hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

عمل المرأة ـ دراسة في ضوء معطيات الفقه الإسلامي

تاريخ الاعداد: 3/11/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
232670
التحميل

حيدر حب الله([1])

 

تمهيد

يعدّ موضوع عمل المرأة من القضايا المعاصرة المهمّة اليوم في فقه المرأة، إنّه موضوع يحاول الإجابة عن أسئلة رئيسة: هل تملك المرأة الحقّ في العمل أم لا؟ وهل أنّ عمل المرأة مقيّد بقيود أو شروط خاصّة لا نجد نظيرها عند الرجل؟ وهل تحبّذ الشريعة الإسلامية أو تشجّع على عمل المرأة؟ وهل هناك تفصيل في نظر الشريعة بين حالات عمل المرأة المسلمة وغيرها؟ ولو سمحت الشريعة بعمل المرأة فهل لديها توجيهات إلزامية خاصّة بها وبغيرها تحكم عملها المذكور؟ وما هي هذه الإلزامات القانونية والأخلاقيّة؟ إلى غير ذلك من الموضوعات التي لابدّ من رصدها للخروج بموقف شرعي من عمل المرأة، إن شاء الله تعالى.

ومن الواضح في بداية الطريق أنّ عمل المرأة بما هو عملٌ ليس فيه محذور شرعي خاصّ، فلو عملت المرأة في منزلها في الخياطة مثلاً، ولم يصاحب عملها هذا أيّ محذور شرعي فلا مشكلة في هذا العمل؛ لأصل البراءة، حيث لم نجد في نصوص الكتاب والسنّة منعاً عن حقّ التكسّب لها أو العمل من حيث هو تكسّبٌ أو عمل، وذلك من ناحية المبدأ.

وهذا يعني أنّ حقّ العمل الذي هو أحد الحقوق العامّة للإنسان في المجالين: الاجتماعي والاقتصادي، لا يميّز فيه ـ من حيث ذاته ـ بين الرجل والمرأة في شريعة الإسلام، وإنما تنشأ مواقف التحفّظ العامّة أو الخاصّة في موضوع عمل المرأة من اللوازم والآثار أو المقارنات التي تصاحب عملها، حيث قد تسجّل بعض المحاذير الشرعية التي تصاحب عمل المرأة، ومن ثم تترك أثرها في المنع عن هذا العمل نفسه.

وقد تحدّث القرآن الكريم عن استئجار المرأة للإرضاع، فقال تعالى: ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ (الطلاق: 6)، بناءً على فهم الاستئجار من ذلك، بل قد قامت سيرة المسلمين ـ كما يذكر بعضهم([2]) ـ على استئجار المرضعات، والفقه الإسلامي تحدّث عن ميزات المرضعة وأحكام استئجارها.

كما أنّ عمومات ومطلقات الحثّ على التجارة والتكسّب لا تفرّق في غالبها بين الرجل والمرأة([3]). يضاف إلى ذلك بعض الروايات الخاصّة هنا وهناك والتي تشير إلى عمل المرأة بوصفه ظاهرةً مفروغاً عن حلّيتها، مثل ما جاء في خبر السكوني: mنهى رسول الله| عن كسب الإماء، فإنّها إن لم تجد زنت، إلا أمةً عرفت بصنعة يد..n([4])، وكذا النصوص الواردة في كسب الماشطة وعملها، وما ورد من اكتساب المرأة بالنوح على الميت وغير ذلك من الأحاديث التي استند إليها بعض الفقهاء لإثبات المبدأ هنا([5]).

ولو تأمّلنا في المحاذير التي تشكّل مبرّرات الفريق المتحفّظ من عمل المرأة سنجدها محاذير ملازمة أحياناً أو عادةً لعمل المرأة، لو سلّمت بكونها محذوراً، وهذا يعني أنها ليست محاذير دائمية، مما يفرض إمكانية توفّر المرأة على عمل خالٍ من جميع المحاذير المفترضة، الأمر الذي يجعله جائزاً لا مشكلة فيه، ومن ثم لا يستطيع الفقيه أن يفتي بقولٍ مطلق بحرمة عمل المرأة في الإسلام؛ لعدم وجود حظر ذاتي متعلّق بذات العمل، ولا كون المحاذير المصاحبة للعمل ملازمةً له دائماً.

فلو أخذنا مثال توافق العمل والطبيعة الأنثوية، بوصف عدم التوافق محذوراً شرعياً، فإنّنا نجد أنّ هذا المحذور ليس دائمياً، بل يمكن أن تتوفّر المرأة على عمل يتوافق وطبيعتها الأنثوية، فبدل أن تعمل في الجيش أو قوات الشرطة بإمكانها العمل في الخياطة أو الإدارة أو الطبابة أو التعليم.

وهكذا لو أخذنا محذور خروجها من منزلها بغير إذن زوجها، فإنّه يمكن فرض تحصيلها الإذن من زوجها أو فرض عدم كونها متزوّجةً أساساً..

وعليه، فالبحث يدور حول هذه المحاذير المصاحبة، للنظر تارةً في أصل الحظر الشرعي في موردها، وأخرى في مديات تأثيرها على الموقف الشرعي من عمل المرأة.

 

الإشكاليات الشرعية المفترضة في عمل المرأة

ويمكن رصد هذه التحفظات الشرعية التي يمكن تصوّرها في عمل المرأة على الشكل التالي:

1 ـ إشكالية توافق العمل مع الطبيعة الأنثوية.

2 ـ إشكالية التأثير السلبي على الحياة العائلية.

3 ـ إشكالية الاختلاط بالأجانب وتحقّق الخلوة.

4 ـ إشكالية التأثير السلبي لعمل المرأة على فرص عمل الرجل خاصّة أو على التنمية عامّةً.

5 ـ إشكالية الخروج من المنزل بغير إذن الزوج أو الولي.

6 ـ إشكالية سفر المرأة بدون محرم.

من هنا، لابد لنا من بحث هذه الإشكاليات التي يمكن العثور عليها في ثنايا كلمات بعض التيارات الإسلاميّة التي تتحفّظ على عمل المرأة، والتي سعت خلال العقود الأخيرة لمواجهة هذه الظاهرة بطرق مختلفة، وسوف نقوم بتحليل هذه الإشكاليّات الواحدة تلو الأخرى؛ للنظر فيها ـ كلاً على حدة ـ على المستوى الفقهي والقيمي، ثم لقراءتها مجتمعةً مرّة أخرى، إن شاء الله سبحانه.

 

1 ـ إشكالية توافق العمل مع الطبيعة الأنثوية

قد يطرح المعارضون لعمل المرأة إشكاليةً تفيد أنّ الأعمال المتداولة اليوم لا تتفق جميعها مع الطبيعة الأنثوية للمرأة، ومن ثمّ فالسماح للنساء أو تشجيعهنّ على العمل بقولٍ مطلق يعني نقضاً للاستدعاءات الفطرية والتكوينية الموجودة عندهنّ، بل قد يترقّى هذا الفريق ليرى أنّ تكوين جسد المرأة وحالتها النفسية مجهّزان بوظيفة الأمومة والرعاية، ومن هنا يرى هؤلاء أنّ الأصل في مكان عمل المرأة ونوعه أن يكون في البيت فيما يكون عمل الرجل ونوعه خارج البيت؛ لأنّ المنزل هو المكان الذي تتوافر فيه تمام مقوّمات الأنوثة عند المرأة، كما أنّ المنزل يوفّر انعدام الاختلاط المتزايد بالرجال، الأمر الذي يعمّق من أنوثتها القائمة على الخصوصية والسرّية.

وربما يُستند لتأكيد الموقف الشرعي هنا إلى أمور:

الأول: قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 33)؛ فإنّ هذه الآية الكريمة تجعل الأصل في المرأة ومكانها أن يكون هو المنزل حيث الأسرة والأولاد وحماية أنوثتها الطبيعية، ومعنى ذلك حرمة خروجها من البيت إلا لحاجة، وإذا لم نفهم من الآية التحريمَ بهذا المعنى الذي يفرض إقامةً جبرية على المرأة، فلا شك في دلالة الآية على تأسيس الأصل في حياة المرأة، وهو أن تكون في البيت.

وقد يتعزّز هذا الأمر من خلال ملاحظة استخدام القرآن الكريم ضمير النسوة وأمثاله مضافاً إلى البيوت، وذلك في أربع آيات قرآنية، مع أنّ البيوت في الغالب تكون ملك الأزواج أو الآباء لا ملك النساء أو البنات؛ فقد قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 33)، و﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ (الطلاق: 1)، و﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ﴾ (الأحزاب: 34)، و﴿رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ (يوسف: 23).

الثاني: جعل الشريعة النفقةَ على الزوج والأب، مما يقدّم إيحاءً بأنّ الجانب المالي في الأسرة هو وظيفة الرجل الذي يتناسب معه الخروج وتحمّل مشاقّ العمل، فيما يكون البيت هو المكان الطبيعي الدافئ لأنوثة المرأة. ولعلّ ما يعزّز هذا المفهوم أيضاً ما جاء في قصّة موسى× مع بنات شعيب، حيث قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ (القصص: 23)، فإنّ الإشارة الأخيرة في الآية تعطي دلالةً واضحة على إرادة النصّ القرآني بيان أنّ هذا العمل ليس من شأننا كنساء، بل هو شأن الرجال، ولهذا علّلتا عملهما الذكوريّ هذا بكبر سنّ والدهما، وإلا فلا معنى لهذا الذيل في الآية الكريمة.

الثالث: إسقاط الشريعة بعض عيّنات الوظائف الذكوريّة عن المرأة كالجهاد وتولّي المناصب العامة وغير ذلك، مما يعطي إشارةً إضافية أنّ الشرع يرى ذلك تكليفاً لها بما لا يتناسب مع طاقتها الجسدية والنفسية.

ومن خلال ما تقدّم، نتوصّل إلى أنّ الأصل في عمل المرأة هو العمل الأنثوي، وأنّ الأصل في العمل الأنثوي هو الأعمال المنزلية المتعارفة، وهذا لا يضرّ بقيمة المرأة، فإنّ المشكلة هنا تكمن في تعريف العمل، حيث فسّر بما يكون مقابل أجرٍ مدفوع بحيث تكون العلاقة علاقة مادية بين العامل والمالك، في حين يمكننا فهم العمل بطريقةٍ أوسع بحيث تكون أعمال المرأة في بيتها جزءاً من مفهوم العمل في المجتمع، وسوف يتبيّن أنّ المرأة من أهمّ العاملات في المجتمع، فلا يصحّ وصف المرأة المربّية في بيتها بالعاطلة عن العمل، بل هي عاملة بعمل متناسب مع طبيعتها في مقابل الأعمال التي تشكّل ظلماً على طبيعتها كالعمل في استخراج النفط والمناجم وأعمال البناء وشقّ الطرقات والحمل والنقل وغير ذلك.

 

مطالعات نقديّة في إشكاليّة التوافق

وأمام هذه الصورة التي قد يطرحها المعارضون لمسألة عمل المرأة، يمكن التعليق ببعض الكلمات:

أوّلاً: يمكن أن نوافق ـ من حيث المبدأ ـ على ترجيح نوعٍ معيّن أو أنواع معينة من الأعمال للمرأة لا تضرّ بها وبأخلاقها وإمكاناتها الأنثوية، فإنّ القول بعمل المرأة لا يعني حصر النشاط النسوي بذلك النوع من الأعمال المضرّة بها جسدياً أو نفسياً، لكنّ الكلام في جعل الأصل في عمل المرأة هو ما ينجسم مع طبيعتها الأنثوية، ثم محاولة فرض أنّ ذلك مختصّ بالأعمال المنزلية، دون أن يطبّق الأمر عينه على الرجل، فلو كانت بعض الأعمال تضرّ بأنوثة المرأة، فلماذا لا يجري الحديث عن بعض الأعمال التي قد تضرّ برجولة الرجل؟ وكيف لم يقدّم معارضو عمل المرأة صورةً واقعية عن المشهد ما دام المرجع هو الحفاظ على الجانب الطبيعي والفطري في خلقة المرأة؟! وإذا كانت كلّ الأعمال لا تضرّ برجولة الرجل ـ بما فيها التنظيف والطبخ والخياطة وتعليم الأطفال والتجميل وتزيين الشعر والجسم وغير ذلك ـ فكيف نشأ هذا الفرق؟! حيث لابد من تقديم تفسير عقلاني حينئذٍ للتمييز المذكور غير مجرّد العادة الجارية التي قد يكون سببها الاستئناس بالأمر الواقع؟!

إنّ الاستئناس بالأمر الواقع وبالتجربة التاريخية الموروثة اجتماعياً قد يكون سبباً وراء تصوّر عمل خاصّ للمرأة، لاسيّما مع ادّعاء أنّ الأصل فيه هو داخل المنزل. وإلا فهناك العشرات من الأعمال التي يمكن أن تقوم بها المرأة بما لا يضرّ بتكوينها كالطبابة والصيدلة والتربية والتعليم والأعمال الإدارية والفنّية والبحثيّة بأنواعها وغير ذلك مما يغطّي مساحات كبيرة من العمل والوظائف في عصرنا الحاضر.

ثانياً: إنّ الاستناد إلى الآية 33 من سورة الأحزاب، والآمرة بالبقاء في البيوت غير صحيح؛ فإنّ الخطاب في هذه الآية الكريمة هو لنساء النبي، تماماً كمجمل السياق المحيط بها أيضاً من آيات، والقول بعمومية الحكم الوارد في الآيات يحتاج إلى دليل، فلا يصحّ ما ذكره بعضهم([6]) من الجزم بأنّ الحكم عام، وأنّ التركيز على نساء النبي كان من باب التأكيد الأشدّ، تماماً كما نقول لعالمٍ: أنت عالمٌ فلا تكذب، مما لا يعني جواز الكذب للآخرين وصيرورته مباحاً لهم.

والذي يؤكّد ما نقول أنّ مجمل سياق الآيات السابقة كلّها تقريباً يظهر فيه أنّ الخطاب لنساء النبي|، وأنهنّ يتميّزن عن غيرهنّ من النساء، وأنّ الله تعالى كان بصدد التركيز عليهنّ، وهذا معناه أنّ الآيات جاءت حديثاً معهنّ، فتسرية أحكامها إلى غيرهنّ يحتاج إما إلى دليل من الخارج يثبت أنّ حكماً ما ثبت مستقلاً لغيرهنّ أيضاً، كما في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أو إلى شاهد تعليلي في داخل الآيات يفيد أنّ نكتة الحكم لا تختصّ بزوجات النبي|، وإلا فمن غير المعلوم أنّ هذه الآيات ـ لاسيّما بعد تصريحها بــ ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء..﴾ ـ تستوعب في حدّ ذاتها غير زوجات النبي إلا بشاهد وقرينة.

بل الشاهد على عكس ذلك في نقطة بحثنا؛ فإنّه إذا كان المراد من الآية هو مطلق الخروج إلا لحاجة وضرورة أو لقضاء واجبٍ شرعي كالحج، وكانت الآية عامّةً شاملة، لكان معنى ذلك أنّ سيرة المسلمين في العصر النبوي ومن بعده لابد أن تكون قائمةً على ذلك، وإلا لصدر النهي من النبي أو الصحابة أو أهل البيت، ولمّا كانت هذه ظاهرةً عامة فلابد أن يكون التركيز عليها كبيراً بحيث يصلنا اعتراض عام حول ظاهرة خروج النساء من البيوت، كيف وقد كانت النسوة تخرجن للتسوّق وغيره دون اعتراض، ولم نسمع يوماً أنّ النبيّ وأهل البيت والصحابة قد استندوا إلى هذه الآية لمواجهة ظاهرة خروج النساء من بيوتهنّ، على خلاف الاستناد إلى هذه الآية نفسها في قضية خروج السيدة عائشة على الإمام علي× في حرب الجمل، فهذا الشاهد يعزّز الاختصاص دون وجود شاهد عكسي لصالح التعميم.

هذا كلّه، إذا لم نذهب إلى أنّ القرار في البيوت هنا بمعنى الوقار والسكينة لا بمعنى الاستقرار كما طرحه بعض([7])؛ إذ يصبح معنى الآية الكريمة بأنّ عليكنّ أن تكنّ على سكينة ووقار في بيوتكنّ، فتغدو أجنبيّةً عن محل البحث، وإن كان هذا الاحتمال التفسيري ـ فيما يبدو لي ـ بعيداً.

كما ينبغي أيضاً ـ لكي يصّح استدلال معارضي عمل المرأة هنا ـ أن يكون المراد من القرار في البيوت هو البقاء فيها مقابل الخروج، وإلا فلو فُهم من القرار في البيوت الاحتشام والعفّة في مقابل تبرّج الجاهلية الأولى، فيكون المعنى حينئذٍ: والتزمن العفّة والحشمة والستر والحجاب ولا تكنّ متبرّجات كحال الجاهلية الأولى، حيث كانت المرأة تخرج بين الرجال سافرةً وتختلط بهم بلا إطار شرعي.

ثالثاً: إنّ استخدام القرآن الكريم إضافة البيوت إلى النساء مع عدم ملكيتهنّ في العادة للبيوت، لا يعني بالضرورة إيجاد ربط بين المرأة والقرار في البيت مطلقاً، بل على العكس من ذلك، قد تفهم الإضافة في سياق تكريم الزوجة، بمعنى جعل هذه البيوت منسوبةً إليهنّ ـ مع عدم ملكيتهنّ لها ـ نتيجة ما لهنّ فيها من حقّ السكنى والاستفادة والاختصاص بالمعنى العام للكلمة، ومن هنا نقول بأنّ هذا البيت هو بيت فلانة؛ لأنه ملك زوجها وهي تعيش معه فيه، لا لأنه لا يحقّ لها الخروج أو لا يرجح لها ذلك، بل لأنّ صيرورته سكناً لها وحقاً في السكن يجعل لها نحو علاقة به تبرّر إضافة البيوت إليها.

رابعاً: إنّ إسقاط الشرع النفقةَ على الزوجة وجعلها على الزوج وإن دلّ على تحميل الزوج المسؤولية المالية للمنزل، لكنّه لا يدلّ على مرجوحية عمل المرأة فضلاً عن التحريم؛ لأنّ النفقة على الزوجة حقّ لها لا واجب عليها من ناحية الأخذ، وهذا معناه أنّ الشريعة عندما جعلت للمرأة على الرجل حقّ النفقة حتى لو كانت ذات يسار قد ألزمت الرجل بأداء الحقّ إليها، لكنها لا تُلزم المرأة بأخذ هذا الحقّ، فبإمكانها إسقاطه إما مطلقاً وإلى الأبد كما هو أحد الأقوال في المسألة أو كلّ يوم بيوم أو كلّ مدة بمدّة، وهذا كلّه يعني أنّ الإسلام بإلزامه الزوج بالنفقة لا يلزم المرأة بالبقاء أو عدم العمل، بل ولا يرجّح ذلك، وإنّما يعطيها الحقّ في ذلك، وإعطاؤها هذا الحقّ لا يعني سلبها حقّ الملكية أو التكسّب. ويشهد لذلك أنّ النفقة واجبة على الزوج على المعروف حتى لو كانت المرأة ذات يسار، فبإمكانها التكسّب وتحصيل المال ومع ذلك يجب على الزوج النفقة، وهذا غاية ما يدلّ عليه أنّ الإسلام لم يلزم المرأة بالعمل والتكسّب لإعالة المنزل، وقد يكون ذلك إفساحاً في المجال للجانب التربوي والأسري الموكول إليها، لا أنه ألزمها بعدم العمل أو جعله مرجوحاً بالنسبة إليها، فلاحظ جيّداً.

خامساً: إنّ آية سورة القصص في حديثها عن المرأتين مع موسى×، لا ترتبط ـ بالضرورة ـ بمسألة عدم شأنية المرأة أن تعمل مثل هذا العمل، بل الأرجح أن يكون ذلك مرتبطاً بمسألة تصدّيهنّ لعملٍ فيه هذا الاختلاط، فإنّهما لما سألهما موسى عن حالهما لم تجيبا بأنّنا نسقي، والسبب هو أنّ أبانا شيخ كبير، بل أجابتا بما يتصل بالاختلاط الذي فرض عليهنّ حالة ﴿مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾، فقد كانتا تمنعان مواشيهما عن التقدّم إلى مكان الماء للشرب قبل أن ينصرف الناس كي لا يختلط الأمر وتضطرّان للاختلاط بالرجال، فالمشكلة كانت مشكلة الاختلاط في هذا الوضع، ولهذا سقى لهما موسى× لما رأى من حالهما، ولم تكن المشكلة أننا نسقي ـ بصرف النظر عن الاختلاط ـ مقابل عدم السقي، لتكون الآية على صلة بالعمل بوصفه فعلاً مقبولاً وأنثوياً أو لا، فلابدّ من إدراج هذه الآية الكريمة في موضوع الاختلاط، لا في موضوع أصل العمل الأنثوي.

يُشار إلى أنه ليس في الآية جهة إلزام شرعي حتى لو تمّت الاستفادة منها، بل فيها ترجيح على أبعد تقدير.

سادساً: إنّ الحديث عن إعفاء المرأة من بعض الأعمال ذات الطابع الذكوري كالجهاد والمناصب العامّة، بل منعها ـ وضعاً ـ من بعضها، هو دعوى مشهورة، لكنّ تحقيقها مشكل؛ فقد حقّقنا في محلّه أنّ المرأة يمكنها أن تكون مرجع تقليد([8])، كما أننا نشكّك في منعها من حقّ القضاء والولاية على تفصيل نوكله إلى محلّه، فلم يبق سوى بعض أنواع الشهادات وكذلك إمامتها لصلاة الجمعة والجماعة. ومسألة الشهادة لا علاقة لها بالعمل؛ لأنها ليست عملاً بالمفهوم الاقتصادي والتنموي، فضلاً عن أنّ القرآن الكريم قد كشف عن الوجه في بعض قضايا الشهادة بقوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ (البقرة: 282)، فلعلّ الوجه في دقّة الشهادات، لا في مسألة العمل والخروج أو منافاة ذلك لأنثوية المرأة.

يضاف إلى ذلك كلّه، أنه حتى لو سلّمنا أنّ الشريعة لم تحبّذ تصدّي المرأة للقضايا العامّة السياسية وغيرها، فهذا لا يكشف بالضرورة عن علاقة هذا الموضوع بمسألة العمل الذكوري والأنثوي بقدر ما يتصل بموضوع إمكانات المرأة من جهة (وهو موضوع أخصّ من موضوع الذكورية والأنوثية في العمل) والاختلاط من جهة ثانية.

فلا يبقى هنا إلا ما نراه على صلة واضحة بقضيّة البُعد الذكوري والأنثوي، وهو موضوع الجهاد؛ فإنّ الفهم العقلائي يستقرب أنّ إسقاط الجهاد عن المرأة كان لما في الجهاد من طابع الخشونة وما يحتاجه من قوّةٍ وشدّة لا تتناسبان مع نعومة المرأة ورقّتها وأنثويّتها، وهذا ما يفتح على قضيّة عامة في عمل المرأة، وهو أنّ الشريعة لم تكن متحمّسة لهذا النوع من الأعمال المشابهة أو القريبة من الجهاد، مثل انتساب المرأة إلى عمل الشرطة بأنواعها أو القوات الأمنية، ممّا بتنا نشهد ظواهره في بعض البلدان الإسلامية.

والمسألة الفقهية التي تقع على صلة بهذا الموضوع هي مسألة الجهاد التي يفترض فيها أن تكشف عن رغبة الإسلام وعدم رغبته في تصدّي المرأة لهذا النوع من الأعمال القاسية، وتطلّ بنا بحقّ على قضية العمل الأنثوي من حيث المبدأ؛ من هنا لا بأس بمعالجة مسألة سقوط الجهاد عن المرأة لنطلّ من خلالها على موضوع البحث هنا.

ونقول: من الشروط التي ذكرها الفقهاء في وجوب الجهاد الذكورة، حيث شرطوها في الجهاد الابتدائي سنّةً وشيعة، والظاهر أنّ الأدلّة العامّة في الجهاد من الآيات والروايات تشمل الرجال والنساء على السواء، وليست منصرفةً عنهنّ، إذ لا موجب لهذا الانصراف بعد أن كانت نصوص الجهاد كسائر النصوص الواردة في التشريعات المختلفة تطال بطبيعتها الرجل والمرأة. نعم، عدم مشاركة المرأة في تلك العصور في الحرب كان حقيقةً قائمة في الحالة الغالبة، ويبدو أنّ سببه كان قساوة الحرب من جهة وضعف إمكانات المرأة الجسدية من جهة ثانية، مع أنّه من غير المعلوم في بعض صور الجهاد الدفاعي ـ كحالة هجوم الأعداء على بلاد المسلمين ـ أنهنّ لم يكنّ يشاركن في القتال أو في الإعداد له، على أنّ خروجهنّ للحرب كان أمراً عسيراً مع وجود أطفال صغار يرتبك حالهم مع فقدان آبائهم وأمهاتهم ولو لمدّة، ولم تكن الحياة بالتي تسمح بتفادي مثل هذه النتائج الصعبة لخروج المرأة للجهاد.

وحيث إننا نذهب إلى عدم ثبوت الجهاد الابتدائي في التشريع الإسلامي([9])، فلا يبقى إلا الجهاد الدفاعي، ومعه بإمكاننا القول بأنّ الملاك الثابت في الجهاد الدفاعي ملاك هامّ وأساسي جداً تصلح قوّته لشمول الحكم، فلا ينبغي الشك في إطلاق أدلّة الجهاد وعمومها للرجل والمرأة، بل لو قلنا بالابتدائي لم يكن هناك مانع في النصوص؛ لأنّ الانصراف بعد هذا التوضيح الذي ذكرناه لن يكون قائماً سوى على قلّة الوجود لا على ما يوجب تقييداً في الأدلّة.

لكن في المقابل، ثمّة أدلّة طرحها مشهور فقهاء الإسلام لإسقاط وجوب الجهاد عن المرأة، لابد من التعرّض لها هنا.

 

أدلّة عدم وجوب الجهاد على المرأة، وقفات نقدية

أبرز ما قدّمه المشهور هنا لإسقاط وجوب الجهاد عن المرأة ما يلي:

أولاً: الإجماع على سقوط الجهاد عن المرأة([10]).

