فعل أمير المؤمنين يظلّ دليلاً لبيّاً صامتاً، فلعلّه عفا عنهم بحكم ولايته على المسلمين بنفوسهم وأموالهم، ولم ير مصلحةً في ذلك آنذاك، ومعه يصعب الاستناد إليه للخروج بقاعدة عامّة في هذا المضمار.

وقد يقال بأنّ السيرة العمليّة للمسلمين، وربما للعقلاء عامّةً، قائمة على عدم التضمين في متلفات الحروب، فلم نعهد أنّ النبي| في كلّ حروبه طالب أحداً بضمان مال أو نفس، أو أنّ أهل القتيل أو أصحاب الأموال المتلفة طالبوا النبي بضمان هذه الأموال التي أتلفت حال الحرب ـ لا خارجها ـ ولم يجرِ أن خصّص النبيّ لأصحاب الأموال أو النفوس التالفة مالاً عوض أموالهم أو نفوسهم من الغنائم قبل توزيع الغنائم على المقاتلين، كما لم نسمع بأنّه كان يجري ـ دوماً ـ معرفة أحوال الأسير الكافر، وأنّه هل قتل في الحرب أحداً من المسلمين حتى يقتل به بنحو القصاص، بصرف النظر عن جريان قاعدة الجبّ في مثل ذلك على تقدير إسلام الأسير.. والشريعة لم تأت بخلاف هذه السيرة العملية القائمة بين الناس، كلّ ما في الأمر أنّها جعلت في أموالهم غنائم للمسلمين، وهذا لا يحرز كونه بلحاظ ضمان المتلفات؛ لعدم اشتراط مراعاة التناسب بين المتلف والغنيمة عند أحد من المسلمين، فلا يبعد القول بأنّ الإتلاف حال الحرب لا ضمان فيه وإن كان حراماً على المستوى التكليفي.

لكنّه مردود باحتمال عدم تعيّن القاتل أو المتلف لهذا المال أو ذاك غالباً في الحروب حتى يلتزم بتضمينه، ولهذا لم يكن هناك مصاديق كثيرة لهذا الأمر سابقاً، وأمّا دعوى أنّه بناء عقلائي فغير معلوم، والعقلاء في عصرنا يضمّنون الدولة المعتدية لعدم إمكان الوصول عادةً إلى الأفراد وصعوبة تحصيل الحق عبر هذا السبيل، فتأخذ الدولة المعتدى عليها تعويضات الحرب من الدولة المعتدية، فلا يوجد ما يرفع نكتة العمومية في قواعد الضمان العقلائية والشرعيّة.

نعم ثمّة حالة قد تطرح هنا، حتى على تقدير القول بضمان أهل البغي للمتلفات مطلقاً أو في الجملة، وهي وقوع الصلح بين الفئة الباغية والعادلة، فقد ذكر بعض الفقهاء أنّه لو وقع الصلح ارتفعت التبعات على أهل البغي في الدماء والأموال، واستدلّ لذلك بالآية الكريمة؛ إذ عندما تحدّثت عن الصلح الثاني لم تردفه بأيّ تبعة من التبعات المترقبة في هذه الحال؛ لأنّه صلح وقع بعد الحرب كما قلنا سابقاً، فإطلاق الآية وسكوتها عن ذلك دليل عدم الضمان([106]).

ويمكن مناقشة ذلك:

أ ـ إنّه لا يحرز أنّ الآية الكريمة في مقام البيان من تمام النواحي المتعلّقة بأحكام أهل البغي، وإنّما هي في صدد بيان أصل موضوع مقاتلتهم وما يتصل بشرعيّة هذا القتال، ولهذا لا حديث فيها عن الضمان مطلقاً، ولا عن الغنائم، ولا عن الجرحى، ولا عن الأسرى، ولا عن تفاصيل الأحكام الفقهيّة المتصلة بممارسة الحرب، ومعه فسكوتها ليس دليل رفع الضمان والتبعة، ولعلّه لذلك ذكر الشيخ الطوسي هنا أنّ الضمان معلوم بدليل آخر لا بالآية([107]).

