hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الاجتهاد وجدل الأصالة والمعاصرة ـ قراءة في التجربة الفقهية للشهيد مرتضى مطهّري

تاريخ الاعداد: 3/27/2003 تاريخ النشر: 5/11/2014
118130
التحميل

حيدر حب الله([1])


المقدّمة

قد يكون من غير المألوف أن يكتب الإنسان عن النتاج أو المنهج الفقهي عند عالمٍ امتاز بالدرجة الأولى بدراساته الفلسفية والكلاميّة الكلاسيكية والمعاصرة، ولم يُعرَف عنه بروزه على الصعيدين الفقهي والأصولي. لكن ومن جهةٍ ثانية، قد يكون لهذه الوضعية ميزةٌ أخرى، وهي تتبع هذا النتاج الفقهي الأصولي المحاط بسلسلة محكمة من العقليات والفلسفات الحديثة، لمعرفة هل ثمة جديد أملاه هذا المحيط العقلي الجديد أم لا؟

وهذا هو بالضبط، ما نواجهه مع مفكّر كبير كالشهيد الشيخ مرتضى مطهري (1979م)، فقد عُرِف المطهري بنشاطاته العقلية الفلسفية والكلامية القديمة والحديثة، وحتى عندما دخل المجال التاريخي (السيرة) والحقوقي، غالباً ما حكمته نزعة فلسفية؛ أي أنه ـ وكما سنلاحظ ـ كان يقرأ دائماً البعد الفلسفي سواء على صعيد فلسفة التاريخ أم فلسفة وتحليل الوقائع التاريخية، كما في قراءته للسيرة الحسينية، أو للمجتمع والتاريخ، أم على صعيد فلسفة الأحكام كما في دراسته المشهورة حول نظام حقوق المرأة في الإسلام وهكذا...

لكن الشهيد مطهري على قراءته الفلسفية للتشريعات الدينية دخل في قراءات استنتاج فقهي واستنباط علمي للأحكام، وقد برزت على هذا الصعيد قراءته الفقهية لمسألة الحجاب في الإسلام وستر الوجه والكفين، كما برزت دراسته حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الجهاد، والربا والفائدة البنكية، وعقد التأمين و...كما أطلّت دراسات أخرى على بُعدٍ منهجي للفقه وأصوله، كدراسته حول الاجتهاد، وحول شخصية كلٍّ من السيد حسين البروجردي والشيخ محمد بن الحسن الطوسي مضافاً إلى دراسات أخرى متفرّقة([2]).

ويلاحظ الدّارس للشهيد مطهّري، أنه ندر إن لم نقل انعدم ـ في حدود التتبّع ـ وجود دراسات تحقيقية، تعالج البُعد الفقهي والأصولي عنده، وبصورة تجمع ما له صلة بهذا البُعد، وتسلّط الضوء عليه، مع الاعتراف بأنّ بعض الجوانب التي تقع على تماس والبعد الفقهي الاجتهادي، جرى قراءتها على صعيد البعد الاجتماعي، أو السياسي أو الثوري أو الفكري عنده، الأمر الذي يلاحظ عليه استبعاده ـ مع كامل التقدير له ـ كوصلةٍ فقهية.

وبعبارة أخرى، ومع أن المطهري ـ كما سنلاحظ ـ لم تبدُ عنده آليات فقهية جديدة داخل عمق عملية الاستنباط، لكن الأُفق العقلاني الذي استحضره في العلوم الفقهية كان كافياً لكي تدرس شخصيته من هذه الزاوية أيضاً، وتُستدعى بعض المعطيات التي جرت قراءتها في زاوية أخرى إلى الدائرة الفقهية بغية تثويرها فعلاً وتأثيراً في هذه الدائرة الأمر الذي يخدم بالدرجة الأولى، الفقه نفسه. ومن هنا، ستكون هذه الإطلالة عبر هذه الصفحات، بمثابة بداية أوّلية جداً، لاستحضار جهود منهجية تتصل بالفقه خدمة للفقه نفسه.

وهذه الجهود تندرج في السياق العام الحاكم على الخطاب الفكري والديني للمطهري وهو ـ كما يراه بعض الباحثين([3]) ـ سياق النزعة الدفاعية، مع الإقرار بتجاوزه لهذه النزعة أحياناً فيما يتجلّى في تجديداته وتطويراته الفكرية والثقافية.

ومن جهتنا، سنسعى لتلمّس أبرز الخطوط التي تبدو بوصفها معالم لمنهج التعاطي الذي سلكه الشهيد مطهري في علمي الفقه وأصوله، وذلك ضمن نقاط محددة وموجزة، أبرزها:

 

1 ـ القراءة التاريخية للاجتهاد الفقهي

لم تعهد الدراسات الفقهية والأصولية كثيراً ظاهرة القراءة التاريخية، فقد غلب أن تتبع الفقهاء بعض أقوال من سبقهم، وبرز فيهم من امتاز بهذا التتبع التاريخي كالسيد محمد جواد العاملي (1226هـ) صاحب كتاب «مفتاج الكرامة»، لكن القراءة التاريخية المتسلسلة والمقاطعية لم يتعارف الاعتماد عليها في هذين العلمين، إلا إشارات سريعة وغاية في الإيجاز.

وقد برز السيد محمد باقر الصدر (1400هـ) على صعيد علم أصول الفقه، حيث قرأه بمجملة قراءة تاريخية، كما قرأ بعض مسائله على هذا النحو أيضاً، لكن الشهيد مرتضى مطهري امتاز بمنهج عام شمل إلى جانب بعض ما دُوِّنَ له حول الفقه والأصول، كلاًّ من الفلسفة والكلام، الفرعين الأساسيّين في نشاطه العلمي.

فعلى الصعيد الفلسفي، برز الاهتمام التاريخي عند المطهري جلياً لاسيما في شرحه المطوّل على منظومة الملا هادي السبزواري، وفي تعليقته على كتاب «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي» للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي؛ ولهذا يمكن القول: إن الاهتمام التاريخي للشهيد مطهري لم يكن مختصاً بدائرة الفقه والفقهيات بقدر ما كان أساساً يعنيه في كل معرفةٍ أو موضوع عالجه.

وقد أبرز المطهري رؤيته هذه على الصعيد الفقهي بدعوته إلى تأليف كتاب عن طبقات فقهاء الشيعة على غرار «طبقات الفقهاء» لأبي إسحاق الشيرازي، وطبقات الأطباء «لابن أبي أصيبعة»، و«طبقات الصوفية» لأبي عبدالرحمن السلّمي... مبدياً تأسفاً على عدم القيام ـ إلى زمانه ـ بتدوين عمل موسوعي يتعلق بطبقات فقهاء الشيعة، ملاحظاً أن ما دوّن حتى زمنه عن طبقات الفقهاء كان نتاجاً سنيّاً لم يشمل الإمامية([4])، وهذا الأمر يفرض ـ وفق تصوّر الشهيد ـ الحاجة الماسّة إلى الرجوع مباشرة إلى كتب التراجم أو إلى الكتب التي أدرجت فيها الإجازات.

وانسجاماً مع هذه القناعة، سعى المطهري لتقديم موجزٍ سريع لهذه الطبقات من خلال استعراضه ـ وبالتسلسل تقريباً ـ أسماء ستة وثلاثين فقيهاً من كبار فقهاء الشيعة، مبتدئاً بعلي بن بابويه القمي (329هـ) ومنتهياً بالميرزا محمد حسين النائيني([5]) (1355هـ)، متجاهلاً من وصفه بطبقة أساتذته لأسباب لم يبدها، ولعلها تعود إلى منهج كان يعتمده كما يشير إليه في دراسته المخصّصة لقراءة جهود السيد حسين البروجردي([6])، وهو أنه لا يتعرّض لمدح أحد إذا كان حياً إلاّ استثناءً، كما هي الحال مع الإمام الخميني.

