hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

فقه الاستخارة ـ دراسة استدلاليّة مقارنة

تاريخ الاعداد: 11/26/2012 تاريخ النشر: 5/11/2014
350570
التحميل

حيدر حب الله([1])

 

مقدّمة

تشكّل الاستخارة ظاهرة عامّة واسعة النطاق اشتدّ انتشارها في العقود الأخيرة بين الناس، حتى صارت عادةً جارية في الأوساط الدينية. وقد أثار هذا الحال نقد بعض الناقدين حيث اعتبروا الاستخارةَ تعطيلاً للعقل واستقالةً من الفكر والتدبّر، فيما رأى الفريق المناصر للاستخارة أنّها تعبير إيماني عن الارتباط بالله سبحانه وتعالى، بل وصفها بعض الفقهاء المعاصرين بأنها «معجزة الشيعة»([2]).

من هنا، سوف نحاول ـ بإذن الله تعالى ـ دراسة فقه الاستخارة من جوانبه المختلفة حتى نرى المنطلقات الشرعيّة لها، وحدودها، وتأثيراتها وغير ذلك.

 

المسيرة التاريخية لمسألة الاستخارة

عندما نراجع التراث الإسلامي، من الصعب أن نجد كتباً مصنّفةً في الاستخارة في القرون الهجريّة الأولى، وإذا وجدنا شيئاً حول الاستخارة فإنّما نجده في ثنايا كتب الحديث والرواية، ولم يشذّ عن هذه القاعدة إلا موارد نادرة.

ومن هذه الموارد النادرة ما ذكره النجاشي والطوسي وابن النديم عند ترجمتهم لمحمد بن مسعود العياشي المتوفّى في القرن الثالث أو الرابع الهجري، أنّ من مؤلفاته كتاباً اسمه «كتاب الاستخارة»([3])، ولكنّ هذا الكتاب مفقودٌ اليوم لا نعرف عن مضمونه شيئاً واضحاً. وعلى أيّة حال، فيمكن القول بأنّ العيّاشي هو أوّل من نعرف أنّه ألّف في الاستخارة مستقلاً.

ونجد في الفترة نفسها كتاباً آخر اسمه «كتاب الاستخارة والاستشارة» لأبي عبدالله زبير بن أحمد بن سليمان الزبيري الشافعي (317هـ)([4]). وبعد ذلك نعثر للشيخ محي الدين بن عربي (638هـ) على كتاب تحت عنوان «رسالة الاستخارة»، والتي كان لابن عربي نفسه شرحاً عليها أيضاً([5]).

وبعد ذلك أيضاً، نعثر على كتاب هامّ ومفصّل ـ شيعياً ـ في الموضوع، وهو «فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين ربّ الأرباب في الاستخارات» وهو مطبوع، للسيد علي بن طاووس (664هـ).

ومنذ ذلك الوقت، لا تحكي لنا كتب الفهارس والتراجم والرجال عن مصنّفات مستقلّة في هذا الموضوع إلى ما بعد قرون، حيث تبدأ تظهر أسماء كتب تحت هذا العنوان أبرزها:

علي بن يوسف بن علي بن محمد العاملي (ق10 ـ 11هـ)، ذكروا له رسالة في «كيفية الاستخارة»([6]).

رسالة في الاستخارة، للشيخ محمد بن محمود المغلوي الوفائي (940هـ)([7])، والظاهر أنّه من أهل السنّة.

أرجوزة في أوقات الاستخارة، للعلامة الشيخ جواد بن الشيخ علي الجامعي النجفي (1322هـ)([8]).

الاستخارات، للشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني (1121)([9])، وذكر له كتاب «المنارات الظاهرة»([10]).

الاستخارات، للسيّد علي بن محمد علي الحسيني الميبدي اليزدي (1313هـ)([11]).

إرشضاد المستبصر في الاستخارات، للسيد عبد الله شبر (1242هـ)([12]).

مفاتيح الغيب، وهو كتابٌ في الاستخارات، للسيد محمد بن مهدي مؤلّف كتاب كشف الآيات([13]).

البشارة لطلاب الاستخارة، للشيخ أحمد بن صالح بن حاجي الدرازي البحراني (1124هـ)([14]).

التحفة الباقرية في الاستخارة (فارسي)، للمولوي أمانت علي عبد الله بوري([15]).

10ـ رسالة في الاستخارة (فارسية)، للميرزا محمد جواد الدارابي، المولود عام 1309هـ([16]).

11ـ روائع الغيب في رفع الترديد والريب (فارسي)، للمولى عبد النبي بن عبد الرزاق، وقد فرغ منه مؤلّفه عام 1265هـ. وقال الطهراني بأنّ الكتاب في الاستخارة([17]).

12ـ رسالة في عدم التوكيل في الاستخارة، للسيد شبّر بن محمد بن ثنوان الحويزي النجفي (ح1190هـ). وقد علّق عليها الطهراني بأنّ العلامة المجلسي اختار نفس رأي هذا المؤلّف في عدم التوكيل([18]).

13ـ مفاتيح الغيب في الاستخارة (فارسي)، للعلامة المجلسي (1111هـ)([19]).

14ـ رسالة في الاستخارة من القرآن المجيد، للشيخ أبي المعالي الكلباسي (1315هـ)([20]).

15ـ الاستخارات، للشيخ أحمد بن عبد السلام البحراني المعاصر للمجلسي الأوّل([21]).

16ـ الاستخارات، لبعض تلاميذ الشيخ ناصر بن أحمد بن المتوج البحراني، وهو معاصر لابن فهد الحلي، يذكر الطهراني أنّه رأى نقلاً عنه في الكتب([22]) مما يدلّ على أنّه لم يرَ الكتاب.

17ـ الاستخارات، للميرزا محمد حسين المرعشي الحائري الشهرستاني (1315هـ)([23]).

18ـ الإنارة عن معاني الاستخارة، للشيخ محمد ابن الفيض الكاشاني الملقّب بعلم الهدى (1115هـ)([24]).

19ـ تشريح الخيرة (أو تشريع) في الاستخارات، للسيد عبد الحسين الموسوي الدزفولي اللاري (1330هـ)([25]).

20ـ خيرة الطيور (الطير)، للشيخ أحمد بن سالم بن عيسى البحراني، ونقل الشيخ يوسف البحراني نصّ هذا الكتاب في كشكوله([26])، كما سيأتي إن شاء الله.

21ـ دلائل الغيب، في الاستخارات (فارسي)، للسيد أبو القاسم بن محمّد رضا الطباطبائي التبريزي (1361هـ)([27]).

22ـ مفتاح الفرج، في الاستخارات، للأمير محمد حسين بن الأمير محمد صالح الخاتون آبادي (1151هـ)([28]).

23ـ منهاج المستخير (فارسي)، للسيد محمد حسين التبريزي، وقد فرغ منه عام 1334هـ، ورتبه بطريقة يعرف بها نتيجة الخيرة([29]).

24ـ عنوان الصواب في أقسام الاستخارة من الأئمة الأطياب، للحاج كريم خان بن إبراهيم الكرماني (1288هـ). وتوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة المرعشي النجفي([30]).

25ـ مفتاح الغيب ومصباح الوحي، للسيد مهدي الغريفي (1343هـ)، وهو يشبه الفأل ويعطي القاعدة في أخذ الأجوبة من كتاب الله([31]).

26ـ هداية المسترشدين، في الاستشارة والاستخارة، للحسن بن محمد صالح النصيري الطوسي، فرغ منه عام 1132هـ([32]).

27ـ بحث حول الاستقسام بالأزلام ومشروعيّة الاستخارة، للشيخ المعاصر لطف الله الصافي الكلبايكاني. وهو رسالة نقدية على ما كتبه الشيخ محمود شلتوت في مجلّة (رسالة الإسلام)، في العدد الأوّل من السنة الخامسة. وقد اُرسِل النقد للشيخ شلتوت شخصياً في حينه، ثم رتّب ليطبع في رسالة مستقلّة. وقد قام الشيخ شلتوت بربط الاستقسام بالأزلام بالخيرة، منتقداً ما يتعارف عند المتشرّعة فيها، كما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله. والمعروف المتداول أنّ هذه الرسالة جاءت بطلب من المرجع الديني السيد حسين البروجردي.

28ـ دانش استخارة، وهو كتاب باللغة الفارسية يقع في خمسة مجلدات، من تأليف الشيخ محمد رضا نكونام المعاصر. والملفت في هذا الكتاب أنّه يحوّل الاستخارة بالقرآن بالخصوص إلى علم قائم بنفسه، ويدعو لذلك، ويركّز في كتابه على تعليم الآخرين على كيفية فهم الآيات في مجال الاستخارة. ولعلّ تحويل الاستخارة إلى علم قائم بنفسه من الأمور التي تفرّد بها هذا الكتاب.

29ـ القرعة والاستخارة، للسيد محمد حسين فضل الله (2010م)، وقد بحث فيه عن قاعدة القرعة والاستخارة بحثاً فقهيّاً.

وغيرها من الكتب والرسائل والمصنفات المعاصرة.

هذا، وقد كُتبت مؤخراً سلسلة وافرة من الكتب غير البحثيّة، وإنّما هي تعليميّة لعامّة الناس، ودوّنت قصص حول الاستخارات أدرجت في كتب، لاسيما باللغة الفارسية، لا حاجة للإطالة بها. وكذلك لم نعرض هنا للبحوث التي تناولت الاستخارة في ثنايا الكتب الفقهية المطوّلة، كما ستوجد بعض الكتب والرسائل المعاصرة تظهر في ثنايا البحث أيضاً إن شاء الله.

من هذه الجولة السريعة يظهر لنا:

أوّلاً: إنّ مضمون الكتب التي نقل لنا أنّها لفلان أو فلان ولم تصل، غيرُ معلوم بالدقّة، وأنّه هل يستوعب تمام معاني الاستخارة أم لا، لاسيما ما جاء عند العياشي، فقد تكون بمعنى الدعاء الذي هو المعنى الحقيقي الأوّلي للاستخارة كما سيأتي.

ثانياً: إنّ التأليف المستقلّ في الموضوع، بل وغير المستقل أيضاً، كان محدوداً جداً، وعرف رواجه منذ العصر الصفوي وإلى يومنا هذا.

ثالثاً: إنّ كتاب «فتح الأبواب» للسيد ابن طاووس، يشكّل مفصلاً مهماً في مصادر الحديث والبحث حول الاستخارة، كما سيظهر لاحقاً إن شاء الله، وقد كان لهذا السيد دور كبير في تقوية ثقافة الاستخارة في التراث الإسلامي.

رابعاً: إنّ جملةً من الكتب المذكورة ليست بحثيّةً ولا فقهيّة، بل هي كتب معينة لكيفية استخراج نتائج الاستخارة من القرآن الكريم مثلاً، ولكنّ قسماً آخر منها يعالج الموضوع بطريقة بحثيّة وفقهيّة واستدلاليّة.

خامساً: سيظهر معنا في ثنايا البحوث القادمة أنّ أكثر الشخصيّات التي ساهمت في بحث الاستخارة استدلالياً وحديثيّاً هم ـ غير المعاصرين أو متأخّري المتأخّرين ـ: الشيخ المفيد، الشيخ الطوسي، ابن إدريس الحلّي، العلامة الحلّي، الشهيد الأوّل، الشهيد الثاني، الشيخ النجفي، السيد عبد الله شبّر، الشيخ يوسف البحراني، العلامة المجلسي، وغيرهم. وغالبهم بحثها في ثنايا كتبه الفقهيّة أو الحديثية. وكثير منهم تعرّض لها بإيجاز مثل الشيخ المفيد والطوسي وابن إدريس والعلامة الحلّي والشهيد الأول والشهيد الثاني.. فيما فصّل الكلام فيها غيرهم مثل السيد ابن طاووس والعلامة المجلسي والشيخ البحراني وغيرهم.

سادساً: يظهر معنا من خلال ما تقدّم وسيأتي بإذن الله، أنّ مسألة الاستخارة ظلّت موضوعاً عابراً لا جدل حوله، حتى زمن ابن إدريس الحلّي (598هـ) حيث انتقد بقوّة بعض أنواع الاستخارة كالرقاع، ثم جاء السيد ابن طاووس (664هـ) ليفصّل في بحث الاستخارة وليدافع عنها في وجه ابن إدريس الحلّي وغيره، وبعده جاء العلامة الحلي (725هـ) ليشنّ هجوماً نقديّاً عنيفاً على ابن إدريس منتصراً لاستخارة الرقاع. وبعد ذلك تمّت معالجة موضوع الاستخارة بشكل متفرّق وجزئي حتى العصر الصفوي وما بعده، حيث اهتمّ به الكثيرون، ومنهم العلامة المجلسي (1111هـ) الذي أولاه مساحة مهمّة من كتابه (بحار الأنوار)، والشيخ محمد حسن النجفي (1266هـ) الذي ركّز عليه في كتابه (جواهر الكلام)، وكذلك غيرهما من العلماء.

 


 

 

 

 

 

المبحث الأول

الاستخارة، التعريف والمعنى والمفهوم

 

1 ـ التعريف اللغوي للاستخارة، وتمييزها عن غيرها (التفأل والقرعة)

تعني الاستخارة في اللغة طلب الخيرة في الشيء، وهي استفعال من الخير، فاستخار فلان أي طلب الخير، واستخار فلانٌ اللهَ أي طلب منه الخير بهذا الفعل، والخيرة ـ بكسر الياء ـ اسم من خار الله لك، أي أعطاك ما هو الخير لك، وأما الخيَرة ـ بفتح الياء ـ فهو الاسم من قولك: اختاره الله تعالى([33])، فيرتبط مفهوم الخيرة ـ بفتح الياء ـ بالاختيار، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب: 36)، أي ما كان لهم الاختيار في ذلك. وذكر ابن إدريس الحلّي أنّ الاستخارة في كلام العرب هي الدعاء([34]).

من هنا يتبيّن أنّ الاستخارة هي عمليّة طلب للخير، فتستخير أي تطلب الخيرة، وتستخير الله في الفعل الفلاني أي تطلب منه الخير فيه.

ومن هنا، تختلف الاستخارة عن التفأل ـ وسيأتي تفصيل الكلام في التمييز بينهما ـ والذي هو عبارة عن التيمّن بسماع كلمة طيّبة، وهو مضادّ للطيرة والتشاؤم([35])، وقد ذكر الفيض الكاشاني أنّ التفأل راجعٌ إلى التعرّف والاطلاع على الغيب، فالتفأل بالقرآن يقصد به محاولة التعرّف على الغيب من خلاله، وهذا غير الاستخارة التي يراد بها معرفة الرشد في الأمر الذي يراد فعله أو تركه، أو هي تفويض الأمر إلى الله تعالى في التعيين واستشارته في ذلك([36]).

وهذا التمييز قبل به جمهور العلماء فيما يبدو، إلا أنّ المحقّق النجفي توقّف في هذا التمييز على مستوى الاستخارة التي يراد منها استعلام الخير([37])، وسوف يأتي البحث عن ذلك إن شاء الله، إلا أنّه لا شك في أنّ أصل معنى الاستخارة ـ لاسيما بما لها من مدلول لغوي ـ مختلف عن معنى التفاؤل والتفأل كما هو واضح.

ونجد مصطلحاً آخر ينبغي رصده هنا، وهو القرعة؛ لأنّه قد يجد الإنسان وجهَ شبهٍ فيما بين القرعة والاستخارة، إلا أنهما متمايزان في الحقيقة اللغوية، فالقرعة يهدف منها تمييز الأمور، وغالباً إن لم يكن دائماً تكون في مورد التنازع، فيراد منها فضّ هذا التنازع، وهذا على خلاف الاستخارة التي هي مجرّد طلبٍ للخير من الله، في علاقةٍ ليس بالضرورة أن يكون فيها طرف بشريٌّ آخر.

نعم، ذهب السيد البجنوردي إلى أنّ بعض أنواع الاستخارة يمكن أن يعدّ من أفراد القرعة، وهو ما يستخدم فيه الرقاع أو السبحة أو مثلهما([38])، وهذا ممكن من ناحية مدلول الكلمة المرتبطة بالاقتراع، إلا أنّ مفهوم القرعة عرفاً منصرف عن مثل ذلك وسيأتي إن شاء الله سبحانه.

ولأجل الترابط المذكور بين القرعة والاستخارة، تعرّض بعض الفقهاء ـ كالعلامة فضل الله ـ للبحث عن الاستخارة بمناسبة بحثهم عن القرعة؛ نظراً لهذا المشترك الحاصل بينهما. واستدلّ آخرون بدليل القرعة لإثبات شرعيّة الاستخارة، وسوف يأتي الحديث عن ذلك كلّه قريباً إن شاء الله سبحانه، إلا أنّ غرضنا هنا تمييز المدلولات اللغوية الأوّلية فقط.

 

2 ـ التعريف الاصطلاحي للاستخارة (رصد الاستخدامات الحديثيّة)

تعرّض الفيض الكاشاني لأربعة معانٍ مصطلحة للاستخارة، وتابعه فيها كلّ من المحدّث البحراني، والسيد جواد العاملي([39])، حيث ذكروا أنّ هذه المعاني الأربعة هي التي تستفاد من الأحاديث الشريفة لتشكّل معنى اصطلاحياً للكلمة.

وهذه المعاني هي:

1ـ طلب الخيرة من الله، وهو أن يدعو الإنسان ربّه أن يجعل له الخير فيما سيفعله ويوفّقه في الأمر الذي يريده ويبتغيه، فقبل أن يفعل الفعل يدعو الله أن ينشر له الخير فيه، فإذا أقدم على صفقةٍ تجارية دعا ربّه أن يجعل له فيها الربح والنعمة وهكذا.

وقد فُهِمَت روايات كثيرة واردة في الخيرة ـ لاسيما عند إطلاق الكلام ـ على هذا المعنى؛ لأنّه المنسجم مع الطابع اللغوي الأوّلي للكلمة.

2ـ طلب تيسّر ما فيه الخير، بمعنى أنّه إذا أراد العبد القيام بفعلٍ ما دعا الله أن يقدّر له فيه الخير، بمعنى أنّه لو كان هذا الفعل خيراً لي فيسّره، وإلا فلا تسهّله لي. فيكون الفرق ـ مبدئياً ـ بين المعنى الأول والثاني في أنّ الأول هو الدعاء بالخير في الذي يريد فعله، فيما الثاني يرى أنّ الدعاء متعلّق بتيسير الفعل لو كان خيراً.

وعلى هذا حُمل خبر مرازم، قال: قال لي أبو عبدالله×: «إذا أراد أحدكم شيئاً فليصلّ ركعتين، ثم ليحمد الله ويثني عليه، ويصلّ على النبي وعلى أهل بيته، ويقول: اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي فيسّره لي وقدّره لي، وإن كان غير ذلك فاصرفه عنّي..»([40]).

3ـ طلب العزم على ما فيه الخير، بأن يدعو الله سبحانه قبل الفعل أن يمنحه العزم والإرادة عليه بوصفه فعلاً يستبطن الخير له. وقد حملوا على هذا المعنى رواية علي بن أسباط، قال: قلت لأبي الحسن الرضا×: جعلت فداك، ما ترى آخذ براً أو بحراً، فإنّ طريقنا مخوف شديد الخطر؟ فقال: «أخرج برّاً، ولا عليك أن تأتي مسجد رسول الله| وتصلّي ركعتين في غير وقت فريضة، ثم تستخير الله مائة مرّة ومرّة، ثم تنظر، فإن عزم الله لك على البحر..»([41]). وقد فُهم من هذا النصّ أن يريد العزم ويطلبه متعلّقاً بالخير.

4ـ طلب تعرّف ما فيه الخير، وهو ما سمّاه بعضهم بالاستخارة بمعنى طلب المشورة([42])، وفي هذا المعنى تنضوي الروايات التي ترتبط باستخارة ذات الرقاع والمصحف والسبحة والقرعة والطير وغيرها ممّا سوف يأتي إن شاء الله سبحانه.

وهذا المعنى الأخير هو الأشهر اليوم، بل هو المعروف في الأوساط الدينية، وهو يشتمل على الدعاء، لكن فيه إضافة تعليق الفعل على خروج أمرٍ ما (كحبات السبحة)، فيما يشبه المواضعة بين العبد وربّه([43]).

ولو رصدنا هذا التقسيم الرباعي، لرأينا أنّ المعاني الثلاثة الأولى ترجع إلى الدعاء، فيما يمتاز عنها المعنى الأخير بالمشورة.

لكنّ هذا التقسيم الرباعي للمعاني المصطلحة للاستخارة، واجه ملاحظات لبعض العلماء أبرزها:

أولاً: ما ذكره المحدّث البحراني نفسه، حيث ذهب إلى أنّ الأوّل والثاني من هذه المعاني متقاربان، والظاهر أنّ مآلهما غالباً إلى واحد([44]).

إلا أنّه يمكن التفكيك بين المفهومين اللذين حملهما هذان المعنيان، ففي الأوّل أنت تطلب من الله أن يجعل لك الخير في الفعل الذي ستفعله، ففعلك للفعل ليس مورداً لنظرك، وإنّما موردك هو أن يجعل الله فيه الخير. أما في المعنى الثاني فإنّ أصل الفعل محلّ نظر، بمعنى أنّه لو كان في هذا الفعل الخير فيسّره، فمصبّ الدعاء هنا هو أصل الفعل وجوداً وعدماً من حيث الخير فيه وعدمه، أما في الأوّل فالمصبّ هو جعل الخير فيه مباشرةً، لا تعطيله على تقدير عدم الخير فيه.

نعم، في نهاية المطاف يمكن الحصول على قواسم مشتركة، كما قلنا في رجوع المعاني الثلاثة الأولى إلى الدعاء، إلا أنّ الهدف هنا هو رصد الروايات، لمحاولة تمييز ألسنتها، وهذا اللسان الموجود في خبر مرازم مختلفٌ عن سائر الألسنة، وهذا كافٍ في اعتباره لوناً آخر.

ثانياً: ما ذكره الشيخ النجفيّ، من أنّ مراجعة نصوص الاستخارة تقوّي أنّ لها معنيين: أحدهما أن يسأل الله سبحانه أن يجعل الخير فيما أراد إيقاعه من الأفعال، والثاني أن يوفّقه لما يختاره له وييسّره له. نعم لتعرّف الثاني طرق، ولعلّها تتبع إرادة المستخير بالمعرفة، فتارة يريد عبر مشورة من يستشير، وأخرى عبر الرقاع([45]).

ولو تأمّلنا في المعنيين اللذين ذكرهما النجفي، سنجد أنّه جعل القسم الثالث والرابع من التقسيم الرباعي للفيض الكاشاني ملحقين بالقسم الثاني هناك. ويكون الفرق بين القسمين هنا هو أنّ الاستخارة بالمعنى الأوّل تعني الدعاء، وهي لا تتضمّن تحيّراً أو تردّداً، وهي تقع قبل الشروع في العمل الذي سبق أن اختاره العبد من نفسه، بينما نجد أنّ المعنى الثاني لا يستبطن افتراض اتخاذ العبد قراراً بالفعل المعيّن، بل هو نحو تفويضٍ للمولى سبحانه وتعالى أن يتخذ عنه القرار. ومن هنا أمكن في المعنى الثاني افتراض أن يحتاج العبد أو يريد طريقاً لتعرّف ما اختاره الله له، فإنه لمّا فوّض الأمر إلى الله تعالى احتاج لمعرفة ما اتخذه الله من قول، الأمر الذي فتح باب إلحاق المعنى الرابع من المعاني المتقدّمة عند الكاشاني بهذا المعنى الثاني.

وقد ذكر بعض الفقهاء([46]) أنّه يُلمس في المعنى الثاني قدرٌ من التحيّر عند العبد، ولهذا فهو يطلب تعرّف الرأي الإلهيّ في هذا الموضوع، وهو يستعين بالعلم والقدرة الإلهيّة العليا. وهذا يعني أنّ ما يميّز بين المعنيين اللذين طرحهما النجفي هو حالة العبد من حسم الأمر ومن التحيّر فيه، وإلا فالاثنين يرجعان إلى معنى واحد هو الدعاء.

ويمكن التعليق على كلام المحقّق النجفي بأنّه جعل القسم الرابع المتقدّم ملحقاً بالقسم الثاني عند الفيض الكاشاني، مع أنّه غير ظاهر من بعض نصوص الاستخارة بمعنى التعرّف على وجه الخير، ففي جملة من تلك النصوص ورد أنّه إذا أردت الفعل فاذهب واستخر بالرقاع أو القرآن دون أن يكون هناك فرض إرادة أن يقدّر الله له أو فرض حالة التحيّر التي تحدّث عنها العلامة فضل الله، ومن ثم فالقسم الرابع ـ بحسب ترتيب الكاشاني ـ وإن كنت بعض نصوصه واردة في التحيّر أو في طلب أن يقدّر له الخير ويُعلمه به، إلا أن جملةً من هذه النصوص مطلقٌ ليس فيه هذا القيد، بل هو طلب ابتدائي من الإمام بأن يفعل كذا وكذا ويعمل على وفقه. ولا مانع من ذلك، فقد يكون الإنسان عازماً على فعلٍ ما ومع ذلك يلجأ إلى الاستخارة مستعداً للقبول بما تمليه عليه، بلا فرض تردّد أو تحيّر من جهة، كما ومن الممكن أن لا يطلب من الله تعيين الفعل له عبر الطرق المذكورة، لكنّه في الوقت عينه يدعوه لأن ييسّر أمره لما فيه الخير ويقدّر الخير له. فهناك التقاء مصداقي بين الاثنين (الثاني والرابع) في بعض الحالات لا جميعها.

وبهذا يلاحظ على العلامة فضل الله ـ على مستوى تحديد المعاني المصطلحيّة ـ أنّه جعل الاستخارة بالمعنى الثاني بمعنى المشورة مقيّدةً بحال التردّد([47])، بحيث لو لم يكن عند الإنسان تردّد فلا موضوع لها، فإنّ هذا قد يصحّ على مستوى النتيجة الفقهية للفقيه مما سيأتي بحثه، لا على مستوى تحديد المعنى المستخدم في الروايات بصرف النظر عن النقد المتني والسندي لها؛ لأنه على هذا المستوى من الواضح عدم أخذ قيد التردّد في جملة وافرة من نصوص الاستخارة التي بمعنى المشورة، وسيأتي الموقف الفقهي في مسألة التحيّر إن شاء الله.

وعليه، لا نجد حصر الاستخارة بمعنيين هما الأول والثاني عند الفيض صحيحاً، بل لابد من فصلهما عن المعنى الثالث، أو الخروج بتقسيم آخر.

ثالثاً: إنّ المعنى الثالث ـ بحسب تقسيم الكاشاني ـ لم نعثر له على رواية، بل الرواية التي ذكرت غاية ما تفيد تحيّر هذا الشخص السائل للإمام، وأنّ الإمام رغم أنّه أعطاه الجواب في البداية، إلا أنه أعطاه طريقاً من طرق الاستخارة بحيث يتعرّف فيه على الخيار الصحيح من خلال العزم الحاصل عنده بعد الدعاء أو الصلاة، فإنّ معنى «عزم الله لك» هو ـ كما في روضة المتقين ـ: «أي وقع في قلبك العزم على البحر»([48])، وبهذا يصلح هذا المعنى الثالث لأن يندرج في المعنى الرابع ولا يكون مستقلاً، فتعود المعاني ثلاثة.

رابعاً: إنّ المعنى الأوّل والثاني بحسب تقسيم الكاشاني وإن صلحا للتمايز عن بعضهما، إلا أنهما ـ بعد حذف المعنى الثالث ـ يمكن جعلهما مصداقين لعنوان يقع في الطرف المقابل للمعنى الرابع، وتكون النتيجة ما اختاره جمعٌ من المتأخّرين([49]) من تقسيم الاستخارة إلى معنيين:

بمعنى الدعاء المطلق، ويندرج فيه النوعان الأوّلان بحسب ترتيب الكاشاني المتقدّم، بلا ضرورة لفرضهما معنيين مستقلّين مادام الفارق بينهما في طبيعة متعلّق الدعاء فقط.

بمعنى المشورة التي تهدف الاهتداء إلى ما فيه الخير والصلاح، وهذا هو المعنى الرابع، فخصوصيّة المشورة هي التي تميّز هذا المعنى عمّا سبقه رغم اشتمال هذا المعنى على الدعاء أيضاً.

وبناءً على هذا التمييز، ليس من الضروري أن نأخذ حالة المستخير عنصراً فارقاً بين نوعي الاستخارة من حيث التحيّر وعدمه؛ لأنّ الاستشارة لا تفترض بالضرورة تحيّراً، فقد يرى الإنسان الأمور ويعزم عليها، لكنّه مع ذلك يستشير غيره علّه يجد عنده ما لا يراه عند نفسه، دون حاجة لفرض التحيّر في حالته، كما ومن الممكن أن يكون متحيّراً ويدعو الله تعالى بلا فرض الاستشارة.

بل الذي يميّز بين المعنيين هو إرادة المستخير اكتشاف ما يراه الله له صلاحاً عبر أمارة ظنّية، قبل القيام بالفعل، فإذا أراد ذلك كانت الاستخارة من النوع الثاني، وإذا لم يُضف إلى دعائه مثل هذا القصد والغاية كانت الاستخارة من النوع الأوّل.

فالاستخارة تارةً دعائية محضة، وأخرى دعائية استشاريّة، وليس صحيحاً ما ذكره بعضهم من أنّها إما دعائية أو استشارية([50])؛ لأنّ ذلك يوحي بأنّ الاستشارية لا دعاء فيها، وهو غير صحيح؛ فإنّ الاستشارية لا تخرج عن العنوان العام الجامع بين أنواع الاستخارات كلّها وهو الدعاء، غايته أنّ هذا الدعاء تارةً لا ينضم إليه مفهوم آخر، وأخرى يستبطن أو يضمّ مفهوم الاستشارة.


 


 

 

 

 

 

المبحث الثاني

حكم الاستخارة أو صفتها الشرعيّة

 

مقدمة

لا شكّ عند أحدٍ من المسلمين ـ فيما نعلم ـ في مشروعيّة الاستخارة التي تمثل دعاءً محضاً؛ لأنّ الدعاء مشروع، بل هو مستحبّ بالنصوص القرآنية والحديثية الكثيرة، ولم يناقش أحد في استحبابها حتى لو لم تثبت أيّ رواية أو حديث معتبر فيها؛ غايته أنّ ثبوتها بالعنوان الخاص محلّ نظر، لكن ثبوتها بالعنوان العام مما لا شك فيه.

إنما وقع الكلام في الاستخارة التي تحوي استشارةً وطلباً للتعرّف على الخير في الفعل الذي يراد الإقدام عليه أو تركه وفقاً لها؛ فقد ظهر قولٌ بحرمة هذه الاستخارة التي شهدنا لها حضوراً في الروايات الشيعية أكثر من الروايات السنّية التي غلب عليها استخارة الدعاء المحض.

والقول بحرمة الاستخارة الاستشارية لم يكن على سياق واحد، ففيما ذهب بعضٌ إلى حرمتها بأنواعها كالشيخ محمود شلتوت&، ذهب بعضٌ آخر إلى تحريم بعض أنواع هذه الاستخارة كالاستخارة بالرقاع والبنادق والقرعة كالمحقّق الأردبيلي فيما نسب إليه من الاستناد إلى آية الاستقسام بالأزلام لتحريم بعض أنواع الاستخارة، على تأمّل عندي في صحّة النسبة([51]).

ورفض مشهور متأخّري الإمامية القول بالتحريم مطلقاً أو في الجملة، واستندوا لشرعيّة الاستخارة ـ بكلّ أنواعها ـ إلى النصوص العامة في الدعاء تارةً والقرعة أخرى، والنصوص الخاصّة الواردة في أصناف الاستخارات، كما سوف يأتي بعون الله سبحانه.

من هنا، سوف نستعرض القول بالحرمة، ثم نعرّج منه على القول بالجواز، وذلك على الشكل التالي:

 

1ـ حرمة الاستخارة (نظرية الشيخ شلتوت)، المستند والدليل

ذهب الشيخ محمود شلتوت ـ في نصٍّ مقتضب نسبيّاً يعود لأكثر من نصف قرن ـ إلى القول بحرمة الاستخارة المتضمّنة للاستشارة، مستنداً في ذلك إلى:

1 ـ قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ (المائدة: 3)، على أساس أنّ طرق العرب في الاستقسام بالأزلام تشبه طرق أهل الاستخارة اليوم.

إنّ علم الغيب مختصّ بالله تعالى، فلا معنى لمعرفة الغيب من قبل الإنسان بمثل هذه الطرق، فهي ضربٌ من الكهانة.

إنّ الاستخارة تنافي العقل والبرهان، كما أنّها إلغاءٌ للعقل وتعطيلٌ له.

كما شنّع شلتوت على ما اعتبره أقبح أنواع الاستخارات، وهي الاستخارة بالمصحف الشريف([52]).

هذا، وقد اعتبر السيد باقر الصدر الاستخارة على خلاف الطبع العقلائي وإن لم يكن بصدد توهينها([53]).

ولكي يتضح مراد الشيخ شلتوت وتعليقات المعلّقين عليه، لابدّ من الوقوف عند آية الاستقسام بالأزلام؛ لتحديد معناها ودراسة مدى شمولها لظاهرة الاستخارة الرائجة اليوم.

 

وقفات نقديّة مع مستندات نظرية تحريم الاستخارة

أ ـ وقفة مع آية الاستقسام بالأزلام، محاولات نقديّة

ثمّة محاولات نقديّة للقراءة التي قدّمها الشيخ محمود شلتوت، وأهمّ ما يمكن قوله هنا ما يلي:

المحاولة النقديّة الأولى: لا شكّ في حرمة الاستقسام بالأزلام في الدين الإسلامي، انطلاقاً من الآية القرآنية المتقدّمة التي صُدّرت بقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ..﴾، إلا أنّه وقع الخلاف بينهم في معنى الاستقسام بالأزلام، وفي ضوء هذا الخلاف يتحدّد موضوع حكم الاستخارة.

والمطروح في كلمات اللغويين والمفسّرين وأمثالهم هنا عدّة معانٍ:

المعنى الأوّل: وهو ما ذكره غير واحد من أنّ قريشاً كانت لديها أزلام في الجاهلية مكتوبٌ عليها أمر ونهي، وافعل ولا تفعل، وأنّ هذه الأزلام قد وضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت، فكان الرجل إذا أراد سفراً أو نكاحاً أتى إلى سادن الكعبة فطلب منه أن يُخرج له زلماً، فيقوم السادن بإخراجها له، فينظر، فإذا خرج قَدَحُ الأمرِ، مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قَدَحُ النهي، قعد عما أراده. بل قد يكون مع الرجل نفسه ـ وليس في الكعبة ـ زلمان يضعهما في قرابه، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما.

وبهذا يكون معنى الاستقسام بالأزلام طلب أن يُقسم لهم الخير من خلال القداح وهي السهام، لأنّ الأزلام جمع زلم، وهو السهم الذي لا ريش له، وهذه السهام كان يكتب عليها «أمرني ربي افعل» أو «نهاني ربي لا تفعل» وكان بعضها غفل، أي لم يكتب عليه شيء، وهي التي إذا خرجت أعادوا الاستقسام مرّةً أخرى.

ووفقاً لهذا القول الذي اعتمده أمثال الشيخ شلتوت، تصبح الاستخارة كالاستقسام، لا سيما استخارة ذات الرقاع، والسبحة، حيث إنّها تقوم على شيء لا يختلف عن ذلك الذي كان يفعله العرب في الجاهليّة.

بل لو أراد الإنسان الذهاب أكثر، فقد يحتمل منافاة الآية الكريمة لمشروعيّة القرعة أيضاً، كما أثاره السيد محمد صادق الروحاني رادّاً له([54])، وسيأتي أنّها تنطبق على القرعة في بعض الكلمات.

وقد ذكر الواقدي في المغازي أنّ قريشاً استقسمت بالأزلام عند هُبَل للخروج إلى بدر، وأنّها قد خرجت لها بالنهي، وأنّ أبا جهل هو الذي أصرّ على الخروج([55])، وسياق نقل الواقدي واضحٌ في هذا المعنى للأزلام.

وتحدّث القلقشندي في صبح الأعشى عن عادات العرب، فذكر منها الاستقسام بالأزلام، وقال: هي ضربٌ من الطيرة، كانوا إذا أرادوا فعل أمرٍ ولا يدرون ما الأمر فيه، أخذوا قداحاً مكتوباً على بعضها افعل، ولا تفعل، وعلى بعضها نعم، وعلى بعضها لا، وعلى بعضها خذ، وعلى بعضها سر، وعلى بعضها سريع، فإذا أراد أحدهم سفراً مثلاً أتى سادن الأوثان، فيضرب له بتلك القداح، ويقول: اللهم أيّها كان خيراً له فأخرجه، فيعمل على ما يخرجه له، وإن كان بين اثنين اختلاف في حقّ سمّى كلٌّ منهما له سهماً، وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحقّ له([56])، وهذا يشبه القرعة.

المعنى الثاني: إنّ الاستقسام بالأزلام مرتبطٌ بالقمار، فهو تعبير آخر عن ظاهرة من ظواهر المقامرة كانت عند العرب، وذلك أنّهم كانوا يعمدون إلى الجزور، فيجزّؤونه عشرة أجزاء، ثم يجتمعون عليه، فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل، والسهام عشرة، سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها. فالتي لها أنصباء: الفذ، والتوأم، والمسبل، والنافس، والحلس، والرقيب، والمعلى. والفذُّ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتي لا أنصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد. وثمن الجزور على من لا يخرج له من الأنصباء شيء.

وهذا هو المعنى المرويّ في أحاديث أهل البيت من طرق الإمامية([57])، وقد ذكر الشيخ الطوسي في التبيان المعنى الأول والثاني هنا([58]).

وهذا الذي جاء في الرواية الشيعية شرحاً للاستقسام بالأزلام موجودٌ بعينه أو قريب منه عند أهل السنّة في كتب التفسير، بوصفه شرحاً للميسر دون بيان الاستقسام بالأزلام([59])، فأصل هذه الظاهرة موجودٌ متفق على وجوده، إلا أنّ الكلام في تسمية ذلك بالاستقسام بالأزلام بعد الفراغ عن تسميته ميسراً.

وبناءً على المعنى الثاني، يخرج الاستقسام بالأزلام خروجاً تاماً عن مفهوم الاستشارة أو التعرّف على المستقبل، ويدخل في وادي القمار وحرمته.

وهذا المعنى تتحمّله اللغة العربية في شرح كلمة ﴿تستقسموا بالأزلام﴾؛ لأنّ القمار ضربٌ من الاستقسام، والمفروض أنّ كلّ واحد يريد معرفة نصيبه بالسهام والأزلام.

وإلى هذا المعنى يرجع قول من قال بأنّ الاستقسام بالأزلام هو الشطرنج، أو أنّه كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها. بل قد ذكر الفخر الرازي قولاً بأنّ الاستقسام بالأزلام هو الميسر دون أن يخصّه بحال خاصّ.

والسؤال الذي يطرح هنا هو: أيّ من هذين المعنيين هو الصحيح؟

قد يترجّح هنا المعنى الثاني ـ كما ذكر العلامة الطباطبائي وغيره ـ اعتماداً على سياق الآية القرآنية الكريمة؛ فإنّ هذه الآية وردت في أنواع الأطعمة المحرّمة، والمعنى الثاني ينسجم مع الأطعمة المحرّمة إذا فسّرناه بخصوص التفسير الوارد عن أهل البيت^، لا بمطلق الميسر؛ لأنّ مطلق الميسر، وكذا جعله من باب تعرّف الغيب، لا ينسجم مع الأطعمة، كما لا ينسجم مع ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ الوارد في ذيل الآية الكريمة، ويكون إقحام الاستقسام بالأزلام إقحاماً غريباً عن السياق، الأمر الذي يرجّح المعنى الثاني. بل لو نظرنا في الآية الأولى من سورة المائدة، حيث قال تعالى: ﴿.. أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ..﴾، ثم ربطناها بالآية الثالثة محلّ الشاهد، فستكون الآية الثالثة هي بيان الاستثناء الذي ورد في الآية الأولى، فتكون مرتبطةً بالأنعام، وهذا ما يرجّح تفسير أهل البيت^ للآية الكريمة والذي يربطها بالجزور الذي يتمّ أخذه مقطّعاً بعد المقامرة عليه([60]).

إلا أنّ هذا المقدار لوحده لا يوجب أكثر من الترجيح دون التعيّن، فكثيراً ما أقحمت الآيات في طريقة البيان القرآني بموضوعات تبدو غير مترابطة، وكانت الآيات، بل الآية الواحدة تتنقل بين موضوعات، فليس غريباً عن النصّ القرآني أن يقع هناك إقحام لموضوع ضمن موضوعٍ آخر.

ولعلّ ما يعزّز ما نقول هو أنّ الآية الثالثة وإن وردت في المطاعم، إلا أنها بأجمعها وردت في بيان المأكول، لكنّها عندما وصلت إلى الجزور المأكول بطريقة القمار لم تقل (وما قسم بالأزلام) حتى تنسجم مع السياق المتقدّم، وإنّما أشارت إلى حرمة الفعل لا حرمة المأكول فقالت: ﴿وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾، ولعلّها لذلك قالت: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ رابطةً هذا الذيل بخصوص المقطع الأخير. فغاية ما تفيده كلمات أمثال العلامة الطباطبائي هو ضربٌ من الترجيح لا تعيين هذا المعنى.

المحاولة النقديّة الثانية: وهي التسليم الجدلي بأنّ الآية تتكلّم عما ذكره الشيخ شلتوت، لكن مع ذلك هناك فرق وامتياز بينها وبين الاستخارة، وذلك من جهة أنّ الاستقسام بالأزلام عند العرب كان في الكعبة عند هبل، وكان في ذلك ضربٌ من الشرك واستعلام حال الغيب والمستقبل من الأصنام، ولم تكن نيّتهم في ذلك قصد القربة إلى الله تعالى، على خلاف الاستخارة التي هي ابتهالٌ ودعاء لله وحده لا غير، وطلبٌ للتعرّف على المستقبل منه، وهو علام الغيوب، فالفرق بينهما هو الفرق بين التوحيد والشرك ([61]).

ولكن هذا التمييز يبدو لي لا يخلو من تحكّم فليس في النصوص التاريخية التي تحدّثت عن هذه العادة عند العرب إشارة إلى أنّهم كانوا يطلبون ذلك من الأصنام، بل كلّ ما في الأمر أنّ هذه السهام كانت توضع عند الكعبة، ولعلّ ذلك لشرفها أو لشرف الأصنام عندهم، وهذا غير أنّهم كانوا يقصدون التعرّف على الغيب من الأصنام، ولم يرد ذكر هبل إلا في بعضٍ قليل من النصوص التي تحدّثت عن الموضوع.

ولو غضضنا عن هذا، وكانت الاستخارة مشروعةً واقعاً، وكانت المشكلة في الجهة التي توجّه الاستخارة والدعاء لها، لو كان هذا صحيحاً، ما صحّ مجيء الآية الكريمة بهذا الخطاب الناهي عن أصل الاستقسام بالأزلام، بل للزم القول: وأن تستقسموا بالأزلام عند الأصنام أو لغير الله، تماماً كما قال في المقطع: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ أي وما ذبح للنصب وتقرّباً لها، وهي الحجارة التي وضعوها حول الكعبة وقدّسوها، فكان من الحقّ أن يقول: وأن تستقسموا للنصب أو للأصنام أو منها وهكذا، فمجيء النصّ ناهياً عن الفعل بالمباشرة لا على نتيجته، ثم حذفه حيثيّة التحريم التي هي الأصنام لا نفس الاستقسام بالأزلام كاشفٌ عن أنّ القضيّة لا علاقة لها بموضوع الشرك والتوحيد، ما لم يدّع في المرحلة السابقة ارتكاز مفهوم الشرك في هذه الظاهرة ومعروفيّة ذلك بين العرب، وإثبات ذلك من خلال نصوص اللغويين والمؤرّخين والمفسّرين صعبٌ جداً. وربط ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِموا بالأزْلامِ﴾ بقوله ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُصُب﴾ وإن كان محتملاً لكنه ليس بظاهر.

المحاولة النقديّة الثالثة: وهي ترى أنّ ما جرى عليه العرب كان يهدف معرفة الغيب، أما الاستخارة فلا يراد منها ذلك، ولا يقصد منها سوى الدعاء لله تعالى كي يحسم المستخير موقفه و يرتفع عنه تردّده، ولهذا ورد النهي عن التفأل بالقرآن الكريم؛ لأنه يشبه فكرة الاطّلاع على الغيب، فأنت بالاستخارة تعرف أنّ الأمر فيه الخير سواء وقع أو لم يقع أو كيف وقع وأنه الأصلح، فهي طلب لمعرفة الرشد في الأمر لا أنّها طلب لمعرفة الغيب([62]).

ويمكن تعميق المسألة أكثر من جهة أنّ الاستخارة نهايتها معرفة مراد الله في أن نفعل أو لا نفعل لا معرفة عواقب الأمور وخفيّات المستقبل، و من هنا اعتبر بعضهم أنّ لها جانباً تشريعياً في معرفة الطلب الإلهي، لا ما يُتداول خطأ من قبل الناس في أنّ هدفها معرفة المستقبل، وهل أنّ حوادثه جيدة أم لا([63]).

وهذا التمييز والتحليل للاستخارة جيّد، إلا أنّ المشكلة تكمن في إثبات أن العرب كانوا يقصدون غير ما يقصد دينيّاً بالاستخارة، فمن قال بأنّهم كانوا يطلبون الغيب؟! بل ظاهر الأشياء المكتوبة على السهام يدلّنا على أنهم كانوا يريدون معرفة ما يريده الربّ (أمرني ربي ونهاني ربّي و..)، والعرب كانت ترى الله سبحانه وتعالى ربّاً مدبّراً، بشهادة النصّ القرآني الذي يقول: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (يونس: 31)، فأيّ تمايز بين ما فعلوه وبين ما يُفعل عند المتديّنين بالاستخارة؟!

المحاولة النقديّة الرابعة: وهي ترى أنّ مسألة الاستخارة لم ترد في نصّ أو نصّين فقط، بل وردت في عشرات النصوص، وعند السنّة والشيعة معاً، حتى صنّف ابن طاووس كتاباً مستقلاً فيها جمع فيه عشرات الروايات من أكثر من 38 مصدراً، وهذا الكمّ الهائل من النصوص الحديثية يفرض بنفسه تعيّن المعنى الذي لا ينافي الاستخارة في تفسير الاستقسام بالأزلام([64]).

إلا أنّ هذا الكلام نافع في حال دون حال:

أ ـ أما الحال التي ينفع فيها، فهي عند عدم تشكّل ظهور واضح في دلالة الآية القرآنيّة، فإذا تردّد المعنى بين محتملين أو محتملات كان يمكن اعتبار مجموع النصوص مفيداً هنا بوصفه أحد قرائن الترجيح، تماماً كما هي الحال في التعامل مع الألفاظ المشتركة.

ب ـ وأما الحال التي لا ينفع فيها، فهي ما إذا انعقد الظهور القرآني عند المفسّر أو الفقيه، ففي هذه الحال سوف تُعتبر كلّ هذه الأحاديث معارضةً للقرآن الكريم فتُطرح، ولا وحشة في هذا الطرح إذا كان مواقفاً للقواعد، كيف وقد ردّوا الكثير من الروايات التي كانت منافيةً للقرآن في مسألة تحريف الكتاب الكريم، ولم يجدوا في ذلك حرجاً أو ضيقاً.

يضاف إلى ذلك أنّ المناقش هنا أقحم نصوص الاستخارة الدعائيّة في ضمن نصوص الاستخارة، وصحّ له لأجل ذلك استحضار نصوص أهل السنّة، مع أنّ الاستخارة الدعائيّة لا علاقة لها بإشكالية الشيخ شلتوت أساساً، فلم ينف الرجل الاستخارة التي بمعنى مطلق الدعاء أو الصلاة مع دعاء، فهذه من التي طفحت بها كتب الفقه والحديث عند السنّة والشيعة معاً، حتى لا يكاد يخلو كتاب منها، وصرّح بعض الزيديّة أيضاً بكونها مندوبة([65])، إنّما ناقش في الاستخارة الاستشارية التي يندر وجود أحاديث فيها في كتب أهل السنّة، فقد حصل تشويش في عرض المشهد هنا. نعم نسب المحقّق الحلي إلى طائفة من الجمهور (علماء أهل السنّة) إنكارهم الاستخارة الدعائيّة حسب ظاهر سياق كلامه([66])، وهو غريب؛ فإنّها مجرّد دعاء فلا معنى لإنكارها ما لم يقصد إنكارها بخصوصها، وإلا فهي كثيرة في كتب أهل السنّة الفقهيّة والحديثية كما قلنا.

وعليه، فهذه المحاولة النقديّة تنفع هنا لو وقعنا في ارتباك دلالي في الآية الكريمة ووثقنا بصدور نصوص الاستخارة الاستشاريّة عن المعصوم عليه السلام.

المحاولة النقديّة الخامسة: وحاصلها أنّ انطباق عنوان الاستقسام بالأزلام على فرضيّة القمار والجزور واضح؛ لأنّ الهدف تقسيم الجزور بينهم بالأزلام، وهذا على خلاف المعنى الأول، فإنّه وإن كانت فيه استعانة بالأزلام، لكن ليس فيه استقسام ولا قسمة ولا طلب للأقسام([67])، فيكون تعبير (الاستقسام) غير واضح الانطباق في فرضيّة الشيخ شلتوت.

إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الاستقسام ليس بمعنى طلب الأقسام أو فرض وجود أقسام ويراد توزيعها فحسب، بل القسم بمعنى إفراز النصيب، واستقسمه بمعنى سأله أن يقسم له نصيبه([68])، وهذا كما يصدق في حالة الجزور والمقامرة عليه، يصدق كذلك في حالة الاستخارة الاستشاريّة؛ لأنّ المستخير يطلب عمليّاً أن يقسم الله له الخير، ويجعل بعض الخير من نصيبه، فيطلب منه أن يهديه لما يفعل كي يكون الخير من نصيبه. وكأنّ المستشكل هنا كان محكوماً بالذهنيّة الفقهيّة لا اللغويّة.

والصحيح في مناقشة الاستدلال بآية الاستقسام بالأزلام هو أنّه بعد أن راجعنا المصادر رأينا هذه الكلمة تحتمل معنيين: أحدهما ما ذكره الشيخ شلتوت، وثانيهما ما يكون ضرباً من القمار. ولا مرجّح لأحد هذين المعنيين المحتملين على الآخر في داخل نصّ الآية الكريمة بحيث ينعقد ظهور قرآني لصالحه، وفي هذه الحال يصعب الاستدلال بالآية الكريمة لإثبات التحريم، بل سيكون مجموع النصوص الحديثية قرينةً مساعدة خارجيّة ـ لو صحّت ـ على ترجيح فرضيّة القمار الموافقة أيضاً للروايات التفسيرية الواردة عن أهل البيت^.

 

ب ـ وقفة مع مسألة الاستخارة وعلم الغيب

من الواضح أن إطلاق الشيخ شلتوت القول باختصاص علم الغيب بالله تعالى، يتغافل النصوص القرآنية والحديثية التي تؤكّد أنّ الله يُعلم بعضَ عباده بالغيب، كالأنبياء الذين ورد في القرآن الكريم الحديث عن إطلاعهم على الغيب في جملة من الموارد. نعم غاية ما في الأمر أنّ الإنسان لا يعلم الغيب في نفسه دن تعليمٍ من الله تعالى.

وحتى الذين أنكروا علم المعصوم بالغيب لم يقصدوا أنّه لا يعلم غيباً قطّ، بل قصدوا أنّه لا يوجد لدينا دليل عام يُثبت علمه بالغيب إلا ما خرج بالدليل، ولكنّهم لا ينفون علمه ببعض الغيب بتعليمٍ إلهي، فإذا كانت الاستخارة باباً مشرّعاً دينياً فلا داعي حينئذٍ لنفيه.

وقد ذهب السيّد محمد الصدر ـ كما ألمحنا سابقاً ـ إلى أنّ الاستخارة بمعنى التعرّف على الغيب مفهومٌ عرفي شعبي، وليس هو المراد من الاستخارة في النصوص، بل المراد هو الجانب الإرشادي تجاه الفعل أو الترك، فأنت تطلب من الله أن يأمرك بالفعل أو ينهاك، كما هي الحال مع استخارة ذات الرقاع، وليس هناك طلب أن يتنبّأ الإنسان بالغيب([69])، ولعلّه لهذا لم نجد أحداً من العلماء أقدم يوماً على استخدام الاستخارة لمعرفة الغيب والتنبّؤ به، بحيث عندما تخرج الاستخارة يُعلن ما الذي سيحصل في المستقبل. نعم هذا شيء موجود اليوم في الاستخارات ولو عند العلماء، لكنّه لم يستخدم في المنهج العلمي عندهم، ولم يعتمدوا الاستخارة طريقاً ظنيّاً معتبراً.

وحتى لو كانت الاستخارة باباً لمعرفة الغيب، ولو قلنا بالجانب الإرشادي من حيث إنها تكشف التزاماً عن المصلحة في الفعل أو المفسدة، وهو أمر غيبي غير مدرك للإنسان عادة، حتى لو كان الأمر كذلك، فالمفترض النقاش في تفسير كيفية كونها باباً كذلك، لا القول بانسداد باب العلم بالغيب، مما لا دليل عليه بنحوٍ مطلق. وعليه فمداخلة الشيخ شلتوت هنا غير كافية بهذا المقدار.

 

ج ـ تأمّلات في إشكاليّة الاستخارة وتعطيل العقل

كانت حصيلة الملاحظة الثالثة للشيخ شلتوت هنا أنّ الاستخارة فيها ضربٌ من تعطيل العقل، وهذا أمرٌ مرفوض، فالمؤمن بدل أن يفكّر في الأمر ويقلّب فيه النظر ويتأمّل في أطرافه وفي مصالحه و مفاسده، صار يعطّل عقله ويذهب نحو السبحة أو المصحف ليأخذ الجواب منهما بطريقة غير عقلائية وغير متعارفة، وهذه ثقافة يرفضها الإسلام والعقل معاً.

وقد أجيب عن هذه الإشكالية بأنّ العقل الإنساني قد يُصيب وقد يخطأ، وكما يحثّ العقل نفسه على استشارة الآخرين في الأمور، ويرى ذلك نضجاً عقلياً وكمالاً في الوعي، كيف لا يجيز استشارة الله العالم بالغيب وبالمصالح والمفاسد كلّها! أفهل يجوز استشارة المخلوقين الضعاف وتحرم استشارة الله العلّي القدير؟! وقد دلّت النصوص على أنّهم كانوا يتعلّمون الاستخارة كما يتعلّمون القرآن الكريم في العصر النبوي، وأنّها كانت ثقافة سائدة لديهم. والقرآن فيه تبيان كلّ شيء، فلابد أن يشمل بيان مصالح أفعال العباد من خلال الاستخارة([70]).

إلا أنّ هذه المحاولة في الجواب غير صحيحة، وذلك:

أولاً: إنّ نصوص الاستخارة التي تتحدّث عن العصر النبوي لا يوجد ما يثبت كون المراد منها هو الاستخارة الاستشارية، بل إن لم نقل بأنّ الأقرب إرادة الاستخارة الدعائيّة كما هو المدلول الأوّلي للكلمة، فلا أقلّ من كونه محتملاً للغاية في أن يكون المراد هو الاستخارة الدعائيّة، أو بعض ألوان الاستخارة الاستشاريّة التي تكون علامتها ما يلقى في القلب بعد التأمّل أو ما يُلقى على ألسن بعض الأشخاص الذين يستشيرهم المستخير فيأخذ بما يشور عليه أغلبهم أو بعضهم، فلا يصحّ جعل أي نصّ فيه كلمة (الاستخارة) ومشتقاتها شاملاً لمركز النقاش مع الشيخ شلتوت، وليس هناك إطلاق يمكن الاعتماد عليه هنا، بل غايته الحمل على المعنى اللغوي، وهو طلب الخير، ولعلّه لهذا قال السيد اليزدي بأنّ الأصل في الاستخارة هو الدعاء([71]).

ثانياً: إنّ كون القرآن الكريم فيه تبيان كلّ شيء لا ربط له بمسألة الاستخارة بالقرآن، وقد حقّقنا في محلّه([72]) أنّ بيانية القرآن هي بيانيّة للدين والهدى، لا أنّه بيان لكلّ شيء بنحو العموم المحقَّق بل لو كان الأمر كذلك فلماذا لا يقبل صاحب هذا الجواب ـ ولا غيره([73]) ـ باستنباط الأحكام الشرعيّة عبر الاستخارة بالقرآن الكريم؟! فكون القرآن فيه بيان كلّ شيء غير أنّ الاستخارة هي الوسيلة المعتبرة لاستكشاف ما في القرآن من بيانٍ لذلك الشيء.

ثالثاً: إنّ جواب المجيب هنا مبنيٌّ على فرضيّة مسبقة غير معلومة، وهي أنّ الله استجاب دعاء الداعي وأعطى رأيه في الموضوع الذي هو محلّ الاستخارة، لكي نرتّب الأثر على النتيجة، فإشكاليّة شلتوت ليست في نفس استشارة الله تعالى؛ وإنّما في ترتيب الأثر عليها و ترك التفكير والتأمّل، وهذه مشكلة في محلّها لم يجب عليها المجيب على شلتوت هنا.

إنّ تعطيل العقل يكون عندما نعمل بنتيجة الاستخارة تاركين التفكير في الموضوع، لا عندما نُقدم على الاستخارة نفسها، فليس هذا هو إشكال شلتوت حتى يجاب بأنّها استشارة لله تعالى، فلنستشر اليه سبحانه فلا مشكلة في الأمر، لكن العمل على وفق الاستخارة تاركين التفكير يفترض ـ ادّعاءً ـ أنّ الله أبدى رأيه، وهو أمر غير مؤكّد، فكم من دعاءٍ لم يستجبه الله سبحانه لمصالح لا نعرفها، فهذا أشبه شيء بشخص استشار زيداً فسكت زيد، فاحتمل المستشير أنّه أعطى رأيه بكذا وكذا. ففعل الفعل على هذا النحو بحجّة أنّه استشار تاركاً التفكير في الموضوع. وهذا ضربٌ من اللاعقلانية التي يدّعيها شلتوت.

قد يقال بأنّ بعض النصوص الدينية قد حثّت على حُسن الظنّ بالله سبحانه في أنّه يستجيب لعباده، وهذا ما ينتج عنه أن نفترض أنّه أعطى رأيه عند فتح المصحف الشريف، ونحن نعمل بما رأيناه اعتماداً على حُسن الظنّ المأمورين به والمدعويّن له.

والجواب: هذا الأمر صحيحٌ، وبهذا استدلّ بعضُ الفقهاء على شرعيّة الاستخارة كما سيأتي، أي بإطلاقات مشروعيّة ومحبوبيّة الدعاء وحُسن الظنّ بالله تعالى، لكن هل هذا الطريق يثبت عقلانيّة الاستخارة مطلقاً؟

لنفرض أنّ شخصاً دعا الله تعالى أن يحنّن قلب الظالم عليه، وكان رجلاً مطارداً يُراد اعتقاله ليُقتل، فهل يصحّ منه أن يذهب برجليه للظالم الذي يبحث عنه لقتله بحجّة أنّه دعا الله تعالى أن يحنّن قلب الظالم عليه وأنّه لابدّ من حُسن الظن بالله سبحانه؟!

لنفرض أنّ صفقةً تجارية كان احتمال الخسارة فيها يفوق التسعين في المائة، ثم دعا إنسانٌ الله سبحانه أن يُربحه في هذه الصفقة، هل يصحّ منه الإقدام عليها بحجّة حُسن الظنّ بالله سبحانه؟ وهكذا إذا لم يعرف أنّها خاسرة أم رابحة أم أنّ الظالم يريد قتله أم لا، فهل يصحّ الإقدام بحجّة حسن الظن باستجابة الله تعالى لدعاء العبد؟!

إنّ فكرة حُسن الظن بالله تعالى لا تنافي فكرة «اعقلها وتوكّل»، فلا يصحّ بحجّة حُسن الظن أو بحجّة التوكّل على الله سبحانه ترك الاشتغال على نظام الأسباب والمسبّبات المبثوث في هذا العالم، وهذا كلّه يعني أنّ إطلاقات أدلّة الاستخارة تعارض هذه المفاهيم العقلانيّة والدينيّة، فتكون منافيةً لنشاط العقل وداعيةً لتعطيله، وهذا هو ما أراده شلتوت.

فلنتصوّر أنفسنا مخلصين لإطلاقات أدلّة الاستخارة بالسبحة والمصحف والرقاع، بحيث إنّ كلّ أمر نريد أن نفعله ـ مهما كان ـ نعمل على ما تقول الاستخارة فيه، ولا نفكّر فيه أبداً، ففي هذه الحال إذا لم نسمّ هذا تعطيلاً للعقل فماذا نسمّيه؟ فلو صحّ الجواب بإطلاقيّة مسألة الدعاء للزم أن نصل إلى هذه النقطة تماماً.

والملفت أنّ بعض الذين استندوا في إثبات مشروعيّة الاستخارة إلى عمومات الحضّ على الدعاء، ذكروا أنّه من المناسب الاقتصار في الاستخارة على الحدود العقلانيّة للدعاء، وهذا ما دفعهم لحصر الاستخارة بنحو (من المناسب) بحال الحيرة أو عدم وضوح المصلحة وفقدان من يمكن الاستعانة به([74]). ولم يتّضح وجه التخصيص ما دامت نصوص الدعاء مطلقة ونصوص حُسن الظنّ بالله تعالى مطلقةً كذلك!

فالصحيح في الجواب هو تحديد إطلاقات الاستخارة، لكنّ المشكلة تكمن فيما يُثبت هذا التحديد بطريقةٍ ترفع التنافي المفترض، وسوف يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ الحديث بالتفصيل عن محلّ الاستخارة، و هناك ستكون نتيجة هذا البحث، حيث سنرى أنّه على بعض النتائج يتقيّد محلّ الاستخارة بحال التحيّر عقب استنفاد الوسائل الأخرى، فيما على بعض النتائج الأخرى لا قيد من هذا النوع، فيجري إشكال الشيخ شلتوت في حيثية الإطلاق هذه، ويكون إشكاله موجباً للتقييد لو تمّت معطياته.

وحاصل الكلام هو أنّ هذه الطريقة في الردّ على شلتوت غير صحيحة، والطريقة الصحيحة في فهم الموضوع إنّما تكون بعد بحث الأدلّة الخاصّة مع بيان محلّ الاستخارة.

ونستنتج من مجموع ما تقدّم أنّه لم يقم دليل حاسم يُثبت حرمة الاستخارة بنوعَيها: الدعائية والاستشارية، ومن ثم تبقى على مقتضى قاعدة البراءة ومقتضى الجواز والشرعيّة.

 

2 ـ شرعيّة الاستخارة (نظريّة مشهور الفقهاء)، الشواهد والمعطيات

بعد عدم نهوض دليلٍ مقنع على تحريم الاستخارة، يأتي الدور للمرحلة الثانية، وهي هل هناك دليلٌ على شرعية الاستخارة وجوازها من حيث المبدأ أم لا؟ وهل يملك الرأي المشهور في الفقه الإسلامي هنا دليلاً مقنعاً أيضاً؟

لقد أقام المستدلّون على جواز الاستخارة بعض الأدلّة، نحاول هنا التعرّض لأهمّها وأبرزها على الطريقة التالية:

 

1 ـ 2 ـ مقتضيات قانون البراءة، والترخيص في ممارسة الاستخارة

الدليل الأوّل الذي يمكن طرحه هنا لصالح شرعيّة الاستخارة هو أنّ جواز الاستخارة هو مقتضى أصالة البراءة، بعد عدم نهوض دليلٍ على الحرمة كما تقدّم، فتكون الاستخارة ـ بما هي فعلٌ من الأفعال ـ جائزةً، ويكون ترتيب الأثر عليها جائزاً، ما لم يتضمّن محرّماً من المحرّمات ولو بالعنوان الثانوي، وتكون مخالفتها ـ بما هي مخالفة لها ـ أيضاً جائزة.

نعم، نسبة نتيجتها إلى الله تعالى تكون محرّمةً؛ لأنّ أصل البراءة لا يفيد صحّة ذلك، بل هو تقوّلٌ على الله تعالى ومشمولٌ لحرمة التقوّل عليه بلا دليل، و أصل البراءة ليس بدليلٍ هنا على هذا المستوى كما هو واضح؛ لأنّ مهمّته تعيين الوظيفة العمليّة عند عدم الدليل، لا توفيرَ دليلٍ محرز أو أمارة شرعيّة من الأمارات المعتبرة كما هو المعروف في علم أصول الفقه.