ب ـ قد يمكن الاستناد هنا إلى ذيل الآية الكريمة حيث جاء فيه: ﴿فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾، فكأنّها تؤسّس للعنوان العام المفروض تحكيمه في التعامل مع البغاة بعد الفيء، وهو القسط والعدل، فيرجع إلى سائر الأدلّة في تحديد معايير القسط والعدل، ومن الواضح أنّ من القسط والعدل ضمان المتلفات وعوض الجنايات وغير ذلك كما يعرف من الأبواب الخاصّة بهذه الموارد.

هذا ما أردنا ذكره من مباحث فقه جهاد البغاة، ويبقى حكم جريحهم، وأسراهم، وغنائمهم، تبحث في محلّها من مباحث الأسرى والغنائم إن شاء الله تعالى.

 

نتيجة البحث

من مجمل ما تقدّم، نخرج بجملة نتائج، أهمّها:

1ـ مفهوم البغي يمكن تحريره من فكرة الارتباط بشرطي: العصمة ومعارضة السلطة الشرعيّة، إضافة إلى التحرير من شرط النظرية السياسية (اشتراط التأويل السائغ) وبهذا يتكوّن له تصوّر عام من الأوّل، ولا يكون له اصطلاحان عام وخاص.

2ـ يقوم مفهوم البغي على الممانعة والكثرة العددية والاعتداء المسلّح وما بحكمه من جانب جماعة مسلمة على أخرى، ولا يفضي إلا إلى الحرمة التكليفية في البغي ووجوب الجهاد في مواجهته، إضافةً إلى فسق البغاة على تقدير عدم وجود تأويل مبرّر لهم يمكن أن يعذرهم بالعذر الأخروي، ولا دليل على كفر البغاة بعنوانهم حتى لو كان خروجهم على الإمام المعصوم، نعم كفر النواصب عنوان آخر.

3 ـ تقوم العلاقة مع البغاة على مبدأ السعي للصلح، فإن تحقّق كان به، وإن استمرّ البغي والاعتداء لزمت المواجهة العسكرية أو ما بحكمها، والهدف والمقصد من ذلك قتالهم لإرجاعهم إلى الحق، لا قتلهم بوصفه عقوبةً لهم.

4 ـ إنّ الأصل في فقه أهل البغي هو الآية الكريمة، وأمّا السنّة القوليّة فلم تقدّم أزيد ممّا قدّمته الآية، وأمّا الأحكام الخاصّة بآثار الحرب كالجرحى والأسرى والغنائم فتجري فيها القواعد العامّة في الحرب وفي التعامل مع المسلم، ودليل السيرة العملية للمعصوم مفيدٌ، غير أنّه صامت يؤخذ فيه بالقدر المتيقين، ومع وجود احتمال الحكم الولائي الزمني يفقد هذا الدليل بعض حيثيات الإطلاق التي فيه.

5ـ يقف البغي عند حدود العدوان المسلّح على المسلمين، ولا يتناول مفهوم الخلاف السلمي حتى لو كان غير أخلاقي في بعض أشكاله، فهناك تحكمه مثل قواعد العقوبات الجزائية لا فقه الجهاد.

_______________

([1]) نشر هذا المقال في الجزء الثاني من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، وذلك عام 2011م.

([2]) لاحظ: الرحموني، الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة: 108 ـ 110.

([3]) الآلوسي، روح المعاني 26: 151.

([4]) انظر: حيدر حب الله، الجهاد الابتدائي الدعوي، دراسة استدلالية في مبادئ العلاقات الدولية في الإسلام، مجلة الاجتهاد والتجديد، الأعداد 8 ـ 12، عام 2007 ـ 2008م.