ومن خلال استعراضه التاريخي هذا لم يشر المطهري سوى إلى تعريف موجز بشخصية كل فقيه ووفاته وأبرز أساتذته وجهوده، وهو ما ينسجم مع طبيعة الكتاب الذي دوّن فيه طبقات الفقهاء هذه، فقد كان كتاب «كليات حول العلوم الإسلامية» متناً دراسياً، أعدّه الشهيد لكلية الإلهيات والمعارف الإسلامية التابعة لجامعة طهران([7])وهو ما يستدعي مقداراً من الإيجاز والإعراض، لكن هذا العرض التاريخي لم يخل من تدوين المطهري بعض الملاحظات الخاطفة والتي كان أبرزها:

أ ـ عودة بداية التاريخ الفقهائي الشيعي إلى زمن الغيبة الصغرى (260 ـ 329هـ) دون ما قبلها، والسـبب في ذلك يعـود ـ وفق تصوّر الشهيد ـ إلى أمرين: أحدهما: عدم بروز فقهاء عصر الحضور نظراً لحضور الأئمة^ وذوبانهم في شخصيات الأئمة الكبرى.

وثانيهما: عدم وجود فقه شيعي مدوّن ورسمي قبل زمن الغيبة الكبرى، من دون أن ينفي المطهري وجود علماء كبار زمن الأئمة^ مشيراً إلى ما قام به ابن النديم في الفن الخامس من المقالة السادسة من فهرسته، بتدوين أسماء فقهاء الشيعة ممن عاصروا حضور الأئمة^: من أمثال الحسين بن سعيد الأهوازي، وعلي بن إبراهيم القمي، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد القمي، مبرراً عدم ظهور هذه الطبقة بأن كتبها الفقهية لم تكن سوى تدوين حرفي للروايات التي وصلتهم أو سمعوها عن المعصومين^ بحيث تعبر نفسها عن رأي صاحبها([8]).

ب ـ عَدُّ كتاب المبسوط للشيخ الطوسي (460هـ) بداية التأليفات الاستدلالية عند الشيعة([9])، والشيخَ الأنصاري بداية مرحلة جديدة في علمي الفقه والأصول، وتصنيف المحقق الحلي والعلامة الحلي والشهيد الأول والشيخ الأنصاري بوصفهم الشخصيات الشيعية الأبرز التي اعتني بكتبها شرحاً وتعليقاً واختصاراً([10])...

ج ـ إن أوّل رسالة عمليَّة([11]) دوّنت باللغة الفارسية كانت كتاب «جامع عباسي» الذي كتبه الشيخ بهاء الدين العاملي (1030هـ)، ولم تعرف اللغة الفارسية رسالة عمليَّة قبل هذه الحقبة التي عاصرت الدولة الصفوية في إيران([12]).

د ـ اعتقد الشهيد مطهري أن امتياز علم الفقه يكمن في الاستمرار والديمومة التي حظي بها على امتداد قرون، وهو أمرٌ لم يحصل في بقية العلوم على شكل مطلق؛ ذلك أن بقية العلوم كانت تمر بحالة من الضمور والفتور، وبمراحل من الانقطاع، وهو ما لم يحصل في علم الفقه أبداً، وهو ما يستحق الدراسة على صعيد الأسباب والعوامل([13]).

هـ ـ لقد وَظَّف المطهري إطلالته التاريخية الموجزة هذه، التي أدرجها في كتابه «الإسلام وإيران» أيضاً، للرد على المقولة القاضية بأن الفقه الشيعي نتاج إيراني فارسيّ بحت، وهي مقولة تعبر عن امتداد للمقولة الأكثر عمقاً وحساسية والتي تحكي عن أن التشيع بالأساس نتاج إيراني يعود إلى التعاطي السلبي الذي مارسه عمر بن الخطاب مع الفرس، أو إلى إحساس الفرس بامتداد السلالة الساسانية في أهل البيت^ عن طريق أم الإمام علي بن الحسين زين العابدين× وهي شهربانو بنت يزدجرد، كما ذهب إليه بعض المستشرقين من أمثال كانت غوبينو، وتبعه في ذلك إدوارد براون، وتبنّاه أيضاً بعض القوميين الإيرانيين من أمثال الدكتور برويز صانعي ليؤكد حفظ الإيرانيين هويتهم القومية، كما يشير إليه الشهيد مطهري نفسه.

وعلى أية حال، فالإطلالة التاريخية أثبتت للمطهري أمراً معاكساً، وهو أن غالبية الفقهاء الشيعة ما قبل القرن العاشر الهجري وظهور الدولة الصفوية كانت من غير الفرس، ولم تصبح الغلبة للإيرانيين إلا في أواسط المرحلة الصفوية([14]).

ومن جهة أخرى، ركز المطهري على المدن والمحافل العلمية الفقهية الرئيسية في العالم الإسلامي، لتأكيد ما يريده هنا، فرأى أن بغداد مثلت البداية، ثم تلتها النجف زمن الطوسي لتصبح المركز الأول للشيعة، ثم تلى ذلك جبل عامل، فالحلّة، وحلب.. إلى أن وصل الأمر مع الدولة الصفوية إلى أصفهان رغم محافظة النجف على موقعها في مقابلها إثر رفض المقدّس الأردبيلي طلب الشاه علي الصفوي التوجه إلى إيران، ومن ثم بقائه في النجف، وعقب ذلك صار لمدن: مشهد، وقزوين، وتبريز، وشيراز، ويزد وكاشان موقعها أيضاً.

والاستثناء الوحيد، كان لصالح مدينة قم التي كانت معقلاً لفقهاء الشيعة في القرون الهجرية الأولى، وصارت كذلك في العصر الحديث بدءاً من استقرار الميرزا أبو القاسم القمي فيها وحتى تأسيس الشيخ عبدالكريم الحائري الحوزة العلمية فيها([15])، بل يتعدى المطهري ذلك للتأكيد على دور فقهاء جبل عامل في رسم مستقبل إيران زمن الصفويين، معتقداً أن الهجرة العاملية حالت دون حدوث أنماط على طريقة العلويين في الشام وتركيا، نظراً لتبني الصفويين طرق الدروشة والتصوف، ويخلص المطهري إلى الإعتقاد بأسبقية التشيع العاملي على التشيع الإيراني، وفاقاً لشكيب أرسلان كردٍّ على القول إن التشيع صنيعة فارسية([16]).

 

تاريخ ظهور مصطلح الفقه والفقهاء

المورد الثاني الذي أشار إليه الشهيد مطهري على الصعيد التاريخي الفقهي، كان تاريخ ظهور مصطلح الفقه والفقهاء:

أ ـ يعتقد المطهري بأن كلمة الفقه قرآنياً وروائياً تعني الفهم العميق في مختلف قضايا الدين من عقديات وعمليات وأخلاقيات... إلا أن التطور العلمي فيما بعد ـ وبالتحديد في القرن الثاني الهجري ـ هو الذي جعل الفقهاء يخصّصون كلمة الفقه لما يخص دائرة الأحكام العملية([17])، وهو موضوع ليس بالجديد، بل أثاره العلماء منذ قديم الأيّام.

