معالم الإبداع الأصولي ـ عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر
حيدر حب الله([1])
تمهيد
لا يمكن قراءة بعض الظواهر البشرية قراءةً مستوعبة دون الأخذ بعين الاعتبار العنصر الزمكاني الذي تولّدت وعاشت فيه، أي كل الأجواء المحيطة التي تعاصرت معها هذه الظاهرة حتى يتسنّى القيام بمقارناتٍ ومقاربات كاشفة عنها، وإلا فإن محاكمتها من منظار زمكاني آخر لا يمكنه إلا أن يورّطنا في إسقاطات ذاتية تارة أو تجريد الظاهرة من عناصرها المتميزة اُخرى، لاسيما حينما تكون عبارةً عن حلقةٍ من حلقات الترقي الإنساني، فإنّ مطالعتها من منظار حلقةٍ أكثر تقدماً أو تعقّداً يمكنه أن يفقدنا العديد من عناصر ونتائج التقييم، كما تؤكده قواعد القراءة التاريخية.
السيد الشهيد محمّد باقر الصدر واحدة من الظواهر الكبيرة في الحياة الاسلامية والإنسانية في القرن الأخير، وقد تميّز بخصائص افتقدتها الكثير من الشخصيات التي ظهرت في هذا القرن وسعت نحو التغيير والتطوير، وقراءة مثل هذه الشخصية قد يوقع القارىء في بعض الأخطاء حينما يحمّلها ما لم ترده أو يسلب عنها ما تميّزت به.
وسوف تحاول هذه الصفحات أن تستشرف مميزات فكر الشهيد الصدر، إلاّ أنّه وانطلاقاً من ضرورة الشفافية في تحديد وترسيم البحث من اللازم أن نعرف أننا لا نعالج هنا المبررات التاريخية والموضوعية التي ولّدت ظاهرة الصدر وجاءت بها، وإنّما نقرأ نفس نتاجاته التي تصلح شاهداً على خاصية الإبداع عنده مع الأخذ بالاعتبار فترته وظرفه ومحيطه التاريخي.
كما أننا ـ ومع الاعتراف بالروابط الموجودة بين المجالات التي شكلت ساحة الإبداع والتجديد عند الشهيد الصدر ـ سوف نسلّط الضوء على إبداعاته الأصولية أي على خط أصول الفقه الاسلامي، الذي يعتبر ـ عند البعض ـ أهم مواطن الإبداع الإسلامي نظرا لأصالته الإسلامية تبعا لتولّده وعلم الكلام قبل عصر الترجمة([2]).
الإبداع الأصولي
بعيداً عن الجدل في اعتبار الشهيد الصدر صاحب مدرسة أصولية أو بداية عصرٍ أصوليّ جديد([3])، والذي يسبقه جدل طبيعي وكبروي آخر في تعريف المدرسة الأصولية والعصر الأصولي وتحديد ضوابطهما، فإن الذي يتفق عليه الدارسون للصدر هو أنه صاحب إبداعات ونتاجات متميزة في الميدان الأصولي، سواء في ذلك الباحثون الشيعة والسنة.
بيد أن اعتبار الشهيد مبدعاً أصولياً مرتهن بمدى خطورة وأهمية التغييرات والمعطيات التي قدمها في علم الأصول، فمجرّد التوصل إلى رأيٍ ما في مسألةٍ ما في هذا العلم ـ حتى لو لم يلتفت إليه أحد ـ لا يدلّل وبصورةٍ مطردة على خاصية الإبداع والتجديد، فالتحقيق والبحث شيء فيما الإبداع شيء آخر([4])، بل ترتهن هذه الخاصية بطبيعة وموقعيّة وحساسية التغيير الذي تم إحداثه في منظومة هذا العلم، فتوصّل الأصولي إلى نتيجة جديدة فيما يرتبط باستصحاب العدم الأزلي أو مفهوم الجملة الوصفية... لا يكشف ـ بالضرورة ـ عن امتيازٍ عنده يخوّله أن يصنّف مبدعاً ومجدداً في هذا العلم، بيد أن نتائج متميزة في قضايا من قبيل اللغة والخطاب الأصولي، المنهجية الأصولية، العقل الأصولي... أو قضايا من قبيل الموضوعات المفصلية في هذا العلم كنظريات التزاحم أو الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، أو العقل العملي أو...
مثل هذه النتائج تسمح لصاحبها بأن يكون مبدعاً في المجال الأصولي نظراً للأثر الكبير الذي تتركه هذه الاُمور في مسيرته، فمسلك جعل الطريقية الذي طرحته مدرسة الميرزا النائيني لا يمكن مقارنته بمسألة دلالة الأمر على الفور أو التراخي، فقد استُخدم هذا المسلك في حلّ معضلاتٍ عديدة، كما اُجريت له تطبيقات كثيرة في أبواب الأصول الهامة كالعلاقة بين الأمارات والأصول، مثبتاتهما، قيام الأمارات مقام القطع الطريقي والموضوعي... وهكذا الحال في نظرية الحكومة للشيخ الأنصاري.
ومن هنا، فإن قراءة الإبداع الأصولي عند الشهيد الصدر يمكن أن تتم على خطين:
الخط الأول: قراءة النسيج العام والخارطة الكلية التي قدمها الصدر للأصول مما له ارتباط بالعقل والمنهجية واللغة والمصطلح والنظم والتقسيم و...
الخط الثاني: مطالعة الموضوعات الجوهرية ذات الموقعية البنيوية، والتي تم إجراء تعديلات أساسية فيها من شأنها ـ لو سرنا مع تداعياتها الطبيعية ـ أن تولّد تغييراً ملحوظاً في هذا العلم، كمباحث العقل العملي عند الشهيد أو نظرية التزاحم الحفظي، أو الظهورين الذاتي والموضوعي، أو نظرية القرن الأكيد، أو السيرتين العقلائية والمتشرعية وغير ذلك.
إلاّ أنّه ونظراً لضيق المجال سوف نقتصر هنا على الدراسة على الخط الأوّل أي الإبداعات العامة والمنهجية، أمّا الخط الثاني فيحتاج إلى دراسة أوسع.
الإبداعات المنهجية للشهيد الصدر
ويمكن هنا التركيز على مجموعة محاور قد تكون هي الأهم وهي:
المحور الأوّل: اللغة الأصولية
إذا أردنا أن نحاكم المرحلة الأساسية في تطوّر علم الأصول ـ وهي المرحلة التي بدأت بعصر الوحيد البهبهاني ـ فإننا نلاحظ اتسام هذه المرحلة بالتلاقح الشديد بين الدراسات العقلية والفلسفية وبين علم الأصول، مما قد يصحّ معه اعتبار المحقق الإصفهاني في «نهاية الدراية» بمثابة الذروة لهذا التفاعل، فقد تم استيراد عدد كبير من القواعد والمعادلات العقلية من الفلسفة الكلاسيكية، وتعداد النماذج الموجودة حالياً لتأكيد هذه الفكرة يحتاج إلى دراسة خاصة، ويتأكده إجمالاً كل من يراجع أو يطّلع على هذين العلمين([5]).
وقد أدى هذا النوع من الاستيراد ـ من الأصول ـ والتصدير ـ من العقليات ـ إلى انسياب اللغة الفلسفية إلى علم الأصول، فجرى استخدام نفس النسق المنطقي لتركيب الجمل كنسق الاتفاقية واللزومية، مانعتي الجمع والخلو... كما تمّ توظيف نفس المصطلحات الفلسفية والمنطقية كالوجوب والإمكان والضرورة والعلة والمعلول والوحدة والكثرة والمقتضي والشرط والمانع واعتبارات الماهية والجامعية والمانعية والعرض الذاتي والغريب والعدم الأزلي والسنخية والقوة والفعل والذاتي والعرضي والكلي والجزئي...
وهذه الظاهرة يمكن اعتبارها ظاهرةً طبيعية ومترقبة تبعاً لمنح الفكر الفلسفي والمنطقي الأرسطيين المرجعية الفكرية في تاريخ الفكر الإسلامي، وهذا معناه أنه لا يصحّ الفصل ـ إذا اُريد للتغيير أن يكون ثابتاً وعميقاً ـ ما لم تجر عمليات تعديلٍ أو توسيع للمرجعية المنطقية والعقلية لتشمل أنظمةً فلسفيةً ومنطقيةً اُخرى، وعند ذلك يتم تبدّل اللغة والخطاب بصورة تلقائية، وإلاّ فإنّ تبديل اللغة الأصولية سوف يكون أقل ثباتاً.
ووفقاً لذلك، يمكننا قراءة تجربة الشهيد الصدر في مجال إصلاح اللغة الأصولية وإنتاج سبك جديد تقريباً تميزت به كتاباته، فهو قد استبق مرحلة تعديل اللغة بتعديل البنى المنطقية والعقلية عنده الأمر الذي مكّنه من إجراء تعديل مستقر وراسخ، و هو ما سنشير إليه لاحقاً.
وعلى أية حال، فأبرز ما تميزت به اللغة الأصولية للشهيد الصدر اُمور هي:
1ـ الشفافية والوضوح
فقد عمد السيد الصدر إلى تبيين الأفكار بلغة علمية ومبسطة نسبياً، كما امتازت لغته بالشفافية، إذ يشرح الفكرة فاصلاً بين أعمدتها ومصادراتها من جهة وبين بناها الفوقية من جهة اُخرى، كما يعمد كثيراً إلى إبراز الفوارق والمشتركات بين النظريات المختلفة ليبدّد بالتالي أي مساحة فارغة في التصوّر، وهذه الميزة ـ الوضوح والشفافية ـ تظهر جلياً في كتابيه «دروس في علم الأصول» و«المعالم الجديدة للأصول»، أمّا تقريرات درسه العالي فقد اختلفت بين تقريرٍ وآخر مع أنّها اتسمت بشيء من الإحكام الذي قد يفرض على المُراجع الكثير من الجهد أحياناً لتحصيل الفكرة.
غير أنّه لا بد هنا من ملاحظة اُمور:
أولاً: إجراء مقارنتين:
إحداهما: بين ما دوّن من أبحاثه حال حياته وما دوّن بعد ذلك، فإنه يلاحظ أن ما دوّن حال حياته كان أيسر عبارةً وأبسط لغةً وأكثر شفافيةً وأبعد تعقيداً من بعض ما دوّن بعد استشهاده كما هو الملاحظ في أبحاثه في التعارض([6])، وهذا يدلّل ـ من جهةٍ ـ على قناعته في أن يكون التدوين الأصولي لفكره ذا لغةٍ أكثر يسراً من اللغة التي جرى استخدامها في كفاية الآخوند ومقالات العراقي ودراية الإصفهاني، كما أنّه من جهة اُخرى يؤكد على الفارق بين الكتابة ونمط التقريرات الجارية في الحوزات العلمية والذي وإن حافظ على المعنى غير أن سبك الأفكار ونظمها قد يقع فيه شيء من المد والجزر مهما كان المقرّر دقيقاً في الضبط، والشهيد وإن لم يكتب بنفسه أبحاث التعارض كلّها إلاّ أنّه تابعها عن قربٍ شديد.
وثانيتهما: بين التقريرات نفسها والفروقات الموجودة بينها من حيث السبك واللغة، وهو أمرّ يؤكد على ما تقدم آنفا أيضاً.
ثانياً: إن الشهيد الصدر يصرّح([7]) بإيمانه بمشروع التغيير التدريجي في اللغة الأصولية وهو مشروع يبدو منه أنّه يؤمن به في حالات كثيرة اُخرى، فهو يؤكد أن اللغة التي استخدمها لم تكن لتعبّر عن القناعة الكاملة التي كان يحملها للغة الأصول الأنموذجية، وإنّما سعى للتقدم خطوة واحدةً دون القفز وحرق المراحل بغية القيام بخطوات لاحقة على طريق لغةٍ أصولية أكثر حداثةً نظراً لموقفٍ حوزوي عام ومتحفظ إزاء التعديل اللغوي عامة.
ثالثاً: إن تقييم لغة الصدر الأصولية لابد أن يجري على أساس مقارنتها أيضاً بالواقع المحيط لا بصورة مجردة فحسب، ومن الواضح أن اللغة التي استعملها كانت أكثر وضوحاً وأجلى بياناً مما كان عليه الحال في الدراسات الاُخرى، مع الاعتقاد بأن تلك الدراسات كانت متفاوتةً في درجة الغموض والتعقيد، ففيما تقف نتاجات الآخوند والعراقي والإصفهاني والحكيم و... في طرف اللغة المعقّدة والمبهمة والمغلقة كانت جملة من عطاءات الميرزا النائيني أقل تعقيداً، أما السيد الخوئي فربما كان أكثر وضوحاً في بيانه من السيد الصدر نفسه.
2 ـ حداثة المصطلح والتعبير
يلاحظ في نتاجات الشهيد الصدر الأصولية استخدامه لمجموعة من المفردات التي لم يكن يجري تداولها في علم الأصول من قبل أو كان تداولها نادراً ومفرّقاً ومحدوداً، والعثور على كمية كبيرة من هذه المفردات والمصطلحات والصياغات والتعابير يؤكّد مقولة أنه كان يحمل لغةً أصولية جديدة، كما تميزت هذه اللغة بأنها واكبت العديد من التعابير والمصطلحات التي كان يجري توظيفها في العلوم المعاصرة.