([5]) راجع: معجم مقاييس اللغة 1: 271 ـ 272؛ وكتاب العين 4: 453 ـ 454؛ والصحاح 6: 2281 ـ 2282.

([6]) النجفي، جواهر الكلام 21: 322.

([7]) الخوئي، منهاج الصالحين 1: 389.

([8]) انظر: الطوسي، النهاية: 296؛ والجمل والعقود: 244؛ وابن البراج، المهذب 1: 299؛ وفضل الله، كتاب الجهاد: 417؛ وناصر مكارم الشيرازي، التفسير الأمثل 16: 538.

([9]) محمد الشيرازي، الفقه 47: 19.

([10]) انظر: المجموع 19: 195، 198؛ وفتح الوهاب 2: 265؛ والإقناع 2: 203؛ ومغني المحتاج 4: 123؛ وكشاف القناع 6: 201؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4: 299.

([11]) العلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية 1: 406.

([12]) عبد الله بن قدامة، المغني 10: 52؛ وانظر: عبد الرحمن بن قدامة، الشرح الكبير 10: 49؛ والبهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع 6: 205.

([13]) القاساني (الكاساني، الكاشاني)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 7: 140.

([14]) انظر: المبسوط 7: 263 ـ 264؛ والنهاية: 296؛ وغنية النـزوع 2: 200؛ والجامع للشرائع: 241؛ وإشارة السبق: 142؛ والمجموع 19: 190؛ وشرائع الإسلام 1: 256؛ وتبصرة المتعلمين: 111؛ وتحرير الأحكام الشرعية 2: 229؛ والروضة البهية 2: 407؛ وكفاية الأحكام 1: 369؛ ورياض المسائل 7: 456؛ وجواهر الكلام 21: 324؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 389؛ والآصفي، الجهاد: 132.

([15]) النووي، المجموع 7: 473.

([16]) انظر: منتهى المطلب 2: 985؛ ومسالك الأفهام 3: 91؛ وجواهر الكلام 21: 322؛ ورياض المسائل 7: 456؛ وتفسير الأمثل 16: 538؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 389؛ وفضل الله، كتاب الجهاد: 417.

([17]) المهذب 1: 325.

([18]) وهو ظاهر كلامه في منهاج الصالحين 1: 361؛ وإن كان تعريفه لأهل البغي عند البحث عن مقاتلتهم يدلّ على حصرهم بالخارجين على الإمام المعصوم، فانظر: المصدر نفسه 1: 389؛ وتابع الشيخُ الوحيد الخراساني السيدَ الخوئي في ذلك مستخدماً تعبيره عينه، فانظر له: منهاج الصالحين 2: 406 ـ 407.

([19]) شمس الدين، فقه العنف المسلّح في الإسلام: 68.

([20]) راجع: الطوسي، الخلاف 5: 339؛ والنهاية: 297؛ وابن حمزة، الوسيلة: 205؛ والمحقق الحلي، شرائع الإسلام 1: 256؛ والمختصر النافع: 110؛ ومختصر المزني: 256؛ وابن حزم، المحلّى 11: 101؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 9: 413؛ وتحرير الأحكام الشرعيّة 2: 230؛ ومنتهى المطلب 2: 984؛ والنجفي، جواهر الكلام 21: 326؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 361، 389.

([21]) الطوسي، المبسوط 7: 265 ـ 266؛ والعلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية 2: 230؛ وتذكرة الفقهاء 9: 410 ـ 411؛ ومنتهى المطلب 2: 984؛ وابن قدامة، المغني 10: 53 ـ 54؛ والنجفي، جواهر الكلام 21: 334؛ والنووي، المجموع 19: 195، 198؛ والزمخشري، الكشاف 3: 564؛ والأندلسي، البحر المحيط 8: 111؛ والألوسي، روح المعاني 26: 151.

([22]) حاشية ابن عابدين 4: 451.

([23]) أبو البركات، الشرح الكبير 4: 299؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4: 299.