كما أنّ هذا الدليل ـ أي أصل البراءة ـ لا يُثبت استحباب الاستخارة، بل غاية ما يثبت جوازها بما هي فعل، دون نسبتها لله ولا ادّعاء استحبابها، فضلاً عن أيّ حكمٍ شرعي آخر في حقّها.

 

2 ـ 2 ـ الاستخارة ومرجعيّة نصوص الدعاء والتضرّع

الدليل الثاني هنا هو ما ذكره بعض المتأخّرين من الاستناد إلى عمومات ومطلقات أدلّة الدعاء ومشروعيّته، بل الحث عليه، فتفيد هذه العمومات والمطلقات شرعيّةَ الاستخارة، بل واستحبابها والترغيب فيها، كيف وتكون الاستخارة عند ذلك من العبادات، حيث قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60)، فقد اعتبر الدعاءَ في هذه الآية الكريمة عبادةً، فتكون الاستخارة من العبادات المرغوبة، وذلك كلّه ينطلق من أنّ المستخير في مختلف أنواع الاستخارة يتوجّه إلى الله تعالى ويدعوه بأن يبيّن له الرشد في فعله أو يبيّن له الواقع المجهول ويحدّد له المصلحة من المفسدة.

ويترتّب على ذلك عدم انحصار طريقة التعرّف على الرشد أو المستقبل بالسبحة أو المصحف أو الرقاع، بل يمكن ذلك بأيّ وسيلة أخرى، ما دام مفهوم الدعاء شاملاً لكلّ الوسائل والطرق. نعم هذه الوسائل الخاصّة (السبحة والرقاع والمصحف و..) يمكن ترجيحها على غيرها على تقدير ثبوت أدلّتها الخاصّة([75]).

وقفات نقديّة مع الاستناد لعمومات الدعاء في تشريع الاستخارة

وهذا الدليل لعلّه من أفضل الأدلّة العامّة على إثبات شرعيّة الاستخارة وحُسنها، إلا أنه ينبغي التأمّل هنا في أطراف الموضوع، ففعل الاستخارة الدعائيّة لا شك في تمحّضه بعنصر الدعاء وصدق أدلّة الدعاء وحُسن الظنّ والتوكل فيه، وهذا واضح، إلا أنّ الكلام في الاستخارة الاستشارية، فهل هي فقط فعلُ دعاءٍ أم هي شيء مركّب من عدّة أمور؟

الذي يبدو لي أنّ الاستخارة الاستشارية تحتوي على عدّة عناصر:

العنصر الأول: الدعاء، حيث لا شك ولا ريب في أنّها دعاءٌ لله تعالى مهما كان متعلّقه، وهذا الجانب يظهر حال فعل مقدّمة الاستخارة، أي قبل أخذ حبّات السبحة، وقبل فتح المصحف الشريف أو مقارناً لذلك وسابقاً له معاً، وهذا الجانب أو العنصر يمكن إثبات شرعيّته بأدلّة الدعاء، بل وإثبات استحبابه بنفسه.

العنصر الثاني: نفس أخذ حبّات السبحة، ونفس فتح المصحف الشريف، ونفس التقاط بعض أوراق القرعة عشوائياً ونحو ذلك. ومن الواضح أنّ هذا لا يصدق عليه أنّه دعاء، بل هو فعلٌ مقارنٌ للدعاء أو لاحقٌ له، ومن الصعب القول بأنّه مشمول لأدلّة الحثّ على الدعاء.

العنصر الثالث: ترتيب الآثار على نتائج الاستخارة وخلق ثقافة الاستخارة في المجتمع بحيث يذهب المستخير عند مخالفته للاستخارة إلى التصدّق حذراً من المشاكل وما أشبه ذلك، وهذا كلّه من الواضح أنّه ليس دعاءً في حدّ نفسه، حتّى تشمله عمومات الدعاء ومطلقاته.

من هنا، أجد أنّه تبسيطٌ للأمر أن تُعَدّ الاستخارة ـ بما هي ظاهرة متكاملة مركّبة من هذه العناصر الثلاثة ـ مجرّدَ دعاء أو مشمولة لنصوص الأدعية، بل لابدّ من ضمّ عناصر أخرى يفترض دراستها معها، وهذه العناصر الأخرى هي:

1ـ الاستشارة، بحيث يقال بأنّ هذه الظاهرة هي نوعٌ من الاستشارة لله سبحانه، فتكون الاستخارة مشمولةً حينئذٍ لأدلّة الدعاء من طرف، وأدلّة الاستشارة وحسنها من طرف آخر، وبهذا يتحقّق المطلوب وتصبح ظاهرة الاستخارة مشمولةً بكلّ أجزائها للعمومات المرغّبة.

وهذا التخريج جيّد، إلا أنّه هل أنّ أدلّة الحثّ على الاستشارة تشمل استشارة الله سبحانه؟ وهل يوجد مفهومٌ اسمه (استشارة الله) ورد الحث عليه في النصوص، غير النصوص الخاصّة بالاستخارة والتي سوف يأتي التعرّض لها؟ علماً أنّ تعبير مشاورة الله لم يرد سوى في حديثٍ واحد ضعيف الإسناد هنا، وسيأتي الكلام عنه بحول الله تعالى.

من هنا، نشكّك في شمول أدلّة الاستشارة لاستشارة الله؛ ونراها منصرفة عنها إلى استشارة الناس وأهل الحجى والعقول، ولا يفهم القارئ العربي من نصوص الحثّ على الاستشارة والشورى أنّ الإنسان يستشير الله سبحانه، ومجرّد صدق الكلمة في جذرها اللغوي لا يعني تحقّق الظهور العرفي، كيف لو صحّ ذلك لما كان هناك معنى لأن يستشير الإنسانُ غير الله، فمن يستشير الله ويمكن له مشاورته وأخذ رأيه والاستزادة به، من القبيح له استشارة الناس وهم ضعاف العقول! وإذا كان الله هو المستشار فهو لا يخطأ ولا يطعن من يشاوره، على خلاف الناس فقد يخطأ مستشارهم وقد يكذب، وقد تكون له مصالح فاسدة، فكيف حثّت النصوص على استشارة الناس والحال أنّه توجد إمكانية لاستشارة الله سبحانه؟! ألا يوجب ذلك التشكّك في دلالة عمومات الاستشارة على مفهوم استشارة الله سبحانه؟! وألا يكون ذلك منبّهاً لصحّة دعوى انصراف أدلّة الاستشارة عرفاً عن استشارة غير الناس؟

2ـ حُسن الظن بالله تعالى والتوكّل عليه واليقين بالإجابة، وهذا المفهوم نابعٌ من صلب أدلّة الدعاء التي ورد فيها مثل هذا الشيء، ونتيجة هذا الموضوع ستتشكّل فكرة الكشف، فإنّه عندما يدعو الإنسان الله سبحانه أن يعرّفه المصالح والمفاسد أو يعرّفه الرشد في الفعل وعدمه، وتحثّه النصوص على الإحساس بالاستجابة فسوف تتشكّل بطريقة طبيعية قوّة احتمالية في دلالة خروج السبحة بطريقة ما على المراد الإلهي، وتصبح نتيجة الاستخارة مظنونة في الحدّ الأدنى إن لم نقل مقطوعة.

ويمكن صياغة المسألة على الشكل التالي: إنّنا نعلم بأنّ الله لا يغشّ من استنصحه، وهو الكمال المطلق الذي لا عيب في علمه ولا قدرته ولا كرمه، وأنّه ليست له مصلحة شخصيّة في تفويت طلب الطالبين، وحيث إنّ الاستخارة من الدعاء، فمن الممكن أن يجاب الدعاء، بل يتعيّن جوابه إذا صحّ الإخلاص، وهذا معناه أنّ نتيجة الاستخارة بعد صدق الدعاء إن لم تكن تطابق الواقع، فلا تخلو من أحد أمور كلّها باطلة، إذ إما أن يرجع ذلك الى قصور في العلم الإلهي أو في القدرة الإلهية أو في الكرم الإلهي، أو تكون هناك مصلحة شخصيّة لله سبحانه، وهذا كلّه باطل، فيتعيّن استجابة الدعاء([76]).

ويذهب بعض العلماء أيضاً ـ في سياق جوابه عن بُعد احتمال حصول تدخّل إلهي في الاستخارة أو معجزة تُحدث اختياراً صحيحاً لحبّات السبحة مثلاً ـ يذهب إلى الجزم بحصول المعجزة أو التدخّل الإلهي في الإنتاج، ويستند في ذلك لأحد وجهين على الأقلّ:

الوجه الأول: إنّ ما تقدّم في الاستدلال على صدق الاستخارة كافٍ في تحقيق اليقين بالنتيجة كما بيّنا، و إلا صار حالنا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (فصّلت: 22).

الوجه الثاني: الأخبار الخاصّة التي تتعهّد بصدق الاستخارة ونفي المصادفات فيها، وهي أخبار مستفيضة تدلّ على التدخّل الإلهي. وكون الله لا يجري الأمور إلا بأسبابها لا ينافي تدخل الله في نظام الأسباب بتحريك يد المستخير لاختيار حبّات السبحة بطريقة صحيحة تؤدي إلى الإنتاج الصحيح المطابق للواقع([77]).

 

مفارقة الوعد بإجابة الدعاء مع عدمها خارجاً، محاولات ومتابعات

والمشكلة الأساسية التي تواجه هذا التفسير لمسألة اليقين بالإجابة وحُسن الظن بالله تعالى، هي مشكلة التخلّف الواقعي للدعاء، بمعنى عدم استجابته في كثير من الأحيان، سواء في الاستخارة أو خارجها، فكم نجد الله تعالى مدعوّاً لكنه لا يستجيب، ومن ثم فأقصى ما يفيد هذا الدليل تحصيل ظنّ ليس هناك دليل على حجيّته واعتباره، بل لا دليل على إسناد مؤدّاه للمولى سبحانه.

وقد حاول بعض العلماء الجواب عن هذه الملاحظة بأنّ ما يترائى لنا أنّه عدمُ استجابةٍ لدعاء الاستخارة، يمكن دراسته على عدّة مستويات:

المستوى الأول: أن يرجع ذلك إلى الدعاء نفسه، فإنّ المراد بالدعاء هو الطلب مع التوجّه والفهم للمخاطب وحضور القلب مع الإخلاص في النيّة، فهذا هو الدعاء في المفهوم الإسلامي، وليس مجرّد لقلقة لسان. وعدم الاستجابة في بعض الموارد ناتجٌ عن عدم تحقّق موضوعها وهو الدعاء بالمعنى الذي قلناه.

المستوى الثاني: إنّ الاستجابة حاصلة قطعاً، لكنّها غير متعيّنة الزمان والمكان، فقد تحصل فوراً وقد تتأخّر قليلاً أو كثيراً، فيظنّ الداعي أنّ الدعاء لم يتمّ استجابته و الحال أنّه قد استجيب.

كما أنّ الآية الكريمة التي وعدت باستجابة الدعاء لم تشر إلى حالات التعارض أو التزاحم، بحيث تصبح الاستجابة فيها متعذّرةً تقريباً أو تحقيقاً، كرجوع الاستجابة إلى ضررٍ على العبد أو إلى ضررٍ على الآخرين، أو تعارض الدعاء لشخصين ونحو ذلك.

المستوى الثالث: إنّ عدم استجابة الدعاء، بل و إضرار العبد، قد تكون لمصلحة له كخرق السفينة في قصّة موسى والعبد الصالح.

المستوى الرابع: قد يرجع عدم استجابة الاستخارة إلى فقدان المستخير لشروط الاستخارة، حتى لو حصّل شرائط الدعاء. وشروط الاستخارة هي أن لا تكون ثانيةً بعد أولى على موضوعٍ واحد.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ كلّ استخارة حصلت فيها هذه الأمور المتقدّمة فهي مجابة قطعاً ويقيناً، دون أن يخلف الله وعده في الاستجابة([78]).

كما حاول بعض العلماء الآخرين هنا حلّ المشكلة بطرق أخرى:

منها: أنّ الوعد الإلهي مشروطٌ بالمشيئة، قال تعالى: ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء﴾ (الأنعام: 41).

ومنها: أنّ المراد بالإجابة لازمها، وهو السماع، أي يستمع إلى دعواتكم([79]).

وذكر الشيخ مغنية أنّ آيتي (الأنفال: 24) و(الشورى: 47) مقيّدتان باستجابة العبد وعدم تكبّره عن العبادة، وكذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يونس: 89)، وهذا كاشفٌ عن أنّ عدم استجابة الدعاء أمرٌ راجع إلى عدم إيمان العبد واستقامته وأنّ الاستجابة مشروطة بصلاح العبد([80])، ولهذا ربط المتشرّعة استجابة الدعاء بصلاح الداعي، فيطلبون من الأتقياء أن يدعو لهم.

وعلى أية حال، فهذا الكلام كلّه توجد عليه ملاحظات أبرزها:

الملاحظة الأولى: إنّ هذه المستويات الأربع التي ذكرها هذا الفقيه هنا هي بنفسها خير دليل على عدم حصول اليقين بالإجابة؛ لأنّه معها يمكن أن لا تكون شروط الدعاء قد تحقّقت منّي، ويمكن أن تكون المصالح والمفاسد الواقعيّة قد تزاحمت، أو قد تكون تزاحمت الأدعية والاستخارات، أو قد يكون الله تعالى رأى مصلحةً في أن أضع يدي على حبّات السبحة بطريقة غير صحيحة وغير ذلك، ومع هذا كلّه كيف يمكنني أن أجزم بأنّ استخارتي مستجابة؟!

إنّ اليقين بالإجابة يفترض أن يكون شاملاً لكلّ داعٍ أو مستخير، فكيف يجتمع اليقين بالإجابة مع كلّ هذه القيود التي تجعل الأدعية المستجابة واقعاً هي الأقلّ، وكيف يتحقّق الكشف اليقيني بل حتى الظنّي هنا للاستخارة، بل لمطلق الدعاء؟

إنّ مردّ هذا الكلام إلى القول بوجود علم إجمالي باستجابة بعض الاستخارات الواقعة من الناس دون تعيين المعلوم بالإجمال تفصيلاً، وإنما يبقى على إبهامه وإجماله، وهذا لا يجتمع مع اليقين بالإجابة بوصفه عنصراً معرفيّاً كاشفاً.

الملاحظة الثانية: لوصحّ هذا النهج على المستوى المعرفي والكشفي للزم إجراؤه في مجال القضاء، بل وفي مجال الاجتهاد والإفتاء؛ لأنّ أدلّة الاستخارة ولو كانت غير شاملة ـ فرضاً وسيأتي بحثه ـ لغير حالات التردّد وانسداد الأمور تماماً كأدلّة القرعة، إلا أنّ المفروض أننا نستدلّ بعمومات الدعاء حيث يفترض أنّها شاملة لكلّ دعاء، فكما يحصل من الدعاء العادي يقينٌ بالإجابة، لماذا لا نفعل ذلك في الدعاء باكتشاف الحكم الشرعي أو في كشف الجاني؟! وإذا كان حديث «إنما أقضي بينكم بالأيمان والبينات» موجباً لتقييد وسائل الإثبات القضائي، لو سلّم بأنّ المراد بالبيّنات خصوص البيّنة الشرعية المصطلحة وليس مطلق البيّنة، فإنّ الاجتهاد لم تُذكر في نصوصه ضرورة اتّباع وسائل خاصّة بحيث يُنهى عن غيرها لو أفادت اليقين، وهذا ما يشمل أيضاً اتّباع ولي الأمر وقادة ومسؤولي البلاد الإسلامية هذا السبيل لاتخاذ قراراتهم الإجرائية، إذ لم يرد في النصوص تقييد وسائل معلوماتهم بقيد.

يضاف إلى ذلك أنّ أدلّة الاستخارة، سيأتي المناقشة والحديث في اختصاصها بحال الحيرة وعدمه.

الملاحظة الثالثة: إنّ صاحب الاستدلال والمناقشات قد وقع في تناقضٍ هنا، ففي استدلاله على يقينية الإجابة ذكر أنّه بعد صدق الدعاء لا يكون هناك معنى لعدم الإجابة إلا القصور في العلم الإلهي أو القدرة أو الكرم أو وجود مصلحة شخصيّة للمولى، وكلّه محال، لكنّه هو نفسه لما حاول تخريج الأدعية التي لا نجدها تستجاب ذكر عناصر أخرى لعدم الإجابة غير هذه الأربعة المستحيلة، وهي وجود مصلحة للعبد أو تعارض الأدعية وتزاحمها، وهذا يعني أنّ عدم استجابة الدعاء لا يفضي إلى ما هو محال بالضرورة، فيكون آخر كلامه مناقضاً لأوّل كلامه بحسب المحصّلة النهائية للموضوع.

الملاحظة الرابعة: إنّ الحديث عن لزوم تحقّق القصد في الدعاء والتوجّه والإخلاص وأمثال ذلك كلام صحيح؛ لأنّ هذه العناوين هي التي تحقّق صدق عنوان الدعاء لله تعالى، إلا أنّ ما ذكره غير واحد من علماء الأخلاق من تبرير عدم استجابة الدعاء ـ زيادةً على ما تقدّم ـ بأنّ الداعي لم يجتنب المعاصي الظاهرة وغيرها، أو لم يكن بالمستوى الروحي الرفيع الذي يوجب توكّله على الله تعالى وتفويض الأمر إليه، أو لم يقم بآداب الدعاء والاستخارة، كما ذكر ذلك السيد ابن طاووس وغيره([81]).. هذا كلّه ـ ممّا سبق أن أثارته المعتزلة([82])ـ في نظري شلٌّ لما تريده الآيات القرآنية الداعية للدعاء، فقد صوّر هؤلاء العلماء الدعاء ظاهرةً معقّدة جداً، مستندين في بعض الأحيان لبعض النصوص الضعيفة أو التحليلات الشخصيّة والوجدانية، وهذا كلّه منافٍ لعمومات النصوص وظواهرها، فإنّ ظاهرها كفاية صدق الدعاء وكلّ ما له دخل في تحقّق هذا العنوان، أما إغراق الدعاء بسلسلة قيود تحيله إلى ظاهرة نادرة التحقّق في المجتمع فهذا في نظري ليس سوى فراراً من المشكلة هنا، من دون دليل معتبر.

الحلّ الأفضل لإشكالية المفارقة في الدعاء

الملاحظة الخامسة: ما يمكننا إضافته هنا واعتباره الحلّ لمشكلة عدم استجابة الدعاء أحياناً، بعد تخطّي كلّ هذه التأويلات التي قالها بعض العلماء، وهو أنّ المخصّص أو المقيّد للنصوص العامّة في استجابة الأدعية يمكن بالتحليل إرجاعه إلى عنصر واحد، وهو أنّ نصوص التعهّد الإلهي باستجابة الدعاء هي نصوص امتنانيّة تفضّلية من الله سبحانه على عباده، لغاية تحقيق الخير لهم عند رجوعهم إليه، والنصّ المسوق على نهج الامتنان مقيّد لبّاً بكلّ شيء يتقوّم به الامتنان والتفضّل. ومن الواضح أنّ تحقّق الضرر على العبد لو استجيب الدعاء أو فوات منافع أعظم له، يقعان على خلاف الامتنان، فلو استجاب الله تعالى لعبده دعاءه الذي يفضي به إلى وقوع الضرر عليه أو فوات منافع عظمى منه في الدين والدنيا لاستنكر العبد على ربّه بأنّك تعلم الغيب، وأنا حين دعوت ما كنتُ أعلمه، فكان من المناسب منك ـ وأنت جعلت الاستجابة للتفضّل وتحقيق الخير للناس ـ أن لا تستجيب، لا أن تستجيب لجهلي وقصوري وخطئي في الدعاء، فيلحقني بذلك ضرر أو تفوتني منفعة. وهكذا لو كان الدعاء موجباً لضررٍ راجع على سائر عباد الله تعالى، فإنّ استجابته منافيةٌ للامتنان في استجابة الدعاء عندما تقاس بالنوع الإنساني، إذ لا معنى للامتنان على العباد بشيء يلزم منه لحوق الضرر على بعضهم.

إنّ هذا القيدَ المفترَضَ نفهمه من السياق الامتناني فهماً عرفياً، وهذا هو ما يميّز محاولتنا هذه عن سائر المحاولات التي قيلت في الموضوع، وتشهد به النصوص الدينية أيضاً، مثل قوله تعالى: ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾ (الإسراء: 11).

ومن خلال ذلك نعرف أنّ الدعاء لطلب الحرام أو الدعاء بأذيّة الآخرين ممن لا تجوز أذيتهم أو الدعاء بأمرٍ ظاهره حسن لكنّ عواقبه سيئة على الداعي أو غيره، أو الدعاء الموجب تحقّقه لجميع الناس تغيّرَ النظام الطبيعي للعالم، وهو النظام الأصلح، ونحو ذلك كلّه خارجٌ عن عمومات استجابة الأدعيّة بالقرينة اللبيّة المتصلة، فليس مشمولاً للآية الكريمة الدالة على الاستجابة عند الدعاء من رأس.

ومن هذا القبيل تأخير الاستجابة، كما ورد في الدعاء: «ولعلّ الذي أبطأ عنّي هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور»([83]). فإنّ هذا لا يرجع إلى ما قالوه من أنّ الله وعد بالإجابة ولكنّه لم يذكر موعدها، فإنّ هذا التفسير غير صحيح؛ لأنّ الداعي حين يدعو فإنّ لسان حاله ومقصده هو تحقّق الاستجابة فوراً أو في أسرع وقت، فالزمان منظورٌ في الدعاء نفسه، كيف والآية الكريمة قالت: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186)، فإن تعبير (إذا دعان)، شاهد ـ خلافاً لتفسيرات المفسرين ـ على أنّ الاستجابة تكون عند الدعاء، وهذا هو ما يفسّر مجيء (إذا دعان)بعد (دعوة الداع) بما يوحي وكأن هناك تكراراً في الأمر، فإنّ هذه الجملة الثانية إنما تريد بيان سرعة الإجابة، أي أنني أجيب دعوة الداع بمجرّد أن يدعوني.

بل يرجع هذا كلّه ـ موضوع التأخير ـ إلى عنصر الامتنان؛ لأنّ التأخير أيضاً فيه المصلحة وفي السرعة المفسدة أحياناً، وهذا هو الذي يفهم من نصّ الدعاء المتقدّم.

ولتقريب فكرة الامتنان أكثر يمكن التشبيه بالوالد وولده، فإنّه إذا قال الوالد للولد: يا بنّي، أيّ شيء تريده فأنا سآتيك به، ثم طلب الولد ابن العشر سنوات أن يشرب الخمر، فإنّ الوالد يرفض، وهنا اذا اعترض عليه الابن بأنّك وعدتني، أبرز الوالد عذراً هو في الحقيقة قيدٌ لبّي، وهو أنّني حين قلت لك هذا الوعد كان غرضي تأمين مصالحك لا إلحاق الضرر بك، فكلامي مقيَّد من الأوّل، وهذا ما يقبله العرف منه حين يعتذر بذلك، ولا يعدّون كلامه الثاني وتراجعه تخصيصاً منفصلاً، بل يرونه حاكياً عن المخصّص المتصل.

وبناءً عليه، فاليقين بالإجابة مستحيلٌ إذا فسّرناه على إطلاقه بالمعنى المعرفي الكاشف عن الواقع وما سيحدث، تبعاً لتقيّد كلّ دعاء بما أسلفناه، وإلا لزم كذب الوعد الإلهي الوارد في الآيات الكريمة بالاستجابة، وهو واضح الفساد.

 

كيف يمكن فهم فكرة حُسن الظنّ بالله واليقين بالإجابة؟!

الملاحظة السادسة: بعد كلّ ما تقدّم، كيف يمكن فهم فكرة حُسن الظنّ بالله واليقين بإجابته؟

إنّ الذي يظهر أنّ هذه الفكرة ليست ذات بُعدٍ معرفي، وإنما هي ذات بُعد نفسيّ وروحي، فالغرض منها أن لا يُقبل الإنسان على الدعاء يائساً ومحبطاً لا يرى قيمةً لتوجّهه له تعالى، بل أن يدخل مؤمناً طائعاً يركن لله تعالى ويتوكّل عليه وملؤه أمل بالإجابة، بل إنّ مراجعة النصوص الحديثية في هذا المجال لا يعطي أكثر من هذا فضلاً عن أنّها جميعاً ضعيفة السند فيما هو دالّ منها.

ونظراً لأهمية الأمر، لا بأس باستعراض هذه النصوص، فهي محدودة عدداً([84]) وهي:

الرواية الأولى: مرسل سليم الفراء، عن أبي عبد الله، قال: «إذا دعوت فأقبل بقلبك وظنّ حاجتك بالباب»([85]).

وهي ضعيفة السند بالإرسال من طرف سليم الفراء، كما أنّ سندها في الكافي فيه إرسالٌ آخر بين أحمد بن محمد بن عيسى، وسيف بن عميرة، وهو (عن بعض أصحابه) حيث لم يسمّ هذا البعض.

وقد أورد الحرّ العاملي هذه الرواية حاذفاً (عن بعض أصحابه) بين ابن عيسى وابن عميرة([86])، والصحيح هو الإثبات مؤيّداً بما نقله الفيض الكاشاني([87]) عن الكافي مما هو مطابق للكافي ونسخه الموجودة بين أيدينا اليوم، ويشهد لسهو قلم الحرّ العاملي أنه بنفسه روى الرواية عينها في موضع آخر مطابقاً للوافي وما هو موجود اليوم([88]). فيكون سند الرواية مبتلى بالإرسال في موضعين منه. بل قد يقال بأنّ الرواية غاية ما تطلبه هو ظنّ الإجابة لا اليقين بالإجابة، فلا تكون فيها دلالة على الموضوع هنا، إذا لم نفسّر الظنّ باليقين.

إلا أنّ الأقرب أن يراد بالظن هنا اليقين، لتناسب الحكم والموضوع فإنه حيث أرادت بيان وفاء وعد الله واستجابة الدعاء كان الأنسب بها هو اليقين والله العالم.

الرواية الثانية: النبوي: «ادعو الله سبحانه وأنتم موقنون بالإجابة، و اعلموا أنّ الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ لاه»([89]).

والظاهر أنّ هذا الحديث مأخوذٌ من كتب أهل السنّة، إذ لم نعثر له على مصدر إمامي قديم فضلاً عن وجود سندٍ له، وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن عبدالله بن عمر([90])، كما أخرجه الترمذي من وجهٍ آخر من رواية أبي هريرة([91]). وقد وصف الهيثمي سند ابن حنبل بأنه حسن([92]) وفي السند صالح بن بشير المري وقد غمزو في دقّته وحفظه وإتقانه، حتى ذكره ابن حبان في المجروحين، وقال: «واستحقّ الترك عند الاحتجاج»([93])، وقد ضعّفه غير واحد([94])، وقد وقع في طريق الترمذي إلى هذا الحديث أيضاً.

وذكر الهيثمي وغيره هذا الحديث بألفاظ متقاربة «وأنتم واثقون بالإجابة»([95])، بسندٍ ضعّفه هو بنفسه ببشير بن ميمون الواسطي.

وهذا الحديث ـ وحتّى غيره من أحاديث الباب ـ يحتمل معنيين في تفسيره كما ذكره العلامة المجلسي([96]):

المعنى الأول: أن يدعو الإنسان الله حال كونه مستيقناً بالإجابة، فيكون مرتبطاً بمورد بحثنا.

المعنى الثاني: أن يدعو الإنسان الله ويكون في حالةٍ من تحقيق مقوّمات الدعاء تحصّل اليقين بالإجابة، فيكون على حالة يستحقّ فيها الإجابة، ولعلّ ما يشهد لهذا المعنى هو تذييل الحديث، فإنه يقول: ادعوا الله متيقّنين بالإجابة، فلو دعوتموه بقلبٍ لاه فهو لا يستجيب، فيفهم منه أنّ المراد من صدر الحديث تحقيق كلّ الشروط اللازمة لتحقّق الاجابة، بل الحديث في مسند أحمد أوضح حيث قال: «..موقنون بالإجابة، فإنّ الله..». وقد تنبّه العلامة المجلسي هنا إلى أنّ اليقين لا معنى له بعد أن لا يكون من صلاح الداعي أن يستجاب له مخرّجاً ذلك بأنّ الإجابة تكون لأمر آخر لعلّه أفضل مما دعاه العبد([97]).

والإنصاف أنّ الحديث يحتمل الوجهين المتقدّمين، لكنّ تخريج العلامة المجلسي غير واضح؛ لأن متعلّق اليقين ـ بحسب الحديث ـ هو الإجابة للدعاء، لا أنّ متعلّقه هو أنّ الله سيعطيه خيراً آخر لعلّه لم يلتفت إليه حين الدعاء، فإنّ هذا المعنى غير اضح من الحديث.

كما أنّ هذا الحديث وأمثاله عندما استخدم كلمة اليقين الدالّة على السكون النفسي لا على البُعد المعرفي بحسب معطياتها اللغوية، فهو يساعدنا أكثر على فهم أنّه يريد منّا أن نكون في حالة سكينة روحيّة عندما ندعو الله سبحانه ونثق به، وهذا غير حصول العلم بالإجابة بعد تمامية الدعاء، فهو من شروط حال الدعاء لا من المكتشفات التي نعرفها بعد تحقّق الدعاء فتأمّل جيداً.

الرواية الثالثة: خبر سليمان بن عمرو، قال: سمعت أبا عبدالله×، يقول: «إنّ الله تعالى لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك، ثم استيقن الإجابة»([98]).

وهذا الحديث يصعب تفسيره بالاحتمالين المتقدمين في الحديث السابق، بل يتعيّن فيه الاحتمال الأوّل هناك، وهو المعنى المستدلّ له هنا. لكنّ سند الحديث ضعيف بسليمان بن عمرو حيث لم تثبت وثاقته، كما أنّه لا سند له أساساً في غير كتاب الكافي، وقد صرّح العلامة المجلسي بضعف السند هنا([99]).

وقد يقال هنا أيضاً بأنّ «استيقن بالإجابة»، لا تعني العلم بها، بل هي دعوة لطلب تحصيل استقرار النفس؛ لأنّ اليقين فيه جانب نفساني على خلاف العلم ففيه جانب معرفي، وكلامنا على مستوى اللغة.

الرواية الرابعة: وهي قد ترجع إلى عدّة روايات وقد تكون روايةً واحدة، وهي حديث قدسي يقول سبحانه فيه: «أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء يجدني عنده»([100])، وقد ورد في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع: «أنا عند ظنّ عبدي بي، إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشراً»([101])، وورد بصيغة: «أنا عند ظنّ عبدي، فليظنّ ما شاء»([102])، وورد بصيغة: «أنا عند ظنّ عبدي بي، فلا يظنّ عبدي بي إلا خيراً»([103]). وقد كثر ورود هذا النص أو قريب منه في مصادر أهل السنة أيضاً([104]).

وكلّ صيغ هذا الحديث تركّز على أنّ الله يكون عند ظنّ عبده، وترتّب بعض صيغ الحديث على ذلك الطلب من العبد أن يحسن الظنّ بالله حتى يكون له نتائج، وأن لا يسيء الظنّ به كي لا يرتدّ ذلك سلباً عليه، وكلّ صيغ هذا الحديث توصل بدرجة أو بأخرى إلى أنّ حُسن الظنّ بالله مطلوب وأنّ له نتائجه الحسنة.

وهذا الحديث الذي له أسانيد متعدّدة بعضها معتبر عند السنّة وبعضها الآخر معتبر عند الشيعة، لا يدلّ على شيء في موضوع بحثنا؛ لأنّ غاية ما يفيد أنّ على العبد أن يُحسن الظنّ بالله سبحانه، فيقول في قلبه بأنّ الله لن يأتيني منه إلا الخير وما فيه المصلحة لي، ولن يخذلني عما يكون لي فيه التوفيق والسداد، فإذا دعا الإنسان ربّه فإنّ معنى حُسن الظن ليس استجابة الدعاء بالضرورة، بل هو استجابة الدعاء على تقدير رجوع ذلك بالخير على الإنسان الداعي، وإلا لم يكن في استجابة الدعاء إلا الشرّ له، فلا ترابط عضويّ قهري بين حُسن الظن وأنّ الله سيستجيب، بل إنّ ما قلناه عن دعوة الإنسان بالشرّ وهو لا يدري يكون مقدّماً على ما نحن فيه، من حيث إنّ ذاك الاحتمال يفرض أن يكون حُسن الظن مفضياً إلى عدم استجابة الدعاءلا العكس.

وحديث حُسن الظن بالله ـ سواء كان هذا الحديث القدسي أم غيره من الأحاديث المرويّة في كتب المسلمين ـ يرجع إلى مفهوم الرضا بقضاء الله والتوكّل على الله، وأنّ ما يعطيه الله للعبد فيه خيرٌ له ولو لم يظهر هذا الخير لي، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا﴾ (النساء: 79). ومفاهيم حسن الظن بالله يمكن عدّها من المفاهيم الإيمانية المكمّلة للإيمان بخيريّة الله وأنّه كمال محض.

وبهذا يظهر أنه لا تلازم بين فكرة حُسن الظنّ بالله وبين اليقين المعرفي بالإجابة، بل هي تلتقي مع الإجابة وعدمها.

الرواية الخامسة: خبر ابن القداح، عن أبي عبدالله، أو أبي جعفر قال: «ما أبرز عبدٌ يده إلى الله العزيز الجبّار إلا استحيا الله عزّ وجل أن يردّها صفراء، حتى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء»([105]). وهذا المفهوم قد نجد له حضوراً في بعض الروايات الأخرى أيضاً([106]).

إلا أنّ هذا الحديث ـ بصرف النظر عن مصدره وسنده ـ غاية ما يفيد أنّ الله تعالى لا يردّ الداعي صفر اليدين، لكنه لا يفيد أنه يستجيب له عين ما دعاه، فهو دالّ على عدم الإجابة أحياناً، فالله إذا دعي واستجاب فلا موجب للكلام، أما إذا دعي ولم يقرّر الإجابة فإنه لا يسمح برجوع داعيه خائباً متحسّراً، بل يعطيه شيئاً من رحمته، ولهذا قال: «من فضل رحمته ما يشاء» أي أنّه يعطيه شيئاً ما ولا يُرجعه خائباً بالمرّة، ولعلّه لو أدرك ما أعطاه لعرف كرم الله تعالى حتى لو لم يستجب له دعاءه الذي جاءه به.

وهذا الحديث يلتقي مع الفكرة التي قدّمها الحديث القدسي السابق؛ لأنّ تعهّد الله سبحانه أن لا يردّ الداعي خائباً بالمرّة، يفرض علينا أن نُحسن الظنّ بالله، وأنّه إذا لم يستجب لنا دعاءنا فلا يعني ذلك أنّنا لم نربح شيئاً بل سوف يعطينا شيئاً من فضل رحمته ويمنع عن الفساد الذي كان سيأتينا من دعائنا، حيث يدعو الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً.

وبهذا يتبيّن لنا جليّاً أنّ نصوص حُسن الظنّ واليقين بالاجابة على نوعين:

النوع الأول: ما لا دلالة له أساساً على تشكيل بُعد كاشف في استجابة الدعاء، وإنّما يرجع إلى موضوع تربوي في الرضا بقضاء الله والتسليم له وحسن الظنّ به، وهذا هو ما تحويه بعض الأحاديث السليمة من حيث الإسناد عند الفريقين.

النوع الثاني: ما فيه احتمال الدلالة ولو احتمالاً قويّاً أحياناً، وهذا كلّه ضعيف السند والمستند، فضلاً عن كونه يخالف منطق الواقع وما شرحناه سابقاً في مسألة تخريج تنافي النصّ الدالّ على حتمية الإجابة مع الواقع الحاكي عن عدم تحقّقها.

كما أنّ عدد هذه الروايات لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، فمن الصعب جدّاً والحال هذه ـ مع ما تقدّم ـ تحصيل وثوق أو اطمئنان بالصدور، وهو الحجّة في باب الأخبار.

ومن هنا نعرف، أنّه من العسير في الحالة العادية تحصيل كشف يقيني أو حتى ظنّي نوعي بالإجابة عند كلّ دعاء ندعوه، فالقول بأنّ دليل الدعاء وعموماته يفيد كاشفيّة الاستخارة عن الواقع الإلهي المراد بنحو اليقين أو الظنّ المعتبر بالخصوص غير واضح، ولعلّه لهذا كلّه لم يعمل العلماء بالاستخارة في سائر مجالات الفقه والقضاء والأمور العامة وغير ذلك.

الملاحظة السابعة: إنّ ما ذكره بعضهم من أنّ الإجابة معلّقة على المشيئة صحيح، لكنّ المفروض أنّ الوعد بالإجابة قد صدر، وهذا معناه أنّ المشيئة قد أعلمنا بها الباري تعالى، وأنه قرّر أن يستجيب دعاءنا، فلا معنى مجدّداً لعدم الاستجابة بحجّة التعليق على المشيئة.

يضاف إلى ذلك أنّ الآية المستشهد بها قد تمّ اقتطاع المقطع موضع الشاهد منها بطريقة أثّرت على المعنى، فالنصّ القرآني يقول: ﴿قُلْ أَرَأَيْتكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 40 ـ 41). فالسياق سياق نزول العذاب أو قيام الساعة، وهذه الحالات قد حكمت النصوص نفسها بأنّ مجال الاستجابة فيها محدود.

يضاف إلى ذلك أيضاً أنّ تعليق المولى سبحانه الاستجابة في الآية الكريمة على المشيئة لا يعني أنّه لن يستجيب، بل هي طريقة البيان القرآني التي تعطيه سبحانه المشيئة حتى في الأمور التي تبدو لنا حتميّةً، كتلك الآيات التي تعلّق الخلود يوم القيامة على المشيئة الإلهيّة رغم حكم النصّ مراراً بثبوت الخلود، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ﴾ (الأنعام: 128).

الملاحظة الثامنة: إنّ ما ذكره العلامة المجلسي من أنّ المراد بالإجابة هو السماع، بمعنى أنّه تعالى يستمع لدعواتكم، خلاف الظاهر جدّاً، فإنّ السماع وإن كان من لوازم الإجابة، إلا أنّه لا يقال في لغة العرب: دعوته فاستجاب، بمعنى أنصت.

 

محاولة تفسيريّة جديدة لآيات الإجابة، خروج مثير عن سياق التفسير السائد

هذا، وقد كان خطر في ذهني سابقاً معنى لآية: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60). ولآية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186).

وهو أن يكون معنى الدعاء هنا هو طلب الله، بمعنى دعوة الله لأن يكون مع الإنسان، فإنّ الله إذا وجّهنا إليه دعوةً لكي يأتي إلينا ويقترب منّا ويعيش في قلوبنا فإنه يلبّي الدعوة فوراً، والمشكلة هي في العباد الذين دعاهم الله إليه لكنّهم لا يستجيبون لدعوته، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24)، وقال سبحانه: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ﴾ (الشورى: 47).

ومعه فلا يكون للدعاء في هاتين الآيتين علاقة بطلب شيء وحاجة من الله لكي يلبّيها للإنسان كما اشتهر بين المسلمين، بل هي من الدعوة لكي يقترب الله من العبد، وبهذا لا يكون هناك وعدٌ قرآني أساساً باستجابة الدعاء وإنما بتلبية الدعوة، ويكون المعنى مساوقاً لقولنا: إنّ الله إذا أراد العبدُ قربَه ساعد على الاقتراب منه. ولعلّ ما يشهد له هو أنّه عقّب في الآية بطلب أن يستجيب العبد لله، فكما أنّ الله لو أردناه أن يكون قريباً منّا ودعوناه إلى حياتنا فهو يأتي، كذلك على العباد أن يلبّوا دعوة الله الموجّهة إليهم أن يأتوا إليه ويتقرّبوا له سبحانه، وبهذا يتحقّق الربط بين طرفي الآية الأولى أيضاً، ولا يكون المراد منها أنّ الدعاء عبادة (وأنّه وصفه في الآية كذلك ليشير إلى عباديّته، مع أنّهم يحكمون باستحباب الدعاء وعدم وجوبه رغم أنّ الآية توعّدت بالجحيم، ما لم نقل أنّ التوعّد كان للتكبّر على الدعاء لا لتركه فقط)، بل المراد ادعوني إليكم لأعيش معكم، فإنّني أقبل الدعوة وآتيكم، ولست بحاجةٍ إليكم، ومع عظمتي فأنا أستجيب للدعوة، وفي المقابل عليكم أن تستجيبوا لدعوتي لكم بأن تعبدوني ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، فإنّ عدم استجابتكم وأنتم فقراء هو تكبّرٌ على عبادتي، مع أنّني لا أتكبّر في استجابة دعواتكم.

كما لعلّ ما يساعد على هذا المعنى هو وصفه سبحانه لنفسه بأنّه قريب، فإنّ هذا الوصف متناسبٌ جداً مع المجيء، فأنت تقول: أدعوك للإتيان إلى منزلي، فتجيبني: إنني قريب من منزلك فآتي، فوصف القرب يتناسب مع المجيء جداً، بينما الذي يتناسب مع تحقيق المطالب في الأدعية هو وصف القدرة، تقول: لو طلبت منّي أن آتيك بكذا وكذا أو أن أشفيك فأنا قادر.

كما لعلّ ما يفيد هنا هو أنّ آية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي﴾ جاءت في داخل سياق آيات الصوم وشهر رمضان، فقبلها قوله تعالى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 183 ـ 185)، وبعدها قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 187). مما يساعد على سياق الاقتراب من الله في هذا الشهر الفضيل وأنّ الله يقترب من عبيده عندما يريدونه.

وبناءً على هذا التفسير يرتفع أصل الإشكال هنا، وينتفي وجود تعهّد قرآني وإلهي بالإجابة، فعلى الإنسان الدعاء، والله ناظرٌ في أمره. نعم إذا طلب الإنسان الله ليقترب منه سيجد أنّ الله سيقترب ويوفّر له سبل الاقتراب منه.

وإنّني أطرح هذا التفسير للتأمّل والتفكير، ولا أجزم به الساعة، وقد لا يكون هناك ما يوجب تعيّنه، لا سيما مع أخذ العدد الهائل من النصوص في الدعاء والإجابة والاستجابة التي تدلّ على المعنى المشهور، والعلم عند الله.

الملاحظة التاسعة: إنّ ما ذكره الشيخ محمّد جواد مغنية في مقاربة دلالة الآيات على اشتراط صلاح الداعي غير واضحة أبداً؛ لأنّ قوله تعالى عن الذين يستكبرون عن عبادته ليس مرتبطاً بحال الداعي وهو داع، بل مرتبط بأصل إقباله على الدعاء، فانه إن لم يدعُ واستكبر على أن يتوجّه إلى الله ويطلب حاجته منه فإنّه سيكون في زمرة المتعالين على الله، وليس في سياق الآية أنّ الداعي يجب أن يكون عابداً تقيّاً حتى تصحّ دعوته وتستجاب، علماً بأنّ الذمّ جاء على الاستكبار على العبادة، لا على ترك العبادة والواجبات والفرائض.

وأما الآية الأخرى فهي بعد وعدها بالإجابة تطالب الناس بأن يقابلوا الله تعالى بالحسنى، فالله الذي إذا طلبتم منه شيئاً يلبّيه ها هو يطلب منكم ما يحييكم فعليكم أن تلبّوه، ومقتضى منطق الأشياء أن تفعلوا ذلك، ولو صحّ تفسير العلامة مغنية للزم أن تقول الآية: إنني استجيب دعاءكم مستجيبين لي.

وأما الآية الثالثة: ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾، فهي أبعد في الدلالة؛ فإنها تجعل المطالبة بالاستقامة متفرّعة على إجابة الدعوة، فهو يقول لهم: إنّ الله استجاب لكما، إذاً فعليكما بالاستقامة وعدم اتّباع سبيل الجاهلين، فهي من حيث منطق الترتيب تشبه الآية الثانية تماماً.

وعليه، فأدلّة الدعاء إنما تثبت استحباب الدعاء الذي يتقدّم الاستخارة أو يقارنها، أما نفس حركات الاستخارة، كفتح المصحف أو تحريك حبّات السبحة أو ترتيب الأثر أو عملية الربط بين الاستخارة ورشد الفعل أو المستقبل والعواقب، فكلها أمور لا ربط لعمومات الدعاء بها، فلا يصح الاستدلال بعمومات الدعاء لإثبات الاستخارة المصطلحية الاستشارية المتعارفة.

نعم، الاستخارة الدعائية يلتزم باستحبابها بعمومات الدعاء، كما أنّ بعض أنواع الاستخارة الاستشارية لا بأس به، مثل أن يدعو الله تعالى ثم يستشير أهل العقل فما شار عليه أغلبهم أو بعضهم مما رأى صلاحه أخذ به، فإنّ هذا يمكن إثباته بضمّ عمومات الدعاء إلى عمومات الاستشارة، أو ضمّ عمومات الدعاء إلى أدلّة الحث على تدبير الأمور وعقلها وما شابه ذلك، دون الربط بين الدعاء واستجابته، ودون اعتبار الأمر تعبّدياً غير عقلاني.

وبهذا ينتهي الكلام عن الدليل الثاني (عمومات الدعاء) لننتقل إلى الدليل الثالث.

 

3 ـ 2 ـ مرجعيّة قاعدة القرعة، وتأصيل شرعيّة الاستخارة

الدليل الثالث الذي ذكر هنا لإثبات شرعيّة الاستخارة هو ما ذهب إليه غير واحدٍ من الفقهاء من الرجوع إلى أدلّة القرعة، وذلك أنّ القرعة مرجعٌ ثابت في كلّ أمرٍ مجهول، وحيث إنّ هذا الأمر بالنسبة للمستخير مجهولٌ، فيمكن أن يكون مورداً من موارد القرعة.

ونصوص القرعة على نحوين:

النحو الأوّل: نصوص عامّة غير مقيّدة بحالات التنازع أو وقوع التزاحم والتعارض بين الحقوق، مثل خبر محمد بن حكيم: «كلّ مجهول ففيه القرعة»([107])، فإنّ هذا الخبر العامّ (كلّ مجهول) يصلح للشمول للمجهول الشخصي المتردّد بين أمور مباحة في فعل شخصٍ واحد، حيث تُجهل المصلحة والمفسدة في الفعل عند العبد المستخير.

النحو الثاني: نصوصٌ خاصّة بحالات التنازع، كخبر أبي بصير، عن الإمام أبي جعفر× أنه قال: «.. فقال النبي‘: إنّه ليس من قوم تنازعوا (تقارعوا) ثم فوّضوا أمرهم إلى الله عزّ وجل، إلا خرج سهم المحقّ»([108]).

وهذه النصوص ذات النحو الثاني قد يتصوّر للوهلة الأولى اختصاصها بباب التنازع، إلا أنّه يمكن إلغاء الخصوصيّة المذكورة عرفاً، بحيث يفهم أنّ تمام الأمر يرجع إلى حقٍّ مجهول يراد التعرّف عليه، وهو في المقام ـ أي باب الاستخارة ـ المصلحةُ أو المفسدة في الفعل المستخار عليه([109]).

ومن هنا، يظهر أنّ الاستخارة نوعٌ من القرعة، والمائز بين القرعة المعروفة المتداولة وبين الاستخارة، أنّ القرعة تكون في موارد لا يُعلم حكمُها الشرعي الجزئي؛ لاشتباه الموضوع، ويقع ذلك غالباً في مجال تزاحم الحقوق، بينما مورد الاستخارة معلوم الحكم الشرعي الكلّي والجزئي، كما يُعلم موضوعها، وهي دائرة بين أمور مباحة، غاية الأمر مع الشك في صلاح هذه الأمور للفاعل وفسادها عاجلاً أم آجلاً، فمع التحيّر وانسداد أبواب المعرفة تكون الاستخارة ـ القرعة هي المرجع.

ومما يعزّز اندراج الاستخارة ضمن القرعة بمعناها العام عدّة أمور:

إنه قد ورد التعبير عن الاستخارة في بعض رواياتها بالمساهمة، ومصطلح المساهمة هو عينه القرعة، ومن جملة هذه الروايات خبر عبد الرحمن بن سيابة قال: خرجت إلى مكّة ومعي متاع كثير، فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلى اليمن، فذكرتُ ذلك لأبي عبدالله×، فقال لي: «ساهم بين مصر واليمن، ثم فوّض أمرك إلى الله، فأيّ البلدين خرج اسمه في السهم، فابعث إليه متاعك..»([110]). ثم يشرح له كيفية فعل الرقاع.

اتحاد كيفية العمل والدعاء فيهما (الاستخارة والقرعة) حسبما يلاحظ بمراجعة روايات باب القرعة والاستخارة([111]).

وبهذا كلّه نثبت مشروعيّة الاستخارة، بل استحبابها بمقتضى بعض النصوص الحاثة على القرعة والمساهمة.

نعم الفرق الجوهري بين الدليل الثاني (عمومات الدعاء) والثالث (القرعة) هو أنّ عمومات الدعاء لا اختصاص لها بحال الحيرة والجهل، فيما الملاحظ من نصوص القرعة ـ بعد ضمّ بعضها إلى بعض ـ اختصاصها بحال الحيرة والجهل وانغلاق الأمور، وهذا يصلح ردّاً، لو كان مرجع شرعيّة الاستخارة خصوص دليل القرعة، على إشكالية تعطيل العقل التي طرحها الشيخ شلتوت.

 

تأملات نقديّة في مرجعيّة قاعدة القرعة في الاستخارات

إلا أنّ الاستناد إلى دليل القرعة لإثبات شموله لما نحن فيه، يواجه بعض المشاكل، وأهمّها:

أولاً: إنّه من الصعب جداً ـ لا أقلّ في المجموعة الثانية من أحاديث القرعة ـ الاطمئنان بصحّة سلب خصوصيّة التنازع وضياع حقٍّ واقعي لا يجوز ضياعه، فكلّ من يطالع روايات القرعة لا يشكّ في أنّها وردت في سياق حالة التنازع وإثبات الحقوق وعدم وجود أيّ طريق للوصول إلى الواقع بما في ذلك طريق الاحتياط، فزيدٌ من الناس يقول بأنّ هذا العقار لي، فيما عمرو يقول بأنّه له، وتوقّفت كلّ الأدلّة والبيّنات وأنواع المصالحات عن حلّ المشكلة، فهنا نلجأ إلى القرعة، وإخراج كلّ هذه الروايات عن هذا السياق ـ من خلال إلغاء الخصوصية عرفاً ـ صعبٌ؛ لأننا نحتمل أنّ الشارع اضطرّ لهذا الطريق لحفظ الحقوق وفضّ المنازعات، كيلا يفشل القضاء في الوصول إلى حلّ في قضايا المخاصمات بين الناس مما يلزم رفعه، وأين هذا من باب الاستخارة حتى مع الحيرة التامّة، فإنّه يمكن استخدام الاحتياط أحياناً، ولا يلزم فوات الحقوق وعجز القضاء بالضرورة لو لم تستخدم القرعة.

ولعلّه لهذا كلّه، فهم الفقهاء من نصوص القرعة الانصراف إلى موارد المشتبه الجزئي الموضوعي لحكم شرعي كلّي، ورأوا ذلك جليّاً في باب القضاء، وهذه روايات القرعة تزيد عن عشرين حديثاً أوردها الحرّ العاملي في تفصيل وسائل الشيعة (ج27، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 13) وهي شاهدة على قضايا الحقوق أو المنازعات.

ولعلّه لما ذكرناه، يرجع كلام العلامة السيد محمد حسين فضل الله من أنّ القرعة حاجة ضروريّة للناس والطريق منحصر بها، بخلاف الاستخارة حيث ليست كذلك([112]).

ثانياً: إنّ الحديث الوحيد الذي يمكن اعتباره عاماً هو خبر محمّد بن حكيم المتقدّم، وهو لو قبلنا بعمومه وبترناه عن سياق النصوص الأخرى، وأنّه يتحدّث عن تلك القرعة المركوز في الأذهان جريانها في مجال الحقوق أو المنازعات، يصعب الاعتماد عليه؛ وذلك أنّ الطريق إلى محمد بن حكيم وإن كان صحيحاً بسند الصدوق، مع عدم صحّته بسند الشيخ الطوسي، إلا أنّ المشكلة في محمد بن حكيم نفسه، فإنّ متقدّمي علماء الرجال وإن ذكروه، إلا أنّه لم يجرح فيه أحدٌ كما لو يوثقه أحدٌ منهم، وقد اعتمد الموثقون هنا على ثلاث روايات أوردها الكشي في مدحه، الأولى والثالثة منها رواها هو بنفسه لنا فلا قيمة لها لوحدها، إلا أنّ العمدة هي الرواية الثانية وهي عن حماد قال: كان أبو الحسن× يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول الله| وأن يكلّمهم ويخاصمهم حتى كلّمهم في صاحب القبر، فكان إذا انصرف إليه، قال له: قلت لهم وما قالوا لك؟ ويرض بذلك منه([113]).

وقد فهم السيد الخوئي من هذا الحديث أنّ محمد بن حكيم ممدوح([114])، فيما قال آخرون بأنّه من غير المناسب أن يأمر الإمام شخصاً بتمثيل المذهب الجعفري والتحدّث عن لسانه إلا إذا كان له وثوق كامل به([115]).

إلا أنّ الصحيح عدم إمكان الاعتماد على الرواية الواردة في مدح محمد بن حكيم لإفادة توثيقه وذلك لوجهين:

1 ـ إنّ الرواية ورد في سندها محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن، وقد حقّقنا في علم الرجال وثبت لدينا وثاقة هذين الرجلين، لكنّنا قلنا بأنّه لو روى محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس، فالخبر لا يُحرز اتصاله، بعد أن اُخرج هذا السند من نوادر الحكمة، وعليه فهذه الرواية ضعيفة خلافاً للمعروف من صحّتها؛ لوجود انقطاع في السند أو عدم إحراز الاتصال.

2 ـ لو سلّمنا صحّة السند، إلا أنّ غاية ما تفيد هو الممدوحيّة، كما قال السيد الخوئي، لا الموثوقيّة؛ لأنّ المحاججات الكلاميّة لم تكن في ذلك العصر تحديثاً؛ بل كانت جدلاً ونقاشاً وإلزاماً للخصم، وكلّ ما نعرفه أنّ الإمام كان يأمره بالمحاججة والمخاصمة، ثم يستمع إليه ويرضى ذلك منه، ولا نحرز أنّ الجدل كان يحوي تحديثاً، فغاية ما يثبت هذا الحديث أنّ الرجل كان ضليعاً في الكلام وممدوحاً فيه، فتكون الرواية دليل مدح لا توثيق. والكلام عن تمثيل المذهب الجعفري فيه ضربٌ من تضخيم المسألة، فلا يُعرف محمد بن حكيم في عالم الكلام كمعروفيّة هشام بن الحكم أو هشام الجواليقي أو مؤمن الطاق، فلعلّه كان له نشاط محدود في مسجد النبي بين مجموعة من أنصار المذاهب الأخرى، وأين هذا من تمثيل المذهب؟! كما أن تصديق الإمام له فيما يخبره عن المناظرات التي جرت ليس دليل وثاقته بالمطلق، إذ قد يحرز الإمام عدم كذب ابن حكيم عليه، دون أن نحرز عدم كذبه في غياب الإمام.

وعليه، فإذا كانت هذه الرواية دليل مدح، فسوف يدرج السيد الخوئي أخبار محمد بن حكيم في الخبر الحسن، وفقاً لنظرياته، إلا أنّنا ناقشنا في محلّه من علم أصول الفقه في حجية الحديث الحسن (بالاصطلاح الإمامي)، من حيث إنّ المدح إذا رجع إلى التوثيق صار الخبر معتمداً، أسمّي حسناً أم صحيحاً أم غيرهما، وأما إذا لم يتعلّق بجهة التوثيق في الراوي فلا قيمة له. وادّعاء جريان السيرة العقلائية على العمل بالخبر الحسن لا دليل عليه، بل الدليل على عكسه، ولهذا قلنا بأنّه لو أريد تعريف الخبر الحسن مع القول بحجيته لزم القول بأنّه ما رواه الثقة عن مثله في جميع الطبقات، مقابل الصحيح الذي ينبغي أخذ العدالة فيه جرياً على طريقتهم في التعبير. وعليه فلم يثبت اعتبار أخبار محمّد بن حكيم، فلا تكون روايته هنا في باب القرعة معتبرةً.

هذا كلّه، فضلاً عن عدم حجيّة الخبر غير المطمأنّ بصدوره، وخبر محمد بن حكيم انفرد فيه هذا الراوي ولم يروِ أحدٌ مثله ولم نجد متابعاً له أو شاهداً، وخبرٌ كهذا من حيث السند يصعب تحصيل علم بصدوره ولو عادةً.

ثالثاً: لو صحّحنا سند خبر محمد بن حكيم، أو أحرزنا العلم بصدوره، مع ذلك لا يحرز العموم المدّعى فيه، وذلك أنّ مطلع الحديث جاء فيه: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر’ عن شيء، فقال لي: «كلّ مجهول ففيه القرعة..»([116])، وهذا النصّ لايدلّنا على طبيعة الشيء الذي سأل محمد بن حكيم الإمامَ عنه، حتى أجابه الإمام بهذا الجواب، فلعلّه سأله عن منازعة، فأعطى الإمام القاعدة في المنازعات، فيكون المراد من «كلّ مجهول» ما كان في باب المنازعات أو الحقوق، ويتعزّز ذلك بسائر روايات القرعة التي تمحورت حول المنازعات وقضايا الحقوق، وفي هذه الحال يصعب تحصيل الاطمئنان بإرادة التعميم إلى ما هو خارج هذا السياق كلّه.

بل يتعزّز ذلك بأنّ القرعة مرتكز عقلائي ـ كما أقرّ بذلك غير واحد من الفقهاء ـ فتكون الروايات في العادة مشيرةً إلى المرتكز العقلائي لا مؤسّسةً لحكمٍ جديد، ومن الواضح أنّ العقلاء يعملون بالقرعة في مجال الحقوق والمنازعات خاصّة.

رابعاً: لو غضضنا الطرف عن كلّ ما تقدّم، فهل يثبت ذلك استحباب الاستخارة أم يثبت طريقيّتها للواقع وكاشفيّتها عنه؟

إنّ الظاهر من نصوص القرعة أنّه يراد حلّ مشكلةٍ قائمة، وأنّه عندما يلزم حلّها ولا نجد طريقاً للحلّ فإنّ الشريعة وضعت طريقاً في هذا الصدد أو أقرّت طريقاً عقلائيّاً، وهذا غير ثبوت حكم تكليفي بالقرعة في حدّ نفسها، ففضّ المنازعات بين الناس وتعيين الحقوق أمرٌ لازم على الحاكم والجهاز القضائي في الأمّة بدليلٍ مستقل، وهنا استخدم القضاء الطرق كلّها ووصل إلى طريق مسدود؛ لهذا وضعت الشريعة له طريقاً لفضّ التنازع يُلزم طرفي النزاع بالاحتكام إليه لفضّ الاشتباك الحقوقي والدعوي بينهما، وهو القرعة، وهذا لا يعني وجوب القرعة أو استحبابها في ذاتها، بقدر ما يعني مجرّد طريقيّتها لفضّ المشكلة بحسب ما يفهم من مجموع نصوصها، فالإلزام بالقرعة ليس إلا من باب طريقيّتها لترتيب الآثار التي يلزم حلّها.

مثلاً لو زنى عدّة اشخاص بامرأةٍ في يوم واحد، ثم حملت ولم يُعلم الولد، فقد حكم خبر الحلبي([117]) بالقرعة، وكان الولد لمن خرجت القرعة باسمه، فهنا إنما ألزم بالقرعة لأجل وجود آثارٍ شرعيّة إلزامية لتعيين الولد من حيث المحرميّة والنفقة والانتساب والإلحاق وغير ذلك، ولو لم يكن هناك مثل هذا لم تكن القرعة واجبةً أو مستحبّة في حدّ نفسها. وهكذا لو أراد الطرفان المتنازعان التخلّي عن نزاعهما فلا موجب للرجوع إلى القرعة حينئذٍ.

وعليه، فإذا أريد الاستدلال بأدلّة القرعة على مشروعيّة الاستخارة بوصفها فعلاً أو بما فيها من ترتيب أثر فلا بأس، أما إذا أريد بالقرعة إثبات استحباب الاستخارة بما هي فعل أو إثبات استحباب العمل وفقها فهذا صعب؛ لأنّ أدلّة القرعة لا تثبت حكمها التكليفي الإلزامي أو الاستحبابي بقدر ما تثبت طريقيّتها لتعيين واقع ما قد يكون تعيينه إلزامياً أو استحبابياً بدليلٍ آخر، وفرقٌ بين الأمرين.

خامساً: نحن نشكّك في عموميّة أدلّة القرعة لخارج دائرة الحقوق والمنازعات الذي هو مورد النصوص وبناء العقلاء؛ وذلك أنّه لو سمحنا بخروج أدلّة القرعة عن هذا المورد إلى عالم تشخيص الواقع الخارجي بصرف النظر عن الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية الجزئيّة بالمعنى المعروف، فلا موجب لتخصيص أدلّة القرعة حينئذٍ بخصوص تشخيص المصلحة والمفسدة في الفعل الفردي للمكلّف، بل ستشمل كلّ أمر انسدّت أبواب اكتشافه، كالمسائل العلميّة ـ غير الدينية ـ العويصة التي أغلقت أبوابها أمام العلماء والباحثين؛ لأنّ مجرّد الخروج عن دائرة القرعة التي ندّعيها ـ وهي دائرة المنازعات والحقوق ـ لا يفرّق فيه بين مورد وآخر يراد اكتشافه على ما هو عليه في الواقع، ومن الواضح أنّ الجميع لا يقبل بمثل هذه التعميمات، ومعه فترجيح تسريةٍ على أخرى يصبح ضرباً من التحكّم، مما يشكّل بمجموعة منبّهاً وجدانياً على عدم كون أدلّة القرعة بصدد أمور من هذا النوع.

ومن هذا كلّه، يظهر عدم صحّة الاستدلال بأدلّة القرعة لصالح مشروعيّة الاستخارة أو استحبابها، بل حتى لكاشفيتها، بل هي منصرفة عن ذلك تماماً.

 

4 ـ 2 ـ الاستناد للسيرة المتشرعيّة لشرعنة الاستخارة

رابع الأدلّة هنا هو ما ذكره بعض الفقهاء، من الاستناد إلى السيرة المتشرعيّة الجارية منذ عصور سالفة وإلى يومنا هذا، على استعمال الاستخارة في مهامّ الأمور، والسيرة حجّة كاشفة عن الموقف الشرعي.

وقد تنبّه صاحب هذا الاستدلال إلى مشكلة إحراز اتصال السيرة بعصر المعصوم، وأجاب بأنّها كانت موجودة قطعاً، وذلك لأمرين:

أ ـ وجود النصوص المتواترة الحاثّة على الاستخارة منذ العصر النبوي، وهي تكشف بدورها عن وجود هذه السيرة.

ب ـ إمكان إجراء استصحاب وجودها بعد أن ثبت وجودها الآن، فيكون هذا الاستصحاب مقدّماً على أصالة العدم([118]). والظاهر أنّه يريد بذلك إجراء الاستصحاب القهقرائي.

 

مناقشات في دليل السيرة المتشرعيّة

ويمكن التوقّف عند هذا الدليل، وإبداء بعض المناقشات، وأهمّها:

المناقشة الأولى: إذا كانت نصوص الاستخارة متواترةً وكانت هي السبيل لإثبات السيرة، فلا حاجة للسيرة بعد وجود الدليل المتواتر، فإنّنا إنّما نريد السيرة لكشف موقف المعصوم، فإذا كان سبيل هذا الكشف هو التواتر الحاكي مباشرةً عن موقف المعصوم فلا معنى لتطويل المسافة حينئذٍ.

المناقشة الثانية: إنّ أدلّة الاستخارة المتواترة إن قصد بها الاستخارة الدعائيّة أو الأعم غير المتعيّنة في الدعائية وغيرها، فهذا لا يُثبت الاستخارة الاستشارية التي هي موضع بحثنا، إذ الاستخارة الدعائية تكفي فيها عمومات الدعاء الثابتة في الكتاب والسنّة، وإن أريد ادّعاء التواتر على الاستخارة الاستشاريّة فهذا غير واضح، وسوف يأتي إن شاء الله بيان حال روايات هذه الاستخارة، وأنّها لا ترقى إلى هذا المستوى إطلاقاً.