وكنماذج على ذلك ـ مع الفارق في الدلالة بين المصطلح ومجرد التعبير ـ يمكن ذكر مفردات: الموضوعية والذاتية، العنصر الكمي والكيفي، تراكم الاحتمالات، التداعي، وسائل الإثبات الوجداني والتعبدي، العنصر المشترك والخاص، عملية وعمليات، الاستنتاج، التولّد والتوالد، حق الطاعة، الروح القرآنية العامة، ضآلة الاحتمال، المرحلة والمرتبة الأسبق، التعارض المستقر وغير المستقر، التزاحم الحفظي، التعريف المدرسي، المسلك والاتجاه، المصادرات (بالمعنى الحديث للكلمة)، المبررات، الظروف، نموذج ونماذج، اليقين الذاتي والموضوعي، التكييف، التخريج الفني والصناعي، الموضوعات المركبة، التفاعل، التقلّص، سرعة حصول اليقين وبطأه، الظهور الذاتي والموضوعي، الصياغة، أصالة الثبات في اللغة، ظاهرة وظواهر، المعادلات، انسجام وتناغم، القرن الأكيد، مدرسة، الباحث، الهدف الفني، الارتكاز والمرتكزات، رقم اليقين، قانون وقوانين، الضابط العام أو الموضوعي، المحاولة والمحاولات، نظرية، فرضية، النتيجة المستحصلة، الموقف العملي، طبيعة التشريعات، الحق الذاتي، الشواهد التاريخية، الوظيفة العملية، الفكر البشري، الاستقراء، الطبع العقلائي، تحليل، المضعّف الكمّي والكيفي، دائرة ودوائر، مرجعية (بالمعنى الحديث لا الفقهي)، المعالجة والمعالجات... و غيرها مما قد يصعب إحصاؤه هنا.
إن هذا الكم الكبير من المصطلحات والصياغات النافذة في أصول الصدر والتي لم تستخدم في الماضي ـ إمّا اطلاقاً أو غالباً على مستوى هذا العلم ـ يشكّل أكبر دليلٍ على كون الشهيد الصدر يمثل مظهر الإبداع والتجديد في علم الأصول؛ لأن ظهور لغة جديدة أمر مستتبَع وإفراز لتغييرات كبيرة في العقل والفكر في مرحلة متقدمة كما تؤكده الدراسات الحديثة، حتى لو كانت هناك مصطلحات تم استيرادها من علوم اُخرى كالفلسفة الحديثة أو الرياضيات؛ لأن مجرد القدرة على توظيف مصطلحٍ تولّد في علم ما داخل إطار علم آخر ومن ثمّ تبيئته هو بحد ذاته إنجاز كبير وعمل شاق إذا تكلّل بالنجاح ودون مضاعفات سلبية، وهو قفزة ملحوظة بواسطة قوانين التفاعل العلمي بين العلوم.
3 ـ النظم والترتيب
تميزت اللغة الأصولية للشهيد الصدر بنمط عرضٍ خاص وبنظم وترتيب مميزين، فهو ـ والكلام هنا بقطع النظر عن التقسيم العام للأصول ـ عندما يعرُض لمسألة من المسائل يذكر أولاً الاتجاهات فيها بعد أن يشرح مصب البحث، فيفصّل في كل اتجاهٍ اتجاه بشكل مستقل، وإذا كانت هناك نقطة غموض فيه يقوم هو بتبيينها وطرح المزيد من التعميق لهذا الاتجاه ومحاولات عديدة لإصلاحه وترميمه، وهذا ما يمثل قمة الموضوعية والأمانة، وإذا لاحظ أنّه قابلٌ لافتراض إشكالٍ له يطرحه على شكل صياغات متعددة ويبين كل صيغةٍ على حدة، ثمّ و بشكلٍ مفصّل يذكر الوجوه المدرجة أو التي يمكن أن تدرج لاثبات هذا الاتجاه، ثمّ يسجّل المناقشات مفروزةً عن بعضها البعض وغير متداخلة، حتى يصل بعد ذلك إلى مرحلة عرض تصوّره الخاص. وهذا النظم والترتيب الذهني والصياغي غالباً ما لا نجده في الأبحاث الأصولية؛ فبعضهم يذكر موقفه ثمّ يقول: «ومنه يظهر» و بشكلٍ موجز، وعلى القارئ نفسه أن يعرف كيف ظهر ما تأخر مما تقدم وتبدأ التحليلات، أو يقول في نهاية البحث: «بقي شيء أو اُمور» ويذكر ما من شأنه أحياناً كثيرة أن يكون مندمجاً داخل تركيبة البحث نفسه، أو يعرض مجموعة مقدماتٍ ـ كصاحب الكفاية ـ وقد يصلح بعضها للاندراج ضمن البحث نفسه، وقد يصلح أن يكون مقدّمةً ما هو مدرج داخل البحث، أو يستأنف مطالب غير معنونة وبعضها استطرادي تحت «ثمّ انّه...» ويبرر استطراده بأدنى مناسبة، أو يعرض موقف الخصم دون اهتمامٍ به أو بشن حملة عنيفة عليه، أو...
وهذه المشكلات جميعا قد تفاداها الشهيد الصدر ـ بشكل كامل أو شبه كامل ـ ضمن طريقته في تقسيم المسألة إلى مجموعة فصول وعناوين، ومن ثمّ بيان الاتجاهات والصياغات والوجوه والتقريبات لتلك الوجوه والمناقشات والأجوبة والفروع التطبيقية على تقديره...، كل ذلك بشكلٍ متسلسل ومفروز ومحدّد ومعنون أيضاً.
4 ـ الجمع بين اللغة العلمية والبيانية
في علمٍ كعلم الأصول ـ عاش ردحا طويلاً من عمره متغذياً على لغة معقدة حتى صارت هذه اللغة بحكم القرن الأكيد كالجزء الذي لا يتجزأ من كينونة هذا العلم ـ في علمٍ كهذا تصبح محاولات الفصل بينه وبين لغته مسببةً لجملةٍ من المشكلات والفجوات، والتي أبرزها ما حصل فعلاً من بعض المحاولات التي سعت إلى إصلاح اللغة الأصولية ومن السطح، والتي تورّطت في التبسيط الذي وصل إلى حد افتقاده خصائص العرض العلمي المطلوب، من الاستيعاب والدقة والنظم والتخصصيّة، بعيداً عن اللغة الأدبية والخطابية وأمثالها من اللغات التي تسطّح النتاج الأصولي، ومن هنا تبرز الحاجة إلى التوفيق وإجراء المصالحة بين اللغة العلمية الدقيقة واللغة البيانية الواضحة والشفافة، فلا تتعدى إحداهما على الاُخرى فيحلّ الغموض والإقفال أو الضبابية ولغة الخطابة والسجالات اليومية.
وهنا تظهر القوة في لغة الصدر الأصولية التي نجحت في تخطّي مسافة مهمّة في الإيضاح والبيان دون أن تفتقد علميتها الفائقة والقادرة على الاستيعاب والدقة، كما لا يخفى على من راجعها وسار في ثناياها.
5 ـ اللغة العلمية، التعليمية، التعريفية
امتازت العطاءات الأصولية للشهيد الصدر بعنصر التنوع المنهجي الناتج عن تعدد المخاطب الذي كان يلحظه الشهيد دائماً، ويمكن تقسيم نتاجاته على هذا الأساس إلى أقسام ثلاثة:
1ـ النتاجات التي اتسمت بطابع اللغة العلمية التخصصية، كما هي الحال في دراساته العليا، وطبيعة هذه الكتابات ككتابه «غاية الفكر» أو النتاجات المدوّنة كتقريرات درسه، تتطلب اختزال المقدمات الأوّلية للبحث وتتجاوز توضيح المصطلحات واعتبارها مفروغاً عنها غالباً، لأن المفترض في المراجع لها بلوغه درجة عالية نسبياً من البحث والتحقيق والدراسة، الأمر الذي يجعل من بسط المقدمات والمصطلحات أمرا لَغويّاً نسبياً، وباعثاً على تدني مستوى البحث والتحقيق، ومن هنا نجد أن هذا النوع من نتاجات الشهيد الصدر قد امتاز بالعمق والسبك المحكم للعبارة والعرض غير الاجتراري من دون أن يؤدي به ذلك إلى الإغلاق والتعقيد على ما تقدم.
2ـ النتاجات التي اتخذت طابع الكتابة واللغة التعليمية المناهجية، أي تلك التي لاحظت في المخاطب خصوصية التدرج والتراتبية، وهي لغة نجدها واضحة في كتابه «دروس في علم الأصول»، وقد قل أو ندر وجود لغةٍ من هذا القبيل في الوسط الحوزوي الأصولي آنذاك، سوى ما قدّمه الشيخ محمّد رضا المظفر في «أصول الفقه» و عطاءاتٍ جزئيةٍ اُخرى إلاّ أن أهم ما تميزت به الحلقات من عناصر تفوّق أمران نوجزهما:
الأول: إن مثل «أصول الفقه» إنما جاء ليسد خلأً في مساحةٍ دراسية محدّدة، كالخلأ الذي كان موجوداً بين «المعالم» و كتابي «الرسائل» و «الكفاية»، وبالتالي فهو يمثّل مجرّد جسرٍ يختلف في طبيعته عن كلتا ناحيتيه، فلم يكن ليحلّ المشكلة من جذورها، فيما كانت «الحلقات» تعبيراً آخر عن مشروع شامل يقف بديلاً عن المعالم والفصول والقوانين والرسائل والكفاية معاً.
فمشكلة الطالب ـ كما يقول السيد الشهيد نفسه ـ أنّه بعد دراسة أصول الشيخ المظفر يضطر للرجوع خطوةً إلى الوراء ليقرأ افكاراً أسبق تاريخياً تعود لمرحلة الأنصاري والخراساني([8]).
الثاني: وهو من أهم خصائص «الحلقات»، ولعله ناجم عن الشمولية في مشروع السيد هنا، ألا وهو التدرج في العرض، سواء من ناحية اللغة التي تتمايز في الحلقة الثانية عن الأولى أو فيهما مع الثالثة، أو في الثالثة نفسها بقسميها الأوّل والثاني، أو من حيث ترتيب الأفكار من ناحية السعي قدر الإمكان لعرض الفكرة الأقل تعقيدا في مرحلة متقدمة على الفكرة الأكثر تعقيداً، أو بيان الفكرة التي تتحول داخل فكرة اُخرى إلى مصطلحٍ أو معطى مفروغ عنه بصورةٍ مسبقة، وهكذا خصوصية التوازن الكمي والكيفي على مستوى مرحلة واحدة فلا تفصّل في واحدةٍ وتوجز في الاُخرى سوى في التمايز الذي تتطلبه حساسية الموضوع، ومن هنا ركّزت الحلقات على المباحث الكبروية في الأصل والأمارة.
ولا نريد أن نطيل في مميزات «الحلقات» إلاّ أننا نريد أن نشير إلى عدم الموافقة على المقولة القاضية بأن هذا الكتاب كان منقوصاً لاسيما في مباحث الألفاظ، فإن هذه المقولة لم تلاحظ طبيعة تقسيم السيد الشهيد للأبحاث وفرزه الدليل العقلي عن المباحث اللفظية من جهة، وإدراجه كثيراً من مباحث العام والخاص والمطلق والمقيد والمفاهيم و.. في بحث التعارض من جهةٍ اُخرى، أما تغييب السيد الصدر لأبحاث من قبيل المشتق والصحيح والأعم والحقيقة الشرعية عن كتابه أو الاشارة الإجمالية لمباحث من قبيل دليل الانسداد، فلا أظن أنّه من سهو القلم كما ذهب إليه بعض المعاصرين([9])، وإنّما هو أمر متعمّد. ـ باحتمالٍ قويٍّ ـ وإن لم يبرره الشهيد نفسه في مقدّمته المطوّلة على الكتاب وربما لندرة الفائدة أو لموقفٍ ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وليس الهدف هو استيعاب ميزات أو نقائص هذا المنهاج الدراسي الذي وضعه الشهيد، إذ هذا يحتاج إلى إفراد بحث مستقل حول الكتب الدراسية الأصولية ليس هنا محلّه.
3ـ النتاجات التي اتخذت لغة التعريف بعلم الأصول، وهي لغة مهمة جداً لعلنا نفتقد في تلك المرحلة مثيلاً لها، وقد عبّر عنها الشهيد بكتابه «المعالم الجديدة للأصول» الذي صرّح في مقدّمته أنه أدخل في حسابه حين تأليفه حتّى الهواة الذين يريدون الاطلاع على هذا العلم([10]) دون أن ينخرطوا في السلك الحوزوي.
وأغلب الظن أن هذه قفزة مهمة من السيد الشهيد لكسر الطوق عن علم الأصول في نطاق آلية التفكير الحوزوية عند الشيعة الإمامية، وبالتالي ـ لاسيما إذا صح ما نسب إليه ـ إشراك الشرائح المثقفة الاُخرى في الإسهام في تنمية هذا العلم، خاصّة تلك التي تلتقي تخصّصاتها مع البحث الأصولي كعلوم اللغة وفلسفتها وبعض فروع علم الفلسفة والمعرفة، وهو أمرٌ يؤمّن الطريق للأصول الشيعي للدخول إلى الجامعات والمراكز البحثية على غرار علم الأصول والشريعة السنيين، ودخول علم الأصول الشيعي إلى الجامعات له أثره الكبير في التعريف بهذا العلم وكسر احتكار الأصول فيها لصالح مدرسة معينة، كما يثري من نتاج هذا العلم نفسه على المدى البعيد.