([24]) الصنعاني، تفسير القرآن 3: 230، 232؛ والطبري، جامع البيان 18 : 92 ـ 93.

([25]) التفسير الكبير 28: 129.

([26]) راجع: الطوسي، الاقتصاد: 226 ـ 227؛ والمبسوط 7: 264؛ والخلاف 5: 335 ـ 336؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 7: 524؛ 2957.

([27]) انظر: الموسوعة الفقهيّة (الكويتية) 8: 131.

([28]) انظر: ابن قدامة، المغني 10: 65 ـ 66، 67؛ والشرح الكبير 10: 63؛ والسرخسي، المبسوط 10: 130؛ والنووي، المجموع 19: 214؛ والأنصاري، فتح الوهاب 2: 265؛ وحواشي الشرواني والعبادي 3: 14، و9: 66؛ والطوسي، الخلاف 5: 335، 343 ـ 344.

([29]) المغني 10: 67.

([30]) انظر في هذه التخريجات: النجفي، جواهر الكلام 21: 323؛ والآصفي، الجهاد: 127.

([31]) انظر: كنـز العرفان 1: 119.

([32]) الطوسي، التبيان 9: 346.

([33]) الطباطبائي، رياض المسائل 7: 459.

([34]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: روح الله الخميني، كتاب الطهارة 3: 457 ـ 458.

([35]) الطوسي، الخلاف 5: 335.

([36]) العلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 236.

([37]) محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 397.

([38]) الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 3: 310.

([39]) الآصفي، الجهاد: 128 ـ 129.

([40]) الصنعاني، سبل السلام 3: 258.

([41]) محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1: 63.

([42]) ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل 16: 536.

([43]) الآصفي، الجهاد: 129.

([44]) الطبرسي، مجمع البيان 9: 199؛ والأمثل 16: 535؛ والكاشاني، الأصفى 2: 1182 ـ 1193؛ والصافي 5: 50، 6: 519؛ (مؤسسة الهادي)، وتفسير مجاهد 2: 606.

([45]) انظر: التبيان 9: 346؛ والرواندي، فقه القرآن 1: 372؛ والأمثل 16: 534 ـ 535.

([46]) الطبرسي، مجمع البيان 9: 199؛ وجوامع الجامع 3: 403.

([47]) راجع القصة وقريب منها في: الزمخشري، الكشاف 3: 563؛ وتفسير مقاتل بن سليمان 3: 261؛ والمجموع 19: 196؛ وبحار الأنوار 22: 53 ـ 54؛ ومسند ابن حنبل 3: 157؛ وصحيح البخاري 3: 166؛ وصحيح مسلم 5: 183؛ والسنن الكبرى 8: 172؛ وتفسير السمرقندي 3: 309 ـ 310؛ وتفسير الثعلبي 9: 78؛ والواحدي، أسباب النـزول: 263؛ وتفسير البغوي 4: 213؛ والسيوطي، الدر المنثور 6: 90؛ وسبل الهدى والرشاد 3: 419؛ والسيرة الحلبية 2: 250 و..

([48]) الطباطبائي، الميزان 18 : 320.

([49]) الآصفي، الجهاد: 128، الهامش.

([50]) علل الشرائع 2: 603؛ وتهذيب الأحكام 6: 145؛ ووسائل الشيعة 15: 80 ـ 81، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح3.

([51]) تهذيب الأحكام 6: 144؛ ووسائل الشيعة 15: 81، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح4.

([52]) وسائل الشيعة 15: 83 ـ 84، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح13.

([53]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 589؛ وأويس كريم محمد، المعجم الموضوعي لنهج البلاغة: 437؛ والشيخ هادي النجفي، موسوعة أحاديث أهل البيت 3: 381؛ وابن أبي الحديد؛ شرح نهج البلاغة 5: 78، 98، 131؛ ومحسن الأمين، أعيان الشيعة 1: 524، و6: 459 و..