وهذا الإجماع لو سلّمنا به صغروياً وتاريخيّاً وقبلنا كاشفية الإجماع في علم أصول الفقه بالطريقة التي يطرحونها، نجده هنا واضح المدركيّة؛ للأدلّة القادمة، أو لا أقلّ من أنّ ضعف النساء عن هذا الأمر قد يكون أوحى لهم بانصراف الأدلّة، مضافاً إلى عدم المعهودية.

ثانياً: النصوص الخاصّة، فإنّنا بعد مراجعة المصادر الحديثية ـ حيث خلى القرآن الكريم من الإشارة إلى هذا الموضوع ـ لم نجد هذه النصوص المعتمدة هنا تمثل إلا عدداً محدوداً من الروايات القليلة جداً، وهي:

1 ـ الحديث المتعدّد السند عن النبي أو الإمام علي أو الإمام الباقر: mوجهاد المرأة حسن التبعّل..n([11]).

وقد ورد هذا الحديث في بعض المصادر ـ كنهج البلاغة وتحف العقول وخصائص الأئمة، وكذا ما في موضعٍ من الكافي وآخر من الفقيه ـ مرسلاً، فيما ورد مسنداً في سائر المصادر، وأسانيده هي:

أ ـ سنداه الواردان في كتاب الخصال للشيخ الصدوق، والأوّل ضعيف جداً بكلٍّ من: أحمد بن الحسن القطّان؛ لأنه مهمل، والحسن بن علي العسكري (السكري)؛ لأنه مهمل أيضاً، ومحمد بن زكريا الجوهري البصري (298هـ)؛ لأنه مجهول، وجعفر بن محمد بن عمارة؛ لأنه مهمل، ومحمد بن عمارة أيضاً؛ لأنه مهمل كذلك. كما أنّ سنده الآخر في الخصال في حديث الأربعمائة ضعيفٌ بالحسن بن راشد، حيث لم تثبت وثاقته.

ب ـ سند الجعفريات، وقد حقّقنا في محلّه أنّ كتاب الجعفريات لم يثبت، وفاقاً لمثل السيد الخوئي.

ج ـ سند الكليني في الكافي، وهو ضعيفٌ بسهل بن زياد، وعلي بن حسان الذي ضعّفه علماء الرجال.

د ـ سند الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه، وفي الطريق موسى بن بكر الذي لم يثبت توثيقه.

هـ ـ سندا ابن عبد البرّ في التمهيد، والأوّل فيه عثمان بن عثمان بن خالد بن الزبير، وهارون بن يحيى الحاطبي وهما مهملان مجهولان جداً، كما صرّح ابن حجر بمضمون ذلك([12])، وأما سنده الآخر، فهو ضعيف أيضاً بأحمد بن داوود الحراني المضعّف([13]).

و ـ سند الإصبهاني في دلائل النبوّة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وهو ضعيفٌ بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم المضعّف عند علماء الرجال المسلمين.

ز ـ سند الراوندي إلى أبي هريرة، وفي السند عبد الرحمن بن حرملة، وقد اختلفوا فيه بين مضعِّفٍ وموثق([14])، والحسين بن إسحاق الدقاق، وهو مهمل([15]).

وبهذا يظهر أنّ جميع أسانيد هذا الحديث ضعيفة، إما بأشخاص متّهمين بالكذب والوضع، أو بمهملين أو مجاهيل، على أنّ بعض الأسانيد مشتركة في بعض الرواة، مثل السند الثالث والرابع فليلاحظ ذلك.

وأمّا دلالة هذا الحديث فجيّدة؛ لأنّ الحديث كأنما يريد أن يجعل جهاد المرأة في التبعّل الحسن ويصرفه عن معناه العام.

2 ـ خبر الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين×: mكتب الله الجهاد على الرجال والنساء، فجهاد الرجل بذل ماله ونفسه حتى يقاتل في سبيل الله، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرتهn([16]).

وتقريب الاستدلال به أنّه بتقسيمه صَرَفَ أدلّة الجهاد عن الشمول للمرأة، فلا يجب عليها، فهو قاطعٌ للاشتراك وشارح للجهاد الواجب على المرأة([17]).

وقد روي هذا الحديث أيضاً بعبارات قريبة عن شريس الوابشي عن جابر عن الباقر× في كتاب من لا يحضره الفقيه([18])، والسند ضعيفٌ بجهالة الوابشي، وأما سنده إلى الأصبغ فرغم تصحيح بعضهم له([19])، ألا أنّ الصحيح أنّه غير معتبر بالحسين بن علوان، فهو مجهول عندنا.

3 ـ خبر عائشة وغيرها، قالت: استأذنت النبيّ في الجهاد، فقال: mجهادكنّ الحجّn([20])، والرواية تفيد صرف مفهوم الجهاد عن النساء إلى شيء آخر.

والظاهر أنّ سند الحديث صحيح وفق قواعد النقد الحديثي السنّي.

4 ـ خبر أنس بن مالك، قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، أخرج معك إلى الغزو؟ قال: mيا أمّ سليم، إنه لم يكتب على النساء الجهادn، قالت: أداوي الجرحى، وأعالج العين، وأسقي الماء، قال: mفنعم، إذاًn([21]). ودلالته صريحة على عدم وجوب الجهاد عليهنّ، لكنّ الخبر ضعيف السند بجعفر بن سليمان بن حاجب الأنطاكي، حيث لم يرد فيه ما يوثقه.

5 ـ ما روته عائشة زوج النبي، عنه|، أنه: سأله نساؤه عن الجهاد، فقال: mنِعْمَ الجهاد الحجّn([22]).

وهذا الخبر يمكن تصحيح سنده وفق أصول علم الرجال السنّي، ولعلّه عين الخبر الثالث المتقدّم، لكنّه لا يفيد سقوط وجوب الجهاد عن المرأة؛ لأنّ السؤال ـ كما الجواب ـ لا يحتويان إشارةً إلى أنّ الموضوع هو جهاد المرأة، وإن كانت المناسبات السياقية وأنّ السائلين هم نساء النبي| تعزّز جداً هذا الافتراض.

6 ـ خبر عائشة، أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: mلا، لكنّ أفضل الجهاد حجّ مبرورn([23]).

والظاهر أنّ الحديث صحيح الإسناد عند أهل السنّة([24])، كما أنّ دلالته واضحة، وإن كان في إطلاقه أفضليّة الحجّ من القتال في سبيل الله في صدق عنوان الجهاد تأمّلٌ؛ إذ الحديث يثبّط عن الجهاد ويرغّب في الحج، وهو محلّ استفهام، اللهم إلا إذا أريد من ذلك أنّ الحجّ هو أفضل الجهاد للنساء خاصّة، مع افتراض سقوط كلمة (لَكُنَّ) من الرواية أو تقديرها.

7 ـ خبر أم كبشة، قالت: يا رسول الله، أتأذن أن أخرج في جيش كذا وكذا؟ قال: mلاn، قالت: يا رسول الله، إنه ليس أريد أن أقاتل، إني أريد أن أداوي الجرحى والمرضى أو أسقي المرضى. قال: mلولا أن تكون سنّة، ويقال: فلانة خرجت، لأذنت لك، ولكن اجلسيn([25]).

ولكنّ هذا الحديث يعارض ما ثبت صحيحاً وتاريخياً من أنّ بعض النساء كنّ يخرجن إلى الجهاد لمثل المداواة، كما في الخبر الصحيح عن أمّ سليم قالت: كان النبي| يغزو معه نسوةٌ من الأنصار فتسقي الماء وتداوي الجرحى([26]). من هنا يترجّح أن يكون في الأمر خصوصية دفعت النبي للتحفّظ، ولعلّ الخصوصية في نفس تلك المرأة ـ أم كبشة ـ إذ ربما يكون خروجها له وضعه الخاصّ.

هذا، وأم كبشة لا موجب لتوثيقها، سوى أنها من الصحابيات، ويبدو أنه ليس لها إلا هذا الحديث، ولا معلومات إضافية حولها سوى أنها من قضاعة([27])، ولا نقول بنظرية عدالة الصحابة بعرضها العريض، فالخبر ضعيف السند.

8 ـ خبر عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: mنعم، عليهنّ جهاد لا قتال فيه، الحجّ والعمرةn([28]).

والظاهر تصحيح السند وفق أصول أهل السنّة([29])، والدلالة ظاهرة، وهناك نصوص أخَر ضعيفة السند جداً([30]).

وبهذا نستنتج أنه لم يصحّ أيّ خبر عند الإمامية في إسقاط وجوب الجهاد على المرأة، أما عند أهل السنّة فالظاهر وجود ثلاثة أخبار صحيحة على الأقلّ، ومجموع النصوص يبلغ ثمانية، لكنّ جملة من روايات أهل السنة ترجع إلى سند واحد أو متقارب، ينتهي إلى عائشة بنت طلحة عن عائشة زوجة النبي، ممّا يقلّل من نسبة سرعة حصول اليقين بصدور الحديث، ومثل هذا العدد القليل من الأخبار ـ بعد حذف ما لا دلالة له ـ لا يورث اطمئناناً بالصدور، وقد بحثنا بالتفصيل في كتابنا mحجية الحديثn بأنّ حجية الخبر خاصّة بالخبر الاطمئناني. بل لو صحّت هذه الأخبار وأورثت العلم العادي بالصدور لما دلّ بعضها إلا على إسقاط الوجوب، لا على مرجوحيّة جهاد المرأة، بل لو دلّ على المرجوحيّة يصعب تعميمه لكلّ عملٍ شاق، حيث يختصّ بما كان فيه مظنّة بذل المهج.

ثالثاً: ما ذكره السيد الخوئي من سيرة النبي|، حيث لم يكن يعهد أنه يخرج النساء أو يطالبهنّ، ولو كان الجهاد واجباً عليهنّ لكان من الطبيعي أن يتعامل معهنّ تعامله مع الرجال([31]).

وهذا الوجه جيّد لولا محذور أنّ طبيعة الحرب في تلك الأيام وطبيعة الحياة عموماً لم تكن تجد عظيم فائدة في مشاركة النساء في القتال؛ لصعوبة الحرب وضعف النسوة جسدياً عادةً عن مثلها، ولهذا وجدنا أنّ خروج النساء مع النبي| إلى الغزوات كان لمثل مداواة الجرحى وصنع الطعام، وأنهنّ لم يشاركن في القتال، إلا ما روي في بعض المصادر السنّية عن أمّ عمارة الأنصارية، وأنها كانت تقاتل يوم أحُد ذبّاً عن النبي|([32])، فلعلّ الجهاد كان واجباً عليهنّ لكنّ النبي| لم ير فيه مصلحةً آنذاك في غير دائرة المساعدة دون القتال، والسيرة والفعل دليلان لبيّان يقتصر فيهما على القدر المتيقن، كما لا ينبغي الغفلة عن أنّ الجهاد لا يختصّ بالقتال الفعلي المباشر، فمن يداوي الجرحى في ساحة المعركة أو يقوم بالدعم اللوجستي فهو يجاهد، ولعلّ هذا المقدار هو ما كان يطلبه النبي| منهنّ لإمكانه لهنّ، ولم يكن الجيش بحاجة إلى أكثر من ذلك، بل ربما كان في الأمر مضرّة.

وعليه، يلاحظ على الفقهاء أنهم فصّلوا في شرط الذكورة بين الجهاد الابتدائي والدفاعي، ولم نفهم هذا التفصيل أيضاً، فإذا كان مدرك سقوط الجهاد عن المرأة في الابتدائي انصراف أدلّة الجهاد، فهذا متساوي النسبة إليهما، وإذا كان هو الروايات فكذلك، وإذا كانت سيرة الرسول| فجهاد الرسول في أغلبه دفاعي بالمعنى العام؛ لأنّ النبي كان يقاتل من يكيدون بالإسلام ويخطّطون لإسقاطه، وقد أخرجوه من دياره، فأراد العودة إليها وهكذا، فسيرته دالّة على سقوط الوجوب في الدفاعي أكثر من الابتدائي، ولم نعثر على أيّ دليل يصحّح هذا التمييز، إلا العنوان الثانوي القائل بأنّ الدفاع دفاعٌ عن بلاد المسلمين، والمصلحة العليا تقتضي مشاركة الجميع، لكنّ هذا ليس كلاماً في العنوان الأولي، وإطلاق وجوب الدفع على القادر لم نجد له دليلاً، أفهل يشمل غير البالغ مع سقوط التكاليف عنه؟! اللهم إلا بالعنوان الثانوي.

والنتيجة هي القول باشتراط الذكورة في الجهاد مطلقاً ـ عدا الدفاع الشخصي أو العنوان الثانوي ـ إذ قبلنا تخصيص الكتاب بالآحاد، وقلنا بحجيّة الآحاد، أو اعتبرنا أنّ مجموع هذه النصوص المتقدّمة يفيد الاطمئنان بالصدور، أو قلنا بأنّ آيات الجهاد فهمها المسلمون الأوائل خاصّةً بالرجال؛ لذا لم يكن هناك سؤال هام عن الموضوع، بلا فرق في ذلك بين الدفاعي والابتدائي. وكلا الأساسين باطل؛ لعدم التخصيص من جهة، وعدم السؤال كان لضعف النساء فيكنّ مشمولات لملاك الضعف العام الحاكم في كتاب الجهاد عامّة.

فالظاهر شمول حكم الجهاد مطلقاً للرجال والنساء في الابتدائي والدفاعي، نعم، ضمن ملاك ما تتحقّق به الكفاية، وما يراه حاكم المسلمين، وما لا يكون فيه حال المرأة حال الضعف عن المشاركة، كما في أغلب الحالات في الأزمنة الماضية، ولم تخلّ مشاركتها بأيّ عنوان آخر، اللهم إلا إذا قيل بأنّ الضعف النوعي فيهنّ أسقط التكليف نوعاً حتى في حال القدرة.

وبناءً على ذلك كلّه، يتبيّن أنّ الإسلام وإن أوجبت إطلاقات الكتاب الكريم فيه شمول الحكم في الجهاد للرجل والمرأة، إلا أنه حيث كان الجهاد عندنا دفاعياً فقط أمكن فهم هذه المشروعية في سياق حاجة المجتمع الإسلامي إلى مشاركة المرأة في هذا الموضوع، ومعه فلا نفهم وجود رغبة أو توجّه عام لمشاركة المرأة في مثل هذا النوع من الأعمال إلا حيث تستدعي الضرورة وإن لم يكن هناك منع بملاحظة العناوين الأولية، بل إنّ إخراج الرسول| للنساء إلى الحرب لأعمال دعم وإسعاف رغم إمكانية اعتماد الرجال لهذا العمل لا أقلّ في بعض الحروب، شاهدٌ على أنّ الطبيعة الأنثوية لا تتنافى مع هذا النوع من الأعمال، ممّا ينتج أنّ قضية التنافي مع الطبيعة الأنثوية ليست أمراً دينياً بقدر ما هي عنوان واقعي، فلو ثبت أنّ عملاً ما ينتج آثاراً سلبية على شخصية المرأة ـ فرداً أو نوعاً ـ فإنه يمكن المسير إلى مرجوحيته نظراً لما يُنتجه، لكنّ ذلك يكون بالعنوان الثانوي لا الأوّلي.

أما موضوع الخروج من المنزل والاختلاط فسيأتي الحديث عنه كما قلنا، وهو بحثٌ آخر لا يرتبط بجهة البحث في الإشكالية الأولى والتي تمركزت حول الطبيعة الأنثوية للعمل الذي تمارسه المرأة.

وبهذا يظهر أنّ الإشكالية الأولى لا دليل عليها إلا بالمقدار الذي تفرضه العناوين الثانوية الحافّة أو القواعد المساعدة في الفقه الإسلامي عموماً كتقديم الأهمّ على المهم أو سدّ الذرائع أو غير ذلك.

ومن ذلك نعلم أنّ الطبيعة الذكورية لعمل الرجل تخضع للاعتبار نفسه، فلو مارس أعمالاً ينجم عنها تأثيرات سلبية من زاوية نوعها أمكن الحديث عن مبدأ المرجوحيّة بالطريقة التي بيّناها.

 

2 ـ إشكالية التأثير السلبي على الحياة العائلية

ينطلق الرافضون لعمل المرأة من أنّ عملها يؤدّي إلى تقصيرها القهري في حقّ أولادها وزوجها، ومن ثمّ فهو يفضي إلى تفكّك الأسرة من خلال استبدال الأمومة بالحاضنات أو مراكز الحضانة. إنّ التجربة التي وقعت حتى الآن تؤكّد هذا الأمر وتثبت أن توجّه المرأة إلى العمل خارج منزلها كانت له آثار وخيمة على الوضع الأسري وعلى التربية وحسّ الأمومة والرعاية والحضانة.

ولكي ندرس هذه الإشكالية لابد أن ننظر إليها تارةً بمنظار شرعي وفقاً للأحكام الفقهية والشرعية، وأخرى من ناحية عقلانية تفضي إلى تطبيق القواعد الشرعية العامّة.

أ ـ فلو رجعنا إلى المجال التشريعي المنطلق من النصوص، فسوف نلاحظ أنّ هذا الكلام غير واضح من زاوية ادّعائه أنّ المرأة مطالبة بالجانب الداخلي من الأسرة، فالفقهاء المسلمون لم يوجبوا على المرأة تربية الأطفال ولا حضانتهم ولا حتى إرضاعهم ما لم تتوقف حياتهم عليه، وأجازوا لها أن تأخذ الأجرة لو فعلت ذلك ولو كان واجباً عليها، تماماً ككافة ما يرتبط بقضايا العمل المنزلي، ولم تدرج الكتب الفقهية ضمن واجبات الزوجة أو الأمّ الأعمال المنزلية بقدر ما ركّزت على وجوب أن تمكّن زوجها من نفسها أو أن لا تخرج من منزله إلا بإذنه وما شابه ذلك، ومع مثل هذه المجموعة من المواقف الفقهية.. كيف نستطيع الحديث عن مفهوم إسلامي إلزامي يتعلّق بالملفّ العائلي؟

ولو كانت الشريعة ترى وظائف التربية والعمل المنزلي و.. قائمةً على المرأة، فكيف لم نجد دليلاً مقنعاً على ذلك بنحو إلزامي لدى مشهور الفقهاء؟! فلم يتحدّث القرآن الكريم بصورة وظيفية خاصّة بالمرأة عن موضوع التربية والحضانة والتعليم والعمل المنزلي، كما لا يوجد في النصوص الصحيحة ما يساعد على فرض من هذا النوع، ولعلّ الشريعة اعتمدت على المعهودية في ذلك الزمان، لكن لعلّها أيضاً اعتمدت على عنصر المواضعة التي تقع على المستوى الاجتماعي أو الفردي في وظيفة الزوج أو الزوجة في غير ما نصّت هي على إلزاميّته، فبدل الخروج باستحسانات واستنسابات وبناء الذهن الشرعي عليها يفترض بنا الرجوع إلى النصوص وإلى مكوّنات المنظومة الفقهية المرتبطة بعمل المرأة ومسؤوليّاتها داخل المنزل.

ب ـ أما لو عدنا إلى المعطيات العقلانية البشرية في هذا المضمار، فهنا لابدّ من رصد التأثيرات السلبية والإيجابية في كلّ عصر على حدة، لنرى هل التأثيرات السلبية على الأسرة أمرٌ واقع أم لا؟ ومن ثم تحديد درجة هذه التأثيرات السلبية بالدقّة، لننتقل بعد ذلك إلى دراسة البدائل المتوفّرة التي يمكنها أو لا يمكنها أن تسدّ الفجوات الناجمة عن فقدان الأسرة لحضور المرأة في البيت بشكل كبير.

إنّ هذا النوع من الدراسات غير المنحازة مسبقاً يمكنه أن يسمح باستخدام القواعد العامة في الفقه الإسلامي لإثبات مرجوحية خروج المرأة أو رجحانه أو حتى حرمته الشرعية بنحو إلزامي، إما بنحو القانون العام الشامل لأفراد النساء في المجتمع تحفّظاً على ما هو الأهم أو بنحو فردي ومتفرّق في خصوص هذه الأسرة أو تلك.

وعندما نجعل المرجعية هنا بشريةً بهذا المعنى، فلن يقف الكلام عند حدود المرأة، بل سيطال الرجل أيضاً، فكثرة غياب الرجل عن المنزل ـ حيث لا ضرورة ـ لها آثارها السلبية من وجهة نظر هؤلاء الخبراء، ومن ثم فهذا المنطق سيخاطب الرجل تماماً كما يخاطب المرأة؛ إذ كما يكون عملها خارج المنزل مضرّاً في بعض الأحيان، كذا يمكن أن يكون عمله كذلك ولو على مستوى بعض الامتدادات للعمل.

وإذا أردنا أن نحدّد وجهة نظرنا من خلال ما تعطيه غير واحدة من الكتابات في هذا المجال، فنحن نجد أنّ أهمية الحفاظ على الأسرة على مستوى جوّها الروحي والعاطفي والتربوي باتت مضاعفةً اليوم في عصر تعدّ إحدى ميزاته تفكّك الأسرة، ومن ثم فمراعاة الرجل والمرأة العاملين لهذه الأهمية القصوى لتجنيب المجتمع مخاطر تفكّك الأسرة الذي نشاهد بعض آثاره السلبية في المجتمع الغربي وخلقه للفردانية والغربة في نفس الطفل.. يعدّ واجباً شرعاً من حيث هذا العنوان بما له من آثار سلبية ثانوية. وفي ضوء هذه المراعاة تختلف النتائج من شخص لآخر ومن أسرة لأخرى من حيث ظروفها المادية والمعنوية، ومن حيث عدد الأطفال، ومن حيث الجوّ المحيط، ومن حيث البدائل المتوفّرة، ومن حيث إفضائه إلى ترك العمل واختيار عمل مناسب يمكن الجمع معه بين الحاجات والضرورات المختلفة.

ونشير أخيراً إلى أنّ هذه الإشكالية تطال بالدرجة الأولى الزوجات والأمّهات، ولا تستوعب غيرهنّ في الحال العادية كما هو واضح، وعليه فالأفضل في هذه المسألة معالجتها بذهنية بشرية تعالج الأهمّ والمهم وتنظر في الآثار الإيجابية والسلبية بحسب المكان والزمان والمجتمع والحال، وعدم إعطاء مواقف مستعجلة في موقف إسلامي نهائي في هذا الأمر، كما فعله معارضو عمل المرأة.

 

3 ـ إشكالية الاختلاط بالأجانب وتحقق الخلوة

يعدّ موضوع الاختلاط أحد أهم عناصر التحفّظ لدى المعارضين لعمل المرأة؛ ذلك أنّ عمل المرأة يفضي غالباً إلى اختلاطها بالرجال وحديثها معهم وبناء علاقات معهم أيضاً، بل يتعدّى الأمر كثيراً إلى حالة تحقّق الخلوة في مكان عمل واحد ولا ثالث معهما، وقد أضاء المعارضون لعمل المرأة على هذا الموضوع أيضاً من زاوية ظاهرة التحرّش الجنسي الذي يعدّ شكلاً من أشكال أذية المرأة: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ (الأحزاب: 59)، وهي ظاهرة بالغة الخطورة وتعزّز التفكّك الأخلاقي في المجتمع، حتى أنّ عدّة دول ومجتمعات غربية وشرقية تشكّلت فيها جمعيات ومؤسّسات لمعالجة هذا المشكلة.

إنّ عمل المرأة قد يعرّضها لتحرّش جنسي من قبل رئيسها في العمل ربما تضطرّ معه للاستمرار في العمل والسكوت؛ لأنّ اعتراضها قد يفقدها وظيفتها كما حصل كثيراً. وقد كشفت الدراسات العديدة عن التأثيرات السلبية للتحرّش الجنسي على المرأة والفتاة من القلق والاضطراب وعدم النوم والترهيب النفسي وغير ذلك، بل ستصبح المرأة معه عرضةً في بعض الأحيان للاعتداء والاغتصاب كما في بعض وظائف الجيش والقوات المسلّحة.

وليس صحيحاً أنّ ظاهرة التحرّش الجنسي الذي يسبّبه الاختلاط في العمل ظاهرة خاصّة بالمجتمعات المحافظة كالمجتمعات المسلمة، بل إنّ أغلب البيانات والتقارير والنسب الصادرة عن الأمم المتحدة وغيرها تشير إلى ارتفاع هذا المعدّل بشكل كبير في الغرب نفسه أيضاً.

ولو تخطينا هذا الأمر السلبي للاختلاط، لوجدنا كيف يفضي إلى بناء علاقات غير شرعية وحصول الزنا بسببه وضعف العلاقة الخاصة بين الرجل وزوجته نتيجة تأثير الاختلاط في اهتمامها بالجنس الآخر خارج المنزل وفي مكان العمل، الأمر الذي يساعد بدوره أيضاً على تفكّك الأسرة. وهذا ما يدفع ـ سدّاً للذرائع ـ إلى القول بتحريم عمل المرأة خارج المنزل إلا لضرورة.

وبالانتقال من الجانب التحليلي العام إلى الجانب الفقهي، يمكن أيضاً طرح مجموعة من المستندات الفقهية التي تحظر الاختلاط وما يؤدّي إليه، مثل العمل خارج المنزل، وذلك على الشكل التالي:

1 ـ قوله تعالى: ﴿.. وَإِذَا سَالتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ...﴾ (الأحزاب: 53)، فهذه الآية القرآنية الكريمة تطالب بالحديث مع النساء من وراء حجاب وساتر، وتعلّل ذلك بأنّه أطهر لقلوب الطرفين، وهذا يعني أنّ الفصل بين الجنسين هو الأصل في العلاقة بينهما، إذ ليس المراد من الحجاب في الآية ما يسمّى في عرفنا اليوم به؛ لأنّ ما نسمّيه نحن حجاباً ليس في الفقه إلا الستر، وإنما المراد من الحجاب هو المانع الذي يكون بين الطرفين بما يعني رفع حالة الاختلاط والمكاشفة([33])، فهناك حكمان مختلفان يكمّل أحدهما الآخر: الأول هو الستر وهو المعبّر عنه في العرف اليوم بالحجاب، والثاني هو الحجاب، وهو المانع من تحقّق الخلوة والاختلاط والمكاشفة، وهذه الآية الكريمة هي المتكفّلة لبيان النوع الثاني من الحكم لا الأوّل.