وهذه الخطوة من السيد الشهيد ـ إذا جرى رفدها بخطوات اُخرى ـ يمكنها أيضاً أن تُحدث تقارباً بين الأصولين الشيعي والسني؛ لأن لغة الأصول الشيعي هي لغة مجهولة تماماً في الوسط السني([11])، وهو ما يشكل حاجزاً دون التفاعل المطلوب بين الأصولين والذي من شأنه في المحصلة النهائية ترشيد علم الأصول كله على مستوى الدائرة الإسلامية.
المشكلة الميدانية للغة الصدر الأصولية
غير أن هناك مشكلةً ميدانيةً عاشتها عطاءات السيد الشهيد في الوسط الحوزوي، وهي أنه قد عمل ضمن نظام المراحل ـ كما تقدم ـ على تحديث اللغة الأصولية، وهذا التحديث انطلق من طبيعة التحديثات التي طالت اللغة العربية في القرن الأخير، وبالتالي فإن هذا التحديث الأصولي سوف يجعل علم الأصول في غربة داخل الوسط الحوزوي نتيجة عدم تعاطي أغلب الشرائح الحوزوية اللغة العربية الحديثة، ودراسات اللغة العربية في الحوزات هي في الغالب دراسات نظرية وليست عملية، فالحوزوي غير العربي لا يصل في نهاية المطاف غالباً إلّا إلى القدرة على فهم المتون الدينية القديمة أو ذات اللغة الخاصة دون أن يتجاوز ذلك إلى مرحلة فهم المتون الأخرى في العلوم الأخرى أو حتى المكالمة والحوار الميداني، وأغلب الظن أن غربة النتاج الأصولي للشهيد في الوسط الحوزوي غير العربي تعود إلى هذه النقطة بالدرجة الأولى، فلغته صعبة من هذه الناحية.
وهذه الملاحظة صائبة، وهي إن دلّت فإنما تدل على مشكلاتٍ في نظام التعليم اللغوي نفسه كما كان يراه الشهيد نفسه أو في عدم ترجمة متن الحلقات مبكّراً إلى اللغات الأخرى بما يمكنه أن يعكس نفس الدور الذي يلعبه هذا الكتاب.
المحور الثاني: تقسيم علم الأصول
يمتلك العلم كينونته حينما يتحوّل من مجموعة مسائل متباعدة متفرقة إلى مجموعة مباحث منتظمة ومرتبة، ويحتل ترتيب وطرز الفرز للموضوعات والأبحاث مكانةً هامةً في دفع عجلة تنامي هذا العلم أو العكس، فُرب نسقٍ تبويبيٍ معينٍ يؤثر في شلّ حركته كلياً أو جزئياً، وربّ تقسيم معين لمسائله يبعده عن غرضه أو العكس أو يحدث فيه إعاقةً ما تحوّله إلى علمٍ قلق غير منتظم الخطى، وبالتالي فتحديد أن هذا البحث أو ذاك أين يجب وضعه هو أمر ضروري منهجياً.
ومن هنا يأتي دور المنهجة وتنويع الأبحاث الأصولية في طليعة اهتمامات الساعين إلى إجراء تغييرات بنيوية فيه تدفعه إلى مزيد من الإنتاج والإثمار.
1 ـ التقسيم المعروف لعلم الأصول
قسّم علم الأصول مدرسياً تقسيماً رباعياً مشهوراً هو:
1 ـ ما يرتبط بما يوصل إلى الحكم الشرعي بعلم وجداني كالعقليات.
2 ـ ما يوصل إليه بعلم تعبدي جعلي، وهذا على قسمين:
أ ـ البحث الصغروي، وهو يشمل مباحث الألفاظ وما يتعلق بها.
ب ـ البحث الكبروي، وهو يشمل مباحث الحجج والأمارات.
3 ـ ما يرتبط بالوظيفة العملية الشرعية، ويشتمل مباحث الأصول الشرعية.
4ـ ما يرتبط بالوظيفة العقلية، ويشمل الأصول العقلية كقاعدة قبح العقاب([12]).
وأمام هذا التنويع للمباحث الأصولية عمد الشهيد إلى محاولة إحداث ثغرات معينة فيه من خلال إثارته التساؤل التالي: ماذا يراد من وراء هذا التقسيم لعلم الأصول؟ هل نهدف إلى مجرد عملية تجميعية للمسائل في أربع دوائر كبيرة أو أكثر، أو أن وراء تقسيمنا هذا فرضية ومصادرة ما تجعل من هذا التقسيم قائماً على أساس منهجٍ محدد يفرض رباعيته تارةً، كما يتطلب ترتيباً معيناً للمسائل من حيث التقديم والتأخير اُخرى؟ ووفقاً لذلك سجل الشهيد انتقاداته الخاصّة على هذا التقسيم([13]).
وهذه النقطة من السيد الشهيد في غاية الأهمية والدلالة؛ لأن إجراء تعديلاتٍ في جسم علمٍ من العلوم رهين لتغيّرات بنيوية في هذا العلم، إما طرأت عليه من داخله نتيجة النمو التصاعدي الكبير أو من خارجه نتيجة ظهور علومٍ اُخرى تعهدت بصورةٍ أكثر تخصصية بمعالجة بعض ما كان يعالجه هذا العلم، أو ضمور علومٍ اُخرى سبب انسحابها من الميدان المعرفي ـ لسبب أو لآخر ـ التزام العلوم المتبقية بمعالجة ترِكتها، ولا يطرؤ على علمٍ من العلوم تعديل في التقسيم والتبويب إلاّ إذا لاحظ العلماء خصوصيات معينة في هذا العلم لم تلاحظ بنفس الدرجة من قبل.
وهكذا الحال في علم الأصول، فإن تشييد البهبهاني ومن لحقه لنظريات كبرى في مسألة الأصل العملي وتحليله والعلاقة بينه وبين الأمارة، أدى في خاتمة المطاف إلى ظهور فرزٍ جديدٍ لهذا العلم على يد الشيخ الأنصاري انسجاماً مع ما صارت تستدعيه طبيعة ومستوى الموضوعات.. وهكذا، وهنا يلاحظ في اُطروحة الشهيد اشتمالها على ميزاتٍ فنية تستجيب لهذا الواقع الموجود في علم الأصول كما سنلاحظ إن شاء الله تعالى.
2 ـ التقسيم المقترح
وفي إطار وضعه للصيغة الأنسب قدّم الشهيد الصدر اقتراحين اثنين لكلٍّ منهما ميزاته([14])، إلاّ أنه لاحظ وجود ثغرتين في كلا التقسيمين المقترحين، انسجاماً مع نتائجه الأصولية الخاصة، فهو من جهةٍ يرى أن مباحث القطع ليست مباحث أصولية؛ لأن المسائل الأصولية نفسها تعتمد هي الاُخرى على حجية القطع فلا يمكن ان تكون منها طبيعةً، ولهذا صنّف حجية القطع كأحد الأصول الموضوعية لهذا العلم، ولأجل ذلك استبعدها عنه جاعلاً إياها ضمن مقدمةٍ أو مدخلٍ لعلم الأصول.
وعلى خط آخر لاحظ أن حركة الأصول ـ بحسب ما رسم له في تعريفه ـ تتجه ناحية استنباط الحكم الشرعي، وهذا يعني أن الحكم الشرعي مفروض كهدفٍ ووُجهةٍ لهذا العلم، وبالتالي ليس داخلاً ضمن مسائله، وهذا معناه أنه من الضروري إدراج مباحث الحكم الشرعي وتعريفه وتقسيمه وحقيقته وأحكامه في المقدمة نفسها، بدل أن تبقى هذه التصورات مبعثرة في ثنايا علم الأصول، لاسيما في مباحث الاستصحاب.
وعلى أية حال فقد ذكر صيغتين هما باختصار:
الصيغة الاُولى: يقسم علم الأصول إلى قسمين:
الأول: الأدلة، وتدرس على الشكل التالي:
1ـ الأدلة الشرعية، وتقرأ فيها مباحث:
أ ـ الدلالات.
ب ـ الصدور.
ج ـ الحجية.
2 ـ الادلة العقلية، وتقرأ فيها:
أ ـ القضايا العقلية وتحديدها صغروياً.
ب ـ حجية الدليل العقلي كبحث كبروي.
الثاني: الأصول العملية، وتدرس كما يلي:
1 ـ الأبحاث العامة في الأصل، حقيقته، أقسامه، علاقاته...
2 ـ الأبحاث المتعلقة بالشبهة البدوية كالبراءة والاستصحاب.
3 ـ الأبحاث المتعلقة بالشبهة المقرونة بالعلم كالاشتغال والأقل والأكثر، ثم وفي الخاتمة تعالج مباحث التعارض.
الصيغة الثانية: يقسم الأصول تقسيماً خماسياً كالتالي:
1ـ مباحث الألفاظ وما يرتبط بالظهورات اللفظية والسياقية والحالية.
2 ـ مباحث الاستلزام العقلي سواء المستقلات وغير المستقلات.
3 ـ مباحث الدليل الاستقرائي من إجماع وشهرة وتواتر وسيرة، وتُقدم لها مقدمةٌ حول الاستقراء وخصائصه.
4 ـ مباحث الحجج، وتعالج فيها الأمارات والأصول مع مقدّمةٍ حول حقيقتهما وأحكامهما وعلاقاتهما.
5 ـ مباحث الأصول العقلية العملية.
ثم خاتمة في التعارض.
حول الصياغتين المقترحتين في تقسيم السيد الصدر
أـ تمتاز الصيغة الاُولى بمراعاة طبيعة حركة الفقيه ميدانياً، فهو يتعامل أولاً مع الدليل وثانياً مع الأصل عند عدم الدليل، وهذا الامتياز هو أساس هذا التقسيم عند الشهيد، أما الصيغة الثانية فهي تمتاز بفرز كل ما يلتقي في منهج بحثٍ واحد كالألفاظ والعقل والاستقراء، وهو الركن الذي طرح على أساسه هذا التقسيم.
ب ـ تتفق الصياغتان في مقدّمية مباحث القطع والحكم الشرعي، وخاتمية مباحث التعارض.
ج ـ تدمج الصيغة الثانية بين الأمارات والأصول الشرعية، فيما تفصلهما الصيغة الأولى فصلاً واضحاً، والعكس هو الصحيح؛ إذ تدمج الصيغة الأولى بين الدليل العقلي والاستقرائي فيما تميزهما الصيغة الثانية، وهذا التمييز سببه ملاحظة تطورات نظرية الاحتمال في الأصول عند الشهيد الصدر كما سنلاحظ فيما بعد.
د ـ الصيغة الأولى أقرب إلى المنهج القديم في الأصول، وقد اقترب منها السيد الصدر في المعالم والحلقات، وهو ما يكشف بدرجة معينة عن ميله على تربية الطالب وفق الصيغة العملية، أما الصيغة الثانية فهي أقرب إلى المنهج الحديث في الأصول والتي اعتمدها الشهيد في دراساته العليا.
هـ ـ ركزّت الصيغة الأولى على فتح قسمٍ خاص لتعريف الأصل العملي وحقيقته وميزاته وأحكامه تماشياً مع التطورات الأصولية على هذا الخط، فيما جعلته الصيغة الثانية مقدمةً للقسم الرابع الذي تتلاقى فيه الأمارات بالأصول.
إلى غير ذلك من خصائص عامة أوجزئية في هذين الاقتراحين.
وبقطع النظر عما تقدم، فإن ما يكشف عنه وضعُ اقتراحين للتقسيم هو أن الشهيد الصدر إما أنه لم يحسم موقفه من الموضوع نتيجة الميزات الهامة لكل تقسيم مما لا مجال للجمع بينها في تقسيم واحد بنظره، أو أنه حسم الموقف لصالح تقسيم دون آخر، لكنه كان يتحين الفرصة للتطبيق الميداني الشامل له، والكاتب يرجح ـ تخميناً ـ أن يكون ميل الشهيد أكثر نحو الصيغة الاُولى، انسجاماً مع نظرية المراحل عنده، لأنه من المستبعد أن يتبنى الشهيد صيغةً تعود إلى حدٍّ معينٍ لمرحلة ما قبل الأنصاري لصالح المراحل الدراسية الاُولى، ثم يقفز بالطالب إلى نمطٍ مختلف لهذا العلم في مرحلة التحقيق والبحث الخارج، لاسيما وأن الصيغة الاُولى هي الأبعد عن الواقع العلمي في زمانه، وهذا يعني أنه طبّق الاقتراح الأكثر ميلاً له في المراحل الدراسية الاُولى كخطوةٍ أولية مقدورة نسبياً، ولعله كان يأمل في أن يجري تطبيقها لاحقاً وتدريجياً في مراحل أعلى، وإلاّ فتعدد الصيغ بين السطوح والخارج عند الشهيد إذا كان صيغة نهائية لديه سوف يشكّل بنفسه مشكلة منهجية وفنية.