([54]) النجفي، جواهر الكلام 21: 333.

([55]) الكلبايكاني، الدرّ المنضود 2: 256.

([56]) المجلسي، بحار الأنوار 33: 434.

([57]) تهذيب الأحكام 6: 387؛ ووسائل الشيعة 15: 80، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح2.

([58]) المفيد، الأمالي: 288 ـ 289؛ والطوسي، الأمالي: 65 ـ 66؛ ووسائل الشيعة 15: 81 ـ 82، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح7.

([59]) ابن مردويه، مناقب علي بن أبي طالب: 351 ـ 352؛ والمتقي الهندي، كنـز العمال 2: 560.

([60]) الروحاني، فقه الصادق 13: 111.

([61]) راجع: معجم رجال الحديث 12: 63، رقم: 8208.

([62]) انظر: كنـز العمال 2: 560.

([63]) الحميري، قرب الإسناد: 94؛ ووسائل الشيعة 15: 82 ـ 83، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح10.

([64]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 15: 83.

([65]) انظر: جواهر الكلام 21: 338.

([66]) انظر: أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 503 ـ 506.

([67]) حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 2: 806.

([68]) راجع: القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار 1: 399؛ والمفيد، الإفصاح: 118؛ ومستدرك الوسائل 11: 68؛ ومسند زيد بن علي: 410؛ والبيهقي، السنن الكبرى 8: 173، 182؛ وابن أبي شيبة، المصنّف 8: 707؛ وكنـز العمّال 11: 335، 339؛ وتفسير الثعلبي 9: 79؛ وتفسير البغوي 4: 213؛ وابن عطية الأندلسي، المحرّر الوجيز 5: 148؛ وتفسير القرطبي 16: 323 ـ 324؛ وابن كثير، البداية والنهاية 7: 321.

([69]) المفيد، الإفصاح: 125.

([70]) وسائل الشيعة 15: 83، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح11.

([71]) الكافي 5: 10 ـ 12؛ والخصال: 274 ـ 276؛ وتحف العقول: 288 ـ 290؛ وتهذيب الأحكام: 4: 114 ـ 116، و6: 136 ـ 137؛ وتفسير العياشي 1: 48، 324 ـ 325، 385، و2: 77، 85؛ وتفسير القمي 2: 320 ـ 321؛ ووسائل الشيعة 15: 25 ــ 27، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو وما يناسبه، باب 5، ح2.

([72]) راجع: معجم رجال الحديث 15: 40 ـ 62، رقم: 9553 ـ 9574.

([73]) تهذيب الأحكام 6: 144؛ ووسائل الشيعة 15: 80، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 26، ح1.

([74]) نصر بن مزاحم، وقعة صفين: 322 ـ 323؛ والمفيد، الأمالي: 101 ـ 102؛ والطوسي، الأمالي: 197 ـ 198؛ ومحمد بن علي الطبري، بشارة المصطفى: 169 ـ 170؛ والإربلي، كشف الغمّة 2: 18؛ وابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 3: 19؛ والنوري، مستدرك الوسائل 11: 62، كتاب الجهاد، باب 24، ح1؛ وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 5: 258؛ وشرف الدين الحسيني، تأويل الآيات 1: 95.

([75]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 7: 285، و12: 335 ـ 336، رقم: 7995 ـ 7996؛ والنمازي، مستدركات علم رجال الحديث 5: 285، 325 ـ 326.

([76]) انظر: ابن عدي، الكامل 5: 186 ـ 187؛ وابن حجر، تقريب التهذيب 1: 690؛ ومحمد جعفر الطبسي، رجال الشيعة في أسانيد السنّة: 285.

([77]) أحمد بن حنبل، العلل 3: 56.

([78]) البخاري، التاريخ الصغير 2: 232؛ وانظر: ضعفاء العقيلي 4: 435؛ والرازي، الجرح والتعديل 9: 196؛ وابن عدي، الكامل 7: 233.