ومن الممكن أن يقال: إنّ هذه الآية الكريمة خاصّة بنساء النبي|؛ لأنّ الحديث عنهنّ، فلا معنى لجعلها حكماً عاماً لعامّة نساء المسلمين. وقد يجاب عن ذلك من قبل أنصار حظر الاختلاط بأنّ التعليل الوارد في هذا المقطع من الآية يسمح بالتعميم وهو: ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾؛ فإنّ هذه الأطهرية ليست من مختصّات الرجال ونساء النبي فقط بل هي حالة عامة، فيكون ذلك شاهداً على التعميم في هذه الآية الكريمة، وقد قلنا سابقاً بأنّ الآيات الخاصّة بنساء النبي يمكن تعميم حكمها لغيرهنّ لو اشتملت على تعليل أو خصوصية تسمح بذلك، وهذا منها.

2 ـ قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب: 33)، فهذه الآية الكريمة يمكن تفسير التبرّج فيها بما يقع في مقابل القرار في البيوت؛ إذ التبرّج من الظهور والبروز نسبةً إلى البرج وهو المكان العالي الظاهر، وقد كانت النساء قبل الإسلام تخرجن ولا تحتجبن أو تتسترن فأمرت هذه الآية الكريمة أن لا يظهرن خارج المنزل ولا يظهرن للرجال، فتكون دالّةً على الاحتجاب بمفهومه الزائد عن معنى الستر الموجود في الفقه الإسلامي([34]).

3 ـ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ (الأحزاب: 59)، فإنّ هذه الآية الكريمة وإن كانت واردةً في لبس الجلباب، إلا أنّ التعليل الوارد فيها ـ وهو عدم تحقّق الأذية للمرأة ـ يمكنه أن يطال مسألة الاختلاط، فقد شرحنا سابقاً الأذى الذي يُلحقه الاختلاط بالمرأة، من التحرّش الجنسي إلى الزنا والاغتصاب، فإذا أمرت الآية هنا بإدناء الجلباب لحماية المرأة فمن الأولى أن تأمر بتجنّب الاختلاط اليومي في العمل والمدرسة والجامعة؛ لأنه يوفر مناخ الأذية بطريقة أكبر.

وقد مال المفسّرون هنا إلى أنّ ارتباط إدناء الجلباب بالمعرفة، وارتباط المعرفة بالأذية، كان لأنّ الإماء ما كنّ يتجلببن، فكنّ يزاحَمْن ويُتحرّش بهنّ، فأمرت الآية بإدناء الجلباب كي تُعرَف المرأة أنها حرّة، ويُمتنع بسبب ذلك عن التعرّض لها([35])، إلا أنّ العلامة الطباطبائي ذهب إلى أنّ إدناء الجلابيب كان يحقّق المعرفة بأنهنّ من أهل الصلاح والحشمة والستر، فلا يتعرّض لهنّ الفساق بالأذية([36]).

4 ـ ما ورد في النصوص الحديثية والفقهيّة مما يدلّ على مرجوحية حضور النساء في صلاة الجمعة والعيدين إلا العجوز والمرأة المسنّة، ففي خبر محمد بن شريح قال: سألت أبا عبد الله× عن خروج النساء في العيدين، فقال: mلا، إلا عجوز عليها منقلاهاn([37])، وفي خبر يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله× عن خروج النساء في العيدين والجمعة، فقال: mلا، إلا امرأة مسنّةn([38]).

وقد ألغى السيد الخوئي الخصوصية عن صلاتي العيدين، وأنهما إنما ذكرتا من باب المثال؛ نظراً لكون الزحام فيهما أكثر، ومعه يمكن التعدّي عنهما لمطلق الجماعة([39])، ومقتضى كلامه أنّه في كلّ موضع يكون فيه زحامٌ واختلاط بين الرجال والنساء فإنّ ذلك مرفوض بدرجةٍ ما ويتحفّظ في مورده.

إنّ إسقاط الشريعة فرائض كبرى كصلاة الجمعة والعيدين عن النساء شاهدٌ على أنّ خروجهنّ إلى حيث يكون الرجال مرجوحٌ جداً، فكيف لا يكون الأمر كذلك في مسألة عمل المرأة واحتكاكها بالرجال يومياً وتعاملها معهم؟!

5 ـ النصوص المتفرّقة الواردة في حظر الخلوة بالأجنبية ومزاحمة المرأة للرجال، ففي خبر ابن عباس أنه سمع النبي| يقول: mلا يخلونّ رجل بامرأة، ولا تسافرنّ امرأة إلا ومعها محرم...n([40]).

وهي صريحة في النهي المطلق عن خلوة أيّ رجل بأيّ إمرأة، خرج من ذلك الزوجة والمحارم، وبقي الباقي على حاله، ومن المعلوم أنّ الكثير من الأعمال التي تقوم بها المرأة يصاحبها خلوةٌ وعدم وجود ثالث غيرهما، مع زميلها أو رئيسها أو مرؤوسها في العمل.

وفي خبر علي ـ في حديث ـ عن فاطمة÷ أنها قالت: mخيرٌ للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهنّ الرجال..n([41])، فهذا الخبر إذا بلغ به أن رجّح انقطاع الرؤية المتبادلة فهو أولى في الدلالة على مرجوحية الاختلاط الذي تلازمه هذه الرؤية عادةً، ولو من أحد الطرفين.

وفي خبر غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله× قال: mإنّ المرأة خلقت من الرجل، وإنما همّتها في الرجل، فاحبسوا نساءكم..n([42])، ونقل مثل هذا المضمون عن ابن عباس أيضاً([43])، وفي خبر وهب، عن أبي عبد الله× قال: mقال أمير المؤمنين×: .. احبسوا نساءكم يا معاشر الرجالn([44])، فإنّ توجيه الخطاب للرجال بحبس النساء في البيوت دليلٌ على مرغوبية ستر المرأة نفسها وتجنّبها الاختلاط بالأجانب، إذ لا معنى للحبس في البيوت إلا هذا، كما هو واضح.

ومن هذا القبيل، خبر عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله× قال: mقال أمير المؤمنين× في رسالته إلى الحسن×: m... واكفف عليهنّ من أبصارهن بحجابك إياهنّ، فإنّ شدّة الحجاب خيرٌ لك ولهنّ من الارتياب، وليس خروجهنّ بأشدّ من دخول من لا تثق به عليهنّ، فإن استطعت أن لا يعرفن غيرك من الرجال فافعلn([45])، وهي من الروايات الشديدة في عزل المرأة عن عالم الرجال عزلاً تاماً، الأمر الذي يتناقض مع المفهوم السائد لعمل المرأة.

وجاء في خبر مسعدة بن صدقة (وهشام بن سالم)، عن أبي عبد الله× قال: mقال أمير المؤمنين×: لا تبدؤوا النساء بالسلام، ولا تدعوهنّ إلى الطعام؛ فإنّ النبي| قال: النساء عيّ وعورة، فاستروا عيّهنّ بالسكوت واستروا عوراتهنّ بالبيوتn([46])، وفي بعض صيغه أنهنّ عيّ وعورات([47]). وقد ورد هذا الجزء أيضاً عن أنس بن مالك عن رسول الله| بعبارات تختلف طفيفاً([48])، وهو نصّ يؤسّس لقطيعة بين المجتمع الذكوري والمجتمع الأنثوي.

ومن هذا القبيل، الرواية عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله× قال: mقال أمير المؤمنين×: يا أهل العراق، نبئت أنّ نساءكم يدافعن الرجال في الطريق، أما تستحيون؟n، وفي حديث آخر: mأما تستحيون ولا تغارون، نساؤكم يخرجن إلى الأسواق ويزاحمن العلوجn([49]). وفي صيغة أخرى للحديث: mيوافقن الرجالn([50]).

ومجموع هذه النصوص الواردة تارةً عند الشيعة وأخرى عند السنّة يفيد حظر اختلاط الرجال بالنساء والخلوة بهنّ، مع ضمّها إلى أحاديث النهي عن الدخول على المغيّبات.

 

إشكاليّة الاختلاط، وقفات وتعليقات

كان هذا ما يمكن حشده من مهمّ المعطيات التي توفّر المناخ لحظر الاختلاط والخلوة، ويمكننا التعليق هنا بجملة أمور هي:

أولاً: إنّنا نقرّ بأنّ ظاهرة الاختلاط بين الجنسين تترك جملةً من الآثار السلبية، ولا نختلف مع أنصار الرأي الآخر هنا في أنّ الإسلام لم يشجّع هذا الاختلاط إلا حيث تدعو الضرورة، إلا أنّ تطبيق قاعدة سدّ الذرائع هنا أو قاعدة ما أفضى إلى الحرام فهو حرام يحتاج إلى مزيد من التدقيق، وذلك أنّ تطبيق هاتين القاعدتين وأمثالهما مثل قلع مادّة الفساد وغير ذلك، يفترض مسبقاً أنّ الاختلاط في حدّ نفسه جائز وأنّ الحرمة العارضة عليه جاءت من نتائجه، وأنّ نتائجه السلبية هذه لا تقف إلى جانبها نتائج إيجابية يفترض مقارنتها بها..

فإذا أمكن أن تأمن المرأة من الحرام في اختلاطها في العمل، وأن تراعي الحدود الشرعية.. فلا موجب للقول بالحرمة حينئذٍ؛ ولهذا أفتى بعض الفقهاء بجواز حتى الخلوة بالأجنبية مع أمن الفساد([51])، وكما تقع في جملة من الموارد حالات حرمة وذمّ كذلك تقع في المجتمع الكثير من أشكال الاختلاط الذي لا دليل على إلحاقه الضرر بالمعنى الذي يفضي إلى الحرام، وإطلاق القول بذلك مبالغة واضحة.

وهذا معناه أنه إذا كان الاختلاط مفضياً إلى الحرام أحياناً أو في الجملة فلا يعني ذلك تحريمه بالمطلق، بل يمكن ضبطه، وكلّما كانت المرأة المسلمة أشدّ تديّناً ومراعاة للستر والنظر وقواعد العلاقة مع الأجنبي كان احتمال تعرّضها للتحرّش الجنسي أو نحوه أقلّ، كما يلاحظ ذلك في العادة الجارية، بل هو مقتضى آية إدناء الجلابيب وفقاً لتفسير العلامة الطباطبائي المتقدّم.

وهذا ما ينتج جواز عمل المرأة الذي ليس فيه اختلاط، وأما الذي يؤدّي إلى الاختلاط فيكون جائزاً إلا مع احتفافه بما لا يؤمن معه الفساد، وليس هذا الفساد الذي نراه في المجتمع راجعاً بالضرورة إلى أصل ظاهرة الاختلاط، بل يرجع كثيرٌ منه إلى العناصر الإضافية التي تمارس بعد تحقّق الاختلاط، والتي تكون في غالبها محرّمةً في نفسها كلباس المرأة وزينتها ونوع الكلام منها ومعها وعدم مراعاة الضوابط الشرعية في ذلك.

إذن، فتطبيق قواعد سدّ الذرائع وغير ذلك فيه قدرٌ من المبالغة.

ثانياً: قد تقدّم الكلام في آية: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، وقلنا بأنّه لا دليل على شمولها لغير زوجات النبي، بل إنه لا يمكن فهم إطلاقها كما تقدّم مع افتراض أنّ النهي عن التبرّج هو نهي عن مطلق الظهور، فإنّ ذلك لو وقع لاستدعى الحديث المتكرّر عن خروج النساء من بيوتهنّ، مع أننا لم نسمع بأسئلة حول هذا الموضوع في القرون الهجرية الأولى، ولهذا تحدّث الفقهاء عن خروجها بإذن الولي وبدون إذنه، ولم يتعرّضوا أساساً لمبدأ الخروج مقابل القرار في البيوت، هذا مضافاً إلى مخالفة ذلك للسيرة بشكل قاطع كما يلاحظ بأدنى مراجعة.

ثالثاً: إنّ آية الجلباب مهما دلّت، فهي تدلّ على ضرورة مبالغة المرأة في التحفّظ في لبسها كي لا تعرف فلا تؤذى، وهذا معناه أنها كانت تخرج من بيتها خلافاً لفرض شمول آية القرار في البيوت لعامّة نساء المسلمين، ولو غضضنا الطرف فإنّ غاية ما تفيد هو ممارسة كلّ ما من شأنه حماية المرأة من الأذى، فإذا تمكنّا من توفير العمل للمرأة واستطاعت هذه المرأة في علاقاتها أن تحمي نفسها من الأذية ـ كما شرحنا في التعليق الأوّل آنفاً ـ إذاً فما هو الموجب لأصل تحريم العمل عليها والاختلاط من رأس؟! فلنقل بجوازه مشروطاً بشروط نستطيع من خلالها ضمان عدم تعرّضها للأذية ضماناً عقلانياً لا عقلياً، فليس من المنطقي ـ لو أمكن توفير الضمان ببعض الإجراءات التي لا تتنافى مع مبدأ الاختلاط ـ أن نمنع من أصل الاختلاط، حيث يحتاج الأمر إلى دليل، وإلا كان تحريماً لما لم يرد فيه نهي.

إنني أعتقد بأنّ تحميل الاختلاط مسؤولية كلّ الأذى اللاحق على المرأة فيه مبالغة وتهويل إعلامي، ربما ينسجم مع حالة اجتماعية خاصّة لبعض المجتمعات العربية المحافظة جدّاً؛ لهذا فنحن بحاجة إلى تفكيك الأمور بدقّة أكبر، ونحن نعرف أنّ المرأة المسلمة المحافظة الملتزمة شرعاً بسترها وعفافها وأخلاقها وحصانتها ومنعتها قادرة على العمل دون تعرّض لأذى من هذا النوع، فسلوك المرأة مهم جداً هنا، وليس فقط أصل الاختلاط.

ونشير هنا إلى أنّ آية: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ (الطلاق: 6)، وآية: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ﴾ (الطلاق: 1)، لا ربط لهما بالمقام، خلافاً لما توحيه بعض الكلمات([52])، فهما خاصّتان بالمطلّقة، وسيأتي بعض التعليق إن شاء الله.

رابعاً: إنّ الاستناد إلى نصوص صلاة الجمعة والعيدين لا يتمّ إلا إذا فهم من mلاn الواردة في جواب الإمام× النهي، وإلا فغاية ما تدلّ عليه عدم الوجوب، والمقدار المتيقّن أنّ هذه النصوص تفيد عدم الوجوب؛ لأنّ حيثية السؤال كما يمكن أن تكون حول جواز هذه الصلوات لها أو الخروج لهذه الصلوات يمكن أن تدور حول وجوبها عليها، والأقرب أنّ السؤال حول الوجوب؛ لأنّ عمومات ومطلقات صلاتي الجمعة والعيدين تستدعي بطبعها الشمول للرجال والنساء، فكان الأقرب أن يكون السؤال عن هذا الوجوب المستدعى بطبيعته من النصوص، لا عن الجواز، ولا أقلّ من أنّ ذلك يهدم أيّ ظهور في إفادة الجواب للنهي التحريمي أو الكراهتي.

وهذا لا يعني مرجوحيّة الاختلاط؛ إذ قد لا يكون ذلك نتيجة الاختلاط فحسب، بل لأسباب أخر معه، كعسرها عليهنّ بترك منازلهنّ وأولادهنّ، وحتى لو سلّمنا ـ ولو لقرينة استثناء المرأة العجوز الظاهر عادةً في حيثية عدم وجود عنصر إثارة جنسيّة فيها ـ فهو لا يدلّ على حرمة الاختلاط؛ لأنّ المفسدة القليلة قد تُسقط الوجوب؛ لكفاية معارضة الجانب المصلحي في الإلزام بالوجوب مع الجانب المفسدي في المكروه، ممّا يسقط المقدار الزائد في المصلحة الوجوبيّة مع بقاء أصل الرجحان. وإنّما نثير هذا الاحتمال نتيجة وجود بعض الروايات التي تنهى حتى أن يؤمّ الرجل أهله في صلاة العيدين، كما في موثقة عمار.

خامساً: لوغضضنا الطرف عن ما قدّمناه، فإنّ المفسدة هنا لا يعلم أنها من جهة مطلق الاختلاط؛ لأنّ الاختلاط المعهود في الصلوات العامّة يمكن أن يكون بمعنى الازدحام الموجب لاحتكاك الرجال بالنساء، بل هذا ما يظهر من السيد الخوئي حيث عمّم إلى كل ما فيه زحام أكثر كصلاة الجماعة، فلعلّ المشكلة في هذا الزحام الذي يقع مع طرقات صغيرة جداً ومحدودة آنذاك، ومن غير المعلوم أنّه لو أمكن خروج النساء بدون حصول هذا الزحام والتداكّ في الطرقات لكان الحكم هو عينه، ولا نريد بذلك إسقاط إطلاق الدليل هنا، بل نريد إسقاط تعليلنا له بأصل مسألة الاختلاط، فاتحين الأمر على أكثر من مبرّر.

سادساً: إنّ خبر محمد بن شريح وإن كان تامّ السند، إلا أنّ هناك أخباراً تدلّ بشكل واضح على وجوب الجمعة والعيدين على المرأة، ففي خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر× قال: سألته عن النساء هل عليهنّ صلاة العيدين والجمعة ما على الرجال؟ قال: mنعمn([53])، وهذه الأخبار الدالّة على الوجوب مدعومة بالعمومات والمطلقات القرآنية وغيرها الدالّة على وجوب هذه الفرائض بلا تقييد بالرجال، لكنّها ضعيفة السند، فإذا بني على حجية خبر الثقة كان المرجّح هو خبر محمد بن شريح، وإلا أشكل الأمر؛ لعدم تحصيل الوثوق بسقوط الوجوب وتخصيص العمومات وتقييد المطلقات لاسيما مع قرآنية بعضها ووجود المعارض؛ لأنّ وجود المعارض ولو كان ضعيف السند يخفّف من حصول اليقين بالصدور في الخبر المقيّد للإطلاقات.

 

نصوص الاختلاط، متابعة تفصيليّة تحليليّة

سابعاً: إنّ النصوص التي استند إليها في رفض الاختلاط على مستوى الحديث الشريف تعاني من مشاكل سندية حادّة أحياناً، إضافة إلى مشاكل في الدلالة أحياناً أخرى.

أ ـ فخبر الإمام علي عن السيدة الزهراء في أنّ الأفضل أن لا ترى المرأة الرجال ولا يراها الرجال، مرسلٌ لم يظهر له سند، وغاية ما يدلّ عليه هو مرجوحية الاختلاط لا تحريمه، حتى يتخذ ذريعةً لحظر عمل المرأة نتيجة الاختلاط.

ب ـ أما حديث حبس المرأة، فالوارد منه في المصادر السنّية موقوفٌ على ابن عباس الذي لا ينسبه إلى رسول الله|، فلا يكون حجةً علينا؛ لاحتمال كونه عن اجتهادٍ منه. وأما الوارد في المصادر الشيعة، فخبر غياث بن إبراهيم معتبر السند، وقد تفرّد بنقله الصدوق في العلل، لكنّ فيه مشكلةً متنية من حيث إنه ما هو الربط بين كون همّة المرأة في الرجال وبين التفريع على ذلك بحبسهنّ في البيوت، فإنّ هذا يدلّ على أنّ المرأة لا يوثق بها من حيث إنّ عملها في الرجال فإذا خرجت من المنزل لم يؤمن منها، لا أنه لم يؤمن عليها، وهذا فيه سوء ظنّ شديد بالنساء، مع أنّ الرجل في العادة هو الذي إذا اختلط بالنساء لم يؤمن منه عليهنّ لا العكس، اللهم إلا إذا بني التفريع على أنّ همّة المرأة في الرجل لهذا فحبسها في البيت تحريك لها فيما هو من همّتها فيكون المراد من الرجل هنا الزوج لا الخارج، إلا إذا جعل جمع الرجال قرينة على المعنى الأوّل. كما أنّ هذا الحديث يجعل المرأة مخلوقةً من الرجل فيساند النصوص الدالّة على أنها خلقت من ضلعه لا من بقايا طينته، وهي نصوص جرى التعليق عليها في محلّه.

على أنّه لم نفهم مدى واقعية ربط الرجل بالأرض، فهل صحيح بأنّ همّة الرجل في الأرض أو أنّ هذا الكلام يتناسب مع ثقافة المجتمع الزراعي؟! مع أنّ القرآن الكريم يقدّم لنا همّة الناس في غير الأرض من ملذات الحياة الدنيا كالنساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، فهذه الصورة لا تبدو متطابقةً مع الجوّ القرآني في هذا المجال، لاسيّما بعد استخدامها أداة الحصر mإنماn لحصر همّة المرأة في الرجال وهمّة الرجال في الأرض.

وقد اعتبر العلامة شمس الدين هذا الحديث مما فيه رائحة الإسرائيليات وأنه مخالفٌ للواقع؛ لأن المرأة تهتم بالأرض والرجل يهتمّ بالمرأة([54]).

يضاف إلى ذلك أنّ الأمر بحبس المرأة في البيت إن كان على نحو الوجوب دلّ على حرمة مطلق الاختلاط، وإلا دلّ على مرجوحيته لا حرمته، ودلالته على الوجوب مشكلة؛ لأنّها تعني لزوم حبس الرجال للنساء منذ العصر النبوي، وهي ظاهرة لو كانت لفرضت وضعاً جديداً في نسق الحياة الاجتماعية عند العرب ولطرح حولها أمرٌ ما، بل لأثارها المشركون ضدّ المسلمين في ديانتهم، فلم يكن عند العرب ظاهرة الحبس هذه، بل كانت النساء تخرج للأسواق وغيرها.

ويمكن هنا إثارة احتمال في أن يكون المراد من الحبس هو منعهنّ والحيلولة بينهنّ وبين الرجال من أن يندفعن نحوهم لا الحبس في البيوت والسجن فيها.

هذا، وأما خبر وهب الآخر فهو ضعيف به؛ فهو مضعّف جداً ومتهم بالكذب والوضع.

ج ـ وأما خبر عبد الرحمن بن كثير في رسالة الإمام علي إلى ابنه الحسن، فهو خبر ورد في بعض المصادر بلا سند أساساً، وفي بعضها الآخر بسند فيه إرسال؛ حيث رواه الأشعري عن بعض أصحابنا، مع وجود عمرو بن أبي المقدام فيه أيضاً وهو مجهول الحال، وفي بعضٍ ثالث جاء سنده بالغ الضعف، حيث ورد فيه ـ مضافاً إلى الإرسال ـ كلّ من: علي بن حسان بن كثير الهاشمي وعبد الرحمن بن كثير، وهما مضعّفان جداً في كلمات علماء الرجال.

وقد فهم العلامة شمس الدين من الخبر بقرينة mخير لك ولهنّ من الارتياب..n، أنه يريد حجبهنّ عن الاختلاط المؤدّي إلى الفساد والفتنة لا مطلقاً([55])، وإن لم يكن فهمه واضحاً؛ لأنّ ملاك الحكم قد يكون أضيق دائرةً من مساحة الاعتبار في الحكم نفسه، تحفّظاً على الملاك، كما حقّق في علم الأصول.

د ـ وأما خبر العيّ والعورة، فقد ورد عن مسعدة بن صدقة وهو مجهول الحال عندنا، وورد عن هشام بن سالم وهو صحيح السند على المشهور، وفيه إبراهيم بن هاشم، ولكنّ هذا الحديث فيه نظر، فإنه إذا أريد أن يبيّن أنّ المرأة لا تتكلّم مع الرجل فهذا مخالف لظاهر ما يقدّمه لنا القرآن الكريم والسيرة العملية للمسلمين المعاصرين لزمن النصّ، لا أقلّ أنّ ذلك كان سيرة بعض نساء النبي مثل عائشة دون أن نسمع نقداً عليها حتى ممّن وقعت بينه وبين بعضهنّ خصومات، فالقرآن نهى نساء النبي أن يخضعن بالقول وأجاز لهنّ القول المعروف وهذا خير شاهد على أنّ القرآن لا يمانع حديث المرأة مع الرجل في نساء النبي اللواتي يحملن خصوصية استثنائية، فبطريق أولى أن يكون الحال كذلك في غيرهنّ في التجويز، كما قدّم لنا القرآن الكريم حديث المرأة التي تجادل في زوجها وحديث موسى مع المرأتين، وهذا كلّه يفيد أنّ المطلوب هو الكلام المتوازن لا النهي عن مطلق الكلام ولزوم ستر عيهنّ بالسكوت، وأنّ المسألة ليست تشريعيةً.

هذا، وقد ورد هذا الحديث مسنداً إلى أنس بن مالك في مصادر أهل السنّة، وفي السند إسماعيل بن عباد البصري، وهو مجهول الحال، بل قد ضعّف حديثَه ابنُ حبان البستي([56]) المعروف بالتوثيق.

وأما صيغة mعيّ وعوراتn، فوردت في الأحكام للإمام يحيى بن الحسين مصرّحاً بالرفع فيها، كما وردت في أمالي الطوسي، وفي السند بعض المهملين والمجاهيل مثل موسى بن عبد الله بن موسى الحسني تارة، والحسين بن إبراهيم القزويني، والحسن بن علي بن عبد الكريم الزعفراني أخرى، ومعه لا يصحّ الاستناد إليه، لاسيما وأنه لم يرد في مصادر الحديث الأولى عند المسلمين.

هـ ـ وأما خبر غياث بن إبراهيم في مدافعة الرجال، فهو صحيح السند بالصيغة الأولى، ومرسل في صيغته الثانية، لكنه لا يدلّ بطريقه الصحيح إلا على مرجوحية مدافعة النساء الرجال في الطرقات، وأنّ ذلك خلاف مكانة المرأة، والمدافعةُ لا تعني مطلق الاختلاط، بل حصّة خاصّة منه، وهي التي تقع فيها عمليات دفع ودفع متبادل بحيث يدفع أحدهما الآخر من شدّة الزحام، كما أنّ هذا هو معنى المزاحمة وmيزاحمنn أيضاً، الواردة في الصيغة الثانية، فتكون دالّةً على مبغوضية هذا الأمر من حيث الاتصال والاحتكاك المثيرين للغرائز نوعاً والمنافيين للعفّة.

هذا، وخبر غياث بطريق البرقي في المحاسن بصيغة mيوافقن الرجالn مرسلٌ.