ب ـ كلمة الفقهاء لا يعلم ـ وفق رأي المطهري ـ أن لها وجوداً زمن الصحابة (كما هي الحال في مصطلح «القرّاء»)، وأوّل ظهور مؤكد لاصطلاح الفقهاء كان على جماعة من التابعين، وهم سبعة أشخاص عرفوا بالفقهاء السبعة. ومن هنا، سمي العام الذي توفي فيه الإمام علي بن الحسين× وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وآخرين بـ«سنة الفقهاء»، وهو عام94هـ([18]).

 

تاريخ الاجتهاد، وبروز علم أصول الفقه

وخلافاً للبحث الموسّع نسبياً الذي طرحه السيد محمد باقر الصدر حول مقولة الاجتهاد وتاريخ علم الأصول، قدّم الشهيد مطهري عرضاً موجزاً حول هذا الموضوع، وخلافاً للرؤية التي مال إليها السيد الصدر، والتي حاول من خلالها تبرير فقدان ظاهرة الاجتهاد في الوسط الشيعي في القرون الثلاثة إلا بذوراً أولية قليلة كرسالة هشام بن الحكم في مباحث الألفاظ.. والتي قامت رؤية السيد الصدرعلى الاعتقاد بعدم الحاجة إلى الاجتهاد في الوسط الإمامي بعد افتراض الاستطالة الزمنية لعصر النص وفق منتجات علم الكلام الشيعي([19])، وهي رؤية كان المطهري قد نسبها إلى بعض المستشرقين بوصفها وهماً([20])... خلافاً لهذه الرؤية، ذهب المطهري في جولته التاريخية إلى القول: إن ظاهرة الاجتهاد كانت موجودةً في الوسط الشيعي زمن الحضور أيضاً([21]).

وقد انطلق المطهري في رؤيته هذه، من عملية تفكيك لغوي لمصطلح الاجتهاد، فبعد أن افترض أنه عملية «تفريع»، أي رد الفروع إلى الأصول، طابق من الجانب الآخر، ليؤكد أن ظاهرة التفريع كانت موجودة زمن النص بحثٍّ من الأئمة^ أنفسهم، كما ورد في بعض النصوص «علينا إلقاء الأصول وعليكم أن تفرّعوا»([22]).

وقد أكد المطهري نظريته هذه ـ ردّاً على المستر شارلز آدمز ـ عبر أدلة أربعة، اعتمد بعضها التاريخ أساساً، فيما قام بعضها الآخر على تحليل عمليات الاستنباط نفسها:

1ـ عدم الاتصال المباشر للشيعة بالأئمة^، فقد كانوا يعيشون في خراسان، والإمام في المدينة، أو في العراق كذلك، ومن الطبيعي أن تصاحب هذه الحالة ظاهرة ممارسةٍ اجتهادية، ورغم أن الأسئلة كانت تجمع وتردهم^ من أماكن نائية، بيد أنه لم تكن هذه هي الحالة الغالبة.

2ـ الترغيب الذي كان يمارسه الأئمة^ بحقّ أكابر أصحابهم، كأبان بن تغلب للفتيا والجلوس لأمر الفتوى بين الناس.

3ـ وجود ظاهرة التعارض في النصوص، كما تؤكده نصوص كتاب التعارض نفسها، وقد كانت عملية الجمع بين النصوص أو الترجيح كذلك، عملية يمارسها علماء الشيعة في ذلك الزمان.

4ـ ما نقله السيد حسن الصدر في «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام»، من النتاجات العلمية لأصحاب الأئمة في علم أصول الفقه.

وعن هذا الطريق، يجيب المطهري عن القراءة الاستشراقية لظاهرة الاجتهاد، والتي ترى فيه مجرد عملية بشرية نجمت عن احتياجات فرضها الواقع، جرى فيما بعد إضفاء طابع ديني عليها، وانطلاقاً من ذلك كان الاجتهاد السني سابقاً على الاجتهاد الشيعي، نظراً لتولي أهل السنّة أمر الدولة وإدارة المجتمع([23]).

 

2 ـ العقل وتيار الحديث والأخبار

في الفكر الإسلامي ـ كما المسيحي قبله ـ انقسم الفكر من زاوية إيبستمية إلى قسمين:

أحدهما: تيار العقل الذي نافح عن مرجعية العقل وتفوّقه على النص.

ثانيهما: تيار مرجعية النص الذي استمات في الدفاع عن أصالة النص مرجعيةً لا يمثل العقل سوى تابع لها إذا اعتُرف به تابعاً، وقد تمثل التيار الأول في التكتلات الفلسفية والكلامية، فيما مثّل التيار الثاني غالباً الفقهاء والمحدثون وعلى الصعيد المسيحي القساوسة.

ويبدو من الناحية التاريخية المحض، أن قدر الأديان هو هذا الصراع حول تحديد المرجعية الأولى، العقل أو النص؟ وقد قدّم المفكرون والعلماء حلولاً عديدة، وصياغات متفاوتة لحل أزمة العلاقة هذه من دون أن يجري التوصل إلى إجماع حاسم يفرض الموضوع بوصفه أساساً مسلّماً.

ولم يقف الصراع العقلي النصي عند حدود العقديات الدينية، بل تعدّاه إلى العمليات الدينية من قانون وأخلاق، وعلى المقدار الذي كان الخلاف فيه شديداً بين العقل والنص في العقديات، كان إلى حد معين ـ وأحياناً أقوى وأشد ـ في القضايا العملية، وهو أمرٌ له أسبابه.

ولعل أوّل تفجّر للأزمة بين العقلي والنصي كان مع الإمام أبي حنيفة (150هـ) في النصف الأول من القرن الثاني، فقد ركز أبو حنيفة أعمدة العقل وحسر إلى حد بعيد دور النص ونشاطه في النطاق الفقهي، وقد شكَّل ذلك بداية انقسام فقهي حاد حول مرجعية العقل تمثلت في أهل الحديث وأهل الرأي. كانت نهايته انتصاراً لأهل الحديث بلغت ذروته مع أحمد بن حنبل، وذروة ذروته مع ابن تيمية الحراني في القرن الثامن الهجري.

لقد اختطّ أهل السنّة لأنفسهم مساراً قلّدوا زمامه لتيار الحديث، انطلاقاً من قناعات. وكان القرن العاشر مستقراً مع السيوطي لصالح هذا التيار. أما الشيعة فكان الأمر مختلفاً بالنسبة إليهم، ففي القرن العاشر بالذات دخلت فقهياتهم مخاضاً عسيراً، أسس لنصية جديدة ومتطوّرة هذه المرّة، فقد قدّم محمد أمين الاسترآبادي جُماناً منضوداً من التصورات في «الفوائد المدنية»، بدأه من ترسيم أوّلي لقدرات العقل وانتهى به ـ لاسيما مع أنصاره ـ إلى إيجاد تقليص جديد هذه المرّة تخطى استبعاد العقل إلى تقليص النص نفسه لصالح نص آخر، فقد استبعد النص القرآني بشكل من الأشكال، وأزيح العقل والإجماع عن السدّة التي تتربع عليها مصادر الاستنباط الفقهي، قابله توسعة لا سابق لها للحديث الشريف إلى حد الحديث عن قطعية الكتب الأربعة أو اعتبارها وحجيّتها في صورة مخففة، وبهذا تشكّلت صورة جديدة للنصيّة الدينية اختلفت عن مثيلتها في الوسط السني بأشكال عديدة.