المناقشة الثالثة: يلزم على طريقة المستدلّ هنا أن نثبت كلّ السير المتشرّعية المتأخّرة بالاستصحاب القهقرائي، عندما لا يقوم دليلٌ على نفي وجودها في عصر النصّ، وهذا غريب؛ فإنّه إن أريد الاستناد إلى البناء العقلائي، فمن الواضح أنّه لا يوجد مثل هذا الاستصحاب في حياة العقلاء، بل قد ناقشنا في محلّه في جريان هذا الاستصحاب حتى في اللغة والشك في تحقّق النقل اللغوي([119]). وإن أريد الاستناد إلى نصوص الاستصحاب، فمن الواضح أنّها ظاهرة في اليقين أو المتيقّن السابق والشك أو المشكوك اللاحق، فلم يظهر وجهٌ لتقديم هذا الاستصحاب في المقام.

المناقشة الرابعة: لو سلّمنا مبدأ جريان الاستصحاب القهقرائي، لكان معارضاً بأصالة العدم التي هي استصحابٌ عكسي هنا، فنحن نحرز أنّ الاستخارة لم تكن سيرةً متشرّعية في العصور السابقة على الإسلام ولم يسمع بها أحدٌ في الأزمنة الغابرة وسط المتشرّعة أو حتى قبل خلق الإنسان، ونشكّ في ظهورها، فنستصحب العدم، وهذا معناه تعارض الاستصحابين، الأمر الذي يفرض ـ على الأقلّ ـ سقوط مجال الاستدلال بالاستصحاب مطلقاً هنا، ونتيجته عدم إمكان إثبات انعقاد السيرة في عصر المعصوم ولا نفيها، وبهذا يبطل دليل الاعتماد على السيرة.

والنتيجة عدم صحّة الاستدلال بالسيرة المتشرّعية على شرعية الاستخارة أو استحبابها، لعدم وجود أيّ معطى تاريخي يؤكّد هذه السيرة في العصور السابقة، بل سيظهر من البحوث القادمة ما يؤكّد أنّ بعض أنواع الاستخارة الاستشارية قد صرّحوا هم بأنفسهم بأنّه لم يكون له وجود في العصر القريب من زمن النص.

 

5 ـ 2 ـ المرجعيّة التجربيّة في تأسيس بناء الاستخارة

الدليل الخامس هنا هو ما ذكره بعض المعاصرين أيضاً([120]) ـ وهو من المستندات المتداولة من قبل بعض الخطباء أو الأخلاقيين، وبين عامّة المتدينين أيضاً ـ من الاستناد إلى التجارب الشخصيّة وتجارب الآخرين أيضاً، حيث أثبتت سلامة الاستخارة وأصابتها الواقع وكشفها الدقيق عن حُسن الفعل والخير فيه أو قبحه والشرّ فيه، بل ظهر في موارد عديدة تدخّل الغيب في هذا المجال، حتى أنّه قيل بأنّ أحدهم ألّف كتاباً ليثبت فيه وجود الله سبحانه عبر الاستخارة، ذاكراً عدداً كبيراً من الوقائع التي حدثت فيها الاستخارة، وكانت محلّ تعجّب وإعجاب. كما ذكر السيد البجنوردي ناقلاً عمّن نقل عن بعض الأعاظم أنّ الاستخارة من أقوى الأدلّة على وجود الصانع؛ لارتفاع احتمال الصدفة في الربط بين حبّات السبحة مثلاً وبين الواقع الخارجي الذي تصيبه([121]).

وأما ما قيل عن تخلّف الاستخارة فقد تقدّم جوابه سابقاً، وأنّ ما يلوح من تخلّفها راجع إما إلى عدم صدق الدعاء حقيقةً أو تعارض الأدعية والمصالح العباديّة وغير ذلك.

وبعض الفقهاء رغم إقراره بعدم ثبوت استحباب الاستخارة بالمصحف مثلاً، يذكر أنّ بها رواية مجرّبة([122])، وكأنّه يريد ترجيح الرواية بالتجربة.

 

مطالعة نقديّة في سلامة المنهج التجريبي لتأصيل الاستخارة

ويمكن هنا الجواب عن هذا الدليل الذي يرجع إلى كمّ كبير ـ من وجهة نظر أصحابه ـ من القصص والحكايا والوقائع الميدانية، وذلك:

أولاً: إنّ ظاهرة الاستخارة وصدقها وذكر قصص مذهلة فيها لا مانع من تحقّقه في بعض الموارد التي يستجيب الله تعالى فيها للعبد فيرشده، فنحن ـ بل لا أظنّ أحداً ـ يملك دليلاً على نفي استجابة الله تعالى لكلّ الاستخارات التي تقع، بحيث لا يوضح للإنسان السبيل، فالصدق في بعض الموارد شيء وثبوت طريقيّة الاستخارة وكاشفيّتها النوعيّة، وكذلك ثبوت استحبابها الخاصّ شيء آخر، فخبر الكاذب أو الخبر المرسل قد يصدق، لكنّ هذا لا يصيّره حجّةً وطريقاً دائماً معتبراً.

بل حتى لو كان غالباً يكشف عن الواقع، لم يدلّ ذلك على الاستحباب، فطرق تعرّف الغيب لو ثبتت لا يعني أنّ استخدامها مستحبّ بالمعنى الفقهي، كما هو واضح، نعم يمكن للطريق التجريبي أن يُستخدم لتأييد الروايات بمؤيّدٍ خارجي.

ثانياً: إنّ الاستخارات الواقعة في الخارج يمكن أن نطبّق عليها نظرية التوزيع في الأعداد الكبيرة لبرنولّي (1705م)، وهي إحدى القواعد البالغة الأهميّة في حساب الاحتمالات الرياضي([123])، حيث يذهب ـ ضمن براهين رياضية معقّدة ـ إلى أنّه كلّما زاد عدد التجارب كثيراً اقترب كلّ محتمل ـ من حيث عدده الذي يتحقّق في الخارج ـ إلى معدّلٍ يساوي النسبة الأوّلية في احتماله، فلو أخذنا قطعة نقدٍ معدنيّة، ثم رميناها، فإنّ احتمال خروج وجه الصورة هو  واحتمال خروج وجه الكتابة هو  أيضاً، فإذا كررنا الرمي عشرة آلاف مرّة، فسنجد أنّ المعادلات الرياضية ستعطينا أنّ وجه الصورة سيخرج 4999 مرّة، ووجه الكتابة سيخرج 5001 مرّة، أو العكس أو قريب من ذلك.

إنّ نظرية برنولّي هذه يمكن تطبيقها بشكلٍ ما في باب الاستخارات، وذلك أنّه عندما يستخير الإنسان الله عبر السبحة مثلاً، فإنّ النتيجة إما جيّدة أو غير جيّدة مثلاً، والواقع هو أنّ هذا الفعل إما حسنٌ أو غير جيد، فقد تصيب الاستخارة الواقع وقد لا تصيب، واحتمال إصابتها الواقع هو  واحتمال عدم إصابتها الواقع هو أيضاً ، وهذا يعني أنّه كلّما زاد عدد الاستخارات بين الناس، فمن الطبيعي أن يرتفع حجم الاستخارات التي تصيب الواقع حتى لتكاد تبلغ النصف أيضاً، فيمكننا الآن أن نخمّن بأنّ ما هو قريب من نصف الاستخارات الواقعة مصيبٌ للواقع بلا حاجة لفرض تدخّل إلهي خاصّ أو خصوصية خاصة في الاستخارات، فما نسمّيه تجربة شخصية أو تجارب، يرجع إما إلى حالات خاصّة استثنائية تحصل فيها إجابة للدعاء ونحرز ذلك من خلال ملابسات الموضوع وبُعد احتمال الصدفة فيه، أو إلى منطق الأشياء الطبيعي وفقاً لنظرية برنولّي.

وهنا نضيف نقطةً بالغة الأهمية لها تأثيرها الكبير على طبيعة تلقّي الأجواء الدينية لظاهرة الاستخارة، وهي دواعي النقل، فإنّ الجوّ الديني العام لديه توافر في دواعي نقل الاستخارة الناجحة، فيما لا تتوفّر هذه الدواعي لنقل الاستخارات غير الناجحة، ولهذا فالمنقول في باب الاستخارات من القصص والتجارب من الطبيعي أن يطغى عليه طابع الاستخارة الناجحة، لاسيما وأنّ من يريد نقل الاستخارات غير الناجحة سوف يواجَه بالكثير من النقد، ولا أقلّ من أنه سيقال له: من قال لك بأنّ النتيجة لم تكن صحيحة، فلعلّ خسارتك في تجارتك فيها الخير لك بحسب المآلات.

وعليه، فالنقل يوحي بأنّ نسبة 99% من الاستخارات موفّق، فيما مجموع المنقول ـ قياساً بمجموع الاستخارات الواقعة في الخارج ـ لا يزيد عن نسبة 1%، وكونه نقلاً للاستخارات الناجحة سببه توفّر الدواعي للنقل، فلا أجد معنى للاستدلال ـ علميّاً ـ بالتجارب الشخصية أو القصص المنقولة.

نعم، لا مانع من حصول ذلك في عددٍ محدود واستثنائي من الاستخارات، وهذا غير إثبات الطريقيّة أو الاستحباب.

أضف إلى ذلك أنّ بعض الاستخارات التي تُقدّم بوصفها ناجحة لا يوجد ما يؤكّد نجاحها، إذ من قال بأنّه لو فعل الإنسان الخيار الآخر الذي تخرج به الاستخارة ما كان سيأتيه خيرٌ أعظم؟! فكيف نجزم بمثل هذه الأمور دون أن نتورّط برجم الغيب؟!

وبهذا يظهر أنّ هذه الأدلّة كلّها التي ساقوها لإثبات شرعيّة الاستخارة واستحبابها لا تثبت سوى أمرين:

الأول: شرعية الاستخارة في ذاتها بدليل البراءة بعد عدم ثبوت دليل الحرمة، شرط عدم نسبة مؤدّاها إلى الله تعالى بلا دليل، فإنه تقوّل عليه، وهو حرام.

الثاني: استحباب الاستخارة الدعائيّة بعمومات الأدعية، وكذلك الدعاء في الاستخارة الاستشارية بالدليل نفسه، أما غير ذلك فهذه الأدلّة المتقدّمة لا تثبته.

ومن هنا يتبين أنّ العمدة في بحث الاستخارات هو النصوص الخاصّة الواردة فيها، والتي يجب معالجتها بهدوء.

 

6 ـ 2 ـ مستند النصوص الخاصّة في باب الاستخارات، الدليل العمدة

الدليل السادس هنا ـ وهو الأهم ـ هو النصوص الخاصّة الواردة في الاستخارة بعنوانها، وهذه النصوص عديدة، ويمكن جعلها على طوائف ومجموعات لدراستها بشكل صحيح على الشكل التالي:

 

1 ـ 6 ـ 2 ـ النصوص العامّة في باب الاستخارات خاصة

المجموعة الأولى من النصوص هي النصوص العامّة الحاثة أو المشرعنة للاستخارة، دون تحديد نوعها أو كيفيّتها، ولهذا أمثلة كثيرة جداً في الروايات مثل:

خبر عمرو بن حريث، قال: قال أبوعبد الله×: «صلّ ركعتين واستخر الله، فوالله ما استخار الله مسلم إلا خار الله له»([124]).

خبر هارون بن خارجة، عن أبي عبدالله× قال: «من استخار الله راضياً بما صنع الله له خار الله له حتماً»([125]).

خبر إدريس بن عبدالله بن الحسن، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: «كنّا نتعلّم الاستخارة، كما نتعلّم القرآن»([126]).

وغيرها من الروايات الكثيرة الموجودة في مصادر المسلمين بمذاهبهم، مما يفوق الاستفاضة حتماً، بل قد يدّعى عليه التواتر، فلا حاجة إلى الإطالة بذكره واستعراضه.

وهذه المجموعة من الروايات تنطبق بشكل تام على الاستخارة الدعائية، ولا موجب للتشكيك في صدقها عليها، إلا أنّ الكلام في دلالة هذه المجموعة على الاستخارة الاستشارية، حيث يمكن الادّعاء بأنّ المدلول اللغوي للكلام لا يفيد إلا طلب الخير كما قلنا سابقاً، وهو الدعاء، وأما ما هو أزيد من ذلك فمن الصعب تحصيله من خلال ألسنة هذه النصوص.

نعم، توجد حالة واحدة يمكن من خلالها إثبات شمول هذه الأحاديث للاستخارة الاستشارية، وهي دعوى أنّ عنوان (الاستخارة) يطلق في العرف المتشرّعي عصر صدور النصوص المشار إليها على الاستشارية فضلاً عن الدعائية، أو ينصرف إلى الاستشارية، كما هي الحال في العصر الحاضر، حيث بات إطلاق هذه الكلمة و بعض مشتقّاتها منصرفاً في معناه إلى الاستخارة بالسبحة أو الرقاع أو المصحف أو نحو ذلك، ويظهر من بعض الكلمات ادّعاء مثل هذا الانصراف([127]).

ولا يمكننا الآن البتّ في هذا الأمر قبل بحث روايات الاستخارة الاستشارية، فإنّه إذا اُثبتت تلك الروايات بحيث كان عددها أو نمط البيان الوارد فيها يدلّ على وضوح تحوّل هذا التعبير الى مدلول خاص جديد أو حقيقة شرعية أو متشرّعيّة فيمكن حينئذٍ أن يدّعى الانصراف هنا أو الشمول على أقلّ تقدير للاستخارة الاستشارية، وأما إذا كانت روايات الاستخارة الاستشارية غير ثابتة ولا يحرز أنّها وقعت في عصر النصّ أو كان عددها قليلاً بحيث لا يحرز معه تبلور عرف دلالي لكلمة (الاستخارة) ومشتقّاتها، فالمفترض البقاء مع أصالة عدم النقل اللغوي، والعمل على وفق الدلالة اللغوية وعرف أهل اللغة حتى يأتي شاهد معاكس، لا سيما وأنّ بعض روايات هذه المجموعة هنا وارد منسوباً إلى رسول الله‘ والإمام علي× وبعض الصحابة، وإثبات العرف الجديد معه ليس سهلاً.

وسوف يأتي بعون الله أنّ النصوص الخاصّة الآتية من الصعب للغاية أن توفّر لنا مثل هذه الأمور، من هنا فالاستدلال بهذه المجموعة من الروايات يفيد في الاستخارة الدعائيّة فقط.

 

2 ـ 6 ـ 2 ـ النصوص الخاصّة بالاستخارة الدعائيّة

المجموعة الثانية هنا هي النصوص الدالّة على الاستخارة الدعائيّة خاصّة، بحيث يظهر منها أنها لا تقصد إلا الدعاء، وهي نصوص عديدة أيضاً نذكر منها:

خبر معاوية بن ميسرة، عنه× أنه قال: «ما استخار الله عبدٌ سبعين مرّةً بهذه الاستخارة إلا رماه الله عز وجل بالخيرة، يقول: يا أبصر الناظرين، ويا أسمع السامعين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلّ على محمد وأهل بيته وخر لي في كذا وكذا»([128]).

خبر مرازم، عن أبي عبدالله× قال: «إذا أراد أحدكم شيئاً فليصلّ ركعتين، ثم ليحمد الله عز وجلّ، وليثن عليه، وليصلّ على النبي‘ ويقول: اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي فيسّره لي وقدّره لي، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني..»([129]).

خبر جابر، عن أبي جعفر× قال: «كان علي بن الحسين× إذا همّ بأمر حجّ وعمرة أو بيع أو شراء أو عتق، تطهّر، ثم صلّى ركعتي الاستخارة، فقرأ فيهما بسورة الحشر، وسورة الرحمن، ثم يقرأ المعوذتين وقل هو الله أحد، إذا فرغ وهو جالس في دبر الركعتين، ثم يقول: اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فصلّ على محمد وآله، ويسّره لي على أحسن الوجوه وأجملها، اللهم وإن كان كذا وكذا شرّاً لي في ديني أو دنياي وآخرتي وعاجل أمري وآجله، فصلّ على محمد وآله واصرفه عنّي، ربّ صلّ على محمد وآله واعزم لي على رشدي وإن كرهتُ ذلك أو أبته نفسي»([130]).

وغير ذلك من الروايات والأحاديث العديدة.

وهذه المجموعة تثبت الاستخارة الدعائية بلا شك؛ ولا تقدر على إثبات الاستخارة الاستشارية كما هو واضح، لاختصاصها ـ عبر بيان كيفيّة الاستخارة ـ بما كان دعاءً محضاً، لكنّها ـ كالمجموعة السابقة ـ لا تنفي شرعية الاستخارة الاستشارية، ولا تسلب عنها عنوان الاستخارة أيضاً.

ولم نتعرّض في هاتين المجموعتين لتحقيق حال السند؛ لأنّ عدد رواياتهما كثير من جهة، وموافق لعمومات الأدعيّة والمناجاة مع الله تعالى من جهة ثانية، فلا تقدّم هذه الروايات معطى إضافياً على ما في آيات وروايات الدعاء الواردة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة عند جميع المسلمين. وقد ذكر بعضهم أنّ نصوص الاستخارة الدعائية تزيد على الثلاثين من طرف الشيعة([131]).

والاستخارة الدعائية لها أشكال وردت في النصوص، من حيث تكرار الأدعية ثلاث مرات أو سبع أو عشر أو سبعين أو مائة، أو مائة وواحدة، وبعض الأدعية مختصر وبعضها طويل، وبعضها معه صلاة وبعضها معه صلاة وصوم، وبعضها معه غسل وصلاة، وبعضها معه غسل وصدقة وصلاة. كما أنّ فيها ما يفيد اختيار بعض الأمكنة، كموضع رأس الإمام الحسين، أو بعض الأزمنة والمواقع، كآخر ركعة من صلاة الليل، أو آخر سجدة من صلاة الفجر، أو عقب الفريضة، أو غير ذلك([132]).

 

3 ـ 6 ـ 2 ـ النصوص الخاصّة بالاستخارة الاستشاريّة

المجموعة الثالثة هنا هي النصوص التي ظاهرها الاستخارة الاستشارية، وهي أيضاً عديدة، وهي التي وقعت محلّ البحث من قبل العلماء والفقهاء. وهذه المجموعة يمكن تصنيفها بدورها إلى طوائف أصغر منها تنضوي تحتها، ولتنظيم البحث نجعلها على الشكل التالي:

 

أولاً: الاستخارة بالعدد (السبحة والحصى و..)

عندما نراجع الروايات الواردة في الاستخارة بالسبحة، نجدها على نوعين:

النوع الأوّل: وهو الذي يفرض في هذه الاستخارة ثلاثة أطراف (أمر، نهي، تخيير)، ولم نجد في ذلك سوى رواية واحدة، وهي الرواية التي ذكرها العلامة المجلسي بقوله: وجدت في مؤلّفات أصحابنا نقلاً عن كتاب السعادات، مرويّاً عن الإمام الصادق× قال: «يقرأ الحمد مرّة، والإخلاص ثلاثاً، ويصلّي على محمد وآل محمد خمس عشرة مرة، ثم يقول: اللهم إني أسألك بحقّ الحسين وجدّه وأبيه وأمّه وأخيه والأئمة من ذريّته، أن تصلّي على محمد وآل محمد، وأن تجعل لي الخيرة في هذه السبحة، وأن تريني ما هو الأصلح لي في الدين والدنيا، اللهم إن كان الأصلح في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فعل ما أنا عازم عليه، فأمرني، وإلا فانهني، إنّك على كلّ شيء قدير. ثم يقبض السبحة ويعدّها، ويقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله، إلى آخرالقبضة، فإن كانت الأخيرة سبحان الله، فهو مخيّر بين الفعل والترك، وإن كان الحمد لله، فهو أمر، وإن كان لا إله إلا الله فهو نهي»([133]).

وقد وصف المحدّث البحراني هذه الاستخارة بالغريبة، ونقلها عن والده في كتاب السعادات، وفسّر الأمر والنهي فيها بأنّه للإرشاد لا للوجوب أو التحريم([134])، فيما ذكر السيد جواد العاملي أنّ النتيجة تتبع طبيعة قصد المستخير، فإن قصد الأرجحيّة فخرج نهيٌ فله أن يستخير مرّةً أخرى على الراجحيّة أو عدم الضرر([135]). ومفهوم كلامه أنّه لو قصد الحكم الشرعي فلازمه الكشف عنه ولو كشفاً ناقصاً.

هذا، وذكر المحدّث النوري في المستدرك أنّ ناقل هذه الرواية هو من علماء البحرين([136])، وهو الصحيح، ألا وهو والد الشيخ يوسف البحراني في كتاب السعادات، بحسب الشهادة المباشرة من الشيخ البحراني نفسه، ويظهر أنّ العلامة المجلسي لم يصله الكتاب وإنما نقل عنه في مؤلّفات أخرى معاصرة له؛ لأنّ والد البحراني يفترض أن يكون معاصراً للمجلسي، فالبحراني توفي عام 1186هـ، فيما توفّي المجلسي عام 1111هـ، فيكون المجلسي قد نقل عن كتاب يعدّ في جيل تلامذته، لا عن كتاب هو مصدر أسبق منه. وبهذا يُعلم أنّ النقل عن المحدّث البحراني هنا أفضل من نقل هذه الرواية عن العلامة المجلسي، خلافاً لما جاء في جامع أحاديث الشيعة([137]).

ويُفهم من هذه الاستخارة أنّه لا نظير لها في التقسيم الثلاثي للنتيجة، إلا أنّ إثباتها في غاية الوهن، كيف وقد ظهرت في القرن الثاني عشر الهجري، وعلى أبعد تقدير في القرن الحادي عشر الهجري، ولا ذكر لها قبل ذلك، ولا يُعلم لها مصدر فضلاً عن عدم وجود سند لها أساساً، ومثل هذه المرويّات لا قيمة لها تُذكر.

النوع الثاني: وهو الذي يجعل للاستخارة طرفين فقط (الأمر والنهي)، وهو ما رواه السيّد ابن طاووس في قسم الاستخارة بالقرعة، حيث قال عند بحث كيفية الاستخارة بالقرعة ما نصّه: «وجدت بخطّ أخي الصالح الرضي القاضي الآوي محمد بن محمد بن محمد الحسيني ضاعف الله سعادته، وشرّف خاتمته ما هذا لفظه: عن الصادق×: «من أراد أن يستخير الله تعالى فليقرأ الحمد عشر مرات، وإنّا أنزلناه عشر مرات، ثم يقول: اللهم إنّي أستخيرك لعلمك بعاقبة [بعواقب] الأمور، وأستشريك لحسن ظنّي بك في المأمول والمحذور، اللهم إن كان أمري هذا مما قط نيطت بالبركة أعجازه وبواديه، وحفّت بالكرامة أيامه ولياليه، فَخِر لي بخيرة تردّ شموسه ذلولاً، وتقعّص أيامه سروراً. يا الله إما أمرٌ فأأتمر، وإما نهيٌ فأنتهي، اللهم خِر لي برحمتك خيرةً في عافية، ثلاث مرات، ثم يأخذ كفّاً من الحصى أو السبحة»، يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن محمد بن الطاووس: هذا لفظ الحديث، ولعلّ المراد بأخذ الحصى والسبحة أن يكون قد قصد بقلبه أنّه إن خرج عدد الحصى والسبحة فرداً، كان: إفعل، وإن خرج منه زوجاً، كان: لا تفعل..»([138]).

ونقل هذه الرواية الشهيد الأول (786هـ) في كتاب الذكرى إلا أنّه قَبْلَهَا تماماً، ذكر ناقلاً عنه المضمون عينه تقريباً دون أن ينسبه إلى كتاب الاستخارات (فتح الأبواب)، لكنّه جعل الحديث منقولاً عن صاحب الأمر، وليس عن الإمام الصادق([139]). وقد ذكر هذه الاستخارة مع بعض الاختلاف ابنُ فهد الحلي (841هـ) في (الرسائل العشر) دون أن ينسبها إلى إمامٍ بعينه أو مصدر أساساً([140])، وهكذا ذكرها المحقّق السبزواري (1090هـ) عن ابن طاووس مرويةً عن صاحب الأمر([141]) وكذا غيره([142]).

أمّا الفيض الكاشاني (1091هـ) فاعتبرها مرويّةً عن الإمام الصادق وقال: «وربما تروى عن صاحب زماننا»([143]).

وقد نقلها أو قريباً منها العلامةُ المجلسي أيضاً عن الشيخ يوسف بن الحسين، عن خطّ الشهيد الأوّل دون نسبةٍ إلى المعصوم. ونقل أخرى أيضاً عن خطّ الشهيد الأول فيها الزوج والفرد دون نسبةٍ إلى المعصوم كذلك([144]).

وعلى أيّة حال، فهذه الرواية ـ سواء نسبت إلى الإمام الصادق أم إلى الإمام المهدي ـ لا قيمة لها، فلم تظهر بالنسبة إلينا إلا في القرن السابع الهجري، فابن طاووس توفّي عام 664هـ، والقاضي الآوي الذي نقل أنّه وجد الاستخارة هذه بخطّه توفي عام 654هـ، وكان معاصراً لابن طاووس، حيث نقل عنه في كتبه بعض الحكايات، وهذا يعني أنّه لا يوجد سند أساساً لهذه الاستخارة، بل لا يوجد مصدر يمكن إرجاعها إليه في القرون الستّة الهجريّة الأولى، والفاصل بين ابن طاووس والغيبة الصغرى أكثر من ثلاثة قرون، فضلاً عن الفاصل بينه وبين الإمام الصادق×، على أنّه لم ينقل لنا أحدٌ قبله هذه الاستخارة.

ولهذا عندما تحدّث الشهيد الأوّل عن الاستخارة بالعدد، وهي تشمل السبحة والحصى، ناقلاً هذه الرواية المتقدّمة، قال عن هذه الاستخارة: «ولم تكن هذه مشهورةً في العصور الماضية قبل زمان السيد الكبير العابد رضي الدين محمّد بن محمد بن محمّد الآوي..»([145]).

هذه هي روايات الاستخارة بالسبحة والعدد، والغريب توصيف بعضهم لهذه الرواية بأنّها صحيحة([146]).

وعليه، فأضعف روايات الاستخارة الاستشاريّة ـ بغض النظر عن استخارة الطيور الآتية ـ هي روايات الاستخارة بالعدد أو الاستخارة بالسبحة والحصى، وأما القول بأنّ مثل هذه الروايات المنقولة من بعض الصالحين عن الإمام المهدي لا معنى للسند فيها؛ لأنّه حيث لا يكون لها عينٌ ولا أثر قبل ذلك، فهذا يقوّي احتمال أن يكون هذا العبد الصالح قد أخذها من الإمام المهدي مباشرةً عبر لقائه له وإخباره بها، فيكون سندها قويّاً بواسطة واحدة حينئذٍ.. هذا الكلام لا أساس علميَّ له، فهو مجرّد افتراض، وكونها لم تظهر قبل ذلك لا يعني اللقيا، فقد ظهرت في القرون اللاحقة على زمن العلامة الحلّي الكثير من الروايات التي لم يُعثر لها على مصدر قبل ذلك إطلاقاً، رغم كونها مروية عن سائر الأئمة غير الإمام المهدي. هذا كلّه لو سلّمنا بلقاء الإمام وبصحّة إدراك هذا الشخص الناقل للخبر عنه أنّ من يحدّثه هو الإمام فعلاً، وتفصيله في محلّه.

هذا، وقد ذكر السيد العاملي صاحب مفتاح الكرامة استخارةً قال بأنّها متعارفة عند أهل زمانه، وينسبونها إلى الإمام المهدي، وهي أن يقبض على السبحة بعد القراءة والدعاء، ويُسقط ثمانيةً ثمانية، فإن بقي واحدة فحسنة في الجملة، وإن بقي اثنان فنهيٌ واحد، وإن بقي ثلاثة فصاحبها بالخيار؛ لتساوي الأمرين، وإن بقي أربعة فنهيان، وإن بقي خمسة فعند بعض أنها يكون فيها تعب، وعند بعضٍ أنّ فيها ملامة، وإن بقي ستة فهي الحسنة الكاملة التي تحبّ العجلة، وإن بقي سبعة فالحال فيها ما ذكر في الخمسة من اختلاف الرأيين أو الروايتين، وإن بقي ثمانية فقد نهي عن ذلك أربعة مرات..([147]).

ولا يُعلم أنّ هذه الاستخارة لها رواية أساساً، وقد ظهرت في القرن الثالث عشر الهجري، وقد نبّه على ذلك الشيخ النجفي([148])، بل قد اعترف العاملي والنجفي بعدم وجود هذه الاستخارة في كتب الأصحاب قديمها وجديدها فروعها وحديثها.

 

السبحة بين الخصوصية والمثاليّة

ذكر السيد محمّد جواد العاملي (1228هـ) عند تعرّضه لبحث الاستخارة بالسبحة والعدد أنه هل السبحة والحصى فيها خصوصيّة هنا أم هي مجرّد طريق لكلّ شيء معدود ويقبل العدّ؟ محتملاً أظهريّة الطريقية([149]).

وما استقربه وجيهٌ بنظر العرف، حيث لا خصوصيّة، نعم، لو جعلت السبحة من تربة أحد المعصومين لأمكن احتمال الخصوصية، إلا أنّ ذكرها بنحوٍ مطلق مع إضافة الحصى لو أراد، شاهدٌ يقوّي احتمال الطريقيّة للوصول بالعدد إلى الفرد أو الزوج، أو للوصول إلى نقطة النهاية حال التلفّظ بذكرٍ معين، كما جاء في الرواية الأولى من روايتي الاستخارة بالسبحة، ومن هنا كان من الأنسب عنونة هذا النوع من الاستخارة بالاستخارة بالعدد، كما فعله بعض الفقهاء، ويدرج تحته عنوان الاستخارة بالسبحة والحصى وغير ذلك.

وأما حديث بعضهم عن سيرة العلماء على الاستخارة بالسبحة فتكون لها خصوصيّة([150])، فلا وجه له كما هو واضح، ولهذا عدل عنه بعدم إحراز اتصال السيرة، بل حتى لو اُحرزت لا يعني ذلك الخصوصيّة، والنصّ لا يحرز انصرافه عن مثل البيض والجوز؛ لأنّ المستدلّ هنا يلغي الخصوصيّة العرفية، وإلغاؤه وجيه.

وبناءً عليه، لا معنى لتخصيص السبحة بكونها من تربة الإمام الحسين، بل تشمل ترتبته وتربة غيره من الأنبياء والأوصياء، بل مطلق التراب، حيث لا تخصيص في النصّ. ودعوى انصراف السبحة لما صنع من التربة الحسينية لا وجه لها؛ لعدم إحراز غلبة الوجود، فضلاً عن غلبة الاستعمال للسبحة فيما صنع من تربة الحسين× عصرَ النصّ.

ونتيجة البحث في الاستخارة بالعدد هو ضعفها جدّاً على كلّ المباني في باب حجيّة الأخبار، وعلى تقديره فلا اختصاص بالسبحة أو بالحصى. وقد استفتي السيد الخوئي ـ فيما نقل عنه ـ فأجاب بعدم عثوره على روايةٍ معتبرة في الاستخارة بالسبحة([151])، وهو ما توصّلنا إليه.

 

ثانياً: الاستخارة بالمصحف الشريف

الاستخارة بالمصحف الشريف من الاستخارات الشائعة اليوم، ولها طرق أيضاً نذكرها على التوالي، ونبيّن الموقف فيها:

الطريقة الأولى: وهي الطريقة المعروفة اليوم، وإن كنّا نطبّقها بشكل مختلف قليلاً، بأن نفتح المصحف وننظر فيه، فأوّل ما نرى فيه هو الذي نأخذه، واليوم و إن كانوا يلاحظون أوّل الصفحة من جهة يمين المستخير، ويقرؤون الآية الأولى في أعلى الصفحة، لكنّه شيء لا خصوصيّة له على مستوى هذه الطريقة، بل قد يقع نظر الناظر على آيةٍ أخرى في وسط الصفحة، فتكون هي المطلوبة.

وهذه الطريقة توجد فيها عدّة روايات، وهي:

الرواية الأولى: وهي التي رواها الشيخ الطوسي بسنده إلى اليسع القمّي، قال: قلت لأبي عبدالله×: أريد الشيء فأستخير الله فيه، فلا يوفّق فيه الرأي، أفعله أو أدعه؟ فقال: «انظر إذا قمت إلى الصلاة، فإنّ الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصلاة، فانظر إلى شيء يقع في قلبك فخذ به، وافتح المصحف، فانظر إلى أوّل ما ترى فيه، فخذ به إن شاءالله تعالى»([152]).

وقد نقل العلامة المجلسي هذه الرواية عن كتاب الغايات لجعفر القمّي صاحب كتاب العروس والمكارم، عن أبي علي اليسع بن عبد الله القمي([153])، وكذلك فعل المحدّث النوري في المستدرك([154]).

هذا الخبر يفيد ـ كما يذكر الفيض الكاشاني ـ أنّ السائل كأنّه حاول عدّة مرات أن يحصل على قرارٍ وعزم في أحد الخيارات المتوفّرة أمامه، وأنّه لم يكن يوفّق في ذلك، فدلّه الإمام على طريقين: أحدهما ما يقع في قلبه بعد الصلاة، وثانيهما النظر في المصحف([155]). هذا ما يفرض تفسير (الواو) في قوله (وافتح المصحف) بأنّها بمعنى (أو)، و إلا أشكل أمر الحديث.

وقد اعتبر السيد جواد العاملي هذا الخبر بأنّه الأصل في الاستخارة بالمصحف الشريف، بطريقة فتحه والنظر فيه([156]).

وأما كيفية فهم الآية الكريمة التي وقع النظر عليها فهو أمرٌ يختلف، وقد ذكر بعضهم أنّ العبرة بما يتبادر من لفظ الآية نفسها لا بمقامها ولا بسياقها([157])، مثلاً: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ قد يتبادر منها الخير، مع أنّ مقامها وسياقها وقع في الذمّ.

لكنّ، قد يواجه هذا الحديث مشاكل:

المشكلة الأولى: من حيث سنده، وذلك أنّ اليسع القمي، وهو اليسع بن عبدالله القمي، رجلٌ مهمل لم يترجمه الرجاليّون([158])، ومعه لا يمكن إثبات الحديث. بل بعد التتبّع يكاد لا يكون له أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة من الروايات، وربما لذلك لم يذكره الرجاليّون المهتمّون بالمصنّفات والكتب، كما أنّ الراوي عن اليسع بحسب سند التهذيب هو (أبو علي)، وهو شخص لم نستطع معرفته إطلاقاً، ومحتملاته لا يوجد ما يثبت وثاقتها، إلا إذا قيل بأنّ السند ينتهي بأبي علي بن اليسع القمّي، فترتفع مشكلة اليسع نفسه، ولكنّنا لم نعثر على شخص بهذا الاسم، بل كلّ من والده اسمه اليسع فهو أيضاً مجهول الحال، و مهمل.

هذا، وقد اُجيب عن إشكال الضعف السندي بشهرة العمل بهذا الحديث بين الأصحاب([159])، وبقيام السيرة المتشرّعيّة على الاستخارة بالقرآن منذ زمن المعصومين^، كما أنّ الاعتبار يساعد على ذلك؛ لأنّ الاستخارة تكون بأيّ قصد وليس أشرف من القرآن أن يُستخار به، على أنّ فيه كلّ العلوم، فحلّ مشكلة هذا المستخير لابد وأن تكون موجودةً فيه، وطريق المعرفة حينئذٍ يكون ـ عرفاً ومتشرّعياً ـ بالاستخارة المشار إليها([160]).

ويمكن ردّ هذا الجواب:

أولاً: كيف عرفنا اشتهار العمل بهذا الحديث بين الأصحاب على نحو الاستناد إليه، إذ قلّما أشاروا له في كتبهم الفقهيّة والاستدلالية، علماً أنّ قاعدة الجبر السندي لا تصحّ فيما إذا عُلم مستند اعتمادهم على الخبر وكنّا على خلافٍ معهم فيه، بحيث كان اجتهاديّاً، وفي مثل المقام حيث كان مورد الخبر أمراً مستحبّاً ومندوباً، وحيث اشتهر بين الأصحاب الأخذ بقاعدة التسامح في أدلّة السنن، فلا نحرز بعد ذلك أنّ اعتمادهم على هذا الحديث كان من جهة تصحيح صدوره عبر السند أو غيره، فلعلّه من جهة التسامح في مسألة صدوره لكون مورده من المندوبات، وبهذا لا يصحّ تطبيق قاعدة الجبر السندي هنا، لو سلّمنا الاعتماد على الحديث من قبل المتقدّمين.

ثانياً: إنّ إثبات قيام سيرة المتشرّعة عصرَ المعصومين على الاستخارة بالمصحف بالغ الصعوبة، فعدد روايات هذه الاستخارة قليل جداً، وأغلبه منقول عن الكتب المتأخّرة كما سوف نرى، فكيف نعرف اشتهار هذه الاستخارة بينهم، فلعلّه كان المشهور نوعاً آخر من الاستخارات، ولم يُقم المدّعي هنا أيَّ شاهد على الشهرة هذه، ولعلّه طبّق الاستصحاب القهقرائي الذي طبّقه سابقاً وناقشناه فيه.

ثالثاً: إنّ الحديث عن أولوية القرآن وأشرفيّته صحيح؛ لكن ما ربط ما نحن فيه به، فإنّ هذه السبل توقيفية، ولا أرى ذلك سوى استنساباً غير قائم على دليل، وإلا فلنستنبط الأحكام الشرعية ولنستخرج العلوم الطبيعيّة من القرآن بهذه الطريقة!! وقد سبق منّا التعليق على ما يُشبه هذا الكلام فراجع.

رابعاً: سلّمنا جدلاً أنّ في القرآن كلّ شيء بما في ذلك حلّ مشكلة هذا المستخير، لكن كيف نثبت أنّ طريق معرفة الحلّ القرآني ـ عرفاً ومتشرّعياً ـ هو الاستخارة بالمصحف؟! والغريب إضافة العرف في المقام!

وعليه، فالخبر ضعيف السند غير منجبر بشيء.

المشكلة الثانية: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ ظاهر مطلع الحديث أنّ الرجل كان يستخير الله تعالى، ومع ذلك كان يظلّ متحيّراً لا يهتدي حتى سأل الإمام كي يحسم له الأمر، مع أنّ الاستخارة لا تفشل أو أنّها موضوعة لرفع التحيّر؟([161]).

وقد حاول بعضهم حلّ هذه المشكلة من خلال أنّ الاستخارة لها شروط لصحّتها، فإذا تحقّقت هذه الشروط كانت ناجحةً ورفعت التحيّر وإلا فلا([162]).

فيما حاول بعضٌ آخر أن يرفع هذا الإشكال بأنّ ظاهر هذه الرواية أنّ هذه الاستخارة من نوع الدعاء، وأنّ الاستخارة الدعائية بحيث يدعو الله تعالى أن يحقّق له العزم على الفعل أو الترك مثلاً ليست مما يرفع التحيّر، والاستخارة التي يرتفع بها التحيّر إنما هي الاستخارة بمثل المصحف أو السبحة أو الرقاع([163]).

كلا هذين الحلّين محتمل؛ إلا أنّ الصحيح في رفع هذه المشكلة هو القول بأنّ وضع طريقٍ نوعيّ لحلّ التحيّر ورفعه لا ينافي عدم تحقّق الرفع منه في بعض الموارد، ولا يوجد عندنا دليلٌ على أنّ كلّ استخارة يفعلها الشخص يجب أن ترفع تحيّره، فهذا تماماً كسائر الأسباب التي يحثّ الشارع والعقلاء على اتباعها والأخذ بها للوصول إلى الهدف، لكن مع ذلك لا يصل كثيرون إلى الهدف ولو مع اتباعها، فإعلان طريقٍ نوعيّ غالبي لا يمنع عن تخلّفه في بعض الموارد. وقد قلنا سابقاً عند الحديث عن الدعاء واستجابته أنّ استجابة الدعاء مقيّدة لبّاً بالمصلحة وأمثال ذلك، ومثل هذه المفاهيم من شأنها أن تظهر الدعاء في الخارج غير مستجاب دائماً، وإنّما غالباً أو في بعض الموارد.

المشكلة الثالثة: إنّ هذه الرواية ذكرت طريقين: أحدهما ما يقع في القلب وثانيهما الاستخارة بالمصحف، وعطفت بينهما بحرف الواو، وهذا يعني أنّ هذا الشخص لكي يرفع تحيّره عليه أن يفعل الاثنين معاً، فالذي يقع في قلبه مع ما يخرج له في المصحف يكون هو الحلّ، وهذا لا يحلّ مشكلة السائل الذي جاء يعاني من أزمة عدم تحقّق العزم عنده بعد كلّ استخارة، حيث فرض الحلّ في نفس الطريق الذي جاء السائل يبيّن معاناته معه.

وقد حاول بعض العلماء الخروج من هذه المشكلة بافتراض تفسير (الواو) في قوله: «وافتح المصحف»، على أنها بمعنى (أو)، فيكون المراد التخيير([164])، ولابد أن يقصدوا هنا أنّك بالخيار أن تفعل الأوّل أو الثاني، ومعنى أنّك مخيّر في فعل الأوّل هو أنّ لك الاستمرار في نفس الطريقة السابقة حتى يحصل العزم، غاية الأمر أنّ الرواية ذكرت له بعض العناصر المؤثّرة في حصول المطلوب في الطريق الأوّل، وهو عبارة عن استغلال وقت الصلاة وحال القيام إليها باعتباره الحال التي يكون فيها الشيطان بعيداً من الإنسان.

واحتمال أنّه في مقام بيان طرق متعدّدة وليس طريقاً واحداً واردٌ، باعتبار تكرار الأمر بقوله: «فخذ به»، فيكون ما ذكره هؤلاء العلماء غير بعيد.

الرواية الثانية: ما نقله السيد ابن طاووس، عن الإمام الشيخ الخطيب المستغفري& بسمرقند في دعواته: «إذا أردت أن تتفأل بكتاب الله عزّ وجلّ فاقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات، ثم صلّ على النبي‘ ثلاثاً، ثم قل: اللهم إني تفألت بكتابك، وتوكّلت عليك، فأرني من كتابك ما هو المكتوم من سرّك، المكنون في غيبك، ثم افتح الجامع، وخذ الفأل من الخطّ الأوّل في الجانب الأوّل، من غير أن تعدّ الأوراق والخطوط، كذا أورد مسنداً إلى رسول الله‘»([165]).

وهذه الاستخارة تطابق ما هو المعمول به اليوم بين الناس، لكنّها كما هو واضح مرسلة متأخّرة المصدر، فلا يحتجّ بها.

الرواية الثالثة: ما ذكره العلامة المجلسي حيث قال: «وجدت بخطّ الشيخ محمد بن علي الجباعي& أنه وجد بخطّ الشيخ+ روايةً حسنة في التفأل بالمصحف، وذكر الرواية الثالثة من كتاب أبي القاسم بن قولوية، قال: روى بعض أصحابنا، قال: كنت عند علي بن الحسين× فكان إذا صلّى الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس، فجاؤوه يوم ولد فيه زيد، فبشّروه به بعد صلاة الفجر، قال: فالتفت إلى أصحابه، فقال: أيّ شيء ترون أن أسمّي هذا المولود؟ قال: فقال كلّ رجل: سمّه كذا سمّه كذا، قال: فقال: يا غلام عليّ بالمصحف، قال: فجاؤا بالمصحف، فوضعه على حجره، قال: ثم فتحه فنظر إلى أوّل حرف من الورقة، وإذا فيه: ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، قال: ثم طبقه ثم فتحه ثلاثاً فنظر، فإذا في أوّل الورقة: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ثم قال: هو والله زيد، هو والله زيد، فسمّى زيداً».

وعلّق المجلسي بعد ذكره الرواية فقال: «لعلّه× لما كان أنّ الشهيد من أولاده في الجهاد اسمه زيد، والآيتان دلّتا على أنّه يقاتل ويستشهد، فسمّاه زيداً، وفيه أيضاً إيماء بجواز استعلام الأحوال من القرآن»([166]).

والحديثُ ـ كما ترى ـ وِجادة في إرسالٍ في جهالة، لا يصح الاعتماد عليه، بل قضيّة الخطوط ومعرفتها وإمكان التزوير بما يشابه خطّ شخص مثل الشيخ الطوسي أمرٌ يوقع لوحده في المشاكل الإثباتية التاريخية والحديثية. نعم هذا الحديث موجود مرسلاً بلا سند في مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي([167])، والظاهر أنّ أصله من هناك.

كما ومن الواضح أنّ الرواية الثانية والثالثة هنا تحويان تفألاً بالقرآن واستعلاماً، الأمر الذي يضعهما في مواجهة ما سيأتي حول موضوع التفأل بالقرآن الكريم. ورواية مولد زيد لا إطلاق فيها، فغايته تثبت الاستخارة في تسمية المولود لا مطلقاً.

بل إنّ غاية الرواية فعلُ معصومٍ، ولا نستطيع ـ بعد عدم تكرّر الفعل ـ فهم الاستحباب، مع احتمال خصوصيّة الحاجة لذلك.

والنتيجة عدم صحّة الطريقة الأولى من طرق الاستخارة بالمصحف وعدم ثبوتها بطريق معتبر.

الطريقة الثانية: وهي طريقة عدّ الأوراق والسطور أو أسماء الجلالة. وقد وردت في كيفيتها بعض الروايات التي تختلف في الآليات وهي:

 الرواية الأولى: ما ذكره العلامة المجلسي، وأنّه وجده بخطّ جدّ الشيخ البهائي، وهو الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن الحسن الجباعي، نقلاً عن خطّ الشهيد، نقلاً عن خطّ محمد بن أحمد بن الحسين بن علي زياد، وصولاً إلى عثمان بن عيسى، عن سيف، عن المفضّل بن عمر قال: بينما نحن عند أبي عبد الله×، إذ تذاكرنا أمّ الكتاب، فقال رجل من القوم: جعلني الله فداك إنّا ربّما هممنا بالحاجة، فنتناول المصحف فنتفكّر في الحاجة التي نريدها، ثم نفتح في أوّل الوقت، فنستدلّ بذلك على حاجتنا، فقال أبو عبدالله×: «وتحسنون؟ والله ما تحسنون». قلت: جعلت فداك وكيف نصنع؟ قال: «إذا كان لأحدكم حاجة وهمّ بها، فليصلّ صلاة جعفر، وليدع بدعائها، فإذا فرغ من ذاك فليأخذ المصحف، ثم ينوي فرج آل محمّد بدءاً وعوداً، ثم يقول: اللهم إن كان في قضائك وقدرك أن تفرّج عن وليّك وحجّتك في خلقك في عامنا هذا أو في شهرنا هذا، فأخرج لنا آيةً من كتابك نستدلّ بها على ذلك. ثم يعدّ سبع ورقات، ويعدّ عشرة أسطر من خلف الورقة السابعة، وينظر ما يأتيه في الأحد عشر من السطور، فإنّه يبيّن لك حاجتك، ثم تعيد الفعل ثانيةً لنفسك»([168]).

والبحث في هذه الرواية تارةً يكون على مستوى المصدر والسند، وأخرى على مستوى الدلالة والمتن:

أ ـ أما من الناحية السندية، فقد وصف السندَ بعضُهم بالصحيح والمعتبر على التحقيق([169])، إلا أنّ مصدر هذا الحديث يرجع إلى ثلاثة كتب وهي: بحار الأنوار للمجلسي (1111هـ)، والسيد ابن طاووس (664هـ) في فتح الأبواب، ومكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (548هـ)، لكنّ الصيغة المطوّلة التي ذكرناها ترجع لمتن كتاب بحار الأنوار، وهذا يعني أنّ أقدم مصدر لهذه الرواية هو القرن السادس الهجري، ثم ذكرها ابن طاووس، وظنّي أنّه أخذها من الطبرسي، ثم نقلها المجلسي آخذاً لها من كتابٍ حصل عليه بالوِجادة من جدّ الشيخ البهائي الذي يظهر أنّه حصل على الرواية أيضاً بكتاب عثر عليه وجادة للشهيد الأول الذي نقلها عن ابن زياد من خلال الوِجادة أيضاً، عن الشيخ الطوسي بسندٍ يصل إلى المفضّل بن عمر، فيكون طريق البحار هو الطريق الوحيد المسند.

ولو رجعنا إلى ابن طاووس والطبرسي فالخبر لا سند له أساساً، حتى المفضل بن عمر غير مذكور، فلا اعتبار بالحديث، ولو قاربناه بسند البحار فإنّ سند البحار يظهر منه أنّه أخذه من الشيخ الطوسي، مع أنّ ابن طاووس لم ينقله عنه.

والسند في البحار فيه:

أولاً: مشكلة الوِجادة المتكرّرة المتضمّنة للإرسال من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس، لأنّه بحسب السند يوجد بين المجلسي والطوسي ثلاثة أشخاص فقط خلال مدّة ستة قرون، ولو وصله هذا الكتاب أو الرواية عبر طرق الإجازات عند المتأخّرين لما تحدّث عن وجادة، بل لذكر أنّ الحديث عن الطوسي بأسانيدنا إليه، والاعتماد على هذه الوجادات غير معلوم الصحّة ولو اطمأنّ هذا العالم أو ذاك بصحّة الخطّ، مع هذا الفاصل الزمني.

ثانياً: إنّ في السند محمّد بن جعفر بن أحمد بن بُطة أبوجعفر القمي المؤدب، وقد قال فيه النجاشي: «كان كبير المنزلة بقم، كثير الأدب والفضل والعلم، يتساهل في الحديث، ويعلّق الأسانيد بالإجازات، وفي فهرست ما رواه غلط كثير، وقال ابن الوليد: كان محمد بن جعفر بن بطة ضعيفاً مخلطاً فيما يسنده»([170]).

وهذا النصّ ـ مع عدم ترجمة أحد من المتقدّمين له ـ لا يفيد أنّه رجل كذاب، لكنّه يفيد عدم الثقة بحديثه ونقله ما لم يحتف بالقرائن؛ فإنّ الوثاقة تارةً تنسب للراوي وأخرى لحديثه، ولو نسبناها للراوي وقلنا رجل ثقة فتارة نعني أنه لا يكذب وأخرى نعني أنه يركن لحديثه، وما هو الحجّة في باب الأخبار هو الثاني، ولهذا قلنا في محلّه بأنّ خبر الثقة أفضل من خبر العدل؛ لأنّ حيثية العدالة يكفي فيها أنّه لا يتعمّد الكذب، فيما حيثية الوثاقة التي ترجع إلى الاعتماد والركون تشمل الضبط والدقة والحفظ ونحو ذلك، ومن هنا قلنا أيضاً بأنّه لو شهدوا لشخص بالوثاقة فلعلّه يشمل ضبطه بخلاف الشهادة بالعدالة، وفي هذه الحال فما لم يحتف خبر المؤدب بأخبار أخر توجب الركون إليه فلا يعتمد على خبره بعد هاتين الشهادتين من النجاشي وابن الوليد. والغريب أن الشيخ الطوسي أهمل ذكر هذا الرجل في مصنّفاته الرجالية بينما ورد بكثرة في طرقه.

وعليه، فالخبر ضعيف السند لا يركن إليه.

ب ـ وأما من الناحية الدلالية والمتنية، فيمكن إثارة تساؤلين:

التساؤل الأوّل: عدم التطابق بين الدعاء والقصد المرتبط بالدعاء وبين النتيجة، فالدعاء مربوط بمعرفة هل سيخرج الإمام المهدي أم لا، فيما النتيجة هي تحديد الموقف من العمل وأنه يقدم عليه أم لا. ما لم نرجع (على ذلك) إلى الفعل لا إلى الإمام، ويكون المعنى: إن قدّرت خروجه هذا العام فأخرج لنا آية نستدلّ بها على فعلنا ومدى حسنه، وإن كان خلاف ظاهر الحديث.

التساؤل الثاني: لم يُفهم ما معنى الجملة الأخيرة الآمرة بإعادة الفعل لنفسه، فما الذي كان أولاً، مع أنه قال له بأنه تكون قد بينت حاجته؟

وهذا ما يضع متن الحديث في بعض الاضطراب والتشوّش.

وعلى أيّة حال، فقد جاءت هذه الرواية مرّةً أخرى في بحار الأنوار، حيث قال المجلسي معلّقاً على الرواية الأولى، ما نصّه: وجدت في بعض مؤلّفات أصحابنا أنّه قال: مما نقل من خطّ الشيخ يوسف بن الحسن القطيفي& ما هذا صورته: نقلت من خطّ الشيخ العلامة جمال الدين الحسن بن المطهّر طاب ثراه: روي عن الصادق× قال «إذا أردت الاستخارة من الكتاب العزيز، فقل بعد البسملة: إن كان في قضائك وقدرك أن تمنّ على شيعة آل محمّد بفرج وليّك وحجّتك على خلقك، فأخرج إلينا آيةً من كتابك نستدلّ بها على ذلك، ثم تفتح المصحف، وتعدّ ست ورقات، ومن السابعة ستة أسطر، وتنظر ما فيه»([171]).

واستظهر في البحار سقوط جملة «ثم تعيد ذلك لنفسك»، معتمداً ـ على ما يبدو ـ على التشابه بين الروايتين، وهو أمرٌ ممكن، وإن كان ظاهر هذه الرواية لو بقينا معها لوحدها عدم ارتباطها أساساً بالاستخارات التي نحن فيها، بل كأنّها مرتبطة باستعلام حال ظهور الإمام المهدي. ومهما يكن فهي رواية مرسلة في مرسلة لا ترقى إلى مستوى الاعتبار التاريخي والحديثي كما هو واضح.

وعندي ملاحظة عامة على هذه الرواية بنقليها المختلفين في عدد الصفحات والأسطر، وهي أنّها مرتبطة بظهور الإمام، ولنفرض أنّ الإنسان وكلّ شيعي فعل ذلك منذ عصر الصادق× إلى يومنا هذا، ألن يعني ذلك تكذيب الاستخارة؟ لأنّ المفروض أنّه لو خرجت لنستدلّ بها على ظهوره، وكانت إيجابيّةً، وبالتأكيد ستخرج كثيراً على هذا النحو، فهذا يعني أنّه بتراكم التجارب سوف نكذّب الاستخارة التي تخبرنا بأنّه سيخرج هذا العام.

أضف إلى ذلك أنّ ظاهر هذا الحديث أنّه من المنطقي أن يُصنع مضمونه بعد الغيبة، فما معنى أن يأمرهم الإمام به قبلها مع العلم بأنّ الأئمة اثنا عشر وآخرهم المهدي بالنصوص المرويّة في كتب الإمامية وغيرهم؟ إلا إذا قيل بأنّ الإفراج عن حجّتك ووليّك مربوط بالسماح للأئمة بالخروج لا بكونهم المهدي المنتظر، ولهذا الموضوع ارتباط بمسألة البداء، وفيه بعض الروايات التي تشبهه نعرض عنها الساعة.

والمتحصّل أنّ هذه الرواية بصيغها غير صحيحة ولا معتمدة.

الرواية الثانية: ما ذكره العلامة المجلسي أيضاً حيث قال: وروى لي بعض الثقات؛ عن الشيخ الفاضل الشيخ جعفر البحريني&، أنّه رأى في بعض مؤلّفات أصحابنا الإمامية، أنّه روي مرسلاً عن الصادق× قال: «ما لأحدكم إذا ضاق بالأمر ذرعاً، أن لا يتناول المصحف بيده عازماً على أمر يقتضيه من عند الله، ثم يقرأ فاتحة الكتاب ثلاثاً والإخلاص ثلاثاً و آية الكرسي ثلاثاً وعنده مفاتح الغيب ثلاثاً والقدر ثلاثاً والحمد ثلاثاً والمعوذتين ثلاثاً ثلاثاً، ويتوجّه بالقرآن قائلاً: اللهم إني أتوجّه إليك بالقرآن العظيم من فاتحته إلى خاتمته، وفيه اسمك الأكبر وكلماتك التامّات، يا سامع كلّ صوت، ويا جامع كلّ فوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تغشاه الظلمات، ولا تشتبه عليه الأصوات، أسألك أن تخير لي بما أشكل عليّ به، فإنك عالم بكلّ معلوم، غير معلَّم، بحقّ محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والخلف الحجّة من آل محمد عليه وعليهم السلام. ثم تفتح المصحف، وتعدّ الجلالات التي في الصفحة اليمنى، ثم تعدّ بقدرها أوراقاً، ثم تعدّ بعددها أسطراً من الصفحة اليسرى، ثم تنظر آخر سطر، تجده كالوحي فيما تريد إن شاء الله»([172]).

وقد ذكر بعض المعاصرين أنّ «إشارة الرواية إلى الاسم الأعظم وعدّ أسماء الأئمة وفاطمة÷، وعدّ اسم الجلالة، مما يوجب الاعتناء بالرواية. والتجربةُ بإصابة الواقع أيضاً من مؤيدات الرواية، ولا بأس بالعمل بها رجاءً، خصوصاً مع إسنادها إلى الإمام×»([173]).

إلا أنّ ذلك كلّه لا يرجع إلى محصّل كما صار واضحاً، والرواية غارقة في الجهالة والإرسال وعدم معلومية المصدر الذي نقل عنه الشيخ جعفر البحريني، وبين المجلسي والإمام الصادق قرابة ألف عام. ومن المعلوم أنّ هذه الاستخارة قد لا تتحقّق؛ لأنّه قد يفتح المصحف على آخر الصفحات فيضطر للإعادة، علماً أنّ بعض الصفحات ليس فيها اسم جلالة أساساً، وهذا كلّه لم تجرِ الإشارة إليه في الرواية. وإذا كانت الرواية بهذه الأهمية فكيف اختفت حتى عن الذين صنّفوا في المندوبات والمستحبّات وغيرها؟! وقد سبق أن تحدّثنا عن مرجعيّة التجربة في هذه الاستخارات. فهذه الرواية بالغة الضعف.

الرواية الثالثة: ما نقله السيد ابن طاووس قال: «وحدّثني بدر بن يعقوب المقرئ الأعجمي رضوان الله عليه بمشهد الكاظم صلوات الله عليه، في صفة الفال في المصحف [ثلاث روايات من غير صلاة فقال: تأخذ المصحف] وتدعو فتقول: اللهم إن كان من قضائك وقدرك أن تمنّ على أمّة نبيّك بظهور وليّك وابن بنت نبيّك فعجّل ذلك ويسّره وسهّله وكمّله، وأخرج لي آيةً استدلّ بها على أمرٍ فأئتمر، أو نهي فانتهي ـ أو ما تريد فيه الفال ـ في عافية، ثم تعدّ سبع ورقات، ثم تعدّ في الوجهة الثانية من الورقة السابعة ستة أسطر، وتتفأل بما يكون في السطر السابع. وقال في رواية أخرى: إنّه يدعو بالدعاء، ثم يفتح المصحف الشريف، ويعدّ سبع قوائم، ويعدّ ما في الوجهة الثانية من الورقة السابعة، وما في الوجهة الأولى من الورقة الثامنة من لفظ اسم الله جلّ جلاله، ثم يعدّ قوائم بعدد لفظ اسم الله، ثم يعدّ من الوجهة الثانية من القائمة التي ينتهي العدد إليها، ومن غيرها مما يأتي بعدها سطوراً، بعدد لفظ اسم الله جلّ جلاله، يتفأل بآخر سطر من ذلك. وقال في الرواية الثالثة: إنّه إذ دعا بالدعاء عدّ ثماني قوائم، ثم يعدّ في الوجهة الأولى من الورقة الثامنة أحد عشر سطراً، ويتفأل بما في السطر الحادي عشر، وهذا ما سمعناه في الفأل بالمصحف قد نقلناه كما حكيناه»([174]).

وهذه الرواية بطرقها الثلاثة مرسلة مجهولة المصدر فلا قيمة لها سندياً، وإذا لم تحمل على التعدّد في أساليب اكتشاف المراد فإنّها ستكون متعارضة فيما بينها. إلا أنّ الرواية الأولى الواردة في نصّ ابن طاووس آنفاً بإمكانها أن تشرح لنا السقط الذي كان موجوداً في بعض الروايات السابقة، حيث إنّ الشرط كان هو التفريج عن وليّ الله فيما جوابه كان أن يدلّه الله على ما ينبغي أن يفعل أو يترك، لا أن يدلّه على ما سيحدث مع الإمام المهدي، فيرتفع الإشكال الذي سجّلناه سابقاً من هذه الناحية على هذه الرواية هنا.

وقد حاول السيد ابن طاووس تفسير الحديث عن الفرج للإمام في هذه الروايات بقوله: «معنى قوله في كل ما قال «في عامنا هذا» أن يكون العلم بالفرج عن وليّه وحجّته في خلقه يتوقّف على معرفة أمور كثيرة، فيكون كلّ وقت يدعى له بذلك في عامي هذا، وفي شهري هذا، يفرّج الله جلّ جلاله أمراً من تلك الأمور الكثيرة، فيسمّى ذلك فرجاً»([175]).

إلا أنّ هذا التفسير إنما يصحّ على تقدير عدم فهم العرف من هذه الجملة في الوسط المتشرّعي الخروج من الغَيبة، وإلا فلا يكون في هذا التفسير غير مجرّد التأويل والتكلّف.

الرواية الرابعة: ما نقله المحدّث النوري عن العلامة المجلسي في (رسالة مفاتيح الغيب) المخصّصة لبحث الاستخارة، أنه قال: «ورأيت هذا ]هذه] الاستخارة بخطّ بعض الفضلاء، هكذا: يقرأ آية الكرسي إلى هم [وهم] فيها خالدون، وعنده مفاتيح الغيب إلى كتاب مبين، ثم يصلّي على محمد وآله عشر مرات، ثم يقول: اللهم إني توكّلت عليك، وتفألت بكتابك، فأرني ما هو المكنون، في سرّك المخزون في علم غيبك، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أرني الحقّ حقاً حتى أتبعه، وأرني الباطل باطلاً حتى أجتنبه، ثم يفتح المصفح، ويصنع كما مرّ»([176]). ومقصوده من ما مرّ ما جاء في الرواية المتقدّمة عن الشيخ جعفر البحريني.

وهذه الرواية ضعيفة أيضاً ولا تملك سنداً ولا مصدراً.

هذه هي نصوص الاستخارة بالمصحف الشريف بعد التقصّي والتتبّع وليس فيها إلا الرواية الأولى من المصادر الأصليّة، وهي مسندة لكنّها ضعيفة السند، وأما باقي الروايات فكلّها ظهرت في القرن السابع الهجري والعاشر وما بعد، عدا رواية تسمية زيد التي وردت في مستطرفات السرائر، فإثبات استخارةٍ بالمصحف معتبرة شرعاً لا دليل عليه. وقد نُقل عن الخوئي عدم وجود أحاديث معتبرة في استخارة المصحف([177]).

 

بين الاستخارة بالمصحف والتفأل به، فضّ الاشتباك بين الروايات

تواجه الاستخارة بالمصحف الشريف إشكاليّةً عامّة تطال كلّ روايات هذه الاستخارة، وهي التفأل بالقرآن الكريم حيث ورد النهي عنه في بعض النصوص، مما يجعل هذه الروايات هنا معارضةً لما دلّ على النهي عن التفأل بالقرآن الكريم، وهذا ما يعزّز الموقف الرافض لاستخارة المصحف، ويضعها أمام مشكلة إضافيّة.

والحديث الذي يقف مشكلةً هنا هو مرسل محمّد بن عيسى، عن أبي عبد الله× قال: «لا تتفأل بالقرآن»([178])، حيث دلّ الخبر صراحةً على النهي عن التفأل بالكتاب الكريم.

وثمّة محاولات لتجاوز إشكالية هذا الخبر، وهي:

المحاولة الأولى: ما ذكره غير واحدٍ من العلماء، من أنّ هذا الخبر الوحيد في النهي عن التفأل بالقرآن الكريم، ضعيف السند([179])، فهو من جهة مرسل حيث يرويه محمد بن عيسى عن بعض رجاله، ففيه من لم يسمّ، ومن جهة ثانية فيه سهل زياد، ولم تثبت وثاقته على التحقيق.

وهذه المحاولة في حدّ نفسها جيدة، لو صحّ سند خبرٍ من أخبار الاستخارة بالمصحف، أما حيث لم يصحّ سنداً أيّ منها، بل هناك رواية واحدة تعود لعصر مصادر الحديث الأساسيّة، فإنّ القوّة الاحتمالية في روايات الاستخارة بالمصحف سوف تضعُف بعد مجيء هذه الرواية الضعيفة السندة؛ لأنّ معارضة خبر ضعيف السند لآخر مثله يُضعف القوّة الاحتمالية في الاثنين معاً، الأمر الذي يزيد من وهن روايات الاستخارة بالمصحف الشريف.