و ـ وأما حديث النهي عن الدخول على المغيّبات([57])، فلم يرد في مصادر الإمامية وإنما جاء في كتب أهل السنّة، ولا يعلم أنّ المراد أكثر من أنّ النساء المغيّبات ينهى عن الدخول عليهنّ، علماً أنّ المراد هو الدخول على المرأة في بيتها دون أن يكون فيه رجلٌ، فيكون ذلك مظنّة الحرام، كما قد يظهر من صيغة هذا الحديث الواردة في سنن الدارمي. والمغيبةُ هي المرأة التي يكون زوجهاً غائباً كما ذكره بعض([58])، وقد ورد في بعض الروايات إسقاط الرجم عن المغيب والمغيبة؛ لأنّه الرجل ليس معه امرأته والمرأة ليست معها زوجها([59])؛ وعليه فلا يدلّ حديث النهي عن الدخول على المغيبات على حرمة الاختلاط ولا كراهته، وإنّما هو حالة خاصّة في الدخول على المرأة في بيتها وزوجها مسافر.

ومن ذلك نفهم أنّ مجمل النصوص السابقة تريد التحذير ممّا يؤدّي إليه الاختلاط، لا تحريم الاختلاط في نفسه.

 

وقفة مع نصوص النهي عن الخلوة بالأجنبيّة

تعدّدت الروايات الناهية عن الخلوة بالأجنبية، ويمكن رصدها على الشكل التالي:

1 ـ ما جاء في أنّ النبي لما أخذ البيعة على النساء جاء فيه أن لا يقعدن مع الرجال في الخلاء([60]).

ويناقش أولاً: إنّ هذا الحديث ضعيف السند بسهل بن زياد ومحمد بن الحسن بن شمّون، وبالإرسال في المصادر الأخرى، مضافاً إلى أنه لم ترد هذه الفقرة في النصوص التاريخية المشهورة حول بيعة النساء، ممّا يضعّف درجة الوثوق بالصدور هنا.

ثانياً: يمكن أن يكون المراد من القعود هنا أمراً آخر غير الخلوة، وهو الكون معاً في موضع الخلاء، وهذا المعنى أخصّ بكثير من حرمة مطلق الاختلاط والخلوة، وقد نقل أنّ عرب الجاهلية كانت هذه عادتهم أيضاً فنهى الرسول| عنها، وأنه ما تزال هذه العادة موجودة عند بعض أهل البادية إلى اليوم([61]).

2 ـ خبر محمد الطيار، عن أبي عبد الله×: mإنّ الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما الشيطانn([62]).

ويناقش أولاً: بأنّه ضعيف السند بالإرسال.

وثانياً: إنّ لسانه لسان التحذير عن الوقوع في الحرام لا لسان التحريم، وفرقٌ بينهما، وهو لسانٌ متكرّر كثيراً في الروايات.

3 ـ خبر الجعفريات، عن علي× قال: mثلاثة من حفظهنّ كان معصوماً من الشيطان الرجيم، ومن كل بليّة: من لم يخل بامرأةٍ لا يملك منها شيئاً، ولم يدخل على سلطان، ولم يُعِن صاحب بدعة ببدعتهn([63]).

ويناقش أولاً: إنّه ضعيف السند؛ لعدم ثبوت سندٍ صحيح لكتاب الجعفريات.

ثانياً: إنّه لا يدلّ إلا على أنّ تحقيق هذه الأمور يحفظ الإنسان ويعصمه، ولعلّ هذه أو بعضها ليس محرّماً، لكنّ حفظه يحمي الإنسان من المحرّم، كما أشرنا إلى الارتباط بين الخلوة والزنا.

4 ـ خبر جابر، عن أبي جعفر×، قال: mلما دعا نوح ربّه عزّ وجل على قومه، أتاه إبليس فقال: يا نوح، إن لك عندي يداً أريد أن أكافئك عليها ـ إلى أن قال ـ اذكرني في ثلاث مواطن، فإني أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في إحداهنّ: اذكرني إذا غضبت، واذكرني إذا حكمت بين اثنين، واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً وليس معكما أحدn([64])، وشبيه به خبرٌ آخر مرسل في محادثةٍ وقعت بين إبليس والنبي موسى([65])، وخبر ثالث بينهما أيضاً ـ أي إبليس وموسى([66]) ـ ذكره المفيد، كما جاء هذا المضمون في خبر ذكره ابن عساكر، وجاء أيضاً في كتابي قصص الأنبياء لكلّ من الراوندي والجزائري.

ويناقش أولاً: إنّه ضعيف السند جداً بعمرو بن شمر الوضاع الكذاب، مضافاً إلى سعدان بن مسلم ـ وهو مجهول الحال ـ في طريق المفيد، وأمّا سند ابن عساكر، فالخبر فيه لم ينقل أساساً عن معصوم، وإنما انتهى إلى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وأمّا في سائر المصادر ككتابي قصص الأنبياء وغيرهما فهو مرسل.

ثانياً: لعلّ علامات الكذب تلوح من هذا الخبر؛ فأيّ معنى لأن يكون للنبي نوح× خدمات عند الشيطان سرّته فجاء الشيطان ليردّ له جميله؟! وما معنى أن يطلب الشيطان منه أن يذكره في مواضع ثلاث، مع أنّ ذكره عندها يوجب تنبيهه لا إغفاله؟! بل كيف يقول له موعظةً يكشف له فيها عن نفسه، والدليل أنّ الإمام الباقر أخبرنا هذه القصّة فتنبّهنا الآن فكيف يكون ذلك وسواساً شيطانياً؟! اللهم إلا إذا قصد الشيطان هنا حقاً فعل الخير مع نوح! ولست أدري كيف وصف بعض العلماء هذا الحديث بالرائع([67]).

ثالثاً: إنّ هذا الخبر غير واضح الدلالة؛ إذ غايته أنّ هذه الموارد مما فيه مظنّة الوقوع في المعصية فقط، لا أنها معصية، وإلا كان الحكم بين الناس حراماً وكان الغضب في نفسه حراماً أيضاً!!

5 ـ خبر القطب الراوندي، أنّه روي أنّ أبليس قال: لا أغيب عن العبد في ثلاث مواضع: إذا همّ بصدقة، وإذا خلا بإمرأة، وعند الموت([68]).

وهذا الحديث ـ مضافاً إلى عدم وجود سندٍ له أساساً ـ حاله حال سابقه، وإلا لزم القول بحرمة الصدقة، وهذا واضح.

6 ـ خبر أبي الخير (أبي المجر)، قال: قال رسول الله|: mأربعة مفسدة للقلوب: الخلوة بالنساء، والاستمتاع (الاستماع) منهنّ، والأخذ برأيهنّ، ومجالسة الموتى..n([69]).

ويناقش أولاً: إنّه ضعيف سنداً؛ فأغلب رواته مجاهيل.

ثانياً: إنّ ذلك معناه أنّ هذه الأربع توجب فساد القلب، وليس من الضروري أن تكون في حدّ نفسها محرّمةً، كالأخذ برأيهنّ ومجالسة الموتى حيث لم يفتِ أحدٌ بحرمتهما.

وبملاحظة مجموع هذه النصوص الواردة في الخلوة بالمرأة الأجنبية نجدها تشترك في أغلبها في ورودها في مصادر لا ترقى إلى مستوى الدرجة الأولى عند المسلمين، مع اشتراكها في الضعف السندي الشديد، مع أنها لا تريد إلا إيصال رسالة واحدة تشبه رسالة نصوص الاختلاط المتقدّمة، وهي التحذير من الخلوة لما تجرّه من الزنا، لا أنها ظاهرة في تحريم الخلوة نفسها، من هنا لا يبدو أنّ ما ذكره الشيخ المنتظري ـ من أنّ روايات الخلوة بلغت عند الفريقين من الكثرة ما يوجب اطمئنان النفس بصدور بعضها([70]) ـ دقيقاً؛ فإنّ مجرّد أيّ تراكم عددي لعشرة روايات لا يعني الاطمئنان بالصدور، قبل رصد حالها وأوضاعها السندية والمتنية والدلالية.

7 ـ من هنا نجد أنّ أهم رواية في قضية الخلوة هي الرواية التي نقلناها سابقاً عن مصادر أهل السنّة: mلا يخلونّ رجل بامرأةn، إذ عليها تمّ اعتماد بعض فقهاء أهل السنة للإفتاء بحرمة الخلوة مطلقاً، وهي ظاهرة في مقطعها هذا في النهي المطلق عن خلوة أيّ رجل بأيّ امرأة، وفي بعض صيغها استثناء المحرم، وحتى لو لم يتمّ استثناؤه صريحاً إلا أنه ـ مع الزوج ـ مستثنيان ضمناً بالارتكاز المتشرّعي المستمدّ من نصوص الكتاب والسنّة.

والظاهر أنّ هذا الحديث صحيح السند وفق أصول أهل السنّة في الجرح والتعديل، ومن ثم يكون حجةً ومعتبراً في تحريم الخلوة بالأجنبية، وليس فيه تقييد مصرّح به بخوف الفتنة.

إلا أنه يجب تحديد معنى الخلوة بالأجنبية، فإنّ ظاهر الحديث هو الوحدة في الرجل والمرأة مما هو مظنّة الفساد، فلو كان هناك رجلٌ مع نساء، أو كانوا في مكان غير مغلق، أو في زوايةٍ من الطريق، أو غير ذلك، فلا يحرز أنه مشمول لعنوان mلا يخلون رجل بامرأةn؛ لأنّ هذا التعبير يراد به ـ كما يظهر أيضاً من ترتيب أحكام النكاح لمن خلى بالمعقود عليها ـ الخلوة التي يتمكّن معها من المقاربة لو أرادها تمكّناً عرفياً وعقلياً وعادياً، فلو ألقى رجل محاضرةً على جمع كبير من النساء، فلا يقال بأنّه حصلت خلوةٌ هنا، فيما هو المنصرف من هذا اللفظ في النصوص، وإن صدق ذلك بمحض اللغة، وإلا لزم تحريم الخلوة بهنّ بهذه الطريقة حتى لو كانت معه زوجته. والغريب أنّ بعضهم جعل الخلوة بالأجنبية غير مرتفعةٍ لو جاءت امرأة أخرى معها، ولكنها ترتفع لو جاء رجلٌ آخر([71])، مع أنّه لا فرق بين الاثنين في الأمر، إن لم يكن الثاني أقرب إلى الخلوة من الأوّل، وهذا يكشف أنّهم فهموا من الخلوة ما كان فيه مجال تحقّق الفاحشة حيث لا يتوفّر عادةً مع وجود رجلٍ آخر إلا بنيّةٍ مسبقة لارتكاب الفاحشة منهما.

من هنا، فالعبرة بالخلوة ما كان مفضياً ـ بالإمكان العرفي ـ إلى الحرام، لا مطلق الخلوة لغةً، ولا أقلّ من عدم انعقاد ظهور في ما هو أزيد من ذلك، ولهذا كان الحرام هو الخلوة لا مطلق الاختلاط، فلو أنّ مطلق الاختلاط حرامٌ لما وصلت النوبة إلى تحريم الخلوة بالأجنبية.

وعلى أية حال، فإذا لم يحصل وثوقٌ بصدور هذا الخبر لم يكن له اعتبار وإن صحّ سنداً، بناءً على حجية خصوص الخبر المطمأنّ الصدور، وإلا أمكن الحكم بحرمة الخلوة بين الرجل والمرأة بما يوفّر إمكان وقوع الفاحشة والحرام، ومن ثم فنقيّد عمل المرأة بما لا يقع فيه مثل هذه الخلوة، ومن الواضح أنّ ذلك أخصّ كثيراً من الاختلاط أو مطلق العمل ولو المختلط.

والنتيجة: إنّ نصوص الخلوة والاختلاط لم يصحّ منها سنداً ودلالةً على أبعد تقدير سوى حديث النهي عن الخلوة بالأجنبية، وحديث حبس المرأة في البيت، بصرف النظر عن الملاحظات السابقة، وأنّ هذين الحديثين مدعومان من حوالي سبعة نصوص أخرى حافّة، لكن فيها جهات ضعف في الدلالة والسند، وبناءً على ما أسلفناه وعلى ما بنينا عليه من حجية خصوص الخبر الموثوق في علم الأصول لا نملك اطمئناناً بصدور خبر ينهى مطلقاً نهياً تحريميّاً عن الخلوة في غير مظنّة الحرام القريب، أو عن مطلق الاختلاط بالأجنبية كذلك، من هنا لا نقول بحرمة الاختلاط أو الخلوة في حدّ نفسيهما وفاقاً لبعض الفقهاء، ونفهم المقدار المتيقّن من هذه النصوص برمّتها على أنّه التحذير من الاختلاط بملاك جرّه للحرام لا أنه محرّم بنفسه.

 

آية الحجاب، رصد لمديات الدلالة

ثامناً: إنّ آية السؤال من وراء حجاب واردةٌ في زوجات النبي|، والسياق فيها برمّتها سياق البيت النبوي وحفظ خصوصيته، وحرمة النكاح بزوجات النبي وكيفية التعامل عند الأكل من بيت النبي ونحو ذلك، وأنّ شخص النبي كان يتأذى مستحيياً من تصرّفات بعض المسلمين في بيته، ومن هنا يصعب تسرية ما في هذه الآية إلى غير خصوصيّة البيت النبوي، إلا ما أحرز فيه وحدة الملاك والمناط.

وبتحليل هذه الآية الكريمة، نجد فيها جملتان:

الأولى: ﴿إِذَا سَالتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾، وهي ظاهرة في الأمر بالحجاب بين الرجال ونساء النبي، ويصعب فهم التعميم منها وإخراجها عن خصوصية الأسرة النبوية، فلعلّه أريد لهذه الأسرة الحفظ الاستثنائي، فيمكن على أساس هذا المقطع القول بوجوب الحجاب بين الرجال ونساء النبي.

الثانية: ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾، وهي تعليلية عامّة؛ لأنه لا يفهم وجود خصوصية في نساء النبي ورجال المسلمين آنذاك يجعل الحجاب بين الطرفين موجباً لأطهريّة القلوب، أما بين سائر الرجال والنساء فلا.

من هنا، يمكن الأخذ بهذا التعليل من حيث دلالته على أنّ الحجاب وعدم الاختلاط يحقّق الأطهريّة فيكون راجحاً حتى خارج الأسرة النبوية، لكن رجحاناً غير إلزامي، والسبب في ذلك أنّ صدر الآية ـ الجملة الأولى ـ لا يشمل غير نساء النبي، لكنّ التعليل ـ الجملة الثانية ـ شامل، وحيث إنّ التعليل في حدّ نفسه لا يفيد اللزوم؛ لأنّه استخدم صيغة التفضيل mأطهرn، والتي يعلم عدم وجوبها؛ لعدم وجوب تحقيق الأطهرية، وإلا وجبت الكثير من المستحبّات حينئذٍ، كان معنى ذلك أخذ عنصر الرجحان العام منه، وهذا لا ينافي كونه تعليلاً لأمر واجب على نساء النبي بالخصوص، إذ يمكن كون تحقيق الأطهرية واجباً عليهنّ وبلحاظهنّ ولو من طرف الرجال إزاءهنّ، دون سائر المسلمين، رعايةً لحرمة النبي| ومقامه وحفظاً لأهل بيته وأسرته.

وبعبارة ثانية: لا مانع في العلّة المفيدة في نفسها للرجحان العام أن تفيد هي بعينها في مورد خاصّ الرجحان اللزومي؛ لأنّ خصوصية المورد تستدعي لزومها لخصوصية إضافية لا في نفسها. من هنا قد يستنتج رجحان الحجاب مطلقاً ومرجوحيّة الاختلاط.

ويمكن أن نناقش ما قلناه بأنه أيّ مانع أن يكون هذا التعليل أيضاً خاصّاً بنساء النبي|، بمعنى أنّ الله تعالى أراد تنزيهنّ عن أن يختلطن بالرجال وتتلوثّ قلوبهنّ بذلك ولو قليلاً، تماماً كما أراد ـ حرمةً لهنّ ـ أن لا يكنّ في موضع نظرٍ غير بريء من الرجال الأجانب، فأطهرية قلوب الرجال هنا كانت لمراعاة حرمة البيت النبوي، لا عنواناً قائماً بنفسه.

لكن يجاب بأنّه إقرار بأنّ ذلك أطهر، وأنّ في عدمه ما هو أقلّ طهارةً، ولو لأجل البيت النبوي، فنأخذ هذا العنوان لنفهم منه رجحان الحجاب بين الرجال والنساء ما أمكن.

ونتيجة البحث في إشكالية الاختلاط أن يقال: إنّ عمل المرأة إذا لم يكن مشتملاً على الاختلاط بالرجال كان جائزاً حتماً، أما إذا اشتمل على الاختلاط فإنّ الأرجح تجنّب الاختلاط ما أمكن، لكنّه ليس بحرام، وكذلك الحال في الخلوة، فيستحسن تجنّبها حيث أمكن أثناء العمل وخارجه، لكنّها ليست محرمة في حدّ نفسها. وهذا كلّه يستدعي من الدول الإسلامية وهيئات ومؤسّسات المجتمع المدني والهيئات الدينية العملَ على توفير مناخات عمل للمرأة وفرصٍ تؤمّن لها وظائف شريفة تستطيع قدر الإمكان معها تجنّب الاختلاط بالرجال، ومن ثم لا يصحّ القول بتحريم عمل المرأة إلا لضرورة قاهرة.

ومن الضروري أن نشير إلى أنّ عمل المرأة وتعلّمها وإن لازم الاختلاط المرجوح، لكنه لا مانع ـ عند تزاحم المصالح ـ من الدعوة إليه، ومن ثمّ سقوط حتى المرجوحيّة المتقدّمة؛ حفاظاً على العفّة العامة، فأن تتعلّم المرأة الطبابة في طبّ النساء وإن كان يلازم الاختلاط في مرحلة التعليم وغيرها، لكنّه يزاحمه صالحٌ عام أهمّ، وهو ستر النساء في المجتمع عن أن يذهبن ـ حيث لا ضرورة ـ إلى الأطبّاء الرجال، وهكذا عمل المرأة في النقل حيث تكون سائقةً، فإنّ ذلك يسهّل على النساء، وقد يبعث على العفة ورفع الاختلاط، فلابد أن تلحظ مثل هذه الأمور أيضاً، حيث قد يصبح بعض الاختلاط راجحاً لمصالح أهمّ تعود لرفع مفاسد الاختلاط النوعي في المجتمع من جهة أخرى.

 

4 ـ إشكالية تأثير عمل المرأة على التنمية وعمل الرجل

يقدّم المعارضون لعمل المرأة مبرّراً جديداً لرفضهم عملها أو لتقييده، من خلال القول بأنّ المرأة تعمل عادةً بأجرٍ أقلّ من الأجر الذي يتقاضاه الرجال، الأمر الذي يؤدّي إلى انتشار البطالة بين الرجال وما لذلك من آثار سلبية على التنمية عموماً. وحتى لو غضضنا الطرف عن مسألة الأجور، فإنّ نفس دخول المرأة ميدان العمل والوظيفة سوف يجعل فرص العمل هذه تذهب من أيدي الرجال، مما يلحق الضرر بهم، ومن الواضح أنّ الشريعة تنهى عن الضرر والأذية.

وهذا الأسلوب في طرح القضية يقوم على مجموعة فرضيات يمكن التوقّف عندها على الشكل التالي:

أولاً: إنه يفترض أنّ الرجل هو الذي يعول الأسرة كلاً لا جزءاً، ومن ثم فخروج المرأة للعمل محض ترفٍ زائد لا حاجة إليه، مع أنّ هذه الذهنية غير صحيحة على إطلاقها، فالنساء العاملات يحتجن في كثير من الحالات وأسرهنّ إلى هذا العمل، فالمرأة العاملة في مجال الزراعة والأرز أو في مجال السجاد في إيران مثلاً ليس عملها ترفاً، وإنما تشكّل ركناً أساسياً تتمّ الحاجة إليه في هذا النوع من الأعمال، وهكذا في مجال تربية الأطفال وتعليمهم، فإنّ قدرتها تجعل أمر مشاركتها ضرورياً، حيث يكون من الصعب على الرجال التكيّف بليونة مع هذا النوع من الأعمال، وعليه فإطلاق هذا الكلام فيه قدرٌ كبير من المبالغة والتهويل.

ثانياً: لا تقف مسألة الحاجة عند حاجة هذا النوع من الأعمال أو ذاك إلى المرأة بوصفها يداً عاملة أفضل، بل تتعدّى ذلك إلى نفس كون المرأة وأسرتها محتاجتين إلى العمل، ففي الكثير من المجتمعات اليوم ـ ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية ـ يحتاج الزوج نفسه أو الأب لعمل الزوجة أو البنت لسدّ العجز المالي الذي تعانيه الأسرة أو لتأمين بعض الرفاه المطلوب لها، فقد يكون في العمل هنا تخفيفٌ عن كاهل الرجل بدل أن يظلّ يعاني في تأمين ميزانية الأسرة، فلو عملت البنت وأمّنت قسطاً من نفقاتها لخفّفت عن والدها، وهذا دعمٌ للرجل نفسياً ومادياً، فليس دقيقاً جعل عمل المرأة ـ إلا ما شذّ وندر ـ ترفاً ومزاحمة.

إنّ عمل المرأة يمكن النظر إليه بوصفه ـ كما ذكر بعضهم([72]) ـ استثماراً للطاقات بدل صرف وقتها في التراخي والكسل، وهو تلبية لبعض حاجات المجتمع حيث لا يتوفّر العدد الكافي من الرجال أو يكون هذا العمل أليق بالمرأة كالتعليم والتمريض والطبّ النسائي والجراحة النسائية، وهو تعويض عن نقص اليد العاملة عند الرجال نتيجة الحروب أو عندما يفرض الأمر حشدهم على الجبهات، وهو يمكّن المرأة من المساهمة في نفقات أسرتها عند الحاجة أو للتوسعة عليهم، وهو كذلك تمكينٌ لها من المشاركة في أعمال ومؤسّسات العمل الطوعي لخدمة المجتمع في مجالات الصحّة والثقافة والتربية والتعليم. وقد أدّى تطوّر الاجتماع البشري في العصور الأخيرة إلى ظهور وظائف جديدة وأعمال مستحدثة وحاجات طارئة كان لابد فيها للمرأة من المساهمة، وعدم تعرّض الفقهاء سابقاً في كتبهم لمسألة عمل المرأة لم يكن لعدم شرعيته، بل لعدم تداول الحاجة إليه؛ نظراً لبساطة المجتمع ونمط العيش.

ثالثاً: لم يتضح جلياً ما هي المشكلة الفقهيّة في هذا الموضوع؟! وذلك أننا لو أردنا أن نكون أوفياء لهذه الذهنية في تبرير الحكم بالحرمة أو نحوها لكان معنى ذلك الحكم بحرمة عمل أيّ رجل أراد أن يعمل ولم يكن في حاجة إلى ذلك العمل، إذ يلزم منه الإضرار بغيره، فهل يحكم هؤلاء بحرمة العمل عليه أو تقييد مشروعية عمله بغير هذه الحال؟!

إنّ صدق عنوان الإضرار هنا مشكل؛ لأنّ إثباته أمر متحرّك يختلف من مجتمع لآخر ومن دولة لأخرى، ويحتاج للكثير من المقدمات التمهيدية التي توفّر هنا أو هناك معلومات كافية عن أنّ دخول يد عاملة في مجال عمل ما هل له أضرار وما هي؟ ومن ثم يغدو هذا الأمر حراماً أو واجباً بعنوان ثانوي لا أوّلي.

ولو صحّت هذه الذهنية، لكان من المشكل شرعاً عند عدم الحاجة التقدّم لوظيفة؛ لأنّ ذلك سيفوّت الفرصة على شخص آخر!!

رابعاً: أما بالنسبة لقضية الأجور، فبصرف النظر عن كون التمييز في الأجر قد يكون بنفسه ظلماً للمرأة وبخساً لحقّها ما دام أداؤها مساوياً لأداء الرجل هنا أو هناك، الأمر الذي يستدعي في المرحلة الأولى التنديد بأرباب الأعمال أنفسهم في خلق هذا التمييز، قبل التنديد بالمرأة في إقدامها على العمل... بصرف النظر عن ذلك كلّه، بأيّ وجه نحرّم أن تخفّف المرأة أجرها أو تعمل مخفّضة الأجر؟! مع أنّ ذلك أمرٌ ممدوح في حدّ نفسه من حيث عرض بضاعة معيّنة ـ وهي هنا المنفعة الشخصية ـ بسعرٍ منخفض، أفهل عرض سلعة عينية أو منفعة في السوق بسعرٍ أرخص أمرٌ حرام بالعنوان الأوّلي حتى نحرّم عمل المرأة لأجل ذلك أو نقيّده ونشرطه؟! كيف وقد ذكر الفقه الإسلامي حرمة أو كراهة ـ على خلاف بين الفقهاء المسلمين ـ بيع الحاضر للبادي، وعُلّل ذلك في كلماتهم بأنّ ذلك يحول دون استفادة سوق البلد من السعر المنخفض الذي يمكن أن يقدّمه البادي لو باشر البيع شخصياً، فبيع الحاضر له تفويت لهذه المصلحة العامّة. كذلك الحال في تحسين الفقهاء ـ فضلاً عن تجويزهم ـ بيع المحاباة الذي يقوم على تساهل البائع mأو المشتريn في السعر بما يجعل هذا البيع بمثابة الحاوي لعقد البيع والهبة، وكذا الأمر في النهي عن الربح على المؤمن وعدم الزيادة في الربح عليه وغير ذلك. أليست النصوص الدينية والفقهية حاثةً على الزهد في الربح وعدم السعي لرفع الأسعار بما يضرّ بالغير، ومنه جرى تحريم الاحتكار كما بحثناه في محلّه؟!

هذا كلّه يعني أنّ تخفيف المرأة أجرها على عملها ليس أمراً مرفوضاً من حيث المبدأ، فلكي نتحفّظ عليه يجب دراسته من زاوية ثانوية وعلى مستوى وجود تأثير له هنا أو هناك سلباً في هذا البلد أو ذاك تبعاً لاختلاف الظروف تمهيداً لإصدار أحكام استثنائية محدودة الزمان والمكان وفقاً لخاصّية الحكم الثانوي عامّة.

إنّ المشكلة الأساسيّة تكمن في النظرة المسبقة لعمل المرأة وأنه أمرٌ مرفوض لا حاجة إليه، لهذا ينظر إليه من حيث جمع كلّ عناصر الفساد فيه دون نظرٍ إلى العناصر الإيجابية المتوفّرة.

 

5 ـ إشكالية الخروج من المنزل

يرى الرافضون لعمل المرأة أنّ عملها محظورٌ أو مرجوح؛ لأنّ فيه خروجاً لها من المنزل، والمرأة لابدّ وأن تبقى في المنزل ولا تخرج منه إلا بإذن زوجها أو وليّها، ومن ثم فعمل المرأة يعارض ـ من إحدى الجهات ـ حكماً شرعياً آخر.