المحور الثالث: علم التاريخ الأصولي
دراسة تاريخ العلوم واحدة من فروع العلم الهامّة والتي جرى التركيز عليها بشكل ملفت في القرون الأخيرة، وقد تولّد عن الاهتمام بدراسة التاريخ العلمي نزعة خاصة بنت لنفسها أركاناً فلسفية، وصارت تقرأ الأفكار والنظريات قراءة تاريخية، وهي قراءة تختلف من حيث طبيعتها وبنيتها وقواعدها ومصادراتها عن القراءة المعروفة للأفكار.
وتؤثر قراءة التاريخ العلمي في فهم الباحث لنظريات وأفكار هذا العلم، كما تحدد سير تطور هذه النظريات ومراحله، وبالتالي المؤثرات الفكرية التي ولّدت هذا التوجّه أو ذاك، وهي مع ذلك كلّه قادرة على شرح العلاقات والارتباطات القائمة بين الأفكار المختلفة داخل هذا العلم من ناحية، والعلاقات والتفاعلات الموجودة بين هذا العلم نفسه وبقية العلوم الاُخرى من ناحية ثانية.
ومن اللافت للنظر أن علم الأصول الشيعي قبل الصدر ندر أو لعلّه انعدم وجود محاولة جادّةٍ لقراءته تاريخياً بعيداً عن مجرد نسبة هذا القول إلى فلان وذاك إلى آخر، واستشراف مراحل نموّه إلى ما وصل إليه فعلاً، بالرغم من أن هذا الجانب من المطالعة لهذا العلم هو جانب مهم جدّاً، لاسيما فيما يتعلق بالدراسات المقارنة والمقارِبة سواءٌ بين الاتجاهات والمدارس الأصولية الشيعية كالأنصاري والبهبهاني أم شخصياتٍ من قبيل العراقي والخوئي والطوسي والإصفهاني والقمي و... أو حتى بين الأصولية والإخبارية، أو بين الأصول الشيعي والسنّي، لاسيما بعد عصر الانفراد والانفصال، وهو ما يمكنه أن يولّد لنا علم الأصول المقارن أو أصول الخلاف على غرار الفقه المقارن.
ولا تختص الدراسة التاريخية بتلك التي تستوعب حركة العلم كلّه، بل تشمل حتى قراءة تاريخ نظرية معينة كنظرية الانسداد أو حجية خبر الثقة او الاقتضاء والعلية في العلم الإجمالي أو الحكومة والورود... كما تشمل دراسته تاريخياً تفاعلاته مع العلوم الأخرى، لاسيما الفلسفة واللغة والكلام، وهو ما أُطلقت كلماتٌ كثيرة فيه تفتقر ـ حتى لو أصابت ـ إلى دراسات وأرقام مفصّلة.
وبالعودة إلى الشهيد الصدر فإنه يمكن اعتباره أحد مؤسّسي علم التاريخ الأصولي إلى حد كبير في النطاق الشيعي، فقد درس في «المعالم الجديدة» علم الأصول بمجمله دراسة تاريخية، كما قرأ في أبحاثه الأخرى مجموعة مطالب حساسة في هذا العلم من هذه الناحية أيضاً، كدراسته لظاهرة التعارض وأسبابها التاريخية([15])، أو لفكرة الأصل العملي، أو قبح العقاب بلا بيان([16])، أو لتطور فكرة الاجتهاد والتي عالجها في المعالم([17]) والدروس([18]).
وقد تلى الصدر مجموعة من الباحثين ـ بعضهم من أبناء مدرسته ـ قاموا بجملة دراساتٍ لتاريخ علم الأصول من عدة جوانب، ومع ذلك فما يزال هذا الجانب ضعيفاً نسبياً في الوسط العلمي.
ونأخذ هنا ـ باختصار ـ نماذج ثلاثة فقط تشرح بعض إنجازات الصدر على هذا الصعيد، وهي:
النموذج الأوّل: وهو الدراسة التاريخية المستوعبة لعلم الأصول، والتي عرضها الشهيد في «المعالم»([19])، ولا مجال لملاحقة هذه الدراسة مفصلاً هنا، إلّا أننا نوجزها ـ باختصار شديد ـ حيث اشتملت على الخطوات التالية:
أ ـ تحديد مولد علم الأصول حيث لاحظ الصدر انفصال الأصول عن الفقه تدريجياً بعد بروز العناصر المشتركة امام الفقهاء، وتميّزها عن جملة المسائل الفقهية المتحركة، وتعود بذور الأصول عنده إلى عصر الأئمة^.
ب ـ دخول علم الأصول عصر التأليف زمن الشيخ المفيد والسيد المرتضى و...
ج ـ حدوث القفزة الكبرى على يد الشيخ الطوسي على صعيد الإنتاج الكمي والكيفي، وجمود الأصول نسبياً عقيب وفاته.
د ـ كسر هذا الجمود على يد ابن إدريس الحلي بعد مضي قرنٍ من الزمن.
هـ ـ ظهور الحركة الإخبارية والاتجاهات المعارضة للعقل.
و ـ انتصار المدرسة الأصولية بعد ذلك على يد الوحيد البهبهاني، والذي ما تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم.
ميزات قراءة الشهيد الصدر التاريخية
وقد امتازت هذه الدراسة بجملة عناصر أهمها:
1ـ رجوع الشهيد الصدر إلى المصادر الرجالية الناصّة على مؤلفات أصحاب الأئمة^ ليتكشّف منها طبيعة التأليفات المتداولة في تلك الفترة، ليؤكد من خلالها على وجود علم الأصول ـ كبذور ـ آنذاك، وهذه طريقة مهمة لتكشف طبيعة الظروف والاهتمامات والإشكاليات المثارة في حقبة زمنية معينة.
2 ـ تجاوز مرحلة الأدلة التاريخية على ظهور علم الأصول إلى الأدلة التحليلية التي تفلسف هذا التكوّن، حيث يؤكد الصدر على العامل التاريخي في احداث تداعيات تفضي بصورة تلقائية إلى ظهور هذا العلم، فالبعد عن عصر النص وتجدد الوقائع، وصعوبة الحصول على أجوبة مباشرة للتطورات الحاصلة أدت إلى ولادة هذا العلم، فهو إذاً ضرورة تاريخية، والضرورة التاريخية هذه لها جملة مستلزمات أشار إلى بعضها الشهيد نفسه في مطاوي بحثه. وبصورةٍ عامة يلاحظ في دراسته التاريخية التركيز على الجانب التحليلي للتاريخ زائداً على الوثائق التاريخية نفسها، وهي ميزة جديدة لفتح الباب أمام تاريخٍ أصوليٍّ مدروس وليس فقط موثّقٍ، أي لتاريخ تحليلي توصيفي معاً.
3 ـ قراءة الجمود الأصولي بعد الشيخ الطوسي قراءة نفسية ـ اجتماعية من جهة، وظرفية خارجية من جهة اُخرى، إذ قرأ الشهيد طبيعة شخصية الشيخ الطوسي، ومدى حضورها في الأوساط العلمية ليرجّح أن القداسة التي تمتعت بها هذه الشخصية تركت آثاراً نفسيةً على الجيل العلمي التالي، ممّا أدى إلى جمودٍ نسبيّ بعد وفاتها.
وعلى خط آخر، هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف قبل حوالي اثني عشرة سنة من وفاته، وتأكيد المراجعة للوثائق التاريخية على عدم التحاق تلاميذه به، يدل على أن ذلك أدى إلى ضعف حوزة بغداد لافتقادها شخصية الطوسي، في حين كانت حوزة النجف ما تزال إلى وفاته في دور الطفولة، الأمر الذي استدعى عيوباً لفترة الانتقال هذه تمثّلت وتجسّدت في الضمور النسبي لهذا العلم (وغيره). وهذا النوع من القراءة للتفاعلات المحيطة في التأثير على علمٍ ما، والخروج من تحليل هذا العلم تحليلاً داخلياً فقط وكأنه ليس كياناً نامياً في محيط، هذا النوع مهم جداً، ولعله لا سابق له على مستوى الدراسات الدينية في هذا العلم في الوسط الحوزوي.
4ـ الدخول في مقارناتٍ تاريخية لتفسير عدم تشابه بعض الظواهر المتقاربة، وهو ما طبّقه الشهيد في موارد أبرزها:
أ ـ فيما يتعلق بولادة الأصول الشيعي والسني، حيث ألقى الشهيد بعنصر الضرورة التاريخية لتولد الأصول، على كل من الأصولين الشيعي والسني واستطاع أن يفسر السبب الطبيعي لتأخر ظهور الأصول الشيعي عن السنّي، والذي اعتبره انقطاع عصر النص مبكّراً بالنسبة لأهل السنة، ولهذا لمّا وصلوا إلى النصف الثاني من القرن الثاني الهجري اختمرت عندهم الدوافع الطبيعية لولادة هذا العلم، فيما كان الشيعة الإمامية في تلك الفترة لا يزالون يعيشون عصر النص الذي يُقصي الضرورة التاريخية المتقدمة.
ب ـ فيما يتعلق بالسبب الذي أوقف عمليّة الجمود عند الشيعة بعد قرنٍ من وفاة الشيخ الطوسي، فيما لم يرتفع هذا الجمود عن الأصول السنّي لقرونٍ عديدة، وقد أرجعه الصدر إلى سببين([20]) هما:
الأوّل: إن جمود الأصول السنّي جاء عقيب وصوله إلى مرحلة الشيخوخة فيما كان جمود الأصول الشيعي نتيجة مخاضات الانطلاق، وهو ما يمكنه أن يفسّر الفارق بينهما.
الثاني: وهو سبب يكشف عن عمقٍ لدى السيد الشهيد، إذ ربط في عمليةٍ تحليليةٍ بين المثقف والفقيه السني وبين السلطة، واعتبر أن خوار الدولة الإسلامية أدى إلى جمود المسار الفكري نظراً لنمط علاقةٍ خاصة وخاطئة بين الفقيه والسلطة، وهو ما لم يحصل في الأصول الشيعي نظراً للموقف الكلامي الحذر من موضوعة السلطة في الفكر الشيعي عموماً.
5 ـ التأكيد على العامل السيكولوجي في ظهور الحركة الإخبارية بما لا مجال لتفصيله هنا، وهو التفاتٌ هام بضمّه إلى إدخاله هذا العامل في تفسيراتٍ اُخرى يدلّل على أن الشهيد الصدر يؤمن بتأثيرات العوامل النفسية والاجتماعية في ظهور الأفكار، وأن النظريات ليست دائماً وليدة مقدّمات علمية محضة، من دون أن يعني ذلك سلب الثقة بتلك النظريات، وهذه معادلة أساسية في علم المعرفة وفلسفتها المعاصرين.
6ـ تقديم تصوّرٍ مقاطعيٍ لعلم الأصول يقسّمه إلى مراحل ثلاث وفق إطلالةٍ شاملةٍ:
المرحلة الاُولى: العصر التمهيدي الذي يبدأ من زمن ابن عقيل وابن الجنيد وحتى الشيخ الطوسي.
المرحلة الثانية: عصر العلم، وهو عصر الاختمار، ويبدأ من الشيخ الطوسي وحتى الوحيد البهبهاني&.
المرحلة الثالثة: عصر الكمال العلمي الذي بدء بانتصار المدرسة الأصولية على يد الوحيد وما يزال حتى يومنا هذا.
وقد برّر الشهيد جعل الشيخ انطلاقةً لعصر جديد بالعطاء الكمي والكيفي له في كتابه «العدة في أصول الفقه»، كما أن السبب في جعل الوحيد منطلق العصر الأخير هو تشييده أكبر نظريات علم الأصول في الأصل العملي وحقيقته ووضع الحدود الفاصلة بينه وبين الأمارات.
وفتحاً للباب أمام تقسيماتٍ جزئيةٍ أضيق دائرةً لم يُلغ الشهيد امكانية إجراء تقسيماتٍ اُخرى لكلّ عصرٍ من العصور الثلاثة، حيث قسم الأخير إلى ثلاثة أجيال بدءاً بتلامذة الوحيد ككاشف الغطاء وبحر العلوم والسيد الطباطبائي، مروراً بتلاميذهم كشريف العلماء والمولى النراقي، وصولاً للشيخ الأنصاري.
النموذج الثاني: دراسته لتاريخ فكرة الأصل العملي، حيث لاحظ أن الأصول السني قد أكثَ من التركيز على مباحث الأدلة المحرزة وأنواعها فيما لم يكن الحال كذلك عند الشيعة، إلاّ أن فكرة الأصل في الأصول الشيعي لم تكن بذلك الوضوح عند المتقدمين، إذ أُدرجت البراءة في دليل العقل زمن ابن إدريس وابن زهرة، كما أُدرج دليل الاستصحاب نفسه في العقل بعد ذلك، واُلحقت البراءة بالاستصحاب، كما يلاحظ لدى المحقّق الحلي والشهيد الأول استخدامهما نسقاً برهانياً لإثبات البراءة كعدم الدليل دليل العدم، وفي خضم هذا التشويش تبرز نصوص عند السيد جمال الدين شارح الوافية تبدأ برسم حدودٍ بين الأصل والأمارة، ويستمر الحال إلى زمن الوحيد والشيخ محمد تقي صاحب الحاشية حيث نجحا في إجراء ترسيمٍ هام لهذين المصطلحين أدى إلى تبدل صياغة علم الأصول عموماً على يد الشيخ الأنصاري، وخرجت الأصول العملية من دليل العقل لتتواجه والأمارات كلها فيما بعد([21]). وقد وظّف الشهيد الصدر هذه الدراسة التاريخية وكذلك دراسته الأخرى للبراءة العقلية([22])، في دعم ما شيّده من مسلك حق الطاعة؛ إذ بتحليله التاريخي هذا نجح ـ من وجهة نظره على الأقلّ ـ في سلب القداسة العقلائية عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان حينما أكد أن الفهم الأصولي للبراءة لم يكن متطابقاً في بنيته ومفاد القاعدة كما تؤكّد المطالعة التاريخية، وإنما كانت البراءة تعبيراً آخر عن دليلٍ عقلي مستقل على الحكم الشرعي لا قانوناً يفترض فقدان هذا الدليل، وهذا توظيف مهم للتاريخ الأصولي في تدعيم وجهات نظر أصولية داخلية، ربما لو وسعنا من نطاق استخدامه لتكشفت أمامنا حقائق جديدة.