وكان من الطبيعي لباحث فلسفي كالشهيد مطهري، أن يتخذ موقفاً سلبياً من النزعة الإخبارية هذه انطلاقاً من موقفه المسبق من العقل وقدراته، فقد تربّى المطهري في مدرسة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، وهي مدرسة آمنت بمرجعية مميّزة للعقل في العقديات وغيرها([24])، واعتقدت ـ انسجاماً مع السياق الفلسفي العام لاسيما اتجاه الحكمة المتعالية ـ بتفوق عقلي شهودي على النص بمعنى من المعاني.

لقد كانت الأبحاث التي تعرّض فيها المطهري للنزعة الإخبارية الحديثية مشحونة أحياناً بشيء من التوتّر، وقد اتسمت في أحيان أخرى بنوع من الحملة العنيفة على هذا التيار([25])، فلم يقرأ المطهري الإخبارية قراءة باحث في أصول الفقه يلاحق قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، أو يتابع حجية ظواهر القرآن([26]) أو... بل نظر إلى الإخبارية كتيار جمودي جلمودي خطير، ودرسه ـ بالتحديد ـ من زاوية معرفية حقوقية معاً، فقد اعتقد من جهة، أن الطرح الإخباري طرح يعارض الاجتهاد، ويقدم تصويراً زائفاً عن هذه العملية من خلال إحالتها إلى مرحلة زمنية سالفة حملت مفهوماً مختلفاً لهذه الكلمة أسقطه الإخباريون عليها حتى في العصور المتأخرة، ليحاولوا من جانبٍ آخر القيام بتجسيرٍ ما، بين واقعهم وتصورهم الذي يعتقده المطهري وليد أربعة قرون سالفة لا أكثر، وبين التراث الشيعي السابق الذي يعود بالأخص إلى المحدّثين القدماء، لا سيما الشيخ الصدوق([27]).

ولتأكيد القطيعة ما بين الإخبارية والتراث، شكّك المطهري في المقصود من تعبير «المقلّدة» الذي أورده الشيخ الطوسي في كتابه «عدّة الأصول»([28])، معتبراً أنه مجرد عنوان لتيار لم يكن قد اتخذ كينونة أو وجوداً متمذهباً، وأن الشيخ الطوسي هدف من هذا التعبير الإشارة إلى تبني هذه المجموعة الروايات والأخبار في المجال العقائدي أيضاً([29]).

 

الإخبارية وثنائية الاجتهاد والتقليد

واستكمالاً لهذه الناحية المعرفية، قرأ الشهيد الإخبارية من منظار ثنائية الاجتهاد والتقليد، فالمعروف عن المذهب الإخباري رفضه مقولة التقليد إلى جانب رفضه للاجتهاد، وبالتالي فالمكلّف هو المطالب مباشرة بتحديد وظيفته الشرعية عن طريق تقليد المعصومين^ لا غير([30]).

وحتى نقارن ثنائية الاجتهاد والتقليد عند المطهري بموقفه من التيار الإخباري، لابد من العلم بأن للمطهري رؤية أخرى في هذا الموضوع، تنطلق من اعتقاده بأن الاجتهاد ليس ما هو المتداول اليوم من تبديل الاحتياطات بالفتاوى أو العكس على حدّ تعبيره([31])، وإنما هو وعي بالواقع؛ لأن عملية الاجتهاد ليست في نظره سوى عملية تطبيق لعمومات وكليات على حالات ومصاديق، وهو ما يؤدي إلى إلزام المجتهد بوعي الواقع. ويؤكّد المطهري مقولته، بإبدائه تفسيراً لعدم جواز تقليد الميت ينسجم وهذا الأمر؛ إذ لا يرى فرقاً بين تقليد الميت وتقليد الحي ما دامت القضية موضوعاً قواعدياً تنظيرياً تحليلياً، فالاجتهاد وعي بالواقع كمقدمة لوعي الوظيفة إزاءه، ومن ثم لا يكون جهداً تحقيقياً صرفاً لا يرتبط بالمعاصرة، بل المعاصرة قوام الاجتهاد في تصوّر المطهري([32])، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن لهذا الانتاج الحيوي لمفهوم الاجتهاد أن يتقبل الإقصاء الإخباري لهذه العملية، كما لا يمكنه أن يوافق ـ لا أقل عملانياً ـ على افتراض اتصال مباشر يقع الفرد أحد أطرافه والمعصوم هو الطرف الثاني؛ لأن هذه الصيغة صيغة تشتمل نوعاً من التسطيح والتبسيط الزائد للأمور.

لكن، وحتى يرفع المطهري النابض بالروح الفلسفية شبح المجتمع المسخّر المُقاد بيد جماعة من الناس، حاول ـ ولو بصيغة أولية ـ إعادة صياغة مفهوم التقليد من خلال سلب الإثقال التجهيلي الذي سجّله، فرأى أن التقليد وعي وليس اتكالاً، ونظر ليس إغماضاً، ورقابة مجتمعية على الفقيه والمرجع لا نظرة عصمة، وبحسب تعبيره اعتصام وكرّية للعلماء والمجتهدين، إن الشهيد مطهري يعتقد بأن هذا النوع من التقليد تقليد ممنوع، وينص على أنه ينجم عنه كثير من المفاسد([33]).

إن النقد الذي يوجّهه المطهري لظاهرة التقليد الأعمى للعلماء والفقهاء، هو محاولة لتحقيق إعادة انتشار للعالم والفقيه في موقعه المحدّد الموضوعي، وعدم الاعتقاد ـ وهو اعتقاد عن وعي أو لا عن وعي يشتمل الكثير جداً من عوام الناس إن صح هذا التعبير ـ بعصمة العلماء، وبالتالي صيرورتهم فوق النقد والمساءلة، وهو أمرٌ يجر مخاطر كثيرة جداً على المجتمع الإسلامي ككل، ويولِّد مظاهر من «البابوية القيصرية» (Papisme Cesaro -) كما امتاز به في الوسط المسيحي يوستنيانس، حتى كانت حقبته أطول حقبات هذه البابوية ([34]).

وبهذا نخلص إلى أن المطهري، بتوضيحه مفهومي الاجتهاد والتقليد، حقّ له أن يقف موقف الناقد للتصوّر الإخباري لهذين المفهومين، ومن ثم الرفض لهما.

 

القراءة الجمودية للنص

إذاً، كما أشرنا، المشكلة الأساس التي كان يراها المطهري في النزعة الإخبارية الحديثية كانت مشكلة الجمود على النص، والتي يعتقد المطهري بأنها سادت لقرنين من الزمن وما يزال لها تأثير اليوم أيضاً، فهو يرى أن هناك من يعتقد اليوم بأن تفسير القرآن حرام إذا لم يكن مرفقاً بالنص الروائي، وأن هناك تفكيراً حرفياً لدى البعض في فهمه للنصوص، لاسيما على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي، بل حتى على صعيد بعض المسائل الفقهية الكلاسيكية([35])، ويذكر المطهري أمثلةً على الجمود الإخباري يبين مدى نقده للاتجاه الإخباري من جهة، كما يعطي مؤشراً لقراءة المطهري لبعض النصوص قراءة تاريخية تراعي الظرف التاريخي الذي صدرت فيه، وهذه أهم الأمثلة:

المثال الأوّل: ما يشير إليه الشهيد مطهري حول حكم التحنك([36]) في غير الصلاة([37])، إذ يرى بأن هناك حكمين شرعيين مفروغاً عنهما ألا وهما: حرمة الدخول في شعار المشركين، بمعنى حرمة القيام بفعل يمثل شعاراً عند المشركين يؤدي إلى تصنيف فاعله في زمرتهم؛ بحيث لا يتميّز عنهم، وحرمة لباس الشهرة، وبالتالي ضرورة عدم التورّط في لباس كهذا.