وهذه الدعوى يمكن حلّها إلى دعويين: إحداهما مطلقة وفي ذاتها وهي الحكم بحرمة أو مرجوحية خروج المرأة من المنزل في حدّ ذاته، سواء أذن الرجل أم لم يأذن، وثانيهما مقيّدة، وهي الحكم بحرمة خروجها دون إذن زوجها أو وليّها، فلو أذن لم يكن خروجها حراماً.

أما الدعوى الأولى ـ وهي حرمة الخروج أو مرجوحيّته في ذاته ولو مع إذن الولي وعدم وقوع محذور آخر ولو مثل الاختلاط ـ فقد يستدلّ لها بعدّة أمور:

1 ـ نصوص النهي عن الاختلاط والخلوة التي تقدّمت آنفاً، فإنّ الخروج لازمه ذلك.

والجواب: إنّ بين الاختلاط والخروج من المنزل نسبة العموم والخصوص من وجه، فقد يجتمعان ـ وهو كثير ـ وقد يكون اختلاطٌ في المنزل بلا خروج، كما لو جاء الأجنبي إلى البيت، وقد يكون خروجٌ ولا اختلاط، كما هو واضح، ومجرّد أنّ الطريق جمعت بين الرجل والمرأة لا يعلم كونه مشمولاً لأدلّة مرجوحية الاختلاط؛ لأنّ ما دلّ على موضوع صلاة الجمعة والعيدين أخصّ مطلقاً بنفسه وكما تقدّم. وكذا روايات المزاحمة والمدافعة في الطريق، وبطريق أوضح روايات الخلوة بالأجنبية، أما آية الحجاب فتدلّ على أنّه في مقام التعامل يفترض ضرب الحجاب وهذا مغاير لمقام عدم التعامل، كأن يجمعهما الطريق مثلاً، على أنه لو كان الاختلاط يتحقّق كثيراً مع الخروج فلا يعني ذلك مرجوحيّة الخروج في ذاته، بل المرجوح هو الاختلاط، فلا يصحّ جعل الخروج من المنزل إشكاليةً إضافية في بحثنا هنا.

2 ـ نصوص حبس المرأة وأنها عيّ وعورة، وهي أقرب دلالةً إلى رفض أصل الخروج من المنزل والحثّ على البقاء فيه، لكنّنا أسلفنا البحث فيها، وتوصّلنا فيما تقدّم إلى أنّها غير تامّة فيما يبدو لنا.

بل لو كان أصل خروج المرأة من المنزل حراماً لأدّى ذلك إلى سماعنا أخباراً كثيرة في التنديد بخروجهنّ طيلة الفترة النبوية والقرون الثلاثة الهجرية الأولى، مع أننا لا نجد شيئاً يُذكر يحكي عن هذا الموضوع حتى في حقّ نساء النبي| كما تقدّم، فالعمل المتشرّعي مع عدم النهي المتناسب شاهدٌ على عدم الحرمة.

3 ـ آية القرن في البيوت، من حيث صراحتها في الموضوع، وقد أسلفنا التعليق على الاستدلال بهذه الآية الكريمة، بل لو شملت غير نساء النبي| وكانت بمعنى أصل الخروج والمفروض دلالتها على الإلزام، لنافت السيرة الإسلامية، ولاقتضى ذلك حديث النبي وأهل بيته وصحابته وفقهاء المسلمين الأوائل، مع أنّنا لا نجد النصوص تتحدّث عن هذا الأمر إلا نادراً، بل لقد لاحظنا أنّ بعض النصوص يربط الموضوع بأمر آخر، مثل مدافعة الرجال مع أنّ أصل الخروج لو كان حراماً لناسب التعليل بأمر ذاتي لا عرضي.

كما أنّه لو كان هناك حكم تحريمي بخروج المرأة لوقع ابتلاء عظيم؛ لأنّه يؤدّي إلى تغيّر نظام الحياة الاجتماعيّة في المجتمع المدني في العصر النبوي، ولسألت النساء عن هذا الأمر، ولوقعن في بعض الإحراجات مما يقتضي طرح مشاكلهنّ.. مع أنّه لم يصلنا شيء حول ذلك، وهذا كلّه شاهد على أنّه لا يوجد في الكتاب والسنّة دليلٌ معتمد يحرّم خروج المرأة من المنزل في ذاته، ولو وجد لكانت مجرّد أخبار آحادية قليلة جداً، الأمر الذي لا يعطي اطمئناناً بصدورها.

وبناءً عليه، فالقول بأصل حرمة خروج المرأة من منزلها ضعيف جداً، ولهذا لا نجد له أيّ صدى يُذكر في فتاوى الفقهاء المسلمين.

وأما الدعوى الثانية ـ وهي شرط خروجها بإذن الزوج أو الوليّ ـ فهي لا تفيد حرمة عمل المرأة، إذ لو رضي الزوج وأذِن كان عملها جائزاً، فهي تماماً كنصوص الستر والعفاف، لا تفيد حرمة عمل المرأة بقدر ما تفيد وجوب ستر جسدها في العمل وخارجه، فالخروج هنا ـ للعمل وغيره ـ يغدو مشروطاً بإذن الزوج، فمع تحقّقه لا إشكال فيه، فلو صارت ثقافة المجتمع على رضا الأزواج بالخروج للعمل لم يكن في العمل بأس، والخطابات في هذا الموضوع ليست موجّهةً للرجل في أن لا يأذن وإنما في أخذ إذنه شرطاً كما هو واضح.

بل لو أردنا التدقيق هنا ما أمكن القول بحرمة العمل ولو لم يأذن الزوج؛ إذ مضافاً إلى إمكان إنجاز بعض الأعمال في المنزل، ومضافاً إلى إمكانية أن لا يكون للمرأة وليّ من زوج أو أب أو جدّ (ولا دليل على أنّ حالها حال القاصرين حتى تُجعل الولاية بعد وفاة هؤلاء الثلاثة لمثل الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين)، لا يعني تحريم خروجها بدون إذن الزوج تحريماً لعملها بما هو عمل كما هو واضح، فحيثيّة التحريم هي الخروج والكون خارج المنزل حيث لا إذن، لا طبيعة العمل الذي تفعله حال الخروج، فإنّ الحرمة لا تسري إليه بعنوانه، فلو شربت الماء حال الخروج فلا يقال بحرمة شرب الماء بعنوان كونه شرباً للماء، بل الحرمة تكون لنفس الخروج كما هو واضح، ومن ثم لا معنى لصبّ فتوى التحريم على العمل بل على الخروج، فضلاً عن أن نقول بفساد المعاملة التي تجريها، وتفصيله مبنيٌّ على مباحث أصولية تتصل باجتماع الأمر والنهي ومسألة الضدّ، فليراجع في محلّه.

 

هل خروج المرأة مشروطٌ بالإذن حقّاً؟

لو تجاوزنا ما تقدّم كلّه، فلابدّ أن ننظر: هل حقاً خروج المرأة من منزل زوجها أو والدها مشروطٌ بالإذن أم لا مع فرض كونها بالغةً عاقلةً راشدة؟ وما هي حدود حقّ المساكنة وحقيقته؟ هل يعني البقاء في البيت ما لم يأذن الرجل بالخروج أم أنّ المطلوب فيه هو صدق عنوان كونها مقيمةً في البيت لا تاركةً له ولا معرضةً عنه، بحيث يقال عرفاً: إنه محل إقامتها وسكنها، الأمر الذي لا ينافي خروجها؟

وللجواب عن هذه الأسئلة، لابدّ من البحث هنا في مرحلتين: إحداهما في إذن الزوج بالنسبة للزوجة، وثانيها في إذن الأب أو الجدّ وأمثالهما بالنسبة للبنت أو الأخت أو..

 

المرحلة الأولى: في اشتراط خروج الزوجة بإذن الزوج

لا إشكال بين الفقهاء المسلمين فيما يبدو أنّه لو كان خروج المرأة من منزل زوجها منافياً لحقّه في الاستمتاع لم يجز لها ذلك وكان خروجها حراماً، حتى عبّر بعض الفقهاء المعاصرين عن وضوح هذا الحكم بقوله: mبحيث لا يحتاج إلى الاستدلال والقيل والقالn([73])، ولم يشر الفقهاء عادةً ـ مع الأسف ـ إلى خروج الزوج المنافي لحقوق الزوجية بوصفه أمراً محرّماً، بل عرف بينهم أنّ سفره أكثر من أربعة أشهر ـ وهي المدّة القصوى لبُعده جنسياً عن زوجته ـ جائز ولو لم يكن السفر ضرورياً أو واجباً، مما يعني أنّ حقّها الجنسي مربوط بعدم سفره، فلو سافر فلا حقّ لها.

وبصرف النظر عن النصوص الخاصّة الآتية، يصعب القول بحرمة الخروج حتى لو نافى حقّ الاستمتاع أو غيره؛ لأنّ ما وقعت فيه من الحرام ليس هو الخروج، بل عدم التمكين الذي لازمه الخروج على أرض الواقع، فهذا كما لو امتنعت من التمكين لانشغالها بقراءة القرآن فإنه لا تكون قراءة القرآن هنا محرّمة، بل المحرّم هو عدم التمكين والتمرّد على الزوج في ذلك، وإن لازم هذا الامتناع على أرض الواقع فعلاً آخر كخروجها أو غيره، فإذا بني في علم الأصول على حرمة ذلك كان به وإلا فلا.

أما لو لم ينافِ حقّه في الاستمتاع، فالمعروف بينهم هو حرمة الخروج أيضاً([74])، لكنّ بعضهم شاد هذا الحكم على الاحتياط الوجوبي([75]).

وعلى أية حال، فحاصل ما استدلّ به الفقهاء المسلمون هنا من نصوص خاصّة ـ بعد غضّ الطرف عن الإجماع المدّعى؛ لوضوح مدركيّته ـ هو ما يلي:

1 ـ خبر ابن عمر، قال: قال رسول الله|: mإذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهنّn([76])، وفي بعض صيغ هذا الحديث إضافة mبالليلn بعد كلمة mالمساجدn([77]). وذلك أنّ الأمر هنا متوجّه إلى الأزواج بالإذن والخطاب لهم فيكون مبنياً على أمر مفروغ منه في المرحلة السابقة، ألا وهو إذن الزوج في خروج المرأة([78]).

لكن وبصرف النظر عن مدى صحّة هذا الحديث من الناحية الصدورية، لا يمكن أن نأخذ منه مثل هذا الاستنتاج؛ لأنّ غاية ما يفيد أنّ النساء ما كنّ يخرجن إلا بإذن، وهذا كافٍ في تبرير توجيه الخطاب إلى الرجال، ولكن لعلّ ذلك كان قائماً على العرف، أو كان قائماً على الشرط الضمني، فقد كان متعارفاً ـ لا أمراً دينياً بالضرورة ـ أن لا تخرج النساء إلا بإذن الأزواج، وهذا العرف تمّت المواضعة عليه ورضت به الزوجات ضمناً، وليس منسوباً بالضرورة إلى الدين، فأراد الرسول| أن يُفهم الرجال أنّ عليهم الإذن لزوجاتهم في الخروج إلى المساجد، فلا ضرورة تفرض دينية هذا العرف في المرحلة السابقة حتى يجعل دليلاً هنا، أو لو كان دينيّاً فمرجعيّته هي الشرط الضمني الذي لم يحتج النبي لإبرازه لكونه من القرينة المتصلة اللبيّة بعد مركوزيّته العرفيّة.

يضاف إلى ذلك أنّه لو سلّمنا فهذا يدلّ على عدم جواز خروج المرأة إلى الأماكن التي هي في معرض الاختلاط لا مطلقاً، فلعلّ هذا هو الحكم المسبق الذي انبنى عليه هذا الحديث النبوي، بل إضافة كلمة mالليلn تمنحنا المزيد من التقييد هنا.

والجدير ذكره أنّ هذا الحديث دالّ على جواز خروج المرأة إلى المساجد، بل الترغيب في ذلك بحثّ الزوج على الإذن، ومن ثمّ فهو يناقض بنفسه القولَ بحرمة الخروج في نفسه أو حرمة مطلق الاختلاط في الطرقات والأماكن العامّة.

 

وقفة مع الحديث النبوي الناهي عن زيارة المرأة والدها ولو مات

2 ـ خبر المرأة التي نهاها الرسول| عن الخروج من بيتها رغم وفاة والدها، وقد ورد هذا الخبر في مصادر الشيعة والسنّة، ففي خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله× قال: mإنّ رجلاً من الأنصار على عهد رسول الله| خرج في بعض حوائجه فعهد إلى امرأته عهداً ألا تخرج من بيتها حتى يقدم. قال: وإنّ أباها مرض، فبعثت المرأة إلى النبي| فقالت: إنّ زوجي خرج وعهد إليّ أن لا أخرج من بيتي حتى يقدم، وإنّ أبي قد مرض، فتأمرني أن أعوده؟ فقال رسول الله|: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، قال: فثقل، فأرسلت إليه ثانياً بذلك، فقالت: فتأمرني أن أعوده؟ فقال: اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، قال: فمات أبوها، فبعثت إليه: إن أبي قد مات، فتأمرني أن أصلّي عليه؟ فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك. قال: فدفن الرجل، فبعث إليها رسول الله|: إنّ الله قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجكn([79]).

وقد نقل هذا الخبر ابن قدامة في المغني وغيره عن ابن بطّة في أحكام النساء([80])، لكن لم يرد ذكر سندٍ صحيح له فيما نعلم في مصادر أهل السنّة، وقد نُقل في زوائد ابن الحارث وغيره([81]) بسند ضعيف جداً بيوسف بن عطية المجمع على ضعفه([82])، كما جاء في بعض المصادر الأخرى([83])، أما في مصادر الإمامية فإنّ طريق الكليني ضعيف بعبد الله بن القاسم الحضرمي، حيث هو رجل ضعيف متهم، لكنّ الظاهر صحّة الطريق الثاني للحديث نفسه في mالفقيهn للصدوق، من هنا يمكن اعتبار هذا الحديث صحيح السند، خلافاً للعلامة فضل الله الذي رغم إشارته إلى وجود طريقٍ للصدوق، ركّز على ضعف الحديث سنداً، مستدلاً بضعف الحضرمي، دون تعليق على سند الصدوق([84]).

وهذا الحديث ـ كما هو واضح ـ مطلقٌ لا ربط له بخصوص حالة منافاة حقّ الرجل في الاستمتاع، فيؤخذ بإطلاقه كما ذكره بعضهم([85]).

ولكن ربما يمكن أن يناقش في الاستدلال بهذا الحديث المعروف:

أولاً: ما أشار إليه العلامة فضل الله، من أنّ هذا الخبر مقيّد بحالة وجود عهد مسبق عهده الزوج إلى زوجته، وربما يكون هذا العهد لحاجة خاصّة لحراسة ماله أو رعاية أولاده، أو ربما تكون الحاجة التي خرج الزوج إليها ليست طويلةً فيكون خروج الزوجة في هذه الحال منافياً لحقّه الجنسي، حيث قد يرجع في أيّ وقت فلا يجد زوجته في البيت، والمرأة يجب عليها أن تكون جاهزةً عندما يكون الأمر في معرض حاجة الزوج لا في خصوص حالة العلم بحاجته. هذا كلّه فضلاً عن أنّ الحديث يفيد طاعة الزوجة لزوجها لا استحباب حبس الزوجة من جهة الزوج([86]).

وهذه الملاحظة في محلّها، فإنّ الحديث يفرض مسبقاً وجود عهد، خلافاً لما ذكره الشيخ شمس الدين من أنّ النهي هنا جاء من النبي لا من الزوج([87])، فإنّ هذا خلاف فرض إطلاق العهد بين الزوجين بعدم الخروج والمصرّح به في الحديث، من هنا يمكن القول بأنّ هذا الحديث دليلٌ على عدم جواز الخروج بعد المنع لا عدم جوازه إلا بإذن، كما هو مقتضى الفرض الذي نحن فيه، فضلاً عن عدم دلالة الحديث على حكم موجّه إلى الزوج؛ لكنّ هذا على أية حال يفيد في دائرة معيّنة، أما ربط القضية بالحقّ الجنسي فهو مجرّد احتمال، فلو كان الأمر مرتبطاً بذلك لكان من المناسب أن يسأل الرسول| عن مكان والدها والمدّة التي ستقضيها وعن سفر زوجها ومتى وقع ومتى يتوقع مجيئه؟ إلى غير ذلك من الحالات، مع ذلك لم نلحظ في الرواية رغم تكرّر السؤال والجواب أيّ أثر لمثل هذه التفاصيل ممّا يوحي بالإطلاق، اللهم إلا إذا قيل بأنّ ترك الاستفصال لا يفيد الإطلاق عند احتمال معرفة السائل بالقيد، ونفرض احتماله هنا، وإن كان بعيداً.

ثانياً: ما ذكره العلامة فضل الله والشيخ شمس الدين أيضاً، وخلاصته أنّ مثل هذا الحديث ينافي الروح القرآنية، فإنّ القرآن قد أمر بمعاشرة المرأة بالمعروف وإمساكها بالمعروف وعدم إمساكها للإضرار بها، ومن الواضح أنّ حبس الرجل لزوجته بطريقة صلفة ومنعها حتى عن الخروج لزيارة أرحامها ظلمٌ وليس بمعروف، فلو حبس المرأة كذلك فقد منعها من حقها الطبيعي في الحياة أن تعيش في علاقاتها الأسرية حياةً سليمة، ويصدق عرفاً أنّه قد أضرّ بها، والعناوين القرآنية المتقدّمة آبية عن التخصيص كما هو واضح، والقول بأنّ المرأة قد أقدمت بالزواج على هذا الوضع غير صحيح؛ فإنّ الزواج في العرف العقلائي العام إقدام على حقّ الاستمتاع وتأمين حقوق الزوج والأسرة، أما الحبس في البيت من لحظة دخولها المنزل وحتى الموت فهذا ما لا يفهمه عرفٌ ولا سيرة([88]).

ويمكن تتميم هذا الكلام، لكنّه لا يفيد ما يريده العلامة فضل الله؛ إذ أقصى ما فيه أنّه يمنع عن حبس المرأة بما يكون إضراراً بها أو قتلاً لشخصيّتها كالحبس المؤبّد أو شبههه، فهو يمنع عن المظاهر غير العقلانية في الحبس لا عن مطلق الترخيص للزوج في الحبس، فتكون النصوص القرآنية مقيّدةً ـ على أبعد تقدير ـ لإطلاقات نصوص الحبس أو منعها من الخروج بغير إذن زوجها أو مع منعه، لا أنها نافية لها من الأساس بحجّة معارضتها للكتاب الكريم.

نعم، ورغم أنّ إشكال العلامة فضل الله كان عاماً هنا، إلا أنه يمكن توجيهه إلى خصوص الحديث الذي نحن فيه؛ فإنّ مقتضى هذا الحديث أنّ منع الرجل كان شاملاً للحالة التي عرضت المرأة، وهي مرض والدها، مع أنّ المنع في هذه الحال إضرارٌ عرفاً، لاسيّما بالنسبة للمرأة التي تعيش العاطفة تجاه والديها، فهل يعقل أن تمنع بنتٌ من عيادة والدها رغم أنّ المرض قد ثقل عليه وجعله على شُرُف الموت؟ بل تمنع حتى من المشاركة في مراسم دفنه بعد وفاته؟ وهل هذا من المعاشرة بالمعروف وعدم الإضرار؟! لاسيّما وأنه على رواية mزوائد الحارثn فإنّ النبي هو الذي صلّى على والدها مما يوحي بأنه كان في مكان قريب إليه، إلا إذا كانت هي خارج المدينة المنوّرة، بل في بعض النصوص في المصادر السنّية أنّ والدها كان في نفس الدار في الأسفل.

وعليه، فلو قبل شخص بهذه المقاربة أمكنه الدغدغة في صدقية الحديث المذكور أو تأويله بأنه حالة خاصة، وإلا كان إشكال العلامتين فضل الله وشمس الدين مقيّداً للإطلاقات لا نافياً لأصل النصوص.

ثالثاً: إنّ غاية ما يدلّ عليه هذا الحديث أنّ هذه المرأة قد وجّهت للرسول سؤالاً حول أنه هل يأمرها بعيادة والدها أو الصلاة عليه أم لا؟ وأنّ الرسول أخبرها بأنه لا يأمرها، وفي المقابل يطلب منها البقاء في البيت وطاعة الزوج، وهذا السياق يفهم منه أرجحيّة البقاء في البيت على الخروج لا اللزوم؛ لأنّ المفروض أنّ الخروج كان واجباً بالأصل صلةً للرحم، فلما ذكرت له أنها هل تظلّ مطالبةً به أجابها بالعدم، وأنه يمكنها البقاء وإطاعة الزوج، بل يكون أمراً راجحاً، فلا يدلّ الحديث على وجوب البقاء، بل على حسنه وإسقاط هذه الحال لوجوب صلة الرحم.

وهذا الكلام لا بأس به إذا فهمنا أنها لم تكن بصدد السؤال عن جواز الخروج، بل بصدد السؤال عن وجوب الخروج؛ لأنّ ظاهر سؤالها في الرواية المعتبرة السند هل: mتأمرنيn، أي هل يجب عليّ الخروج، أما إذا فسّرنا الحديث بأنها تطلب إجازة الخروج ليكون لها عذرٌ عند زوجها بأنّ رسول الله| قد أمرها، فإنّ الحديث لا يفهم حينئذٍ بالسياق المتقدّم.

رابعاً: إنّ هذا الحديث معارضٌ بخبر صحيح السند، وهو صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال: mليس للمرأة أمرٌ مع زوجها في عتق، ولا صدقة، ولا تدبير، ولا هبة، ولا نذر في مالها إلا بإذن زوجها، إلا في زكاة أو برّ والديها أو صلة قرابتهاn([89]).

فإنّ ظاهر هذا الحديث أنّ قضايا الزكاة وصلة الرحم والبرّ بالوالدين يكون للمرأة فيها أمرٌ، فلا تحتاج إلى إذن الزوج، بقرينة المقابلة مع النذر في مالها، فكيف يمكن أن تنسجم هذه الرواية مع الحديث المتقدّم الذي لم يجعل لها أمراً في صلة والدها الذي توفي؟! وبعد وقوع المعارضة عرفاً بين هذين الخبرين يرجع إلى أصالة عدم اشتراط الإذن كما هو واضح.

ويمكن الجواب بأنّ الخبرين غير متعارضين؛ لأنّ هذا في الإذن وذاك في المنع كما تقدّم، كما أنّ صيغة هذا الحديث في تهذيب الأحكام([90]) تعطف الزكاة وما بعدها على النذر في مالها فتكون مشروطةً بالإذن، لكنّ التهذيب لا يعتمد عليه من هذه النواحي؛ نظراً لكثرة التصحيف الذي فيه، فنظل مع الكافي والفقيه الذي روى الحديث مرتين أيضاً، بل الطوسي في التهذيب في موضع آخر رواه مثل غيره من الكتب([91]). نعم، هذا الخبر غريب من حيث منعه المرأة من التصرّف بمالها إلا بإذن زوجها، إلا إذا التزم التفكيك في مقاطع الخبر([92]).

خامساً: لعلّ الجواب الأفضل على هذا الحديث ـ لو غضضنا الطرف عن مناقشته بمخالفة روح القرآن ـ هو أنّه قد عهد إليها عهداً وأنّها ملزمة بهذا العهد، لكن لا يفيد أنّ اللزوم المذكور ثابت بالعنوان الأوّلي؛ إذ لعلّه من ضمن الأعراف التي تخلق شرطاً ضمنيّاً في العقد آنذاك، ومعه فلا يحرز من هذه الحالة الخاصّة تقعيد عام.

وأما ما ذكره الشيخ شمس الدين من أنّ النهي النبوي جاء لخصوصيات يعرفها الرسول| حول وضع هذه المرأة([93])، فهذا لا شاهد له من الحديث وإلا أدخلنا الخصوصيات في كلّ نص، ما لم يقصد شيئاً ممّا ذكرناه سابقاً.

والنتيجة أنّ هذا الحديث يصعب الاعتماد عليه في الخروج بحكم فقهي عام.

3 ـ خبر عبد الله بن عمر، أنه سئل رسول الله| عن حقّ الرجل على زوجته؟ فقال كلاماً منه أن mلا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع إلى بيتها أو تتوبn، قيل: يا رسول الله، وإن ظلمها؟ قال: mوإن ظلمها..n([94]).

وهذا الحديث ظاهر في سرد الحقوق، وهو يشرط الإذن في الخروج، فتكون دلالته جيّدة، ومن ثمّ لا يصحّ ما أورده عليه ابن حزم الأندلسي من أنّ فيه إباحةً للظلم([95])؛ لأنّ الحديث لا يبيح ظلم الرجل لزوجته وإنما يُلزمها بالطاعة ولو مع ظلمه. نعم، إذا قصد أنّ طاعته وهو ظالم إقرار له على الظلم أمكن، لكنه غير واضح في مثل حالنا.

فالصحيح في مناقشة هذا الحديث أنّه ضعيف السند بليث بن أبي سليم المضعّف المتهم، حتى أنّ ابن حبّان المعروف بتوثيقاته ذكره في كتاب المجروحين([96]).

4 ـ خبر السكوني، عن أبي عبد الله× قال: قال رسول الله|: mأيّ امرأة خرجت من بيتها بغير إذن زوجها فلا نفقة لها حتى ترجعn([97]).

وهذا الحديث يفيد تحقّق عنوان النشوز الموجب في الفقه لسقوط حقّ النفقة.

ويناقش أولاً: إنه ـ بصرف النظر عن الملاحظة العامّة القادمة ـ ضعيف السند بالسكوني الذي لم تثبت وثاقته عندي، وبالنوفلي أيضاً في بعض الطرق، فضلاً عن الإرسال في بعض المصادر.

ثانياً: قد يقال أيضاً بأنّ غاية ما يدلّ عليه هو الحكم الوضعي، أي سقوط النفقة عنها بذلك، وهذا لا يثبت حكماً تكليفياً إلا بضمّ دعوى الإجماع على الملازمة بين سقوط النفقة وتضييع حقّ واجب، أو دعوى أنّ الفهم العقلائي يفرض هنا وجود نشوز حيث لا معنى لذلك إلا تضييع الحقوق، ولا نتصوّر حالةً تسقط فيها النفقة مع أدائها كامل الحقوق.