المحاولة الثانية: ما ذكره بعض العلماء أيضاً([180])، من التمييز بين الاستخارة وبين التفأل، فالاستخارة يراد منها معرفة الرشد في الفعل أو طلب الخير منه، وأنّه هل هو فعلٌ حسن أم لا، ومما ينبغي فعله أم لا؟ أمّا التفأل فهو نحوٌ من استعلام الغيب لمعرفة المستقبل كشفاء مريض أو نجاح طالب في الامتحانات أو توفيق شخص للسفر إلى الخارج أو غير ذلك، فهناك اختلاف مفهومي جذري بين الاثنين، وهذا ما يرفع التعارض من رأس، فالمنهيّ عنه في خبر التفأل غير المأمور به في أخبار الاستخارة بالمصحف. وعلّة النهي عن التفأل بالقرآن أنّه يفضي إلى سوء الظنّ به في النهاية على تقدير عدم تحقّق الأمر المنظور في المستقبل مثلاً، أما في الفعل فحتى لو ظهر له أنّه كان سيئاً إلا أنّه يبقى أنّه كان الأفضل له من بين الخيارات المتوفّرة أمراً محتملاً، فلعلّ الخير له في أن يخسر في تجارته لمصالح لا يعرفها إلا الله سبحانه، أو لعلّه الأقل سوءاً.

وهذا لا ينافي مبدأ التفاؤل الذي حثّت عليه النصوص والذي هو ضدّ التشاؤم وأن من تفاءل بالخير وجده؛ لأنّ هذا مبدأ نفسي، فيما الذي نحن فيه محاولة معرفيّة لاستعلام المستقبل والعواقب، ولهذا حرّم بعض العلماء الفأل مطلقاً إذا بنى الإنسان عليه واعتقد فصار أمراً إدراكياً علمياً، والمفروض أن يكون أمراً محتملاً لكن مع توجّه النفس إليه([181]).

وقد نوقشت هذه المحاولة:

أولاً: بما ذكره المحقّق النجفي، من أنّ التفأل إن لم يكن أقرب إلى موضوع الاستخارة من علم الغيب فهو صادق على كلّ منهما ونسبته إليهما على حدّ سواء([182]).

والظاهر أنّ مراده أنّ الإنسان عندما تخرج له آية معيّنة في الاستخارة فإنّه تحصل له هذه الحالة عينها التي تحصل لمن يتفأل، فكما يتفأل إنسان برؤية شيء ما كذا يتفأل بالمصحف، ولابد أن يكون مقصوده من الصدق عليهما هو الصدق عليهما معاً لا إمكان الصدق، وإلا فهو لوحده لا يفيد دلالة الحديث على نفس مورد الاستخارة كما هو واضح، فلا يُحرز المعارض.

ولعلّه يمكن أن يكون مقصود النجفي ما سيأتي قريباً إن شاء الله.

ثانياً: ما ذكره العلامة فضل الله، من أنّ هذا التمييز الدقيق المذكور في كلمات الفيض الكاشاني وأمثاله بين الاستخارة والتفأل لا يتوفّر للإنسان عادةً، فالإنسان لا يميّز بين اكتشاف المستقبل واكتشاف المصلحة الكامنة في الفعل، بل الثاني يستبطن الأوّل، فمن أراد السفر للتجارة، فاستخار فخرج قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15)، فهو سيأخذ انطباعاً مستقبلياً عن نجاح تجارته في سفره([183]).

وهذا الإشكال مرجعه إلى نقد ما يمارسه المؤمنون اليوم في طريقة تعاملهم مع الاستخارة، وليس إلى التفكيك الذي مارسه الفيض الكاشاني، فإذا استطعنا تربية الناس على أنّهم عندما يفتحون القرآن الكريم وتكون نتيجة الاستخارة جيدة، فإنّ عليهم أن يعرفوا أنّ هذا لا ربط له باستكشاف حال نتيجة الفعل المنظورة لهم كربح التجارة، بل أن يفهموا بأنّ هذا غايته حسن الفعل والرشد فيه، وأنّ الحسن قد يجامع الخسارة المادية انطلاقاً من ﴿..وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 216)، فإذا أمكن إيصال هذه الفكرة وتمّ الاعتياد عليها ارتفع إشكال العلامة فضل الله، ودعوى التلازم القهري غير واضحة لو كانت هي ما يريده&.

ثالثاً: ما ذكره العلامة فضل الله أيضاً، من أنّ تمييز المحدّث الكاشاني بين سوء الظنّ بالله الذي يحصل بالتفأل وبين الاستخارة لا واقعيّة له، فلو استخار شخص ما، وكانت نتيجة الاستخارة أنّ الله أرشده إلى الفعل، ففعله، فبانت المفسدة فيه فإنّ هذا يوجب سوء الظنّ بالله تعالى أيضاً، فسوء الظنّ بالاستخارة يفضي إلى سوء الظن بالله تعالى أيضاً([184]).

وهذه الملاحظة لا ترد أيضاً على المحدّث الكاشاني؛ لأنّ مرجعها إلى أنّ المستخير لم يفهم بشكل صحيح الغرض من الاستخارة، وهذا لا تتحمّل الاستخارة مسؤوليّته، فلو فهمنا الغرض من الاستخارة، ما أسأنا الظن بالله؛ لأنّ معنى حُسن الفعل أنّ الله سبحانه يريدنا أن نبتلي بخسارة تجارتنا وأنّ في ذلك مصلحة الآجل بالنسبة لنا، وهذا غير التفأل بمعنى استعلام الغيب، ففي التفأل أنا أقصد معرفة هل سنربح أم لا؟ فإذا تفألت بالقرآن وكانت النتيجة جيدة فهذا معناه الإخبار الإلهي لي بالربح، فإذا خسرت انعكس ذلك سلباً عليَّ؛ لوضوح التنافي بين الإخبار بالربح وواقع الخسارة، أما في الاستخارة فقد اُعلمت بحسن الفعل ولم يقم عندي دليل على قبحه ما دمت محدود الاطلاع ولا أعلم خفايا الأمور، ففرق بينهما، فهذا تماماً كسوء ظنّ بعضهم بالله لأنه ابتلاه بصرف النظر عن الاستخارة والتفأل، حيث نجيبه بأنّه لعلّ في الابتلاء المصلحة لك في الآجلة إن لم يكن في العاجلة، وأنّ الله يعلم وأنت لا تعلم، الأمر الذي يحول دون اتهامه هذا لله تعالى، وهو ما يحصل أيضاً عندما يدعو الإنسان الله فلا يجد الإجابة في العاجل.

رابعاً: ما يمكننا تسجيله في المقام، وهو أنه بناءً على ما قاله المحدّث الكاشاني ينبغي أن لا يكون في نصوص الاستخارة بالمصحف الشريف ما يوحي بقضيّة استعلام المستقبل أو الارتباط بالتفأل وهذا يعني ضرورة استبعاد الروايات المصرّحة بتعبير التفأل بالقرآن، كالرواية الثانية من الطريقة الأولى (خبر الخطيب المستغفري)، والرواية الثالثة من الطريقة الثانية (خبر المقرئ الأعجمي)، والرواية الرابعة من الطريقة الثانية (خبر رسالة مفاتيح الغيب).

وبهذا تخسر روايات الاستخارة بالمصحف ثلاثة منها، ويضعف بذلك حجمها السندي وقوّتها الاحتمالية في الصدور.

بل قد يفضي التأمّل في بعض الروايات إلى اعتبارها نوعاً من استعلام الغيب وإن لم يرد فيها تعبير التفأل، ففي رواية ولادة زيد بن علي (الرواية الثالثة من الطريقة الأولى) نحن نلاحظ بناءً على التفسير المتقدّم للرواية، أنّ الإمام زين العابدين قد استعلم مستقبل ولده هذا عبر الآيات القرآنية، وأنّ هذا الولد سيكون مجاهداً وشهيداً، فعلم أنه زيد، فسمّاه بذلك، وهذا أيضاً لا علاقة له بخصوص استعلام الرشد في الفعل، بل له بُعد استعلامي مطلّ على الخارج ومستقبليّاته.

كما أنّ الرواية الأولى من الطريقة الثانية، وهي رواية المفضل بن عمر، قد جاء فيها الاستدلال على خروج الإمام المهدي من خلال الكتاب؛ وهذا أيضاً فيه نوع من الاستعلام للغيب، والأوضح منها ما أوردناه في ذيلها من رواية الشيخ القطيفي نقلاً عن خطّ العلامة الحلّي، فإنّها واضحة في فتح المصحف لاستعلام حال ظهور الإمام المهدي، ولذلك اضطرّ العلامة المجلسي لافتراض سقطٍ فيها كي يربطها بالاستخارة على فعلٍ معين.

وبهذا يظهر أنّ حوالي ست روايات هنا راجعة إلى التفأل بالقرآن بمعنى استعلام الغيب، كما فسّره الشيخ الكاشاني، وأنّ قرابة ثلاثة روايات أخرى فقط ليس فيها هذا الأمر، وإن كان لسانها فيه شَبَهٌ أيضاً من تلك النصوص، وهذا يعني أنّ ظهور خبر النهي عن التفأل بالمصحف سوف يفقدنا الوثوق بنصوص الاستخارة؛ لأنه سوف يقلّلها بحث تصبح ـ مع ضعفها السندي ـ مما يصعب تحصيل الوثوق بصدروه، فمآل تخريج المحدّث الكاشاني ـ إذا كان تخريجاً صحيحاً ـ إلى سقوط حجيّة أدلّة الاستخارة بالمصحف على تقدير كسبها الحجية من عنصر التكاثر والتظافر.

المحاولة الثالثة: ما ذكره السيد محمد الصدر، من أنّ رواية النهي عن التفأل وردت بصيغة المفرد «لا تتفأل بالقرآن»، وهذا يعني أنّه من الممكن أن يكون هذا الخطاب خاصّاً بشخص المخاطب الذي يوجّه الإمام الصادق الكلام إليه، الأمر الذي يفرض أن يكون التفأل بالقرآن منهيّاً عنه لطبقة معيّنة، دون سائر الطبقات([185]).

ولعلّه لهذا وجدنا في خبر المفضل بن عمر الجعفي أنّ الإمام اعتبر أنّ الشيعة لا يعرفون كيفيّة فتح المصحف حيث قال: «وتحسنون؟ والله ما تحسنون»، ثم علّمهم الكيفية، الأمر الذي يعني أنّ بعض الناس لا تحسن ذلك، بل لعلّ ما يقوّي هذا هو أنّ الإمام زين العابدين تفأل بنفسه مستعلماً الغيب في قصّة ولده زيد، وحيث إنّه معصوم يعلم الكتاب لذا كان ذلك جائزاً له. وعليه فالنهي عن التفأل بالمصحف نهيٌ شخصي وليس عاماً لجمهور المسلمين، فلا يعارض أخبار الاستخارة.

وهذه الطريقة في معالجة الموضوع قد تواجه مشاكل:

إنّه كما يحتمل أن يكون النهي عن التفأل خاصّاً بالشخص المخاطب كذلك يحتمل أن يكون تجويز الاستخارة بالمصحف خاصاً بفريق خاص أو بالمخاطب أيضاً، فنحن لو راجعنا مجمل روايات الاستخارة بالمصحف، لوجدناها أيضاً تعليماً لأشخاص مخاطبين بأعيانهم ومن ذلك رواية اليسع القمّي، وهي الرواية الأهم في الباب، فما هو الموجب لترجيح البُعد الشخصي في رواية التفأل بالكتاب على احتمال البُعد الشخصي في رواية الاستخارة؟ وتكون النتيجة إما أنّ الاستخارة تكون لبعض الناس أو أنّ الاستخارة والتفأل جاءا لحالات خاصّة، لا تستخدم من قبل الجميع.

والإفراد والجمع ليس لهما قيمة في خصوصيّة المخاطب وعدم خصوصيّته، خلافاً لما هو ظاهر مداخلة الشهيد الصدر الثاني&، فإنّه حتى لو كانت العبارة جمعاً قد يكون المراد منها جملة الحاضرين في مجلس الخطاب، نعم إنما نخرج من ذلك بالخطابات الظاهرة في التعميم مثل المسلمون والمؤمنون، بعد تجاوز ِإشكالية اختصاص الخطاب بالمشافهين وبالمقصودين بالإفهام والتي تخطّاها علماء أصول الفقه.

إنّ أصل التخصيص للمخاطب في صورة الإفراد فيه نظر؛ فإن قُصد أنّ ذلك قاعدة جارية في كلّ الموارد، فلا دليل عليها، بل لا يقول بها صاحب الإشكال نفسه في أبحاثه الأصولية والفقهيّة، وإن قصد أنّ الأخذ بها إنما يكون في حال التعارض، فهذا يحتاج إلى إبراز مرجّح احتمالي عرفي، فإذا لم يكن لصيغة الإفراد دلالة عرفية قابلة لتوفير الجمع العرفي في المقام، فإنّه لا يصح اعتبارها مرجعاً لرفع التعارض البدوي، ويكون ذلك محض تبرير لرفع التعارض دون إبراز تخريج أصولي لهذا التبرير. وإذا كان هذا التخريج هو احتمال الخصوصيّة فإنه إذا أفاد الكلام العموم ظهوراً لم ينفع احتمال الخصوصيّة ثبوتاً، وإلا لم تكن معارضةٌ من الأول، ولو بقينا نحن ورواية التفأل بالكتاب، بصرف النظر عن المعارضة فما هو الموجب لتخصيصها، إلا اختصاص الخطاب بالمقصودين بالإفهام أو المشافهين أو غير ذلك من النظريات التي يتساوى فيها خبر التفأل وخبر الاستخارة، فلم نخرج بمبرّر واضح لهذا الترجيح المدّعى.

والحاصل أنّ احتمال الخصوصيّة إن كان أصلاً يُعمل به في فهم النصوص مطلقاً فهذا يشمل أخبار الاستخارة، وإلا فلابدّ من ذكر المبرّر لإجرائه في نصوص التفأل خاصّة.

المحاولة الرابعة: ما ذكره السيد الصدر الثاني أيضاً، من أنّ السيرة منعقدة على الاستخارة بالمصحف الشريف، فتكون السيرة نافيةً لصدق الخبر المعارض، وهو التفأل، فيسقط عن الاعتبار، ويؤخذ بنصوص الاستخارة الموافقة للسيرة بلا معارض([186]).

وهذا الكلام متين منهجيّاً، غير أنّه يفتقر إلى إثبات قيام السيرة على الاستخارة بالمصحف الشريف بحيث تكون متصلةً بعصر النص، وقد تقدّم أنّه في غاية الصعوبة، فالترجيح بموافقة السيرة لا واقعيّة له هنا صغرويّاً، والسير المتأخّرة لا تفيد شيئاً كما هو واضح.

المحاولة الخامسة: ما ذكره بعض المعاصرين ـ مع اضطراب كلماته وبعد ردّه كلام الفيض الكاشاني ـ من حمل النصوص المجوّزة على الاستخارة بمعنى التعرّف والاستطلاع على ما هو الخير واقعاً في علم الله، وهو في الحقيقة من قبيل التعرّف على الغيب المستور الثابت في علم الله تعالى، وأما النهي عن التفأل فمحمول على مجرّد الاطّلاع على المغيّبات وكشف الأمور الخفيّة المجهولة من دون أن يكون في مقام الاستخارة ولا للتعرف على ما هو الخير واقعاً في الأمر الذي يريد فعله. وبهذا يكون التفأل مطابقاً لبعض معاني الاستخارة لا لجميعها([187]).

والذي أفهمه من كلامه بطوله أنّ الإنسان إذا فتح القرآن الكريم قاصداً استعلام غيب فعلِهِ الذي سيُقدم عليه كان ذلك استخارةً حسنة، أما إذا لم يكن في مقام الفعل وكشف حاله، بل فتح القرآن ليستعلم أمراً لا علاقة لفعله به، كأن يرى هل سيحدث زلزال هذا العام أم لا؟ فهذا هو التفأل المنهيّ عنه.

إلا أنّ هذا التمييز لم أفهم له وجهاً لغوياً وعرفياً، ما لم يقصد منه أنّ النهي عن التفأل بالكتاب عام بينما الأمر بالاستخارة خاصّ بمعرفة مستقبل الفعل، فيقيّد هذا الخاصُّ هذا العامَّ، ويتمّ الجمع العرفي حينئذٍ، وهو تفسير متفرّع على عدم صحّة محاولة الفيض الكاشاني أو المحاولات الأخرى التي تفهم التباين بين مفهومي الاستخارة والتفأل، إذ مع التباين لا معنى للتخصيص؛ لاختلاف النسبتين.

ولعلّ ما يواجه كلّ هذه التفاسير والمحاولات التوفيقيّة هو اللغة، حيث إنّ الفأل في لغة العرب بمعنى ما يناقض التطيّر والتشاؤم، فالحالة النفسية والاستبشار والإحساس بالأمل والشعور بأنّ الأمور سوف تكون خيراً وذات نتيجة حسنة هو مضمون التفأل.

قال الفراهيدي: «الفال معروف.. وذلك ضدّ الطيرة»([188])، وذكر ابن السكيت الأهوازي: «.. والفأل أن يكون الرجل مريضاً فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالباً فيسمع آخر يقول: يا واجد»([189]). ولهذا عبّر عن الطيرة بالفأل الرديء([190]). ولهذا كان التيمّن بالفأل عند العرب، كما أنّ هذا هو المعنى العرفي السائد بين الناس، فلا يقال لمن يطّلع على الغيب: إنه يتفأل، بل يقال بأنه ينجّم أو هو كاهن أو عرّاف أو متنبئ أو نحو ذلك، فالفأل له بُعد نفسي بالدرجة الأولى فيما ستصير الأمور إليه وسيحدث، فيقع الانقباض والقلق أو الانبساط والبُشر النفساني، وليس بُعداً معرفياً صرفاً في كشف المغيّبات.

وبناءً عليه، فالنهي عن التفأل بالقرآن إذا شمل الطيرة على أساس أنها الفأل الرديء فيكون المعنى: لا تفتحوا القرآن لتتشاءموا أو تتيمّنوا من خلاله بفعلٍ ستفعلونه أو بحدثٍ قد يقع، وأما إذا اختصّ بما قابل الطيرة، فيكون المعنى: لا تجعلوا القرآن مادةً للاستبشار في الأمور، والمتحصّل: لا تجعلوا القرآن كالبوم أو الماعز تتشاءمون به.

وهذا المعنى كلّه موجود في الاستخارة مهما فسّرناها؛ لأنّ الاستخارة ـ سواء كانت لطلب الرشد في الفعل أو لاستعلام حال العواقب ـ تستبطن هذه الحالة النفسية التي تستدعي الإقدام على الفعل والاستبشار به أو الإحجام عنه والقلق من عواقبه ولو الأخرويّة، ولهذا تجد بعضهم ينقبض من مخالفة الاستخارة فيذهب نحو التصدّق، وليس ذلك إلا لأنّ الاستخارة تفرض وجود هذه الحالة النفسية شئنا أم أبينا، والفأل والطيرة يستدعيان ذلك عادةً أيضاً، فقد كانت هذه هي عادة العرب، فتكون رواية النهي عن التفأل بالقرآن متداخلةً مع روايات الاستخارة به، ولهذا ورد في بعضها التعبير بالتفأل بالقرآن الكريم في إشارة ضمنية لهذا التداخل.

ولعلّ ما يهوّن الخطب أنّ رواية النهي عن التفأل ضعيفة غير مسندة بما يجبرها وإلا لزم التساقط إن لم نقل بالتخصيص كما تقدّم.

والحاصل أنه لم يثبت بدليل معتبر خاص مشروعيّة الاستخارة بالمصحف الشريف، فضلاً عن استحباب ذلك، بل خبر التفأل بالكتاب قد يجعل الاحتياط ولو الاستحبابي قائماً على ترك هذه الاستخارة.

 

ثالثاً: الاستخارة بالرقاع أو الاستخارة ذات الرقاع

استخارة ذات الرقاع من الاستخارات المعروفة المتداولة بين متأخّري المتشرعة في الحدّ الأدنى، وقد وردت فيها مجموعة من النصوص والروايات التي يمكن إرجاعها إلى عدّة طرق أو أشكال تابعة لعدد الرقاع المأخوذة فيها، وذلك كما يلي:

أـ الاستخارة بالرقعتين: وقد وردت فيها بعض الروايات وهي:

الرواية الأولى: مرفوعة علي بن محمد، عنهم×، أنه قال لبعض أصحابه، وقد سأله عن الأمر يمضي فيه، ولا يجد أحداً يشاوره، فكيف يصنع؟ قال: «شاور ربّك»، قال: فقال له: كيف؟ قال له: «إنوِ الحاجة في نفسك، ثم اكتب رقعتين، في واحدة لا، وفي واحدة نعم، واجعلهما في بندقتين من طين، ثم صلّ ركعتين، واجعلهما تحت ذيلك، وقل: يا الله، إني أشاورك في أمري هذا، وأنت خير مستشار ومشير، فأشر عليّ بما فيه صلاحٌ وحُسن عافية. ثم أدخل يدك فإن كان فيها نعم فافعل، وأن كان فيها لا، لا تفعل. هكذا شاور ربك»([191]).

وقد ذكر الفيض الكاشاني أنّ هذا الحديث لا ينحصر بالبندقة والطين والرقاع بقرينة سائر روايات الاستخارة، وإنما هي مجرّد طرق تعليمية([192])، ويفهم منه عدم خصوصيّتها وإمكان التعدّي عنها.

ونتيجة استخدام البنادق في مثل هذه الرواية عبّر عن هذه الاستخارات أحياناً بأنّها استخارة بالبنادق، فيما عبّر آخرون بأنها استخارة الرقاع، وتعدّ مثل هذه الرواية ـ كما ذكر بعضهم([193]) ـ من الروايات التي جمعت تعبير الرقاع والبنادق والاستشارة.

والبُندقة في اللغة هي ما يرمى به، وهي آلة يرمى بها الصيد، ولعلّ أصله من الفارسيّة، وقد ذكر بعضهم أنّها طينة مدوّرة مجفّفة، وقد يرادفه كلمة الجلاهق([194]).أصلي

 والمقصود بها هنا بندقة من طين أو نحوه تجعل فيها الرقاع المطويّة.

وهذه الرواية:

أولاً: ظاهرها أنّ الاستخارة بالرقاع أو البنادق موردها في القدر المتيقّن من الرواية هو فقدان مجال استشارة الآخرين، وكأنّ السائل قد ركز في ذهنه مفهوم استشارة الغير، ولمّا لم يجد سأل، فأجابه الإمام على مفروض السؤال، وكأنّه يقرّه على ذلك، فلا يؤخذ بإطلاق هذه الرواية لغير هذه الحال([195]). إلا إذا قيل بالحسن الذاتي لمشاورة الله دوماً وهو صعب الإثبات بهذه الطريقة.

ثانياً: إنّ المصدر الأساسي والوحيد للرواية هو كافي الكليني، وقد ورد فيه الحديث مرفوعاً إلى إمامٍ لا بعينه، فيكون مرسلاً مرفوعاً لم تثبت حجيّته السنديّة، ولا شاهد في الرواية على حضور محمد بن علي المجلس.

الرواية الثانية: ما ذكره السيّد ابن طاووس حيث قال: «ووجدت بخطّ الشيخ علي بن يحيى الحافظ ـ ولنا منه إجازة بكلّ ما يرويه ـ ما هذا لفظه: استخارة مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام. وهي أن تضمر ما شئت، وتكتب هذه الاستخارة وتجعلها في رقعتين، وتجعلهما في مثل البُندق، ويكون بالميزان، وتضعهما في إناء فيه ماء، ويكون على ظهر أحدهما: إفعل. والأخرى: لا تفعل. وهذه كتابتها: ما شاء الله كان، اللهم إني أستخيرك خيار من فوّض إليك أمره، وأسلم إليك نفسه، واستسلم إليك في أمره، وخلا لك وجهه، وتوكّل عليك فيما نزل به، اللهم خر لي ولا تخر عليّ، وكن لي ولا تكن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وأعنّي ولا تُعِن عليّ، وأمكنّي ولا تمكّن منّي، واهدني إلى الخير ولا تضلّني، وأرضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، إنك تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، وأنت على كلّ شيء قدير. اللهم إن كانت لي الخيرة في أمري هذا في ديني ودنياي وعاقبة أمري فسهّله لي، وإن كان غير ذلك فاصرفه عنّي يا أرحم الراحمين، إنّك على كلّ شيء قدير. فأيّهما طلع على وجه الماء فافعل به، ولا تخالفه إن شاء الله تعالى، وحسبنا الله ونعم الوكيل»([196]).

والرواية من طرق الاستخارة بالرقعتين عبر البنادق أيضاً، ولا سند لها كما هو واضح من القرن السابع الهجري إلى القرن الأوّل (بناء على روايتها عن الإمام علي× وأنها لذلك عبّر عنها باستخارة أمير المؤمنين×)، فهي شديدة الضعف على مستوى السند والمصدر. كما أنّ النهي الوارد في آخرها عن المخالفة ربما لا يكون من نصّ استخارة الأمير، بل من كلام ابن طاووس أو من كلام الشيخ علي الحافظ نفسه.

الرواية الثالثة: ما ذكره السيد ابن طاووس أيضاً حيث قال: «وجدت في كتابٍ عتيق فيه دعوات وروايات من طريق أصحابنا تغمّدهم الله جلّ جلاله بالرحمات، ما هذا لفظه: تكتب في رقعتين، في كلّ واحدة: بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم، لعبده فلان بن فلان. وتذكر حاجتك، وتقول في آخرها: أفعل يا مولاي. وفي الأخرى: أتوقّف يا مولاي. واجعل كلّ واحدة من الرقاع في بندقة من طين، وتقرأ عليها الحمد سبع مرات، وقل أعوذ برب الفلق سبع مرات، وسورة والضحى سبع مرات، وتطرح البندقتين في إناء فيه ماء بين يديك، فأيّهما انشقّت [انبعث ـ انبثقت] ووقفت قبل الأخرى، فخذها واعمل بما فيها إن شاء الله»([197]).

والرواية مجهولة المصدر والسند، بل لم تنسب صراحةً إلى إمام أو نبي، وإن استوحي من مطلق كلام ابن طاووس أنّها رواية، فالاعتماد عليها مشكل جداً.

الرواية الرابعة: ما ذكره ابن طاووس أيضاً قال: «ورأيت بخطّي على المصباح، وما أذكر الآن من رواه لي ولا من أين نقلته، ما هذا لفظه: الاستخارة المصريّة عن مولانا الحجّة صاحب الزمان×: تكتب في رقعتين: خيرة من الله ورسوله لفلان بن فلانة [فلان بن فلان] وتكتب في إحداهما: إفعل. وفي الأخرى: لا تفعل. وتترك في بندقتين من طين، وترمى في قدح فيه ماء، ثم تتطهّر وتصلّي، وتدعو عقيبهما: اللهم إني أستخيرك خيار من فوّض إليك أمره، وأسلم إليك نفسه، وتوكّل عليك في أمره، واستسلم بك [لك] فيما نزل به من أمره، اللهم خر لي ولا تخر عليّ، وأعنّي ولا تعن عليّ، ومكنّي ولا تمكّن منّي، واهدني للخير ولا تضلّني، وأرضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، إنك تفعل ما تشاء وتعطي ما تريد، اللهم إن كانت الخيرة لي في أمري هذا وهو كذا وكذا، فمكنّي منه، وأقدرني عليه، وأمرني بفعله، وأوضح لي طريق الهداية إليه. وإن كان اللهم غير ذلك فاصرفه عنّي إلى الذي هو خيرٌ لي منه، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، يا أرحم الراحمين. ثم تسجد وتقول فيها: أستخير الله خيرةً في عافية، مائة مرّة. ثم ترفع رأسك، وتتوقّع البنادق، فإذا خرجت الرقعة من الماء فاعمل بمقتضاها إن شاء الله»([198]).

وحال الرواية من حيث السند والمصدر واضح الضعف والوهن، بما لا حاجة لتوضيحه، حتى أنّ ابن طاووس نفسه لا يعلم من أين حصل على هذه الرواية.

الرواية الخامسة: ما ذكره الشيخ الطبرسي (548هـ) في الاحتجاج، في مكاتبة الحميري للإمام المهدي: عن الرجل يعرض له الحاجة مما لا يدري أن يفعلها أم لا، فيأخذ خاتمين، فيكتب في أحدهما: نعم إفعل. وفي الآخر: لا تفعل. فيستخير الله مراراً، ثم يرى فيهما، فيخرج أحدهما فيعمل بها يخرج، فهل يجوز ذلك أم لا؟ والعامل به والتارك له أهو مثل الاستخارة أم هو سوى ذلك؟ فأجاب: «الذي سنة (سنّه) العالم× في هذه الاستخارة بالرقاع والصلاة»([199]).

وهذه الرواية كأنها تجعل للرقاع خصوصيّة، خلافاً لما تقدّمت الإشارة إليه في بعض الكلمات، وقد حكم الحرّ العاملي بعدم جواز الاستخارة بالخواتيم انطلاقاً من هذه الرواية([200]). وسمّاها بعضهم بالاستخارة بالخاتم([201]).

وإنّما وضعنا هذه الروايات في نصوص الاستخارة بالرقعتين؛ لأنّ الجواب فيها لم يؤاخذ سوى على الخاتم دون سائر الأمور، مما يوحي بأنّ الاستخارة بالرقعتين مكان الخاتمين مشروع، وربما يكون مستحبّاً.

هذا، والخبر مرسل، إذ بعد عدم العثور على هذه المكاتبة وأمثالها مما نقله لنا الطبرسي عن الحميري، وبينهما قرابة ثلاثة قرون، وعدم وجود سند، يصعب الاحتجاج بمثل هذه الرواية.

الرواية السادسة: ما ذكره السيد ابن طاووس في موضعٍ آخر من كتابه بعد نقله خبر الكليني المتقدّم، حيث قال: «ما وجدت إلى حين تأليف هذا الكتاب في الاستخارة برقعتين غير هذه الرواية، وهي مرسلة كما رويناها، وكذا رواها جدّي أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه في تهذيب الأحكام، وفي المصباح الكبير، وما وجدت لها إسناداً متصلاً إلا إلى علي بن محمد الذي رفعها. أقول: وما وجدت رواية مسندة أيضاً بصلاة ركعتين ورقعتين من غير أن تكون الرقعتان في بندقتين، بل وجدت عن الكراجكي رحمة الله عليه، قال: وقد جاءت رواية أن تجعل رقاع الاستخارة اثنتين، في إحداهما: إفعل. وفي الأخرى: لا تفعل. وتسترهما عن عينك، وتصلّي صلواتك، وتسأل الله الخيرة في أمرك، ثم تأخذ منهما واحدة فتعمل بما فيها. هذا آخر ما ذكره ولم أجد الرواية بذلك بإسنادها»([202]).

والرواية يحتمل أنّها إحدى الروايات السابقة، وابن طاووس ينقلها عمّن نقلها عن الكراجكي، ووضعها السندي ضعيفٌ كما هو واضح.

هذا ما عثرنا عليه من روايات الرقعتين، وهي أغلب روايات الاستخارة بالبنادق أيضاً، ولم نفرد للبنادق استخارةً، خلافاً لبعضهم([203])؛ لأنها لا تغاير بعض طرق الاستخارة بالرقاع بل هي ضمنها كما لاحظنا.

وبهذا ظهر أنّ روايات الاستخارة برقعتين قد تصل إلى ست روايات، كلّها مرسلة وضعيفة السند جداً.

ب ـ الاستخارة بثلاث رقاع: وفيها روايتان:

الرواية الأولى: ما رواه السيّد ابن طاووس، عن أحمد بن محمد بن يحيى، قال: أراد بعض أوليائنا الخروج للتجارة، فقال: لا أخرج حتى آتي جعفر بن محمد’ فأسلّم عليه، وأستشيره في أمري هذا، وأسأله الدعاء لي، قال: فأتاه فقال: يا ابن رسول الله إني عزمت على الخروج للتجارة، وإني آليت على نفسي ألا أخرج حتى ألقاك وأستشيرك، وأسألك الدعاء لي، قال: فدعا لي، وقال×: «عليك بصدق اللسان في حديثك، ولا تكتم عيباً يكون في تجارتك، ولا تغبن المسترسل فإنّ غبنه ربا، ولا ترض للناس إلا ما ترضاه لنفسك، وأعط الحقّ وخذه، ولا تخف ولا تخن، فإنّ التاجر الصدوق مع السفرة الكرام البررة يوم القيامة، واجتنب الحلف، فإنّ اليمين الفاجرة تورث صاحبها النار، والتاجر فاجر إلا من أعطى الحقّ وأخذه، وإذا عزمت على السفر أو حاجة مهمّة فأكثر الدعاء والاستخارة، فإنّ أبي حدّثني عن أبيه، عن جدّه أنّ رسول الله‘ كان يعلّم أصحابه الاستخارة كما يعلّمهم السورة من القرآن، وإنّا لنعمل ذلك متى هممنا بأمر، ونتخذ رقاعاً للاستخارة، فما خرج لنا عملنا عليه، أحببنا ذلك أم كرهنا». فقال الرجل: يا مولاي فعلّمني كيف أعمل؟ فقال: «إذا أردت ذلك فأسبغ الوضوء وصلّ ركعتين، تقرأ في كلّ ركعة الحمد وقل هو الله أحد مائة مرة، فإذا سلّمت فارفع يديك بالدعاء.

وقل في دعائك: يا كاشف الكرب ومفرّج الهم ومذهب الغمّ ومبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها، يا من يفزع الخلق إليه في حوائجهم ومهمّاتهم وأمورهم، ويتوكّلون عليه، أمرت بالدعاء وضمنت الإجابة، اللهم فصلّ على محمد وآل محمد، وابدأ بهم في كلّ أمري، وأفرج همّي، ونفّس كربي، وأذهب غمّي، واكشف لي عن الأمر الذي قد التبس عليّ، وخر لي في جميع أموري خيرةً في عافية، فإني أستخيرك اللهم بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، وألجأ إليك في كلّ أموري، وأبرأ من الحول والقوّة إلا بك، وأتوكّل عليك، وأنت حسبي ونعم الوكيل، اللهم فافتح لي أبواب رزقك وسهّلها لي، ويسّر لي جميع أموري، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أنّ [هذا] الأمر ـ وتسمّي ما عزمت عليه وأردته ـ هو خيرٌ لي في ديني ودنياي، ومعاشي ومعادي وعاقبة أموري، فقدّره لي، وعجّله عليّ، وسهّله ويسّره وبارك لي فيه،وإن كنت تعلم أنّه غير نافع لي في العاجل والآجل، بل هو شرّ عليّ فاصرفه عنّي واصرفني عنه، كيف شئت وأنى شئت، وقدّر لي الخير حيث كان وأين كان، ورضّني يا ربّ بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت، ولا تأخير ما عجّلت، إنك على كلّ شيء قدير، وهو عليك يسير. ثم أكثر الصلاة على محمّد النبي وآله صلوات الله عليهم أجمعين، ويكون معك ثلاث رقاع قد اتخذتها في قدر واحد، وهيئة واحدة، واكتب في رقعتين منها: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهم إنّك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وتقضي ولا أقضي، وأنت علام الغيوب، صلّ على محمد وآل محمد، وأخرج لي أحبّ السهمين إليك، وخيرهما لي في ديني ودنياي وعاقبة أموري، إنّك على كلّ شيء قدير، وهو عليك يسير.

وتكتب في ظهر إحدى الرقعتين (إفعل)، وعلى ظهر الأخرى (لا تفعل) وتكتب على الرقعة الثالثة: لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم، استعنت بالله، وتوكّلت (على الله)، وهو حسبي ونعم الوكيل، توكّلت في جميع أموري على الله الحيّ الذي لا يموت، واعتصمت بذي العزّة والجبروت، وتحصّنت بذي الحول والطَّول والملكوت، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد النبي وآله الطاهرين.

ثم تترك ظهر هذه الرقعة أبيض، ولا تكتب عليه شيئاً. ثم تطوي الثلاث رقاع طيّاً شديداً على صورة واحدة، وتجعل في ثلاث بنادق شمع أو طين، وعلى هيئة واحدة، ووزن واحد، وادفعها إلى من تثق به، وتأمره أن يذكر الله، ويصلّي على محمّد وآله، ويطرحها إلى كمّه، ويدخل يده اليمنى فيجيلها في كمّه، ويأخذ منها واحدة من غير أن ينظر إلى شيء من البنادق، ولا يتعمّد واحدةً بعينها، ولكن أيّ واحدة وقعت عليها يده من الثلاث أخرجها، فإذا أخرجها أخذتها منه وأنت تذكر الله عز وجل، وتسأله الخيرة فيما خرج لك، ثم فضّها واقرأها، واعمل بما يخرج على ظهرها. وإن لم يحضرك من تثق به، طرحتها أنت إلى كمّك وأجلتها بيدك، وفعلت كما وصفت لك، فإن كان على ظهرها (إفعل) فافعل وامض لما أردت، فإنه يكون لك فيه إذا فعلته الخيرة إن شاء الله تعالى، وإن كان على ظهرها (لا تفعل)، فإياك أن تفعله أو تخالف، فإنّك إن خالفت لقيت عنتاً، وإن تمّ لم يكن لك فيه الخيرة.

وإن خرجت الرقعة التي لم تكتب على ظهرها شيئاً فتوقّف إلى أن تحضر صلاةً مفروضة، ثم قم فصلّ ركعتين كما وصفت لك، ثم صلّ الصلاة المفروضة، أو صلّهما بعد الفرض ما لم تكن الفجر أو العصر، فأما الفجر فعليك بعدها بالدعاء إلى أن تنبسط الشمس ثم صلّهما، وأما العصر فصلّهما قبلها، ثم ادع الله عز وجل بالخيرة كما ذكرت لك، وأعد الرقاع، واعمل بحسب ما يخرج لك، وكلّما خرجت الرقعة التي ليس فيها شيء مكتوب على ظهرها، فتوقّف إلى صلاة مكتوبة كما أمرتك، إلى أن يخرج لك ما تعمل عليه إن شاء الله»([204]).

وقد نقل العلامةُ المجلسي هذه الرواية أيضاً عن كتاب مجموع الدعوات([205]) الذي ذكر المحدّث النوري والسيد عبدالله شبر أنّه للشيخ أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري([206]).

ومن الواضح أنّ الرواية ضعيفة السند حتى لو ثبتت نسخة التلعكبري؛ لأنّ أحمد بن محمد بن يحيى لا يذكر لنا سنده وطريقه الى الرواية، و بينه وبين الحدث قرابة أكثر من قرن من الزمان. هذا فضلاً عن عدم ثبوت وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى العطار القمّي نفسه، كما حقّقناه في محلّه. هذا وإثبات الطريق إلى ابن يحيى مشكل أيضاً.

الرواية الثانية: ما ذكره السيد ابن طاووس، عن شيخه محمد بن نما والشيخ أسعد بن عبد القاهر الإصفهاني، بإسنادهما عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن عبد الرحمن بن سيابة، قال: خرجت إلى مكّة ومعي متاع كثير، فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلى اليمن، فذكرت ذلك لأبي عبدالله× فقال لي: «ساهم بين مصر واليمن، ثم فوّض أمرك إلى الله، فأيّ البلدين خرج اسمه في السهم، فابعث إليه متاعك»، فقلت: كيف أساهم؟ فقال: «اكتب في رقعة: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنه لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة، أنت العالم وأنا المتعلّم، فانظر في أيّ الأمرين خيراً لي حتى أتوكّل عليك فيه وأعمل به.

ثم اكتب: مصراً إن شاء الله. ثم اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك، ثم اكتب: اليمن إن شاء الله تعالى. ثم اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك، ثم اكتب: يحبس إن شاءالله تعالى، ولا يبعث به إلى بلدةٍ منهما. ثم اجمع الرقاع فادفعها إلى من يسترها عنك، ثم أدخل يدك فخذ رقعة من الثلاث رقاع، فأيّهما وقعت في يدك فتوكّل على الله، فاعمل بما فيها إن شاء الله تعالى»([207]).

والرواية مجهولة السند إلى الحسن بن محبوب، وجلالة قدر الشيخين واعتماد ابن طاووس عليها([208]) لا يوجب تصحيح السند. هذا مضافاً لعدم ثبوت وثاقة ابن سيابة نفسه. وطريقتها تحتاج إلى تأمّل في الثلاثية والخماسية.

هذا، وقد نقل السيد ابن طاووس طريقةً ثلاثية أيضاً ناسباً لها إلى عمرو بن أبي المقدام دون نسبة إلى المعصوم، ولا سند لها أساساً في هذا المجال([209]).

والمتحصّل عدم ثبوت خبر معتبر في روايات الاستخارة بثلاث رقاع.

ج ـ الاستخارة بست رقاع: وهذه أشهر الاستخارات ذات الرقاع، وقد وردت فيها مجموعة من الروايات وهي:

الرواية الأولى: وهي من أهمّ الروايات، وقد ذكرها الشيخ الكليني في الكافي بالسند إلى هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله× قال: «إذا أردت أمراً فخذ ست رقاع، فاكتب في ثلاث منها: بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة افعله، وفي ثلاث منها: بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة لا تفعل. ثم ضعها تحت مصلاك، ثم صلّ ركعتين، فإذا فرغت فاسجد سجدةً، وقل فيها مائة مرّة: أستخير الله برحمته خيرة في عافية، ثم استوِ جالساً، وقل: اللهم خير لي واختر لي في جميع أموري في يُسرٍ منك وعافية، ثم اضرب بيدك إلى الرقاع فشوّشها وأخرج واحدةً، فإن خرج ثلاث متواليات (إفعل)، فافعل الأمر الذي تريده، وإن خرج ثلاث متواليات (لا تفعل)، فلا تفعله، وإن خرجت واحدة (إفعل) والأخرى (لا تفعل)، فأخرج من الرقاع إلى خمس، فانظر أكثرها فاعمل به ودع السادسة لا تحتاج إليها»([210]).

وجاء في كتاب المقنعة ـ بعد نقل الرواية.: «قال الشيخ: وهذه الرواية شاذّة، ليست كالذي تقدّم، لكنّا أوردناها للرخصة دون تحقيق العمل بها»([211]).

وقد اهتمّ السيد ابن طاووس بهذه الاستخارة اهتماماً عظيماً، وبالغ في حشد أسانيدها و مؤيّداتها، مما سيأتي قريباً بعون الله تعالى.

وذكر العلامة المجلسي أنّ هذه «أشهر طرق هذه الاستخارة وأوثقها، وعليه عمل أصحابنا»([212])، وقد قال في «مرآة العقول» معلّقاً على هذا الحديث في الكافي: «ضعيف على المشهور»([213])، مما يوحي أنّه يرى رأياً آخر في الحديث غير الضعف.

وقد ذكر بعضهم أنّ هذه الاستخارة مشهورة عليها مدار عمل الأصحاب وعمل مشهور المتشرّعة، ونحو ذلك من التعابير([214]).

من هنا، لابدّ لنا من وقفة مع هذه الرواية وغيرها سنداً ومتناً:

أما من الناحية المتنية، فدلالتها واضحة، إلا أنّ السيد الشهيد محمد الصدر قدّم مداخلةً نقديّة هنا، وحاصلها أنّ الرواية استخدمت تعبير: «فلان بن فلانة»، وهذا التعبير معارضٌ للقرآن الكريم الذي يأمر بنسبة الأولاد إلى آبائهم، قال تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ﴾، كما أنّ النسبة إلى الأم تتضمّن التشكيك بأبوّة الأب، وهو أمرٌ غير وارد بالنسبة إلى الكثيرين من الشرفاء والصالحين، لهذا فالأولى مناقشة الرواية سنداً أو إيكال علمها إلى أهلها([215]).

إلا أنّ هذه المناقشة غير واردة، فإنّ الآية القرآنية تأمر بنسبتهم إلى الآباء الحقيقيين في مقابل النسبة إلى الأب المتبنّي، لا أنّ النسبة للأب واجبٌ مستقل، وإلا يلزم عدم إمكان مخاطبة شخص باسمه إلا مع ضمّ اسم والده إليه، فالأمر بالنسبة للأب في مقابل التبنّي لا في حدّ نفسه. علماًَ أنّ الآية واردة في علاقتنا بالأولاد الآخرين، والمفروض في الحديث أنه لا يوجد خطاب وإنّما يقوم الشخص بكتابة اسم نفسه، فلا يكون مورداً للآية الكريمة حتى يدّعى معارضة الحديث للقرآن الكريم.

وأمّا التشكيك بأبّوة الأب، فهذا يصح مع القصد، وإلا فقد يكون المورد تعبّدياً دون أن يقصد الفاعل التشكيك بنسبه هو نفسه. طبعاً هذا التعبير «فلان بن فلانة» موجود في لغة الروايات، ويستحقّ التأمل. والغريب أنّ بعض الروايات أشارت إلى أنّ الله يدعو الناس يوم القيامة بأسماء أمّهاتهم ستراً عليهم([216])، ولعلّ القضيّة أنّ النسبة للأم افتراضيّة لا بمعنى التشكيك، وإنما بمعنى أنّ النسبة للأم لا مجال للكلام فيها على خلاف النسبة للأب.

وعليه، فلم يظهر لنا إشكالٌ متني في هذه الرواية.

أما من الناحية السندية والتوثيقية، فقد حاول السيد ابن طاووس حشد الشواهد لتصحيح هذه الرواية، وغاية ما يمكن قوله هنا ـ مما ذكره ابن طاووس([217])، مع إضافة وتنظيمٍ وبيان منّا ـ ما يلي:

1 ـ السبيل التوثيقي السندي، ويتألّف من عدّة نقاط:

أ ـ جلالة الكليني وكونه من أوثق الناس وأثبتهم وأنّه بقي عشرين سنةً في تأليف كتابه الكافي، وأنّه عاش في زمن السفراء الأربعة.

ب ـ بعد التقصّي والبحث في جميع كتب المتقدّمين والمتأخّرين لم يتمّ العثور أو السماع بأنّ شخصاً أبطل هذه الاستخارة ولا ما يجري مجراها من الرقاع، إلا بعض المتقدّمين ـ وهو ما جاء في عبارة موجودة في كتاب المقنعة للشيخ المفيد من جعل بعض روايات الاستخارة بالرقاع على سبيل الرخصة ـ ومقصوده أنها أمر جائز غير مؤكّد، وهو اعتراف بجواز العمل عنده أيضاً. كما أن ابن إدريس الحلّي جعل العمل بغير استخارة الرقاع أولى، والحكم بالأولوية معناه القبول بالجواز.

ج ـ نقلت هذه الاستخارة في عدّة مصادر كالكليني في الكافي، والمفيد في المقنعة، والطوسي في التهذيب، والشهيد الأوّل في الذكرى، والكفعمي في المصباح والبلد الأمين، والحرّ العاملي في تفصيل وسائل الشيعة، والعلامة المجلسي في بحار الأنوار وغيرهم، وقد تقدّمت بعض كلماتهم في أهميّتها.

د ـ إنّ لهذه الرواية طريقاً آخر ـ يشير إليه ابن طاووس ـ يبدأ مع أبي نصر محمد بن أحمد بن حمدون الواسطي [عن أحمد بن أحمد بن علي بن سعيد الكوفي] قال: حدّثنا محمد بن يعقوب الكليني، قال: حدّثنا غير واحد.. وساق سند الحديث الذي ينتهي إلى هارون بن خارجة، والنصّ متّحد مع نصّ الرواية التي نقلناها سابقاً مع اختلافٍ يسير.

هـ ـ اختيار الشيخ أبي جعفر الطوسي هذه الاستخارة في جملة ما اختاره من الروايات، وكتاب المصباح كتاب عمل ودراية، وليس هو على سبيل مجرّد الرواية، فلابد أن يكون ما فيه قد اعتقد بصدقه وصحّته، وإلا كان صاحب بدعة.

ثم ذكر ابن طاووس طرقه المتعدّدة إلى كتاب مصباح المتهجّد لإثبات الكتاب نفسه.

وعندما اختصر الطوسي المصباح الكبير واختار صفوه، وضع هذه الرواية في المختصر أيضاً، ولابن طاووس طرق للمختصر أيضاً. وهذا كله ينبّه إلى جلالة هذه الاستخارة عند الطوسي المجمع على علمه وورعه ومعرفته بالأخبار.

و ـ وجود رواية أخرى في الرقاع قال ابن طاووس فيها ما يلي: «ذكر من نقلتُها من كتابه أنّها منقولة عن الكراجكي، وهذا لفظ ما وقفت عليه منها: هارون بن حماد، عن أبي عبدالله الصادق× قال: إذا أردت أمراً فخذ رقاع، فاكتب منهنّ: بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم ـ ويروى العلّي الكريم ـ لفلان بن فلان (إفعل) كذا إن شاء الله، واذكر اسمك وما تريد فعله، وفي ثلاث منهنّ: بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلان لا تفعل كذا، وتصلّي أربع ركعات، تقرأ في كلّ ركعة خمسين مرّة قل هو الله أحد، وثلاث مرات إنّا أنزلناه في ليلة القدر، وتدع الرقاع تحت سجّادتك، وتقول بعد ذلك: اللهم إنّك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم آمنت بك فلا شيء أعظم منك، صلّ على آدم صفوتك، ومحمّد خيرتك، وأهل بيته الطاهرين، ومن بينهم من نبّي وصدّيق وشهيد وعبد صالح ووليّ مخلص وملائكتك أجمعين. إن كان ما عزمت عليه من الدخول في سفري إلى بلد كذا وكذا خيرةً لي في البدو والعاقبة، ورزق تيسّر لي منه فسهّله ولا تعسره، وخر لي فيه، وإن كان غيره فاصرفه عنّي، وبدّلني منه ما هو خير منه، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم تقول سبعين مرّة: خيرة من الله العلي الكريم، فإذا فرغت من ذلك عفّرت خدّك ودعوت الله وسألته ما تريد، قال: وفي رواية أخرى، ثم ذكر في أخذ الرقاع ما تقدّم في الروايتين الأوليين.

يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن طاووس: أما هارون بن خارجة لعلّه الصيرفي الكوفي، راوي الحديث بصلاة الاستخارة، فقد ذكر الشيخ الجليل أبو الحسين أحمد بن علي بن العباس النجاشي في كتابه فهرست المصنّفين عن هارون بن خارجة ما هذا لفظه: هارون بن خارجة كوفي ثقة وأخوه مراد، روى عن أبي عبدالله×. وأما الحديث الثاني في الاستخارة بالرقاع المتضمّن للزيادة فيحتمل أن يكون من هارون بن خارجة الأنصاري، أيضاً كوفي، ويكونان حديثين عن اثنين، وكلّ منهما من أصحاب مولانا الصادق×. وأما الحديث في الاستخارة بالرقاع عن هارون بن حمّاد، فما وجدت في رجال مولانا الصادق× هارون بن حماد، ولعلّه هارون بن زياد ، فقد يقع الاشتباه في الكتابة بين لفظ زياد وحمّاد في بعض الخطوط. أقول: فهذه أحاديث قد اعتمد على نقلها وروايتها من يُعتمد على نقله وأمانته، فإذا كنت علاماً بأخبار مثلها في الفروع الشرعية والأحكام الدينية فيلزمك العمل بها، والانقياد لها، وإلا فالحجّة لله جلّ جلاله ولرسوله‘ ولمن شارعه في ذلك لازمة عليك، ونحن نحاكمك إلى عقلك وإنصافك في مجلس حكم الله جلّ جلاله المطّلع عليك»([218]).

ويقصد السيّد بن طاووس هنا أنّ الحديث هو في الحقيقة ثلاث روايات لا رواية واحدة مما يقوّي الوثوق بصدوره، أما الحديث الأول، فيقصد منه خبر الكليني الموجود بين أيدينا عن هارون بن خارجة، الذي هو الكوفي الثقة بحسب نصّ النجاشي، وأما الحديث الثاني فيقصد به ما وصله عن أبي نصر الواسطي عن أحمد الكوفي، قال: حدّثنا محمد بن يعقوب، كما قدّمنا نقله آنفاً، وأما الحديث الثالث فهو هذا الخبر المنتهي الى هارون بن حماد الذي اعتبره هارون بن زياد.

ز ـ عملُ الأصحاب بهذه الرواية وقيام سيرة المتشرّعة عليما كما تقدّم ويأتي كلامهم في هذا، حتى قال السيد علي خان المدني الشيرازي: «الاستخارة المشهورة التي مدار عمل الأصحاب عليها»([219]).

2 ـ السبيل التوثيقي التجربي: وهو السبيل الذي اعتبر ابن طاووس أنه لا يحتاج صاحبه إلى الطرق والأسانيد، مكتفياً باليقين والمشاهدات، حيث إنّ الاستخارة بالرقاع قد دلّ عليها الله جلّ جلاله.

هذه هي غاية المحاولة التي قام بها السيد ابن طاووس وغيره في مجال إثبات صحّة الاستخارة بالرقاع الست.

ولابد لنا من ذكر بعض التعليقات هنا:

أولاً: لا شك في جلالة الكليني، لكنّنا ـ وكثير من الباحثين والعلماء ـ أثبتنا أنّ كتاب الكافي وسائر كتب الحديث ـ مع جلالة ومكانة مؤلّفيها ـ لا ترقى إلى مستوى تصحيح أحاديثها، وأنّ جلالتهم لا تعطي وثوقاً بصدور هذه الروايات، وكلّ قرائن اليقين التي ذكرها الإخباريون في حقّ أمّهات كتب الحديث الشيعية أو ذكرها أهل السنّة في حقّ الصحيحين تعرّضنا لها بالتفصيل والردّ، ولو صحّ هذا لزم القول بصحّة الكتب الأربعة وعموم كتب الصدوق وغيره من العلماء!!

ثانياً: إنّ عدم إبطال أحد لهذه الاستخارة لا يفيد تصحيحهم لها أو لسندها أو حتى اقتناعهم بمضمونها، بل يجامع عدم اهتمامهم بها، والسبب هنا هو أنّ المورد من موارد السنن والأدعية التي يتسامحون فيها عادةً، ومع احتمال إجرائهم التسامح في أدلّة السنن كيف نستطيع استكشاف قوّة توثيقية من سكوتهم؟! هذا فضلاً عن أنّنا سنبحث قريباً بإذن الله في رأي ابن إدريس والشيخ المفيد والمحقّق الحلّي وغيرهم في الموضوع، لنرى هل كان هناك مخالفٌ ومعارضٌ من العلماء لهذه الاستخارة أم لا؟

ثالثاً: إنّ حشد مصادر رواية الاستخارة بالرقاع الستّ لا يهمّ فيه تكثير أسماء الكتب، بل المهم تحديد الذين أخرجوا هذا الحديث وشكّلوا مصدراً مستقلاً له، وكان لهم طريقٌ مستقل لا يرجع إلى المصدر الأول، فلو أخذنا رواية الكليني هنا فنحن نعتبرها مصدراً، ولو أخذنا رواية المفيد في المقنعة، فحيث لم يذكر طريقه فمن المحتمل أنّه أخذها من الكليني، كما ومن المحتمل أنّه أخذها من مصدر آخر، فيصبح نصّ المقنعة محتمل المصدريّة. ولو رجعنا إلى كتاب التهذيب للطوسي لوجدنا مطلع الحديث هكذا: «محمد بن يعقوب، عن غير واحد، عن سهل بن زياد..»، وهذا يعني أنّ الطوسي قد أخذ الحديث من الكليني، كما أخذناه نحن، فلا يشكّل مصدراً جديداً، وكذلك الحال في رواية الطوسي في المصباح، فإنّ فيها اسم هارون بن خارجة، وهذا يعزّز احتمال أنّه لاحظ عين الرواية التي في الكافي، والتي نقلها بنفسه مسندةً في التهذيب. وأما الكتب المتأخّرة كتفصيل وسائل الشيعة أو البحار أو كتب الكفعمي أو الشهيد الأول، فمن الواضح أنّ مرجعها ما تقدّم. فنحن لا نملك عمليّاً إلا مصدراً واحداً هو كافي الكليني، وآخر محتملاً، وهو مقنعة المفيد، والباقي كلّه نقلٌ عنهما، فحشد أسماء الكتب هنا لا يوجب زيادة الوثوق، وهذه من الأخطاء الشائعة التي تعبّر أحياناً عن التسامح والتساهل في التوثيق التاريخي والحديثي.

رابعاً: إنّ الطريق الآخر الذي يذكره لنا ابن طاووس عن ابن حمدون الواسطي عن ابن سعيد الكوفي عن الكليني.. لا يصلح لتقوية شيء؛ لأننا لو كنّا نشكّ في صحّة النسخة التي بين أيدينا للكافي لكانت هذه الرواية مفيدة، لكنّ المفروض أنّه لا شك في صحّة النسخة، ولم يناقش أحد في وجود رواية الرقاع الست في الكافي حتى نحاول حشد الشواهد، فكلّ ما يفعله هذا الطريق الثاني إثبات نسبة الرواية للكليني لا ظهور رواية جديدة ولا سند جديد. فبعد الكليني في السند يوجد نفس الرواة المذكورون في الكافي، والمتن هو نفسه مع اختلافات يسيرة تحصل في أيّ نقلين، وهذا معناه أنّ الرواية نفسها نقلها الكليني في الكافي وحدّث بها أيضاً، وأين هذا من تعدّد الرواية أو السند؟!

هذا كلّه، فضلاً عن أنّ السند الذي ذكره ابن طاووس للكليني هنا فيه سقط واضح، فكيف يمكن أن يروي ابن طاووس عن الكليني بواسطتين فقط، مع أنّه تفصله عنه أزيد من ثلاثة قرون؟!

خامساً: إنّ ذكر الشيخ الطوسي للرواية في المصباح ومختصره لا يفيد هنا؛ فإنّه حيث كان المورد الذي ذكر فيه هذه الرواية هو صلاة الاستخارة، وكان ذكرها عند حديثه عن بعض الصلوات المندوبة كصلاة الشكر وصلوات الحوائج وصلاة الاستسقاء، فهذا يعني أنّه وضعها ضمن المندوبات، وتبنّيه لها هنا قد يكون راجعاً لاختياره نظرية التسامح في السنن وفضائل الأعمال، فلا يكشف ذلك عن تقويته حيثيّة الصدور في الرواية، وهي الحيثيّة التي نحن بصددها. وهكذا الحال في قرينة عمل الأصحاب أو المتشرّعة بهذه الرواية لو ثبت العمل صغروياً، وليس بمعلوم في وسط المتقدّمين.

سادساً: إنّ ما نقله ابن طاووس من رواية الكراجكي، تارةً يبحث في سنده وأخرى في كونه رواية ثانية، أما السند فهو واضح الضعف، فلم يسمّ لنا ابن طاووس الكتاب الذي نقل منه هذا النقل عن الكراجكي!! ولا الطريق إلى الكراجكي من صاحب ذلك الكتاب، والرواية لم يعثر عليها أحد فيما نعلم، ولم نعثر عليها أيضاً في كتب الكراجكي المتوفّرة اليوم، ولا بيّن الطريق بين الكراجكي (449هـ) وبين هارون بن حماد الذي يفترض أن يكون عاش أواسط القرن الثاني، بفاصل قرنين عنه، على أنّ هارون بن حماد وهارون بن زياد لا توثيق لهما إطلاقاً، ومع مثل هذه الحال كيف يعتمد على هذا السند؟!

وأما أنّ هذا الحديث هو رواية ثانية فهو محتمل؛ نظراً لبعض الاختلافات بين متني الحديثين (ما في الكافي و ما في هذه الرواية)؛ لكن مع ذلك، فما ذكره السيد ابن طاووس في تحديد هوية هارون غير واضح، فإنّ تمييزه بين هارون بن خارجة الأنصاري وهارون بن خارجة الكوفي وهو أخ مراد، لا دليل عليه في الرواية بعد أن ذكرت هارون بن خارجة بنحو مطلق، فما هو موجب التعدّد بعد وحدة المتن والإمام×؟! بل لو سلّمنا فإنّ الجزم بتعدّد هارون بن خارجة صعب، فإنّ النجاشي ذكر أنّ هارون بن خارجة كوفي وأنّه أخو مراد([220])، وكذلك ذكر الطوسي في الرجال الحسن بن هارون بن خارجة الكوفي([221])، وذكر الطوسي أيضاً هارون بن خارجة في الرجال مرّتين: مرّة بعنوان الصيرفي مولى كوفي وهو أخو مراد الصيرفي وابنه حسن، وأخرى ـ بعد فاصل رجل واحد ـ هارون بن خارجة الأنصاري، كوفي([222]).

وهذا كلّه يفيد تعدّد هارون بن خارجة بين الصيرفي الكوفي، والأنصاري، لكنّ السيّد الخوئي جزم بوحدتهما لعنصرين:

الأول: ذكر الطوسي والنجاشي في الفهرست والبرقي والصدوق في المشيخة اسمه دون توصيف، ولو كان متعدّداً لبيّنوا الوصف، وأنّه الأنصاري أو الكوفي.

الثاني: إنّ هارون بن خارجة الصيرفي أخو مراد، ومراد وُصف بالأنصاري، فيكون هارون أنصارياً أيضاً([223]).

والملفت أنّ الذي وصف مراد بن خارجة بأنه أنصاري كوفي معاً هو الشيخ الطوسي في كتاب الرجال نفسه([224])، مما يؤكّد أنّه وقع في اشتباه والتباس، الأمر الذي يرجّح وحدة الرجلين، وإن لم يبلغ رتبة الجزم.

كما أنّ افتراض ابن طاووس أنّ هارون بن حماد هو هارون بن زياد، وأنّه لا يوجد شخص باسم هارون بن حماد، وأنّ ذلك موجبٌ لتصحيح الرواية، غير صحيح؛ فإنّه مع وجود هارون بن حماد في أحد أسانيد الطبري في دلائل الإمامة([225])، فإنّ هارون بن زياد غير موثق، وزياد وإن اقتربت من حماد، لكنّ الأحرف الثلاثة الأولى من (خارجة) قريبة من (حماد) أيضاً.

وعلى أيّة حال، فرغم ذلك نحن نقبل ـ على مضض ـ بوجود روايتين هنا، غايته أنّ رواية هارون بن حماد ضعيفة السند جداً.

سابعاً: إنّ الطريق التجربي الذي ذكره لنا ابن طاووس سبق أن ناقشناه، ولا يمكن بمثل هذه التجارب الشخصيّة المحدودة بناء وثوق نوعي، أو تصحيح الأخبار.

والحاصل أنّ هذه الرواية غاية ما تفيده محاولة ابن طاووس معها هو اعتبارها روايتين، وهذا لا يبلغ بالحديث درجة الوثوق والقوّة، كيف وهذه الرواية رغم حديث الفقهاء عن الصلوات المستحبة لكنّنا لم نجد لها ذكراً أو تبنّياً عند المتقدّمين غير المفيد والطوسي والكليني وابن طاووس، فعدم ذكر البقية لها كالمرتضى والصدوق والكراجكي وابن حمزة وأبي الصلاح الحلبي وابن البراج الطرابلسي وابن إدريس وابن زهرة وأمثالهم، مع عدم وجودها إلا في مصدرين حديثيين، وهما كافي الكليني وتهذيب الطوسي كلّه يخفّف من درجة الوثوق بالصدور.

ويبقى البحث في أصل إسناد الشيخ الكليني في الكافي، فهل هذا السند صحيح أم لا؟

نقل الكليني الرواية بهذا السند: غير واحد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد البصري، عن القاسم بن عبد الرحمن الهاشمي، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبدالله×..([226]).

1 ـ أما غير واحد، فهم عدّة الكليني لسهل بن زياد، وفيهم الثقة العين، مثل علي بن محمد بن علان.

2 ـ وأما سهل بن زياد، فقد رجّحنا عدم توثيقه إن لم نقل بضعفه.

3 ـ أما أحمد بن محمّد البصري، فقد ذكر النمازي أنهم «لم يذكروه»([227])، ومال السيد الخوئي إلى اعتباره أحمد بن محمد بن سيّار الضعيف المغالي المتّهم([228]). وعلى أيّة حال فلا دليل على توثيقه.

4 ـ وأما القاسم بن عبدالرحمن الهاشمي، فقد ذكرت له ثلاث روايات، ولم يترجم في كتب الرجال، لكن:

أ ـ يحتمل أن يكون الزيدي الذي عدل إلى الإماميّة بعدما رأى معجزتين على يد الإمام الجواد، لكن لا شيء يؤكّد ذلك، ولو كان فلم تثبت وثاقة هذا الزيدي نفسه، ومجرّد عدوله إلى الاعتقاد بمذهب الإماميّة لا يثبت وثاقته.

ب ـ من البعيد أن يكون المراد منه القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري؛ لأنّ الأنصاري يروي عن الإمام الباقر، والقاسم هنا يروي عن هارون بن خارجة عن الإمام الصادق؛ فلا وحدة في الطبقة إطلاقاً ولا تناسب، ولو كان هو فلم تثبت وثاقة ذاك أيضاً إذ لم يوثقه أحد. وقد ذكر الشيخ الطوسي في الرجال عدّة أشخاص اسمهم القاسم بن عبد الرحمن([229]).