النموذج الثالث: دراسته للمكوّنات التاريخية، العلمية، النفسية لتبلور فكرة السيرة في علم الأصول([23])، فقد لاحظ أن الفقهاء باصطدامهم أحياناً بأدلةٍ قد تؤدي بهم إلى الالتزام بنتائج مستغربة يتمسكون بما يسمّونه بالمسلّمات أو لزوم تأسيس فقه جديد وغير ذلك من العبارات، وفي الحقيقة فإن هذه الأدلة التي يستبعدون بها إفتاءاتٍ معينةٍ ناجمة عن حالة نفسية لدى الفقيه تمنعه من الخروج بنتائج مستهجنة في الوسط الفقهي، وقد تم التنظير أصولياً لتغطية هذه الحالة بمجموعة مباني أصولية كمبنى الشهرة الفتوائية والإجماع لاسيّما المنقول وجبر الخبر الضعيف بعمل الأصحاب أو وهنه صحيحاً بإعراضهم... فقد كان الفقيه محتمياً بمثل هذه المباني لسدّ هذه الثغرة النفسية المقلقة، إلاّ أن مجيء المتأخرين ـ وعلى رأسهم الشيخ الأنصاري ـ قلب المعادلة، إذ أُطيح بجملةٍ هامة من هذه المباني لاسيما الإجماع المنقول، واستمر الوضع إلى أن جاء السيد الخوئي ففنّد نظريتي الانجبار والوهن.
لكن الفقه لم يتأثّر في البداية بهذا التعديل الأصولي، فظهرت مفارقات عدة بين سلوك الفقيه كفقيهٍ وسلوكه كأصولي، فهو ينكر شيئاً في الأصول غير أنه يتعبّده في الفقه وما ذلك إلاّ لحالة التحرّج النفسية هذه، والتي يبررها الشهيد بجملة مبررات، وتصاعد الأمر إلى أن اتجه السيد الخوئي ناحية إلغاء هذه الازدواجية فطبق في الفقه كثيراً مما آمن به في الأصول.
بيد أن انسحاب هذه المباني وتراجعها لم يحُل دون إلقاء الحالة النفسية للفقيه بثقلها وبصورة متواصلة، فخرجت من بين الأنقاض نظرية السيرة التي لاحظ الشهيد ـ وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام ـ أن فقهاء مرحلة ما قبل الأنصاري لم يكونوا ليستعينوا بمفهومٍ كمفهوم السيرة في حين صارت السيرة في الوضعيات الفقهية ما بعد الأنصاري تشغر حيزاً أساسياً من أكثر الأبحاث الفقهية، لاسيما غير العبادات.
والسيد الشهيد في دراسته هذه وإن لم يهدف إلى انتقاد الفقهاء في سلوكهم هذا بل قدم له عدة مبرراتٍ خاصّة على مبانيه المعرفية، غير أنه قرأ الأفكار قراءةً حديثة، ربما لم يكن لها عين ولا أثر بهذه الصورة في الأبحاث الأصولية.
المحور الرابع: توظيفية علم الأصول
بُعيد المزاوجة التي بدأت منذ عصر الوحيد البهبهاني بين الفلسفة والأصول تأثر الأخير بما يمكن تسميته بالهادفية الفلسفية، فعلم الفلسفة الكلاسيكية([24]) علم مستقل ثابت بذاته لا يصّنف كجزءٍ من العلوم الاستطراقية سوى من حيث طبيعة العلاقة بين العلوم التي تجعل من بعضها مستهلكاً لمعطيات البعض الآخر كمبادىء تصديقية وأصول موضوعة ومصادرات قبلية له، ولم تستطع الفلسفة أن تجد تجسيداً عملياً لذاتها في الواقع الإنساني إلاّ من خلال توظيف العلوم الأخرى لنتائجها، ولهذا بقيت من حيث ذاتها علماً نظرياً تجريديّاً لا يرى نفسه مسؤولاً عن حلّ مشكلةٍ في الواقع مباشرةً أو بالواسطة سوى مشكلة كشف أسرار الوجود العام، ولهذا كان موضوع الفلسفة «الموجود بما هو موجود» وغايتها مجرد معرفته كذلك، لا بما هو مؤثر وفاعل ومنتج، وقد أضفت هذه الطبيعة الخاصة على الفلسفة الإسلامية طابعاً انفرادياً وأقصت الفيلسوف في الغالب عن أي مسؤولية ميدانية.
ونظراً لكون العلاقة بين الفلسفة والأصول ـ لاسيّما في بدايات التفاعل ـ أحادية الجانب غالباً لا جدلية تفاعلية، كان من المتوقّع ان تُلقي بثقلها ونمطها وأساليبها وأهدافها على الأصول، وهو ما ترك أثره في تحوّل الجهد الأصولي في بعض الأحيان من جهدٍ عملاني إلى جهدٍ نظري، فصار هَمُّ الأصولي تحقيق الحق في المسألة الفلانية، ولم يعُد مرماه معرفة مدى الآثار الناجمة عن هذه النتيجة، وما هو الذي تهدف له على المستوى الفقهي، وهو أمر ـ له أسبابه الأخرى أيضاً ـ سبّب إعادة إنتاجٍ للأصول من علم خدماتي يُهدف منه تصحيح المسار الفقهي وحل مشاكله فقط إلى علمٍ استقلالي يُطلب منه أحياناً مجرد شحذ الذهن وتنمية المعرفة لغرضها فقط.
وأغلب الظن أن هذا كان واحداً من أسباب ظهور مشكلةٍ أخرى، ألا وهي مشكلة عدم التمايز الطبيعي لهذا العلم عن مجموعة العلوم الأخرى الفلسفية والكلامية والفقهية و...، ولعلّ من ذلك ـ والأمثلة قابلة للبحث ـ دخول مسائل العقل العملي والتحسين والتقبيح والجبر والاختيار وبعض مطالب التجري مما هو من الأبحاث الكلامية الفلسفية، وهكذا قاعدة لا ضرر ولا حرج والميسور لا يسقط بالمعسور وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة عدم التذكية والقرعة ومباحث الاجتهاد والتقليد مما هو فقهي في أغلب جوانبه، وكذلك مسائل الطلب والإرادة والعرض الذاتي والغريب وموضوع العلم واعتبارات الماهية مما هو في أساسه فلسفي منطقي...
ولعل عدم وضع الأصولي الغاية الأصولية المقرّرة نصب عينيه من شأنه أن يتسبب في فتح الباب أمام صنوف المطالب العلمية الأخرى التي قد لا تهمّه من حيث هو أصولي، وإنما تشبع رغبته في التحليل والتعمق، ويمكن أيضاً أن يكون لانحسار حضور العلوم الأخرى لاسيما الفلسفة والكلام كعلوم مستقلة.. في الاوساط العلمية الفقهية في القرون الأربعة الأخيرة دوراً في لجوء الأصولي إلى معالجة بعض المطالب ـ التي تندرج تحتها ـ داخل علم الأصول إذ لا مكان آخر متوفر غيره.
وعلى أية حال، فالسؤال المطروح هو: ماذا فعل الشهيد الصدر إزاء إشكاليتي العملانية والانضباطية في الأصول؟ وماذا كان موقفه؟
توحي نتاجات الشهيد الصدر بأنه لم يقدّم شيئاً في هذا المجال، وهو إيحاء قد يكون مبرراً إلى حد معين، غير أن ملاحظة عدة اُمور قد تدفعنا إلى حمل تصوّرٍ مختلفٍ بعض الشيء:
أ ـ إنه يقرر من الناحية النظرية، أن هناك مطالب تعني الأصولي ومطالب لا تعنيه، ومجرّد إدراج مبحثٍ ما في الأصول لا يبرر إلزام الأصولي بدراسته مالم نتأكد من أصوليته، وهذا ما صرّح به نفسه في مناقشته لتعريف المشهور لعلم الأصول حينما أدرجوا وصف التمهيد فيه، حيث لاحظ أن هذا الوصف متفرّع على أصولية المسألة، أي أنها تكون أصولية، وبالتالي تدوّن وتمهّد، لا أن مجرد تدوينها يفرض علينا اعتبارها أصولية([25])، وهذا الذي ذكره يشكل عماداً أساسياً من الناحية النظرية لأية تغييرات موضوعية مضمونية في علم الأصول.
ب ـ يستوحى من الصيغة الأولى المتقدمة لتقسيم علم الأصول أنه يؤمن بمقاربةٍ ما بين الأصول والفقه، حيث أراد صياغة الأصول صياغةً ميدانيةً تتبع حركة الفقيه في عمله الفقهي، وهذا الأمر قد يعززه قيامه باختيار هذا التقسيم إلى حد كبير في كتبه الدراسية وهو أمر له دلالاته، كما يلاحظ تسليطه الضوء وبشكل مركّز على مسألة التفاعل الفقهي الأصولي في المعالم والدروس([26])، كما أن هناك خطوة ملفتة للنظر قام بها الشهيد يراها الإنسان عند قراءة كتاب الحلقات إذ حُجِبَ عن هذا الكتاب كثيرٌ من المسائل التي قد توحي لدى مطالعتها إمّا بعدم الثمرة العملية أو ندرة الفائدة أو الخلط الموضوعي فيها، وهذه تصادفات مثيرة للتساؤل، فمباحث الحقيقة الشرعية والصحيح والأعم والمشتق ولا ضرر والميسور لا يسقط بالمعسور وأصالة عدم التذكية ومباحث الجبر والاختيار والطلب والإرادة والعرض الذاتي والغريب وتحليلات حقيقة موضوع العلم فضلاً عن مباحث الاجتهاد والتقليد وقاعدة الفراغ والتجاوز والقرعة وغيرها مما تجاهله في البحث الخارج أيضاً.
كما يلاحظ المد والجزر في اهتماماته في هذا الكتاب وحتى في تقريراته، فلاحظ ما بحثه فيه ـ أي الحلقات ـ حول الانسداد كم كان قليلاً([27])، ولاحظ اهتمامه الزائد بمباحث الحجج والأصول واهتمامه الكبير جداً بأبحاث التعارض... وهناك شواهد اخرى ملفتة للنظر كلها تصب في تعزيز احتمال التعمّد من السيد الشهيد للأسباب المتقدمة.
ج ـ التزامه على مستوى أطروحته في تقسيم علم الأصول بما يراه من خروج مباحث القطع والحكم الشرعي عن هذا العلم، وحيث لم يكن هناك مجالٌ منظور لحذفهما كلياً قدّم حلاًّ وسطاً يجعلهما في مدخلٍ أو مقدمة، وهذا يدلّل بدرجةٍ معينة على قناعته بضرورة تجنّب الخلط الموضوعي.
د ـ لا يمكن الاستباق على الشهيد الصدر فيما لو حدّدنا نحن خروج مسألة معينة عن علم الأصول أو عدم فائدتها وإلزامه بنتائجنا، وهذا يعني أنه لابد أن نلاحظ موقفه منها، فمثلاً مباحث المعنى الحرفي والتي يوجد جدل في قيمتها العملية، فصّل فيها السيّد الشهيد، إلاّ أنه وفي خاتمة هذا البحث أشار إلى الخطأ في اعتبارها مطالب بلا فائدة، واستأنف بحثاً مركّزاً في الثمرة العملية لها([28]) وهي على مبناه وتصوراته صحيحة. والإشارة إلى النتائج العملية لأي بحث سمةٌ اصطبغت بها دراساته الأصولية. بل صرّح في مقدّمته على الحلقات بمدى ضرورة العنصر الميداني لأي مسألة أصولية والكشف عنه وتوضيحه([29]) والابتعاد بالتالي عن التجريدية أو عدم إمكان توظيف المسائل الأصولية لعدم المعرفة به.
هـ ـ لقد أشار الصدر إلى نقطةٍ مهمة في مقدّمته على الحلقات([30])، وهي أن فائدة المسألة الأصولية، قد لا تكون متصلةً أحياناً ومباشرة بالفقه نفسه بل إن بعض المباحث تثمر في داخل مباحث أصولية اُخرى لتشكّل فيها معادلةً معينةً أو لتحدد مصطلحاً ما، وهذا أمرٌ يبرر للأصولي إدراج هذه المسألة في الأصول ما دامت غير قابلة للاندراج في علم آخر حتى لو لم تكن ذات نتائج مباشرة في الفقه، ويمكن لنا أن نطلق لذلك على علم الأصول بأنه علم نظري عملي معاً، كما عبر عنه بعض الباحثين([31]).