ثالثاً: إنّ سقوط النفقة ظاهر في خروجها مدّة طويلة، وإلا فالخروج لساعتين مثلاً ليس فيه مطالبة بالنفقة حتى تسقط.

وقد يجاب بأنّه لعلّ عقوبتها أنّه تسقط نفقتها حتى تعلن الانقياد لقوانين الزوجية مجدّداً، لكن ما يمنع هذا الجواب هو قيد mحتى ترجعn الظاهر في أنّ السقوط مغيّ بالرجوع، فينصرف عن حالة الخروج الجزئي لساعات قليلة مثلاً.

5 ـ خبر عليّ بن جعفر، قال: وسألته عن المرأة، ألها أن تخرج بغير إذن زوجها؟ قال: mلاn([98]).

وهو ظاهر في شرط إذن الزوج في الخروج من المنزل، لكنّه ضعيف السند؛ لأنّ الطريق إلى كتاب علي بن جعفر هو طريق صاحب الوسائل، وطرق المتأخّرين ـ كما حقّقناه في علم الرجال ـ ليست حقيقية، لهذا لم يصحّ السند إلى هذا الكتاب، فلا تكون هذه الرواية صحيحةً، خلافاً للسيد الخوئي([99]) الذي كان يعتمد في تصحيح كتاب علي بن جعفر على طريق الحرّ العاملي.

6 ـ صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: mجاءت امرأةٌ إلى النبي|، فقالت: يا رسول الله، ما حقّ الزوج على المرأة؟ فقال لها: أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدّق من بيته إلا بإذنه، ولا تصوم تطوّعاً إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وإن خرجت من بيتها بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع إلى بيتها، فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقاً على الرجل؟ قال: والده، فقالت: يا رسول الله، من أعظم الناس حقاً على المرأة؟ قال: زوجها، قالت: فما لي عليه من الحقّ مثل ما له عليّ؟ قال: لا، ولا من كلّ مائةٍ واحدة، قال: فقالت: والذي بعثك بالحقّ نبياً لا يملك رقبتي رجل أبداًn([100]). وقريب من هذه الرواية خبر عمرو بن جبير العزرمي([101]) في محلّ الشاهد، وقد ورد مضمون هذا الخبر في مصادر أهل السنّة أيضاً مروياً عن ابن عباس([102]).

والحديث واضح الدلالة على شرط الإذن، لا مانعية المنع فحسب، وأنّ حقّ الزوج عظيمٌ في هذا المجال بحيث لا تتحمّله من النساء إلا بعضهنّ، وهذا التشديد في اللعن شاهدٌ على مدى شدّة التحريم في مسألة الخروج من البيت.

لكنّ هذا الحديث ضعيف السند بطريق أهل السنّة بحسين بن قيس المعروف بحنش، وقد ضعّفه قوم([103])، كما أنه ضعيف برواية العزرمي به نفسه فهو مجهول الحال، لكنّه صحيح السند بالطريق إلى محمد بن مسلم الطائفي.

وقد يناقش بمعارضته للقرآن الكريم؛ فإنّ ظاهره وجود الفرق العظيم بين ما على المرأة وما لها، وهذا مخالف لكتاب الله العزيز الذي يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228)، فإنّ مفهوم الدرجة لا يتناسب مع لحن الكلام في هذا الحديث.

إلا أننا شرحنا في بحث آخر([104]) أنّ الاستدلال بهذه الآية الكريمة على تقعيد حكم عام في قضايا الزوج والزوجة غير صحيح؛ لأنّ ضمير ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ الوارد فيها راجع للمطلّقات المذكورات مطلع الآية الكريمة، فكأنّ الآية تفيد أنّ المطلقات تتساوى واجباتهنّ وحقوقهنّ ما دمن في فترة العدّة وقبل ردّ الزوج لهنّ، غاية الأمر أنّ للرجل درجة، وهي حقّ الرد أو الترك لانقضاء العدّة.

وقد قلنا هناك بأنّ كلمات المفسّرين ـ باستثناء إشارة سريعة من العلامة الطباطبائي ـ تفيد إرجاع الضمير إلى النساء، لا إلى خصوص المطلقات، ولعلّ المشهور فهموا مطلق الزوجة بملاحظة الردّ السابق على هذا المقطع من الآية، إذ بعد الردّ يصبحن زوجات غير مطلّقات، لكنّه مجرد احتمال، وبهذا يصعب استظهار قانون عام للزوجية من هذه الآية حتى يعارض ما جاء في صحيح محمد بن مسلم، اللهم إلا إذا قيل بعدم معقولية كون المطلّقة الرجعية أفضل حالاً من نفس الزوجة في الحقوق.

وأما القول بأنّ حق شخصٍ على شخص لا يساوق الوجوب، فهو خلاف الظاهر عرفاً، بل خلاف دلالة هذه الرواية التي أعقبت بسلسلة اللعنات على هذه المرأة بما هو ظاهر في الغضب الإلهي العام.

وعليه، فهذا الحديث تام الدلالة والسند، إلا مع استبعاد أفضليّة المطلّقة على الزوجة.

7 ـ خبر عبد الملك بن [أبي] عمير، عن أبي عبد الله، قال: mأربعة لا تقبل لهم صلاة: الإمام الجائر، والرجل يؤمّ القوم وهم له كارهون، والعبد الآبق من مواليه من غير ضرورة، والمرأة تخرج من بيت زوجها بغير إذنهn([105])، حيث قد يفهم من عدم قبول صلاتهم أنّ ذلك كان لمعصيةٍ ارتكبوها، وإلا فلا موجب لعدم قبول الصلاة.

إلا أنّ سند هذا الحديث ضعيفٌ بكلّ من: محمد بن علي ماجيلويه، ومحمد بن علي الكوفي، بل قد يقول شخصٌ بأنّ نفي القبول ليس إلا نفياً لمرتبة عليا فلا يلازم فعل الحرام هنا، إذ لا يتقبّل الله إلا من المتقين، وعدم القبول غير عدم الإجزاء فيمكن تصّور تحقق العدم الأول بفعل مكروهٍ ثبوتاً، وإن كان خلاف ظاهر الحديث عرفاً.

8 ـ خبر أنس بن محمد أبو مالك وحماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن علي بن أبي طالب^، عن النبي| أنّه قال في وصيته له: mيا علي، ليس على النساء جمعة، ولا جماعة.. ولا تتولّى التزويج، ولا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه لعنها الله وجبرئيل وميكائيل، ولا تعطي من بيت زوجها شيئاً إلا بإذنه، ولا تبيت وزوجها عليها ساخط وإن كان ظالماً لها..n([106]).

ودلالة الحديث واضحة في المطلوب، إلا أنّ المشكلة في سنده، فإنّ أنس بن محمد مجهول، وكذلك الحال في حمّاد بن عمرو، وكذا في والد أنس بن محمد، بل طريق الصدوق إلى هذين الرجلين كلّه مجاهيل لا يكاد يسلم أحدٌ منهم، ومعه فيصعب الاعتماد على مثل هذا الحديث.

9 ـ خبر أبي أمامة، قال: سأل رجل النبي|، فقال: يا رسول الله، ما حقّ الزوج على المرأة؟ فقال: mلو أنّ امرأةً خرجت من بيتها، ثم رجعت إليه فوجدت زوجها قد تقطّع جذاماً يسيل أنفه، فلحسته بلسانها ما أدّت حقه، وما لامرأة أن تخرج من بيت زوجها، ولا تعطي من بيت زوجها إلا بإذنهn([107]).

والرواية شديدة في الموضوع وفي مجمل حقّ الزوج على زوجته، لكنّ المشكلة في سندها، فإنّ فيه عبد النور بن عبد الله الموصوف بأنه كذاب، ولا أقلّ من عدم ثبوت وثاقته([108])، إلى جانب أنّ ظاهرها حرمة الخروج مطلقاً بناءً على رجوع قيد mإلا بإذنهn إلى الجملة الأخيرة فقط، وقد علّقنا عليه سابقاً.

هذا هو مهم الأحاديث في مصادر المسلمين في مسألة منع المرأة من الخروج دون إذن زوجها، وقد ظهر:

أ ـ أنّ التام منها سنداً هو الخبر الثاني، لو غضضنا الطرف عن إشكالية معارضته للقرآن الكريم، والخبر السادس (صحيحة محمد بن مسلم)، فهناك خبران صحيحان سنداً.

ب ـ وأما التام دلالةً، فهو ـ على أبعد تقدير ـ الخبر الثالث (خبر عبد الله بن عمر)، والخامس (خبر علي بن جعفر)، والسادس (صحيحة محمد بن مسلم)، والسابع (خبر عبد الملك بن أبي عمير)، والثامن (خبر أنس بن محمد) والتاسع (خبر أبي أمامة).

ج ـ وأما التام دلالةً وسنداً، فليس سوى خبر واحد هو صحيح محمد بن مسلم الطائفي (رقم 6)، يؤيده خمسة أخبار ضعيفة السند، فإذا بني على حجية خبر الثقة كان المتعيّن هو الحكم بحرمة خروجها بغير إذن زوجها، وإن بني على حجيّة الخبر المطمأنّ بصدوره ـ كما حقّقناه في محلّه بالتفصيل في كتابنا mحجيّة الحديثn ـ أشكل تحصيل الاطمئنان بهذا القدر القليل من الأخبار، لاسيّما وأنّ الأخبار الضعيفة سنداً والمؤيِّدة لخبر محمد بن مسلم لم ترد في مصادر الحديث الأولى عند المسلمين، باستثناء خبر أنس بن محمد الوارد في أحد الكتب الأربعة عند الإمامية، وهو كتاب (الفقيه)، ولاسيّما مع عدم وجود أيّ إشارة قرآنية للموضوع.

يضاف إلى ذلك كلّه، إشكاليّة إضافيّة تبطؤ عادةً من سرعة اليقين بالصدور في مثل هذه النصوص، بناء على اعتبار اليقين العادي في حجيّتها، وهو أنّ رواتها رجال، فتجمعهم مصلحة واحدة ذات حضور في الحياة اليومية تجاه النساء، وهذه نقطة سبق أن تعرّضنا إليها في دراسة أخرى تتصل بتقليد المرأة، فلتراجع.

 

مرجعيّة أحكام المطلقة الرجعيّة في فقه العلاقات الزوجيّة، وقفة تأمّل وتحليل

قد يقال: إنّ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ (الطلاق: 1)، دالّ على أنّ الزوجة لا تخرج من البيت، بل لا يجوز للزوج إخراجها من البيت، وأنّ التركيز على المطلّقة هنا لدفع وهم أنّه قد طلّقها إذاً فلا تجري في حقّها أحكام الزوجية، فيجوز لها الخروج، فأراد المشرّع أن يبيّن أنّ المطلقة الرجعية هي في العدّة زوجةٌ تترتّب عليها أحكامها، فبيّن حكم خروج الزوجة مطلقاً ولو في سياق بيانه حكمَ خروج المطلّقة.

وهذا الكلام لو تمّ أوجب على الزوج حبس الزوجة، وحرّم على الزوجة الخروج من منزل زوجها أبداً.

لكنّ الاستدلال بأحكام المطلّقة هنا بعيدٌ جداً، فلا تؤخذ في ذاتها ولا بوصفها مصحّحاً للنصوص المتقدّمة؛ وذلك:

أولاً: إنه من المحتمل جدّاً أنّ الحكم خاصٌّ بالمطلّقة؛ وذلك أنّ الهدف هو بقاءها في البيت لعلّه يحصل بذلك تآلفُ القلوب عندما تظلّ تحت ناظري زوجها فيعيدها إلى عش الزوجية، ولا يحرز أنّ الخصوصية هنا منتفية بعد تعلّق مجمل الأحكام والخطابات في الآية وما بعدها من سورة الطلاق بأحكام المطلقات، بل لعلّ في الآية الكريمة شاهداً على ما ندّعي، وهو ذيلها: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾، إذ قد يكون ذلك شاهداً على أنّ هذا الذي حكمناه من تشريع العدّة وعدم الخروج والإخراج منفتحٌ على احتمال أنّ الله يحدث بعد ذلك أمراً فتعود العلاقة الزوجية إلى مجاريها الطبيعية، وهذا الفهم لذيل الآية وجدنا الكثير ممّن مال إليه أيضاً من المفسرين([109])، بما يشهد على ما نقول ويؤيّد.

ثانياً: لو كانت هذه الآية دالّةً على هذا الأمر، لحدث تحوّل جذري في نظام الحياة الاجتماعية العامة في المجتمع الإسلامي في العصر النبوي؛ لأنّ هذا معناه حبس الزوجات وانحباسهنّ في البيوت، فكيف تفسّر ظاهرة خروج النساء في العصر النبوي، بل مع النبي نفسه أيضاً وبكثرة دون أن نسمع أسئلة واستفهامات حول هذا الموضوع حتى في العصور اللاحقة في زمن الصحابة وأهل البيت؟!

ثالثاً: لا ربط لهذه الآية وأحكام المطلّقة بمسألة إذن الزوج التي نتعرّض لها هنا؛ لأنّ النصوص هنا تجيز لها الخروج بإذن الزوج، وظاهره جواز أن يأذن الزوج، فيما أحكام المطلّقة تحرّم الخروج والإخراج، فجهتا البحث في المسألتين مختلفة فليلاحظ، ودعوى تقييد الروايات للآية الشريفة بعيدة هنا.

وعليه فالنصوص الواردة هنا يصعب الاكتفاء بها في مسألة إذن الخروج.

 

إشكاليّة عامّة في فهم نصوص الخروج من البيت، تحفّظ السيد الخوئي

ويوجد هنا إشكال عام يتصل بمجمل نصوص اشتراط الإذن في الخروج، وهو ما فهمه السيد الخوئي منها، إذ ذهب إلى أنّ المراد منها هو خروج المرأة من منزل زوجها خروجاً لا رجوع فيه بنحو يصدق عليها عنوان النشوز، أما الخروج بما لا ينافي حقّ الزوج فليس مشمولاً لنصوص الباب، تماماً كسفرها بلا إذن الزوج([110])، ومن هنا بنى السيد الخوئي في رأيه العلمي على عدم اشتراط الإذن في الخروج، وإن احتاط وجوباً على مستوى الفتوى وفي رسالته العملية([111]). وقد تابعه في احتياطه الوجوبي هنا بعضُ الفقهاء([112])، ويظهر من بعضهم الإفتاء بجواز الخروج غير المنافي لحقّ الرجل، وأنّ ذلك مجرّد احتياطٍ استحبابي([113]).

ولو عدنا إلى النصوص المتقدّمة التي قبلنا دلالتها أو احتملناها، فنحن نجد الخبر الثاني غير ظاهر في قضيّة الحقّ الجنسي كما علّقنا هناك، وأما الخبر الثالث فهو مطلق وليست فيه قرينة على هذا المعنى الخاص للنشوز، ومثله الخبر الخامس، والسادس، والسابع، والثامن، والتاسع.

أمّا الخبر الرابع، فقد رجّحنا ـ بقرينة mحتى ترجعn ـ أن يكون المراد هو الخروج التمرّدي لا الخروج الجزئي.

وبناءً عليه، فليس في أغلب هذه الأخبار ـ لاسيّما صحيحة محمد بن مسلم ـ أيّ تقييد بحالة الخروج التمرّدي أو الذي لا رجوع فيه، بل قد يقال بأنّ هناك قرينة على عكس هذا الفهم الذي طرحه السيد الخوئي للروايات، وهو الاستثناء بجملة: mمن غير إذنهn، فإنّ هذا الاستثناء يمكن تعقّله لو أخذنا مطلق الخروج في الحكم، حيث نشرط على الزوجة إذا أرادت الذهاب إلى السوق أو المسجد أو زيارة إحدى قريباتها مثلاً أن تأخذ إذن الزوج، أما لو فهمنا الخروج التمرّدي فماذا يكون معنى هذا الاستئذان؟ فهل يمكن أن يراد إنه لا يجوز للمرأة الخروج التمرّدي أو الخروج الذي لا عودة فيه إلا بإذن الزوج؟ وهل هذا الأمر عرفيٌّ وعقلائي على مستوى الحياة الاجتماعية؟ فكيف يكون خروجها تمرّداً وتركاً لبيت الزوجية ونجيزه لها لو أذن الزوج؟ فما معنى إذن الزوج هنا غير حالة الهجران التام والقطيعة التامّة بين الرجل وزوجته بلا طلاق، وتكون هذه الروايات في استثنائها متعرّضةً لحالة نادرة على المستوى الاجتماعي؟! ولماذا هذا الإصرار على كلمة الخروج دون استخدام كلمات أقرب إلى مفهوم التمرّد مثل: ترك منزل زوجها، أو ما شابه؟ ما يبدو لي أنّ فهم هذه النصوص في سياق قضيّة الخروج الكلّي أو التمرّد غير ظاهر عرفاً وإن كان محتملاً في نفسه.

ويمكن التعليق هنا أيضاً على ظاهر الفتوى بحرمة الخروج مع منافاته حقّ الاستمتاع دون غيره، بأنّه يوحي بأنّ حق الرجل على المرأة هو في الاستمتاع فقط، وهذا محلّ نظر في فهم قضيّة الحقوق الزوجية إما على الأساس الجنسي فحسب من طرف الزوج أو على الأساس المالي فحسب كما في طرف الزوجة في موضوع الإنفاق، لهذا يستحسن في بيان الفتوى الحديثُ عن منافاة حقوق الزوجيّة والتمثيل لذلك بالاستمتاع، إذ هذا النسق من البيانات الفقهيّة يوحي بأنّ الإسلام لم يرَ في الزوجة إلا مكاناً لتفريغ الغريزة الجنسيّة وأنّ الرجل لا يمثل للزوجة سوى مصدراً مالياً! وهذه نظرة تفتقد عناصر النبل والتسامي في الروابط العائليّة رغم أهميتها في نفسها. كما أنه كان من المناسب هنا الحديث عن خروجها مع منعه أيضاً، وليس فقط الخروج بلا إذن؛ لإمكان التفكيك بينهما.

وعلى أيّة حال، فلم يقم دليل معتبر ـ فيما نرى ـ على اشتراط خروج المرأة من منزلها بإذن زوجها في غير حالة منافاة ذلك لحقوقه الزوجيّة، والحكم بعينه يجري في خروج الرجل كما أشرنا سابقاً، ولو قلنا بهذا الشرط فلا يلازم تحريم عمل المرأة كما بيّنا سابقاً، بل لو قلنا بهذا الشرط أمكن للمرأة أن تشرط في عقد الزواج أن يمنحها الرجل حقّ العمل خارج المنزل إذا لم يحوِ هذا الشرط إخلالاً بإلزام شرعي، ويكون الزوج ملزماً معه بالوفاء طبقاً لعمومات الوفاء بالشروط والعقود.

 

المرحلة الثانية: في اشتراط إذن الأب ونحوه في خروج البنت

الذي يظهر من مراجعة الكتب الفقهية أنّ غالب الفقهاء المسلمين لم يطرحوا مسألة إذن الأب أو الجدّ أو غيرهما في خروج البنت البالغة الرشيدة غير المتزوّجة، سواء كانت بكراً أم ثيباً، مطلقةً أم أرملةً متوفى عنها زوجها، رغم أنهم تحدّثوا بإسهاب عن مسألة شرط إذن الولي في نكاح البكر البالغة الرشيدة، وأما حديث بعض الفقهاء عن منع البنت من السفر إلى الحج([114]) فهذا ليس كاشفاً بالضرورة عن موقف عام؛ لأنّ هذا السفر له حالة خاصّة من حيث طول مدّته في ذلك الزمان وقضايا أخرى كثيرة قد تكون هي معها في خطرٍ ومفسدة.

ولعلّه يمكن أن يفهم من ذلك أنّه لا ولاية للجدّ والأب ـ فضلاً عن العم والخال والأخ ـ على البنت في خروجها وعدمه، ولم نجد في النصوص الدينية في الكتاب أو السنّة ما يفرض أخذ إذنهم أو حتى تأثير منعهم، بل لا يحقّ لهم منعها إلا بعنوان ثانوي يتصل بحفظها من خطر الموت أو الضرر أو أن يكون في فعلها حرامٌ من المحرّمات، ولا دليل ـ كما بحثناه مفصّلاً في فقه الجهاد ـ على لزوم طاعة الوالدين، وإنما الدليل على حرمة عقوقهما فقط.

وأما السيرة فلا اعتبار بها؛ لعدم العلم بنشوئها عن الموقف الديني؛ إذ من المحتمل قوياً أن يكون ذلك للعرف، أو لعنوان ثانوي من نوع الخطر المترتب عليها ـ لاسيما قديماً ـ من الخروج لوحدها وهكذا.

فالصحيح عدم اشتراط إذن الأب وغيره في خروج البنت، وهو الموافق لمقتضى الأصل، ولو اشترطنا الإذن ما دلّ ذلك على حرمة العمل أو التعلّم مع إمكان رضا الكثير من أولياء الأمور بالخروج ضمن شروط خاصّة.

والنتيجة أنّه لم يقم دليل على شرط إذن الزوج أو الأب وغيرهما في خروج البنت أو الزوجة، فلا موجب للاعتماد على هذا الحكم في حظر عمل المرأة، بل لو قلنا بالاشتراط أو قلنا بحقّ المنع لما دلّ ذلك على حظر عمل المرأة؛ إذ يمكن للأزواج والآباء الرضا بلا محذور، فيكون العمل حلالاً من هذه الناحية، ودعوى غالبية عدم الرضا ممنوعةٌ لاسيما في العصر الحاضر.

 

6ـ إشكالية سفر المرأة بلا محرم

تعرّض الفقهاء المسلمون من أهل السنّة لمسألة سفر المرأة من دون محرم، وقد أفتى جمعٌ من الفقهاء بحرمة ذلك([115])، أما الشيعة فكان من النادر تعرّضهم لهذا الموضوع، ولهذا فإنّ المعروف بينهم هو الجواز. ومن الذين تعرّضوا له بشكل مطلق الشيخُ المفيد حيث قال: mوليس للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم لهاn([116]). نعم، وقع الحديث عندهم عن حجّ المرأة بلا محرم، والمعروف بينهم عدم اشتراط المحرم([117])، بل عند كثير من أهل السنّة أيضاً([118])، لكنّ منعها عن سفر الحج بلا محرم لا يلازم منعها من السفر كذلك مطلقاً؛ إذ لعلّ للحجّ خاصيّته وحكمه التعبّدي، أو لكونه طويلاً جداً ومحفوفاً بالمخاطر.

وقد حاول أنصار رفض عمل المرأة أن يستعينوا بهذا الحكم ونصوصه الدينية كي يؤكّدوا حرمة عمل المرأة؛ وذلك من خلال القول بأنّ عمل المرأة في العادة يستدعي منها السفر الكثير بلا محرم أو زوج، وحيث كان هذا الأمر محرّماً فلابد من تحريم عملها هذا.

ولكي ندرس هذا الموضوع، لابد من رصد أساس الحكم بحرمة سفر المرأة بلا محرم، إذ هو من الموضوعات الهامّة في نفسها، لكن قبل ذلك يمكن القول بأنّه حتى لو حرّمنا سفرها بلا محرم، فإنّ الكثير من أعمال النساء لا تجامع السفر، إلا إذا فهم التنقّل داخل المدن والقرى سفراً، وهو بعيد جداً.

وبالعودة إلى القرآن الكريم، لا نجد أيّ إشارة لهذا الموضوع، ولذا كان المستند لديهم إما دليل العقل والاعتبار أو دليل السنّة الشريفة، فلابدّ من رصد معطيات هذين الدليلين ومساحتهما، وإلا فمقتضى أصالة البراءة، هو جواز سفر المرأة بلا محرم للحجّ وغيره، كما أنّ مقتضى العمومات والمطلقات هو وجوب الفرائض واستحباب المستحبّات الأخرى في حقّها ولو استلزمت السفر بلا محرم، حيث لم يؤخذ شرط المحرم في سفرها لها.

أمّا دليل الاعتبار العقلي، فقد يبيّن بأنّ سفرها لوحدها بلا محرم فيه مظنّة الفساد والضرر والأذيّة اللاحقة بها، من هنا كان محرّماً عقلاً واعتباراً.

إلا أنّ من السهل الجواب عن مثل هذا النسق من الأدلّة؛ لاسيما في تجارب عصرنا الحاضر، فإنّ سفر المرأة بلا محرم له حالات؛ فقد يكون مع مجموعةٍ من النساء وبعضهنّ يكون محارمهنّ معهنّ، فهذه الرفقة ترفع حينئذٍ إشكاليّة الفساد والضرر، وقد يكون مع مجموعة أمينة من الرجال من غير المحارم، وقد تكون في ظروف لا تسمح بلحوق الضرر والفساد معها إذا أرادت المرأة ذلك، كما في الكثير جدّاً من أسفار عصرنا الحاضر عبر الطائرات وغيرها، فإنّها تختلف عن العصور السابقة حيث كانت النساء تبقين أياماً طويلة مع رفقة السفر ليلاً ونهاراً في وسط الصحراء الصامتة، من هنا لا يمكن القول بأنّ العقل والاعتبار قاضيان بفساد سفرها بلا محرم، بل لعلّ في عصرنا الحاضر الكثير من المحارم الذين لا يمانعون من تواصل أخواتهم وغيرهنّ مع الرجال في الأسفار؛ نظراً لعدم وجود عقيدة دينية ولا حسّ ذكوريّ مرتفع على الطريقة العربية عندهم.

وأما دليل السنّة الشريفة، فمجموعة من الأحاديث التي نستعرضها على الشكل التالي:

1 ـ خبر أبي هريرة، قال: قال النبي|: mلا يحلّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرمn([119]). مع حذف كلمة mوليلةn في بعض المصادر، وفي بعضها: ليس لها ذو حرمة.

والحديث واضح الدلالة جليٌّ في تحريم سفرها بدون محرم، ويعدّ هذا الحديث من الأحاديث الأساسية عند أهل السنّة في تحريم السفر بلا محرم.