ج ـ كما يبعد أن يكون القاسم بن عبدالرحمن أبو القاسم؛ لأنّه من طبقة الإمام السجّاد كما ذكر الشيخ الطوسي، وهذا هنا من طبقة الإمام الكاظم.

د ـ ويحتمل أن يكون القاسم بن عبدالرحمن الخثعمي الذي هو في طبقة الإمام الصادق ولا دليل على هذا الاحتمال، ولو صحّ فالخثعمي لم يوثقه أحد.

هـ ـ ويحتمل أن يكون القاسم بن عبد الرحمن المقري الذي هو في أصحاب الصادق، لكن لا دليل يؤكّد ذلك، ولو ثبت فلم ينصّ أحد على وثاقة المقري.

و ـ ويحتمل أن يكون القاسم بن عبد الرحمن الصيرفي الثقة الذي هو في طبقة الإمام الصادق، ولا شيء يؤكّد هذا الاحتمال.

وبناءً عليه، فالقاسم بن عبد الرحمن الهاشمي مهمل جداً، ويحتمل ـ افتراضاً ـ أنّه أحد المسمّين بهذا الاسم، وبعض الاحتمالات بعيد، وبعضها لا نافي له لكن لا مثبت له أيضاً، بل لم يقل أحد به، وعلى تقديره فكلّ من سمّي بالقاسم بن عبد الرحمن لا دليل على وثاقته إلا الصيرفي، ولم يعلم بوجه من الوجوه أنه هو، فالرجل لم تثبت وثاقته.

5 ـ وأما هارون بن خارجة فهو ثقة.

وعليه، فسند الحديث ضعيف من ثلاث جهات:

الجهة الأولى: عدم ثبوت وثاقة سهل بن زياد إن لم نقل بضعفه.

الجهة الثانية: عدم ثبوت وثاقة أحمد بن محمد البصري إن لم نقل بضعفه على تقدير كونه ابن سيار.

الجهة الثالثة: عدم ثبوت وثاقة القاسم بن عبدالرحمن الهاشمي، بل هو مهمل.

وعليه، فهذا الحديث لا يرقى إلى مستوى الحديث المعتبر سنداً، فضلاً عن حصول الوثوق والاطمئنان بصدوره.

هذه هي نصوص الاستخارة بالرقاع على أنواعها، وقد ظهر أنّها بأجمعها ـ بعد افتراض رواية الست روايتين ـ تصل إلى عشرة روايات، بينها مرفوعة علي بن محمد في الرقعتين، و خبر هارون بن خارجة في الست رقاع، رويت قبل القرن السادس للهجري، فيما جاءت رواية الاحتجاج في الاستخارة بالرقعتين في القرن السادس الهجري، وباقي الروايات السبع كلّها وجادات وطرق ضعيفة لم نعرفها قبل السيد ابن طاووس الحلّي في القرن السابع الهجري. هذا وكلّ هذه الروايات ضعيفة السند، بل أكثرها ضعيف السند جداً، بل بعضها مجهول المصدر أساساً، ولعلّه لهذا قال المحقّق السبزواري عن أسانيد روايات الاستخارة بالرقاع بأنّها غير نقيّة([230]).

 

وقفة مع موقف: المفيد وابن ادريس والحلّي من استخارة الرقاع

وسط هذه النصوص الداعمة لاستخارة الرقاع والبنادق، تظهر ثلاثة مواقف معارضة: أحدها موقف الشيخ المفيد. وثانيها: موقف الشيخ ابن إدريس الحلّي، وثالثها موقف المحقّق الحلّي.

أما الشيخ المفيد (413هـ)، فقد ظهر موقفه في تعليقه الذي أسلفناه، على رواية هارون بن خارجة، حيث ذكر أنّها رواية شاذّة، وهذا نصّه: «قال الشيخ: وهذه الرواية شاذّة، ليست كالذي تقدّم، لكنّنا أوردناها للرخصة دون تحقيق العمل بها»([231]).

وأما الشيخ ابن إدريس الحلّي (598هـ)، فقد قال بعد ذكره وتبنّيه الاستخارة بالدعاء، ثم فعل ما يقع في القلب: «فأما الرقاع والبنادق والقرعة، فمن أضعف أخبار الآحاد، وشواذّ الأخبار؛ لأنّ رواتها فطحيّة ملعونون، مثل زرعة ورفاعة وغيرهما، فلا يلتفت إلى ما اختصَّا بروايته، ولا يعرج عليه. والمحصّلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه إلا ما اخترناه، ولا يذكرون البنادق والرقاع والقرعة إلا في كتب العبادات، دون كتب الفقه، فشيخنا أبو جعفر الطوسي& لم يذكر في نهايته ومبسوطه واقتصاده إلا ما ذكرناه واخترناه، ولم يتعرّض للبنادق. وكذا شيخنا المفيد في رسالته إلى ولده، لم يتعرّض للرقاع ولا للبنادق. بل أورد روايات كثيرة فيها صلوات وأدعية، ولم يتعرّض لشيء من الرقاع. والفقيه عبد العزيز بن البراج& أورد ما اخترناه، فقال: وقد ورد في الاستخارة وجوه عدّة، وأحسنها ما ذكرناه [ثم ذكر بن إدريس معنى الاستخارة في لغة العرب وأنّها الدعاء ثم قال:] فمعنى صلاة الاستخارة على هذا أي صلاة الدعاء»([232]).

وأمّا المحقّق نجم الدين الحلّي (676هـ)، فبعد حديثه عن صلاة الاستخارة التي أورد لها بعض روايات الاستخارة العامّة أو الدعائيّة، قال: «أما الرقاع، فيتضمّن افعل ولا تفعل، وفي خبر [خبره] الشذوذ، فلا عبرة بها»([233]).

هذه النصوص الثلاثة من المفيد وابن إدريس والمحقق الحلي ـ لا سيما الثاني منها ـ وقعت معركةً للآراء والأقوال، فشنّ العلامة الحلّي هجوماً نقدياً شديداً على ابن إدريس، وأفرد السيد ابن طاووس عند حديثه عن سبب إنكار بعض الناس للاستخارة وتوقفهم فيها، أقواماً كانت لهم منطلقات في رفض الاستخارة وأنّ الفريق الرابع منهم هم: «قوم وجدوا كلاماً لشيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في المقنعة، وكلاماً للشيخ الفقيه محمد بن إدريس في كتاب السرائر، فاعتقدوا أنّ ذلك مانع من الاستخارة بالرقاع المذكورة فتوقّفوا عنها، وفاتهم فوائدها المأثورة»([234]). ثم علّق على العلامة وابن طاووس آخرون.

ولكي ننظر في الأمر، نتوقّف أولاً عند نصّ المقنعة، ثم نرى الموقف من المعركة التي وقعت بين ابن إدريس والعلامة الحلّي:

أما نصّ المقنعة، فقد ركّز السيد ابن طاووس نظره عليه مشكّكاً في وجوده تارةً، وفي دلالته أخرى.

1 ـ أما التشكيك في وجوده، فقد حاول نفي وجود هذا المقطع في كتاب المقنعة، فذكر أنّ عنده نسخةً عتيقة جليلة، يدلّ حالها على أنّها كُتبت في زمان حياة الشيخ المفيد نفسه، وأنّ عليها قراءة ومقابلة، وأنّها أصل يُعتمد عليه.. هذه النسخة فيها متن الرواية وليس فيها التعليق أو الطعن، معتبراً أنّها أقرب إلى التحقيق. والشاهد على ذلك عنده أنّ الشيخ الطوسي كتب كتاب «تهذيب الأحكام» شرحاً لكتاب المقنعة، وفي هذا الموضع لم يذكر أيَّ كلام للمفيد طعناً على هذه الرواية. بل إنّ الطوسي ألّف كتابه الاستبصار لأجل ما اختلف من الأخبار، فلو كان هناك خلافٌ في التحقيق لذكره في الاستبصار مع أنّه لا وجود له أساساً أيضاً. بل يذكر ابن طاووس أنّه وجد بعض نسخ المقنعة فيها زيادة على حاشية المقنعة، مما يثير احتمالاً في أن تكون من كلام شخص آخر غير الشيخ المفيد، وأنّ الناسخين أدرجوها ونقلوها فدخلت في الأصل. وهو ما احتمله السيّد عبد الله شبر أيضاً([235]).

2 ـ وأما التشكيك في دلالة هذا المقطع، فقد ذكر السيد ابن طاووس:

أولاً: إنّ تعبير «هذه الرواية شاذة» لا يعني أنّ كلّ رواية وردت في الاستخارة فهي شاذّة، ولا ذكر أنّ سبب شذوذها وجود الرقاع فيها، ولا قال بأنّ العمل بها شاذّ، وإنما قال: هذه الرواية شاذة، وهو كلام يحتمل وجوهاً:

الوجه الأول: لعلّ مراده أنّ راوي هذه الرواية لم يروِ عن الأئمة غير هذه الرواية، والمفيد لم يذكر اسم رواة الحديث، فيكون الشذوذ بملاحظة حال الراوي من حيث روايته غير هذا الحديث عن أهل البيت وعدمه.

الوجه الثاني: لعلّ مراده أنّ راوي هذه الرواية خاصّة كان رجلاً مجهولاً لا يُعرف بالرواية عن أهل البيت.

والفرق بين الأول والثاني ـ حسب الظاهر ـ هو مجهوليّة الراوي هنا وعدم مجهوليّته في الوجه الأوّل.

الوجه الثالث: لعلّ الشذوذ في المتن، لتضمّن هذه الرواية تعبير (فلان بن فلان)، دون (فلان بن فلانة)، حيث إنّ الثاني هو المألوف المعروف.

الوجه الرابع: لعلّ الشذوذ أيضاً في المتن، فإنّ الرواية تضمّنت «بسم الله الرحمن الرحيم، خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلان. إفعل» ولم يقل: إفعله، فإنّ الثانية هي المألوفة المعروفة.

الوجه الخامس: لعلّ الشذوذ في المتن أيضاً، من حيث إنّها بدأت «فإن خرجت لا تفعل..» مع أنّ عادة كثير من أخبار النبي والأئمة أنّه مع تردّد الأمر بين (إفعل) و(لا تفعل) غلبة البدء بخيار (إفعل).

ثانياً: إنّ تعبير «أوردناها على سبيل الرخصة..»، يفيد الجواز، وأنّها ليست مثل الروايات التي قدّم ذكرها قبل هذه الرواية، فلو لم يكن العمل بها جائزاً كانت بدعة، وحاشاه أن يودع كتابه بدعةً، بل كان يسقطها أصلاً، مع أنّ كتابه ألّفه ليكون إماماً للمسترشدين ودليلاً للطالبين، كما قال هو نفسه([236]).

وقد دعم بعض اللاحقين على السيد ابن طاووس بعض كلامه، مثل احتمال كون هذا المقطع مدرجاً من قبل آخرين في متن المقنعة اشتباهاً، كالعلامة المجلسي([237])، وذكر بعض المعاصرين أنّه بعد تتبّع كتب الشيخ المفيد لم نجد تعبير «قال الشيخ» في كتبه بما يفيد أنّها مقالته مما يرجّح أنها من إدراجات الناسخين([238]).

هذا، ويمكن التوقّف عند كلام السيد ابن طاووس وغيره هنا، وذلك كما يلي:

الوقفة الأولى: احتمل المحقّق الشيخ محمد تقي التستري أن تكون جملة: «قال الشيخ» هي للشيخ الطوسي، فإنّ الشيخ الطوسي في التهذيب عندما يريد أن ينقل كلاماً للمفيد في المقنعة يبدؤه بجملة: «قال الشيخ»، أما مقول قول الشيخ فلا يمكن أن يكون من غير الشيخ المفيد؛ إذ لو كان من غيره لكان ينبغي تغيير الضمائر «لكنّا أوردناها»، حيث لابد أن تصبح «لكنّه أوردها»، بل لو كانت هذه الجملة من غير الشيخ المفيد لما كان لها معنى؛ إذ عليه سوف يصبح نصّ الشيخ المفيد مقتصراً على ذكر الرواية وهو في كتاب فقهي، وهذا الإرسال للرواية إرسال المسلّمات، لا يمكن أن يفهم منه الإيراد للرخصة دون العمل، فكيف يقول شخصٌ آخر بأنّ المفيد أوردها للرخصة دون العمل. بل لو كان النص لغير الشيخ المفيد، بحيث أوردها الشيخ بلا طعن، لتبعه ـ كما هي العادة ـ غيره مثل المرتضى والطوسي والديلمي والحلبيّون والقاضي. وبهذا كلّه نفهم ما يرجّح أنّ الجملة للشيخ المفيد([239]).

إنّ ما ذكره المحقق التستري من احتمال رجوع «قال الشيخ» إلى كلام الطوسي وارد، والطوسي كثيراً ما يقول هذه الكلمة في التهذيب الذي هو شرح المقنعة، إلا أنّ هذا الاحتمال سيفضي بنا إلى مشكلة أو تساؤل: لماذا نقل كلام الشيخ الطوسي هنا «قال الشيخ» ولم يذكر في أيّ موضع آخر من المقنعة؟ فهل كان المستنسخ يقوم باستنساخ كتاب المقنعة، ثم وجد هذه الجملة في كتاب الطوسي ناقلاً لها عن الشيخ المفيد، فأحبّ إدراجها هنا؟ ولو كان الأمر كذلك فلماذا لم نشهد هذه الجملة «قال الشيخأ» في مواضع أُخَر؟ ولو صحّ ذلك فأين قال الشيخ الطوسي جملة «قال الشيخ:..» حين نقلها عنه المستنسخ مع أنّ جملة المفيد هذه غير موجودة في أيّ من كتب الطوسي التي بين أيدينا؟ ينبغي الجواب عن هذه التساؤلات كي يكون هذا الاحتمال مقنعاً.

وأما حديث التستري عن أنّ مقول القول لا يمكن أن يكون لشخص آخر وإلا تغيّرت الضمائر، فهو صحيح لو أن شخصاً آخر يتحدّث عن الشيخ المفيد؛ لكنّ الذي يشكّك في الجملة كالسيد ابن طاووس لا يقول بالضرورة بأنّ هذه الجملة ينقلها شخصٌ عن حال الشيخ وأنّ المفيد أوردها للرخصة، بل يحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة كلاماً لشخص آخر نقل الرواية في كتابه وعلّق هو عليها، وأنّ هذا الكلام التعليقي نقله شخصٌ على هامش نسخة المقنعة، فأدرجه النسّاخ بعد ذلك، بمعنى لنفرض أنّ الطوسي قام أيضاً بنقل هذه الرواية في أحد كتبه، ثم علّق عليها بهذه الجملة قاصداً ـ الطوسي ـ تبرير نقله لهذه الرواية، ثم جاء شخصٌ وعلّق على هامش المقنعة النصّ التالي: قال الشيخ (يقصد الطوسي)، ثم ينقل كلام الطوسي. وهنا يأتي النسّاخ فيظنّون أنّ هذه الجملة هي من متن المقنعة، فتدخل في المتن، وبهذا يصحّح ونفهم معنى كلمة (قال الشيخ)، وفي الوقت نفسه نفهم طبيعة الضمائر، فلم ينف لنا التستري مثل هذا الافتراض الذي يمكن أن يكون قد حصل.

نعم، مثل هذا الافتراض، مع حذف اسم الشيخ، يعني أنّ هذا الشيخ الذي نُقلت الجملة من كتابه، شخصٌ معروف ولو نسبياً، فيثبت أنّ أحد العلماء قد كان يقول ـ قبل ابن طاووس ـ بهذا القول، وأنا أحتمل أنّه لو وقع هذا الأمر وصدّقنا هذا الافتراض، فإنّ المراد بالشيخ هو ابن إدريس الحلّي نفسه الذي حكم بأنّ هذه الروايات في الرقاع شاذّة، وفي الوقت عينه يوردونها في كتب العبادات التي يتساهل فيها وهناك مجال للرخصة بها والفسحة، فيكون الناقل الذي وضع الحاشية قد نقل كلام ابن إدريس بالمعنى، ونظراً لمعروفيّة ابن إدريس فقد أطلق كلمة «الشيخ» عليه.

وبهذا يظهر أنّ إرسال المفيد لها إرسال المسلّمات وإن لم يكن يسمح بالتقوّل عليه بأنّه أوردها للرخصة ـ لو سلّمناه ـ إلا أنّ ما احتملناه إنّما هو راجع لغير المفيد، لا له حتى نقول بأنّه أرسله إرسال المسلّمات.

من هنا، يبدو لي أنّ محاولة الشيخ التستري غير كافية بهذا المقدار.

الوقفة الثانية: إنّ محاولة السيد ابن طاووس في التشكيك بأصل نسبة هذا لمقطع للشيخ المفيد معقولة من الجهات التالية:

1 ـ وجود نسخة عنده يخبر عنها بأنّها خالية من هذا المقطع.

2 ـ وجود نسخ أخرى يخبر هو عنها أيضاً تضع هذا المقطع على هامش الصفحة لا في المتن.

3 ـ وجود جملة: (قال الشيخ) في هذا الموضع فقط من كتب المفيد.

فإنّ هذه العناصر الثلاثة مجتمعةً تُحدث الشكّ في نسبة النصّ للمفيد، وقد حقّقنا في محلّه أنّه لا توجد أصول عقلائية مثل أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة دون وجود مرجّحات متصلة بهذا المورد أو ذاك، وهذه الشواهد الثلاث هنا ترجّح افتراض الزيادة السهويّة من النسّاخ، ولو ساوت مرجحيّة سائر النسخ المتداولة التي فيها هذه الزيادة، لبلغ بنا الحال الشك في النسبة، وهو كافٍ لعدم إمكان الجزم بنسبة هذا النصّ للشيخ المفيد.

أمّا الشواهد الأخرى التي ذكرها فلا قيمة لها إلا بنحو التأييد لو كان:

أ ـ أما قوله بأنّ الشيخ الطوسي لم يذكر ذلك في التهذيب، فهذا لا يضرّ لو غضضنا الطرف عن الملاحظات الثلاث المتقدمة؛ لأنّ الشيخ الطوسي كان يريد في كتاب التهذيب شرح كتاب المقنعة، ولكنّه عندما أنهى تقريباً كتاب الطهارة عدل عن هذه الطريقة، كما يقول هو نفسه في التهذيب([240])، نظراً لطول البحث والإطناب، ولهذا نجد طريقته أنّه قد يذكر في مقدّمة بعض الأبواب مطلع كلام الشيخ المفيد في هذا الباب، ويحيل القارئ إلى نص المقنعة، ثم يذكر الروايات. وكثيراً ما لا يأتي بكلام الشيخ المفيد على تفصيله. فإذا لم يُشر هنا إلى تعليقة الشيخ المفيد فهذا لا يضرّ بوجودها؛ إذ لا يحصل الإنسان من مراجعة التهذيب على نصّ المقنعة كلّه. كما لعله رأى أن المورد من موارد المندوبات فلم يرَ حاجةً للتعرّض له.

ب ـ وأما حديثه عن عدم إيراد ذلك في الاستبصار، فمرجعه إلى أنّ الاستبصار موضوع للأخبار المختلفة، لا للأخبار التي عليها نقاش بالضرورة، وخبر الرقاع الستّ لا يدخل ضمن الأخبار المتعارضة؛ لأنّ القدماء كما رجّحنا لم يتركوا لنا سوى خبر واحد في الرقاع الستّ، فلا موجب لفرض التعارض حتى يستحضر الطوسي هذا الخبر ـ لزوماً ـ في الاستبصار. وقول المفيد بأنّ خبر الرقاع ليس بمستوى سائر أخبار الاستخارة لا يعني فرض التعارض؛ إذ كلّها مثبتات لا يوجد ما يُلزمنا بواحدة منها فقط، وطرح البقيّة حتى تقع فرضيّة التعارض.

وهذا يعني أنّ المعطى الوحيد للتشكيك هو نفس كلام ابن طاووس وادّعاؤه وجود نُسخ أخرى تعزّز افتراض إقحام النسّاخ لهذه الجملة، وكلّ النسخ المخطوطة التي اعتُمد عليها في تحقيق كتاب المقنعة مؤخّراً ـ وهي ترجع إلى ما بعد عصر ابن طاووس ـ متفقة على إضافة هذه الجملة بلا اختلاف بينها حسب الظاهر. وإلا فجملة (قال الشيخ) لوحدها لا تكفي للتشكيك.

نعم، يحتمل أن يكون حصل خطأ من النسّاخ، ويكون المراد الشيخ الطوسي إذ هو المنصرف إليه إطلاق لفظ الشيخ عندما نستبعد الشيخ المفيد، ويكون هذا الكلام إضافة وضعها أحد النساخ نقلاً عن الشيخ الطوسي، لا في كتبه بل في نقله أو في كتبه التي لم تصلنا، وهذا كلّه يعني أنّ هناك شخصاً معروفاً شكّك في هذا الحديث ووصفه بالشاذ.

الوقفة الثالثة: إنّ محاولة السيد ابن طاووس تفسير الشذوذ، يوجد في بعض جوانبها غرابة، وذلك:

أ ـ لا يقال عن الرواية التي يرويها شخصٌ مجهول بأنّها شاذّة، فهذا التعبير غير متداول بين الفقهاء والمحدّثين، فالوجه الثاني من الوجوه التي ذكرها ابن طاووس غريب هنا، فالشذوذ في اللغة شيء مقابل المشهور والمتداول والسائد والمؤيّد من قبل الغير، فأيّ ربط له بمجهوليّة الراوي وعدم مجهوليّته؟!

ب ـ أما الوجوه الثلاثة التي ذكرها لشذوذ المتن فهي غريبة حقاً، فلو كان كذلك لزم توصيف غالب الروايات بالشذوذ، ومثل هذه الاختلافات الطفيفة لا توجب إطلاق توصيف رواية بأنّها شاذّة بما يوحي بطعنها، ففيما ذكره تكلّفٌ واضح، وهل مثل هذا الاختلاف يوجب ذلك؟!

والصحيح أنّ الشذوذ في الاصطلاح معناه الخبر الذي يتفرّد بروايته راوٍ، ولا يروى بأيّ طريقٍ آخر غيره، وكلمات المحدّثين في الموقف من الحديث الشاذّ مختلفة، ففيما ذهب كثيرون إلى أنّ الحديث الشاذ يشمل ما يتفرّد به الثقة أو غيره، رأى آخرون أنّ الشاذ هو ما يتفرّد به الثقة خاصّة، وقالوا: إذا تفرّد به وخالف غيره من رواية الثقات ردّ الخبر الشاذ، فيما قال آخرون بأنه يردّ مطلقاً ولو لم يخالف خبراً لثقةٍ آخر. ومنهم من قبل رواية الخبر الشاذ مطلقاً، وقال آخرون بأنّ الخبر الشاذّ يقارن بغيره لمعرفة ما هو الأقوى. وفسّر الشاذ عند بعض الإمامية أيضاً بأنّه المخالف لما عمل عليه الأصحاب، أي المهجور المتروك([241]).

إلا أنّه على الصعيد الشيعي ينبغي التنبّه لموضوع بالغ الأهمية، وهو أنّ مصطلحات علم الحديث والدراية، هل كانت معتمدة عند العلماء الشيعة حتى القرن الخامس الهجري بنفس معانيها المطروحة عند أهل السنّة أم لا، أم أنّ الصحيح هو تقصّي كلماتهم ومتابعة استخدامهم للمصطلح للنظر في طبيعة المعنى السائد بينهم؟ الصحيح هوالثاني ما لم نحرز متابعتهم في المصطلح لأهل السنّة؛ لأنّ علم مصطلح الحديث لم يفرد عندهم بالتدوين في هذه القرون حتى نعرف ماذا يقصدون من هذه الكلمة أو تلك، ومن هنا نلاحظ على أمثال الشهيد الثاني أنّه أخذ مصطلح الحديث من أهل السنّة ونقله بحرفيّته، وكان من المناسب له أن يقوم بتقصّي المصطلح عند الإمامية ليصوغ هذا المعنى للمصطلح وفقاً للسائد بينهم. نعم، قد بذل هو ومن بعده كالميرداماد ووالد الشيخ البهائي وغيرهم جهداً أضافوا من خلاله بعض ما يختصّ بالإماميّة، ولهذا نقترح صياغة مصطلح علم الحديث عند الإمامية من خلال تتبّع الاستعمالات أيضاً.

ولو رجعنا هنا إلى هذا المصطلح (الشاذ)، لرأينا أنّ الأنسب أن يكون مراد المتقدّمين منه هو الحديث غير المشهور ولا المتداول، بحيث يكشف عدم شهرته وعدم تداوله عن عدم عملهم به، سواء كان له طريق واحد أو أكثر من طريق، وسواء كان فيه رواية واحدة أم أكثر، وسواء كان رواته ثقاتاً أم لا، فكلّ حديث غير متداول وليس هو بالسائد المعمول به والمرجع والمتداول في العلوم الدينية فهو حديث شاذّ. ومن القريب جداً أن يكون مصطلح الشاذّ عند الإمامية مأخوذاً من الحديث المرويّ عندهم «خذ بالمجمع عليه بين أصحابك ودع الشاذ النادر»، ومن هنا وجدنا الشيخ المفيد يذكر في بعض كتبه التعبير التالي: «.. إلا أنّه يكون دافعاً للمتواتر من الأخبار منكراً للمشهور من الآثار، معتمداً على الشاذّ من الروايات»([242])، جامعاً كلمة «الروايات» مع وصف الجمع بالشذوذ، ومقابلاً بينه وبين التواتر والشهرة. وكلمات الآخرين تساعد على هذا لمعنى العام أيضاً([243]).

وهذا كلّه يعني أنّ كلمة الشاذّ عند المتقدمين من الإماميّة لابدّ أن تحمل على المعنى العرفي العام، وهو الحديث غير المشتهر ولا المعمول به، في مقابل الحديث المعمول به والمشتهر والسائد والمتداول، فعندما قال الشيخ المفيد ـ أو غيره ـ الجملة المتقدّمة فقد قصد أنّ حديث الاستخارة بالرقاع غير متداول ولا سائد بين الإمامية ولا يُشبه ما هو المتداول بينهم، وإنما المتداول هو ما تقدّم من الاستخارة بمعنى الدعاء وبمعنى ما يقع في القلب وما شابه ذلك، وذلك بصرف النظر عن أنّه كيف يكون حاله سندياً من حيث وثاقة رجاله، ففي هذا النص ما يكشف عن مهجوريّة العمل برواية الاستخارة بالرقاع الستّ عند المتقدمين، ويزيد إلى الوهن الموجود في هذه الروايات وهناً.

الوقفة الرابعة: إذا كان السيد ابن طاووس يريد من تحليل المقطع الأخير من نصّ الشيخ المفيد أن يُثبت أنّ الشيخ المفيد لا يرى حرمة استخارة الرقاع، في مقابل بعض أهل عصره الذين احتجّوا بقول المفيد للذهاب إلى حرمة استخارة الرقاع.. إذا كان هذا هو مراده فكلامه صحيح، فإنّ نصّ الشيخ المفيد لا يُفهم منه القول بحرمة استخارة الرقاع، إذ غايته عدم ثبوتها، ولهذا لا يصحّ وضع الشيخ المفيد ضمن القائلين بتحريم بعض أنواع الاستخارة فهذا غير واضح إطلاقاً، فإنّ ظاهر الكلام أنّ المفيد بعد اعتقاده بشذوذ هذه الرواية ومهجوريّتها بين الأصحاب وغرابتها عن السائد في الوسط الحديثي والفقهي، أراد أن يبيّن عذره في ذكرها في كتابه الذي جعله ـ كما يقول هو نفسه([244]) ـ إماماً للمسترشدين ودليلاً للطالبين، فكأنّه يرى أنّ ذكر هذا الحديث الشاذّ ينافي عنوان عمله في هذا الكتاب، حيث لا يصح العمل بمثل هذه الروايات المهجورة، فبرّر الأمر بأنّه ذكره لا لتحقيق العمل بها، بل للرخصة، بمعنى أنّه حيث المورد من موارد الأمور المسنونة الجائزة في حدّ نفسها، فيكون ذلك الفعل جائزاً، لا بمعنى انتسابه إلى الدين والعمل بمقتضاه، بل بمعنى جواز مضمونه والرخصة فيه لا غير، فالصلاة خير موضوع، ونفس فعل الاستخارة بالرقاع لا حرمة فيه. فهذا النصّ يزيد استخارة الرقاع ضعفاً ولا يمكن اعتباره تشريعاً لها وإلا أدخل في كتابه ما هو بدعة، كيف وقد علّق عليه بمثل هذا التعليق الموجب لفراغ الذمّة.

وعليه، فإذا صحّ أنّ هذا المقطع للشيخ المفيد، وتجاهلنا المعلومات التي أعطانا إياها ابن طاووس حول النُسَخ والتي توجب التشكيك في نسبة المقطع للمفيد، فإنّه يفيد أنّ استخارة الرقاع هي استخارة مهجورة متروكة غير متداولة بين الإماميّة في القرون الأولى رغم وجود روايتها في كافي الشيخ الكليني، وهذه الشهادة ـ كما قلنا ـ تعطي الوهن في نصوص الاستخارة بالرقاع التي هي ضعيفة السند من الأوّل.

وأخيراً، ألفت إلى أنّ ما ذكره بعض المعاصرين من أنّه لا يمكن أن نأخذ رأي الشيخ المفيد في الاستخارة من كتاب المقنعة؛ لأنه كتاب مختصر([245])، لا معنى له لو تجاهلنا غرابته الشديدة، حيث يعتمد العلماء عبر التاريخ على المقنعة في معرفة رأي الشيخ المفيد؛ كما أنّ الاختصار قد يكون أوجب في الدلالة على الرأي النهائي، تماماً كالفرق بين الرسالة العمليّة والبحوث المطوّلة.

وأمّا نصّ الشيخ ابن إدريس الحلّي في السرائر: فقد وقع محلّ اعتراض أيضاً، وأهمّ من سجّل الاعتراض عليه كان السيد ابن طاووس والعلامة الحلّي والشهيد الأول و.. ونحن نذكر مداخلات هؤلاء الأعلام ثم نعلّق عليها:

المداخلة الأولى: وهي مداخلة السيد ابن طاووس، وتتخلّص في النقاط التالية:

أ ـ إنّ قول ابن إدريس بأنّ «الأولى ما ذكرناه» يدلّ على أنّه ما أنكر استخارة الرقاع، وإنما اعتبر ما اختاره هو من الاستخارة أولى.

ب ـ إنّ قوله بأنّ هذه الروايات من أضعف الأخبار؛ لأنّ رواتها فطحيّة ملعونون كزرعة وسماعة، غير صحيح؛ إذ لا توجد في روايات الاستخارة بالرقاع أيّ رواية يرويها لنا زرعة أو سماعة، بل إنّ الروايات الواردة كلّها عن أشخاص يقبل ابن إدريس بروايتهم، فلم يعد هناك موجب لاعتبارها عنده أخباراً ضعيفة شاذّة. بل ليس كلّ أخبار الفطحية وفرق الشيعة باطلة بالكلّية، بل فيهم من هو ثقة اعتمد عليه الشيوخ والأصحاب كثيراً.

ج ـ إنّ قوله بأنّ الأصحاب ما ذكروا الاستخارة بالرقاع والبنادق والقرعة في كتب الفقه، بل في كتب العبادات لعلّه من سهو الناسخين أو له عذرٌ في ذلك؛ لأنّ كتب الفقه متضمنّة للقرعة وأنّها في كلّ أمر مشكل، وهي شاملة للمستخير.

د ـ إنّ الاستخارة بالرقاع وردت في كافي الكليني وتهذيب الطوسي، وهما من أعظم كتب الفقه، ولم نجد أحداً أبطل روايات هذه الاستخارة.

هـ ـ وأما حديثه عن كتب العبادات، فلعلّ عنده عذر غير ظاهر؛ لأنّ الفقه إنّما كان له حكم في الشرائع والديانات لأنّه من جملة العبادات، ولولاه لكان عبثاً أو ساقط الروايات، فلعلّه أراد من «كتب العبادات» كتب العمل، وعلى أيّة حال فعندما يؤلّف المصنف كتاباً يريده بنحو الفتوى والعمل فهو لا يذكر إلا الأحكام الشرعيّة وإلا كان داعياً للبدع، وبهذا تصير كتب العبادات أظهر في الاحتجاج من كتب الفقه أو الروايات؛ لأنّها تصنّف للعمل والطاعة والعبادة، فلو لم يكن مشروعاً كان بدعة([246]).

المداخلة الثانية: وهي مداخلة العلامة الحلّي، وبقدر ما كانت مداخلة ابن طاووس هادئة تلتمس العذر، كانت مداخلة العلامة الحلّي هجوميّة عنيفة شديدة النقد والقسوة، ويمكن تلخيص أهم نقاطها فيما يلي:

أ ـ إنّ كلام ابن إدريس في غاية الرداءة؛ إذ ما الفرق بين ذكرها في كتب الفقه وكتب العبادات، فإنّ كتب العبادات هي المختصّة به، مع ذلك فقد ذكرها المفيد في المقنعة، وهو كتاب فقهٍ وفتوى، وذكرها الطوسي في التهذيب، وهو أصل الفقه، وأيّ محصل أعظم من هذين؟ وهل استفيد الفقه إلا منهما؟

ب ـ نسبة الطريق إلى زرعة وسماعة خطأ، فإنّ المنقول روايتان: واحدة لهارون بن خارجة، والثانية رواها الكليني عن علي بن محمد، وليس في طريق الروايتين زرعة ولا رفاعة. بل يمكن التشكيك في فطحيّة زرعة ورفاعة «وهذا كلّه يدلّ على قلّة معرفته بالروايات والرجال، وكيف يجوز ممّن حاله هذا أن يقوم على ردّ الروايات والفتاوى، ويستبعد ما نصّ عليه الأئمة^ وهلا استبعد القرعة، وهي المشروعة إجماعاً.. وأمر الاستخارة سهل..».

بهذا انتقد العلامة الحلّي على ابن إدريس([247]). وقد علّق المحقق النجفي على ردّ العلامة الحلّي بالقول: «ولقد أجاد الفاضل في المختلف..»([248]).

المداخلة الثالثة: وهي مداخلة الشهيد الأول، حيث ذكر أنّ: «إنكار ابن إدريس الاستخارة بالرقاع لا مأخذ له، مع اشتهارها بين الأصحاب وعدم رادّ لها سواه ومن أخذ أخذه، كالشيخ نجم الدين في المعتبر حيث قال: هي في حيز الشذوذ فلا عبرة بها. وكيف تكون شاذّة وقد دوّنها المحدّثون في كتبهم والمصنّفون في مصنّفاتهم، وقد صنّف السيد العالم العابد، صاحب الكرامات الظاهرة والمآثر الباهرة رضي الدين أبو الحسن علي بن طاووس الحسني ـ رحمه الله ـ كتاباً ضخماً في الاستخارات، واعتمد فيه على رواية الرقاع، وذكر من آثارها عجائب وغرائب أراه الله تعالى إياها..»([249]).

بل ذكر الشهيد الثاني في روض الجبان أنّ استخارة ذات الرقاع الستّ أشهر الاستخارات([250]).

هذا، وأورد بعض المعاصرين على إبن إدريس بأنّه إذا كان يبني على حجيّة الخبر المعلوم بالصدور فيه، فإنّ أخبار الاستخارة مستفيضة بين الفريقين السنّة والشيعة، وليست بآحاد([251]).

هذه هي مهمّ المداخلات النقدية على ابن إدريس الحلّي، ولابد لنا من بعض التعليقات:

التعليق الأول: إنّ قول ابن طاووس بأنّ تعبير «الأولى» يفيد أنّ ابن ادريس لا ينكر استخارة الرقاع، غير صحيح، فإنّه خلاف ترتيب كلام ابن إدريس، فإنّ هذه الجملة جاءت كالتالي: «والروايات في هذا الباب [يقصد باب الاستخارة] كثيرة، والأمر فيها واسع، والأولى ما ذكرناه. فأما الرقاع والبنادق والقرعة، فمن أضعف أخبار الآحاد..»([252]).

وهذا يعني أنّ «الأولوية» التي يذكرها ابن إدريس إنما هي لما نقله في الاستخارة التي هي دعاء عنده، فإنّ لها صيغاً وأشكالاً في الروايات، فرجّح ما نقله، ثم عرّج على استخارة الرقاع فرفضها، فكلامه واضح في رفضها وإنكارها لا في كونها الأولى أو عدمه. نعم من الخطأ اعتبار ابن ادريس قائلاً بالحرمة، إذ غايته أنّه لم ير لها ما يثبتها شرعاً، لا أنّه يرى فعلها حراماً كما كان يرى الشيخ محمود شلتوت فعل الاستخارة مطلقاً ـ غير الدعائية ـ حراماً.

التعليق الثاني: لقد فتّشنا قدر الإمكان في مجموع روايات الاستخارة بالرقاع والبنادق فلم نجد عيناً ولا أثراً لزرعة ورفاعة وأمثالهما، بل فتّشنا عن هارون بن خارجة وعلي بن محمد فلم نجد ما يشير إلى فطحيّتها، كما فتّشنا في روايات القرعة نفسها ـ بصرف النظر عن الاستخارة ـ علّ ابن إدريس اشتبه عليه الأمر أو قصد القرعة، فلم نجد لهما ولأمثالهما ذكراً أساسياً، فمن المؤكّد أنّ ابن إدريس قد سها قلمه هنا أو التبست عليه الأمور فأورد هذا الإيراد، فالحقّ ما ذكره نقّاده هنا.

لكنّ هذا لا يسمح للعلامة الحلّي بالانتقاص من ابن إدريس هنا، كيف والعلامة الحلّي قد وقع في تهافتات معروفة في مجال الحديث وتقويم الرواة والروايات يعرفها المطّلعون، وأشرنا لبعضها في كتابنا (نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي). بل لعلّ للروايات طرقاً فيها فطحيّة ولم تصل إلينا كما احتمله العاملي([253])، أو لعلّ ابن إدريس وَهَم فقرأ كلمة (رفعه) في خبر الكافي الثاني (رفاعة)، ثم بدّل راوي سماعة برفاعة، فزرعة راوي سماعة، وزرعة واقفي محقّق، وسماعة رمي بالوقف فتوهّم كون فساد مذهبهما هو الفطحية، كما احتمل ذلك كله الشيخ التستري([254]).

بل حتى لو ثبت أنّ في طريق هذه الروايات فطحية أو واقفية، فهذا لا يوجب التضعيف؛ لما حقّقناه في أبحاثنا من أنّ ملاك الحجيّة هو الوثاقة أو الوثوق، لا العدالة أو الاعتقاد، فالحقّ ما ذكره السيد ابن طاووس هنا.

التعليق الثالث: إنّ ما ذكره السيد ابن طاووس من وجود القرعة في كتب الفقه خلافاً لما قاله ابن إدريس صحيح؛ لكن يبدو لي أنّه فهم كلام ابن إدريس خطأ، فإنّ ابن إدريس لما قال: الرقاع والبنادق والقرعة، كان يقصد أمراً واحداً وهو استخارة الرقاع؛ لأنّ فيها البنادق، ولأنّ فيها القرعة، لا أنّه يريد بالقرعة مسألة مطلق القرعة ولو خارج بحث الاستخارة. والشاهد على ما نقول أنّ ابن إدريس الحلي عقد فصلاً في «السرائر» حول أحكام القرعة، وذكر صوراً عديدة طبّق فيها القرعة([255])، بل إنه قال هناك صريحاً: «وكلّ أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه، فينبغي أن يستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن الأئمة الأطهار^، وتواترت به الآثار، وأجمعت عليه الشيعة الإماميّة»([256]). فهذا الكلام صريح في تبنّي الرجل للقرعة، وقد فُهم كلامه خطأ في هذا المجال.

نعم، شمول القرعة للمستخير هو وجهة نظر، إلا أنّه لا يمكن إلزام ابن إدريس بها، فلعلّه يرى ـ كما توصّلنا من قبل ـ انصراف أدلّة القرعة عن باب الاستخارات، وهذا غير إنكار القرعة بوصفها قاعدة فقهيّة معروفة.

التعليق الرابع: إنّ قول ابن طاووس والعلامة أنّ ذات الرقاع مذكورة في المقنعة والتهذيب والكافي وهي أعظم كتب الفقه، وقول الشهيد الأوّل والثاني بأنّها الاستخارة المشهورة أو الأشهر.. يمكن أن يناقش بأنّ ذلك لا يعطي تداول هذه الاستخارة في كتب الفقه ـ لو سلمنا أنّ الكافي والتهذيب كتابان فقهيّان وغضضنا الطرف عن طعن المفيد برواية الرقاع رغم إيراده لها ـ فإنّ المحقّق العاملي صاحب مفتاح الكرامة ـ وهو المعروف بالتتبع يقرّ بأنّه لم يعثر على استخارة الرقاع عند الصدوق في الفقيه والمقنع، ولا عند أبي المجد الحلبي في إشارة السبق، ولا المفيد والصدوق في رسالتيهما إلى ولديهما، ولا سلار الديلمي ولا ابن حمزة ولا العماني ولا ابن الجنيد ذكروا هذا أو نقل عنهم([257])، والحقّ معه، فلم نعثر على استخارة الرقاع ـ وأحياناً مطلق الاستخارة ـ عند الصدوق والمرتضى وابن البراج وابن حمزة وأبي الصلاح الحلبي وابن زهرة الحلبي وسلار الديلمي وابن الجنيد الاسكافي وابن أبي عقيل العماني ولا غيرهم فضلاً عن علماء المرحلة السابقة كعلي بن إبراهيم القمي ومحمد بن الحسن الصفار والحميري والجعفي وغيرهم ولم تذكر إلا عند المفيد في نصٍّ يحتمل أنّه طعن فيه فيها، وعند الطوسي والكليني، إلى جانب نقد ابن إدريس والمحقق الحلّي، فكيف نقول بأنّها مشهورة أو الأشهر أو ذكرها المصنّفون والمحدّثون كما قال الشهيد الأول والثاني و..؟! فإذا كان هذا يكفي للشهرة فأيّ شيء إذاً لا تثبت له الشهرة؟!

واللطيف في الأمر أنّ العلامة وابن طاووس لم يجدوا غير المقنعة والكافي والتهذيب (وقد نَقَل عن الكافي) ليذكروه، فلو كانوا قد عثروا على مصادر أخرى لذكروها، وهذا كلّه يؤكّد مهجورية هذه الاستخارة عند القدماء، وأنها بدأت تشتهر بفعل تأثير السيد ابن طاووس كما يظهر تأثيره في كلمات الشهيد الأول، وبدأت تأخذ رواجها انطلاقاً من عناصر الوثوق بشخصيّته الروحية ومن قصص الغرائب والعجائب التي تتناقل، وقد رأينا كيف أنّ ابن طاووس نفسه بذل قصارى جهده في حشد الروايات لها، ولو كانت متداولة في كتب الحديث والفقه لعثر على مصادر لرواياته وطرقاً، بدل الوجادات والمراسيل التي ذكرها لنا.

وأما عدم وجدان أحد أبطل هذه الاستخارة فهذا ليس دليلاً على صحّتها عندهم؛ إذ فضلاً عن وجود ابن إدريس ونصّ المفيد المحتمل ونصّ المحقّق الحلي، وهم من أركان الفقه، وفضلاً عن هجرانها في كتب الفقهاء كما بيّنا، فإنهم كثيراً ما يتغاضون عن الأمور المستحبّة ويتركونها لقاعدة التسامح في أدلة السنن، فسكوتهم لا يعني تبنّيهم أو عدم رفضهم لها، بقدر ما يعني عدم اهتمامهم بها وبتحقيق حالها.

التعليق الخامس: كيف عرف السيد ابن طاووس أنّ رواة روايات استخارة الرقاع يقبل بهم ابن إدريس، ومن ثم فلا يصحّ له أن يحكم بأنّها روايات ضعيفة أو شاذة؟! فهل يقبل ابن إدريس بمرسل محمد بن علي؟! فلعلّه يضعّفه للإرسال. وهل يقبل بخبر هارون بن خارجة وفيه شخصان لا توثيق لهما إن لم نقل ثلاثة: سهل بن زياد، وأحمد بن محمد البصري، والقاسم بن عبدالرحمن الهاشمي؟ مع أنّ ابن ادريس لا يعمل بالخبر المجهول راويه([258])، فكيف نحرز تصحيحه لهذه الروايات لو أحرزنا أنّه أخطأ في موضوع زرعة ورفاعة؟!

هذا كلّه، مضافاً إلى أنّ ابن إدريس لا يؤمن بحجيّة خبر الواحد الظنّي، بل العبرة عنده في تقويم الأخبار هو الوثوق، ومثل هاتين الروايتين مع مهجوريّتهما وعدم توافقها مع السائد من الروايات ـ وهو معنى الشذوذ ـ وإعراض الفقهاء والعلماء عنهما تصبحان ضعيفتين وشاذّتين حتى لو كان سندهما صحيحاً عنده، فلا يصحّ مؤاخذته بهذه الطريقة من قبل ابن طاووس.

التعليق السادس: إنّ ما ذكره بعض المعاصرين، من استفاضة روايات الرقاع وعدم كونها آحاداً حتى ينكرها ابن إدريس، أو قول بعضهم الآخر بأنه لو حذفها لِرَفْضِهِ حجيّة خبر الواحد لانسدّ باب العلم والعلمي([259]).. غير صحيح، فإذا قصد من الاستفاضة ما يبلغ حدّ التواتر فهو غريب جداً!! إذ كيف يحصل تواتر من أخبار حالها كما أسلفنا؟! وإن قصد أنّ لها سندين فهو صحيح لكنّ وجود سندين لروايتين لا يصيّر الخبر الآحادي معلوم الصدور، لاسيما عند أمثال ابن إدريس كما يُعلم من منهجه وطريقته، فالاحتجاج عليه بهذا الشكل غير صحيح.

وأما كبرى الإشكال عليه بمسألة الانسداد، فقد فصّلنا الكلام فيها في مباحثنا في حجيّة السنّة وحجية الحديث، وتبيّن أنّها غير صحيحة، فلا نطيل، فما أكثر العلماء الذين رفضوا أخبار الآحاد، ومع ذلك قدّموا لنا فقهاً مقبولاً.

التعليق السابع: يحتمل في وجه الفرق بين كتب الفقه والعبادات:

1 ـ ما ذكره الشيخ التستري نقداً على العلامة الحلي في مسألة عدم التمييز بين كتب الفقه وكتب العبادات، من أنّ «الفرق بينهما كثير، فمبنى كتب الفقه على ذكر الأحكام القطعيّة المستندة إلى الأخبار المتواترة دون المظنونة المستندة إلى أخبار الآحاد، بخلاف كتب العبادات الموضوعة لبيان المستحبّات، فمبناها على التسامح في الأدلّة، وقد ذكر الشيخ صلاة النيروز وصلاة الهدية إليهم^ وصلاة أيام الأسبوع ولياليها وصلوات أخَر من قبلها في مصباحه ولم يذكرها في نهايته، كما لم يروها في تهذيبه، ويشهد لذلك أنّ كتب القدماء عنونت صلاة الاستخارة، وذكرت أقساماً مقطوعة دون ذات الرقاع والقرعة»([260]).

وهذ الذي ذكره محتمل؛ حيث يلاحظ وجود نماذج له بالجمع والتقريب.

2 ـ ما ذكره ابن طاووس كما تقدّم من أنّ كتب العبادات هي كتب العمل، أي ما يشبه الرسالة العمليّة للمراجع اليوم، فتكون كتب العمل والعبادات أقوى في الدلالة من كتب الفقه، التي هي أشبه بالكتب الاستدلاليّة التخصصيّة اليوم.

3 ـ ما ذكره العلامة الحلي كما تقدّم، من أنّ كتب العبادات هي الكتب الفقهيّة التي تدور حول العبادات، مثل كتاب الصلاة، وكتاب الصوم، وكتاب الحج وغير ذلك، فتكون أخصّ من كتب الفقه.

ومن المؤكّد أنّ ابن إدريس لم يقصد تفسير العلامة الحلي؛ إذ لن يكون لكلامه معنى، وأما قصده تفسير ابن طاووس فهو بعيد؛ إذ فضلاً عن أنّ كتب كثير من المتقدّمين ليست سوى كتب (رسالة عمليّة) خالية غالباً من الاستدلالات، لا سيما قبل كتاب المبسوط للشيخ الطوسي (460هـ)، لن يكون هناك وجه لتسميتها بكتب العبادات؛ لأنّ كتب العمل غير خاصّة بها، بل فيها المعاملات أيضاً، كما يظهر من مثل كتب (العلم والعمل).

من هنا، يكون احتمال المحقّق التستري أقوى، ومع ذلك فما أرجّحه أن يكون مراد ابن إدريس من كتب العبادات تلك الكتب التي توضع تسهيلاً لشؤون الأمور العباديّة، وتحوي الصلوات والأذكار والزيارات والمندوبات العبادية، تماماً ككتاب (مفاتيح الجنان) للشيخ القمّي، وكتاب (مفتاح الجنات) للسيد محسن الأمين العاملي، وغير ذلك من الكتب التي لا تُبنى ـ عادةً ـ على البحث والتقصّي في إثبات مضمونها، انطلاقاً إما من قاعدة التسامح في أدلّة السنن أو من كون مضمونها مما يشمله عموم أو إطلاق يندب لفعل صلاة أو ذكر أو غُسل أو دعاء أو زيارة أو ما شابه ذلك، وهذا هو الذي دفع ابن إدريس للتعبير بكتب العبادات دون كتب العمل، ومن ثم لعلّه يقصد حينئذٍ ورود بعض المرويات في مثل كتاب المصباح للشيخ الطوسي.

وبناءً عليه، حيث كان مورد هذه الكتب أموراً مندوبة، فمن المرجّح ـ ولو وضعت للعمل ـ أن يغلب عليها طابع إجراء التسامح في أدلّة السنن، وهو ما يفسّر عدم ذكرها في كتب الفقه إلا قليلاً ودون تحقيق سندي أو متني للأدعية والزيارات والأذكار والصلوات ونحو ذلك عادةً، الأمر الذي يُضعف من قوّة احتمال صدور هذه النصوص الواردة في هذه الأمور، لاسيما بناءً على مبنى حجيّة الخبر المطمأن بصدوره ـ كما هو الأقوى ـ وهو المبنى الذي يعمل عليه الشيخ ابن إدريس الحلّي.

ونتيجة البحث في معركة الرأي بين ابن إدريس الحلّي وخصومه أنّ كلّ الإيرادات عليه غير صحيحة، باستثناء نسبة الروايات إلى الفطحيّة، وعدم عمله بروايات غير الإماميّة، وباقي ما ذكره ليس بعيداً عن الصواب بحسب فهمي القاصر، بصرف النظر عن طريقته في التعبير أو طريقة نقّاده.

 

نتيجة الكلام في استخارة الرقاع

والراجح بنظري المتواضع أنّ استخارة ذات الرقاع والبنادق غير ثابتة بدليل معتبر، بل الأرجح كونها ممّا لا شاهد على الاعتماد عليه إن لم نقل بمهجوريّتها عند القدماء، وعليه فاستخارة الرقاع والبنادق والقرعة والسبحة والمصحف الشريف كلّها غير ثابتة ولا معتمدة.

 

رابعاً: استخارة الطير

ممّا ذكر العلامة الطهراني كتابان في الاستخارة، أحدهما: كتاب خيرة الطير للشيخ أحمد بن سالم بن عيسى البحراني، وثانيهما: كتاب خيرة الطيور في التفأل للحاج الميرزا محمد حسين المرعشي الشهرستاني (1344هـ) المعاصر له. وذكر في الكتاب الأوّل عند تعريفه له بأنّه أخذ بخيرة الطير بعد التجربة، وأنّ الخيرة كأنّها منسوبة إلى الإمام الرضا×([261]).

ونُسب إلى الشيخ يوسف البحراني كتاب خيرة الطيور المجرّبة([262])، ويُفهم من الطهراني في كلامه المتقدّم أنّ نفس كتاب خيرة الطير للشيخ أحمد البحراني نقله الشيخ يوسف البحراني بتمامه في كشكوله المطبوع مع نقص، كما طبع الكتاب نفسه ضمن كتاب آخر، وهو مجمع الأنوار في علم الأسرار وتعبير المنام للشيخ عبدالله بن سيرين.

وبالفعل فقد نقلها البحراني كاملةً في الكشكول دون أن يعلّق عليها لا سلباً ولا إيجاباً، وهو ما يفهم منه سكوته دون إمكان معرفة تبنّيه أو عدمه، لاسيما وأنّ الكتاب هو (الكشكول) المبنيّ على الجمع والضم لا التحقيق والاستناد والإفتاء، فخيرة الطيور ليس كتاباً للشيخ يوسف البحراني، وإنّما هو نَقْلُهُ لكتاب الشيخ أحمد بن سالم البحراني في كشكوله نقلاً حرفيّاً كاملاً.

ولم يرد الحديث عن هذه الاستخارة إلا في هذه الكتب، وأقدم مصدر لها بالنسبة إلينا هو عصر الشيخ يوسف البحراني (1186هـ)، أي القرن الثاني عشر الهجري، ولم ترد ولا حتى اسمها في أيٍّ من الكتب لا في الحديث ولا في الفقه، حتى أنّ ابن طاووس لم يذكرها ولا حتى بنحو الإشارة، رغم استقصائه التام لكلّ شاردة وواردة حول الاستخارات. وسوف ننقل النصّ الكامل الذي نقله لنا الشيخ يوسف البحراني في الكشكول.

إنّه يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم. بعد الحمد والصلاة. فيقول منمّق هذه الكلمات والأحرف كثير الزلات قليل التأسّف، فريد عصره في الذنوب بلا ثاني، أحمد بن سالم بن عيسى البحراني: وقفت على بعض الآثار المنقولة عن الأئمة الأطهار^ في باب الاستخارات، وهو «ما حار من استخار» فتتبّعتها من مظانّها، فإذا هي أنواع شتّى فوجّهت نفسي في تحصيل ما تطمئنّ به النفس منها بالتجارب، فاخترت منها الخيرة المرويّة عن ثامن الأئمة، الشهيرة بخيرة الطير، فجرّبتها مراراً لا تخرّصاً، فوجدتها كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، ولكن العمل بها موقوف على معرفة عشرة دوائر، أربعة منها كبار، وستة صغار، ولكلّ من الدوائر الأربع فيها مطلب، وكلّ مطلب فيها فهو مذكور في الدوائر الست وبالعكس. وأيضاً في وسط كلّ دائرة من الدوائر العشر دائرة صغيرة فيها حرف من حروف التهجّي، وبعد هذه الدوائر دائرة عظيمة مشتملة على أربع وعشرين زاوية، وفي كلّ زاوية منها حرفان من حروف التهجّي، وفي كلّ زاوية اسم طير.

فإذا أردت العمل فانظر حاجتك أولاً في زوايا الدوائر الأربع، ثم انظرها من زوايا الدوائر الست، وخذ حرف التهجّي من الدائرتين اللتين فيهما حاجتك، ثم حصّلهما من أحد زوايا الدائرة العظيمة، ثم قارع آخر، ثم عدّ بعدد القرعة طيوراً وابتدئ (وهنا يضع الشيخ أحمد بن سالم البحراني رسوماً ودوائر يمكن مراجعتها في النسخة الأصليّة من كشكول الشيخ يوسف البحراني) بالطير الذي في سمت الحرفين اللذين في الدوائر العظيمة، ثم خذ الطير الذي انتهى إليه العدد، فهو المطلب.

وينبغي أن تقرأ قبل المقارعة الفاتحة والإخلاص ثلاثاً و(عنده مفاتح الغيب) إلى آخرها، وعليك بالاعتقاد والطهارة قبل ذلك.

(الطاوس ج ط) سؤالك عن قضاء الحاجة، إعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن التحويل والنقل أسرع تنال كلّ ما تريد. سؤالك عن طيف رأيته فهو مليح وتعبيره إلى خير. سؤالك عن مشتري الأملاك اشتر فإنه مليح إن شاء الله تعالى. سؤالك عن المناظرة والمرافعة إلى القاضي تنصر وتظفر. سؤالك عن الخلاص من الغمّ أبشر تُسر وتقرّ إن شاء الله تعالى. سؤالك عن الطلاق لا تعجل فإنّه ليس فيه خير ولا غنيمة. سؤالك عن عمارة الأملاك اعمر واشتر ترى فيه الفائدة. سؤالك عن الحظّ من السلطان ترى منه الحظّ الوافر الكثير. سؤالك عن الوصول إلى المرام اصبر تصل إلى ما تريد إن شاء الله.

(العصفور ك ح) سؤالك عن السفر اعمد إلى القرعة تجد المطلب. سؤالك عن قضاء الحاجة تقضى سريعاً كما تحبّ وتريد. سؤالك عن التحويل والتنقّل لا تعجل والخير في الصبر. سؤالك عن طيف رأيته فإنّه يعبر بالخير وبما يسرّك. سؤالك عن مشتري الأملاك اجهد وجدّ تلقى الفائدة. سؤالك عن المناظرة إلى القاضي فاحذر فإنّه لا خير فيه. سؤالك عن الخلاص من الغمّ أبشر فإنّ الله يفرّج عن قريب. سؤالك عن الطلاق لا تفعل فإنّك لا ترى فيه خيراً. سؤالك عن عمارة الأملاك ترى الخير والفائدة والبركة. سؤالك عن التوجّه إلى السلطان اقصد ترى الخير والبركة.

(الكركي ج م) سؤالك عن الظفر بالعدو اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن السفر اعزم تجد الفائدة والربح والخير. سؤالك عن قضاء الحاجة أبشر فإنّها تقضى كما تحبّ. سؤالك عن النقل والحركة أسرع ترى السعادة. سؤالك عن طيف رأيته لا تُظهره لأحد واكتمه عن الناس. سؤالك عن مشتري الأملاك اشتر وأبشر بالفائدة. سؤالك عن المحاكمة إلى القاضي احترز من ذلك واحذر. سؤالك عن الخلاص من الغمّ أبشر ترى الفرح والسرور. سؤالك عن الطلاق احذر كي لا تندم وتخسر. سؤالك عن عمارة الأملاك بادر وأسرع ترى الفائدة.

(الهدهد ج ف) سؤالك عن حال المريض اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الأعداء ومناظرتهم احذرهم تنجو من شرّهم. سؤالك عن السفر احذر كيلا ترى الخسارة والشدّة والتعب. سؤالك عن قضاء حاجتك الحاجة متعسّرة فلا تعجل. سؤالك عن التنقل والتحويل اصبر لا تعجل فليس فيه فائدة. سؤالك عن طيف رأيته أبشر فإنّ تعبيره خيرٌ يسرّك. سؤالك عن مشتري الأملاك في وقت آخر يسهل. سؤالك عن المحاكمة إلى القاضي اعزم وتوكّل ترى الظفر. سؤالك عن الخلاص من الغمّ اصبر أيّاماً ترى الفرج. سؤالك عن الطلاق لا تعجل كي تندم.

(الديك ج ي) سؤالك عن الغائب اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن حال المريض أبشر يُشف سريعاً إن شاء الله تعالى. سؤالك عن العدو أبشر تظفر به سريعاً إن شاء الله تعالى. سؤالك عن السفر اعزم وتوكّل فإنّه مليح فيه خير وسعادة. سؤالك عن قضاء حاجتك تقضى سريعاً كما تحبّ وترضى. سؤالك عن التنقّل والتحويل لا تعجل كيلا تندم وتتأسّف. سؤالك عن طيف رأيته اكتمه ولا تظهره لأحد. سؤالك عن مشتري الأملاك اشتر ترى الخير والفائدة. سؤالك عن المحاكمة إلى القاضي احذر فإنّ الخصم غالب. سؤالك عن الخلاص من الغمّ أبشر فإنّ الفرج قريب والفرح كثير.

(الباشق ج لا) سؤالك عن الضائعة اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الغائب يصل بعد مدّة بالسلامة والخير والبركة. سؤالك عن المريض يشفى بعد أيّام من غير ضرر إن شاء الله تعالى. سؤالك عن العدو احذر منه فلا تظفر عليه إلا بتعب. سؤالك عن السفر فإنّه ليس مناسباً في هذا الوقت. سؤالك عن قضاء حاجتك تقضى كما تريد وتحبّ. سؤالك عن النقل والحركة بادر إليه فإنّه مليح ومناسب. سؤالك عن طيف رأيته تعبيره مليح وفيه الخير والمسرّة. سؤالك عن مشتري الأملاك احذر فإنّ لا فيه فائدة. سؤالك عن المحاكمة إلى القاضي أبشر فإنّ لك الظفر.

(الصقر ص ط) سؤالك عن الحامل اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الضائعة تأمّل الخير فإنّ الرجوع يحصل. سؤالك عن الغائب يبطيء في سفره فاستعذ بالله عز وجل. سؤالك عن المريض يشفى من مرضه سريعاً إن شاء الله تعالى. سؤالك عن العدوّ ولا تظفر منه احذر منه غاية الحذر. سؤالك عن السفر احذر فإنّ ما فيه فائدة ولا خير ولا بركة. سؤالك عن قضاء حاجتك تقضى إن شاء الله تعالى. سؤالك عن التحويل والنقل والحركة في هذا الوقت لا ينفع أبداً. سؤالك عن طيف رأيته تعبيره الخير والسعادة والتوفيق. سؤالك عن مشتري الأملاك اشتر فإنّه مليح نافع مجرّب.

(العقاب ص ك) سؤالك عن المحبّة اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الحامل تلد أنثى مباركة القدم وفيها الخير. سؤالك عن الضائعة لا يأس من رحمة الله فإنّك تظفر. سؤالك عن الغائب يصل إليك سريعاً كما تحبّ وتريد. سؤالك عن المريض يبطي في مرضه والعاقبة إلى خير وسلامة. سؤالك عن العدوّ أبشر فإنّ الظفر لك إن شاء الله تعالى. سؤالك عن السفر أخّره إلى وقت تنجو من الملامة. سؤالك عن قضاء الحاجة فإنّها موقوفة على الصبر والتأمّل. سؤالك عن التحويل والنقل ليس في ذلك صواب ولا خير. سؤالك عن طيف رأيته أبشر ينالك خير كثير.

(البط ص ي) سؤالك عن التجارة اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن المحبّة والمحبوب تظفر بالمطلوب سريعاً. سؤالك عن الحامل فإنّها تلد ولداً مباركاً ذكراً ميموناً. سؤالك عن الضايعة آمن بالله تجد ما ضيّعت ويرجع سريعاً. سؤالك عن الغائب يجيء سريعاً على ما تريد وتهوى وتطلب. سؤالك عن المريض يشفى إن شاء الله تعالى ويعافى من مرضه. سؤالك عن الأعداء تحذّر منهم لا يظفروا عليك. سؤالك عن السفر لا تتحرّك من مكانك تنجو من الملامة. سؤالك عن قضاء الحاجة أبشر فإنها تقضى سريعاً بإذن الله. سؤالك عن النقل والتحويل لا تتحرك فإنّه غير نافع.

(الدراج ص ف) سؤالك عن مشتري الحيوانات اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن التجارة ما فيها مصلحة ولا فائدة ولا بركة. سؤالك عن المحبوب تظفر به على ما تريد وتهوى وتشتهي. سؤالك عن الحامل تلد ولداً مباركاً في أسرع وقت وحين. سؤالك عن الضائعة لا تصل إليك إلا بالتعب والمشقة والأذى. سؤالك عن الغائب يجيء بإذن الله تعالى سالماً سريعاً غانماً. سؤالك عن الأعداء هم يجدون لك في المضرّة واحذرهم. سؤالك عن السفر لا فيه فائدة ولا مضرّة ولا خير ولا شرّ. سؤالك عن قضاء حاجتك تُقضى بعد أيّام إن شاء الله تعالى.

(العلق ص ي) سؤالك عن المعاش والرزق اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن مشتري الحيوانات لا تشتري فإنّ ما فيه فائدة. سؤالك عن المحبوب تظفر به سريعاً وتنال مطلوبك ومرادك. سؤالك عن الحامل تلد أنثى مباركة القدم والبركة فيها. سؤالك عن الضائع تصدّق بشيء تراه إن شاء الله تعالى. سؤالك عن الغايب يبطيء ولكنّه يجيء سريعاً سالماً مسلماً بإذن الله. سؤالك عن المريض يشفى بعد أسبوعين إن شاء الله. سؤالك عن العدو أبشر فإنّ الله يظفرك عليه ويعينك. سؤالك عن السفر قرّ عينك وتلقى ما تريده وترجاه.