المحور الخامس: العقل الأصولي
يُعد ـ في نظر الكاتب ـ التعديل المنطقي الذي قام به الشهيد الصدر في نظريته المعرفية الموظفة في علم الأصول أهم وأكبر إنجاز قدمه الشهيد لهذا العلم ـ ولغيره من العلوم أيضاً ـ، ذلك أن الرجوع إلى الوراء وتبديل البنى التحتية المنطقية هو إحداثٌ لتغييراتٍ جادّةٍ وأصيلة في العقل الأصولي، والتصرف في العقل الأصولي ووضعه على طاولة التشريح تحت المجهر النقدي هو عمل خطر وحساس جداً كما أنه فائق الدّقة والصعوبة، إنها عملية تحليلٍ للعقل ومن ثم نقدٌ له وفيما بعد استبداله، وهذه العملية هي من العمليات الفكرية التي يصعب ملاحظة تداعياتها ضمن الفترة الأولى لإنجازها بل تحتاج إلى مدّة كافية لإعادة بلورة الأسس ومن ثم الشروع في توظيفاتٍ جديدةٍ، أي هي في روحها استبدال للوضع القائم نحو وضع جديد.
إن دقّ الاسفين في جذر المنطق الأرسطي الذي تقوم عليه كل العمليات العقلية الأصولية واستبداله بالمنطق الذاتي القائم على نظرية الاحتمال، يمكنه ـ ونحن هنا حياديون نسبياً ـ أن يعيد تشكيل نمط فهمنا وتصورنا للأصوليات كلها أو كثير منها، وإذا كان الصدر قد طبق منطقه هذا في الإجماع والشهرة و... فهذا لا يعني أن هذا المنطق لا يستوعب الإجراء في فروعٍ أصولية اُخرى، إذ غالباً ما لا يدرك اصحاب النظريات والمشاريع الكبرى المدى الذي يمكن أن تصله نظرياتهم ليأتي الآخرون ويحددوا ذلك. والميزة الإبداعية في هذه الخطوة من الشهيد هي في عدم وجود محيطٍ أو تراكماتٍ معرفية مساعدة على تولّد تصورٍ أو طرح من هذا القبيل في الوسط العلمي آنذاك حتى غير الحوزوي على رأي بعض الباحثين([32])، وهو يعني قيام الشهيد بوضع البديل لما لا محاذي له في وسطه العلمي أو لا أقل تطبيقه لهذا البديل في علوم لم تعرف مثل هذا التطبيق من قبل، وهو أمرٌ يدلنا بأمانة على مدى الخلاّقية والثقة التي تمتّع بهما.
المنطق الذاتي للمعرفة ـ نظرية الاحتمال
اعتبر الشهيد الصدر أن المنطق الأرسطي ـ كالمنطق التجريبي ـ لم يتمكّن من تفسير ظاهرة المعرفة البشرية وتقييمها، فقدّم أطروحة بديلة في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» أطلق عليها اسم: المنطق الذاتي للمعرفة، وهو منطق يعتمد نظرية الاحتمال الرياضية، ويرى أن المعرفة البشرية تمر بمرحلتين في سيرورة تكوّنها: الأولى منهما مرحلة التوالد الموضوعي الذي يحصل نتيجة تراكم الاحتمالات المنصبة على مركزٍ واحد مما يؤدي ـ على أثر عملية رياضية ـ إلى ارتفاع درجة الاحتمال إلى حد كبير جداً لتبدء عقب ذلك مرحلة التوالد الذاتي، والتي تقوم على أساس تركيبةٍ خاصة للذهن البشري بحيث يكون معدّاً بنحوٍ لا يحتفظ بالاحتمالات الشديدة الضآلة، الأمر الذي يولد اليقين على أساس هذه القفزة الذاتية للذهن.
وقد فسر الشهيد اليقينيات المنطقية على أساس قانون الاحتمال هذا، وأرجعها إليه، مستبعداً من الميدان افتراضها قبليات عقلية، وخرج عقب كل ذلك بتصورٍ يحكّم هذا المنطق في أكثر مرافق الحياة والمعرفة، ليتنازل في مشروعه هذا عن نظرية الانتزاع التي تبناها في «فلسفتنا»([33]).
إن الشيء الذي يدفعنا إلى اعتبار هذا الطرح الفلسفي المنطقي هو الأهم في مشروع الصدر الأصولي [بل والشامل أيضاً] هو أنه انطلق في عملية تحديث علم الأصول من البنية والجذر لا من الفوق والسطح، وقام بمحاكمة نمط التفكير الأصولي وتحويله من نمطٍ أرسطي إلى نمطٍ استقرائي احتمالي، وبين النمطين فرقٌ شاسع ليس هنا محله. وهذا يعني أنه قام أولاً بإجراء تبديلات في المخزون المنطقي والجهاز المعرفي ثم أتى إلى علم الأصول ليقرأه من منظار النتائج المنطقية الجديدة، وهي طريقةٌ تفسح المجال لقراءة المشكلات والأحداث التي تقف خلف القضايا والمعادلات المقرؤة في الأصول، أي ذاك العصب المتداخل والمتحكّم الذي ارتكزت عليه الآلية الأصولية دون أن تشعر به أحياناً كثيرةً وإنما عايشته فقط.
إن توسعة المخزون المنطقي ليشمل أجهزةً وبنى منطقية متنوعة زائداً على المنطق الأرسطي، وكسر احتكار هذا المنطق لطرائق التفكير ـ حتى لو كان في نفسه حقاً، فهناك فرقٌ بين أن يكون لازماً وأن يكون كافياً ـ هي الطريقة الأكثر ضماناً في تنمية علم الأصول، وهذا ما يؤكّد حاجتنا اليوم إلى التعاطي بنفس الطريقة التي سار عليها الصدر في التغيير، أي تحليل العقل نفسه، حتى لا نلاحق مظاهر المشكلة دون أن نتلمّسها بعينها فنستنزف ذاتنا بذلك.
علم الأصول ومنطق الاحتمال
لقد أجرى الشهيد الصدر تطبيقات عديدة لمنطق الاستقراء هذا في علم الأصول، كما وظّفه في علم الكلام والرجال والحديث والفقه أيضاً، وأهم ما قدّمه الشهيد في الإطار الأصولي هو على الشكل التالي:
قسّم الشهيد الصدر ما أسماه بالدليل الاستقرائي إلى قسمين هما:
القسم الأوّل: الدليل الاستقرائي المباشر، وهو الدليل الذي تعرض له في «المعالم» موجزاً الكلام حوله([34])، وقد بقي ـ مع الأسف ـ مغيباً عن علم الأصول كما هو مغيب عادةً عن علم الفقه، بل هو كمشروع المنطق الذاتي للمعرفة كله الذي يمثل الإنجاز الأكثر تغييباً والأكثر يُتماً عند الشهيد الصدر.
يعتمد هذا الدليل على عملية القيام بتجميعات مركّزة للأحكام [والنصوص] التي تلتقي في محورٍ محدّدٍ، ليتشكل من تجميعها مقدارٌ كبير من القرائن الاحتمالية على المركز الذي تلاقت فيه، مما يدفع بالتالي ـ ونتيجة التوالد الموضوعي والذاتي ـ إلى تحصيل اليقين بمفاد هذا المركز والمصب.
وقد قدم الشهيد الصدر نموذجاً لذلك من كلمات المحدّث البحراني في استدلاله على قاعدة «كل جاهل معذور»، حيث استخرجها من مجموعة الأدلة التي عذرت الجاهل في مواقف متعددة ومتباينة كالحج والنكاح في العدة والحدود وصلاة المسافر ونصوص اُخرى أيضاً([35]).
كما قام الصدر بتطبيق هذا المنهج بنفسه في كتابه «اقتصادنا»([36])، حيث لاحظ وجود موارد متعددة ومتباينة في الفقه تحكم بسببية العمل للملكية، كما في العمل في إحياء الأرض والمعدن وحيازة الماء وصيد الطيور و... فأدى به ذلك إلى استخراج قانون «العمل أساس الملكية في الإسلام».
وأمام هذا الطرح تستوقفنا نقاط أهمها:
الاُولى: تصريح الشهيد عقب طرحه لهذا الدليل بأنه لا علاقة له بالقياس الحنفي المرفوض، لأن القياس الحنفي ينتقل من ظاهرةٍ فقهية إلى ظاهرةٍ اُخرى مشابهةٍ لمجرد التشابه، أما الاستقراء المباشر هنا فهو يشترط وجود ظواهر نصوصية وفقهية عديدة متشابهة في مركز واحد للخروج بقاعدة عامة ضمن شروط محددة، فما يفعله القياس الحنفي إنما هو خطوة ناقصة مما يقوم به الاستقراء المباشر([37]).
وهذه نقطة مهمة، إذ يحاول الشهيد بذلك تخطي إشكالية الظن غير الحجّة ليؤكد يقينية هذا الطريق لو تمت شروطه واكتملت عناصره على طريقة اليقين الاستقرائي لا البرهاني، وهو بهذا الدليل ينظّر لقفزة فقهية يمكنها أن تؤمّن للفقه أمران:
أحدهما: توسيع البنية القواعدية بواسطة تجميعاتٍ عديدة تستوعب الفقه كله أو تختصّ وتتحّدد بدائرةٍ معينة منه كالعبادات، الأمر الذي يوفّر مقداراً أكبر من القواعد الفقهية وينمّي بالتالي تقعيدات الفقه، وهو ما سنرى مدى ضرورته.
ثانيهما: تأمين بناءٍ تحتي لتصوّر مقاصديٍّ للشريعة، إذ قد تصلح هذه الطريقة بديلاً أساسياً في أكثر الأحيان عن الصيغ المعدّة لدى كثير من المقاصديين في نظرية المقاصد، إذ إنها قادرة على إقامة الدليل العلمي على قواعد تمثل الخطوط العريضة أو الحمراء أو الضوابط الكلية أو الأهداف الحاكمة والعامة للشارع والشريعة، فنحن هنا لم نعد نُعمل العقل المجرّد لتأصيل مقصدٍ من مقاصد الشريعة، أو الذوق الشخصي للفقيه، أو إحساساته الساذجة المتلقّاة من خبرته الفقهية، أو التفتيش على نصٍّ عامٍ قد يكون تاماً سنداً وقد لا يكون فضلاً عن مدى القوّة والشمولية في دلالته... وإنما نشرف على مجاميع كبيرة من النصوص لنلاحظ التقاءها في نقطةٍ ـ على مستوى المدلول المطابقي أو التضمني أو الالتزامي ـ نستوحي منها قاعدةً عامةً، وهذه القاعدة هنا غالباً ما تكون ذات طابع جوهري وبنيوي في نظام الشريعة كلاً أو بعضاً، لأنها قد تولدت عنها أو التقت معها أو راعتها مجموعة كبيرة من النصوص والأحكام، وهذا يدلّل على أن هذا المنهج الإستدلالي يتميّز عادةً بنوعية النتائج المنبثقة عنه إلى جانب كميتها.
ومن الطبيعي أن يحتاج هذا المنهج إلى هدوءٍ كبيرٍ وتتبع واسع، لاسيما للقرائن العكسية التي تضعف من قوّة الاحتمال في المركز، وهو منهج محفوفٌ بمخاطر التسرّع كثيراً، لاسيما إذا لم يحسن الفقيه استخدامه ولهذا فهو يحتاج إلى تقعيدٍ ميداني، أي إلى خوض التجربة لملاحظة نقاط اشتراك حاصلة أقرب إلى الواقع الاستدلالي من مجرد الصيغة العامة لهذا المنهج مما من شأنه أن يهدينا إلى مجموعة ضوابط وشروط تفصيلية تحدّ من الخطأ أو التسرّع اللذين قد يتورط فيهما الفقيه هنا. ونحن حينما نتحسّس أهمية هذا الطرح فإنما يكون ذلك بعد الفراغ عن الجدل في أصوله المنطقية والرياضية، وإلاّ فإذا أريد استخدامه ضمن الاُطر المنطقية الاُخرى ـ لاسيما فيما يتعلق بتعريف اليقين ـ فإنه سيؤدي إلى تشوّشات عديدة.
الثانية: لا ينبغي إنكار أن في التراث الفقهي ما يمكن أن يكون تعبيراً ميدانياً عن هذا المنهج، إلاّ أن ذلك لا ينفي أن يكون الصدر هو المنظّر الأساس له، لأن تحديد من هو صاحب النظرية أمرٌ لا يرتبط بمن عايش محتواها دون أن يتعقّلها تعقّلاً علمياً متكاملاً، وإلاّ كانت نظرية انعاكس الصورة من خلال الضوء في العين قديمة جداً قِدَم الإنسان بل الحيوان نفسه، فلربما استوحى الفقهاء أحياناً هذا المنهج في تعاطيهم، إلاّ أنهم لم ينظّروا له، أي لم يعرضوه كنظريةٍ واُطروحة وإنما مارسوه بعفوية، ويشهد لذلك عدم إدراجه حتى زمن الشهيد في علم الأصول، ولو نظّر له لكان من القريب جداً أن يلتقط البحثُ الأصولي هذا التنظير ويستوعبه بالقراءة.