وإذا ما وعينا هذين الحكمين، يمكننا الإطلالة من جديد على حكم التحنّك مستعينين بالنظرة التاريخية، فقد كان شعار المشركين آنذاك ربط الحنك وتثبيته إلى الأعلى، وكانوا يسمّون ذلك «الاقتعاط»، ووفقاً لذلك ـ فيما يفهمه المطهري ـ يتضح معنى نصوص التحنّك، وأنها إنما كانت تعبر عن التميز عن المشركين والرغبة في عدم الانضمام تحت شعاراتهم ورموزهم. وبالتالي، فإذا أريد اليوم تطبيق هذا الحكم والقول باستحباب مطلق التحنك، فهذا معناه ليس فقط تفريغ الحكم من محتواه وظرفه التاريخي، بل التورّط في حرمةٍ مقابلة هي حرمة لبس لباس الشهرة، وهكذا انقلبت المعادلة من استحباب التحنك إلى حرمته.

المثال الثاني: النصوص التي وردت في طبّ النبي والأئمة، فالشهيد مطهري ينتقد الإخباريين في تعاملهم الحرفي مع هذه النصوص، فلو أن شخصاً جاء عند الإمام^ وكان مريضاً، فأرشده إلى شرب الماء البارد، فإن يحكمون بأن شرب الماء البارد هو الدواء للمرضى كافة، والحال ـ كما ينقل الشهيد مطهري عن الوحيد البهبهاني ـ أن وصفة الدواء الواردة في النص لا تحكي سوى عن علاج لهذا المريض الذي يحمل مواصفات وظروف خاصة، لا أي مريض وأي حالة([38]).

وهذان المثالان اللذان ذكرهما الشهيد، كما يعبّران عن موقف عقلاني في قراءة النص ومضمونه، كذلك يدلاّن على مدى العناية التي يوليها الشهيد للبعد التاريخي في النصوص، كما سنشير إليه قريباً.

 

الجمود الإخباري ومسألة القياس عند المطهري

وفي سياق الحديث عن الجمود الإخباري، يثير المطهري إشكالية القياس، محاولاً تقديم قراءة تحليلية تفسر موقف الأئمة^ منه، فقد انتقد المطهري استخدام القياس كذريعة لشل محاولات قراءة النصوص قراءة منفتحة، ورأى أن ذلك ناشئ من عدم دراسة الأسباب التي دفعت الأئمة إلى النهي عن القياس([39])، وهو من هنا، يفرّق بين مقولة الأئمة ^: «السنّة إذا قيست محق الدين»([40]) ومقولة أحمد بن حنبل القاضية بأن لا حقّ للعقل في إبداء وجهة نظر إزاء القضايا التشريعية، ويعتقد أن معارضة القياس ـ وهي معارضة في محلّها ـ يجب أن لا تعني معارضة العقل كلّه تحت شعار رفض القياس([41])، واستتباعاً، يذهب المطهري إلى أن النهي عن القياس لا يبرر الجمود على النص، وأن عملية التعدّي عن النصوص لاستخدامها في مجالات أوسع تبقى عملية مشروعة ـ كما مارسه الفقهاء ـ انطلاقاً من فلسفة النهي عن القياس نفسه.

ويقدّم المطهري عاملين دفعا الأئمة^ إلى النهي عن القياس:

العامل الأول: الشك في علميّة المنهج الاستدلالي الموجود في القياس، إذ القياس طريق ظني لا قطعي، وبالتالي فهو فاقد للحجيّة([42])، وهذا معناه أن درجة اليقين المأخوذة من عناصر منطقية تصبح مشروعة، انطلاقاً من عدم شمول أدلة النهي عن القياس لها، كما لو قلنا: إن تجميع حالات معدودة في الفقه تلتقي حول نقطة واحدة، يفضي إلى اليقين بالمركز كقاعدة، فهذه الطريقة لا يصح الاستدلال بعمومات ومطلقات النهي عن القياس للردع عنها؛ لأن عنصر اليقين المفترض وجوده فيها يعيق عملية شمول نصوص النهي لها.

العامل الثاني: وهو العامل الأكثر أهمية وأساسية على حدّ تعبير المطهري نفسه([43])، والذي يلتقي مع تحليل تاريخي يهدف إلى قراءة النصوص الناهية ضمن المناخ الذي صدرت فيه؛ إذ يرى المطهري أن النصوص تريد أن تركّز على بطلان الأساس المعرفي للقياس، وهذا الأساس يتجلّى في الاعتقاد بعجز الكتاب والسنة عن الوفاء بجميع الأحكام([44])، والإجابة عن كافة المستجدّات، إذ بهذا البناء التحتي يصبح القياس قضية متفهَّمة، ما دام أمر الجواب عن كافة الوقائع صعباً غير ميسور.

وهذا معناه أن الجواب عن إشكالية القياس يكمن في تقديم منظومة فقهية متكاملة تخضع لقواعد يقينية، وقادرة على تقديم إجابات ممنهجة عن كل الوقائع، وما دمنا غير قادرين على القيام بذلك ـ مثلاً ـ فهذا يعني أن موضوعات كالقياس ستعيد طرح نفسها كضرورة يرى الفقيه المخرَج فيها من ضغط متطلّبات الواقع.

ولهذا وجدنا أن الفقه الإسلامي، بدأ يشهد مطالبات تعيد النظر في أمرين:

1ـ مبدأ شمولية الشريعة، وقدرتها على استيعاب مجمل الوقائع، الأمر الذي صار يفترضه بعض الناس قضية وهمية متخيلة.

2ـ الانضباط القواعدي بالمناهج المدرسية الاستنباطية المقررة في علم أصول الفقه، فقد بدأت محاولات اختراق هذا السـور المحكم الذي أسس له علم الأصول، وظهرت في الآونة الأخيرة دعوات تطالب بآليات جديدة من نوع مقاصد الشريعة و..

وهدفنا من الاستعراض التحليلي للمرحلة الراهنة، التأكيد على الاستنتاج الذي خرج به المطهري، أي أن ثمة علاقة ثنائية بين بروز دعوات تطالب بتفكيك السور المحكم لقواعد الاستنباط وبين عجز أدوات الاستنباط عن تقديم صيغة شاملة للإجابة عن مختلف الأحداث بشكل منطقي بعد افتراض شمولية الشريعة، وهذه العلاقة في غاية الضرورة والأهمية، تحدونا إلى تفهّم ما يجري في الظرف الراهن([45]).

 

الرؤية الكونية للفقيه، وقانون التحوّل المعرفي

واستتباعاً للمنحى العقلاني عنده في قراءته للاجتهاد وآلياته، يثير المطهري قضية صار لها اليوم حساسيتها الخاصة في الأوساط الثقافية، ألا وهي تأثير الرؤية الكونية التي يحملها الفقيه في اجتهاده، بل تأثير نمط حياته وظرفه الاجتماعي ـ السياسي... في ممارساته الاستنباطية، فالمطهري يلاحظ فرقاً في ممارسة الفقيه الذي يعيش في غرفته ومدرسته للاجتهاد والاستنباط ـ كما يقول ـ عن ذاك الذي يعيش الحياة ومجرياتها ويغوص في أعماق الأحداث والوقائع اليوميّة المتحرّكة، ويمثل المطهري لذلك بمجتهد يعيش في مدينة طهران حيث المياه كثيرة ومتوفرة في البيوت على الطريقة الحديثة، لكنه يذهب إلى مكّة المكرّمة حيث قلّة الماء.. إن نصوص الطهارة والنجاسة سوف تختلف قراءته لها في مكّة المكرّمة عن قراءته لها في مدينة طهران([46]).