(العقعق ص لا) سؤالك عن البيع اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن المعاش بعد يومين إن شاء الله ترزق خيراً كثيراً. سؤالك عن مشتري الحيوانات اشتر ترى الفائدة. سؤالك عن التجارة موافقة للفائدة وفيها المنفعة والربح. سؤالك عن المحبوب تظفر به إن شاء الله تعالى. سؤالك عن الحامل تلد ولد مباركاً جميلاً بإذن الله تعالى. سؤالك عن الضائعة تصل إليك كما تحبّ وتريد وتودّ. سؤالك عن المريض يكون أياماً في زحمة عظيمة ومشقّة. سؤالك عن الأعداء تظفر بهم إن شاء الله وتُنصر عليهم.

(الرخم س ط) سؤالك عن الحجّ اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن البيع لا تبع فإنّك تأسف وتندم وتخسر. سؤالك عن المعاش أبشر فإنّك تنال خيراً كثيراً مباركاً. سؤالك عن مشتري الحيوانات لا تشتر فإنّ ليس فيه فائدة. سؤالك عن التجارة ترى فيه مكسباً وراحة وسعة رزق. سؤالك عن المحبوب اعلم أنّه ليس بصادق معك ولا موافق لك. سؤالك عن الحامل تلد أنثى مباركة القدم والاقدام. سؤالك عن الضائعة تصل إليه سريعاً كما تحبّ وترضى. سؤالك عن الغائب تراه قريباً كما تريد بإذن الله تعالى.

(القنبرة س ك) سؤالك عن الزواج اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الحجّ توجّه ترى الفائدة والبركة والخير. سؤالك عن البيع بع وتوكّل على الله ترى الفائدة والبركة. سؤالك عن المعاش والرزق ترى الخير والبركة والسعة. سؤالك عن مشتري الحيوانات اشتر ترى خيراً كثيراً وسعة. سؤالك عن التجارة اعزم ترى الخير والبركة وسعة الرزق. سؤالك عن المحبوب ترى ما تهوى من مرام الخاطر والمراد. سؤالك عن الحامل تلد ولداً مباركاً إن شاء الله تعالى. سؤالك عن الضائعة تلقاها بعد مدّة طويلة وأيام كثيرة. سؤالك عن الغائب يجيء سريعاً إن شاء الله تعالى.

(البازي س م) سؤالك عن الشركة اقصد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الزواج ما فيه في هذا الوقت خير ولا فائدة. سؤالك عن الحج توقّف لا تعجل في هذا الوقت واصبر. سؤالك عن البيع بع وتوكّل على الله فإنّه مبارك طيب. سؤالك عن المعاش والرزق يأتيك رزقاً واسعاً كثيراً. سؤالك عن مشتري الحيوانات احذر ما فيه ولا بركة ولا خير. سؤالك عن التجارة ما يتيسّر في هذا الوقت اصبر وتأمّل. سؤالك عن المحبوب هو مشغول عنك بغيرك وتاركك. سؤالك عن الحامل تلد أنثى مباركة القدم والاقدام. سؤالك عن الضائعة لا تقنط من رحمة الله يرجع بإذن الله.

(الطوطي ف س) سؤالك عن الوصول إلى المرام اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الشركة شارك تجد الخير والبركة والسعة. سؤالك عن الزواج تزوّج ترى الخير واليُمن والبركة والهناء. سؤالك عن البيع فإنّ ما فيه بركة لا تبع وتأمّل. سؤالك عن الحجّ لا تعجل فإنّ ما فيه فائدة ولا مصلحة. سؤالك عن المعاش والرزق ترى رزقاً واسعاً وخيراً كثيراً. سؤالك عن مشتري الحيوانات لا تشترِ فإنّ ما فيه فائدة. سؤالك عن التجارة في هذا الوقت ما فيه فائدة ولا خير. سؤالك عن المحبوب ما معك قرب ابعد منه واتركه. سؤالك عن الحامل تلد أنثى مباركة القدم.

(الحمامة ي س) سؤالك عن الحظّ اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الوصول إلى المرام أبشر تظفر بما تروم وتطلب. سؤالك عن الشركة احذر فإنّ ما فيه فائدة ولا خير ولا بركة. سؤالك عن الزواج لا تعجل فإنّ ما فيه خير ولا بركة. سؤالك عن الحجّ لا تعجل في هذا الوقت فإنّك لا تجد المطلوب. سؤالك عن البيع لا تعجل فإنّ ما فيه فائدة ولا بركة. سؤالك عن المعاش والرزق توجه إليك الإقبال سريعاً. سؤالك عن مشتري الحيوانات لا تشترِ ما هو بنافع. سؤالك عن التجارة لا تعزم عليها في هذا الوقت اصبر وتأمّل. سؤالك عن المحبوب هو متعلّق بغيرك لا ترجاه ولا تهواه.

(الغراب س لا) سؤالك عن عمارة الأملاك اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن السلطان والحظّ منه احذر ما لك فيه فائدة. سؤالك عن الوصول إلى المرام تصل إليه بعد المشقّة والتعب. سؤالك عن الشركة ما لك فيها فائدة ولا صلاح ولا خير. سؤالك عن الحج اعزم عليه فيه اليمن والخير والصلاح والبركة. سؤالك عن البيع لا تعجل فإنّ ما فيه فائدة ولا خير ولا بركة. سؤالك عن المعاش والرزق تنال الرزق سريعاً وتربح. سؤالك عن مشتري الحيوانات اشتر فإنّه مبارك جيّد تربح. سؤالك عن التجارة فإنّ ما فيها فائدة ولا مكسب ولا مغنم.

(الحضرمي ط ع)سؤالك عن الطلاق اعمد إلى القرعة تجد المطلب. سؤالك عن عمارة الأملاك اعمر وعجّل ترى حاجتك تقضى. سؤالك عن الحظّ من السلطان اقصد ترى الحظ والفائدة. سؤالك عن الوصول إلى المرام تبلغ ما تروم إن شاء الله تعالى. سؤالك عن الشركة احذر فإنّ ما فيها فائدة ولا خير ولا بركة. سؤالك عن الزواج اصبر لا تعجل لئلا تندم وتخسر وتتأسّف. سؤالك عن الحجّ أسرع ترى الخير والفائدة والسعادة. سؤالك عن المعاش والرزق ترى ما تروم بالتمام. سؤالك عن مشتري الحيوانات اشتر فإنّ فيها الراحة.

(الشاهين ك ع) سؤالك عن الخلاص من الغمّ اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الطلاق إن عزمت طلّق فإنّه مليح مبارك. سؤالك عن عمارة الأملاك عجّل واعمر ترى الخير والبركة. سؤالك عن الحظّ من السلطان ابعد عنه في هذا الوقت. سؤالك عن الوصول إلى المرام تصل إلى ما تروم وتريد إن شاء الله. سؤالك عن الشركة اعزم وشارك ترى الخير والفائدة والبركة. سؤالك عن الزواج تزوّج ترى الخير والفائدة والسعادة. سؤالك عن الحجّ فإنّه متيسّر لك إن شاء الله تعالى فعجّل تنال المطلوب. سؤالك عن البيع والشراء لا تبع ولا تشري فإنّه ليس فيه فائدة. سؤالك عن المعاش والرزق ترى السعادة والرزق الواسع.

(طوطي م ع) سؤالك عن المحاكمة اقصد عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن الخلاص من الهمّ ترى الفرج عن قريب إن شاء الله. سؤالك عن الطلاق احذر لكي لا تندم وتغتمّ وتهتمّ. سؤالك عن عمارة الأملاك عجّل وأسرع واعمر ترى الخير. سؤالك عن الحظّ من السلطان يصل إليك منه صلة وشفقة. سؤالك عن الوصول إلى المرام تبلغ ما تروم إن شاء الله تعالى. سؤالك عن الشركة مليحة والعاقبة إلى خير وعافية. سؤالك عن الزواج أبشر تراها جميلاً حسناً وترزق منه خير كثير. سؤالك عن الحج لا تعزم فإنّه في غير هذا الوقت أيسر وأجمل. سؤالك عن البيع فإنّه مليح في العاقبة إن شاء الله تعالى.

(البلبل ق ع) سؤال عن مشتري الأملاك اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن المحاكمة إلى القاضي ترى الظفر والغلب بإذن الله. سؤالك عن النجاة من الغمّ ترى الفرج عن قريب إن شاء الله تعالى. سؤالك عن الطلاق احذر لا تطلّق تندم وتهتمّ. سؤالك عن عمارة الأملاك ما لك فيها فائدة ولا بركة. سؤالك عن الحظّ من السلطان تنال العزّ والخيرات والرزق. سؤالك عن الوصول إلى المرام لا يتيسّر في هذا الوقت. سؤالك عن الشركة شارك واعزم ترى الفايدة. سؤالك عن الزواج فإنّها موافقة مباركة لك. سؤالك عن الحج بادر إليه فإنّه مليح في الغاية.

(الورشان ي ع) سؤالك عن طيف رأيته اعمد إلى عدد القرعة تجد المطلب. سؤالك عن مشتري الأملاك لا تشترِ ليس فيه فائدة. سؤالك عن المناظرة إلى القاضي احذر لا خير فيه. سؤالك عن الخلاص من الغمّ ترى الفرج في قريب. سؤالك عن الطلاق لا تعجل ليس بمليح. سؤالك عن عمارة الأملاك بادر إليه ترى الفائدة, سؤالك عن النصيب من السلطان بادر إليه ترى الفائدة. سؤالك عن الوصول إلى المرام تلقى مرامك سريعاً. سؤالك عن الشركة احذر فإنّها لا فائدة فيها. سؤالك عن الزواج تزوّج ترى الخير والفائدة.

(النعامة لا ع) سؤالك عن النقل والحركة اعمد إلى عدد القرعة تجد المطب. سؤالك عن طيف رأيته لابد أن يصل إليك. سؤالك عن مشتري الأملاك فإنّه ليس فيه فائدة. سؤالك عن المحاكمة إلى القاضي اعمد ترى الظفر. سؤالك عن الخلاص من الغمّ اصبر إلى أن يأتيك الفرج. سؤالك عن الطلاق إن عزمت طلّق فإنّها مليحة. سؤالك عن عمارة الأملاك تأخّر عن ذلك لا صلاح فيه. سؤالك عن الحظّ من السلطان تنال من الجاه والعزّ. سؤالك عن الوصول إلى المرام اطمع فإنه يحصل لك. سؤالك عن الشركة احذر لا تشارك ليس فيه خير.

وإذا لم يكمل عدد المقارعة حيث انقطع إلى هنا فليرجع إلى السؤال ويكمل العدد من هناك»([263]).

هذا هو نصّ الكتاب مع حذف الدوائر والرسوم. ومعنى هذا كلّه أنّه لو أراد شخصٌ الاستخارة إما أخذ تسع ورقات وجعلها كمن يريد أخذ القرعة منها، أو يضعها على ورقة واحدة مكتوبة عليها هذه الأرقام بشكل مبعثر، ثم يضع إصبعه بطريقة عشوائية ليرى الرقم الذي خرج له. هذا بعد الوضوء ونحو ذلك، فإذا نظم الأحرف ووصل إلى الدائرة الكبيرة عند (ص لا) مثلاً، وكان قد خرج له رقم (خمسة) فإنه يعد (ص لا) رقم واحد ويصعد إلى أن يصل إلى الخامس وسوف يكون (س ف)، أي الطوطي، فيذهب إلى الشرح فإن كان أراد بيع شيء فسيجد هناك جملة (ما فيه بركة لا تبع وتأمل) وتكون هذه هي نتيجة الاستخارة.

وعلى أيّة حال، فهذه الاستخارة لم نعثر لها على أصل قبل القرن الثاني عشر الهجري، أي مع كتاب الكشكول الذي ينقلها عن الشيخ البحراني الذي وصفه الشيخ علي البحراني في (أنوارالبدرين) بالعالم العامل التقيّ الرباني([264]).

وقد انتقد السيد محسن الأمين العاملي ـ عند ترجمته لهذا الشيخ ـ هذه الاستخارة، وقال: «.. فهي المعروفة بقرعة الطيور.. وهي نوع من الحيل والشعبذة، قد رتّبت على ترتيب خاص.. ونسبتها إلى جعفر الصادق× زورٌ وبهتان، فإن كان هذا الشيخ هو الذي عملها ورتّبها فهي إلى القدح فيه أقرب من المدح له..»([265]).

وذكره للإمام جعفر الصادق، لعلّ سببه هو صاحب أنوار البدرين على الظاهر، مع أنّ الموجود في كشكول البحراني روايتها عن الإمام الرضا×، ولعلّ لها مصدراً آخر لا نعلمه. وأما كونها من الحيل والشعبذة، فلعلّ ما دفعه إليه هو وجود هذه الدوائر فيها بطريقة تشبه الطلاسم، فإذا فعلها شخصٌ آخر للمستخير فإنّه قد يتمكّن من معرفة نيّته، إلا أنّ إثبات وصف الحيل والشعبذة فيها صعب.

وقد نقل يوسف إليان سركيس في (معجم المطبوعات العربية) كتاباً اسمه «قرعة الطيور لإستخراج الفال والضمير»، وقال بأنّه طبع على الحجر في مصر([266])، وهذا يعني احتماليّة استخدامها من قبل طرفٍ ثان، ولعلّه نفس كتاب البحراني أو الشهرستاني.

وعلى أية حال، فهي استخارة غير ثابتة ويصعب جداً نسبتها إلى أحد الأنبياء أو الأئمة، بل هي في غاية الوهن بعد فقدان المصدر والسند، وبعد إعراض المتأخّرين عنها، فضلاً عن المتقدّمين.

 

خامساً: استخارة القلب أو العزم

ورد هذا النوع من الاستخارة الاستشارية في بعض النصوص، ويُقصد به أن يقوم العبدُ ببعض الأعمال المقدّمية كالطهارة والصلاة أو الدعاء، ثم يتوجّه إلى الله تعالى، فما يحسّ به في قلبه أو يلهمه الله إياها فينفثه في روعه يكون هو المطلوب والمرغوب له، فإذا نوى السفرَ فعل ذلك فإن شعر في قلبه بعدها بإرادة السفر كانت الاستخارة إيجابيّةً وإن شعر بالعدم كانت سلبيّة.

وأهمّ النصوص الواردة في هذا النوع من الاستخارة هو:

الرواية الأولى: خبر المنصوري، عن عمّ أبيه، عن الإمام علي بن محمد، قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال: حدّثني أبي علي بن موسى قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر×قال: قال سيدنا الصادق×: «إذا عرضت لأحدكم حاجة فليستشر الله ربّه، فإن أشار عليه اتّبع، وإن لم يشر عليه توقّف» قال: فقلت: يا سيدي، وكيف أعلم ذلك؟ قال: «تسجد عقيب المكتوبة، وتقول: اللهم خِر لي، مائة مرة، ثم تتوسّل بنا، وتصلّي علينا، وتستشفع بنا، ثم تنظر ما يلهمك تفعله، فهو الذي أشار عليك به»([267]).

وهذه الرواية تتصل مباشرةً بفكرة الاستشارة دون توسّط تعبير الاستخارة في البداية، لكنّه بعدها يذكرها صراحةً في الدعاء. إلا أنّ إثبات صدور هذه الرواية يبدو لي صعباً؛ إذ فضلاً عن أنّ سندها ينتهي بالإمام الكاظم الذي يفترض أنّه سأل الإمام الصادق، مع وجود تعابير (سيدي) في سؤال السؤال، مع حديثه معه عن الاستشفاع بهم (ما لم نجعل السؤال الثاني راجعاً جوابه إلى الإمام العسكري، فيما النقل خاصّاً بما قبل سؤال السائل)، فإنه ـ أي السند ـ ضعيف؛ فإنّ محمّد بن أحمد بن عبيد الله المنصوري الوارد في السند يروي عنه الطوسي بواسطة شيخه المفيد، فهو من مشايخ المفيد&، كما يظهر([268])، وهو من مشايخ الفحّام الذي هو أيضاً شيخ الطوسي، كما هو ظاهر هذه الرواية نفسها، وهذا الرجل لم يوثقه أحد من علماء الشيعة والسنّة، وإن كان شيخاً للمفيد([269])، كما أنّ (عمّ أبيه) واسمه عيسى بن أحمد بن عيسى بن المنصور أبو موسى السرّ من رائي مجهول الحال، حيث لم يوثّقه أحد([270])، فالسند ضعيف.

الرواية الثانية: معتبرة عليّ بن أسباط، قال: كنت حملت معي متاعاً إلى مكّة فبار عليّ، فدخلت به المدينة على أبي الحسن الرضا× وقلت له: إنّي حملت متاعاً قد بار عليّ، وقد عزمت على أن أصير إلى مصر، فأركب برّاً أو بحراً؟ فقال..: «لا عليك أن تأتي قبر رسول الله‘، فتصلّي عنده ركعتين، فتستخير الله مائة مرة فما عزم لك عملت به..»([271]).

وقد اعتبر العلامة المجلسي هذا الحديث حسناً أو موثقاً([272]). وفي الخبر دلالة على أنّ العزم والحالة النفسية هي المعيار في الموضوع، والخبر معتبرٌ من حيث السند، إلا إذا قيل: إنّ غايته الدعاء والعمل بعده، لا كاشفيّة العزم عن الخير.

الرواية الثالثة: خبر الفقه الرضوي قال: «وإذا أردت أمراً فصلّ ركعتين، واستخر الله مائة مرّة ومرّة، وما عزم لك فافعل، وقل في دعائك..»([273]).

ولكنّ هذا الخبر ضعيف السند؛ إذا اُحرز كونه خبراً، وقد نقل الشيخ الصدوق أنّ والده قال له.. وذكر شبيه ما جاء في الفقه الرضوي([274])، وهو من مرجّحات القول بأنّ الفقه الرضوي قد يكون للصدوق الأوّل لا للإمام الرضا عليه السلام.

ويأتي في هذا الخبر أيضاً ما أثرناه من احتمالٍ دلاليّ في الخبر الثاني المتقدّم.

الرواية الرابعة: ما ذكره السيد ابن طاووس عن كتاب رسائل الأئمة للشيخ الكليني، فيما يختصّ بالإمام الجواد× قال: ومن كتابٍ إلى علي بن أسباط: «.. وفهمت ما استأمرت فيه من أمر ضيعتيك اللتين تعرّض لك السلطان فيهما، فاستخر الله مائة مرّة خيرةً في عافية، فإن أحلولى في قلبك بعد الاستخارة فبعهما، واستبدل غيرهما إن شاء الله..»([275]).

وهذه الرواية ذكرها الشيخ الكليني نفسه في الكافي([276])، لكنّه لم يذكر المقطع المتّصل بالاستخارة، والذي نقلناه آنفاً، ونقله عنه في التهذيب دون أيّ نقل لنص الاستخارة أساساً([277])، كما أتى على ذكر هذه الرواية ـ دون مقطع الاستخارة ـ الطبرسيُّ في كتابه مكارم الأخلاق([278]).

وعلى أيّة حال، لا يمكن الجزم بصحّة المقطع المختصّ بالاستخارة؛ إذ لو اعتبرنا أنّ كتاب رسائل الأئمة للكليني قد وصلت نسخةٌ منه بطريقٍ معتبر إلى السيد ابن طاووس، فإنّ نقل ابن طاووس لم يأت على ذكر سند الكلينيّ نفسه إلى علي بن أسباط. نعم، السند الموجود في الكافي صحيح ومعتبر، لكنّ المقطع غير موجود، ومن غير المعلوم أنّ نفس سند الكليني في الكافي هو سنده في رسائل الأئمة، إذ من الممكن أنّه قد وصلته الرواية بطريقين: أحدهما ما في الكافي فنقله هناك دون ذكر مقطع الاستخارة، وثانيهما ما في رسائل الأئمّة، وقد يكون مرسلاً وقد يكون لو انكشف لنا ضعيفاً بأحد الرواة، وإن كان من المظنون وحدة السند، ولكنّ الظنّ هنا لا يغني من الحقّ شيئاً. وعلى أيّة حال، فدلالة الرواية لا بأس بها.

الرواية الخامسة: ما نقله السيد ابن طاووس عن كتاب فردوس الأخبار أنّ النبي‘ قال: «يا أنس، إذا هممت بأمرٍ فاستخر ربّك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإنّ الخيرة فيه»([279]).

ويعدّ هذا الحديث من الأخبار النبويّة النادرة التي وردت في الاستخارة الاستشارية، وقد ذكر الشوكاني والعيني أنّ ابن السنّي ذكر هذا الحديث من حديث أنس مرفوعاً، ونقل عن النووي أنّ السند غريب، فيه من لا أعرفهم، فيما نقل عن العراقي أنّهم معروفون بالضعف([280]). وقد نقله بعض متأخّري محدّثي أهل السنة([281]).

وعلى أيّة حال، فالطريق ضعيف.

الرواية السادسة: خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبدالله× قال: قلت له: ربما أردت الأمر يفرق منّي فريقان: أحدهما يأمرني والآخر ينهاني؟ قال: فقال: «إذا كنتَ كذلك فصلّ ركعتين واستخر الله مائة مرّة ومرّة، ثم انظر أحزم الأمرين لك فافعله، فإنّ الخيرة فيه إن شاءالله، ولتكن استخارتك في عافية، فإنّه ربما خير للرجل في قطع يده وموت ولده وذهاب ماله»([282]). وقد نقله في بحارالأنوار([283]) عن محاسن البرقي، وهو فيه([284]).

والحديث واضحٌ في الدلالة على معياريّة الحالة القلبيّة وكشفها عن الخير للمستخير، فلا مشكلة من حيث الدلالة، إنّما الكلام في السند ومدى صحّته، وقد وصف المجلسي الخبر بأنّه ضعيفٌ على المشهور([285])، وهو الصحيح؛ فإنّ في السند سهل بن زياد.

الرواية السابعة: ما نقل عن الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا×، عن الصادق× أنه قال: «يسجد عقيب المكتوبة، ويقول: اللهم خِر لي ـ مائة مرة ـ ثم يتوسّل بالنبي والأئمة×، ويصلّي عليهم، ويستشفع بهم، وينظر ما يُلهمه الله فيفعل، فإنّ ذلك من الله تعالى»([286]).

ولكن لم أعثر على الحديث في العيون، فضلاً عن العثور على سندٍ له، ويبدو لي أنّ هذا الخبر هو نفسه خبر أمالي الطوسي المتقدّم عن المنصوري. وعليه فهذا الخبر ضعيف السند.

الرواية الثامنة: صحيحة ابن فضال قال: سأل الحسن بن الجهم أبا الحسن الرضا× لابن أسباط، فقال له: ما ترى له ـ وابن أسباط حاضر ـ ونحن جميعاً نركب البحر أو البرّ إلى مصر، وأخبره بخبر طريق البرّ، فقال: «إئت المسجد في غير وقت صلاة فريضة فصلّ ركعتين، واستخر الله مائة مرّة، ثم انظر أيّ شيء يقع في قلبك فاعمل به» وقال له الحسن: البرّ أحبّ إليّ، قال: وإليّ([287]).

والخبر معتبرٌ سنداً، ودلالته لا بأس بها بعد تجاوز الإشكاليّة المتقدّمة في الحديث الثاني.

إلا أنّ المشكلة تكمن في أنّ هذا الحديث المعتبر سنداً يفيد أنّ ابن أسباط قد كان حاضراً لحظة سؤال ابن فضّال عن الموضوع، والموضوع نفسه والحالة نفسها جاءت في الرواية الثانية المتقدّمة بسندٍ معتبر كذلك، تفيد أنّ ابن أسباط هو الذي سأل الإمام الرضا×، فيحصل نوعٌ من التغاير في نقل الحديث بين المعتبرتين، وكيف تمّ سؤال الإمام فيهما، مما قد يُضعف الوثوق بالصدور.

إلا أنّه قد يقال بأنّ علي بن اسباط قد نقل في المعتبرة حواره مع الإمام، فيما لم ينقل حواره هنا في خبر ابن فضال، فلعلّ ابن الجهم فتح الموضوع مع الإمام بحضور ابن أسباط فنقلت لنا هذه الرواية الأخيرة ذلك، ثم صار حديثٌ بين الإمام وابن أسباط مباشرةً، وهو الذي نقلته المعتبرة السابقة، وربما لم يكن يريد ابن أسباط أن يذكر اسم الحسن بن الجهم في الموضوع، فلا يحصل تنافٍ أو تكاذب بين الحديثين، بل يتقوّيان بضمّهما إلى بعضهما بعضاً.

الرواية التاسعة: خبر اليسع القمّي المتقدّم في الاستخارة بالمصحف، حيث جاء فيه الرجوع إلى القلب. وقد تقدّم تفصيل الكلام في هذه الرواية، كما تقدّم أنّها غير ثابتة سنداً.

هذا هو مهمّ روايات الاستخارة بالقلب، وقد تبيّن أنها:

1 ـ تشتمل على ما هو الصحيح سنداً.

2 ـ أغلب مصادرها ترجع إلى القرن الخامس الهجري وما قبله مثل: الكافي، والتهذيب، ومكارم الأخلاق، ومصباح المتهجّد، وأمالي الطوسي، وفقه الرضا، ومن لا يحضره الفقيه، والمقنع.

3 ـ إنّ بعضها موجودٌ في مصادر الحديث عند أهل السنّة.

مناقشات حول استخارة العزم، تعليقات وردود

ورغم هذا كله، إلا أنّه قد تعرّضت الاستخارة بالقلب ـ وتتعرّض ـ لمناقشات، أبرزها:

المناقشة الأولى: ما ذكره السيد محمّد الصدر، من أنّ الإنسان العادي متوسّط الإيمان بل من هو فوقه، فضلاً عمّن هو دونه، لا ينحصر ما يجده في قلبه أنّه من الإلهام والتسديد، بل هناك الشيطان، وهناك النفس الأمّارة بالسوء، وهناك الهوى وغيرها من العوامل التي تجعل ما يقع في القلب باطلاً، ومع هذا حيث لا تعيّن أنّه من الإلهام لا يجوز العمل به ما لم يحصل الاطمئنان([288]).

وهذا الإشكال يمكن تقديم أكثر من تفسير له:

التفسير الأول: أن يقصد القول بأنّنا لا نعلم هل الذي خطر في قلب المستخير من الله أم لا؟ ومعه لا يمكننا الاعتماد عليه.

وهذا التفسير لا يمكن الأخذ بمضمونه؛ لأنّ روايات الاستخارة بما يقع في القلب لا تبيّن بالضرورة طريقاً يقينيّاً لا يتخلّف، بل هي ترشد إلى سبيل يغلب الظنّ بمطابقته للواقع، وهذا المقدار من الطريقية كافٍ في إمكان الأخذ بمضمون النصوص هنا، تماماً كحجيّة الظهور أو أخبار الآحاد، فإنّ نفس الإشكال يجري، فالحلّ هناك هو الحلّ هنا.

التفسير الثاني: أن يُقصد أنّ تعبير «الإلهام» الوارد في هذه النصوص خاصّ بما يلقيه الله، والإنسان متوسّط الإيمان يصعب عليه إحراز الموضوع هنا، أي إحراز أنّ ما ألقي في قلبه هل هو من الله تعالى حتى يرتب الأثر الموجود في النصوص والعمل بالاستخارة أم أنّه ليس من الله حتى لا يكون معنى لترتيب الأثر، بعد فرض أنّ الأثر ترتّب على الإلهام الذي يكون من الله ويوقعه الله سبحانه في قلب العبد.

ويناقش:

أولاً: إنّ هذا الاشكال مبنيّ على فرض القضية التقديرية في النصوص، لا القضية الخبريّة، فلو كان مضمون النصوص تقديريّاً، أي إذا ألهمك الله في قلبك كان هذا هو الذي فيه الخير، فهنا يرد الإشكال، وأما إذا كانت النصوص بنحو الإخبار، أي: إنّ ما وقع في قلبك هو إلهام الله تعالى لك، فهنا لا معنى للإشكال؛ لأنّ النصوص بنفسها تتعهّد كون الملقى في القلب هو من الله، وتخبر عن تحقّق الموضوع. وبعض النصوص ظاهر في الإخبار، مثل الخبر الخامس الذي رواه ابن طاووس.

ثانياً: إنّ بعض النصوص لم يكن الإلهام المنتسب إلى الله هو الموضوع فيها، بل مطلق ما يقع في القلب، مثل صحيحة ابن فضال (حديث رقم 8)، وخبر إسحاق بن عمار (رقم 6). نعم بعضها ظاهر في أخذ قيد الإلهام الإلهي مثل خبر الصدوق (رقم7).

ثالثاً: تارةً نأخذ هنا الأحاديث كلّها بنظر الاعتبار، وأخرى نأخذ ما صحّ سنده ودلالته، فعلى الأوّل نجد النصوص فيها ما يرد عليه هذا الإشكال فنطرحه، وفيها ما لا يرد ـ كما قلنا ـ فنبقيه، ولا موجب لطرح الجميع نتيجة ضعف البعض فقط.

وأما إذا أخذنا ما صحّ سنده، وهو خبر ابن أسباط (رقم 2) وخبر ابن فضال (رقم 8)، و خبر رسائل الأئمة على تقدير صحّته (رقم4)، فهذه النصوص تعلّق الموقف على مطلق ما يقع في القلب، فتصلح، ولا يرد عليها الإشكال ويكفي في حيثيّتها كثرة مطابقة ما يقع في القلب للواقع، فتكون في مقام إعطاء العبد سبيلاً معتبراً راجحاً للعمل ولا ضير في ذلك.

رابعاً: هذا كلّه فضلاً عن أنّ من هو عالي الإيمان أنّى له أن يجزم بالإلهام الإلهي، فلا يكون الإشكال ـ لو تمّ ـ خاصّاً بمن هو متوسّط الحال.

المناقشة الثانية: ما ذكره السيد الصدر أيضاً، من إعراض مشهور العلماء وسيرة المتشرّعة منذ زمن غير قريب عن هذه الاستخارة، ولعلّ ذلك لما جاء في المناقشة الأولى أو غيرها، و إعراضهم كافٍ في سقوط رواياتها عن الحجيّة أو جعلها على خلاف الاحتياط على أقلّ تقدير([289]).

إلا أنّ الحقّ أنّني بعد الفحص والتتبّع لم أجد الفقهاء المتقدّمين ذكروا هذه الاستخارة، عدا الصدوق في المقنع نقلاً عن رسالة والده، وسائر مصادرها إنّما هي كتب الحديث، فغايته يمكن القول بأنّ الكليني والصدوق أخذا بهذه الاستخارة، ويصعب الجزم بأخذ غيرهما بها كالمفيد والمرتضى وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس وسلار وغيرهم، لكن إذا بُني على هذا المنهج فلابد لنا أن ننتهي إلى ما انتهى إليه ابن إدريس من حصرها بالدعاء قبل الفعل، فإنّ هذا هو الذي يمكن القول بأنّه القدر المتيقن من الكلمات، ومعه فلا يصحّ من المستشكل هنا جعل استخارة المصحف أو السبحة مثلاً هي المعتمدة وترك استخارة القلب بحجّة الإعراض، فإنّ الإعراض لو استحكم لم يسلم منه سوى مطلق الدعاء، وإذا لم نقبل به كان لزوماً علينا الأخذ بروايات استخارة القلب لوجود الصحيح فيها وتداولها في المصادر الأم.

يضاف إلى ذلك أنّ إعراض المتشرّعة عن ذلك أو قلّة عملهم به ربما يرجع إلى أنّ العبد يظلّ متحيّراً عادةً، فكأنّه يطلب من يعطيه الجواب خارج ذاته، فيذهب ناحية الوسائل الأخرى، لا لضعف هذه الاستخارة.

على أنّني لم أفهم الوجه في كون هذه الاستخارة خلاف الاحتياط دون غيرها، فإن قصد أنّ إعراضهم يسقطها عن الحجيّة فتصبح بمثابة الخبر الضعيف والعمل به من باب التسامح لا مانع منه، حيث إنّ المستشكل يعمل بقاعدة التسامح، كما يظهر من سائر كتبه، فما وجه مخالفة الاحتياط حينئذٍ؟! وإن قصد أنه لا يحرز مطابقتها للواقع لأجل احتمال دخول الهوى والشيطان، فإنّ الاحتمال المذكور ـ أي عدم المطابقة للواقع ـ يجري عنده في مطلق الدعاء عندما لا تتحقّق شروطه، فلو استخار الإنسان العادي بالمصحف لجرى الأمر عينه، لاحتمال عدم الاستجابة بعد عدم تحقّق شروط الدعاء منه، والتي بيّنها& نفسه، فما وجه مخالفة الاحتياط هنا دونه هناك؟ هذا ما لم يتّضح لي.

المناقشة الثالثة: ما ألمحت إليه آنفاً، من أنّ الروايتين المعتبرتين ليس فيهما إشارة إلى حيثية الكشف وترتيب الأثر وجواب الاستشارة، بل غاية ما فيهما هو الدعاء والعمل بما يقع في قلبه، وهذا غير حيثية الكشف التي بيّنتها الروايات الأخرى، فالصحيح من الروايات لا يثبت هذه الاستخارة بحيثيّة أنّ الله يوقع في القلب، بل تثبت الدعاء، ثم العمل بما يقع في القلب، والضعيف من الروايات بعضه يفيد الكاشفيّة، وعليه فالمقدار الصحيح سنداً أو الموثوق صدوراً من النصوص لا يثبت هذه الاستخارة بالمعنى الكشفي المتداول في الاستخارات الاستشاريّة، وإنّما يثبت وظيفة محدّدة حال التحيّر وهي فعل الاستخارة ثم العمل على ما صار عليه العزم.

إلا انّ هذه المناقشة فيها ضربٌ من التدقيق، فالحالة جاءت في سياق حال من التحيّر، والإمام أعطاه الحلّ، وهو الاستخارة، ثمّ العمل بما عزم عليه بعدها، وهذا كاشف عرفاً عن أنّ الاستخارة ترفع هذا التحيّر، وهذا معناه أنّ ما هو الخير له هو العمل بما عزم عليه، نتيجة توجيه الإمام له بفعل ذلك، وهذا كافٍ في البعد الكشفي للاستخارة.

والنتيجة: إنّ استخارة القلب ثابتة بالأخبار المتعدّدة، وبعضها صحيح، وهي أقوى ثبوتاً من سائر الاستخارات الاستشارية، لكنّها أقل قوّةً من الاستخارة الدعائيّة المحضة، إن لم نقل ـ على احتمال ولو ضعيف ـ بأنّها ليست غيرها.

 

سادساً: الاستخارة بالاستشارة

يقصد بهذه الاستخارة أن يقوم الشخص بالتوجّه إلى الله تعالى كما يفعل في سائر الاستخارات، ويدعوه، ثم يتوجّه إلى الآخرين فيستشيرهم، فما شاروا له عليه كانت فيه مشورة الله، ويعمل به، فإن قالوا له أن يفعل الفعل كانت نتيجة الاستخارة هي الإيجاب، وإن أشاروا عليه بتركه، كانت النفي والترك وهكذا، أو على الأقلّ أنّ الله يجري الحقّ على لسان واحدٍ منهم.

وتمتاز هذه الاستخارة عن سائر أنواع الاستخارات الاستشارية أنّها مؤيّدة بكلّ النصوص القرآنية والحديثية الدالّة على الحث على مشاورة الآخرين والاستفادة منهم، إذ على سائر روايات وطرق الاستخارة سوف تتقلّص مجالات المشورة على خلاف هذه، وهذه نقطة امتياز لصالح هذه الاستخارة حتى عن استخارة القلب، إذ استخارة القلب ليس فيها دعوة للتفكير، بل للتسليم، فليلاحظ.

وقد وردت في هذه الاستخارة مجموعة من الروايات لا بأس بذكرها هنا وهي:

الرواية الأولى: ما ذكره الشيخ المفيد وغيره قال: روي عن الصادق× أنه قال: «إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً، حتى يبدأ، فيشاور الله عزّ وجل»، فقيل له: وما ومشاورة (ما يشاوره) الله عزّ وجل؟ فقال:«يستخير الله تعالى فيه أوّلاً، ثم يشاور فيه، فإنّه إذا بدأ بالله، أجرى الله له الخير على لسان من شاء (يشاء) من الخلق»([290]).

وجاء الخبر في المصادر الأخرى بالسند إلى هارون بن خارجة، والسند صحيح في المحاسن.

والحديث واضح في ضرورة التوجّه إلى الله تعالى قبل التوجّه للتشاور مع أحد غيره، وتكون نتيجة مشاورته ظاهرة على لسان أحد من الخلق.

وقد جعل بعضهم ـ كصاحب البحار([291]) ـ رواية المقنعة على حدة، ورواية هارون بن خارجة واحدةً ثانية، مع أنّ مقارنة المتن تعطي وثوقاً بأنّهما وغيرهما رواية واحدة، غايته أنّ المفيد لم يذكر اسم الراوي، فالأفضل في هذه الموارد عدّهما رواية واحدة لا تكثير الروايات بلا دليل موجب لفرض التعدّد بعد وحدة الإمام المرويّ عنه ووحدة المتن بدرجة عالية جداً، وعدم ثبوت تغاير الراوي.

الرواية الثانية: خبر إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبدالله×: «إذا أراد أحدكم أن يشتري أو يبيع أو يدخل في أمر فليبدأ بالله ويسأله» قال: قلت: فما يقول؟ قال: «يقول: اللهم إني أريد كذا وكذا، فإن كان خيراً لي في ديني ودنياي فاصرفه عنّي، ربّ اعزم لي على رشدي، وإن كرهته وأبته نفسي، ثم يستشير عشرةً من المؤمنين، فإن لم يقدر على عشرة ولم يصب إلا خمسة فليستشر خمسة مرّتين، فإن لم يصب إلا رجلين، فليستشرهما خمس مرات، فإن لم يصب إلا رجلاً، فليستشره عشر مرّات»([292]).

ومصدر الخبر حسب الظاهر هو السيد ابن طاووس وبعده نقل الآخرون الرواية([293]). والسيد ابن طاووس نقل هذا النص عن كتاب الدعاء لسعد بن عبدالله، وأنّ في كتاب سعد السند التالي: حسين بن علي، عن أحمد بن هلال، عن عثمان بن عيسى، عن إسحاق بن عمار. وبصرف النظر عن طريق ابن طاووس إلى كتاب الدعاء لسعد بن عبد الله القمي (299 أو 301هـ)، إلا أنّ في الطريق اللاحق أحمد بن هلال العبرتائي (267هـ)، ولم تثبت وثاقته. كما أنّ الحسين بن علي هنا هو (الحسن) بن علي الزيتوني الأشعري، وهو أيضاً مجهول الحال. فسند هذا الحديث غير واضح الصحّة ولا بنقيّ.

بل إنّ محقّق كتاب فتح الأبواب لابن طاووس، قد ذكر في بعض الهوامش أنّ النسخة (ش) من كتاب الفتح قد سقط منها كلّ ما نقله ابن طاووس عن سعد في كتاب الدعاء أو الأدعية([294])، ومقصوده من (ش) نسخة مكتبة المرعشي([295]) التي يظهر أنّها ترجع للقرن العاشر الهجري، وهذا ما يضعف الوثوق أكثر بنقل ابن طاووس في الفتح عن كتاب الدعاء لسعد بن عبد الله الأشعري، لا سيما مع كون المتوفّر لفتح الأبواب عند تحقيقه ثلاث نسخ فقط.

هذا، وقد أكثر العلماء هنا ـ ممّن كتب في الاستخارة كصاحب البحار والسيد عبدالله شبر وغيرهما ـ من ذكر روايات حُسن المشورة والشورى، مع أنّها عامة لا ربط لها ببحث الاستخارة إلا من باب الضم والتأييد، وعمدة روايات الاستخارة بالاستشارة ترجع إلى ما نقلناه من الروايتين، وفيهما ما هو الصحيح سنداً بناءً على الأخذ بكتاب المحاسن للبرقي.

والنتيجة: إنّ روايات الاستخارة بالاستشارة قليلة العدد وفيها الصحيح سنداً بناءً على تصحيح نسخة المحاسن، وهي مؤيّدة بكلّ من نصوص الدعاء والمشورة، إذ هي ليست إلا هذين الاثنين مع ترجيح ما يصل إليه رأي المشار.

 

المقاربة الإجمالية لأنواع الاستخارة الاستشاريّة

كان ما استعرضناه هو كلّ أو لا أقلّ الأغلبية الساحقة من روايات الاستخارة الاستشاريّة بأنواعها، وقد قمنا بممارسة تحليل تجزيئيّ لكل نوع منها ومرويّاته، ولا بدّ لنا هنا من وضع نتائج ما توصّلنا إليه، كي ندرسه بشيء من التحليل الإجمالي الكلّي هذه المرّة.

لقد لاحظنا في سلسلة البحث ما يلي:

1 ـ لم نعثر على رواية صحيحة السند في كلّ أحاديث الاستخارة الاستشاريّة، إلا في استخارة القلب، وكذا استخارة الاستشارة (على مبنى تصحيح كتاب المحاسن). أما استخارة الرقاع والبنادق والطير والسبحة و المصحف فكلّها ضعيفة السند.

2 ـ الملاحظ أنّ أقلّ الاستخارات من حيث عدد الروايات ـ بغضّ النظر عن خيرة الطيور التي هي أوهن الاستخارات ـ هي الاستخارة بالاستشارة، لكنّها في نفس الوقت أكثر الاستخارات المؤيّدة من الخارج بنصوص الدعاء والمشورة.

3 ـ إنّ استخارة السبحة إنّما ظهرت منذ السيد ابن طاووس الحلّي في القرن السابع الهجري، وبدت واضحةً في زمن العلامة المجلسي (1111هـ)، وليس لها أيّ حضور على الإطلاق عند المحدّثين أو الزهّاد أو الفقهاء أو المفسرين المسلمين من المذاهب قبل عصر ابن طاووس، حتى أنّ الذين انتقدوا الاستخارة غير الدعائية كابن إدريس الحلّي (598هـ) لم يشيروا أساساً إلى استخارة السبحة التي مع تأخّر زمان ظهورها كانت رواياتها قليلة جداً لا تزيد عن روايتين ضعيفتين كلتاها وِجادة. من هنا ينبغي بحقّ أن نقول: إنّ استخارة السبحة أضعف الاستخارات الاستشاريّة بعد خيرة الطيور التي ظهرت في القرن الثاني عشر الهجري بلا سند ولا مصدر.

4 ـ لو أتينا إلى استخارة المصحف، سنجد روايةً واحدة فقط ظهرت في عصر المصادر الحديثيّة، وهي ضعيفة السند، أما باقي الروايات فكلّها متأخّرة بطرق مرسلة أو بنحو الوِجادة مما لا يمكن الاعتماد عليه إطلاقاً. نعم، ما قد يفيد النهي عن استخارة المصحف من النهي عن التفأل بالكتاب العزيز، لم يصحّ سنداً، وإن كان متداخلاً معها بعض الشيء دلالةً.

والملفت في استخارة السبحة والمصحف والطيور مهجوريّتها عند المتقدّمين، بل هذا ما رجّحناه في استخارة الرقاع أيضاً.

5 ـ إنّ استخارة الرقاع أكثر الاستخارات من حيث عدد الروايات، تليها استخارة القلب، ثم المصحف، ثم السبحة والاستشارة، ثم خيرة الطيور.

وقد بلغت روايات استخارة القرعة والرقاع والبنادق ما يصل إلى عشرة روايات، بينها ثلاث فقط ترجع إلى ما قبل عصر ابن طاووس، وكلّها ضعيفة السند، بل أكثرها ضعيف السند جداً، بل بعضها ـ كما قلنا ـ مجهول المصدر.

يضاف إلى ذلك وجود نصوص في كلمات المفيد ـ على تقدير صحّة النسبة ـ وابن إدريس الحلي والمحقّق الحلي، تفيد مهجوريّة هذه الاستخارة، وهو ما يظهر أو يتأيّد بالتتبّع، مما يكشف أكثر فأكثر عن أنّ المروّج لها والذي دافع عنها دفاعاً شديداً هو العالم العابد السيد ابن طاووس الحلّي (664هـ)، وإلا فهي مجهولة متروكة مُعْرَضٌ عنها. وقد تبين أنّ الحق مع ابن إدريس في موقفه من استخارة الرقاع باستثناء خطأ اتصل بكلامه يرجع إلى طبيعة الرواة الراوين لاستخارة الرقاع.

6 ـ إذا أردنا إعمال منهج الوثاقة وحجيّة خبر الثقة في بحث الاستخارة الاستشاريّة ينبغي القول بثبوت استخارة القلب واستخارة الاستشارة، وأما غيرها فلم يثبت بدليل معتبر حتى على قاعدة الجبر السندي.

وأمّا إذا أخذنا ـ كما هو الرأي الصحيح ـ بحجية الخبر الموثوق بصدوره أو صدور مضمونه على الأقلّ، فإنّ كثرة روايات الاستخارة الاستشاريّة على أنواعها لا يفيد وثوقاً بالصدور بعد كلّ هذا الوضع الصدوري التالف لها وِجادةً وإرسالاً وجهالةً في المصدر والراوي، وتأخّر ظهور أغلب رواياتها عن القرن السابع الهجري، بل بعضها ظهر بعد القرن العاشر الهجري، بل أغلبها مهجور متروك عند المتقدّمين، فما نجده الأقوى وثوقاً من حيث القرينة الخارجية هو استخارة الاستشارة رغم قلّة رواياتها من حيث العدد، إذ هي الأوفق بالقرآن والسنّة المتواترة في موضوعَي الدعاء والاستشارة، نعم، الكاشفية ظنيّة في نفس الاستخارة.

وبهذا يظهر أنّ جريان سيرة المتشرّعة بل العلماء على ترك استخارة الاستشارة أو القلب، والركون إلى غيرهما يبدو لي مبدئياً من الغرائب على مستوى البحث التوثيقي والعلمي، وهو ما سيدفعنا لتحليل السبب في ذلك والعناصر التي تدفع أو دفعت لمثل هذا التحوّل الكبير في الثقافة الإيمانية العامّة.

 

تحليل عام لظاهرة تنامي الاستخارة الاستشاريّة

يتلخّص السؤال الذي نحاول الإجابة عنه بما يلي: ما السبب في شيوع الاستخارة الاستشاريّة متشرعيّاً وفقهائيّاً في القرون الأخيرة ـ عدا القلب والاستشارة ـ فيما كان المشهد على العكس قديماً؟ وهذا السؤال يجرّ إلى تساؤل مهم آخر: لماذا صادف أنّ أغلب روايات هذه الاستخارات ـ عدا القلب والاستشارة ـ ظهرت منذ القرن السابع الهجري وما بعد؟!

يمكن هنا تقديم أكثر من افتراض، وقد تلتقي هذه الافتراضات فيكوّن مجموعها افتراضاً أيضاً، ولا نحاول هنا سوى تقديم تحليلات ظنيّة ترجيحية، والفرضيات هنا هي:

الفرضية الأولى: أن نفترض بأنّ شخصيّة السيد ابن طاووس& لعبت دوراً كبيراً في خلق ثقافة إيمانية، فابن طاووس عثر على روايات مهجورة عن طريق الوجادة أو غيرها فقام ببعث الروح فيها انطلاقاً من نزعته الصوفية والزهدية التي تركّز على الارتباط وفتح العلاقة مع الله سبحانه مباشرةً وربط العبد كلّ أموره بالربّ تعالى، ونظراً لشخصيّته الروحية، والشخصيات الروحية لها نفوذ شعبي كبير عادةً ولها القدرة على خلق عادات جديدة محمّلةً بحمولات روحية عميقة.. ونظراً للبعد التجربي الذي ألقاه ابن طاووس بالخصوص على الاستخارة، حتى ذكر لها عجائب وغرائب أذهلت مثل الشهيد الأوّل بعد قرنين من الزمن.. فإننا نجد من الطبيعي أن تترك هذه الشخصية تأثيراً على الجيل اللاحق، وتبدأ تتبلور ثقافة جديدة لم تكن من قبل. وحيث جئنا إلى مثل العصر الإخباري المعروف بجمعه للحديث مهما كان فسوف يُتلقّى ما نقله ابن طاووس من مرويّات ضعيفة مجهولة المصدر غالباً على أنّه حديث شريف، ويندرج في الموسوعات الحديثية كالوسائل والبحار والمستدرك وغيرها من الكتب، مؤيّداً ذلك كلّه بمناخ قاعدة التسامح في أدلّة السنن، وبالجوّ الروحي الذي صنعه ابن طاووس رحمه الله.

أعتقد أنّ المعطيات التاريخية المتوفّرة تسمح بمثل هذا الافتراض، لا سيما وأنّ طبيعة الشخصيّات الروحية لها أنظمتها الخاصّة وطريقتها الخاصّة في الاقتناع بالأمور، فمن المترقّب شيء من هذا القبيل من مثل ابن طاووس.

الفرضيّة الثانية: أن نأخذ بالفرضيّة الأولى، لكن لا نعتبرها لوحدها كافيةً في ذلك، بل نضمّ إليها سياقاً تاريخياً واجتماعياً وحضارياً حافّاً، وهو أنّ عصر السيد ابن طاووس هو عصر انهيار الدولة العباسية وتداعي قوّة المسلمين ودخول التتار إلى العالم الإسلامي بقيادة هولاكو، وسقوط بغداد عام 656هـن أي قبل وفاة ابن طاووس بحوالي ثمان سنوات؛ لأنه توفي عام 664هـ، وبعد تأليفه (فتح الأبواب) بثمان سنوات؛ لأنّه ذكر في خاتمته أنّه فرغ من تأليفه عام 648هـ([296])، كما ذكر في مقدّمته أنّ بدايات شروعه في ذلك كان عام 642هـ([297]).

والعقود الأخيرة من العصر العباسي كانت تمثل تدهور حال المسلمين وتراجع دولتهم وتمزّق شملهم وتهاوي نفوذهم وسلطانهم، وهذا المناخ من التراجع الحضاري والفشل السياسي والاجتماعي يخلق بطبيعته إحباطاً عاماً وسعياً للهرب من الواقع، فيظهر على العقل الديني والجمعي تياران:

التيار الأوّل: التيار التاريخي الماضوي، وهو التيار الذي يرغب في الفرار من جرح الواقع نحو الماضي الجميل، ماضي الأمجاد والقامات الشامخات والشخصيات المقدّسة الطاهرة، وهنا تظهر عند هذا التيار مقولات التاريخ والعقائد أكثر من أيّ مقولات أخرى، فبهذه الطريقة يتمّ تناول مخدّر الماضي للفرار من مسؤوليات الحاضر وأوجاعه، وتنمو في هذا المناخ الثقافات المذهبيّة القائمة على صراعات الماضي وخلافات الجيل الإسلامي الأوّل بعد النبي، وقد رأينا كيف أنّ القرن السادس شهد هذه الصراعات، ورأينا كيف كان سقوط عصر الازدهار البويهي على يد السلاجقة منتصف القرن الخامس الهجري ما عزّز هذا المناخ بشدّة.

التيار الثاني: التيار الصوفي أو الروحي الباطني الانعزالي، الذي يحاول التقليل من حجم البُعد الاجتماعي والسياسي والتربوي و.. في المنظومة الدينية لصالح البُعد الروحي الفردي، فتنمو عنده مقولات قلّة الكلام وقلّة الطعام وقلّة النيام، وقلّة الاختلاط، وتتركّز عنده العبادات والتوكّل والتسليم والذكر والدعاء والتأمّل و..

ولو لاحظنا سنجد أنّ الشيخ محي الدين ابن عربي (638هـ)([298])، والشاعر الصوفي أبو القاسم عمر بن علي الحموي المصري، المعروف بابن الفارض (632هـ)، صاحب التائية المشهورة، قد ظهرا وأمثالهما في هذا العصر، ذلك كلّه يشير إلى نفوذ الثقافة الروحية القائمة على التجارب الذاتية إلى جانب نصوص مهما كانت ضعيفة، وهذا بالضبط ما رأيناه مع ابن طاووس.

إذن، يمكن القول بأنّ السياق الحضاري العام للأمّة الإسلامية وظهور شخصيّة ابن طاووس في الحياة الشيعية آنذاك، والحاجة الروحيّة لمثل كتبه التي تملأ فراغاً باطنياً في الإنسان.. ذلك كله ترك أثراً عظيماً على حياته والأجيال اللاحقة.

وعندما ندخل في قضايا تتصل بهذا السياق، فمن الطبيعي أن نجد رواجاً عظيماً لمثل ذلك، لا أقلّ في بعض الفترات الزمنية، وفي مثل عصور الانحطاط يظهر ما يعرف بـ «العقل المستقيل» الذي يرغب في التخلّي عن مهماته لصالح الانفراد بنفسه وتسفيه المسؤوليات العامّة.

الفرضية الثالثة: أن نسلّم بالفرضيتين السابقتين ونضيف إليهما ما نسمّيه طبائع الأشياء، وهو أنّ الإنسان يحبّ بطبعه معرفة المستقبل، والاستخارة ـ لا سيما بالطريقة التي أسّس لها السيد ابن طاووس ـ تقوم بشكل كبير على العنصر التجريبي، حيث رأينا أكثر من واحدٍ من العلماء إلى يومنا هذا يشيد بهذا العنصر ويركّز عليه، ويتحدّث عن سمة «مجرّبة أو مجرّبات» لتأكيد هذا النوع من الاستخارات، ومن الطبيعي أن ينشدّ الناس نحو ذلك ويرغبوا في الحصول على معلومات المستقبل بأقصر الطرق، لا سيما في مثل عصور الانحطاط، وبالأخصّ في مثل الجوّ الشيعي المقهور والمطارد.

ولعلّ هذا هو معنى ما ذكره العلامة السيد محمد حسين فضل الله حين قال: «إنّ روايات ذات الرقاع والسبحة كانت تتحرّك في الدائرة الشعبية التي لا تتداول المسائل بالمنحى العلمي النقدي، بل تتعاطى مع هكذا أمور ـ خصوصاً التي تتعلّق بأمور المستقبل ـ بطريقة أسطورية وفيها شيء من التسليم للخرافة»([299]).

فالسيد فضل الله لا يريد هنا اتهام أساطين الدين والفقهاء الشامخين والسادات العارفين السالكين، كما ذكر بعضهم([300])، بقدر ما يريد التأكيد ـ عقب بيانه للضعف السندي لنصوص الاستخارة ـ أنّ سبب نفوذها وشياعها لاحقاً هو طبيعة التلقّي الشعبي لمثل هذه القضايا التي تريح الإنسان عادةً وتربطه بالمطلق، فيقوم بنسج تصوّراته الدينية حول الموضوع من منطلق غير علمي ولا نقدي، وإنما من المنطلق الأسطوري الذي يثير القصص حول ذلك ويعتمد الغرائب والعجائب.

إذا ضممنا العناصر التالية قد نفهم الجواب عما تقدّم من سؤال:

1ـ دخول المسلمين في عصر الانحطاط الذي استمرّ قروناً.

2ـ شخصية السيد ابن طاووس الروحيّة والإيمانية.

3ـ القهر والمطاردة بالنسبة للشيعة.

4ـ رواج النزعات الصوفية والروحية بشكل واسع جداً منذ القرن السابع الهجري.

5ـ الطبيعة الشعبية في تلقّي هذه الأمور، لا سيما مع عقل مستقيل.

6ـ اعتماد العصر الإخباري على النصوص الضعيفة، بما أدّى إلى دخول نصوص ابن طاووس وغيرها مجال الموسوعات الحديثية، الأمر الذي شكّل عنصراً مسانداً لترويج هذه النصوص.

هذا كلّه ـ وربما عناصر أخرى أيضاً ـ ساعد في حدوث تحوّل ثقافي إزاء هذا الموضوع، ويفسّر لنا كيف أنّ هذه الاستخارات كانت مهجورةً سابقاً وصارت مشهورةً اليوم، كما يفسّر لنا الربط بين ثقافة الاستخارة والنزعات العرفانيّة والصوفية كما نشاهد اليوم أيضاً.

الفرضية الرابعة: وهي ترى بطلان كلّ الفرضيات السابقة وتقول: إنّ العلماء السابقين تركوا هذه النصوص لأنّها مندوبات، ثم اهتمّ بجمعها السيد ابن طاووس وأعطاها حقّها فعادت لمكانتها الطبيعيّة، وسبب ضعف سندها ليس أنّها مجعولة، بل هو عدم الاهتمام بها من قبل المتقدّمين، حيث نرى الفقهاء عموماً لا يعيرون اهتماماً كبيراً للأمور المندوبة وتبقى مهملة، ولا يرى المحدّثون ضرورة للأسانيد فيها، كونها من أعمال الخير، فعناصر الضعف المجتمعة في الاستخارة، لا تعني ضعفها الواقعي.

وأعتقد أنّ هذا التحليل ممكن، ومن مجمل ما تقدّم من أبحاث سابقة يتبيّن أنّه تحليل معقول، لكن من الصعب أن نعتبره الراجح، لا سيما مع هجران المتقدّمين لنصوص الاستخارة حتى في كتب الأعمال والعبادات التي فيها المستحبّات، علماً أنّه من غير الصحيح القول بهجرانهم ذكر المندوبات، فهذه كتبهم مشحونة بذلك. على أنّ كتب الحديث قد جمعت الغثّ والسمين والصحيح والضعيف، فما السرّ في غياب نصوص الاستخارة، لا سيما استخارة الطيور والسبحة التي لا عين لها ولا أثر في القرون الغابرة؟! هذا مع أنّ كتبهم قد تعرّضت للاستخارة وصلاتها، فلماذا غابت نصوص استخارة الطير والسبحة والمصحف وأمثالها ـ بحسب غالبها ـ فيما ظهرت في كتب المتقدّمين نصوص استخارة القلب والاستشارة والاستخارة الدعائيّة؟ فما هو المفسّر لهذا الأمر بعد فرض تعرّضهم لأصل الاستخارات؟!

إنّني أعتقد بأنّ الفرضية الجامعة بين الفرضيّات الثلاث الأولى أرجح من الفرضيّة الرابعة، دون أن يزيد ذلك عن الظنّ لا أكثر، وإنما هي محاولة تحليل، والعلم عند الله.

 

قاعدة التسامح في باب الاستخارات، الموقع والدور والوظيفة

ينبني البحث في جريان قاعدة التسامح في باب الاستخارات على أمرين:

الأول: عدم ثبوت هذه الاستخارات بدليل شرعي معتبر، وإنما بروايات ضعيفة الإسناد لكنّها غير معلومة الكذب.

وهذا ما توصّلنا إليه في بعض أنواع الاستخارة الاستشاريّة على الأقلّ.

الثاني: أن نعتبر الاستخارة فعلاً مندوباً ومن شؤون الأعمال التي يتوقّع عليها الثواب، بحيث تكون روايات الاستخارة الضعيفة السند مصداقاً لروايات من بلغ. وهذا هو الذي يظهر من بعض العلماء والفقهاء الكلام فيه.

ولعلّ من أوائل النصوص التي أشارت لوجود مشكلة في جريان قاعدة التسامح هنا، هو ما ذكره المحقّق النجفي (1266هـ)، حيث تريّث في البداية في إجراء قاعدة التسامح على أساس أنّ الاستخارة ليست من السنن، بل هي من تعرّف الغيب، لكنّه جزم بعد ذلك في اندراجها تحت قاعدة التسامح([301]). ثم تبعه في ذلك السيد اليزدي في العروة، حيث ذكر أنّه لا بأس بالعمل بروايات الاستخارة من باب التسامح([302]).

ويبدو من بعض الفقهاء الحكم باستحباب الاستخارة، فهي عندهم فعلٌ مندوب، فيفترض أن يكون مشمولاً لقاعدة التسامح.

لكن قد يُمنع عن جريان القاعدة هنا بما ألمح إليه الشيخ النجفي، من أنّ الاستخارة إنما هي تعرّفٌ على الغيب، فكأنّ الروايات الواردة فيها تريد أن تقول بأنّك إذا أردت معرفة مستقبل الفعل الذي ستفعله، وما له من الأفعال نتائج حسنة دون غيره، فيمكنك اعتماد هذه الطريقة، وهي الاستخارة، وهذا غير أنّ تحثّ هذه الروايات على الاستخارة بنفسها. فموضوع قاعدة التسامح هو الفعل المندوب إليه والمرغّب فيه، أما هنا فموضوع روايات الاستخارة هو تعرّف الغيب بهذه الطريقة أو تلك، لا الدعوة إلى هذا الأمر، فلا موضوع لقاعدة التسامح في المقام. ولعلّه لهذا استشكل المحقّق الهمداني في شمول عمومات من بلغ لباب الاستخارات([303]).

ونوقش هذا الكلام؛ ويمكن أن يناقش:

أولاً: إنّ الأصحاب أدرَجوا الاستخارة في المستحبّات، وهذا ما يجعلها من ضمن ما تنطبق عليه قاعدة التسامح([304]).

ويرد عليه أنّ موضوع قاعدة التسامح هو البلوغ عن المعصوم، وإفتاء الفقهاء المتأخّرين الناتج عن اجتهادهم في النصوص الواردة الواصلة إلينا لا يصحّح عنوان البلوغ، فلا يكون ذلك كافياً في إجراء قاعدة التسامح. نعم بعض الفقهاء المتقدّمين الذين يُعرف عن كتبهم الفقهية أنّها متون روايات، يمكن إجراء ذلك في حقّ ما يقولونه لو صحّ ذلك، إلا أنّ هذا الأمر منعدم في مورد حديثنا كما تقدم.

ثانياً: إنّ بعض الأخبار عبّرت عن الاستخارة بأنّها من السنن، كما في الرواية المتقدّمة: «الذي سنّه العالم..»، وهذا معناه أنّ روايات الاستخارة صرّحت بأنّ الاستخارة مصداق لقاعدة التسامح التي موضوعها السنن([305]).

ويرد عليه أنّ المعتمد من أحاديث من بلغ لم يرد فيه التعبير بالسنن، وإنّما هذه تسمية فقهيّة لقاعدة التسامح، والوارد في أخبار من بلغ هو أن يبلغنا عن النبيّ شيء فيه ثواب. والروايةُ المشار إليها آنفاً غاية ما تدلّ في تعبيرها المتقدّم أنّ الإمام سنّ شيئاً هنا، ومفهوم سنّ الشيء لا يساق مفهوم استحباب الشيء أو جعل الثواب عليه، فقد يكون المعنى أنّه جعل هنا لمن يريد التعرّف على المستقبل هذه الطريقة، فلا تصلح هذه الرواية جواباً على المانع المشار إليه هنا.

ثالثاً: إنّ المستخير إنّما يُقدم على الاستخارة برجاء أن يحصل على الخير الذي وعدته به روايات الاستخارة، فعندما يستخير بالسبحة وتخرج النتيجة عبارةً عن حُسن الفعل، فهو يقدم على الفعل برجاء أن يحصل على ما وعدته به روايات الاستخارة من الخير الآتي له من جهة فعل الاستخارة، وبهذا يكون في روايات الاستخارة وعدٌ بالثواب الدنيوي والأخروي فتكون مشمولةً لقاعدة التسامح.

ويرد عليه أنّ المأخوذ في قاعدة التسامح بلوغ الثواب على فعل، لا حكاية فعل (وهو الاستخارة) عن نتائج فعلٍ معيّن لو أقدم عليه، فإنّ ذلك إرشادٌ ليس إلا، هذا إذا فُهم من روايات من بلغ شمول الثواب للثواب الدنيوي.

رابعاً: ما هو الأصحّ في الجواب، وهو أنّ المطالع لنصوص الاستخارة على أنواعها يجد لسان التوجيه والترغيب من أهل البيت على القيام بهذا الفعل والحثّ على مشاورة الله تعالى قبل مشاورة العبيد، بل هناك في جملةٍ من النصوص استخدام صيغ الأمر، مثل: «إذا أردت أمراً فصلّ ركعتين..»، «إذا هممت بأمرٍ فاستخر ربّك..»، «ما لأحدكم إذا ضاق به الأمر ذرعاً أن لا يتناول المصحف بيده..»، «إذا أردت أمراً فخذ ست رقاع..». وهذا السياق العام ـ مهما كان ملاكه وأنّه لمعرفة الرشد في الفعل أو لمعرفة مستقبل الفعل ـ هو سياق حاثّ على هذا الأداء قبل القيام بأيّ فعل. نعم، جملةٌ من روايات الاستخارة يصعب فيها ذلك، كأن تكون معلّقةً على إرادة الاستخارة «إذا أردت الاستخارة فافعل كذا وكذا..».

وعليه، فنصوص الاستخارة يمكن من بينها الحصول على نصوص لا يختلف لسانها عن لسان سائر المندوبات المشمولة لقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

هذا كلّه جرياً على طريقة الفقهاء الملتزمين بقانون التسامح في أدلّة السنن، والحقّ أنّ الأمر مبنائي، وذلك:

1 ـ إنّ شمول الاستخارة لقانون التسامح مبنيٌّ على ثبوت قاعدة التسامح، وقد حقّقنا في أبحاثنا الأصوليّة أنّ هذه القاعدة غير ثابتة، بل لم يثبت حجيّة رواياتها أساساً، اعتماداً على قانون اختصاص الحجيّة بالمطمأن بصدوره، فإنّ الدالّ منها ـ على ما حقّقناه ـ لا يزيد عن ثمانية روايات بينها واحدة صحيحة السند فقط، وقد شرحنا هناك الأسباب التي تحول دون انعقاد اطمئنان بصدور هذا العدد القليل من النصوص، فضلاً عن وجود معنى آخر لهذه النصوص شرحناه في محلّه.