الثالثة: إن هناك ثلاث نظريات للسيد الشهيد يمكن أن نستوحي من تحليلها مجتمعةً أن العقل الأصولي للشهيد هو عقل شمولي استيعابي من جهة، وهو عقل تكثيفي من جهةٍ اُخرى، وهذه النظريات الثلاث هي: نظرية المنهج الاستقرائي المباشر في الاستنباط، ونظرية الروح القرآنية والتشريعية العامة، والثالثة فقه النظرية.
يقوم فقه النظرية([38]) ـ إذا حلّلناه وباختصار ـ على عملية تكوينٍ لصورة كبيرة مقطّعةٍ إلى مقاطع، وبضمّ هذه المقاطع إلى بعضها البعض تتشكل لدينا هذه الصورة واضحةً، ويتكشّف كيانٌ جديد لم نكن نلاحظه من قبل.
إن جمع المسائل والنصوص والأحكام الكثيرة جداً والمتعلقة بالفقه السياسي مثلاً يمكنه أن يقدم لنا صورة متكاملة أو شبه متكاملة عن هذا النظام، بدل مسائل مبعثرة قد لا يُرى فيما بينها أيّ تقارب، ففقه النظريات أو فقه النُّظُم هو مقارباتٌ يُهدف منها إلى تشكيل تصورات كلية وأحكام عامة.
أما الروح القرآنية العامة، فقد قدّم الشهيد تصوّراً خاصاً([39]) حول أخبار الطرح الواردة في باب التعارض، لأنه رفض كل الحلول والصيغ التي قدمها الأصوليون، والتي التقى أغلبها تقريباً بآليةٍ هندسية أرسطية في تفسيره لمعنى المخالفة للكتاب العزيز، حيث أُدخلت النسب المنطقية الأربع كإطارٍ محدد للحل المرتقب، وهو ما رفضه السيد الشهيد مستعيضاً عنه بما أسماه الروح القرآنية العامة، ومعنى ذلك ان الفقيه في قياس المعارضة يُجري مقايسةً روحيةً مفهوميةً لا جسديةً لفظية بين مفهومٍ ما استوحاه من الرواية مثلاً وبين الدم القرآني الجاري في القرآن كله ـ إن صح التعبير ـ فيجد أن طبيعة هذا المفهوم لا تنسجم مع تلك الروح القرآنية فيقوم في ضوء ذلك بطرح الرواية الدالة عليه، وهذه النظرية ـ كما يقول بعض الباحثين([40]) ـ تفترض ـ وبالتالي تتطلب ـ الفقيه محيطاً بالثقافة القرآنية ومتشرباً بها، وهي بهذا قد تضيف قيداً جديداً على متطلبات الاجتهاد نفسه.
ونحن هنا لن نفصّل في شرح هاتين النظريتين، ولا في اُطروحة الشهيد التفسيرية حول التفسير الموضوعي التي تمنحنا مؤشراً هنا، لكن ما يهمنا هو أن هذه النظريات ما هي إلاّ انعكاسات لنمط عقلية أصولية عند الصدر.
وأبرز ما تتميز به هذه العقلية هو:
أولاً: انها تعبر عن عقل شمولي استيعابي من ناحيتين:
الناحية الاُولى: طرز الاستدلال، إذ إن فقه النظرية وغيره يتطلب رؤيةً شمولية للتشريع ومصادره ومفرداته، حيث لم تعُد تبدأ حركة الفقيه من مسألة الطهارة وتعريفها لتمر تدريجياً بالفقه كله وصولاً إلى الديات، وإنما صارت ـ إلى جانب الطريقة الاُولى ـ تبدأ من نقطة مشرفة عليا تفترض الفقه كله حاضراً تحتها وتقرؤه بمجموعه أو أغلبه... فالفقيه يتعثر هنا بمسألةٍ في الصلاة كما يتواجه في نفس الموقف مع اُخرى في الحدود، فهو يريد مثلاً أن يبحث حول نظرية الحيل الشرعية التي لا يمكنه أن يقرأ فقهها داخل إطار باب محدود، بل هو تارةً يصطدم بعيّناتٍ في باب الشك في الصلاة وأخرى بمباحث الربا وثالثة بمباحث الرضاع في كتاب النكاح وهكذا... فهو إذن يحتاج أو يشتمل عمله على عملية استيعابٍ وحضور كاملٍ للفقه أمامه حتى يتمكّن من إنجاز عمله، وهذا العقل المستوعب الشمولي لم يعد يغرق في مفردات الفقه مفردةً مفردة ـ من دون إلغاء دور هذا المسار الفقهي الإستدلالي أيضاً ـ وإنّما يستبدل ذلك بتلك الرؤية الشمولية والمشرفة والمطلّة.
الناحية الثانية: هدف الاستدلال، أي هذا العقل حينما يتحرك فإنه يهدف إلى التوصل لنتائج غير مؤطّرة بحدود ضيقة، فهو يريد أن يتلمّس النتائج العامة التي تستطيع بتطبيقها مماهاة مساحةٍ كبيرة من واقع الحياة الإنسانية، وهذا ما نجده واضحاً في طرحه لفقه النظرية، فلم يعد يريد فقط تحديد حكمٍ شرعي محدد في وظيفة المكلف لدى صيده الطيور والأسماك مثلاً، وإنما يتجاوز ذلك ليضع الخطوط العامة والاستراتيجية التي تستطيع بطبيعتها اشتمال جزءٍ كبير من واقع الحياة أي قانون: العمل أساس الملكية.
وهذا النوع من النتائج يتميز بقدرته على تقديم الأجوبة لمسائل جديدة ليس هناك ما يحاكيها في النصوص نظراً للفوارق الزمنية... وبالتالي يخفّف من وطأة هذه الأسئلة على الفقه الإسلامي.
ثانياً: إنها تدلل على عقل تكثيفي؛ لأن هذه الطريقة من التفكير الأصولي تذيب الجزيئات الفقهية والنصية الصغيرة داخل بوتقة كتلةٍ أكبر حجماً، وهذه الإذابة تمنح العقل قدرةً أكبر على تجاوز المفردة والجزيئة للوصول إلى القانون العام، فنحن عندما نواجه نصاً ما ونريد عرضه على الكتاب العزيز لم نلاحق مفردات الآيات الكريمة لنُعمل مقارنة بينها وبين ذاك النص الروائي، بل واجهنا القرآن كلّه واستخرجنا منه مفهوماً ما عُرض ذاك النص عليه، إذن نحن هنا نذيب مفردات الآيات في مفهومٍ أوسع، لتشكّل كلُّ آيةٍ جزيئاً صغيراً منضماً إلى غيره داخل الكيان الأكبر، وهكذا عندما نستخدم المنهج الاستقرائي المباشر نذيب الكيانات الصغيرة المبعثرة ونصهرها ونعدم الفواصل الفارغة فيما بينها، لنحصل بالتالي على كتلة أشدّ تكثفاً وأقل تباعداً فيما بين أجزائها.
وهكذا نلاحظ أن ذاك العقل الأصولي الذي حمله الصدر وعبّر عنه من خلال هذه النظريات الثلاث هو عقل شمولي لا يستنزف ذاته في المفردات، وتكثيفي يتجاوز التباعدات إلى نقاط الالتقاء. وهذا ما يرشدنا إلى مدى النزعة العقلانية التي تمتع بها.
القسم الثاني: الدليل الاستقرائي غير المباشر، وهو الدليل الذي لا يواجه النصوص والاحكام مباشرةً ويقوم باستقرائها، وإنما يواجه ظواهر يحصل من خلال استقرائها اكتشافٌ لحكمٍ شرعي معين. وأبرز مصاديق هذا الدليل عند الشهيد الصدر هو الخبر المتواتر، الإجماع، الشهرة، السيرة بقسميها.
ويعتمد هذا الدليل ـ كما يوضحه الشهيد في أبحاثه الموسّعة حوله([41]) ـ على ملاحقة قرائن احتمالية كفتوى الفقيه في الإجماع والشهرة، وخبر راوٍ ما في التواتر، وسلوك متشرّعٍ في السيرة المتشرعية، وبازدياد هذه القرائن المتفقة يقوى احتمال وجود حكمٍ معين في موارد الإجماع والشهرة استدعاهما، كما يقوى صدور الرواية التي ينقلها الراوي الأول، وهكذا يتقوّى الأساس الشرعي لسلوك هذا المتشرّع، وبازدياد القرائن كثيراً ضمن شروط محدّدة يحصل للفقيه قطعٌ بمضمون المجمع عليه والمشهور والخبر المتواتر وبشرعية سلوك المتشرعة وصدوره عن المشرّع نفسه.
وبهذا الطريق انعكس الأمر، فلم نعد نحتاج إلى كبريات قبلية كما فعله الأصوليون هنا، بل انطلقنا من نفس المفردات التي بأيدينا لنصل إلى النتيجة المطلوبة، وبذلك قدم السيد الشهيد تفسيراً ـ هو الأول من نوعه تقريباً في تاريخ علم الأصول ـ لهذه الظواهر الأربع الهامة في الإثبات، وأعاد صياغتها ضمن آلياتٍ منطقيةٍ جديدةٍ.
وحيث لا مجال للتفصيل كثيراً في هذا الدليل لسعته حتى عند السيد نفسه وكذلك دارسيه، غير أنه تمكن الإشارة إلى خصائص فيه أو فيما يستدعيه أبرزها:
الميزة الاُولى: إن ربط يقينية الخبر المتواتر بهذه الآلية المنطقية يفتح الباب أمام عناصر جديدة تدخل في عملية تقييم النص أشار لبعضها الشهيد نفسه أهمها:
1ـ تجاوز العامل الكمي الموجود في عدد المخبرين إلى العامل الكيفي، أي أن المسألة ليست مسألة رقم معين أو غير معين للرواة الناقلين بحيث إن هذا العنصر يحسم الموقف لوحده لصالح يقينية الخبر كما هو المتداول غالباً، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى العامل الكيفي، فشخصية الراوي وطبيعة توجهاته العقائدية والسياسية ومقارنتها مع مضمون الخبر، وكذلك شخصيته العلمية ومدى ضبطه للنص ومضامينه، اتفاق الناقلين على توجّهٍ ثقافي واحد([42])... كل ذلك يؤدي بنا إلى عدم الجمود على مجرد عنصر الوثاقة في الراوي أم عدده اللذين قد لا يشعر الفقيه بغيرهما مؤثراً في قياس درجة الاحتمال لهذا الخبر متواتراً كان أم غير متواتر، فاشتمال أخبار عدم حجية ظواهر القرآن الكريم كلها على رواةٍ أصحاب نزعاتٍ باطنيةٍ وغياب كبار الأصحاب عن سلسلة الأسانيد أدّى بالسيد الشهيد إلى تجاهل كل تلك الروايات ووضع علامة استفهام حولها([43])، كما يشير إلى نقطة صغروية هامة في بحثه حول حجية خبر الثقة وهي: أن وجود مصلحة للراوي في الرواية يزيل الاطمينان بها أو يضعّف من قوّة الاحتمال، ويمثل لذلك بما إذا كان الراوي نخاساً أو صرافاً وينقل لنا حكماً في مهنته يدرّ عليه نفعاً... إن هذا النقل يجعل من القيمة الاحتمالية ضعيفة([44])، وهذا الباب الذي أثاره الشهيد هو باب واسع في عالم تقييم الأسانيد، فنحن لو جمعنا مثلاً كل نصوص الغلاة أو الواقفية أو الباطنية... فقد نلاحظ ميزات في رواية رجالات كل فرقةٍ مما يدفعنا للتوقف حينما لا نجد هذه الميزات متوفرةً لدى الفرق الاُخرى، وهذا يعني فتح الباب على مصراعيه لإعادة قراءةٍ للمتون الحديثية تتخطى الحديث نفسه إلى الإطار العام الذي يحكمه ومجموعة أحاديث أخرى على غرار ما فعله بعض العلماء في دراسته لشخصية الراوية أبي هريرة([45]).
2 ـ تجاوز الراوي إلى الرواية نفسها كما طرحه السيد الشهيد([46])، أي أن طبيعة المضمون قد تسرّع أو تخفّف من اليقين بالرواية التي نقلته فغرابة الرواية، اختلاف لسانها عن اللسان المتعارف لدى المعصومين^، صدورها في فترة زمنية معينة... كل هذه مؤثرات تدخل في تقييم الخبر، وهذا ما صار يعرف الآن بنقد السند من خلال نقد المتن.
3 ـ تجاوز الراوي والرواية إلى نفس السامع والفقيه([47])، وهذا عنصر هام يلتقي فيه السيد الشهيد مع أحدث نظريات علم المعرفة، فهو يقرء المطالع للنص نفسه ويحلله ويرشّده ثم يتحوّل إلى النص، فقد اعتبر الصدر أن الحالة العاطفية للسامع نفسه تلعب دوراً في تحديد مقياس الاحتمال، كما أنها قد تكون حجاباً عن الاطمئنان بالرواية المتواترة، وهكذا مسألة المعتقدات القبلية التي يحملها الفقيه لحظة وروده النص، فإن لها تأثيراً في درجة تفاعله العلمي مع هذا النص، وهذا يستدعي إصلاح القارىء نفسه قدر الإمكان حتى يتجنب الذاتية إلى الموضوعية.