وإذا أردنا ـ انطلاقاً من هذا النص الذي يطرحه المطهري بوصفه وثيقةً أساسية بالنسبة لقارئه ـ أن نصنّف المطهري وفقاً للجدال القائم في الساحة الفكرية المعاصرة حول موضوعة المعرفة وإشكالياتها، فمن الممكن أن يساعدنا هذا النص كثيراً لوضع المطهري في عداد التيار التحوّلي في المعرفة، ولو إلى حد معين حتى لا نحمّل هذه الوثيقة أكثر مما تتحمّل، وحتى نعالجها في سياقها التاريخي ـ الاجتماعي والثقافي.

لكن هذا الكلام من المطهري، يقف بالتأكيد على النقيض من الموقف المدرسي الذي حاول ـ وما يزال ـ أن يفترض ثباتاً واستاتيكيةً في آلية النشاط الفقهي الاجتهادي، ويستعين لثبوتيته هذه بمفاهيم أخلاقية مضفاة على العلماء والفقهاء تحيِل ـ على الأقل ـ أية دوافع ذاتية، بما في ذلك تلك التي تعبّر عن حالة اعتيادية عند الإنسان وسلوك متوقع منه، محاولاً بذلك الفصل ما بين الفقيه والشخصية الاعتيادية للإنسان، لا شخصية الإنسان العادي، وكأن الفقيه قد هبط من عالم آخر.

 

تاريخيّة التشريع ونظم القانون الإسلامي

واستتباعاً للنماذج التي ذكرها المطهري واستنتاجاً منها، يُلاَحظ أن المطهّري هَدِف إلى خلق معادلة قد لا تكون هي المقصودة بالدرجة الأولى له، وهي معادلة خلق مناخات تحكمها التاريخانية لدفع الفقيه للدنو من فضاء النصوص، ومعنى ذلك أن هذه النصوص التي بأيدينا ـ لاسيما النص الحديثي والروائي ـ غير قابلة للفك عن المحيط الذي تولّدت فيه، وهذا المضمون ـ إذا استطعنا أن نؤكّد ميل المطهري له ـ سيدفعنا لعملية تصنيف تضع المطهري في حسابات بعض الاتجاهات الهرمنوطيقية الحديثة، تلك الاتجاهات التي تحاول قراءة النص من دون قراءة شاملة ومستوعبة للمتكلم والسامع والظرف معاً، فعندما نضع الفقيه في نمط حياة عربية قديمة، فإننا نجعله يلامس مناخات النصوص المتصلة بموضوع الطهارة والنجاسة و... وبذلك نجعله أقدر على فهم النص، وتحديد مدى دلالاته الحاكية عن واقعنا الراهن، ومعرفة ما إذا كانت تلك المناخات قد أسرته واستنزفته لتحول دون عملية تطبيقه في مناخات أخرى، أو أنها سمحت له بدرجة من التعميم والسراية.

وفي هذا المجال بالخصوص، تتبدّى عملية التمييز بين القشر واللبّ في المجال الفقهي، بين روح الحكم ولباسه الذي يمكن تبنّي تغيّره عبر الزمن، وتظهر نزعة «تجريد الأحكام» كما يسمّيها الباحث الإيراني الأستاذ السيد محمد علي أيازي([47])، وهناك مؤشرات في كلمات المطهري تجعلنا نعتقد ـ ولو بعض الشيء ـ بأنّه كان ميّالاً لثقافة من هذا النوع لكن لا على إطلاقها، فهو من جهة يعتقد إلى درجةٍ بغموض الأسرار التشريعية كما سيظهر، ومن جهة أخرى يعتمد العقل بشكله المنفتح أساساً في الاستنباط، كما ومن جهة ثالثة يوافق ـ ولو مبدئياً ـ على تاريخانية بعض النصوص التشريعية بمعنى من المعاني، كما ألمحنا له وسنوضح الآن.

ففي قراءته لموضوع «السبق والرماية» يتجاوز المطهري شكل الحكم القائم على جواز اللعب ولو عن رهان في السهام و... مما يعدّ من أدوات الحرب آنذاك، ليلجأ إلى المعطى القرآني العام، ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60) فيلغي الشكل الزمني للإعداد والاستعداد، مسرياً السبق والرماية إلى عموم أدوات الحرب ووسائل القوّة عند المسلمين دون جمودٍ على الخف أو النصل أو الحافر كما جاء في بعض الروايات([48]).

وعن الطريق نفسه يفهم المطهري قول النبي|: «غيّروا الشيب»([49]) انطلاقاً من كلامٍ لعليّ× يشرح فيه ظروف صدور النص المذكور، وأن تغيير الشيب كان يراد منه ـ زمن قلّة المسلمين ـ الحيلولة دون إحساس المقاتلين بأنهم مجموعة من الشيبة الضعاف، الأمر الذي يترك آثاراً نفسية سلبية على جيش المسلمين، ومن ثم لا يعود حكم تغيير الشيب سارياً زمنياً في غير ظروف كهذه([50]).

وفي أنموذج بالغ الأهمية من الزاوية الاستنباطية، إدخال المطهري العنصر الزمكاني الحافّ بالنصوص أو ببعضها على الأقل في فهم الاختلافات الموجودة بين الأحاديث، حيث يذهب إلى أن بعض الأحاديث يرجع تعارضه إلى مجرد اختلاف الظروف، مما يوحي لغير المطلّع على الظرف المحيط أنها متعارضة، فنصّ يدل على وجوب زيارة الإمام الحسين× لا يعارض نصاً صريحاً في الاستحباب عنده، عندما نعي أن الملابسات التي اكتنفت صدور نصّ الوجوب كانت استثنائية (كما حصل زمن المتوكّل العباسي)، وهذا يعني أن التاريخ له دور واقعي ومعرفي معاً لصدور الأحكام المتنوّعة وفهمها فهماً لا يحيلها إلى تناقض مفرّغ لها أحياناً من القيمة والاعتبار([51]).

وفي سياق التحوّل الزمني ولباب وقشور الأحكام المطلوب قراءتها زمكانياً، يوافق المطهري المهندس «كتيرائي» في قولـه: بأن العلاقة الحقوقية المسجّلة في النظم العائلية في القانون الإسلامي وفي علاقة الأبناء بالآباء (الولاية على الذكر والأنثى أنموذجاً)، إنما كانت تناسب النظم الحياتية السابقة التي انتهت بنهاية تاريخها، حينما كانت المسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين كثيرة لا تتحمّل أيَّ جزء منها الدولة ولا أي مؤسّسة عامة على النقيض مما أضحى عليه الوضع ما بعد ظهور الدولة الحديثة.

والملاحظة الوحيدة التي يسجّلها المطهري على كتيرائي إنما تكمن في التحديد الميداني لهذا الموضوع، حيث يختلف معه في ذلك([52])، والمهم بالنسبة لنا هو الإقرار الكلّي بالقاعدة، والذي يشير إلى المنحى الذي ذكرناه آنفاً.

ومن نماذج هذا المنحى عند المطهري، الحوار الذي جرى بين الإمام الصادق× وسفيان الثوري حول اللباس، والإشارة إلى أنّ تغير الزمان قد يفرض تنوعاً في الألبسة، وكذلك صلح الإمام الحسن× مقارناً بثورة الإمام الحسين×([53]).