2 ـ إنّ أخبار من بلغ تثبت ـ على تقديره ـ كلّ ما له دخل ببلوغ الثواب، أما الجوانب التي لا دخل لها ببلوغ الثواب، من الكشف عن المستقبل فلا علاقة لها بالقاعدة هنا؛ وذلك لما قلناه في بحث قاعدة التسامح من عدم شمولها للأخبار الخبريّة المتعلّقة بالتكوينيات أو التاريخيات أو التفسير (غالباً) أو نحو ذلك، فإنّ هذه الأخبار لا يصدق عليها عرفاً أنّها تخبر عن ثواب و.. فإذا فهم من نصوص الاستخارة أنّها تخبر ولو التزاماً عن الثواب أمكن إجراء قاعدة التسامح في خصوص النصوص التي فيها هذا الأمر لا في مطلق روايات الاستخارة، ولا في الجوانب الأخرى للروايات التي فيها بلوغ ثواب، فتأمّل جيداً؛ فإنّ تلك الجوانب ـ كتلك الروايات الأخرى ـ غير مشمولة للقاعدة.

 


 


 

 

 

 

 

المبحث الثالث

الاستخارة، أحكامها حدودها مدياتها وفروعها

 

تمهيد

ندرس في هذا القسم من بحث الاستخارة مجموعة من الأمور التي تتصل بالاستخارة وأحكامها وما يتفرّع عليها، ومن الضروري دراستها لتكتمل الصورة، (وبحثنا مبني هنا على فرضية ثبوت الاستخارة الاستشارية)، ونرتبها على شكل أبحاث متتالية كما يلي:

 

1ـ متعلّق الاستخارة (الفعل المستخار له)

هل يمكن للإنسان أن يستخير على أيّ شيء يريد فعله، سواء كان واجباً أم مندوباً أم مباحاً أم غير ذلك، أم أنّ الفعل الذي يراد أن يستخار له لابدّ وأن يكون نوعاً خاصّاً من الأفعال؟

وقبل الحديث عن ذلك يجب أن نميّز هنا بين نوعيّة الفعل المستخار له وبين محلّ الاستخارة وموقعها، ففي الأوّل نحن نبحث عن مثل شرط الإباحة أو الاستحباب في الفعل المستخار له، أما في الثاني فنحن نبحث في الاستخارة هل هي خاصّة بحال الجهل أو التردّد أو تشمل مطلق الحالات. ونحن نتعمّد التمييز بين الأمرين هنا لضمان سلامة البحث منهجيّاً، خلافاً لمن خلط بينهما، وكلامنا الآن في الأوّل، ونقسّمه إلى ثلاثة محاور:

 

المحور الأوّل: من حيث الحكم التكليفي

ويمكن هنا أن تكون أمامنا فروض عدّة، وهي:

الفرضية الأولى: أن تكون الاستخارة ثابتة في كلّ الأفعال بلا استثناء، أي بما فيها الأعمال المحرّمة في الشريعة الإسلاميّة.

وهذا الافتراض يفترض عدم القبول به؛ إذ ما معنى أن تكون هناك استخارة دعائيّة في فعل المحرّم، حتى يتوجّه الإنسان لله بالدعاء أن يجعل له الخير فيما سيفعل؟! كما لا معنى للاستخارة الاستشاريّة هنا بأنواعها كي يعرف الإنسان حُسن الفعل أو قبحه بعد أن ثبت بالدليل الشرعي المعتبر أنّ هذا الفعل قبيح نهانا المولى عنه، أو حسنٌ أمرنا الشارع به.

نعم، لو جُعلت الاستخارة طريقاً شرعيّاً لإثبات الحكم الشرعي، لأمكن استخدامها لمعرفة حكم الفعل الذي ثبت بسائر الأدلّة حرمته، ولكنّ هذا ليس استخارةً على الفعل بل استخارةٌ على معرفة حكم الفعل شرعاً.

والصحيح أنّ نصوص الاستخارة ورواياتها منصرفة عن باب الأحكام الشرعيّة وخاصّة بالموضوعات والأفعال الخارجيّة من تسمية الولد أو السفر أو التجارة أو نحو ذلك، كيف ولو كانت طريقاً معتبراً في باب الاجتهاد الشرعي للزم شيوع هذا الأمر بقوّة وتداوله بين المتشرّعة أو كبار الفقهاء المعاصرين لزمن المعصوم أو قريبي العهد منه، مع أنّه لا عين ولا أثر لذلك إلى يومنا هذا، ولو كانت طريقاً شرعيّاً لإثبات الأحكام لأعطاه الأئمة للناس في حلّ تعارض الأدلّة، وهي مسألة مبتلى بها، وفي معرفة الحكم عند عدم لقيا الإمام وما شابه ذلك، ولهذا يمكن الجزم بعدم صلة بحث الاستخارة بهذا الباب أساساً.

وبناءً علىه، فالفرضيّة الأولى، وهي أوسع الفرضيّات، غير صحيحة، والفقهاء الذين يستوحى من كلماتهم أنّ الاستخارة تجري في كلّ الأمور، لابد من فهم كلامهم منصرفاً عن هذه الحال. ولهذا قال الشيخ المفيد، حسب نقل السيد ابن طاووس: «ولا ينبغي للإنسان أن يستخير الله تعالى في فعل شيءٍ نهاه عنه، ولا حاجة به في استخارة لأداء فرض، وإنّما الاستخارة في المباح»([306]).

الفرضية الثانية: إنّ متعلّق الاستخارة شاملٌ لكلّ الأفعال، سوى الأفعال المحرّمة، فيشمل الواجب والمندوب والمكروه والمباح بالمعنى الأخصّ.

وهذه الفرضية لا يمكن القبول بها في مجال الواجب بعد ثبوت وجوبه وتعيّنه على المكلّف، لنفس السبب المتقدّم في نقد الفرضيّة الأولى. نعم لا مانع من الاستخارة الدعائية هنا كما هو واضح، كما أنّه لا معنى للقول بحُسن الاستخارة في مورد الواجب مع عدم العمل بها لو خرجت على النهي عن فعله، فإنّ مناط الاستخارة الاستشاريّة ليس ذات الفعل فقط، بل هو البناء على النتيجة وترتيب الأثر والأخذ بما يخرج له، فلو عطّلنا هذه العناصر كلّها لصارت استخارةً دعائية تقريباً.

لكنّ هذا لا يمنع أن يُستخار لشكلٍ من أشكال الإتيان بالواجب، كأن يستخير على الإتيان بصلاة الظهر في هذا المكان أو ذاك، أو لابساً هذه الثياب أو تلك، أو نحو ذلك، فإنّ هذه استخارةٌ على فرد الواجب لا على أصل الواجب، وفردُ الواجب الخاصّ ليس هو المأمور به بعينه، لاسيما بعد تعلّق الأحكام بالطبائع لا الأفراد.

وهكذا لو كان الواجب تخييرياً شرعيّاً كخصال الكفّارة، فإنّه لا مانع من الاستخارة على أحدها لكي يقوم به، لكنّه لو فعل وخرج النهي فلا يمكنه الاستخارة على الأخير الذي لم يعد له بدلٌ إلا وورد النهي عنه بحسب نتيجة الاستخارة، إذ لا معنى لذلك حينئذٍ تماماً كالواجب التعييني.

الفرضية الثالثة: أن يكون متعلّق الاستخارة هو المستحبّ والآداب والطاعات. وهذا هو الذي ذهب إليه السيد ابن طاووس، منطلقاً من وجهة نظر عامّة في باب الأفعال المباحة، لا من وجهة نظر خاصّة في باب الاستخارة، حيث ذهب إلى أنّ ما من فعلٍ من الأفعال المباحة إلا وقد وضعت الشريعة والعقل لها آداباً، والمباحات الخالصة التي ليس عليها آداب إنّما وجدها ابن طاووس متعلّقة بغير المكلّفين من الحيوانات والدواب، ولهذا قال الإمام علي×: «في حلالها حساب»، ومعنى ذلك كلّه أنّه لن يكون للمكلف مباح مطلقاً يستخير فيه حتى تتعلّق الاستخارة بالمباحات، فيكون متعلّق الاستخارة دائماً هو المندوبات والآداب والطاعات.

وقد طرح ابن طاووس نظرته هذه رادّاً على المعتزلة وبعض علماء الإماميّة في وجود المباح([307]).

إلا أنّ هذه النظرية محلّ نقاش، وذلك أنّ عدم خلوّ فعل من الأفعال إلا وقد وضعت له الشريعة آداباً ومندوبات لا يعني أنّ الفعل نفسه ـ على تقدير عدم إرادة فعل ملازماته المندوبة ـ قد صار مندوباً، بل هو مباح، فكون الفعل ذو صبغة مندوبة بملاحظة مقارناته لا يصيّره في نفسه مندوباً. وإمكانية أن يجعل العبد كلّ مباحاته قُرُبات له لا يعني أنّ الشرع قد جعل هذه المباحات مندوبات، بل بمعنى أنّ الشرع ندب لقصد القربة في المباح، وقصد القربة عنصر ملازم أو مقارن للفعل المباح حسب الفرض، فأصل هذه النظرية غير صحيح.

الفرضيّة الرابعة: أن يكون متعلّق الاستخارة شاملاً للمباحات بالمعنى الأعم، وهو يشمل المندوب والمكروه والمباح بالمعنى الأخص، دون الواجب والحرام. بلا فرق في ذلك بين الاستخارة الدعائيّة والاستخارة الاستشاريّة([308]).

وقد تواجه هذه الفرضية إشكاليّةً أساسية، وهي: أنّ الاستخارة الدعائية وإن لم يكن فيها مشكلة هنا، لكنّ الاستخارة الاستشاريّة لا معنى لها؛ لأنّ المفروض أنّ الغرض منها هو معرفة حُسن الفعل وقبحه، وهذا معلومٌ مسبقاً في مورد المستحبّ والمكروه، فإنّ معنى الاستحباب هو حُسن الفعل، ومعنى الكراهة هو أنّه قبيح بدرجةٍ ما، فلا يكون هناك مورد للاستخارة بعد أن كان غرضها متحقّقاً مسبقاً عبر أدلّة المستحبّ والمكروه.

وربما يجاب عن هذه الإشكالية بأنّ المستخير لا يريد معرفة حُسن الفعل في ذاته، فإنّ هذا معلومٌ له بدليل الاستحباب، إنّما يريد الحالة الخاصّة والمورد الجزئي لهذا الفعل من حيث مقارناته ولوازمه ومزاحماته وكونه الأهم أو يوجد ما هو أهم منه، فعندما يستخير للذهاب إلى الحجّ فهو لا يريد معرفة حُسن الحجّ المندوب بالعنوان الكلّي للموضوع، بل يريد الفرد الخاص وأنه هل فيه مصلحة أم يوجد خطر في الطريق؟! أم هناك فعلٌ أهم منه ينبغي الإقدام عليه؟ أم لهذا الفرد مفسدة بملاحظة خصوصيّاته الزمانية والمكانية؟

لكن قد يناقش مرةً أخرى بأنّ هذا الكلام لو صحّ لكان من المفترض أن يصحّ في مورد الواجبات والمحرّمات أيضاً، ففي الحجّ الواجب نحن لا نستخير على أصل الحجّ، بل نستخير بملاحظة هذا الفرد الخاصّ الواقع في إطار الزمان والمكان، وكما أنّه لا يصحّ هدر إطلاق دليل الوجوب بالاستخارة، كذلك لا يصح هدر إطلاق دليل الاستحباب أيضاً، فما هو الفرق بينهما؟

نعم، يمكن قبول جريان الاستخارة في المندوبات وأمثالها عند التزاحم، كما لو كان أمامه جملة من المندوبات التي يمكنه إتيانها الآن، ولم يحرز الأهم منها والمقدّم شرعاً، فيمكنه الاستخارة لمعرفة أيّ من هذه الأفعال هو الحسن الفعلي في ظرف التزاحم؟ وأيّ منها هو الذي ينبغي له أن يختاره؟ ففي هذا المورد يمكننا قبول جريان الاستخارة.

كما يمكن القبول في كلّ مورد وقع التزاحم بين الملاكات فيه بحيث صعب إمكان التمسّك بإطلاق دليل الاستحباب، كما في مورد الزواج من شخص ظاهره الصلاح بحيث ارتاب الطرف الآخر في حُسن الزواج منه والمصلحة فيه، انطلاقاً من الشكّ في صلاحه الواقعي. وأما في غير ذلك فلا أجد معنى للاستخارة الاستشارية إلا بناءً على تفسيرها بتعرّف الغيب لا باستعلام حال الفعل من حيث الحُسن والقبح.

الفرضيّة الخامسة: أن يقال بأنّ مورد الاستخارة هو كلّ حالة لم يثبت حُسن الفعل فيها أو قبحه بدليل شرعي، فيكون شاملاً للمباح بالمعنى الأخصّ، وكذا لغير المحرّم عند التزاحم وعدم إمكان الترجيح، وكذا لاختيار الأفراد التي تمثل الواجب أو المستحبّ والتي يكون العبد مخيّراً بينها عقلياً أو شرعياً وأمثال ذلك، ففي كلّ هذه الموارد تجري الاستخارة، وبها نفهم ما ورد من استخارة الإمام زين العابدين للذهاب إلى العمرة أو الحجّ أو نحو ذلك ـ بناءً على عدم اختصاص هذه الرواية بالاستخارة الدعائية، وقد رجّحنا سابقاً الاختصاص ـ خلافاً لما فهمه بعضهم من استخارة الإمام زين العابدين من كونها دليلاً على جريان الاستخارة في المندوبات مطلِقاً الكلامَ في ذلك([309])، ما لم يرجع إلى ما قلناه.

وهذه الفرضية الأخيرة هي الراجحة بنظري القاصر، ولعلّها هي ما قصده الشيخ مرتضى الأنصاري حين قال: «فالقرعة لاستخراج الراجح بهذه التراجيح الخفيّة، فهي نظير الاستخارة في الأمور الخالية عن المرجّح الظاهر الشرعي لبعضها على بعض..»([310]). بل لعلّ كلّ من جعل مورد الاستخارة هو التحيّر يأخذ بما قلناه هنا أو يلزمه الأخذ بذلك؛ لارتفاع التحيّر تعبّداً عند شمول إطلاقات وعمومات الأدلّة الشرعية للمورد.

 

المحور الثاني: من حيث الأهميّة وعدمها

إذا تجاوزنا تعيين متعلّق الاستخارة من حيث حكمه التكليفي، يُطرح هنا سؤال آخر، وهو هل كلّ فعلٍ تجري فيه الاستخارة مهما كان بسيطاً وحقيراً وغير هامّ كأن يتناول الجبنة صباح هذا اليوم أو يتناول الزيتون، أم أنّ موردها الأمور الهامّة في حياة الإنسان كالزواج والطلاق والتجارة والسفر والحجّ والعمرة وتسمية الولد وطلب هذا العلم أو ذاك وما شابه ذلك؟

من الواضح أنّ مورد بعض النصوص أمرٌ هام مثل تسمية الإمام زين العابدين لولده زيد، أو قضايا التجارة، أو الحجّ والعمرة أو الزواج، بل في بعضها «إذا عزمت على السفر أو حاجة مهمّة»، وكذا «الرجل تعرض له الحاجة». لكنّ الكلام في أنّ سائر النصوص ليس فيها هذا التقييد الموردي، فهل ينعقد لها إطلاق يدعو للاستخارة في كلّ فعل من الأفعال أم لا؟

أ ـ أما الاستخارة الدعائيّة، فلا إشكال في شمولها لكلّ الأفعال بعد إطلاقات أدلّة الدعاء، ما لم يلزم محذور أو مزاحم.

ب ـ وأما الاستخارة الاستشاريّة، فظاهر غير واحد من النصوص هو الإطلاق «إذا أردت أمراً» «الأمر يمضي فيه»، «أريد الشيء وأستخير الله فيه»، «إذا أراد أحدكم أمراً..»، ومقتضاه ضرورة التمسّك به لإثبات شمول استحباب الاستخارة لكلّ فعل مهما كان حقيراً.

إلا أنّه مع ذلك في النفس شيءٌ من هذا الإطلاق؛ إذ من الممكن أن يقال بأنّ مثل هذه التعابير منصرفة ـ بحسب السياق ـ عن الموارد الحقيرة، بل يُفهم منها عرفاً أنّه يريد أن يقدم على أمر، ممّا ظاهره أنّه يحظى بأهميّة، لا أن يرفع يده أو ينزلها، مؤيّداً ذلك بسائر النصوص المتقدّمة الواردة في موارد هامّة كما قلنا.

هذا كلّه، على تقدير أخذ مجموع الروايات في الباب، أما لو اقتصرنا على الصحيح سنداً، فسنجد خبر علي بن أسباط (وابن فضال) في استخارة القلب ومطلعه: «كنت حملت معي متاعاً إلى مكّة فبار عليّ..»، وهو واضحٌ في أهميّة المورد وخوف الطريق البرّي أو البحري، وكون المسألة تجارة كبيرة. وكذا لو اعتبرنا خبر الكليني صحيحاً هناك والذي نقله ابن طاووس عن رسائل الأئمّة، فإنّ فيه حديثاً عن خوف أخذ السطان للضيعتين، وهو أمرٌ هام جداً.

فالنصوص الصحيحة واردة في الأمر المهم، إلا رواية واحدة وردت في استخارة الاستشارة ومطلعها: «إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً حتى يبدأ فيشاور الله عزّ وجل..»، وهذا الخبر وإن بدا على إطلاقه، لكنّ تعبيره بمشاورة الله قبل مشاورة الخلق واضح في أنّ طبيعة الأمر مما يُشاوَرُ فيه، فيكون مهماً لا تافهاً حقيراً، إذ الأمور التافهة الحقيرة لا تقع عرفاً وعقلائيّاً وشرعاً مورداً للمشاورة، وعليه فالنصوص الصحيحة دالّة أيضاً على اختصاص مورد الاستخارة بالأمور المهمّة ولو متوسّطة الأهمية.

وأما لو أردنا تطبيق قانون الوثوق، عبر الأخذ بالقدر المتيقّن من مجموع نصوص الاستخارة الاستشاريّة، فإنّ القدر المتيقن الممكن أن نثق بصدوره هو الاستخارة في الأمر المهمّ، بعد ما تقدم آنفاً.

فالصحيح ثبوت الاستخارة في مهمّات الأمور لا حقيرها، وفاقاً لصريح بعضهم([311])، ولا أقلّ من عدم الاطمئنان بانعقاد إطلاقات شاملة لصغائر الأمور والأفعال.

 

المحور الثالث: من حيث العموميّة الاجتماعية والخصوصيّة الفردية

نقصد بهذا العنوان أنّ الاستخارة هل تجري في الشؤون الفرديّة للإنسان خاصّة كالزواج والسفر والتجارة ونحو ذلك، كما ذهب إليه بعضهم([312])، أما أنّها تجري أيضاً في الشؤون العامّة له، كإدارة المجتمع والعمل السياسي، كأن يستخير في اختيار مرشّحه في الانتخابات، أو يستخير لاتخاذ قرار سياسي في الحزب المعيّن، أو لشنّ حرب أو لتوقيع معاهدة صلح أو اتفاقية أمنية أو عسكرية أو اقتصادية أو نحو ذلك. فهل الاستخارة تجري في هذه الأمور أم لا؟

ظاهر إطلاق غير واحدٍ من النصوص المتقدّمة هو الجريان في الاستخارة الاستشارية فضلاً عن الدعائية؛ فإنّ ذلك مشمول لعنوان (الشيء ـ الأمر..) الوارد في النصّ، وإن كانت بعض النصوص موردها والموجّه إليه الكلام فيها مما يفهم منه أنّ الحالة شخصية، إلا أنّ ذلك لا يوجب هدر الإطلاق في سائر النصوص.

وقد يقال في مقابل ذلك: إنّ استخدام الاستخارة في مثل هذه الموارد غير عقلائي، حيث لابدّ فيها من البحث والتأمّل وموازنة المصالح والمفاسد، وإلا فلو كانت تُدار مثل هذه الأمور بهذه الطريقة فلا حاجة إلى خصوصيّات الحاكم أو المتولّي للشؤون العامّة أو لبعض هذه الشؤون، لا سيما بناءً على شرعيّة النيابة في الاستخارة، بل كان يمكن لأيّ شخص أن يتصدّى لمثل هذا المنصب مادام يستخدم طريقة الاستخارة هذه. نعم، الاستخارة الدعائية لا مانع منها.

ونتيجة عدم عقلائية هذا الأمر وبُعده عن نصوص الشريعة في مجال الشؤون العامّة ندّعي انصراف نصوص الاستخارة عن مثل هذه الموارد. ويعزّز هذا الانصراف أنّ سيرة النبي| والأئمة^ والصحابة والأصحاب الأخيار رضوان الله عليهم لم تكن قائمةً على ذلك([313])، فقد كانوا يعلّلون للناس أعمالهم الاجتماعيّة أو السياسية وغيرها بتعليلاتٍ شرعية أو عقلائية، على مستوى السلم والحرب والمعارضة والموالاة وسائر الأمور، ولم نجد منهم تبرير أيّ خطوة فعلوها بأنّهم استخاروا الله تعالى استخارةً استشاريّة كالسبحة أو المصحف أو الرقاع أو غير ذلك، فلو كان ذلك ـ والمفروض عموميّة الاستحباب لكلّ الأفعال ـ لنُقل لنا ووصل ولو بطريقٍ ضعيف، وهو من الشؤون العامة لا الشخصية التي قد لا تصل. والمفروض عدم وصول شيء، فيكشف ذلك عن عدمه؛ لبعد ترك كلّ هؤلاء لهذا المستحبّ طيلة ثلاثة قرون وبهذه الطريقة.

علماً أنّ النصوص دلّت على الشورى في إدارة البلاد، وحثّ النبيّ على مشاورة أصحابه، وهذا كلّه ينافي الإطلاق المدّعى هنا ولو بنحو التأييد.

إلا أنّ هذا الكلام كلّه لابد أن يُفترض بناؤه على أنّ الاستخارة تجري مطلقاً وتستحبّ مطلقاً في كلّ الحالات، أي مع التحيّر وعدمه، ومع اليأس من الحلّ وعدمه، أمّا لو قلنا بأنّ الاستخارة تجري فقط في حال فقدان المكلّف كلّ المرجّحات العقليّة والعقلائية والشرعيّة للفعل، بمعنى بلوغ حدّ التحيّر التام والتردّد التام المسبوقَين باستفراغ الوسع في البحث والفحص، ففي هذه الحال أيّ مانع ـ والمورد قليل ـ من إجراء الاستخارة بعد انسداد الطرق بأكملها دون مرجّح لخيار على خيار آخر؟ نعم، لو بني على إطلاق دليل الاستخارة لحالات عدم التحيّر المشار إليه لكان ما أشرنا إليه قبل قليل منبّهاً وجدانيّاً يعيق الاطمئنان بانعقاد إطلاق في النصوص.

وهذا الكلام كلّه، ينبغي أن نخرج منه ـ إلى جانب الاستخارة الدعائية ـ الاستخارة بالمشورة؛ لأنّ هذا الطريق يتّحد تقريباً مع السبيل العقلائي في اتخاذ القرار في الشؤون العامة، فلا موجب لهدر إطلاق مثل دليل الاستخارة بالمشورة وفيه ما هو الصحيح سنداً كما تقدّم ما لم يطرأ عنوان آخر. وكذلك الحال في الاستخارة بالقلب بناءً على تفسيرها بالتأمّل والتفكير ثم الإلقاء في القلب، وحدوث العزم الناتج عن قناعة موضوعيّة.

 

2ـ نتيجة الاستخارة، والموقف الشرعي من مخالفتها

لو استخار شخصٌ بالاستخارة الاستشاريّة فخرجت النتيجة بالفعل أو الترك، لاسيما في مثل الرقاع أو المصحف، فهل هذه النتيجة تشريعيّة يجب العمل بها أو يستحبّ بحيث يكون لها بُعد مولوي، أم أنّها إرشاديّة فقط إلى حُسن الفعل ورجحانه من حيث المصالح والمفاسد، وللإنسان بعد ذلك أن يختار، ولو أراد مخالفة الاستخارة كان له ذلك بلا محذور، وإنّما يطلب منه التصدّق مثلاً لدفع البلاء؟

ظاهر بعض الكلمات هو البُعد التشريعي([314])، وقد يُستند له أنّ جملة من نصوص الاستخارة المتقدّمة تذكر بأنّه لو خرجت النتيجة كذا وكذا فافعل وإلا فلا تفعل، وهي صيغ أمرٍ ونهي من الإمام نفسه، فيفهم حصول وجوب ثانوي مترتّب على الاستخارة أو لا أقلّ من استحباب ثانوي كذلك، ويكون هذا الاستحباب لهذا الفعل قد اُخذ في موضوعه تقدّم الاستخارة به، ولا ضير في ذلك ويترتّب على فعله كلّ ما يترتب على فعل المستحبّ حينئذٍ.

إلا أنّه قد يقال في مقابل ذلك: إنّ ما يفهم من مجموع نصوص الاستخارة هو أنّ هناك شخصاً يريد أن يُقدم على شيء، ويريد أن تكون له بصيرة من أمره، فيُقدم على الاستخارة فيعمل بنتيجتها، فالإمام عندما قال (افعل) أو (لا تفعل) لم يكن بقصد إنشاء جعل تشريعيّ أو لا يحرز كونه في هذا المقام، بل هو بصدد إنشاء بيان للنتيجة، بمعنى أنّه لو خرجت الرقاع كذا، فإنّ هذا معناه الفعل أو الترك، تماماً كما نقول نحن ذلك ونستخدم مثل هذه التعابير في باب الاستخارات دون أن نقصد الجعل التشريعي أو الإخبار عن الجعل التشريعي، فالإمام كان في مقام بيان كيفية الاستخارة وطريق العمل بها، ونشكّ في كونه في مقام بيان جعل تشريعي ثانوي مترتّب على الاستخارة.

ويتعزّز ذلك بخبر اليسع القمّي في استخارة المصحف حيث جاء فيها: «فانظر إلى أوّل ما ترى فخذ به إن شاء الله»، ومثله بعض أخبار الرقاع، فإنّ مثل هذا اللسان ليس لسان جعل تشريعي، فنحن لا نقول: صلّ صلاة الظهر إن شاء الله، في مقام بيان الحكم الشرعي، مما يكشف عن إرادة بيان الراجح في نفسه بحسب المصالح والمفاسد. وهكذا نلاحظ في استخارة الاستشارة ما يفيد أنّ الله يجري الخير على لسان من يستشيرهم الإنسان في أموره، وهو ظاهر في الإرشاديّة، وفي بعض النصوص: إذا خرجت كذا نهي لا تفعل وإذا خرجت كذا فهي افعل.

ولعلّ ما يؤيّد ذلك عدم وجود أيّ سؤال حول مخالفة الاستخارة من قبل المتشرّعة، مع أنّه مورد ابتلاء، مما يكشف عن عدم وجود محذور شرعي في الأمر أو مرجوحيّة.

ولا تُنفى الإرشاديّة عنها لمجرّد إيجابها انسلاخ المطلوبيّة والرجحان النفسي عن جلّ الأوامر الشرعية كما ذكره بعض، متوصلاً للقول بأنّ غايتها استحباب موافقة الاستخارة لا استحباب الفعل([315])، فقد توصّلنا سابقاً إلى أنّ مورد الاستخارة هو المباح لا الأمور التي وردت فيها أحكامٌ تكليفيّة ذات إفادة لرجحان نفسي حتى يلزم ما ذكر، على أنّه لو كانت نتيجة الاستخارة هي استحباب الموافقة فقط، فأيّ معنى لكاشفيّة الاستخارة حينئذٍ؟ وأيّ معنى لقوله: إنّ الله يجري الحقّ على لسانه؟ أو أنّ فيه الخير؟ مما ظاهره أنّ الاستخارة حاكية عن رجاحة الفعل من حيث المصالح والمفاسد، لا أنّها بنفسها موضوعٌ مستقلّ لاستحبابٍ ثانوي بالموافقة وعدمها.

والمتحصّل أنّ النظر في مجموع النصوص يفضي إلى ترجيح احتمال الإرشاديّة للحُسن والرجحان، ولا مانع بعد ذلك من إثبات استحباب هذا الفعل لا بدليل الاستخارة، بل بالأدلّة العامة المرجّحة لفعل ما هو حسن وراجح، وهذا غير ثبوت استحباب ثانوي، بل هو من باب تنقيح الموضوع حينئذٍ، حيث تنقّح الاستخارة موضوعَ استحباب القيام بالفعل الراجح والأحسن على تقدير ثبوت مثل هذا الاستحباب.

وبناءً عليه، فمخالفة نتيجة الاستخارة لا دليل موثوق به على حرمته أو حتى كراهته في نفسه، فليس في الأمر جعل تشريعي. نعم، لو أراد المخالفة كانت الصدقة حسنةً من باب دفع البلاء، سواء على تقدير افتراض المولويّة أم على تقدير افتراض الإرشاديّة.

ولعلّ مجمل ما قلناه هو الظاهر من نسق معالجة الفقهاء للموضوع، حيث لا نجدهم يطرحون هذا الأمر أو يفتون بالاستحباب([316]) في متعلّق الاستخارة بعد تحقّقها فيه، ولا يتغيّر حكم الإباحة عندهم إلى وجوب أو حرمة، ولا يقول أحدٌ بذلك، بل صريح كلمات بعض المعاصرين([317]) الذين تحدّثوا عن هذا الموضوع ـ لندرة الحديث فيه ـ هو عدم حرمة مخالفة الاستخارة وإن قالوا بأنّه لا ينبغي أو يحُسن التصدّق قبل المخالفة.

نعم، ذكر الشيخ كاشف الغطاء أنّه لو احتمل مفاسد عظيمة من المخالفة لزم العمل بمؤدّى الاستخارة ([318])، وهذا خارج عن محلّ الكلام، وحجيّته نفس ذاك الاحتمال لا دليل الاستخارة.

وذهب المحقّق الكلباسي إلى التفصيل بين الضرر النفسي فيجب العمل بمؤدّاها لوجوب دفع الضرر المظنون عن النفس، وبين الضرر المالي فالحكم مبنيٌّ على الموقف من وجوب دفع الضرر المالي المظنون ([319])، وحاله حال كلام كاشف الغطاء من حيث عدم الخصوصيّة للاستخارة ودليلها هنا، غايته تحقيقها لموضوع الظنّ بالضرر لا غير، فلو قلنا بعدم وجوب دفع الضرر الدنيوي لما وجب شيء هنا.

 

3ـ محلّ الاستخارة، موقعها وموردها

المقصود بهذا البحث أن ندرس هل أنّ الاستخارة تجري في كلّ الحالات أم أنّها خاصّة بحال التحيّر والتردّد وعدم وضوح الأمر عند الإنسان؟ فهل يمكنني أن أستخير حتى في الحال التي لا تردّد عندي فيها، بل لدي وضوحٌ في الرؤية وعزمٌ على الفعل أم أنّ محلّ الاستخارة لا يكون إلا بعد انسداد الطريق أمام الترجيح لفعلٍ على آخر، لأيّ سبب من أسباب الانسداد وتحيّر الإنسان في الاختيار؟

الظاهر من كلمات غير واحدٍ من الفقهاء المتأخّرين أنّ الاستخارة لرفع الحيرة والتردّد، وأنّها لا معنى لها على تقدير توفّر السبل للإنسان لرفع حيرته وتردّده بأيّ سبيلٍ آخر، فاستحكام الحيرة هي اللحظة الزمنية التي تستدعي تفعيل دليل الاستخارة، تماماً كالقرعة حيث الانسداد التامّ هو الذي يفرضها([320]). بل لعلّ كلّ من قال بأنّ محلّ الاستخارة هو الجهل بالمنافع والمضارّ الدنيوية ـ كالمحقّق اللاري ـ يكون مرجع كلامه إلى حالة التحيّر هذه([321]).

والذي يمكن أن يُستند إليه لرفع قيد التحيّر هو بعض الإطلاقات والعمومات الواردة في نصوص الاستخارة، كما أسلفناها مكرّراً فيما مضى، فإنّ مقتضى إطلاق «إذا أردت أمراً..» الشمول لحال التحيّر وعدمه، فلا موجب للتقييد بهذه الحال كما بتنا نراه عند المتأخّرين.

قد يقال بأنّ الاستخارة الدعائيّة لا شكّ في شمولها للتحيّر وعدمه، إنّما الكلام في الاستخارة الاستشاريّة، حيث لا شك أيضاً في لزوم اختيار اختصاصها بحال الجهل والتردّد؛ وذلك لمجموع أمور لا لكلّ واحدٍ منها على حدة:

1 ـ كون ذلك هو مورد بعض روايات الاستخارة نفسها، كقضية الذي يفرق له في الأمر فريقان ينهاه ويأمره، كما جاء في خبر إسحاق بن عمار في استخارة القلب، أو قضيّة المتاجرة بالمال في طريق البرّ أو البحر أو غير ذلك.

2 ـ إنّ النصوص الكثيرة قد دلّت على حُسن التفكير والتدبّر في الأمور قبل الإقدام عليها، وعلى حُسن المشورة والرجوع إلى أهل الخبرة، فلو كان دليل الاستخارة شاملاً للمقام لما كان لهذه الطرق التي عُلم ترغيب الشارع فيها معنى. بل قد يقال ـ كما ذهب بعض([322]) ـ إلى أنّ محلّ الاستشارة هو التردّد مع وجود من له خبرة بالأمر بحيث يمكنه المساعدة في الترجيح، أما الاستخارة فموردها التردّد حتىّ ممّن لديه الخبرة والدراية لو سئل.

3 ـ لو كانت الاستخارة تجري في كلّ شيء لشاعت وعُرفت بين الإماميّة في القرون الأولى، لكثرة محلّها، وحيث لم تعرف نستكشف أنّ موردها قليل الحصول، وهو عند الجهل التام والتحيّر الكامل.

إلا أنّ هذه المحاولة لحصر مورد الاستخارة بحال التحيّر قابلة للمناقشة، وذلك:

أولاً: إنّ كون مورد بعض الأخبار هو التحيّر لا يفرض تقييد سائر الأخبار التي تحوي إطلاقاً، لاسيما في أخبار الرقاع.

ثانياً: إنّ ما دلّ على حُسن التدبر والمشاورة والتفكّر لا ينافي ما دلّ على حُسن الاستخارة؛ لأنّ ذلك من باب ضمّ طريق إرشاديّ للخير إلى آخر مثله، وكأنّ مجموع هذه النصوص يريد أن يقول بأنّ أمامك طرقاً لمعرفة حُسن الفعل والخير فيه، منها التدبّر الذاتي، ومنها مشاورة الغير، ومنها الاستخارة، فلا يوجد تمانع بينها، فكما أنّ دليل المشورة لا يلغي دليل حُسن التدبّر الذاتي، كذلك الحال في دليل الاستخارة، فكأنّ هذه الأدلّة تثبت استحباباً تخييرياً لهذه الثلاثة وبإمكان الإنسان أن يختار هذه السبل ما دامت للإرشاد، تماماً كالمستحبّات الكثيرة التي يصعب الجمع بينها.

ثالثاً: إنّ عدم شيوع الاستخارة الاستشاريّة في القرون الهجرية الأولى، لو تغاضينا عن كونه كاشفاً عن عدم وجودها أساساً، قد يكون لعدم اختيار الناس هذا السبيل إلا عند انسداد سائر السبل، وترجيحهم سبيل التدبّر الذاتي أو الاستشارات بحسب ثقاقتهم العامة، تماماً كما هي الحال اليوم حيث ندر أن يُجري أحد الاستخارة في كلّ شيء من مهماته حتى بعد شيوعها. ويشهد له طبيعة الأسئلة في روايات الاستخارة حيث يُفهم من كثير منها أنّهم يسألون بعد الحيرة، كما أنّ الاستخارة شأنٌ شخصي وليس طقساً من الطقوس حتى يشتهر بين أبناء المذاهب، لاسيما لو قلنا بعدم جواز الاستنابة فيها.

من هنا، فالصحيح في معالجة هذا الموضوع هو:

أ ـ أما إذا أخذنا الروايات الصحيحة السند خاصّة، فإنّ موردها كان حال التحيّر، كما في صحيحة ابن إسباط (وابن فضال) في تجارة البرّ والبحر، وكما في قصّة الضيعتين اللتين يخشى عليهما من السلطان، فإنّ ظاهرها أنّ المورد فيه تحيّر.

نعم، الخبر الصحيح في الاستخارة بالمشورة ليس فيه ذلك، وهذا لا بأس به؛ لأنّ الاستخارة بالمشورة ليست سوى اندكاك بين الاستخارة والاستشارة والترجيح العقلاني.

ب ـ وأما إذا أخذنا بالمقدار الموثوق من مجموع الروايات، فلا بدّ بعد هذا كلّه من الاقتصار على حال الجهل والتحيّر، لاسيما وأنّ الكثير من الروايات التي مرّت معنا سابقاً لا تحكي عن المورد، بل تشرع مباشرةً ببيان الكيفية «إذا أردت الاستخارة فكذا وكذا» مثلاً، فيكون عدد الروايات المبيّنة للمورد قليلاً والأخذ بالمطمأنّ بصدوره يفرض تضييق الدائرة خاصّة بعدما تقدّم، وخاصة بعد كون جملة من الروايات غير الصحيحة فيه إشارات للتحيّر، مثل خبر الفاضل البحراني: «ما لأحدكم إذا ضاق به الأمر ذرعاً أن يتناول المصحف..». أو خبر الحميري: «عن الرجل تعرض له حاجة مما لا يدري أن يفعلها أم لا..» أو «لا يجد أحداً يشاوره كيف يصنع».

ج ـ وأما لو صحّحنا جميع الروايات، فالأرجح عدم التقييد بحال التحيّر لوجود ما ظاهره الإطلاق.

وقد تقدّم عدم صحّة جميع الروايات، فالأرجح الاقتصار في الاستخارة الاستشاريّة ـ غير استخارة المشورة ـ على حال التردّد والتحيّر الناتجين عن انسداد الأمور والسبُل الأخرى، وفاقاً لما ذهب إليه بعض المتأخّرين.

 

4 ـ النيابة في الاستخارة

لعلّ أوّل من تعرّض لهذا الموضوع هو السيد ابن طاووس (664هـ)، حيث ذكر أنّه لم يعثر على حديث صريح في استخارة الإنسان لغيره، لكنّه حاول تخريج الاستخارة النيابيّة بوجهين([323]) سنوردهما بعد قليل إن شاء الله.

كما ذكر المحدّث البحراني مثل ذلك، معتبراً أنّ ظواهر الأخبار الواردة في الاستخارة تفيد أنّ المباشر لها هو صاحب الحاجة، مشيراً إلى أنّ عمل أهل عصره على النيابة، ومؤكّداً أنّ أحداً لم يطرح هذا إلا الشريف أبي الحسن العاملي في شرحه على المفاتيح، وشيخ البحراني الشيخ سليمان البحراني في كتاب الفوائد النجفيّة([324]).

إلا أنّ العلماء بعد ابن طاووس ـ رغم ندرة تعرّضهم لهذا الموضوع ـ اختلفوا فيه:

أ ـ فذهب بعضهم إلى مشروعيّة الاستخارة النيابية وأنّه لا ضير فيها، وهو الشائع([325])، لاسيما في مثل أيّامنا هذه، حيث برزت شخصيّاتٌ كبيرة عُرفت بالزهد والأخلاق أو بنزعاتها الصوفية والعرفانيّة، وصار الكثير من الناس يقصدونها مباشرةً أو بالواسطة من مختلف البلدان، لكي تستخير لهم، بل في كلّ منطقة ومحلّة صار علماء الدين فيها أو بعض المتديّنين المعروفين محجّةً لكي يستخير الناس عندهم، انطلاقاً من أنّ هذا الشخص أو ذاك أكثر تديّناً من صاحب الاستخارة، فيتوقّع استجابة دعائه ودقّة فهمه للآيات الكريمة أيضاً كونه عادةً من العلماء.

وقد تعزّزت هذه الظاهرة في عصرنا الحاضر من خلال طبيعة الإخبارات التي يذكرها مثل هؤلاء العلماء لمن يطلب الاستخارة، حيث يدخلون في بيان بعض التفاصيل التي يفهم من خلالها طالب الاستخارة ما يشبه اطّلاعهم على الغيب، فيعرفون قصده من الاستخارة ونيّته دون أن يخبرهم، ويذكرون له تفاصيل مذهلة في بعض الأحيان. كما أن حدوث وقائع لاحقة على الاستخارة قد يخبرهم بها هذا العالم مسبقاً تثير الذهول والإعجاب أيضاً وتدفع الناس للتمسّك بالرجوع إليه في الاستخارة انطلاقاً من صدقيّة كلامه وإخباراته. حتى أنّ بعض العلماء ـ كالسيد محمد باقر الصدر ـ يُنقل عنه أنّه كان كثيراً ما يستخير لغيره ونادراً ما يستخير لنفسه([326]).

ب ـ وفي المقابل، شكّك بعض العلماء في شرعيّة النيابة في الاستخارة، وأنّ هذا الأمر غير مأثور ولا يوجد ما يبرّره، رافضين مجمل هذا الظواهر التي تحدّثنا عنها آنفاً.

ومن الواضح أنّ الاستخارة المباشرة التي يستخير فيها الإنسان لنفسه هي القدر المتيقّن من نصوص الاستخارة، إلا أنّ الكلام في شرعيّة النيابة فيها، فهل هناك ما يشرعن ذلك أم لا؟

هنا اتجاهان:

الاتجاه الأول: هو اتجاه شرعيّة النيابة في الاستخارات

وحاصل ما يمكن بيانه من أدلّة شرعيّة النيابة والاستنابة هنا أمور، هي:

الوجه الأول: ما ذكره السيد ابن طاووس وتناقله العلماء بعده، من أنّ النصوص الكثيرة قد حثّت على قضاء حوائج الإخوان من الله عزّ وجلّ بالدعوات والتوسّلات، ولا شك أنّ الاستخارة من جملة مواردها قضاء حوائج الإخوان ومن موارد الدعوات أيضاً، فلا مانع من التمسّك بهذا النوع من العمومات لإثبات جواز الاستخارة النيابيّة([327]).

وقد ذكر السيد محمد الصدر أنّ هذا الوجه لا يخلو من مناقشة([328])، لكنّه لم يبيّن وجه المناقشة فيه، ولعلّ الوجه فيه أنّ دليل قضاء حاجة الإخوان ليس له إطلاق، بل هو شامل لكلّ حاجة يمكن أن تُقضى شرعاً وعقلاً، فإذا لم يكن بالإمكان الاستخارة بالنيابة بحيث لم يكن مشروعاً شرعاً، لم يندرج ذلك ضمن عمومات الدعاء للغير وقضاء حاجته.

وبعبارة أخرى إنّ الحث على قضاء حوائج الإخوان مقيّدٌ بإمكان ذلك عقلاً وشرعاً، فما لم تُحرز في المرحلة السابقة مشروعيّة ذلك، لا نستطيع قضاء حاجته شرعاً، والمانع الشرعي كالمانع العقلي في ذلك.

إلا أنّه يجب التمييز بين حالتين:

الحالة الأولى: أن يقوم دليل على عدم مشروعيّة النيابة في الاستخارة، وفي هذه الحال يكون دليل عدم المشروعيّة موجباً لخروج المورد عن إطلاقات وعمومات الحث على قضاء الحوائج لنفس السبب المشار إليه أعلاه.

الحالة الثانية: أن لا يقوم دليلٌ على عدم المشروعيّة، وفي نفس الوقت يصدق عنوان قضاء الحاجة عرفاً على مثل هذا المورد، وفي هذه الحال لا مانع من شمول الإطلاقات والعمومات للمورد، ويكون هذا الشمول كاشفاً عن ترتيب الآثار.

وهنا ينبغي القول بأنّ صدق قضاء الحاجة عرفاً إنّما هو بملاحظة أنّ النائب قام بفعل الاستخارة، لكنّ السؤال هل للمنوب عنه أن يتعامل مع هذه الاستخارة على أنّها الاستخارة المشروعة ذات الأثر بالنسبة إليه أم لا؟ وبعبارة أخرى: السؤال هو هل هذه الاستخارة تُعتبر شرعاً ـ من حيث التعامل معها وترتيب الأثر عليها ـ كالاستخارة الصادرة من الإنسان لنفسه وغاياته أم لا؟ فما لم نثبت ذلك بحسب دليل الاستخارة نفسه لا يتحقّق عنوان قضاء الحاجة بهذا اللحاظ كما هو واضح. فأن يصلّي شخصٌ عن آخر فيه قضاء الحاجة، لكن مشروعيّة ذلك بعنوان قضاء الحاجة متفرّع على اعتبار أنّ تلك الصلاة بمثابة صلاة الذات تُسقط التكليف عن الفرد، وإلا فلا يتحقّق واقع قضاء الحاجة وإن تحقّقت الصورة، فلابد من الرجوع لأدلّة الصلاة لمعرفة ذلك لا دليل قضاء الحاجة أو عنوان الدعاء للغير.

والنتيجة أنّ استخارة الغير لي هي فعل قضاءٍ للحاجة من طرفه، أمّا من طرفي وإمكان البناء على هذه الاستخارة وترتيب الآثار فهذا غير مأخوذ في دليل قضاء الحاجة كما هو واضح. وأمثلة ذلك في الموارد الأخرى كثيرة، فالاستناد إلى دليل قضاء الحاجة غير صحيح، وإلا لزم إمكان الاكتفاء بفعل النائب في أغلب المستحبّات وربما غيرها!

الوجه الثاني: ما ذكره ابن طاووس أيضاً، من أنّ الاستخارة النيابيّة تعني أنّ الحاجة صارت للذي يباشر الاستخارة، فيستخير لنفسه وللذي يكلّفه الاستخارة، أما استخارته لنفسه فهي في أنّه هل المصلحة موجودة في أن يقول النتيجة لمن يكلّفه الاستخارة، وأما استخارته للغير فهي في أنّ الفعل صالح لهذا الغير أم لا؟([329]).

وهذا التقريب فيه جمعٌ بين صورتين: استخارة على القول للموكّل، واستخارة لطبيعة فعل الموكّل وهل هو جيد أم لا؟

والجمع بين الصورتين ـ كما هو ظاهر كلام ابن طاووس ـ لا معنى له؛ إذ من الممكن أن يكون الفعل حسناً بالنسبة لصاحب الاستخارة، لكن من غير الحسن أن يقول له المباشر ذلك؛ لخصوصيةٍ ما، فقصد أمرين قد يتوقّع تنافيهما لا معنى له هنا، كمن يستخير باستخارةٍ واحدة أن يسافر وأن يبيع شيئاً قبل أن يسافر، فإنّ هذه الاستخارة على أمرين معاً غير معقولة بحسب إمكانات المسألة؛ لاحتمال المصلحة في أحدهما والمفسدة في الآخر، وإلا لصحّ لشخص واحد أن يستخير لألف شخص باستخارةٍ واحدة!

نعم لو جعل الأمران معاً بنحو المجموع لأمكن ذلك، فلو خرجت النتيجة حسنةً كان المجموع حسناً، ولو خرجت سلبيةً كان أحدهما سلبيّاً لا كلاهما بالضرورة، ومعه لا يمكن أن يقول المستخير للموكّل النتيجةَ على تقدير السلبيّة؛ لاحتمال كون العنصر السلبي كامناً في إخباره له لا في نفس فعله، وهذا كلّه منبّه على الخلط الذي وقع في الصورة التي قدّمها لنا السيد ابن طاووس.

من هنا؛ لابد من التفكيك، فإذا أخذنا الصورة الثانية، وهي الاستخارة لفعل الموكلّ، وهل هو جيد أم لا، فهي ليست بدليل، بل هي عين موضوع البحث الذي نعالجه، فلا يصح جعلها دليلاً هنا.

أما لو قلنا بأنّ الاستخارة النيابيّة هي استخارة مباشرة في أن أقول لصاحب الاستخارة أم لا، فهذا معناه تعديلاً جوهريّاً في الاستخارة؛ لأنّه سوف أقصد منها أن أقول له: نعم وجيدة، فإذا خرجت نعم، قلت له: نعم، وإذا خرجت بالنفي، لم أقل له نعم بل ألتزم الصمت، وهذا غير واقع الاستخارات النيابيّة القائمة والشائعة.

ثم، لو صحّ هذا وكان من المناسب أن أقول له نعم، يأتي السؤال هل هذا يعدّ استخارةً بالنسبة لصاحب الاستخارة يمكنه ترتيب الأثر عليها، فلو أعطتني الاستخارة حُسنَ أن أقول له نعم، فهل هذا استخارة بالنسبة إليه يرتب عليها الأثر أم لا؟ هذا هو ما نريده، لا أنّه يحسن لي أن أقول نعم أو لا. إلا إذا أخذنا بالدلالات الالتزامية على حُسن الفعل منه، وأنّ حُسن أن أقول له نعم، دالٌّ بالدلالة الالتزاميّة على حُسن الفعل منه، مع أنّه لا دليل على صحّة الملازمة هنا دائماً، إذ لعلّ في الأمر خصوصيّات أخرى.

وبصرف النظر عمّا تقدّم، يلزم هنا عدم الحاجة للاستنابة أساساً، بل أيّ إنسان يعلم من إنسانٍ آخر أنّه سيفعل فعلاً ما، يمكنه أن يستخير أن يقول له: (نعم افعل) أو (لا تفعل) ويترتب الأثر عليه، فهل يلتزم بهذا أيضاً أم لا؟ وعلى تقديره لو فعل ذلك عشرة أشخاص وخرجت لبعضهم بإفعل ولبعضهم بلا تفعل فما هو موقف الطرف صاحب العلاقة هنا؟!

من هنا، يظهر أنّ تخريج ابن طاووس هذا ـ الذي قد يستوحى من بعضهم عدم ممانعته([330]) ـ فيه تكلّفٌ شديد وربطٌ للأمور باللوازم غير المحرزة، فضلاً عن مخالفته للمفهوم النيابي المبحوث عنه والشائع اليوم. والعجيب أنّ العلامة المجلسي جعل هذا الوجه لعلّه من أفضلها، وإن اعتبر أنّ الأولى والأحوط هو عدم التوكيل أساساً([331]).

الوجه الثالث: الاستناد إلى إطلاقات الوكالة، بمعنى أنّ صاحب الاستخارة يوكل النائب في أن يطلب له من الله تعالى أن يُجلي له الأمرَ ويعرّفه الصالحَ من الفاسد في الفعل، فبدل أن يطلب صاحب الاستخارة بنفسه يوكّل غيره ليطلب عنه، والمولى سبحانه وتعالى بدل أن يعطي الموكّل مباشرةً الجوابَ، يعطي الوكيل، ويدُ الوكيل كَيَدِ الأصيل، فتصبح استخارة الوكيل هي استخارة الأصيل صاحب الحاجة.

وقيمة هذا الدليل:

1 ـ إنّه قابل للتعميم من مفهوم الوكالة إلى مفهوم الولاية ولو من دون توكيل، كالأب أو الجد بالنسبة لعمل ابنه أو حفيده، فحيث له ولاية عليه كان فعل الوليّ هو فعل المولّى عليه. نعم ثبوتها بالولاية العامة للفقيه مشكل.

2 ـ عدم صحّة الاستخارة عن الغير إن لم تكن بين الطرفين ولاية أو وكالة أو وصاية؛ فإنّ مشروعيّة استخارة الغير عن الغير ترجع إلى مثل هذه العناوين، فمع عدمها لا معنى للاستخارة عن الغير.

هذا حاصل ما ذكره بعض الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين هنا([332]).

ولعلّ هذا الوجه من أقوى الوجوه التي ذكروها، ولابدّ فيه من أن نُثبت أنّ مفهوم الوكالة يجري في هذا أيضاً، وذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى: أن نُخرج مفهومَ الوكالة عن دائرة التعاقدات الماليّة والمعاملية إلى دائرة أوسع، ونفترض أنّ الوكالة مفهوم عقلائي وعرفي يجري في كلّ الأمور بالنظرة العقلائية إلا ما خرج بالدليل.

الناحية الثانية: أن نفترض أنّ مورد الاستخارة ليس فيه مانعٌ يمنع من التوكيل، مما سيأتي الحديث عنه عند استعراض أدلّة المانعين، فلو قلنا بأنّ الاستخارة عبادة ودعاء، وأنّه لا معنى للتوكيل في هذه الأمور، بحيث يكون فعل الوكيل هو فعل الموكّل، فمن الصعب الاستناد إلى دليل صحّة الوكالة للشمول لهذا المورد.

من هنا، فمشكلة هذا الدليل أنّه يسقط مفهوم الوكالة، والذي هو مفهوم عقلائي يستخدمه البشر فيما بينهم على مستوى المعاملات والاتفاقات والعقود والتنظيمات.. يُسقطه على علاقة العبد بالله تعالى، فهل نوع العلاقة مع الله مما يمكن معه التوكيل، فبدل أن أخاطب الله أوكّل شخصاً يخاطبه عنّي، ويكون خطابه خطابي؟ وهل هناك عموم في دليل الوكالة يشمل مثل هذا الأمر عقلائياً ونصّاً؟ ألا يعني ذلك إمكان التوكيل في التوبة والاستغفار أيضاً؛ وإمكان إجراء التوكيل في الدعاء، فبدل أن أدعو الله أوكّل شخصاً بأن يدعو الله عنّي!! هل يفهم من الشارع القبول بشمول قانون الوكالة لمثل هذا الأمر وأنّه يرضى من الإنسان أن يرسل غيره ليدعوه أو يتوب عنه أو ما شابه ذلك، والاستخارةُ دعاء؟!

لوصحّ هذا فما المانع من شموله لمطلق العبادات؟ بل ربما للاعتقادات، ولهذا منع الفقهاء إجراء أدلّة النيابة والإجارة والتبرّع في مورد الأمور العبادية ولو المستحبّة عن الأحياء، معتبرينه على خلاف القاعدة، وأنّه بحاجة لدليل خاصّ، وأنّ هذه الأمور تجري في باب الأمور الاعتبارية كالعقود والمعاملات ونحو ذلك([333]). وسيأتي مزيد توضيح لكون ذلك على خلاف القاعدة. من هنا فما نقله المحدّث البحراني عن بعض مشايخه من الاستدلال بأنّ كلّ ما جازت فيه المباشرة جاز فيه التوكيل إلا ما جاء في مواضع خاصّة وليس هنا منها([334])، غير صحيح، بل الأصل هو المباشرة إلا ما خرج بالدليل، وسيأتي بيانه إن شاء الله.

هذا، ويجب أن نميّز هنا بين مفهوم الاستشفاع الآتي وبين مفهوم الوكالة، فأن تضع شخصاً ما شفيعاً لك عند الله أو الحاكم، لا يعني أنّه وكيلك، وأنّه فعل فعلَك، بل غايته أن تطلب منه التدخّل عند الحاكم لإقناعه مثلاً بأن يتخذ قراراً ما في حقّك، وهذا غير مفهوم الوكالة الذي يصبح الوكيل معه وكأنّه الموكّل، فليلاحظ جيداً.

الوجه الرابع: ما ذكره المحدّث البحراني وتبعه غيره، من الاستناد إلى مفهوم الاستشفاع، بمعنى أن يكون النائب شفيعاً إلى الله تعالى للشخص المستنيب، فيشفّعه الله تعالى ويُجري تعرّفَ المصلحة على يديه([335]).

لكن مقتضى هذا الدليل الخروج عن باب النيابة والوكالة والدخول في مجال آخر، وهو أن تكون العلاقة الحقيقيّة بين النائب والله تعالى، ويكون مضمونها عمل شخص ثالث، فيسأل النائب الله تعالى أن يبيّن له المصلحة في فعل زيد، فيبيّن له المصلحة فيه، فيخبر النائبُ زيداً بأنّه تحدّث مع الله وأعطاه الجواب، وأنّ فعلك فيه المصلحة. فهنا لم تحصل استخارة من زيد أساساً لا بنفسه ولا بغيره، كلّ ما حصل هو أنّ زيداً طلب من النائب أن يتولّى هو سؤال الله تعالى عن المصلحة، ثم يخبره بنتيجة ذلك.

وهذا في الحقيقة ليس امتثالاً لأدلّة استحباب الاستخارة، وإنّما هو محض ثقة باستجابة دعاء الشفيع من قبل الله تعالى، بل فعل الشفيع نفسه لا يعلم أنّه مشمول لدليل الاستخارة؛ لأنّه يدعو الله تعالى أن يعرّفه المصلحة في فعل شخص آخر، ثم يأخذ حبّات السبحة، وهذه الصورة منصرفة عن مورد روايات الاستخارة أساساً وليست مشمولة لها بعد فقدان مفهوم الوكالة والنيابة، وإن كانت في حدّ نفسها مما لا مانع منه لا على المستخير ولا على زيد، وإنّما هي تقوم على عنصر الثقة بالله وبشفاعة زيد.

وعليه، فالاستشفاع لا مانع منه في حدّ نفسه، لكنّه لا يكون استخارةً لا في حقّ صاحب القضية ولا في حقّ الشفيع.

الوجه الخامس: ما ذكره بعض الفقهاء أيضاً، من إطباق العلماء في العصور المتأخّرة على شرعيّة النيابة في الاستخارات([336]).

والجواب واضح، فإنّه بصرف النظر عن أدلّة المانعين، لا قيمة للشهرة عند المتأخّرين خاصّة بعد وضوح مدركيّة شهرتهم واعتمادهم في ذلك على الوجوه والأنظار، فالشهرة الفتوائية لا قيمة لها في حدّ نفسها ما لم تكن حالة خاصّة، فكيف مع مدركيّتها، وكيف مع اختصاصها بالمتأخّرين؟! إذ المتقدّمين قبل السيد ابن طاووس لا عين ولا أثر في كلماتهم عن موضوع النيابة في الاستخارات.

الوجه السادس: إرجاع الاستنابة إلى المباشرة، وذلك بأن يعتبر فعل الاستنابة بنفسه جزءاً من عمل المباشرة للاستخارة، كأن يطلب شخصٌ من شخص آخر أن يستخير له ويكون لسان حاله حال الاستنابة هو الدعاء إلى الله بالقول: يا ربّ إذا كان في الفعل الذي أستخير عليه مفسدة أو مصلحة فأظهر لي ذلك على يد فلان، وبهذا تكون الاستنابةُ بنفسها فعلَ استخارةٍ مباشرة([337]).

وهذا الوجه جيّد من طرف صاحب الاستخارة ولا مانع منه، وهو مبنيٌّ على أنّ الطرق المنصوصة التي ذكرت في الاستخارات غير متعيّنة، بل يمكن للإنسان أن يستخدم أيّ طريق آخر، وهذا واحد منها.

إلا أنّ المشكلة هنا تكمن في فعل النائب، فماذا يقصد حال الاستخارة؟ كما تكمن في جدوائيّة النيابة حينئذٍ وترك الاستخارة المباشرة؟

أما فعل النائب، فلا دليل على كونه مشمولاً لنصوص الاستخارة؛ لأنّ المفروض أنّ دلالة نصوص الاستخارة كانت على الفعل الذي يريد المستخير لنفسه القيام به، ونحن نسأل: ما هو الوجه في شرعيّة أن يستخير الإنسان لغيره؟ وهل يكون فعله هذا مندوباً بوصفه استخارةً مشروعة تترتّب عليها الآثار ويصدق عليها العنوان؟

وأما جدوائية الاستنابة حينئذٍ، فلا أدري ما هي؟ فما الفرق حينئذٍ بين أن يحرّك الإنسان حبّات السبحة بيده أو يكون التحريك بيد غيره؟ وهل الخصوصيّات التي تُذكر للاستنابة من حيث سمات الشخص الذي يستناب ستظلّ على حالها أم ستصبح بلا معنى؟ والأهم هنا أنّ واقع الاستنابات القائمة في الخارج ليست كذلك، ولا حتى بلسان الحال، ولا يُعلم كفاية لسان الحال في تحقّق الاستخارة.

وعلى أية حال، لو تمّت هذه الطريقة فهي غير ما نحن بصدده، ولعلّه لذلك قال المحقّق النجفي: «إنّه ليس من النيابة ما لو دعا المستخير لنفسه وسأل ربّه صلاحه واستناب غيره في قبض السبحة أو فتح المصحف أو نحوهما، وإن دعا هو معه»([338]).

وبه يظهر الإشكال في استناد مثل السيد السبزواري لرواية «وادفعها إلى من تثق به» المتقدّمة في بعض صيغ استخارة ذات الرقاع، لإثبات جواز النيابة([339])، فلا نطيل.

الوجه السابع: إنّ الاستخارة مشاورة لله تعالى، والمشاورة تصحّ النيابة فيها، فكما يمكن للإنسان أن يستشير شخصاً بنفسه يمكنه أن يكلّف غيره بذلك([340]).

وهذا الكلام يبدو على ظاهره أنّه سليم، لكنّ مشكلته ـ كبعض الوجوه السابقة ـ أنّه لم يأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه المشاورة ليست كأيّ مشاورة، وإنّما ترجع في جوهرها إلى علاقة عبادية دعائية مع الله تعالى كما هو ظاهر مجمل نصوص الاستخارة، والسؤال هو: هل المشاورات التي تكون من هذا النوع يمكن فيها المباشرة والتكليف أم أنّها بطبعها من شؤون المباشرة؟ ولو أنّ إنساناً كلّف غيره فهل قام بفعل مستحبّ الاستخارة أم لا؟ لقد غفلنا هنا عن نقطة مهمة وهي أنّ الاستخارة ترجع إلى جانب طريقي لمعرفة حُسن الفعل، وآخر موضوعي وهو العلاقة مع الله تعالى؛ لأنها استجابة لدعاء حسب الفرض، لا محض مشورة، فأين هو الدعاء الذي يراد استجابته هنا عندما لا يتوجّه العبد إلى الله أساساً، بل يكلّف غيره فعل ذلك. والحاصل أنّ هناك عدم مسانخة بين مشاورة الله تعالى ومشاورة الناس، فتسرية حكم مشاورة الناس إلى مشاورة الله تعالى غير واضح.

ومن هنا يظهر ما في مقاربة بعض المعاصرين، حيث ذكر أنّ الاستخارة كالقرعة فكما ورد في القرعة استحباب الدعاء معها مع أنّها تجوز حتى بالنيابة فكذلك الحال في الاستخارة([341]).

فإنّ القرعة غير متقوّمة بالدعاء وإن استحبّ الدعاء معها، أمّا الاستخارة فلابد من تحقيق هل هويّتها عبادية دعائية أم لا؟ فلا تقع الاستخارة بدون دعاء وأمثاله، أما القرعة فلا تحتاج لا لقصد القربة ولا للدعاء ولا لأيّ توجّه إلى الله تعالى. من هنا فمركز البحث في الاستخارة ينبغي أن يكون في هويّتها من هذه الناحية.

هذا كلّه، فضلاً عن أنّه لو جازت الاستخارة النيابية لكان المفترض أن تكون مرجوحة؛ لأنّ فيها ترك دعاء الله، والأرجح للإنسان أن تكون علاقته الدعائية بالله تعالى والمرجوح ترك ذلك ولو بتفويض الغير.

الاتجاه الثاني: وهو اتجاه التحفّظ عن النيابة في الاستخارات

ومرجع أدلّة هذا الفريق ما يلي:

الوجه الأول: ما ذكره العلامة المجلسي بوصفه مرجّحاً من مرجّحات الاحتياط بعدم الاستنابة، من أنه «لو كان ذلك جائزاً أو راجحاً لكان الأصحاب يلتمسون من الأئمة^ ذلك، ولو كان ذلك لكان منقولاً لا أقلّ في رواية»([342]). واستخارة المعصوم متيقّنة النتائج، على خلاف استخارة الإنسان لنفسه([343]).

وهذا الوجه من الوجوه الجيّدة؛ فأهل البيت^ لهم مكانة عظيمة عند مواليهم فلو كانت الاستخارة النيابيّة أمراً مشروعاً ـ فضلاً عن كونه راجحاً أو مرغوباً ـ لكان من الطبيعي أن تتوافر الدواعي عند المتشرّعة لطلبها من النبي أو الإمام، لما فيها من ضمان الإجابة أو لا أقلّ من أرجحيّة الإجابة جدّاً على استخارة نفسه، وكان من المناسب للأئمة^ أن يستجيبوا للناس؛ لما في ذلك من قضاء حوائج الإخوان والدعاء لهم، كما هو مستند المجيزين هنا، فعدم ظهور أيّ عين ولا أثر من هذا الأمر على الإطلاق شاهد أنّ المتشرّعة كان مركوزاً في ذهنهم أنّ الاستخارة شأنٌ شخصي، لا يدخله مثل النيابة والتوكيل وما شابه ذلك، فتوفّر دواعي الفعل، وتوفّر دواعي الاستجابة من الأئمة، وتوفّر دواعي نقل مثل هذه الأخبار.. كلّه يفيد أنّ مجال استعلام الأحوال بالوسائط لم يكن باباً مطروحاً شرعاً، وهذا ما يكفي في حصول شكٍّ حقيقي في شمول العناوين العامة لظاهرة الاستخارة، وسيأتي ما يفيد في نكتة ذلك.