([79]) فرات الكوفي، التفسير: 163؛ ومستدرك الوسائل 11: 63، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 24، ح3.

([80]) انظر: معجم رجال الحديث 6: 29، رقم: 2949، و17: 258.

([81]) راجع: محمد بن مسعود العياشي، التفسير 2: 77 ـ 78؛ ومستدرك الوسائل 11: 63. كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 24، ح4، 5.

([82]) انظر: تذكرة الفقهاء 9: 392.

([83]) أبو القاسم الخوئي، منهاج الصالحين 1: 389 ـ 390.

([84]) راجع: الطوسي، المبسوط 7: 264، 268؛ وابن إدريس، السرائر 2: 15؛ والشربيني، الإقناع 2: 202.

([85]) انظر: العلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية 2: 229؛ ومنتهى المطلب 2: 983.

([86]) انظر: الطباطبائي، رياض المسائل 7: 459؛ ومحمود الهاشمي، قراءات فقهية معاصرة في الحقوق والقضاء (بحث في تحديد موضوع حدّ المحارب): 372 ـ 373.

([87]) الروضة البهية 2: 407؛ ومسالك الأفهام 3: 91.

([88]) الطوسي، المبسوط 7: 264، 268.

([89]) المصدر نفسه: 269 ـ 270.

([90]) الروحاني، فقه الصادق 13: 116.

([91]) الحميري، قرب الإسناد: 143.

([92]) انظر في هذين القولين: الموسوعة الفقهيّة (الكويتية) 8: 133؛ وحاشية ابن عابدين 4: 451.

([93]) انظر: المبسوط 7: 265؛ والسرائر 2: 15؛ وتحرير الأحكام الشرعية 2: 229؛ ومسالك الافهام 3: 92؛ وابن قدامة، المغني 10: 49؛ والآصفي، الجهاد: 136، 141.

([94]) جواهر الكلام 21: 333 ـ 334.

([95]) الطوسي، مصباح المتهجد: 854؛ والنهاية: 297؛ والجمل والعقود: 244؛ ومقتضى مفهوم الشرط من نحو قولهم: (يجب جهادهم إذا ندب إليه الإمام)، أنّ الجهاد لا يجب مع عدم دعوة الإمام، فليلاحظ: شرائع الاسلام 1: 256؛ والروضة البهية 2: 407؛ والدروس الشرعية 2: 41؛ وجواهر الكلام 21: 324؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 389؛ وانظر: تحرير الأحكام الشرعية 2: 230؛ وتذكرة الفقهاء 9: 412.

([96]) المنتزع المختار من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار 4: 529 ـ 530.

([97]) شمس الدين، فقه العنف المسلّح في الإسلام: 49 ـ 51.

([98]) هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1: 66 ـ 67.

([99]) راجع: الطوسي، الخلاف 5: 344؛ والحلي، تذكرة الفقهاء 9: 417؛ وتحرير الأحكام الشرعية 2: 236؛ والشهيد الأول، ذكرى الشيعة 1: 323؛ والدروس الشرعية 2: 43؛ والنجفي، جواهر الكلام 21: 328؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 389.

([100]) هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1: 67؛ والموسوعة الفقهيّة (الكويتية) 8: 131.

([101]) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1: 68.

([102]) انظر: الحلي، تذكرة الفقهاء 9: 416؛ والشهيد الأوّل، الدروس الشرعية 2: 43؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 526.

([103]) انظر: الحلي، تذكرة الفقهاء 9: 418؛ والشهيد الأوّل، الدروس الشرعية 2: 43؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 526.

([104]) نسبه إليه العلامة الحلي في مختلف الشيعة 4: 454؛ وانظر: الاشتهاردي، مجموعة فتاوى ابن الجنيد: 167.

([105]) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 9: 418.

([106]) راجع: الطوسي، المبسوط في فقه الإماميّة 7: 262.

([107]) المصدر نفسه.