وهكذا نستطيع أن نحدّد المناخ الحاكم على الفهم القانوني لمطهري انطلاقاً من نقاط:

1ـ إن القوانين الإسلامية على نوعين: ثابت، ومتحوّل، والحيوية التشريعية في الإسلام تستمدّ نبضها من مزدوج ثبات التشريع المتصل بالواقع والحاجة الثابتين، وحركية التشريع الراجعة إلى الواقع غير القارّ والحاجات المتزلزلة، وهو ثنائي قدّمه العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي عاطفاً عليه نظريته في صلاحيات الحاكم الشرعي، وأخذه عنه المطهري([54]).

2ـ ثمة أحكام إسلامية لها حقّ الضبط والنقض مثل لا ضرر ولا حرج و... وهي أحكام عليا تجنب التشريع ظواهر الظلم والفساد([55])، شبهَ العلاقة (مع الفارق) بين القياس والمصالح المرسلة في الفقه السنّي.

3ـ إنّ إلهية القوانين لا تعني سدّ المجال لتقنين بشري على ضوء الكلّيات الإلهية، ومن ثم فالقانون البشري يمكن منحه الشرعية عندما تجري تغطيته بشمولية من ضوابط عليا([56]).

4ـ إن النصوص لا تقرأ ـ كما أسلفنا ـ قراءة جامدة، بل متحرّكة زمكانياً، وهو أمر يفضي ـ فيما يفضي ـ إلى نوع من تاريخية النص في النطاق التشريعي، والفقهاء وإن أمكن تقرّي عدد كبير من تطبيقاتهم الراجعة في روحها إلى اعتراف بتاريخية بعض النصوص، إلا أنهم لم يبحثوا هذا الموضوع بحثاً نظرياً كما فعله ـ ولو كبدايات أوّلية شيعيّاً ـ الشهيد مطهري نفسه.

5 ـ إن العقل عند المطهري غير قادر ـ كما سيأتي ـ على البتّ في الأمور التشريعية بصورة شاملة، بيد أنه ذا صلاحية للتدخّل في التشريعات بجعلها عقلانية منضبطة.

وبهذا الخماسي المتداخل يصيغ المطهري قراءته للقانون الإسلامي العقلاني المتحرّك.

 

3ـ فلسفة الأحكام وتحدّيات الحداثة

 تكوّن موضوعة «التعبّد» بأحد معاني الكلمة([57])، وهو الجهل بملاكات الأحكام، عنصراً أساسياً في البنية التحتية للعقل الفقهي والأصولي الشيعي بالخصوص، وهي مقولة تستمد جذورها من علم الكلام نفسه، فقد استبعد العقل الفقهي الشيعي الإمامي إمكانية اكتشاف ملاكات الأحكام إلاّ في حدود ضيقة، كما في حالات منصوص العلّة أو...، وهي حالات رأى الفقه الشيعي نفسه (وبشكل عام) أنها محدودة الحضور من الناحية الميدانية، وقد جرى التنظير لهذه المقولة في علم أصول الفقه([58])، ولعل بدايات ظهور أفكار من هذا النوع ترجع إلى مرحلة الخلاف الشيعي السني زمن المعصومين^ حول مسألة القياس، فقد طرح الفقه الشيعي هناك ـ ممثلاً أحياناً بعلم الكلام ـ طرح الجهل بالملاك، ليثير زوبعةً من الانتقادات على القياس الحنفي تضعه في خانة الظن غير الحجة.

ولا يعنينا هنا، الخوض في محاكمة هذا الموضوع، بيد أن القراءة التاريخية للعصر الحديث تدفع إلى الاعتقاد الراسخ بأن العقل الحداثي الذي ولد في الغرب لم يعد ليؤمن بإدارة المجتمع إدارة غيبية؛ أي عن طريق أحكام وأدوات غير مفهومة للعقل البشري، وإنما تقع في طور فوق طوره على حد تعبير بعض العرفاء والفلاسفة، وهذا هو ما كوّن العقلانية العلمانية في الغرب([59]).

وقد أثارت موجة الحداثة التي عصفت بالعالم الإسلامي، تساؤلات كثيرة، مُحدِثة تحوّلاً في طبيعة التعامل مع التشريع الإسلامي، إذ ظهرت تساؤلات تستفهم عن أحكام بدت من جديد غير مفهومة، كما أثرت انتقادات المستشرقين للإسلام وتشريعاته، سواء منها الانتقادات الصافية النوايا أم تلك المشكوكة، أثرت في المسلمين وعلماء الإسلام أنفسهم دافعةً بهم ـ منذ بدايات القرن العشرين ـ لتقديم ردود تخلع على التشريع الإسلامي سمة المنطقية والعدالة.

وفي القرن العشرين، لاسيما النصف الثاني منه، وبالأخص من الخمسينيّات وحتى أواسط الثمانينيّات، بُذلت جهودٌ جبارة من جانب العلماء والمفكرين المسلمين سارت على خطين:

الخط الأول: تمثل في إعادة صياغة منظومة التشريع الإسلامي صياغة حديثة، قادرة على المخاطبة والفعل في العقول الجديدة المتأثرة بمنطق الحداثة المفرط العقلانية، فقد حاول جماعة إعادة تقديم الفقه الإسلامي، وكذلك الأصول، والفلسفة... بصورة جديدة، محافظين إلى حد بعيد على المضامين السابقة، أي إنه أريد كتابة «العروة الوثقى» نفسها لكن بلغةٍ جديدة في «الفتاوى الواضحة»، وتدوين «الشرائع والمكاسب والروضة» عينها لكن بلغة معاصرة في «فقه الإمام جعفر الصادق» للشيخ محمد جواد مغنية... ولم تكن التغييرات المضمونية هدفاً أساسياً، كما لم تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامات الباحثين أنفسهم نسبةً للاهتمامات التي أولوها لإعادة انتاج لغوي للنصوص العلمية القديمة.

ولا يعني هذا الكلام، عدم وجود ابتكارات على مستوى المحتوى في جهود العلماء والمفكرين المسلمين، بقدر ما يعني أن هذا (إعادة إنتاج لغوي صياغي) كان حاجةً أكبر بالنسبة إليهم؛ ذلك أن الموروث الهائل الذي حجبته لغته عن الوصول إلى الناس، كان يراد إيجاد علاقة تجسير تمنحه فرصة النفوذ إلى الساحة المعاصرة، إذ لم يُخَبر هذا الموروث بعد على أرض الواقع (الحديث)، فقد كانت الحركات الإسلامية في بداياتها، كما ولم تكن الثورة الإسلامية في إيران قد انتصرت بعد، وهكذا كان ينظر لهذا الموروث بوصفه دعامة بالغة الأهمية لإنجاح مشاريع التغيير وكانت العقبة هي اللغة. ومن هنا، كان العنصر اللغوي أساسياً وبالغ الأهمية.

الخط الثاني: وتمثّل في ابتكار منظومات عقلانية، أريد لها أن تُخلَع على الموروث المعاد صياغته، ولم يكن بالإمكان تحقيق هدفٍ كهذا، دون الدخول في عالم «فلسفة الأحكام» من جهة، وفي فلسفة الوجود والمعرفة من جهة أخرى، الأمر الذي جعلنا نرى بوضوح نتاجات من نوع «أسس الفلسفة» و«فلسفتنا» و«اقتصادنا» و«نظام حقوق المرأة في الإسلام» و«في ظلال القرآن» وغيرها.

كانت هناك حاجة ماسّة لفلسفة المعطيات الدينية، وكان من الطبيعي أن تأخذ الفلسفة فرصتها من جديد، إذ بدون الفلسفة ـ بمعناها الواسع ـ لا مجال للنهوض.