2 ـ النبويّ المنقول عن جمع من الصحابة ـ مثل ابن عمر وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأبي هريرة وطاووس ـ يلتقي في صيغة ويختلف في بعض الإضافات([120]) وهذه تعابيره: mلا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرمn، mلا يحلّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرمn، mلا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجهاn، mلا تسافر المرأة ثلاثاً إلا مع ذي محرمn، mلا تسافر المرأة إلا مع ذي محرمn، mلا يحلّ لامرأةٍ مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمةٍ منهاn، mلا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو أخوها، أو زوجها، أو ابنها، أو ذو محرمٍ منهاn، mلا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرمn، mلا تسافر المرأة بريداً إلا ومعها ذو محرمn، mلا تسافر المرأة (ثلاثة أيام) إلا مع ذي محرمn، mلا تسافر المرأة يومين إلا مع زوجها أو ذو محرمn، mلا تسافر المرأة مسيرة يومين وليلتين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منهاn وبعض الصيغ الأخَر، وكلّها تلتقي في النهي، وقد وردت في مصادر متفرّقة من كتب الحديث([121])، فهذه النصوص تتواصل مع الخبر الأساس الأوّل المتقدّم وتلتقي في أصل الفكرة ويدعم بعضها بعضاً.

لكن قد تتعرّض هذه الأحاديث ـ لاسيما الأوّل منها ـ لبعض المناقشات؛ وذلك:

أولاً: ما ذكره بعض العلماء المعاصرين من أنّ عنوان mمسيرة يوم وليلةn يدلّ على اشتراط المحرم في سفر المرأة الذي يكون مسيرة يوم وليلة، أما الأسفار التي لا تكون كذلك بل أقلّ فهذا الخبر لا يحرّمها، وعنوان mمسيرة يوم وليلةn لا يؤخذ بملاحظة ذلك العصر بالخصوص، حيث يبلغ في العادة ثمانية فراسخ mحوالي 44 كلمn، بل يؤخذ بوصفه عنواناً حقيقياً يختلف من زمنٍ إلى زمن، ومعه لا يبقى هناك سفرٌ في عصرنا الحاضر يصدق عليه أنه مسيرة يوم وليلة؛ لأنّ مسيرة اليوم والليلة بالطائرة تعني الدوران حول الأرض تقريباً([122]).

وفي الحقيقة، فهذه الإشكالية تفتح على مسألتين في فهم هذا الحديث وأمثاله:

الأولى: هل عنوان mمسيرة يوم وليلةn عنوانٌ مكاني أم هو عنوان زمني؟ بمعنى هل كان النبي| يشير من خلال هذا العنوان إلى المدّة الزمنية التي تقضيها المرأة في السفر والسير أم إلى المسافة التي تقطعها؟

أ ـ فإن قصد المدّة الزمنية فهذا معناه أنه يحرّم على المرأة عندما لا يكون معها محرم أن تسافر سفراً يكون طول السير فيه زمناً مقداره يوم وليلة، فالعبرة بزمان السير لا بالمسافة التي قطعت، وهنا وإن كان مصداق هذا السفر في عصرنا الحاضر نادراً عندما نلاحظ السفر بالطائرة، ولكنّ مصداقه كثير عندما نلاحظ السفر بالوسائط النقلية الأخرى، كالسيارات والحافلات والقطارات وغير ذلك، فلا يكون الحديث نادر التحقّق حتى في زماننا كما ذكر المستشكل، بل لابدّ من التفصيل في الموضوع.

ب ـ وأما إذا قصد من mمسيرة يوم وليلةn المسافة المكانية، فهذا معناه أنّ الحديث يشير إلى مسافة معيّنة بأسلوبٍ يفهمه السامع، فعندما يقول في ذلك العصر: مسيرة يوم وليلة، فهذا معناه أنه يريد ثمانية فراسخ، فلم يعد يقصد العنصر الزمني بوصفه عنصراً مؤثراً في الحكم، بل قصد العنصر المكاني، فكأنه قال: ثمانية فراسخ، وهنا ستكون النتيجة حرمة السفر البعيد على المرأة بلا محرم إذا زادت مسافته عن 44 كلم.

فإذا قيل بأنّ الذي يظهر لغةً وعرفاً أنّ عنوان mمسيرةn يعني المسافة التي يقع فيها سير اليوم والليلة، فهذه المسافة هي المقصودة، فالحديث لا يريد أن يتكلّم عن مدّة السير والحركة، وإنما عن مسافته، فأشار إلى عنوان يوضح هذه المسافة، وهي سير اليوم والليلة بحسب وسائط النقل آنذاك، فكأنّ النبي يريد أن يقول: إنّ خروج المرأة خارج المدينة أو إلى أطرافها ونحو ذلك من الأماكن القريبة لا يحتاج إلى المحرم أما إذا قصد السفر البعيد الذي يشرع من مسافة ثمانية فراسخ فما فوق ويعدّ صاحبه مسافراً حينئذٍ فلابدّ لها من محرم.

وإذا أردنا تطبيق هذه النتيجة هنا اليوم بعد التجريد عن الخصوصيات الزمكانية نقول: إنّ ما لا يصدق عليه عنوان السفر عرفاً، وإنما يعبّر عنه بالخروج البسيط كالتنقّل بين مدينتي صور وبيروت أو بين القطيف والأحساء أو بين النجف وكربلاء أو بين قم وطهران لا يحتاج إلى محرم، أما ما يعدّ عرفاً سفراً من حيث بعده المكاني كالسفر من مصر إلى المغرب، ومن باكستان إلى الصين أو غير ذلك فلابدّ له من محرم، وإذا لم يقبل أحدٌ هذا التجريد فعليه الالتزام بحرمة سفرها بلا محرم لما زاد عن ثمانية فراسخ.

وأمّا إذا قيل بأنّ عنوان mمسيرةn ظاهر عرفاً ولغةً في العنصر الزمني، أيّ مدّة السير يوماً وليلة، فسوف يكون الحكم هو السفر الطويل زمناً، وقد أشرنا إلى أنّه لا ينتج ما قاله المستشكل، ولعلّ الأقرب ـ عرفاً ـ هو أخذ العنصر المكاني لا الزماني عندما تضاف كلمة mمسيرةn إلى اليوم والليلة أي إلى زمان.

الثانية: بصرف النظر عمّا تقدّم، هل يراد هنا من سفرها يوماً وليلة سيرها هذه المدّة بناءً على أخذ العنصر الزماني أو بقاؤها مسافرةً هذه المدّة؟ فعلى الأول لو سافرت بالطائرة لساعتين فإنّه لا يصدق هنا أنّ سفرها كان ليوم وليلة حتى لو بقيت في المكان الذي سافرت إليه مدّة سنة؛ لأنّ العبرة بزمن السير لا بزمن التلبّس بعنوان mالمسافرn، وأمّا على الاحتمال الثاني فإنها تجري في حالتها الرواية المتقدّمة جزماً.

والذي نستقربه في فهم الحديث أنّه يقصد السير لهذه المدّة بناءً على أخذ العنصر الزماني لا كونها مسافرةً طيلة هذه المدّة، إلا أنّ ملاحظة مناسبات الحكم والموضوع تقتضي أنّ العبرة بكونها بلا محرم، لا أنّ المدة من دون محرمٍ هي اليوم والليلة مقيّدةً بحركة السير في وسائط النقل، فإنّ الحركة هنا ليس لها خصوصية تعبّدية، بل العبرة بالكون خارج منزلها مسافرةً بلا محرم. اللهم إلا بناءً على احتمال سيأتي يجعل حركة السير هي المأخوذة هنا في ملاك الحكم.

أما إذا أخذنا العنصر المكاني، فسيكون معنى الحديث أنه لا يحلّ للمرأة السفر البعيد mثمانية فراسخ مثلاًn بلا محرم، وهنا الأقرب هو كونها بلا محرم خارج منزلها، وهذا أنسب بطبيعة المورد، إلا إذا قصد الاحتمال القادم.

وبناءً عليه، فهذا الإشكال الذي ذكره بعضهم غير دقيق، بل المسألة مبنيّة على الصور التي عرضناها في تحليل النصّ، ولعلّنا نجد بعض الإشارات في كلمات المستشكل نفسه.

ثانياً: إنّ المفهوم من هذه الأحاديث ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ هو أنّ النهي عن سفر المرأة ليومٍ وليلة كان لما في هذا السفر من المؤونة والكُلفة التي تستدعي رفيقاً مناسباً يساعد الضعيف ـ مثل المرأة ـ على أعباء السفر، ومن هنا لم يشترط المحرم في السفر القصير، مثل مسيرة ساعة؛ لأنّ هذا السفر القصير لا يستلزم سوى إعانتها في الركوب والنزول في المبدأ والمقصد دون وسط الطريق. وهذا كلّه يرشدنا إلى أنّ نكتة النهي هي ملازمات هذا السفر بدون محرم من الاتصال بالأجانب. ومن هنا يمكن القول بأنّ أسفار ذلك الزمان كانت تلازمها مثل هذه الأمور بخلاف الحال في مثل عصرنا، حيث إنّ سفر المرأة لا يستدعي من يُركبها ويُنزلها أو غير ذلك من أشكال الإعانة([123]).

وهذه الملاحظة فيها حسٌ تاريخي جيّد، بيد أنها تفتقر إلى المزيد من عناصر الإثبات التاريخي؛ وذلك أنّ صورة السفر التي قدّمت لا تستدعي تحريماً للسفر بلا محرم آنذاك، فإنّ صعود المرأة وركوبها على الإبل كان أمراً ممكناً حتى من دون حاجة إلى مساعدة الرجل بما يفضي إلى اللمس، فقد ذكر الإمام الأوزاعي فيما نقل عنه أنه رخّص في السفر بلا محرم وقال: mتخرج مع قومٍ عدول تتخذ سلّماً تصعد عليه وتنزل، ولا يقربها رجلٌ، إلا أنه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها على ذراعهn([124])، وهذا معناه أنّ إمكانية نزولها وصعودها متوفّرة بلا حاجة إلى المعين وإن كان المتعارف أن يركبها أحد حيث يمكن بلا محذور. وأما سائر الحاجات فإنّه يمكن تصوّر السفر مع رفقة من النساء وتكون إحداهنّ ذات محرم في السفر، فإنّ مجمل الحاجات يمكن توفيرها في هذه الحال، ومعه فمن غير الواضح أنّ نكتة النهي في هذا الحديث النبوي هو ما ذكره المستشكل حتى يذهب إلى عدم وجودها في عصرنا.

يضاف إلى ذلك، أنّه إذا كانت المشكلة آنذاك في اللمس ولو من وراء الثياب، فهو أيضاً قد يكون في عصرنا كالصعود في السيارات جنباً إلى جنب الرجال، فلو برّر ذلك حرمة السفر أساساً لبرّر هنا حرمة الركوب أساساً في السيّارة، اللهم إلا إذا قيل بإمكان الاجتناب في موردٍ دون آخر.

ثالثاً: إنّ هذه الأحاديث معارضة للنصوص الدالّة على الجواز والواردة عن أهل البيت النبوي، وهم أدرى بما في البيت([125]).

وهذه المناقشة سوف نتعرّض لها ـ بحول الله تعالى ـ بعد الانتهاء من نصوص المنع؛ لننظر في النسبة بين مجموعتي الروايات هنا، علماً أننا لو لم نكن نعتقد بإمامة أهل البيت كما هي الحال مع الفقيه السنّي الذي يستند إلى نصّ أبي هريرة مثلاً هنا، فإنه يمكن القول بأنّه لا معارضة بين هذا الحديث وأمثاله وبين روايات أهل البيت حتى نقدّم المجموعة الثانية؛ إذ روايات أهل البيت ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ ليس فيها رواية عن النبي| حتى نقول بأنهم أدرى بما في البيت، ومعه فيحتمل من وجهة نظر الفقيه السنّي أن يكون ذلك اجتهاداً منهم في الأمر، فهل يمكن جعل اجتهادهم معارضاً لنصوص نبويّة واضحة منقولة عن شخص الرسول|؟! فهذه الطريقة في المناقشة إنما تصحّ على أصول الاعتقاد الإمامي، ما لم نثبت للفقيه السنّي من الخارج أنّ كل ما عندهم( منه| بنحو نقل الرواية بلا اجتهاد.

رابعاً: لو راجعنا مجمل النصوص المتقدّمة سنجد اختلافاً شديداً جداً في الحدّ الذي وضعته بين يوم، ويوم وليلة، ويومين، ويومين وليلتين، وثلاثة أيام، كما نجد اختلافاً آخر إذ مرّة يأتي ذكر الزوج، ومرّة ذكر المحرم، وثالثة يأتي ذكر الاثنين معاً، كما وبعضها حدّد بالزمان وبعضها عبّر بالمسافة، وهي البريد الذي هو نصف يوم، وهذا كلّه يضعّف الوثوق بهذه الأخبار([126]).

لكنّ هذا الإشكال يمكن الجواب عنه، بأن يكون هذا التعدّد شاهداً على أنّ النبي| لم يكن في مقام التحديد كما يرغبه ويأنس به الذهن الفقهي، وإنما كان في مقام بيان أصل الموضوع، وهو خروجها البعيد أو سفرها الطويل، وذكر الزوج أو المحرم إشارة لمن يحلّ لها لا غير، فيكون ذلك دليلاً على عدم صحّة الوقوف عند حرفيّة الحدّ.

علماً أنه لو أريد تطبيق قواعد حلّ التعارض، بصرف النظر عن قناعتنا بهذا التطبيق، لأمكن القول بالأخذ بما يحدّد المسافة الأقرب؛ لأنّ منطوقه يعارض مفهوم سائر الروايات لو كان لها مفهوم، فيقدّم عليها بملاك الأظهرية.

خامساً: ما يمكن أن يطرح في المقام ـ بصرف النظر عن سند هذه الأحاديث وبعضها تامّ السند إنصافاً وفق أصول الاجتهاد السنّي ـ وهو أن تكون النكتة في المنع من السفر هي عدم الأمن؛ فإنّ هذه الأسفار البعيدة قد تجعل من خروجها لوحدها مورداً للخوف عليها من الاعتداء أو الفتنة أو غير ذلك، من هنا جاءت فكرة المحرم لتعبّر عن حمايةٍ لها تستطيع أن تمنع شيئاً من هذا النوع، وإنّما ذكر المحرم هنا في غالب هذه النصوص من باب المثال لمطلق ما يحصّل لها الأمن في الطريق وفي المقصد، وإلا فإنّ الزوج يكفي قطعاً مع أنه ليس من المحارم.

وهذا التفسير هو الأنسب بالفهم التاريخي أيضاً؛ إذ مشكلة المرأة في مثل هذه الأسفار البعيدة أنها تحتاج إلى حمايةٍ آنذاك، ليس على المستوى الجنسي فحسب، بل على سائر المستويات أيضاً، وليس إلا مثل زوجها ومحارمها من يدافعون عنها في العادة وتكون في حمايةٍ معهم. لاحظ ذلك من نفسك أنّك لا ترضى بذهاب ابنتك الشابّة في أوّل سنيّ المراهقة في رحلةٍ طويلة ليس لأجل لمسها من قبل رجل هنا أو آخر هناك بما تحتاجه عمليّة السفر، بل لأنّ مثل هذا النوع من الأسفار فيه مظنّة الخطر عليها.

وإذا صحّ هذا التفسير سيكون كلّ ما يحقّق هذا الأمن لها كافياً في تجويز سفرها، مثل خروجها مع رفقةٍ كثيرة من النساء أو مع قوم ثقات. ونستطيع أن ندعم قولنا هذا بروايات أهل البيت الآتية، حيث أجازت السفر مع الأمن، مما يفهم منه أنّ المسألة هي مسألة الأمن، وهذا هو ما فهمه ـ على ما يبدو ـ غير واحدٍ من فقهاء أهل السنّة، مثل قول بعضهم بأنّه لو كان الخروج بطريقة لا تحصل فيها خلوة وإنما هي مكشوفة فلا بأس وهكذا.. ولا يظهر لنا أنّ هذا الحكم تعبّدي بتحريم سفرها بلا محرم، ونجد أنّ العرف والعقلاء والوعي التاريخي كلّ هذه تساعد على فهم هذه النصوص هنا بهذه الطريقة.

وهذا الذي قلناه، إن لم يقبل بوصفه فهماً عرفياً وعقلانياً لهذه النصوص، إلا أنّه يكفي فيه أن يكون محتملاً احتمالاً عقلانياً معتدّاً به، وهو كذلك، فاليوم قد يرفض الأب خروج ابنته في رحلة ترفيهية مختلطة، ويقيّد ذلك بأن يذهب أخوها معها، لا للتعبّد وإنما للأمن والاطمئنان عليها كما قلنا، فلا يفهم كلامه إطلاقاً هنا، وهذا ما نراه محتملاً في النصوص هذه، ومعه نرجع إلى القدر المتيقن، وهو حرمة السفر في مورد عدم الاطمئنان عليها، كما هو مقتضى مذهب أهل البيت وعدد من فقهاء الجمهور؛ لأنّنا قلنا في مباحث حجيّة السنّة بعدم صحّة أصالتي الموضوعيّة والتأبيد عند الشكّ الحقيقي في الخصوصيّة أو الامتداد الزمني([127]).

 

نصوص أهل البيت النبوي في السفر بلا محرم، مقاربة ومقارنة

وبهذا يظهر أنه لا يوجد دليل حاسم من الأحاديث على حرمة سفر المرأة بلا محرم مطلقاً، بل نصوص أهل البيت النبوي^ على العكس من ذلك، حيث جاء فيها الترخيص صريحاً في هذا الموضوع، وذلك مثل خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله× قال: سألته عن المرأة أتحجّ بغير وليّها؟ قال: mنعم، إذا كانت امرأةً مأمونة تحجّ مع أخيها المسلمn([128]).

وخبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله×، في المرأة تريد الحجّ ليس معها محرم هل يصلح لها الحجّ؟ فقال: mإذا كانت مأمونةn([129])، وفي خبر معاوية بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله× عن المرأة (الحرّة) تحجّ (تخرج) إلى مكّة بغير وليّ، فقال: mلا بأس، تخرج مع قومٍ ثقاتn([130])، وفي خبرٍ آخر لمعاوية بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله× عن المرأة تحجّ بغير وليّ، قال: mلا بأس، وإن كان لها زوج أو أخ أو ابن أخ فأبوا أن يحجّوا بها وليس لهم سعة، فلا ينبغي لها أن تقعد عن الحج، وليس لهم أن يمنعوهاn([131]).

وفي صحيحة صفوان الجمّال، قال: قلت لأبي عبد الله×: قد عرفتني بعملي، تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها وحبّها إياكم وولايتها لكم ليس لها محرم؟ قال: mإذا جاءت المسلمة فاحملها؛ فإنّ المؤمن محرم المؤمنةn ثم تلا هذه الآية: ﴿وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ([132]).

فهذه الأخبار تدلّ على عدم الحاجة إلى المحرم، والتعبير بأنّ المؤمن محرم المؤمنة دالّ على قدر من الخصوصية للمسلم؛ وكأنه من أسرتها وكأنّ المسلمين أسرةٌ واحدة.

نعم، المشكلة الأساسية في هذه النصوص تكمن في نواحٍ:

الناحية الأولى: إنّها واردة في الحجّ لا في مطلق السفر، ولعلّ هناك خصوصية في الحجّ تفرض السفر ولو من دون محرم؛ حيث هو فريضة عظيمة، فيما يكون غير الحجّ على مقتضى قانون التحريم.

من هنا لا نجد في كثير من هذه الروايات فائدة في محلّ بحثنا؛ لأنّ غايتها تخصيص الأخبار المتقدّمة بغير الحجّ، نعم، خبر صفوان الجمال غير مقيّد بحال الحجّ فيمكن الأخذ به، وهو معتبر سنداً، وهو يكشف عن أنّ ما في سائر النصوص ليس لخصوصيّة الحج بل هو عامّ، اللهم إلا أن يقال بأنّ معتبرة صفوان تبيّن وظيفة الرجل لا المرأة، فيجوز له حملها لكن ما كان ليجوز لها السفر بلا محرم، إلا أنّ هذا الكلام غير عرفي، فإنّ تعليل الإمام بأنّ المؤمن محرم المؤمنة كما يصلح للرجل يصلح للمرأة أيضاً، فيكون حاكماً على ما دلّ على لزوم المحرم وموسّعاً لنطاق المحرمية إلى كلّ مؤمن أمين على الأقلّ، كما أنّ الآية الكريمة متساوية النسبة إلى الرجل والمرأة، نعم هذه الرواية لا تعارض الروايات السابقة من حيث عدم وجود قيد الأمن والرفقة فيها؛ لأنها ناظرة إلى وظيفة الرجل، والمفروض أنّ صفوان محرمٌ وحماية لهذه المرأة، فيكون موضوع تلك الرواية متحقّقاً في مفروض سؤال السائل في معتبرة صفوان.

الناحية الثانية: إنّ مثل خبر معاوية بن عمار يدلّ على اعتبار الرفقة الثقات، فيما خبر سليمان بن خالد يأخذ شرط الأمن، وهذا يوقع التعارض بين النصوص.

إلا أنّ الإنصاف أنّ مفهوم الرفقة ليس سوى مثال وإشارة إلى تحقيق حالة المأمونية التي هي العبرة هنا، فلا داعي لتكلّف جعل هاتين الروايتين بمثابة طائفتين هنا، كما فعله بعض العلماء المعاصرين في مباحثه في الحج، مقرّاً بعد ذلك بعود الأولى إلى الثانية([133]).

الناحية الثالثة: وجود روايات معارِضة لهذه النصوص عن أهل البيت أيضاً، وهي خبران:

1 ـ معتبرة عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن المرأة تحجّ بغير محرم؟ فقال: mإذا كانت مأمونةً ولم تقدر على محرم فلا بأس بذلكn([134]).

2 ـ خبر قرب الإسناد، عن جعفر، عن أبيه: mأنّ علياً كان يقول: لا بأس أن تحجّ المرأة الصرورة مع قوم صالحين إذا لم يكن لها محرم ولا زوجn([135]).

فهذان الخبران دالان على أنّ السفر مع الأمن يتوقّف جوازه على العجز عن تأمين المحرم الذي يسافر معها، وهذا معناه أنّ فرضية السفر بلا محرم تظلّ محرّمةً إلا عند مثل سفر الحج حيث تضطرّ لفعل الواجب فيصار إلى المرحلة اللاحقة، وبهذه الطريقة جمع بعض المعاصرين بين النصوص فاعتبر أنّ المناط ـ في سفر الحج ـ هو المحرم فإن تعذّر كان هو الأمن، لا أنّ الأمن هو المعيار([136]).

ويمكن تأييد هذا الكلام بأنّ بعض الروايات المتقدّمة قد تساعد على أنّ مفروض سؤال السائل هو عدم توفّر المحرم مثل: mليس لها محرمn في معتبرة صفوان الجمال، والمغاير لقولنا: ليس معها محرم.

إلا أنّ الإنصاف أنّ تلك الروايات هي المتقدّمة؛ وذلك أن صحيحة صفوان لو سلّم أنّ جملة mليس لها محرمn ظاهرة في نفيه مطلقاً، فإنّ الجواب فيها يصلح حاكماً على مثل معتبرة ابن الحجاج؛ لأنه يفيد ثبوت المحرمية والولاية بين المؤمن والمؤمنة فنأخذ بهذه الحكومة، إلا فيما علم من الشرع عدمها فيه كمسائل باب النكاح، إن لم نقل بأنّ إثبات المحرميّة هنا كان بلحاظ إبراز عنصر الأمن نفسه من المؤمن.

يضاف إلى ذلك أنّ ظاهر الأسئلة في تلك النصوص لم يعط مؤشراً على العجز عن المحرم، وتعدّد هذه النصوص يبعّد احتمال أنّ المرتكز في ذهن السائل هو حرمة السفر بلا محرم، وأنه أتى ليسأل عن الحكم في حال العجز فقط، فإنّ هذا لا يستشم من النصوص، ومن ثم فلم يتعرّض الإمام لصورتين في المسألتين ولم يفصّل بين حال القدرة على المحرم وعدمه، الأمر الذي يشهد على التعميم، بل يقرّب هذه النصوص من إباء حملها على قابلية التخصيص بمعتبرة ابن الحجاج، بل إنّ خبر معاوية بن عمار الآخر كأنه واضح في ذلك؛ حيث أجابه الإمام بنفي البأس عن الحجّ بلا ولي، ثم أعقب بأنه لو كان لها وليّ فأبى الذهاب ما عذرها ذلك، ولا حقّ لهم منعها، فإنه رتّب على صورة إبائهم ـ وهي صورة عجزها عن تحصيل الولي والمحرم ـ عدم سقوط الحجّ عنها وعدم جواز منعهم لها، لا جواز سفرها لو كانت آمنة، ممّا فرض في أصل السؤال.

بل يمكن القول بأنّ الذهن العقلائي لا يرى اشتراط المحرم أمراً تعبدياً صرفاً حتى نتعامل مع مرتبة المحرم ومرتبة المأمونية بهذه الطريقة، بل العرف والعقلاء يفهمون من ضمّ نصوص المحرم إلى نصوص المأمونية أنّ المحرم هو أبرز أفراد المأمونية، ودعوى التمييز بين مراتب المأمونيّة وإن كانت محتملة إلا أنّه يمكن القول حينئذٍ بأنّ عليها تحصيل أعلى مراتب الأمن حيث يمكنها ذلك وإلا فما دونها بحيث يكون الأمن متحقّقاً معها أيضاً، وهذا غير تقديم المحرم على غيره بعنوانه؛ إذ بما قلناه يبقى الأمن هو المعيار فلاحظ.

بل إنّ الجمع بين معتبرة صفوان ومعتبرة ابن الحجاج يفضي في غايته إلى شرط المحرم مع الإمكان في سفر الحجّ خاصة، فتبقى سائر الأسفار تحت إطلاق معتبرة صفوان الجمّال، وهذا هو مطلوبنا هنا.

وعليه، فالصحيح أنّ نصوص أهل البيت^ دالّة على كفاية المأمونية في سفر المرأة بلا حاجة إلى المحرم، ولو كان فهو أفضل ـ وربما متعيّن ـ مع كونه يرفع مستوى الأمن لا مطلقاً، غايته قد يقال بشرطه في سفر الحج، وحيث بني على حجية الخبر الموثوق فإنّ الأخذ بخبر ابن الحجاج المدعوم بخبر قرب الإسناد الضعيف السند لا يفيد الوثوق بالصدور، لا أقلّ بعد وجود سائر الأدلّة الأخرى في المقام، وبهذا يثبت جواز سفر المرأة بلا محرم مع الأمن وعدم طروء العنوان الثانوي.