وهذه الميزة من السيد الشهيد في قراءته للخبر وإن ذكر كثيراً منها جملةٌ من علماء الحديث([48])، إلاّ أن مجموعها بهذا الشكل لم يكن مطروحاً عندهم.
الميزة الثانية: إن هذا النوع من تحليل السيرة المتشرعية، يميز بين نوعين منها، وهو تمييز هام يترك أثره في الحد من تبني اتجاهات ذات طابع سلفي، إذ وفق تحليله لا يجب أن تكون كل سيرة جرى عليها المتشرعة دينيةً، لأن منطلقات وأسباب نشوء العادات والمسارات الاجتماعية وحتى العقلية ليست دائماً دينيةً، أي ناتجةً عن موقفٍ مسبق من المشرّع نفسه، ولهذا لا يمكن التسرّع ونسبة ظاهرةٍ موجودة في مجتمع المتدينين ـ حتى المتقدمين ـ إلى الدين نفسه بل لابد ـ وفق طبيعة طرح الشهيد لهذه السيرة([49]) ـ من تحصيل اليقين باستبعاد كافة المناشىء المحتملة الاُخرى في تشكّل هذه الظاهرة الاجتماعية، وهو أمر يحتاج أحياناً إلى خبرةٍ بدراسات علم النفس وعلم الاجتماع بالدرجة الاُولى، حتّى لا يتمّ تلقي الأمور تلقياً أولياً غير معمّق، فقد كشفت دراسات هذين العلمين عن أسباب كثيرة جداً لتكوّن الظواهر والعادات والتقاليد والسنن الاجتماعية وهو ما لابد من استبعاده لتأكيد المرجعية الدينية لسيرة المتشرعة في مجالٍ معين.
ومن هنا قلنا بأن إشارة السيد الشهيد إلى مسألة نفي الاحتمالات الأخرى في علمية السيرة المتشرعية تحول دون ظهور نزعة تقليدية ظاهرية سلفية بالمعنى السلبي للكلمة، وتحرّك فينا دوافع التمييز بين الظواهر التي عاشوها مستمدّين إياها من الشريعة نفسها وبين الظواهر التي عاشوها وأفرزتها طبائعهم وظروفهم الزمانية الخاصة التي حكمت نمط عيشهم.
إن أساس هذا التمييز وهذا الترسيم هو من الأهمية بمكان، وواحدةٌ من أعقد المشكلات المعاصرة ذات الجدل بين التيارات السلفية وغير السلفية عند المسلمين هي هذه المشكلة بالذات.
الميزة الثالثة: إن السيد الشهيد يشير إلى نكتةٍ في تمييزه بين التواتر والإجماع يؤكّد فيها على أن أحد الرواة في التواتر لا يقع تحت تأثير راوٍ آخر، وهذا بخلاف الإجماع فإنه من الممكن جداً أن يكون قول أحد المجمعين متأثراً بقول مجتهدٍ آخر، وهذا يؤدي إلى البطء في حصول اليقين في الإجماع؛ لضعف القيمة الإحتمالية لكل فقيهٍ في الدلالة على الحكم المجمع عليه نتيجة هذه الخصوصية([50]).
إن هذه الفكرة من شأنها أن تعيد رسم قيمة الإجماع بصورة علمية، لأنها تؤكد على أن هناك عاملاً تكرارياً يدفع بكل فقيه بدرجة معينة إلى الاندراج في صفّ المجمعين، ألا وهو الرؤية الفقهية للفقهاء أنفسهم، وهذا يعني أنه لا يجوز الغفلة عن التأثير الفقهي في فتوى الفقيه نفسه، ونتيجة ذلك أنه لابد من التفتيش داخل المسار الفقهي عن مولّدات هذه الفتوى، فمن الممكن أن يكون لنظر الشيخ الطوسي دورٌ في استقرار حكم شرعي لدى الفقهاء لفترة طويلة من دون أن يعني ذلك أن مخالفة هذا الحكم تشكّل مخالفةً لاتفاقٍ كاشف، بل هي في الحقيقة مخالفة لفتوى فقيه واحد أما التابعون له فإن درجة كاشفيتهم ضعيفة.
ومن هنا يظهر أن عامل الكم في المجمعين يمكن أن يجري اختزاله من عشرين شخصاً إلى شخصين فقط، تماماً كما نختزل نصاً تاريخياً نقله ألف مؤرخ عن مؤرخ واحدٍ عاصر الحدث، وهو الوحيد الذي نقله، فإن عدد ألف وواحد سوف يجري اختزاله إلى واحدٍ فقط، وهذه الفكرة يمكنها أن تصوّب وترشّد التوظيفات التي يجري فيها استخدام الإجماعات والشهرات وأمثالها على غرار تصويب فكرة مدركيّة الإجماع للاستدلال بالإجماع نفسه، لأنّها ـ فكرة الاختزال ـ تحكي عن مدركية مختفية ونفسية قد لا نلاحظها نحن لدى استعراضنا أدلة المسألة المبحوث عنها فقهياً.
خاتمة
تجاوُز العظماء دون الاستزادة الكافية من نتاجاتهم، والثبات في مراحلهم، مشكلتان تعيقان حركة الفكر ونموه السليم، فإذا كان لابد من دراسة مفكّرٍ كالشهيد الصدر ـ وهو ما لابد منه ـ، وإذا كان هناك تقصير في قراءته لاسيما من الناحيتين الأصولية والفقهية، أو تقصير في تعميم فكره أكثر على هذا الصعيد، فإن التمترس داخل الاُطر التي صنعها هذا الرجل الكبير هو خروج عن فكره نفسه، لأن الذي فعله الشهيد الصدر على هذا المستوى الذي نتكلم عنه لا يمكننا أن نفعله إذا تمركزنا في دائرة تفسيره وتحليله وتطبيقه فقط ما لم يعمل الفقهاء والمنظرّون الكفوؤن على المزيد من التعميق والتوسيع والإضافة والتقديم لهذا الفكر، وإلاّ رجعنا إلى نفس النمط الذي جاء الشهيد الصدر ليحل مشاكله ويتجاوزه نحو أفقٍ أرحب.
وإذا كان الشهيد الصدر قد خطى خطوات وخطوات فإنه نفسه يصرح بأنه اتبع نظام المراحل ولم يحقِّق كافة ما كان يرتئيه، وهذا يعني أن على سالكي طريقه أن يسعوا ضمن الظروف الملائمة لاستكمال ما لم يتمكن الصدر من استكماله، وإذا كانت محاور العمل التي عمل عليها الشهيد الصدر هي فيما عرضته هذه الصفحات ـ وما لم تعرضه أكثر ـ فإن محاور كثيرة طرأت واستجدت ينبغي متابعتها وسدّ الفراغات المتعلقة بها، كما أن نفس المحاور التي عالجها الصدر نفسه هي الأخرى صارت تتطلب مزيداً من الجهد والمتابعة لا سيما على خط اللغة الأصولية وعلم التاريخ الأصولي والأصول المقارن ومقاصد الشريعة وفلسفة الفقه وتاريخية النص و... واذا كان الصدر قد خَبُر الفلسفة والثقافة الغربية والماركسية في زمانه ووظّف خبرته هذه في خدمة علم الأصول دون أن يكون مقلّداً لهذين الاتجاهين، وقدّم نظرياتٍ أساسية كالقرن الأكيد والمنهج الاستقرائي و... تصب في هذا الإطار، فإن المتابعين لخط الصدر الأصولي تنتظرهم مسؤوليات كثيرة على هذا الصعيد فدراسات علم اللغة والهرمنوطيقيا والألسنية يمكنها اليوم أن تثري حركة الأصول كله، ودراسات علم المعرفة المعاصر بما يشمل المعرفة الاولية والمعرفة الثانوية يمكنها هي الأخرى أن ترفد العقل الأصولي بالكثير من المعطيات و... من دون أن يعني ذلك تلقي هذه الدراسات مسلّماتٍ غير قابلة للجدل ويقينياتٍ تشابه يقينية المعادلات الرياضية الأوليّة كما يتصوره البعض.
هذا، وإذا كانت هذه الصفحات تشير هنا إلى هذه الضرورات فليس ذلك سوى عرض لما تنبه له تيار كبير من تلامذة هذه المدرسة لا توجيهاً له أو وصايةً عليه.
_______________
([1]) نشر هذا المقال في العدد العشرين من مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام، عام 2001م، ثم نشر في الجزء الثاني من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، وذلك عام 2011م.
([2]) مجلة المنهاج العدد 17: 151، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 11و 12: 115، مقال للدكتور حسن حنفي.
([3]) ذهب إلى اعتبار الشهيد الصدر بداية عصر أصولي جديد السيد كاظم الحائري في مباحث الأصول 1: 57 و 59، وانظر «المعالم العامة لمدرسة الشهيد الصدر الأصولية» للشيخ محسن الأراكي: 12، وانظر أيضاً مجلة قضايا إسلامية العدد 3: 213و 241، للسيد كمال الحيدري.
([4]) الشيخ محسن الأراكي، مصدر سابق: 40.
([5]) من الكتب المتتبعة في هذا المجال كتاب « الاُسس العقلية » للباحث المعاصر أستاذنا السيّد عمار أبو رغيف.
([6]) السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول ج7.
([7]) دروس في علم الأصول الحلقة الاُولى: 26؛ بحوث في شرح العروة الوثقى 1: 1ـ 2.
([8]) دروس في علم الأصول، مصدر سابق: 19.
([9]) الشيخ باقر الإيرواني، الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني 1: 209، وكلامه مختصّ بالمشتق والحقيقة الشرعية والصحيح والأعم.
([10]) المعالم الجديدة للأصول، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمّد باقر الصدر 3: 7، ط ـ دار التعارف للمطبوعات.
([11]) حسن حنفي، مجلة المنهاج، العدد 17: 153، ومقال حنفي هذا شاهد على مدى عجز حتى كبار المتخصصين السنة عن فهم المصطلحات والتراكيب الأصولية عند الشيعة.
([12]) بحوث في علم الأصول 1: 55. «تمهيد في مباحث الدليل اللفظي»، الشيخ حسن عبدالساتر 1: 115ـ 116.
([13]) بحوث في علم الأصول، مصدر سابق: 56، 57.
([14]) يراجع حول تقسيمه كلّ من: بحوث في علم الأصول 1: 55ـ 62، تمهيد في مباحث الدليل اللفظي 1: 115ـ 125، مع بعض الاختلافات بين التقريرين، وقد اعتمدنا أكثر على الأوّل منهما.
([15]) بحوث في علم الأصول 7: 28ـ 41.
([16]) المصدر السابق 5: 25ـ 26، المباحث 3: 64ـ 71.
([17]) المصدر السابق: 28ـ 35.
([18]) المصدر السابق: 249ـ 255.
([19]) المصدر السابق: 52ـ 94.
([20]) مع فتحه المجال لأسباب اُخرى.
([21]) البحوث 5: 9 ـ 11، مباحث الأصول 3: 19ـ 23.
([22]) المصدر السابق: 25ـ 26، مباحث الأصول، 3: 64ـ 71.
([23]) مباحث الأصول، 2: 93ـ 97و 131ـ 134.
([24]) حينما نتحدث هنا عن علاقة الأصول بالفلسفة، فالمقصود الفلسفة الإسلامية.
([25]) دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 7 ـ 8، البحوث 1: 20وتمهيد في مباحث الدليل اللفظي 1: 21.
([26]) المعالم، مصدر سابق: 24، الدروس 2: 43ـ 52.
([27]) دروس في علم الأصول 2: 249ـ 252.
([28]) البحوث 1: 346ـ 355.
([29]) دروس في علم الأصول: 1، المقدّمة: 15.
([30]) المصدر السابق: 14ـ 15.
([31]) حسن حنفي، مصدر سابق: 151.
([32]) زكي ميلاد، مجلة الكلمة، العدد 27ص 19.
([33]) محمد باقر الصدر، فلسفتنا: 61ـ 62.
([34]) المعالم: 170ـ 171، وأشار له في أبحاثه حول التواتر المعنوي بإشارات غير تأسيسية، راجع البحوث 5: 337.
([35]) الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 1: 77ـ 81.
([36]) اقتصادنا: 533ـ 537.
([37]) المعالم: 171ـ 172.
([38]) راجع من كلمات الشهيد هنا كتاب اقتصادنا: 395 ومابعدها.
([39]) راجع البحوث 7: 333ـ 335.
([40]) مجلة قضايا إسلامية، مصدر سابق: 244.
([41]) دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 166ـ 184، والبحوث 4: 233ـ 248و 305ـ 338، والمباحث 2: 93ـ 131و 281ـ 331.
([42]) الحلقة الثانية، مصدر سابق: 168.
([43]) مباحث الأصول 2: 229ـ 230، دروس في علم الأصول: 2 الحلقة الثانية: 219.
([44]) البحوث 5: 423.
([45]) راجع ما كتبه السيد عبدالحسين شرف الدين ومحمود أبو رية حوله.
([46]) دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية 2: 169ـ 170.
([47]) البحوث 5: 332ـ 334.
([48]) الشهيد الثاني، الدراية: 13 ـ 14، ط ـ مطبعة النعمان، النجف.
([49]) دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 176.
([50]) البحوث 5: 310ـ 311، المباحث 2: 297ـ 298.