الوجه الثاني: اعتراف ابن طاووس وغيره كما تقدّم بعدم وجود أيّ نصّ في التوكيل أو النيابة في الاستخارة، ولو ضعيف السند.

إلا أنّ هذا الوجه لا يكفي لوحده، لإمكان اتكال النصوص على عمومات النيابة والتوكيل وغير ذلك من الوجوه السابقة، نعم، ينفع هذا الوجه مكمّلاً للوجه السابق، حيث يعزّز من قوّته.

الوجه الثالث: ما ذكره العلامة المجلسي، من أنّ المضطرّ أولى بالإجابة، ودعاؤه أقرب إلى الخلوص، وصاحب الحاجة هو المضطرّ([344]).

ويناقش أولاً: غايته مرجوحيّة الاستنابة لا عدم مشروعيّتها، ولعلّ ظاهر كلامه أنّه يريد ذلك.

ثانياً: عدم صدق أولويّة المضطرّ للاستجابة، إذ قد يكون غيره متوفّراً على خصوصيات الاستجابة أكثر منه، ومثاله دعاء النبي لشخص ودعاء الشخص لنفسه، فإنّه لا دليل على أولويّة إجابة الثاني دون الأوّل.

الوجه الرابع: إنّ الاستخارة ـ كما هو واضح من نصوصها ـ نوعٌ من المستحبّات الدعائية والتوسّلية والتقرّبية، والعباديات لا تقبل النيابة([345]).

وهذا الوجه له صغرى وكبرى:

أما الكبرى فقد اتفقوا عليها، وهي أنّ العبادات لا تقبل النيابة إلا بدليل خاصّ، كما في مورد الحج، ومقتضى الأصل فيها المباشرة، بل إنّ كلام الأصوليين في أنّ مقتضى إطلاق صيغ الأمر هو المباشرة، وأنّ الاستحباب لا يسقط بالاستنابة جارٍ هنا أيضاً.

وأما الصغرى، فإنّ من يراجع مجمل نصوص الاستخارة في كلّ الأبواب لا ينتابه شكّ في أنّها صيغت على شكل دعاء وتوجّه إلى الله تعالى، وإن كانت غايتها معرفة حال أمرٍ من الأمور، إلا أنّ البُعد القربي والتوسّلي والدعائي لا ينبغي هدره فيها، كيف وحقيقتها اللغوية والمصطلحية ـ كما تقدّم ـ تقوم على الطلب، ولا يصدق الدعاء ولا الطلب ولا التضرّع ولا التوسّل عبر النيابة كما هو واضح، كيف وغالب الناس إن لم يكن جميعهم يستنيبون ولا يستحضرون الله ودعاءه أساساً هنا، فكيف يمكن تحصيل جوهر الاستخارة ـ وهو جوهر عبادي توسّلي ـ بمثل النيابة؟ وهل يصدق أنّه فعل مستحباً عندما استناب؟!

وعليه، فالاستخارة الدعائية والاستشارية يفترض فيها المباشرة، ونحن نشكّك في كفاية الاستنابة فيها بحيث تحقّق هذه الاستنابة عنوانَ الإتيان بالاستخارة من قبل الموكِّل وتحقيقه للمستحبّ.

نعم، يمكن تخريج الحالة القائمة اليوم:

أ ـ إما على طريقة الاستشفاع، ولكنّها غير النيابة ولا تُحقّقُ ثوابَ الاستخارة لصاحب الحاجة، وتُبنى على الثقة بالشفيع، فهي أمر أجنبي عما نحن فيه.

ب ـ أو على طريقة أن يكون النائب نائباً في مجرّد قبض حبّات السبحة مثلاً، وهذا لا بأس به؛ لعدم اشتراط اتحاد المستخير مع قابض السبحة أو عادّ الحصى أو فاتح المصحف أو مفسّره، كما أشار إلى ذلك الشيخ جعفر كاشف الغطاء([346]).

وكلا هذين الفرضين لا يتماهى مع واقع النيابات الحاليّة، فمن يُنيب اليوم في الاستخارة لا يحقّق الاستخارة المستحبّة ولا يُحرَز تحصيلُه لثوابها، وأما عمله بنتائج استخارة النائب فهو جائز لامانع منه في نفسه، وهو مبنيٌّ على الثقة، لكنّه غير باب الاستخارة بالمعنى الدقيق.

 

5ـ إجازة الاستخارة

لم أرَ هذا البحث إلا عند بعض متأخّري المتأخّرين، ويظهر رواجه عند بعض المتشرّعة في بعض الأوساط اليوم، حتى أنّ أحد الفقهاء الذين طرحوا هذه المسألة نسبه إلى المتشرّعة([347]).

والمقصود بإجازة الاستخارة أنّ من شروط الاستخارة أن يكون فاعلُها مجازاً، بمعنى أنّ لديه إجازة مسبقة من شخص آخر يسمح له فيها بممارسة الاستخارة، وإلا كانت استخارته باطلة، وهذا الشخص الآخر إمّا هو المعصوم أو شخص له مقام روحي سامٍ، أو هو وليّ الأمر.

 ولديّ ظنّ بأنّ هذه الفكرة التي ظهرت حديثاً قد تكون من تأثيرات العقل الصوفي والعرفاني الذي يؤمن بمرجعيّة القطب أو الأستاذ، وبأنّ الأوراد والأذكار والبرامج العباديّة لابدّ وأن تكون تحت إشراف الشيخ وبإجازته، وأنّ المُريد لا يمكنه الاستبداد بذلك قبل بلوغه مرتبة سلوكيّة وكمالية خاصّة.

وقد سمعنا شفاهاً عن المرجع الديني المعاصر السيد موسى الشبيري الزنجاني أنّه ينقل عن والده السيد أحمد أنّه التقى بالإمام المهدي وأعطاه إجازةً بالاستخارة، كما أجاز له أن يجيز، فأجاز الوالد لولده السيد موسى بذلك.

كما يُذكر أنّ السيد عبد الكريم الكشميري (1999م) المعروف بتقواه وروحانيّته حصل على عددٍ كبير من إجازات الاستخارة من السابقين عليه، وتتداول هذه القضية في بعض الأوساط المعروفة بمجال الاستخارة أيضاً. وقد جاء في بعض الكتب التي تحدّثت عن حياته أنّه قال بأنّه أخذ من شيخه برنامجاً للاستخارة، وكان شيخه هو الشيخ علي أكبر الأراكي، وبعد مدّة رأى الإمام عليّاً× في المنام ومعه النبيّ نوح×، وأنّ الإمام علياً أعطاه سبحةً، كما رأى مناماً آخر أنّ السيد أبو الحسن الإصفهاني قد أعطاه في صحن أمير المؤمنين، سبحةً أيضاً([348])، الأمر الذي فُسّر على أنّه تفويض له بالاستخارة وإجازة.

ويذكر بعضهم ـ مثل الشيخ محمد علي الكرامي المعاصر المعروف بمجال الاستخارة أيضاً ـ أنّ الإجازة التي يحصل عليها الإنسان للاستخارة تكون بطرقٍ خاصّة أيضاً كالمنام والرؤيا ونحو ذلك، مما يُفهم منه أنّ مثل السيد الكشميري في منامه قد حصل على إجازة. ويذهب الشيخ الكرامي حفظه الله إلى تأثير الإجازة في الاستخارة، حتى أنّه يرى أنّ المستخير لو كان مُجازاً من أهل البيت^ كانت استخارته أقوى من شهادة عدلين([349]).

والمستند المطروح هنا هو أنّ بعض الروايات ورد فيه تعبير «استخار أو يستخير» فعندما سئل الإمام ماذا يفعل فلان، قال: «يستخير»، وهذا التعبير مشابهٌ تماماً لتعبير «يروي عني»، بمعنى أنّني أجيزه في الرواية عنّي، فيكون المراد أنّ الإمام هنا يجيز للطرف الآخر أن يستخير، وهذا ما يثبت مفهوم الإجازة([350]).

وهذا الكلام واضح الضعف، وذلك:

أولاً: لظهور هذه الروايات في بيان الموقف الشرعي والوظيفة، لا في الإجازة، وإلا لزم في كلّ الأحكام الشرعيّة أن نفترض كونها مشروطة بالإجازة، فلو سئل فقال: «يغسل يده»، أو «يتوضأ» أو «يعيد صلاته» أو «يبيع» أو «يطلّق» وغير ذلك، لزم فهمها بأنّها إجازات، وهذا في غاية الغرابة، ولا مبرّر له لا لغةً ولا عرفاً ولا نصّاً.

ثانياً: إنّ مثال: «يروي عنّي» وما شابهه إنّما فهمنا منه الإجازة، إما بمناسبات الحكم والموضوع، أو بقرينة «عنّي» الظاهرة في أنّه في مقام الترخيص بشأنٍ يتّصل به شخصياً، وأين هذا مما نحن فيه؟!

ثالثاً: لو كان ذلك صحيحاً للزم شيوع هذه الظاهرة في القرون الأولى؛ لأنّ المسألة محلّ ابتلاء، ولم ينقل في أيّ رواية أو حديث، لا إجازة عامة ولا خاصّة صريحة تدلّ على هذا الأمر.

وبهذا يظهر أنّ فكرة الإجازة في باب الاستخارات لا أصل لها ولا مستند، وقد وجدت بعض المعاصرين يفتي صراحةً بذلك أيضاً([351]). ويتعزّز ذلك بأنّ الاستخارة ظاهرة قربيّة ودعائية روحها الانفتاح على الله تعالى، وهو أمرٌ لا حاجة معه إلى إجازة أو إذن مسبق كما هو المعروف من مذاق الشارع، لاسيما في الاستخارة الدعائيّة، ومعه فلا حاجة للبحث عن صفات المجيز كما فعل بعضهم([352])، وإن رَفَضَ فكرة الإجازة، وهل المجيز هو مرجع التقليد أو ولي الأمر أو الوالد أو غير ذلك؟

 

6ـ الاستخارة بعد الاستخارة أو تكرّر الاستخارة

هل يمكن للإنسان بعد أن استخار على فعلٍ ما وخرجت له النتيجة سلباً أو إيجاباً، أن يستخير مرّةً أخرى على نفس الفعل أم لا؟

من الواضح أنّه لا مانع من ذلك في الاستخارة الدعائية، فقد ورد الحثّ على الدعاء والإلحاح فيه، وأما الاستخارة الاستشاريّة فإذا لم يحصل الجواب فيها، كما لو قام باستخارة القلب فلم يُلقَ في قلبه شيء أو فعل استخارة المصحف الشريف فلم يفهم شيئاً من الآية الكريمة ولم يجد من يعنه، فلا مانع من تكرار الاستخارة هنا؛ لعدم تحقق الجواب فيها عملاً حسب الفرض.

إلا أنّ الكلام في حالة تحقّق الجواب في الاستخارة الاستشاريّة، حيث قد يقال بشمول إطلاقات الأدلّة لتكرار الاستخارة ثانياً وثالثاً.

إلا أنّ الصحيح أنّه لا دلالة على شمول الأدلّة لثاني الاستخارات وثالثها مع وحدة الموضوع وخروج الجواب، وفاقاً لظاهر فتاوى بعض المتأخّرين من الفقهاء([353])، فإنّ هذا هو المفهوم من لسان الأدلّة، حيث يقول له بأن يفعل كذا وكذا؟ فإذا خرج كذا وكذا فافعل أو لا تفعل، وهذا ما يفهم منه العرف أنّ النكتة الغرضيّة قد تحقّقت وأنّه قد تمّ الانتقال إلى مرحلة العمل، لهذا طلب منه الفعل أو عدم الفعل.

يضاف إلى ذلك أنّ الاستخارة ـ لو بنينا على كونها مشروطة بالتحيّر كما هو الصحيح ـ فلابدّ من فرض ارتفاعه ولو تعبّداً بنصوص الاستخارة نفسها بعد إجرائها، فإنّ النص عندما يقول: افعل، ففي هذه الحال هو يلغي التحيّر ولو تعبّداً فلا معنى للاستخارة بعد الاستخارة، ولا موضوع لها، فتكون الثانية لغواً لا يحرز شمول الأدلّة لها، فهذا كمن يسأل عن شيء فيجاب، ثم يسأل عنه مرة ثانية. هذا، وإن لم يتم إلغاء التحيّر واقعيّاً، فإنّ الاستخارة لا تغيّر رؤيتنا للواقع، فلو كنّا نحتمل الضرر من شيء فاستخرنا فبانت جيّدة، فإنّ احتمال الضرر ـ كما يقول السيد الخوئي([354]) ـ لا يزول بنتيجة الاستخارة.

نعم، لو تغيّر الموضوع، كما لو مضت مدّة زمنية معتدّ بها على الاستخارة الأولى، أو طرأت بعض الحيثيات المؤثرة في موضوع المسألة التي يراد الاستخارة لها، فلا مانع من التكرار، بل ليس بتكرار حقيقةً كما هو واضح، وإنما هو استخارة على أمرٍ جديد.

وكذا لو استخار على مجموع أمور، فله ـ كما يقول الشيخ كاشف الغطاء([355]) ـ الاستخارة بعدها على كلّ واحدة على حدة؛ لتغاير المتعلّق في الاستخارتين.

وأما ما يفعله بعض المتشرّعة في عصرنا ـ لاسيما عندما لا تعجبه نتيجة الاستخارة، مما قد ينافي الرضا والتوكّل ـ من التصدّق، ثم الاستخارة مرّة ثانية، على أساس احتمال رفع المفسدة بفعل التصدّق، فهو غير واضح عندي، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الوضع على ما هو عليه وعدم ثبوت تغيّر موضوعي بالصدقة، فإنّ الصدقة تدفع البلاء، لكن لا يحرز ذلك في كلّ الصدقات، إذ لعلّ هناك مانع، بل حتى لو فرضناه لا يُحرز رفع هذه الصدقة لهذا البلاء الخاص المتعلّق بموضوع الاستخارة مادام من الممكن رفع بلاء آخر بها لا نعلمه، بل رفعها للبلاء بنحو الاقتضاء على قول.

فالصحيح لغوية الاستخارة التكرارية؛ لانعدام الموضوع، والبقاء على الاستخارة الأولى، فلو فعلها لا معنى للتحيّر بعد ذلك لو تعارضتا([356]). نعم الاستخارة الثانية ليست حراماً شرعاً، إنّما الكلام في شمول النصوص لها وكونها مشمولة للاستحباب أو للآثار المترتّبة، مع نسبة ذلك للمولى سبحانه، وهو ما لا دليل عليه.

 

7ـ استخارة الترك، والاستخارة على الاستخارة

لاستخارة الترك معنيان:

المعنى الأولى: أن يكون الترك فعلاً يُقدم عليه المكلّف، كما لو كان موظّفاً وأراد ترك وظيفته، ففي هذه الحال لا شك في شمول أدلّة الاستخارة له؛ لأنّه عرفاً يريد الإقدام على فعل.

المعنى الثاني: أن يكون المراد بالترك أمراً سلبياً عدميّاً، كأن يستخير على الزواج فتكون استخارته استخارة فعل، ويستخير على عدم الإقدام على الزواج فتكون استخارته استخارة ترك غير مسبوق بوضع معيّن يخرج منه بالترك.

وقد راجت هذه الاستخارة ـ بالمعنى الثاني ـ في الفترة الأخيرة، حتى أنّ بعض الناس يستخيرون على الفعل، ثم يستخيرون على تركه، فإذا خرجت جيدة فيهما دلّ ذلك على التخيير عندهم.

ولم أجد أحداً طرح هذا الموضوع قبل السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (1410هـ)، إلا الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228هـ)، حيث قال: «لو استخار على الفعل والترك فلا مانع»([357])، بل إنّه قال: «ولا مانع من الاستخارة على الاستخارة والاستشارة، والاستشارة على الاستشارة والاستخارة»([358]).

نعم، جاء الوضوح في كلمات السيد المرعشي النجفي، حيث ذكر في وصيّته أنّه قد التقى بالإمام المهدي وأنّه الذي قال له أن يستخير خيرة الترك، وأنه إذا أراد الاستخارة استخار أولاً على الفعل، ثم استخار على الترك.

وعليه، فالبحث هنا، تارةً في مقتضى أدلّة الاستخارة، وثانية في ما ذكره السيد المرعشي النجفي:

أما أدلّة الاستخارة المتوفرة بين أيدينا، فمن الواضح أنّ نظرها إلى القيام بأمر فيستخير الله عليه، ولا يفهم العرف في استخارة الترك أنه استخار على القيام بأمر، بل هو استخار على عدم القيام به.

كما أنّ ظاهر أدلّة الاستخارة أنّه حين ينوي الفعل الفلاني ويستخير عليه، فإنّ المطلوب حينئذٍ ترتيب الأثر على هذه النتيجة كما تدلّ نفس النصوص، وهذا منافٍ بظاهره لفرض استخارة أخرى متعلّقة بالترك بعد استخارة الفعل، ثم ترتيب الأثر على مجموعهما مثلاً، فإنّ هذا خلاف طريقة النصوص الواردة في الاستخارة والمرشدة إلى كيفية التعاطي معها، ومع نتائجها.

إنّ تعبير النصوص بـ «إذا أردت القيام بأمر» أو «أردت شيئاً»، فضلاً عن مواردها يفهم منه العرف الاستخارة على فعل هذا الأمر لا على تركه، ولهذا رأينا استخارة الرقاع تنظر إلى «افعل» لأخذ النتيجة في الإقدام على الفعل، لا أنّها تنظر إلى صيغة «افعل» حتى إذا ما خرجت ترك الإنسان الفعل. فما أفهمه من مجمل النصوص أن جوّها العام وموردها وظاهر أجزائها وتركيبتها.. ذلك كلّه يساعد على الاستخارة على الإقدام على شيء، فضلاً عن غرابة النصوص وبعدها عن مورد القيام باستخارتين للفعل الواحد: إحداهما للفعل والأخرى لترك هذا الفعل نفسه.

وأما ما نقله السيد المرعشي النجفي، فهو حجةٌ له وعليه بموجب اطمئنانه الشخصي، إلا أنّ الاعتماد على خبر الواحد في عصر الغيبة ناقلاً عن الإمام المهدي، سواء ادّعى الرؤية في المنام أم في اليقظة مشكلٌ؛ لأسباب عدّة لا نستأنف بها بحثاً الآن، ولا أقلّ من أنّ حصول الاطمئنان للرائي نفسه بأنّ من رآه هو المهدي لا يثبت كون المرئيّ واقعاً هو الإمام المهدي نفسه، لو سُلّم إمكان رؤيته في عصر الغيبة، إذ ما الدليل على ذلك؟ وما الدليل على أنّ اطمئنانه هذا مطابق للواقع؟ بل حتى لو قال له ذلك الشخص بأنّني المهدي ما هو الموجب لتصديقه إن لم يقم دليلاً على دعواه من معجزةٍ أو غير ذلك، فلابد لإثبات ذلك كلّه من شواهد وقرائن إضافيّة تحفّ بالحادثة لإثبات صحّتها. على أنّه من الممكن أن تحصل أمور غريبة لكنّ شخص الرائي هو الذي يُسقط عنوان «المهدي» على الشخص المرئيّ صاحب الكرامة التي وقعت، دون أن نلتفت إلى أنّ هذا الإسقاط كان من عنده، كأن يرى شخصاً في الصحراء فجأةً فيساعده، ثم لا يعود يراه، فيسقط عنوان (المهدي) عليه بلا دليل، وإنما لشدّة الربط الذهني، ومن الممكن أن يكون شخصاً آخر أو وليّاً من الأولياء.

وأمّا الاستخارة على الاستخارة.. مما ذكره الشيخ جعفر كاشف الغطاء، فإذا قلنا بشرط التحيّر وحصل له تردّد في أن يعتمد الاستخارة في هذا المورد أم لا، فله الإقدام على الاستخارة على الاستخارة، ما لم يكن المورد مشمولاً بخصوصيّاته لنصوص الدعوة إلى الاستخارة، وأما في غير ذلك فهو خلاف ظاهر النصوص؛ لأنّ النصوص تجعل متعلّق الاستخارة الفعل لتعرّف صلاحه، وهي منصرفة عن الاستخارة على الاستخارة لاسيما مع عدم أخذ قيد التحيّر، على أنه لو كانت أدلّة الاستخارة مطلقة للزم المحال، حيث يستحبّ أن يستخير على الاستخارة التي متعلّقها استخارة أخرى متعلّقها استخارة أخرى وهكذا، وهذه الموارد يكاد يطمئن الإنسان بأنّها منصرفة عن لسان الأحاديث الواردة.

فإما أن تكون الاستخارة بنفسها موجبةً لتحيّر الإنسان في الإقدام عليها بحيث تكون هي حدثاً في حدّ نفسه، فيجوز الاستخارة عليها على تأمل وارتياب، وإما غير ذلك فالأدلّة منصرفة عنها تماماً.

 

8 ـ خصوصيّات كيفيّات الاستخارة

هل أنّ الكيفيات المذكورة في نصوص الاستخارات خاصّة ويجب الالتزام بها لأداء الاستخارة أم أنّه يمكن للإنسان فعل أيّ كيفية أخرى ضمن السبحة أو حتى خارجها؟ وذلك بأن ينوي طريقة أخرى يعتمدها فإذا خرجت حبّات السبحة واحدة فهي غير جيّدة، وإذا خرجت اثنتين فهي جيدة أو بالعكس أو يستخدم طريقة أخرى غير السبحة والرقاع ونحوهما، فهل هذا ممكن أم لا؟

وهذا يعني أنّ كلّ التفاصيل الواردة في الروايات هي خصوصيّات إضافيّة اُخذت على نحو تعدّد المطلوب، وليست كيفيّات حصرية، فيمكن للإنسان الدعاء بأيّ صيغة يشاء، وليس من الضروري أن يحصر نفسه في الصيغة الدعائية الواردة في النصّ.

يقول الشيخ جعفر كاشف الغطاء: «والمستفاد من مجموع الروايات أنّه لا يتعيّن فيها صلاة، ولا دعاء، ولا قراءة، ولا ذكر، ولا رقاع، ولا قرآن، ولا سبحة، ولا عدد، وإنّما هي بمنزلة الدعاء في أن يخير له، ويدفع عنه الشرّ، من غير بيان، أو مع البيان في القلب، أو مع البيان في المصحف، أو السبحة، أو الحصى، أو الأعواد، أو الحبوب، أو بملاقاة شيء، أو مصادفته، أو غير ذلك»([359])، وقد مال بعض الفقهاء إلى عدم وجود خصوصيّة لطرق الاستخارة وكيفيّاتها، شرط عدم قصد الورود بما هو غير منصوص([360]).

وفي هذا المضمار توجد قاعدة تداولها العلماء أو جروا عليها في باب المستحبّات، فقد قالوا بأنّ المقيّدات في المستحبّات لا توجب تقييد المطلقات، بل تفيد خصوصيّات إضافية بنحو تعدّد المطلوب، على خلاف القاعدة في الواجبات، فإنّ مقتضى القاعدة هو التقييد، فلو جاء دليل: «صلّ الظهر» فدلّ على وجوب صلاة الظهر، ثم جاء دليل «صلّ الظهر في المسجد»، فإنّه يقيَّد إطلاقُ دليل «صلّ الظهر» بدليل كونها في المسجد مثلاً على كلامٍ وتفصيل لهم هناك. أما لو جاء دليل استحباب الوضوء لقراءة القرآن الكريم، ثم جاء دليل استحباب المضمضة حال الوضوء لقراءة القرآن فلا يتقيّد الأوّل بالثاني، بل نثبت كلّي الاستحباب، ونثبت استحباباً آخر للصيغة الخاصّة للوضوء المشتملة على المضمضة مثلاً.

وغالب الظن أنّهم لجؤوا إلى هذا الأمر بعد بنائهم على قاعدة التسامح في أدلّة السنن، إذ ظهر عددٌ هائل من النصوص الواردة في المستحبّات، حتى المستحبّ الواحد صارت له كيفيّات وحالات وأشكال وطرائق، فأرادوا التوفيق بينها والجمع، وإلا وقع تعارضٌ كبير من وجهة نظرهم، فجرّهم ذلك إلى فكرة تعدّد المطلوب في باب المستحبات.

والحقّ أنّ نظام الفهم اللغوي والعرفي لا فرق فيه بين استحباب ووجوب من حيث قوانين العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ما لم يعلن المتكلّم نظاماً خاصاً له وعليه:

1 ـ فإذا كان التنافي بين المطلق والمقيّد تنافي المثبت والنافي أو تنافي الحكومة المضيّقة أو ما شابه ذلك، فلابد من تقييد المطلق، ومن هذا القبيل ما أشار له السيد محسن الحكيم منتقداً إطلاقيّة قاعدة عدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبات، من كون النصوص المقيدة قد جاءت في سياق شرح الماهيّات والكيفيات وما يعتبر في الشيء وما لا يعتبر، ففي هذه الموارد تجري قوانين الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة والرافعيّة وغيرها([361]).

2 ـ وأمّا إذا كانت النسبة هي النسبة بين مثبتين، فيرجع لقواعده الخاصّة التي قرّرت في أصول الفقه الإسلامي.

3 ـ وأما فهم تعدّد المطلوب، فهو مختلف بين الموارد بحسب طريقة البيان والسياق ومناسبات الحكم والموضوع.

وعليه، فإذا رجعنا إلى نصوص الاستخارة، فإنّ ظاهرها بيان الماهيّة والكيفية والطريقة، لا سيما وأنّ مثل خبر المفضل بن عمر المتقدّم قد ورد فيه أنّهم يستخيرون بكذا وكذا فعرّض بهم الإمام وقال: «وتحسنون؟! والله ما تحسنون». ثم ذكر لهم طريقاً خاصّاً، وهو ما ظاهره بيان الكيفيات والماهيّات، الأمر الذي لا موجب معه للخروج عن موردها. نعم، عندما تصحّ مجموع روايات الاستخارة نفهم أنّ هناك عدّة طرق لها ذكرها أهل البيت، ولعلّ هناك طرقاً أخرى أيضاً لم تصلنا، أما أن نعتمد نحن طريقة خاصّة بنا غير واردة في النصّ فهذا ما يحتاج إلى دليل.

من هنا، قد يقال بأنّ الدليل هو الروايات العامّة الحاثة على الاستخارة دون بيان الكيفيّة، فيتمسّك بإطلاقها ونثبت صحّة وجواز الاستخارة بأيّ طريقة يصدق عليها عرفاً أنّها استخارة، وأمّا روايات الكيفيّات الخاصة فنعتبرها طرقاً خاصّةً في الاستخارة ذات امتياز([362])، بعد ضعف سند مثل خبر المفضل بن عمر المتقدّم.

إلا أنّ في النفس شيئاً هنا من هذا، لو أخذ مجموع الروايات بعين الاعتبار؛ لأنّه وإن كنّا نقبل به في باب الاستخارة الدعائيّة لوجود عمومات قرآنية وحديثيّة حاثّة على مطلق الدعاء، مع ترغيب باختيار الأدعية المنصوصة المأثورة، ونقبل به لو كان دليل مشروعيّة الاستخارة هو عمومات القرعة، إلا أنّنا لا نحرز وجود عمومات ومطلقات ناظرة إلى الاستخارة الاستشاريّة، كما بيّنا سابقاً، ولا نملك نصّاً عاماً في الاستخارات الاستشاريّة غير نفس نصوص الكيفيّات والطرق. نعم من الممكن إلغاء بعض الخصوصيّات الجزئية عرفاً ـ كما تقدّم عند الحديث عن استخارة العدد والسبحة ـ تجعل الجوز مكان حبّات السبحة، أو نحو ذلك مما قد يساعد الفهم العرفي عليه، أما ما هو أزيد من ذلك فمن الصعب إثباته بعد البُعد العبادي الموجود في الاستخارات. ولعلّه لهذا احتاط جداً بعض الفقهاء المعاصرين هنا([363]).

 

9ـ آداب الاستخارة و المستخير

قد ذكرت للاستخارة آداب عدّة، ومنها:

ملاحظة شرف المكان كالمسجد.

2 ـ ملاحظة شرف الزمان كيوم الجمعة.

3 ـ ملاحظة شرف الحال، كحال السجود والطهارة.

4 ـ القطع في الدعاء على الوتر، وفسّر بأن يقول: استخير الله برحمته خيرةً في عافية، خمساً أو سبعاً أو مائةً وواحد.

5 ـ عدم التكلّم في أثناء الاستخارة.

6 ـ طلب العافية عند الاستخارة.

7 ـ قراءة الدعاء والكيفيّات الخاصّة عند الاستخارة.

8 ـ التوجّه الباطني والتركيز، وأن تكون صلاته واستخارته صلاة مضطرّ.

9 ـ التسليم للنتيجة والرضا والتوكّل.

10 ـ مراعاة آداب الدعاء والصلاة والسؤال.

11 ـ التوبة والاستغفار.

إلى غيرها من الآداب التي ذكروها([364])، وجاءت ببعضها النصوص في الاستخارة بعينها كما تقدّم، وبعضها واردٌ في مطلق الأدعية لا في خصوص الاستخارات، وبعضها قد يناقش في الدليل عليه بخصوصه، ولا نطيل الكلام فيها.

 

خاتمة في نتائج بحث الاستخارة

أبرز النتائج التي توصّلنا إليها هنا نشير إليها باختصار بالغ، ما يلي:

1 ـ عدم حرمة الاستخارة مطلقاً، بل ثبوت الاستخارة الدعائيّة خاصّة، وخصوص استخارة القلب والاستشارة على أبعد تقدير من الاستخارات الاستشاريّة، وعدم ثبوت كلّ من استخارة السبحة والرقاع والبنادق والطير والمصحف. ولعلّه لما توصّلنا إليه ذكر بعض الفقهاء ـ مثل السيد السيستاني والشيخ جواد التبريزي([365]) ـ أنّ الاستخارة يؤتى بها رجاءً، مما يكشف عن عدم استحبابها عنده.

2 ـ إنّ متعلّق الاستخارة الاستشاريّة هو الأمر المباح، أو الخصوصيات الفرديّة للأمر غير المحرّم ولا المباح بالمعنى الأخص على تفصيل، أمّا الدعائية فتشمل كلّ الموارد الجائزة، بل تشمل فعل الواجب وترك الحرام.

3 ـ اختصاص مورد الاستخارة الاستشارية دون الدعائيّة بالأمور المهمّة والفرديّة على تفصيل.

4 ـ جواز مخالفة الاستخارة.

5 ـ اختصاص الاستخارة الاستشارية ـ دون الدعائيّة ـ بحال التحيّر على تفصيل.

6 ـ بطلان النيابة فيها وكذلك بطلان اشتراط الاجازة، نعم الاستشفاع جائز فيها وهو غير النيابة.

7 ـ بطلان استخارة الترك والاستخارة على الاستخارة على تفصيل.

8 ـ بطلان تكرار الاستخارات غير الدعائيّة ما لم يتغيّر الموضوع.

9 ـ ثبوت خصوصيّات الاستخارات الاستشاريّة ما لم تلغ بالفهم العرفي كخصوصيّة السبحة في استخارة العدد.

وغير ذلك من النتائج التي توصّلنا إليها بحمد الله تعالى.

هذا حاصل ما أردنا بيانه من بحث الاستخارة، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لكلّ خير.

 _______________

([1]) نشر هذا البحث في الجزء الرابع من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، بعد أن ألقاه في درسه في البحث الخارج في مدينة قم عام 2012م.

([2]) وهو الشيخ محمد علي گرامي، انظر موقعه الشخصي: www.ayat-gerami.ir.

([3]) النجاشي، الفهرست: 352؛ والطوسي، الفهرست: 213؛ ومعالم العلماء: 135؛ وابن النديم، الفهرست: 245.

([4]) كشف الظنون 2: 1389؛ وهدية العارفين 1: 373.

([5]) هدية العارفين 2: 116.

([6]) أحمد الحسيني، تراجم الرجال : 391.

([7]) حاجي خليفة، كشف الظنون 1: 844.

([8]) الطهراني، الذريعة 1: 463.

([9]) الذريعة 2: 19.

([10]) المصدر نفسه 22: 244.

([11]) المصدر نفسه 2: 19.

([12]) المصدر نفسه.

([13]) المصدر نفسه.

([14]) المصدر نفسه 3: 113.

([15]) المصدر نفسه 3: 423.

([16]) المصدر نفسه 11: 65.

([17]) المصدر نفسه 11: 255.

([18]) المصدر نفسه 15: 236.

([19]) المصدر نفسه 21: 304؛ وطرائف المقال 2: 390.

([20]) محمد حسين الحسيني الجلالي، فهرس التراث 2: 223.

([21]) الذريعة 2: 19.

([22]) المصدر نفسه.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) ذكر السيد حامد الخفاف أنّها موجودة في مكتبة جامعة طهران برقم 919، وأنّ لديه نسخةً مصوّرة عنها، فانظر مقدّمته على فتح الأبواب: 50.

([25]) الذريعة 4: 189.

([26]) المصدر نفسه 7: 287.

([27]) المصدر نفسه 8: 252.

([28]) المصدر نفسه 21: 338.

([29]) المصدر نفسه 23: 175.

([30]) فتح الأبواب: 52. المقدّمة.

([31]) الذريعة 21: 337.

([32]) المصدر نفسه 25: 192.

([33]) راجع: الصحاح 2: 652؛ والنهاية 2: 91؛ ولسان العرب 4: 258 ـ 259؛ والقاموس المحيط 2: 26؛ والمصباح المنير: 185.

([34]) السرائر 1: 314.

([35]) انظر: العين 8: 336؛ ولسان العرب 10: 167، 168.

([36]) الكاشاني، الوافي 9: 1417.

([37]) جواهر الكلام 12: 171.

([38]) انظر: البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 70.

([39]) انظر: الوافي 9: 1409؛ والحدائق 10: 524، 525؛ ومفتاح الكرامة 9: 247.

([40]) الكافي 3: 472.

([41]) المصدر نفسه 3: 471.

([42]) الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهية 2: 30.

([43]) موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت 11: 261.

([44]) الحدائق الناضرة 10: 525.

([45]) جواهر الكلام 12: 162.

([46]) انظر: محمد حسين فضل الله، القرعة والاستخارة، بحث علمي فقهي استدلالي: 85 ـ 88، دار الملاك، بيروت، ط2، 1997.

([47]) المصدر نفسه: 131 ـ 132.

([48]) روضة المتقين 2: 655.

([49]) انظر: الهمداني: مصباح الفقيه ج2، ق2: 516 (ط. ق)؛ ومحمد تقي الآملي، مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى 7: 107.

([50]) سلمان الدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مجلّة فقه أهل البيت^، العدد 58: 57 ـ 58.

([51]) انظر كلام الأردبيلي في: زبدة البيان: 626.

([52]) راجع: محمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم، مجلّة رسالة الإسلام، العدد 17 (عدد1، للسنة الخامسة): 15 ـ 16.

([53]) راجع: مباحث الأصول، ق2، ج2: 525، 526، 527؛ وبحوث في علم الأصول 4: 255.

([54]) الروحاني، زبدة الأصول 4: 287 ـ 290.

([55]) الواقدي، المغازي 1: 33 ـ 34.

([56]) صبح الأعشى في صناعة الانشا 1: 458؛ وانظر حول ذلك كلّه: جامع البيان 4: 76، 77؛ والكشاف 1: 604.

([57]) راجع: الخصال: 451 ـ 452؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 344 ـ 345؛ وتهذيب الأحكام 9: 84؛ وتفسير القمي 1: 161 ـ 162؛ وجوامع الجامع 1: 473؛ ومجمع البيان 3: 272 ـ 273.

([58]) التبيان 4: 16 ـ 17.

([59]) انظر: تفسير الثعلبي 2: 151؛ وتفسير البغوي 1: 193؛ وتفسير النسفي 1: 105؛ وتفسير الرازي 6: 48؛ وتفسير القرطبي 3: 58، و..

([60]) علي الصافي الكلبايكاني، بحث حول الاستقسام (مشروعيّة الاستخارة): 4؛ والطباطبائي، الميزان 5: 166؛ والبجنوردي، القواعد الفقهيّة 1: 70 ـ 71؛ وناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 71 ـ 73؛ وموسوعة الفقه الإسلامي 11: 264 ـ 265.

([61]) الصافي الكلبايكاني، بحث حول الاستقسام: 6؛ وحسين الحلّي، بحوث فقهيّة: 70؛ وفضل الله، القرعة والاستخارة: 126؛ وناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 73 ـ 74؛ والبجنوردي، القواعد الفقهيّة 1: 73؛ ومحمّد صادق الروحاني، زبدة الأصول 4: 289؛ وموسوعة الفقه الإسلامي 11: 265 ـ 266.

([62]) الكلبايكاني، بحث حول الاستقسام: 6؛ وفضل الله، القرعة والاستخارة: 127.

([63]) محمد الصدر، ما وراء الفقه 3، ق1: 202 ـ 203.

([64]) انظر: فضل الله، القرعة والاستخارة: 123ـ 124؛ والصافي، بحث حول الاستقسام: 6 ـ 8.

([65]) راجع: الإمام يحيى بن الحسين، الأحكام 2: 531 ـ 532.

([66]) الحلّي، المعتبر 2: 375.

([67]) الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهيّة: 2: 37.

([68]) الراغب الإصفهاني، المفردات: 403.

([69]) الصدر، ما وراء الفقه 3، ق1: 206.

([70]) سلمان الدهشوري، دراسة استدلاليّة حول الاستخارة، مصدر سابق: 85 ـ 86.

([71]) راجع: العروة الوثقى 4: 323.

([72]) راجع: حيدر حب الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي: 233 ـ 257.

([73]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: الخوئي، شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 1: 200، بل ذكر عدم جواز تقليد المرجع الذي يعمل بالقرعة والاستخارة والرمل في وصوله للأحكام الشرعيّة.

([74]) الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهيّة 2: 34.

([75]) انظر: فضل الله، القرعة والاستخارة: 103ـ 104؛ والإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهيّة 2: 32 ـ 33.

([76]) محمد الصدر، ما وراء الفقه 3، ق1: 205 ـ 206.

([77]) المصدر نفسه: 212 ـ 214.

([78]) انظر: المصدر نفسه: 214 ـ 217، 218 ـ 224.

([79]) انظر: المجلسي، مرآة العقول 12: 19.

([80]) محمّد جواد مغنيّة، في ظلال نهج البلاغة 4: 304.

([81]) انظر: ابن طاووس، فتح الأبواب: 297ـ 300.

([82]) انظر: الرازي، التفسير الكبير 5: 111.

([83]) مصباح المتهجّد: 564، 579؛ وإقبال الأعمال 1: 136، 139، 301، 337.

([84]) وسوف نحذف ما هو واضح في عدم دلالته، وإن ذكره بعض المحدّثين هنا، وهو روايات قليلة جداً.

([85]) الكافي 2: 473.

([86]) تفصيل وسائل الشيعة 7: 52.

([87]) الوافي 9: 1483.

([88]) تفصيل وسائل الشيعة 7: 54.

([89]) الراوندي، الدعوات (سلوة الحزين): 30؛ وانظر: هداية الأمّة 3: 105؛ ونقله ابن طاووس عن المعاني، فانظر: مستدرك الوسائل 5: 190؛ وابن فهد، عدّة الداعي: 132؛ وعوالي اللئالي2: 333.

([90]) مسند ابن حنبل 2: 177.

([91]) سنن الترمذي 5: 179ـ 180؛ والمستدرك1: 493؛ والطبراني، الدعاء: 39.

([92]) مجمع الزوائد 10: 148.

([93]) ابن حبّان، المجروحين 1: 372 ـ 373.

([94]) راجع: الذهبي، ميزان الاعتدال 2: 289 ـ 290.

([95]) انظر: مجمع الزوائد10: 148؛ والجامع الصغير 1: 386؛ وكنز العمال 2: 74؛ وفيض القدير 2: 695.

([96]) انظر: مرآة العقول 12: 24 ـ 25.

([97]) راجع: المصدر نفسه 12: 25.

([98]) الكافي 2: 473؛ ومكارم الأخلاق: 270؛ وعدّة الداعي: 126، والوافي 9: 1483؛ وبحار الأنوار 90: 305، 323.

([99]) مرآة العقول 12: 24.

([100]) فقه الرضا: 361.

([101]) تفصيل وسائل الشيعة 15: 229، 231؛ ومثله: مسند ابن حنبل 2: 391، 413.

([102]) مستدرك الوسائل 11: 252.

([103]) عدّة الداعي: 132.

([104]) راجع: مسند أحمد 2: 445، 482، 516، 524، 534، و3: 210، 277، 491، و4: 106؛ وسنن الدارمي 2: 305؛ وصحيح البخاري 8: 171، 199؛ وصحيح مسلم 8: 62، 66، 91؛ وسنن الترمذي 4: 23، و5: 238؛ والمستدرك 4: 240و..

([105]) الكافي 2: 47؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 325؛ وعدّة الداعي: 196.

([106]) انظر: الصنعاني؛ المصنّف 10: 443؛ والعهود المحمّدية: 278.

([107]) تهذيب الأحكام 6: 240؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 92.

([108]) الكافي 5: 491؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 95؛ والاستبصار 3: 369.

([109]) انظر: الإيرواني، دروس تمهيديّة في القواعد الفقهيّة 2: 31 ـ 32.

([110]) ابن طاووس، فتح الأبواب: 267.

([111]) ناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهيّة 1: 375، 377 ـ 378.

([112]) فضل الله، القرعة والاستخارة: 133 ـ 134.

([113]) رجال الكشي 2: 745 ـ 746.

([114]) انظر: معجم رجال الحديث 17: 38.

([115]) راجع: الإيرواني، دروس تمهيديّة في القواعد الفقهية 2: 17.

([116]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 92؛ وتهذيب الأحكام 6: 240.

([117]) انظر: تفصيل وسائل الشيعة 27: 257، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 13، ح1.

([118]) محمّد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 206.

([119]) حيدر حبّ الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي: 172 ـ 175.

([120]) محمد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق 1: 207؛ ومحمد علي گرامي، الموقع الشخصي لسماحته، مصدر سابق.

([121]) راجع: البجنوردي، القواعد الفقهيّة 1: 69.

([122]) انظر: التبريزي، صراط النجاة 1: 553.

([123]) يمكن مراجعة هذه النظرية وبرهانها عند: محمّد باقر الصدر، الأسس المنطقيّة للاستقراء: 190 ـ 208.

([124]) الكافي 3: 470؛ وتهذيب الأحكام 3: 179.

([125]) الكافي 8: 241.

([126]) ابن طاووس، فتح الأبواب: 159؛ وقريب منها غيرها، ص 160.

([127]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: ما وراء الفقه ج3، ق1: 210.

([128]) كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 563.

([129]) المصدر نفسه 1: 562.

([130]) الكافي 3: 470؛ وتهذيب الأحكام 3: 180.

([131]) سلمان الدهشوري، دراسة استدلاليّة حول الاستخارة، مصدر سابق: 58.

([132]) راجع: فتح الأبواب: 237؛ والعروة الوثقى 4: 324 ـ 325؛ وجامع أحاديث الشيعة 7: 293، 297، 298، 300 ـ 301، 304، 307، 308، 310، 314 و..

([133]) بحار الأنوار 88: 250 ـ 251، ومرجعها إلى والد البحراني كما سيظهر.

([134]) الحدائق الناضرة 10: 529.

([135]) مفتاح الكرامة 9: 264؛ وانظر: جواهر الكلام 12: 174.

([136]) مستدرك الوسائل 6: 264.

([137]) جامع أحاديث الشيعة 7: 331.

([138]) فتح الأبواب: 272 ـ 274.

([139]) ذكرى الشيعة 4: 269 ـ 270.

([140]) الرسائل العشر: 103.

([141]) ذخيرة المعاد ج1، ق 2: 349.

([142]) انظر: هداية الأمة 3: 308؛ والكفعمي، المصباح: 391 ـ 392؛ وبحار الأنوار 53: 271 ـ 272.

([143]) الوافي 9: 1417.

([144]) راجع: بحار الأنوار 88: 251.

([145]) ذكرى الشيعة 4: 269.

([146]) محمّد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق 1: 325.

([147]) مفتاح الكرامة 9: 263.

([148]) جواهر الكلام 12: 173.

([149]) مفتاح الكرامة 9: 260.

([150]) المازندراني، مباني الفقه الفعّال 3: 312 ـ 313.

([151]) انظر: فضل الله، القرعة والاستخارة: 111، هامش1.

([152]) تهذيب الأحكام 3: 310.

([153]) بحار الأنوار 88: 243.

([154]) مستدرك الوسائل 6: 258.

([155]) الوافي 9: 1416؛ ومفتاح الكرامة 9: 257؛ وجواهر الكلام 12: 157؛ ومصباح الفقيه ج2، ق2: 517.

([156]) مفتاح الكرامة 9: 257.

([157]) المصدر نفسه.

([158]) انظر: معجم رجال الحديث 21: 133 ـ 134، رقم: 13724، 13726.

([159]) حسين البروجردي، تفسير الصراط المستقيم 2: 539.

([160]) انظر: محمد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 226 ـ 227.

([161]) راجع: ما وراء الفقه ج3، ق 1: 228؛ ومباني الفقه الفعّال في القواعد الفقهيّة الأساسية 3: 286.

([162]) انظر: ما وراء الفقه ج3، ق 1: 228.

([163]) مباني الفقه الفعّال 3: 286 ـ 287.

([164]) بحار الأنوار 88: 244؛ ومباني الفقه الفعّال 3: 289؛ والوافي 9: 1416؛ ومفتاح الكرامة 9: 257؛ وشبّر، إرشاد المستبصر في الاستخارات: 52.

([165]) فتح الأبواب: 156؛ وانظر: مستدرك الوسائل 4: 304؛ وبحار الأنوار 88: 241.

([166]) بحار الأنوار 88: 243؛ وشبّر، إرشاد المستبصر في الاستخارات: 53.

([167]) مستطرفات السرائر: 637 ـ 638.

([168]) بحار الأنوار 88: 245؛ وانظر: فتح الأبواب: 277؛ ومكارم الأخلاق: 324.

([169]) سلمان الدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مصدر سابق: 167؛ ومباني الفقه الفعّال 3: 294.

([170]) النجاشي، الرجال: 372 ـ 373.

([171]) بحار الأنوار 88: 245 ـ 246.

([172]) المصدر نفسه 88: 244 ـ 245.

([173]) الدهشوري، دراسة استدلالية في الاستخارة، مصدر سابق: 69.

([174]) فتح الأبواب: 278 ـ 279.

([175]) المصدر نفسه: 278.

([176]) النوري، مستدرك الوسائل 6: 261.

([177]) انظر: فضل الله، القرعة والاستخارة: 111، هامش 1.

([178]) الكافي 2: 629.

([179]) انظر: جواهر الكلام 12: 171؛ وما وراء الفقه ج3، ق 1: 227.

([180]) انظر: الوافي 9: 1417؛ وما وراء الفقه ج3، ق 1: 227، 233 ـ 235؛ والحرّ العاملي، هداية الأمّة 3: 83؛ ولطف الله الصافي، مجموعة الرسائل 1: 130؛ والإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الفقهيّة 2: 37 ـ 38.

([181]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 22: 108.

([182]) المصدر نفسه 12: 171.

([183]) فضل الله، القرعة والاستخارة: 116 ـ 117.

([184]) المصدر نفسه: 116.

([185]) ما وراء الفقه ج3، ق1: 227؛ وانظر: سلمان الدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مصدر سابق، العدد 59 ـ 60: 103 ـ 105.

([186]) ما وراء الفقه ج3، ق 1: 227 ـ 228.

([187]) علي أكبر السيفي المازندراني، مباني الفقه الفعّال 3: 302 ـ 307.

([188]) العين 8: 336.

([189]) ترتيب إصلاح المنطق: 286؛ والصحاح 5: 1788.

([190]) الجوهري، الصحاح 2: 728.

([191]) الكافي 3: 473؛ وتهذيب الأحكام 3: 182.

([192]) الوافي 9: 1412 ـ 1413.

([193]) مباني الفقه الفعّال 3: 284 ـ 285.

([194]) انظر: العين 5: 261؛ والصحاح 4: 1452؛ ولسان العرب 10: 29؛ ومجمع البحرين 5: 141؛ وتاج العروس 13: 48.

([195]) بعد أن كتبتُ هذا التعليق رأيتُ ما هو قريب منه عند السيد فضل الله، القرعة والاستخارة: 95.

([196]) فتح الأبواب : 264 ـ 265.

([197]) المصدر نفسه: 261.

([198]) المصدر نفسه: 265 ـ 266.

([199]) الاحتجاج 2: 314.

([200]) تفصيل وسائل الشيعة 8: 73.

([201]) انظر: فضل الله، القرعة والاستخارة: 101؛ والبروجردي، جامع أحاديث الشيعة 7: 333.

([202]) فتح الأبواب: 228 ـ 229.

([203]) مثل: السيد عبدالله شبر، إرشاد المستبصر في الاستخارات: 67ـ 72.

([204]) فتح الأبواب: 160ـ 164.

([205]) بحار الأنوار 88: 235.

([206]) مستدرك الوسائل6: 250، و13: 251؛ وإرشاد المستبصر في الاستخارات: 67.

([207]) فتح الأبواب: 267ـ 268.

([208]) مباني الفقه الفعّال 3: 281.

([209]) فتح الأبواب: 269.

([210]) الكافي3: 470 ـ 471؛ والمقنعة: 219؛ ومصباح المتهجّد: 534 ـ 535؛ ومكارم الأخلاق: 322؛ وتهذيب الأحكام 3: 181ـ 182.

([211]) المقنعة: 219.

([212]) بحار الأنوار 88: 231.

([213]) مرآة العقول 15: 452.

([214]) انظر: رياض السالكين 5: 137؛ وما وراء الفقه ج3، ق1: 230.

([215]) الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 231.

([216]) انظر: علل الشرائع 2: 564.

([217]) انظر: فتح الأبواب: 181 ـ 192؛ والدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مصدر سابق: 65 ـ 66.

([218]) فتح الأبواب: 189ـ 191.

([219]) رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين 5: 137.

([220]) النجاشي، الفهرست: 437.

([221]) الرجال: 181.

([222]) المصدر نفسه: 318.

([223]) انظر: معجم رجال الحديث 20: 247 ـ 248.

([224]) الرجال: 311.

([225]) انظر: دلائل الإمامة: 465.

([226]) الكافي 3: 470.

([227]) مستدركات علم رجال الحديث 1: 425.

([228]) انظر: معجم رجال الحديث 3: 71.

([229]) انظر: مستدركات علم رجال الحديث 6: 247.

([229]) الطوسي، الرجال: 119، 271، 272.

([230]) انظر: ذخيرة المعاد (ط ـ ق) ج1، ق2: 348.

([231]) المقنعة: 219.

([232]) السرائر 1: 313 ـ 314.

([233]) الحلّي، المعتبر 2: 376.

([234]) فتح الأبواب: 285 ـ 286.

([235]) انظر: شبّر، إرشاد المستبصر: 24.

([236]) انظر: المقنعة: 286 ـ 289.

([237]) انظر: ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار 5: 318؛ وبحار الأنوار 88: 288.

([238]) الدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مصدر سابق، العدد 58: 91.

([239]) راجع: التستري، النجعة في شرح اللمعة 3: 83.

([240]) تهذيب الأحكام 10: 4.(شرح المشيخة).

([241]) انظر: ابن الصلاح، علوم الحديث: 76 ـ 79؛ ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار: 108 ـ 109؛ والميرداماد، الرواشح السماوية: 242.

([242]) الفصول المختارة: 272، وانظر: 338.

([243]) انظر: المرتضى، الأمالي 1: 63؛ والكراجكي، التعجّب من أغلاط العامّة: 92؛ وكنز الفوائد: 156، 227؛ والسرائر2: 95، 96و..

([244]) المقنعة: 27.

([245]) محمد رضا نكونام، دانش استخارة 1: 89 ـ 90.

([246]) انظر: فتح الأبواب: 289 ـ 293، 183ـ 184.

([247]) راجع: مختلف الشيعة 2: 355 ـ 356.

([248]) جواهر الكلام 12: 167.

([249]) ذكرى الشيعة 4: 266 ـ 267.

([250]) روض الجنان: 326.

([251]) الدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مصدر سابق 58: 91.

([252]) السرائر 1: 313.

([253]) انظر: مفتاح الكرامة 9: 253.

([254]) راجع: النجعة في شرح اللمعة 3: 83.

([255]) انظر: السرائر 2: 172 ـ 174.

([256]) المصدر نفسه 2: 173.

([257]) راجع: مفتاح الكرامة 9: 255.

([258]) راجع: السرائر1: 267، 313، 495، و2: 95، 304، 355، 675 ـ 676، و3: 253، 273.

([259]) انظر: نكونام، دانش استخارة 1: 88.

([260]) محمد تقي التستري، النجعة في شرح اللمعة 3: 82.

([261]) الذريعة 7: 287.

([262]) محمد هادي الأميني، معجم المطبوعات النجفية: 161؛ والدرر النجفية1: 29 (المقدمة)؛ والشهاب الثاقب: 40 (المقدّمة).

([263]) يوسف البحراني، الكشكول 2: 97 ـ 108.

([264]) انظر: أنوار البدرين: 112.

([265]) محسن الأمين، أعيان الشيعة 2: 595.

([266]) سركيس، معجم المطبوعات العربية 1: 179.

([267]) الطوسي، الأمالي: 275.

([268]) الأمالي: 155؛ وحلية الأبرار 2: 87؛ وبحار الأنوار 10: 11.

([269]) انظر حوله: معجم رجال الحديث 16: 13 ـ 14.

([270]) راجع: المصدر نفسه 14: 194 ـ 195.

([271]) الكافي 5: 256 ـ 257، و3: 471.

([272]) انظر: مرآة العقول 19: 325.

([273]) فقه الرضا: 152.

([274]) المقنع: 151؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 563؛ وفتح الأبواب: 231.

([275]) فتح الأبواب: 143 ـ 144.

([276]) الكافي 5: 347.

([277]) تهذيب الأحكام 7: 396.

([278]) مكارم الأخلاق: 204 ـ 205؛ وانظر: عوالي اللئالي 3: 340.

([279]) فتح الأبواب: 156.

([280]) راجع: نيل الأوطار 3: 90؛ وعمدة القاري 7: 225؛ وفيض القدير 1: 576.

([281]) راجع: كنز العمال 1: 135، و7: 813.

([282]) الكافي 3: 472؛ ومصباح المتهجّد: 534؛ وتهذيب الأحكام 3: 181؛ ومكارم الأخلاق: 322؛ وفتح الأبواب: 232.

([283]) بحار الأنوار 88: 277.

([284]) المحاسن 2: 599.

([285]) مرآة العقول 15: 454.

([286]) انظر: النوري، مستدرك الوسائل 6: 254؛ وشبّر، إرشاد المستبصر: 46؛ وابن طاووس، فتح الأبواب: 238.

([287]) تهذيب الأحكام 3: 311؛ ومصباح المتهجّد: 533؛ والكافي 3: 471.

([288]) محمّد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 232.

([289]) المصدر نفسه.

([290]) المقنعة: 216 ـ 217؛ والمحاسن 2: 598؛ ومعاني الأخبار: 144 ـ 145؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 562؛ وفتح الأبواب: 137 ـ 138؛ ومكارم الأخلاق: 318.

([291]) بحار الأنوار 88: 252؛ وإرشاد المستبصر: 47 ـ 48.

([292]) فتح الأبواب: 139.

([293]) انظر: ذكرى الشيعة 4: 268 ـ 269؛ ومستدرك الوسائل 6: 257؛ وبحار الأنوار 88: 252 ـ 253.

([294]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: فتح الأبواب: 97، 132، هامش2.

([295]) انظر: فتح الأبواب: 96 ـ 97، المقدّمة.

([296]) انظر: فتح الأبواب: 310.

([297]) راجع: المصدر نفسه: 113.

([298]) الملفت أنّ الشيخ ابن عربي تحدّث في كلامً له أنّ الاستخارة هي تعيين ما اختار الله لهذا العبد فعله أو تركه، ممّا يقرّب تفسيره من الاستخارة الاستشارية غير الرائجة في الأوساط السنيّة المذهبيّة، فانظر له: الفتواحات المكيّة 1: 488، ورغم أنّه وعد هنا بأنّ تفصيل الاستخارة سيأتي لاحقاً وسيشرح الموضوع، لكنّه عندما عاد وتعرّض للاستخارة في محلّه لم يذكر إلا الاستخارة السائدة، وهي الاستخارة الدعائيّة، جرياً على طريقة سائر علماء أهل السنّة وقدماء الإماميّة وكذلك قدماء المتصوّفة كما فعل الغزّالي أيضاً، فانظر: الفتوحات المكيّة 1: 537 ـ 538.

([299]) القرعة والاستخارة: 110.

([300]) حسين كريمي القمّي، قاعدة القرعة: 123.

([301]) جواهر الكلام 12: 165.

([302]) العروة الوثقى 4: 323.

([303]) انظر: الهمداني، مصباح الفقيه (ط ق) ج2، ق2: 518.

([304]) الدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مصدر سابق، العدد 59 ـ 60: 93.

([305]) المصدر نفسه.

([306]) فتح الأبواب: 176.

([307]) انظر تفصيل رأيه في: فتح الأبواب: 167 ـ 177.

([308]) ظاهر كلام الشيخ كاشف الغطاء استحبابها حتى للأمور المندوبة، بل حتى لترك المندوب أو فعل المكروه لو شك في بقاء الرجحان فيهما، فانظر: كشف الغطاء 3: 299، 300.

([309]) انظر: السبزواري، مهذّب الأحكام 9: 106.

([310]) الأنصاري، القضاء والشهادات: 119؛ وانظر: الآشتياني، كتاب القضاء (ط.ق): 301.

([311]) انظر: الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 222 ـ 224.

([312]) راجع: المدني الكاشاني، براهين الحج 2: 86.

([313]) الدهشوري، دراسة استدلالية حول الاستخارة، مصدر سابق، العدد 58: 79.

([314]) انظر: محمد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 210.

([315]) اللاري، مجموعة رسائل 10: 529 ـ 530.

([316]) لم أجد من أفتى بالاستحباب إلا عبد الحسين اللاري، مجموعة رسائل: 530، حيث ذهب إلى استحباب موافقة الاستخارة أو كراهة مخالفتها.

([317]) راجع: التبريزي، صراط النجاة 6: 403، و9: 81؛ والخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 2: 122؛ والسيستاني، استفتاءات: 31؛ وناصر مكارم الشيرازي، الفتاوى الجديدة 1: 223، 500.

([318]) كشف الغطاء 3: 299.

([319]) مجموعة الرسائل (رسالة الاستخارة): 62.

([320]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 6: 119؛ وفضل الله، القرعة والاستخارة: 130 ـ 132؛ وحسين كريمي القمّي، قاعدة القرعة: 79؛ وسيفي المازندراني، مباني الفقه الفعّال 3: 235 ـ 236؛ ومحمد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 221 ـ 223؛ ومحمد علي كرامي، موقعه الالكتروني الشخصي، مصدر سابق؛ والتبريزي، صراط النجاة 2: 417، و3: 311، و9: 81؛ والخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 2: 121، 122؛ والسيستاني، استفتاءات: 303، 405، وفقه المغتربين: 327 ـ 328؛ وناصر مكارم الشيرازي، الفتاوى الجديدة 1: 500؛ وهو ظاهر كلام محمد الحسيني الشيرازي، الفقه (القواعد الفقهيّة): 60؛ ويُنقل عن السيّد محمّد باقر الصدر كما جاء في كتاب محمّد باقر الصدر، السيرة والمسيرة 2: 286 ـ 287.

([321]) مجتبى اللاري، مجموع الرسائل: 500.

([322]) الدهشوري، مصدر سابق، العدد 58: 81 ـ 82.

([323]) انظر: فتح الأبواب: 281 ـ 282.

([324]) انظر: الحدائق الناضرة 10: 532.

([325]) حتّى عبّر السيد عبد الله شبر بقوله: «المعروف الذي جرت عليه سيرة الخلق»، فانظر له: إرشاد المستبصر: 76؛ وذكر السيد محمد الصدر بأنّ هذا ما جرت عليه سيرة المتشرّعة منذ زمن غير معروف، فانظر له: ما وراء الفقه ج3، ق1: 235. وانظر: كشف الغطاء 3: 299؛ والحدائق الناضرة 10: 532، 533؛ والسبزواري، مهذّب الأحكام 9: 103؛ وجواهر الكلام 12: 175.

([326]) أحمد أبو زيد، محمد باقر الصدر، السيرة والمسيرة 2: 286.

([327]) راجع: فتح الأبواب: 281.

([328]) ما وراء الفقه ج3، ق1: 237.

([329]) راجع: فتح الأبواب: 281 ـ 282.

([330]) الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 236 ـ 237.

([331]) بحار الأنوار 91: 285.

([332]) راجع: جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء 3: 299؛ والسبزواري، مهذّب الأحكام 9: 103؛ ومحمد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق 1: 237؛ وفضل الله، القرعة والاستخارة: 136.

([333]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الخوئي، الصلاة (موسوعة الإمام الخوئي 16): 201 ـ 202.

([334]) البحراني، الحدائق الناضرة 10: 532 ـ 533.

([335]) المصدر نفسه 10: 533؛ وفضل الله، القرعة والاستخارة: 136.

([336]) انظر: الحدائق الناضرة 10: 533.

([337]) راجع: المصدر نفسه 10: 532؛ وفضل الله، القرعة والاستخارة: 136 ـ 137.

([338]) جواهر الكلام 12: 176.

([339]) انظر: السبزواري، مهذّب الأحكام 9: 103 ـ 104.

([340]) راجع: الحدائق الناضرة 10: 533.

([341]) المازندراني، مباني الفقه الفعّال 3: 355.

([342]) المجلسي، بحار الأنوار 88: 285.

([343]) فضل الله، القرعة والاستخارة: 135، وإن كان رأيه النهائي هو جواز النيابة.

([344]) بحار الأنوار 88: 285.

([345]) فضل الله، القرعة والاستخارة: 135 ـ 136، وإن كان رأيه النهائي هو جواز النيابة.

([346]) كشف الغطاء 3: 299.

([347]) ما وراء الفقه ج3، ق1: 218.

([348]) انظر: علي أكبر صداقت، آفتاب خوبان: 44؛ وللمؤلّف نفسه أيضاً: روح وريحان، شرح أحوالات ومكاشفات آيت الحقّ سيّد عبدالكريم كشميري: 64 ـ 65.

([349]) انظر: موقعه الشخصي، مصدر سابق.

([350]) انظر: ما وراء الفقه ج3، ق1: 218.

([351]) راجع: التبريزي، صراط النجاة 9: 81.

([352]) ما وراء الفقه ج3، ق1: 220 ـ 221.

([353]) راجع: الخوئي، صراط النجاة 2: 418 ـ 419؛ والخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 2: 122؛ والسيستاني، فقه المغتربين: 327 ـ 328، واستفتاءات: 669؛ والتبريزي، صراط النجاة 10: 417؛ وناصر مكارم الشيرازي، الفتاوى الجديدة 1: 223.

([354]) راجع: الخوئي، صراط النجاة 3: 311.

([355]) كشف الغطاء 3: 300.

([356]) حول تعارض الاستخارات راجع: اللاري، مجموعة مسائل 10: 532 ـ 533.

([357]) كشف الغطاء 3: 300.

([358]) المصدر نفسه.

([359]) كشف الغطاء 3: 298.

([360]) انظر: اليزدي، سؤال وجواب: 11؛ والسبزواري، مهذّب الأحكام 9: 101.

([361]) محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 5: 595.

([362]) انظر: فضل الله، القرعة والاستخارة: 105.

([363]) محمد الصدر، ما وراء الفقه ج3، ق1: 232 ـ 233.

([364]) انظر تفاصيلها عند: محمّد رضا نكونام، دانش استخارة 1: 185ـ 289؛ وموسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت 11: 288 ـ 289؛ وفتح الأبواب: 298 ـ 300.

([365]) انظر: التبريزي، صراط النجاة 1: 553؛ والسيستاني، فقه المغتربين: 327 ـ 328.