 

نتائج البحث

من هنا يتبيّن أنّ الإشكاليات الست التي طرحها الرافضون لعمل المرأة لا تتمّ لإصدار حظرٍ على هذا الموضوع لا مطلقاً ولا غالبياً، ولا بنحو أنه الأصل الشرعي في هذا الموضوع.

إلا أنّ هذه الإشكاليات لا تخلو من فائدة في إجلاء الموضوع بالنسبة إلينا، لأنها وإن لم تحرّم عمل المرأة إلا أنّ لها دوراً في وضع ضوابط لعملها بما يحقّق المقاصد الشرعية العامة.

ويمكننا الخروج هنا بالنتيجة التالية: إنّ عمل المرأة داخل المنزل وخارجه مباح من حيث المبدأ، لكن لا يمنع ذلك من وضع بعض الشروط والضوابط في هذا الموضوع، كما هي بعض الشروط والضوابط في عمل الرجل، وأبرز هذه الشروط والضوابط هو:

أولاً: أن لا يكون في عمل المرأة ضررٌ عليها من الناحية الجسدية أو غيرها، أو ضرر يلحق نوع المرأة، والمسألة تتبع حجم الضرر من حيث كون القليل منه قد يفضي إلى المرجوحية فقط لا الحرمة. وهنا يُرجع للخبراء ـ لا الفقهاء بما هم فقهاء ـ في تحديد هذه الأمور بذهنية واقعية. وهذا الأمر لا يختصّ بالمرأة فلو حصل مع الرجل كان الحكم كذلك؛ لأنّ مفاهيم الضرر ونحوه عامّة، وليس هناك من مانع يفرض أن تكون نتائج هذه القراءات الواقعيّة موحّدة على امتداد الزمان والمكان والظرف والحال، فقد يخلق عمل المرأة في بلد أضراراً عليها دون بلدٍ آخر تبعاً حتى للبنيات الجسدية المختلفة.

وبقولٍ عام: لا نحبّذ فيما نراه من ذوق الشارع أن تمارس المرأة الأعمال ذات الطابع القاسي جداً وتسعى للتوجّه نحو الأعمال الهادئة التي لا ترهق جسدها أو تثقل حالتها النفسية، مثل الطبابة والتربية والتعليم والشؤون المكتبية والمعلوماتية ونحو ذلك.

ثانياً: أن لا يلحق عملها ـ فرداً أو نوعاً ـ ضررٌ على الآخرين، وتتبع درجة الحكم هنا حجم الضرر، من هنا وحيث علم من ذوق الشارع الأهمية القصوى لشأن المنزل والتربية والرعاية للأطفال بالنسبة للأهل معاً، وثبت ذلك غاية الثبوت في الدراسات العلمية الحديثة، فنحن نجد أنه يفترض إيلاء الأطفال والأسرة أهميةً بحيث لا يصحً التضحية بالسلامة النفسية والاستقرار الروحي للأسرة لصالح مجرّد العمل خارج المنزل، بل على المرأة ـ تماماً كالرجل ـ أن توازن بين حاجات الأسرة ومتطلّبات العمل، فلا تقع في إفراطٍ أو تفريط، وأن لا تنظر إلى وظيفة الأمومة والرعاية بنظرة دونية احتقارية، بل على المجتمع أن يساهم في توجيه النساء إلى مديات الضرورة والقيمة الموجودة في الأمومة، وكيف أنّ ضرب هذه القيمة قد يرتدّ سلباً بشكل خطير على الاجتماع كلّه.

لا نريد هنا حبس المرأة في البيت بقدر ما نريد تعديل الصورة لدى بعض الحركات النسوية المتطرّفة في طروحاتها، والتي تسعى لخلق وعي مجروح بقضايا الأمومة والمنزل، وإشعار المرأة بالحقارة لأدائها وظيفة سامية من هذا النوع. إنّ قيام المجتمع والمؤسّسات الأهلية والحكومية ببرامج تكريم دور المرأة في الأسرة سيساهم في مواجهة هذه الحالة النسوية المفرطة، والرجل هنا بوصفه زوجاً وأباً هو اللاعب الرئيس في عملية بعث الاطمئنان الروحي للزوجة أو الابنة بتقديره لدورها المنزلي، ورفع مختلف أشكال الاستعباد الممارس ضدّها داخل الأسرة بما قد يخلق في روحها نفرةً من هذا النوع من الأعمال.

ثالثاً: لا نجد الاختلاط محظوراً في الشريعة الإسلامية من حيث المبدأ؛ لهذا لا مانع من عمل المرأة ولو أدّى إلى الاختلاط، لكنّ الملاحظ من النصوص الدينية في الكتاب والسنّة هو الرغبة في جعل الاختلاط حالةً استثنائية، بحيث مهما أمكن تجنّبه.

ولا بأس بكلمةٍ يسيرة هنا، وهي أنّ التحفظ الميداني في أمر الاختلاط يظلّ حاجةً أحياناً عندما نطبّقه في بعض ظواهر الاختلاط التي تروج في مجتمعاتنا في الفترة الأخيرة حتى داخل الوسط الديني، حيث بتنا نلاحظ أنّ الاختلاط بدأ يأخذ شكلاً سلبياً؛ إذ تصاحبه ظواهر في العلاقات الاجتماعية تتخطّى الكثير من الذوق الشرعي، وتجرّ ـ بل جرّت مراراً ـ للرذيلة وارتكاب الفاحشة التي بلغت أحياناً حدّ الخيانة الزوجية المحرّمة، فمن الضروري الحذر جيداً من أنّ الاختلاط لا يعني الخروج عن ضوابط العلاقات بين الرجال والنساء والتزام معايير الحياء والعفاف والتحصّن والمنعة، كما أنّ طريقة الكلام وأسلوب الحديث ومضامينه حاجةٌ أساسية لضبط الإيقاع السلبي لبعض ظواهر الاختلاط. إنّ قصّة موسى وابنتي شعيب تعطي إيحاءات بضوابط فعل العلاقة بين الرجل والمرأة، فسعيهنّ لتجنّب زجّ أنفسهنّ وسط الرعاة، ثم مجيء إحداهنّ بمشية استحياء، ثم قولها بأنّ والدها يدعوه ـ ولم تقل: أنا أدعوك، أو نحن الأختان ندعوك، أو نحن معاً مع والدنا ندعوك ـ في إشارة لطيفة لرقّة هذا الحياء... صورة جليّة لامرأة تفتح علاقة مع رجل ملؤها الأخلاقية والانضباط والحياء ومراعاة قواعد الأدب، بدل الأنموذج الذي بتنا نجده يروج في الأوساط المتديّنة مؤخراً، ويعبّر عن فكّ هذه القواعد وتفتيتها.

لا نعارض الاختلاط، ولا نرى حرمته، لكننا نتشدّد في نماذجه وآلياته وملازماته، وندعو لتقديم أنموذج يسمح للمرأة بالعمل والانطلاق في الحياة دون كسر قواعد الحياء والأخلاقية على الصعيد العام. وهذا ما نطالب به الرجل أيضاً تماماً بلا زيادة ولا نقيصة، مع اختلاف في طبيعة الموقع ونمط التأثير والتأثر.

إننا ومن موقع إرادتنا لظاهرة تحصين المرأة وعفافها وحرمتها، نجد أنّ بعض الأعمال يظلّ ضرورةً لها لا أمراً مباحاً كما أشرنا من قبل، فتخصّص بعض النسوة في قضايا الطبابة النسائية يعزّز ظاهرة الحياء العام، تماماً كتخصّصهنّ في طبّ الأطفال، وكذلك عملهنّ في قيادة سيارات الأجرة mتاكسيn بشكل خاصّ بالنساء ونحو ذلك.

رابعاً: يشترط في عمل المرأة بل في مطلق علاقتها بالرجال مراعاة أحكام الستر والنظر مراعاةً دقيقة، كما يطلب من الرجل ذلك أيضاً. ولابدّ أن نشير هنا إلى ضرورة الانضباط في تطبيق الشرع في هذا المجال وعدم استخدام أسلوب التحايل على الدين بحيث نلبس لباساً يستر الجسد لكنه قد يكون مصداقاً للتبرّج أشدّ من مصداقية الكشف في بعض الأحيان، ومن هنا ندعو بمحبّة إلى ضبط إيقاع أشكال الموضة السيّالة في هذا الزمن بالنسبة للنساء المحجّبات، بحيث لا يكون في هذه الموضة التفافٌ على المقاصد الشرعيّة من وراء الستر والعفاف، مع تأكيدنا على حقّ المرأة في أن تظهر بمظهرٍ يليق بها، فإنّ ما يليق غير ما يجذب أو يفرط في الإثارة.

خامساً: إنّ فرص العمل في المجتمع حقّ للرجل والمرأة معاً، وليست حكراً على الرجال، فللمرأة العمل ولا يصحّ النظر إليها على أنها متطفّلة على حقّ غيرها. نعم، لا يمنع العنوان الثانوي من حكم هنا أو هناك بحقّ الرجل والمرأة.

سادساً: لم يثبت حرمة خروج المرأة من منزلها بعنوانه، كما أنّ خروجها منه لا يحتاج إلى إذن أحد ما لم يناف حقّ أحد في البيت، مثل حقّ الزوج، وهذا الحكم يجري بالنسبة للزوج أيضاً في خروجه من المنزل ما لم تتزاحم العناوين.

لكن ذلك لا يمنع من تحسين عدم تخطّي الفتيات لمكانة الآباء والأمهات في خروجهنّ من المنزل، ومراعاة لياقات الأدب في التعامل مع سائر أفراد الأسرة، وإن لم يكن أخذ الإذن واجباً.

سابعاً: لم يقم دليل مقنع على حرمة سفر المرأة بلا محرم سواء للحجّ أم لغيره، نعم يشترط أن تكون مأمونةً على نفسها ومالها، بحيث لا يكون سفرها تعريضاً لنفسها للضرر والأذية، وهو حكم يجري في حقّ الرجل أيضاً.

ثامناً: إنّ قيادة المرأة للسيارات ليس محرماً، حيث لم نجد له عيناً ولا أثراً في القضايا المتصلة بضوابط علاقات المرأة. نعم، لا مانع من الحثّ على مراعاة القواعد الشرعية والأخلاقية في هذا المجال للرجل والمرأة على السواء.

_______________

([1]) نشر هذا المقال في الجزء الثاني من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، وذلك عام 2011م.

([2]) محمد مهدي شمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة «حقوق الزوجيّةn: 197.

([3]) المصدر نفسه: 198.

([4]) الكليني، الكافي 5: 128.

([5]) شمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة «حقوق الزوجيّةn: 198 ـ 211.

([6]) انظر: ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 13: 235 ـ 236.

([7]) راجع: الطوسي التبيان 8: 337؛ والطبري، جامع البيان 22: 5 ـ 6.

([8]) راجع: حيدر حب الله، المرأة ومرجعيّة الإفتاء، مجلّة الحياة الطيبة، العدد 18، صيف وخريف عام 2005م.

([9]) راجع: حيدر حب الله، الجهاد الابتدائي الدعوي.. قراءة استدلاليّة في مبادئ العلاقات الدوليّة، مجلة الاجتهاد والتجديد، الأعداد: 8 ـ 12، 2007 ـ 2008م.

([10]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 20: 7.

([11]) نهج البلاغة 4: 34؛ والصدوق، الخصال: 586 ـ 587، 620؛ والرضي، خصائص الأئمة: 103؛ والنوري، مستدرك الوسائل 8: 8؛ والهداية: 60؛ والكافي 5: 9، و5: 507؛ والصدوق، كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 439، و4: 416؛ والحراني، تحف العقول: 60؛ والإصبهاني، دلائل النبوّة 2: 651 ـ 652؛ والراوندي، قصص الأنبياء: 292؛ والحرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 15: 23، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 4، ح2، و20: 221، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الباب 123، ح1؛ وابن عبد البر، التمهيد 21: 20، 21؛ والمتقي الهندي، كنز العمال 15: 907، و16: 140.

([12]) ابن حجر، لسان الميزان 1: 169.

([13]) انظر: المصدر نفسه 1: 168 ـ 169؛ وابن الجوزي، الموضوعات 2: 153.

([14]) انظر: الذهبي، ميزان الاعتدال 2: 551.

([15]) انظر: النمازي، مستدركات علم رجال الحديث 3: 97.

([16]) الكافي 5: 9؛ والطوسي، تهذيب الأحكام 6: 126.

([17])انظر: العلامة الحلي، منتهى المطلب 2: 899؛ وجواهر الكلام 21: 7.

([18]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 439؛ والطبرسي، مكارم الأخلاق: 215؛ وتفصيل وسائل الشيعة 20: 157، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الباب 78، ح6.

([19]) انظر: الخوئي، منهاج الصالحين 1: 362.

([20]) ابن حنبل، المسند 6: 71، 165، 166؛ والبيهقي، السنن الكبرى 4: 326؛ ومسند بن زاهويه 2: 447؛ وابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة 8: 180؛ وصحيح البخاري 3: 220.

([21]) الهيثمي، مجمع الزوائد 5: 324؛ والطبراني، المعجم الأوسط 3: 347 ـ 348.

([22]) صحيح البخاري 3: 221؛ والسيوطي، الجامع الصغير 2: 675.

([23]) صحيح البخاري 2: 141، و3: 200.

([24]) انظر: الألباني، إرواء الغليل 5: 7.

([25]) مجمع الزوائد 5: 323؛ ومصنّف ابن أبي شيبة 7: 728؛ والضحاك، الآحاد والمثاني 6: 242؛ والطبراني، المعجم الكبير 25: 176.

([26]) مجمع الزوائد 5: 324.

([27]) انظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى 8: 308؛ وابن ماكولا، الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والألقاب 7: 157؛ وابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة 5: 610.

([28]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي 1: 213؛ ومسند أحمد 6: 165؛ وسنن ابن ماجة 2: 968؛ وصحيح ابن خزيمة 4: 359.

([29]) انظر: إرواء الغليل 4: 151.

([30]) انظر: محمد صادق الروحاني، فقه الصادق 13: 26.

([31]) الخوئي، منهاج الصالحين 1: 362؛ وانظر: فقه الصادق 13: 25.

([32]) انظر: تهذيب الكمال 35: 372؛ وراجع جملة النصوص عند: محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعيّة 2: 1013 ـ 1017.

([33]) انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 13: 329.

([34]) انظر: ابن العربي، أحكام القرآن 3: 568 ـ 569؛ والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن 14: 179.

([35]) راجع: الطبرسي، مجمع البيان 8: 139؛ والزمخشري، الكشاف 5: 98.

([36]) راجع: الميزان في تفسير القرآن 16: 339 ـ 340.

([37]) الكافي 5: 538؛ والصدوق، معاني الأخبار: 155.

([38]) الكافي 5: 538؛ وتهذيب الأحكام 7: 485 ـ 486.

([39]) الخوئي، مباني العروة، كتاب النكاح 1: 115.

([40]) صحيح البخاري 4: 18، ووردت بصيغة قريبة في المصدر نفسه 6: 159؛ وفي دعائم الإسلام 2: 214؛ ومستدرك الوسائل 14: 266، ومسند أحمد 1: 26، 222، و3: 441، وصحيح مسلم 4: 104؛ وسنن الترمذي 3: 315؛ والحاكم النيسابوري، المستدرك 1: 114، 115؛ وسنن البيهقي 3: 139، و5: 226؛ ومجمع الزوائد 5: 223، 225؛ وصحيح ابن خزيمة 4: 137؛ وأمالي المحاملي: 242؛ وصحيح ابن حبان 6: 441، و9: 72، و12: 400، 402 و..

([41]) تفصيل وسائل الشيعة 20: 67.

([42]) الصدوق، علل الشرائع 2: 498؛ وابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 3: 391.

([43]) انظر: تفسير ابن أبي حاتم الرازي 3: 853، و5: 1630؛ وتفسير القرآن العظيم 1: 458؛ والسيوطي، الدرّ المنثور 2: 116.

([44]) الكافي 5: 337.

([45]) المصدر نفسه 5: 338؛ ونهج البلاغة 3: 56؛ وتحف العقول: 87.

([46]) انظر: الكافي 5: 535؛ ودعائم الإسلام 2: 214؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 390.

([47]) انظر: الطوسي، الأمالي: 585، 662؛ والإمام يحيى بن الحسين، كتاب الأحكام 1: 143؛ والشوكاني، نيل الأوطار 2: 11.

([48]) انظر: ضعفاء العقيلي 1: 85؛ وابن حبّان، كتاب المجروحين 1: 123.

([49]) الكافي 5: 537.

([50]) البرقي، المحاسن 1: 115.

([51]) انظر: محمد الروحاني، المسائل المنتخبة: 333؛ والسيستاني، المسائل المنتخبة: 406؛ والنووي، المجموع 4: 484 (متحدّثاً عن الاختلاط دون الخلوة).

([52]) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 3: 205.

([53]) مسائل علي بن جعفر: 246؛ والحميري، قرب الإسناد: 224.

([54]) محمد مهدي شمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة «حقوق الزوجية»: 86 ـ 87.

([55]) انظر: المصدر نفسه: 87 ـ 88.

([56]) راجع: ابن حبان، كتاب المجروحين 1: 123؛ وضعفاء العقيلي 1: 85.

([57]) انظر: مسند أحمد 3: 397، و4: 197، 205؛ وسنن الدارمي 2: 320؛ وسنن الترمذي 2: 319.

([58]) انظر: سنن الترمذي 2: 319؛ وابن حجر، فتح الباري 9: 260.

([59]) انظر: الكافي 7: 178.

([60]) المصدر نفسه 5: 519؛ ودعائم الإسلام 1: 226؛ والطبرسي، مكارم الأخلاق: 233.

([61]) انظر: الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 348.

([62]) كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 252.

([63]) مستدرك الوسائل 14: 264 ـ 265.

([64]) الصدوق، الخصال: 132.

([65]) مستدرك الوسائل 14: 266.

([66]) المفيد، الأمالي: 156 ـ 157؛ وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 61: 125 ـ 126، 127؛ والراوندي، قصص الأنبياء: 156؛ والجزائري، قصص الأنبياء: 345.

([67]) انظر: الأمثل 5: 13.

([68]) مستدرك الوسائل 14: 265.

([69]) المفيد، الأمالي: 315؛ والطوسي، الأمالي: 83؛ والدر المنثور 6: 326؛ والالوسي، روح المعاني 30: 73؛ وأسد الغابة 5: 290.

([70]) المنتظري، دراسات في المكاسب المحرّمة 2: 533.

([71]) ابن عابدين، حاشية ردّ المحتار 1: 610.

([72]) انظر: شمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة «حقوق الزوجية»: 183 ـ 187.

([73]) القمّي، مباني منهاج الصالحين 10: 317.

([74]) انظر: الكلبايكاني، إرشاد السائل: 105؛ وزين الدين، كلمة التقوى 7: 150 ـ 151؛ والخامنئي، منتخب الأحكام: 247.

([75]) راجع: الخوئي:، منهاج الصالحين 2: 289؛ والتبريزي، صراط النجاة 2: 536.

([76]) مسند أحمد 2: 57، 143، 156؛ وصحيح مسلم 2: 33؛ والبيهقي، السنن الكبرى 3: 132.

([77]) انظر: صحيح البخاري 1: 210.

([78]) راجع: الشوكاني، نيل الأوطار 3: 160؛ وابن حجر، فتح الباري 2: 288.

([79]) الكافي 5: 513؛ ودعائم الإسلام 2: 215 ـ 216؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 441 ـ 442؛ والراوندي، النوادر: 200.

([80]) ابن قدامة، المغني 8: 129؛ والبهوتي، كشف القناع عن متن الإقناع 5: 224.

([81]) انظر: الهيثمي، بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث: 160 ـ 161؛ وابن عدي، الكامل 7: 153؛ ومنتخب مسند عبد بن حميد: 404.

([82]) راجع: الذهبي، ميزان الاعتدال 4: 468 ـ 470.

([83]) انظر: السيوطي، الدرّ المنثور 2: 154.

([84]) انظر: محمد حسين فضل الله، كتاب النكاح 1: 39 (الهامش رقم: 2)، 41، بقلم: جعفر الشاخوري.

([85]) راجع: البحراني، الحدائق الناضرة 31: 184.

([86]) انظر: فضل الله، كتاب النكاح 1: 41.

([87]) مسائل حرجة في فقه المرأة «حقوق الزوجية»: 93.

([88]) فضل الله، كتاب النكاح 1: 42 ـ 45؛ وشمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة (حقوق الزوجيّة): 93.

([89]) الكافي 5: 514؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 177، 438.

([90]) تهذيب الأحكام 7: 462.

([91]) المصدر نفسه 8: 257.

([92]) انظر: اليزدي، العروة الوثقى 4: 492؛ ومحمد إسحاق الفيّاض، تعاليق مبسوطة 8: 266؛ والروحاني، فقه الصادق 9: 280.

([93]) شمس الدين، مسائل حرجة في فقه المرأة «حقوق الزوجية»: 93.

([94]) ابن حزم، المحلّى 10: 332؛ وابن عبد البر، التمهيد 1: 231؛ وابن حبّان، كتاب المجروحين 2: 232.

([95]) المحلّى 10: 332.

([96]) راجع: كتاب المجروحين 2: 231 ـ 232؛ والمزي، تهذيب الكمال 24: 279 ـ 288.

([97]) الكافي 5: 514؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 439؛ وانظر: تهذيب الأحكام 7: 353؛ والسيوطي الجامع الصغير 1: 455.

([98]) مسائل علي بن جعفر: 179؛ وقرب الإسناد: 226.

([99]) انظر: الخوئي، المعتمد في شرح المناسك 3: 96.

([100]) الكافي 5: 507؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 438.

([101]) الكافي 5: 508.

([102]) الهيثمي، مجمع الزوائد 4: 306 ـ 307؛ والدرّ المنثور 2: 152 ـ 153.

([103]) الهيثمي، مجمع الزوائد 4: 307.

([104]) حيدر حب الله، مقال: حقوق الزوجية الجنسية، مجلة فقه أهل البيت، العدد 21، 2001م.

([105]) الصدوق، الخصال: 242؛ والواسطي، عيون الحكم والمواعظ: 73؛ وقريب منه خبر القاسم بن مخيمرة الوارد في مصنّف ابن أبي شيبة 3: 399، الضعيف سنداً بعبد الرحمن بن يزيد بن جابر «ابن تميم».

([106]) الخصال: 511؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 4: 364؛ ومكارم الأخلاق: 439.

([107]) مجمع الزوائد 4: 307؛ والطبراني، المعجم الكبير 8: 259؛ والمتقي الهندي، كنز العمال 16: 338.

([108]) انظر: مجمع الزوائد 4: 307؛ وضعفاء العقيلي 3: 114؛ ومستدركات علم رجال الحديث 5: 150؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 12: 39؛ وميزان الاعتدال 2: 671.

([109]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: الطبرسي، مجمع البيان 10: 40؛ والطباطبائي، الميزان 19: 314؛ والطبري، جامع البيان 28: 172 ـ 173؛ والرازي، التفسير الكبير 30: 33.

([110]) انظر: الخوئي، مستند العروة الوثقى (كتاب الصلاة) 8: 105 ـ 106.

([111]) راجع: الخوئي، مباني العروة الوثقى (كتاب النكاح) 2: 216؛ ومنهاج الصالحين 2: 289.

([112]) محمد صادق الروحاني، منهاج الصالحين 2: 314؛ والفياض، منهاج الصالحين 3: 74.

([113]) انظر: محمد الروحاني، منهاج الصالحين 2: 319؛ والهاشمي، منهاج الصالحين 2: 402.

([114]) انظر: الشافعي، كتاب الأم 2: 128.

([115]) المصدر نفسه 5: 244؛ ومختصر المزني: 222؛ والنووي، المجموع 4: 402.

([116]) المفيد، أحكام النساء: 29.

([117]) انظر: العروة الوثقى 4: 451؛ والمحقق الحلي، شرائع الإسلام 1: 168؛ والعاملي، مدارك الأحكام 7: 89؛ والنجفي، جواهر الكلام 17: 330.

([118]) انظر: ابن قدامة الحنبلي، المغني 3: 190 ـ 191.

([119]) صحيح البخاري 2: 35 ـ 36؛ وصحيح مسلم 4: 103؛ وسنن ابن ماجة 2: 968؛ والبيهقي، السنن الكبرى 3: 139، و5: 227.

([120]) وربما يكون أحاديث متعدّدة، لكنّنا أحببنا دمجها للاختصار، وميّزناها عن الأوّل لأهميّته في الفقه السنّي.

([121]) انظر: صحيح مسلم 4: 102 ـ 104؛ وصحيح البخاري 2: 35، 58، 219؛ وسنن أبي داوود 1: 388 ـ 389؛ وسنن الترمذي 2: 317 ـ 318؛ والبيهقي، السنن الكبرى 3: 138 ـ 139، و5: 223 ـ 224، 227، و7: 90؛ والنووي، شرح مسلم 9: 102 ـ 103؛ والصنعاني، المصنّف 7: 138؛ ومسند الحميدي 1: 222، و2: 440؛ ومسند الموصلي 4: 279، 394؛ وصحيح ابن خزيمة 4: 133، 136، 137، وغيرها من المصادر.

([122]) محمد القايني، عدم اشتراط المحرم في حجّ المرأة، مجلّة ميقات الحج، العدد 34: 60 ـ 61.

([123]) المصدر نفسه: 63 ـ 64.

([124]) راجع: ابن قدامة، المغني 3: 190 ـ 191؛ والعلامة الحلّي، تذكرة الفقهاء 7: 83.

([125]) محمد القايني، عدم اشتراط المحرم في حجّ المرأة، مجلّة ميقات الحج، العدد 34: 64.

([126]) المصدر نفسه: 70 ـ 71.

([127]) راجع: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 661 ـ 740، مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011م.

([128]) تهذيب الأحكام 5: 401.

([129]) الكافي 4: 282؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 2: 439.

([130]) الكافي 4: 282؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 2: 438.

([131]) تهذيب الأحكام 5: 401.

([132]) كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 439؛ وتهذيب الأحكام 5: 401.

([133]) منير الخباز، بحوث في فقه الحج 1: 530 ـ 531 (بقلم: عبد الهادي الشيخ محمد اللويم).

([134]) تهذيب الأحكام 5: 401.

([135]) قرب الإسناد: 109.

([136]) الخباز، بحوث في فقه الحج 1: 531.