وهكذا اضطر العلماء، لخوض فلسفة الأحكام؛ لأن ظواهر النتائج المستنبطة فقهياً لم تكن توحي بالانتظام، لأن الفقه كما قالوا: قائمٌ على تفريق المؤتلفات وتأليف المفترقات([60])، لهذا كان لابد من الدخول في عالم الحِكَم والفلسفة لإيجاد ترابط يمنح المعطيات الفقهية قدرة تكوين نظرية حياة. ومن هنا، نشأ فقه النظرية عند السيد محمد باقر الصدر، وظهرت أرتالٌ من الدراسات العقلانية التي هدفت هذا الأمر.

وقد كان حظ الشهيد مرتضى المطهري وافراً على كلا الخطين، فقد نجح بما لا حاجة إلى إقامة الدليل عليه، في تقديم لغة شديدة الروعة والجذابية، بالنسبة إلى جيل الشباب في تلك الفترة، وقد قدّم صياغة جديدة ومختصرة لعلوم كثيرة في الإسلام من الفلسفة والعرفان إلى الكلام والفقه والأصول و...، ورغم أن أكثر دراساته كانت عبارةً عن محاضرات ألقاها في أماكن ومناسبات مختلفة إلاّ أن نتاجه اتسم (ولو بعضاً) بطابع الاكتمال.

وقد بدت ظاهرة التجديد اللغوي عند المطهري بشكل بارزٍ جداً، في الشق الفلسفي من نتاجاته، ففي شرحيه المطوّل والموجز على منظومة الملا هادي السبزواري، كما في تعليقته على أسس الفلسفة للعلامة الطباطبائي وغيرها كان خطابه الفلسفي عصرياً.

أما على الخط الثاني، فقد بدت جهود المطهري واضحة، فقد نظّر للاقتصاد الإسلامي في دراسته «نظرة في النظام الاقتصادي الإسلامي»، كما ولمسألة المرأة في كتابه «نظام حقوق المرأة في الإسلام»، ومسألة الإرث التي عالج فيها الاتجاهات الماركسية المعارضة له والاتجاهات المساندة مناقشةً علميةً هادئة.

وقد سعى المطهري في كتبه هذه، لإبداء الوجه العقلاني الجميل الموجود في النصوص والتشريعات الإسلاميّة، مستعيناً بالجهود العقلانية التي توصلت إليها الحضارة الغربية نفسها، وهذه الاستعانة لم تكن تعني مرجعية النتاج الغربي عند المطهري حتى يضعه شاهداً على مدعياته، بقدر ما كانت تعني عنده أخذاً أحياناً بالقواسم الفكرية البشرية، وتوظيفاً لقواعد الجدل من جهة أخرى، وإلاّ فالأفكار التي أثارها المطهري، كانت ذات جانب تأصيلي، غير بعيد عن الغرب كل البعد، وهذا هو ما يميّز المطهري عن الدكتور علي شريعتي، فالأساس المعرفي الذي انطلق منه شريعتي كان علم الاجتماع بمعطياته الحديثة، وهي معطيات غربية، ولهذا كان الالتحام الغربي / الشرقي عند شريعتي في قراءته للدين الإسلامي، ومنه تشريعه، إلتحاماً بارزاً، أما المطهري، قد تأسست منظومته الفكرية من داخل الامتداد التاريخي الفلسفي، ومن فلسفة الملا صدرا بالخصوص، وكانت البنية المعرفية بنية طباطبائية، تجلّت في تعليقته على «أسس الفلسفة»، وهذا الفارق البنيوي على الصعيد المعرفي، هو الذي خوّلنا القول: إن المطهري استعان بمنجزات الغرب لتوظيفها في جدل ثقافي داخلي دفاعي بالدرجة الأولى. أما شريعتي، فقد استعان بها لإعادة قراءة الموروث الإسلامي.

وحينما نقول ذلك، لا نقصد أن المطهري لم يمارس إعادة قراءة للموروث مستعيناً بالنتاج العقلاني الغربي، كما لا نقصد أن شريعتي لم يوظف النتاج الغربي لتصفية حساب داخلي مع أولئك الذين بهرهم الغرب، وإنما نقصد أن السمة الغالبة والطابع العام كان كذلك.

ورغم أن المطهري تعرّض لانتقادات في تلك المرحلة من جانب التيار المدرسي الديني، بسبب توجهه نحو الغرب، وإدراجه الأفكار الغربية في كتبه كما تشير إلى ذلك التعليقات المدوّنة على كتابه «مسألة الحجاب»([61])، لكنه كان صلداً جداً أمام تلك الحملات، فقد رأى أن ذلك يشبه وضع الرأس في التراب، والفرار من المسؤولية([62])، مصراً على أن توظيف المنجزات الغربية في النطاق التشريعي الإسلامي (مسألة الحجاب أنموذجاً) ليس أمراً سلبياً عندما تجري تغطيته بقراءة دينية أصيلة.

ويقيم المطهري انفتاحه هذا وفلسفته للأحكام على قاعدة من الداخل تقضي بوجود مصالح ومفاسد واقعية في متعلّقات الأحكام، ومن ثم تكون القوانين الإسلامية ـ كما يعبر المطهري ـ أرضية سماوية معاً([63]).

هذا الانفتاح الإسلامي على الغرب ومنجزاته، وعدم الخوف والقلق من تلك المنجزات كما مارسه المطهّري، استمر بعده أيضاً، لكن الذي حصل ـ في الأوساط الشيعية بالخصوص ـ هو أن العلماء النهضويين الذين تصدّوا لتقديم صورة عقلانية للتشريع الإسلامي، محاولين فلسفة الأحكام الإسلامية، شعروا بصدمة تركت آثاراً تثير اليوم جدلاً ولغطاً.

فقد تحوّلت التفسيرات العقلانية التي قدّمها هؤلاء مسارياً نحو الخلف، فبعد أن كان الاستنتاج الفقهي للحكم الشرعي عمليةً تخضع لضوابط كلاسيكية معروفة، ويستنتج الحكم الفقهي طبقاً لهذه الضوابط التي قرر أغلبها في علم أصول الفقه، ليصار بعد الخروج بالنتيجة إلى فلسفة الحكم نفسه، في عملية لا تهدف إلى اكتشاف الحكم بقدر ما تهدف إلى توظيف الجهد الفلسفي هذا، لخدمة تأكيد الحكم في الأوساط العلمية والجماهيرية؛ أي إن مشروع فلسفة الأحكام ـ كما كان يريده مطهري أيضاً ـ مشروع بَعدي، يفترض فيه الفراغ عن إثبات الحكم الشرعي، وبالتالي فلا تساهم عملية الفلسفة هذه في إثبات الحكم مرة أخرى أو من البداية... بعد أن كان الأمر كذلك، ظهر تيار ينادي بإسهام هذه الفلسفة في استنباط الحكم الشرعي نفسه، وذلك انطلاقاً من نظريات كان أبرزها:

نظرية المستقلات العقلية([64]): وقد اعتقد هذا التيار المعاصر، بأن الفقه الشيعي وأصوله، تعاملا مع المستقلات العقلية (ما يستقل به العقل العملي) تعاملاً نظرياً، ولم يُمنَح هذا العقل حركته ميدانياً عدا في عموميات لا تأثير معتد به لها كقبح الكذب وحسن الصدق، وقبح الظلم وحسن العدل و...، وقد نادى هذا الفريق بإشراك العقل في هذه المساحة، وهو إشراك تبدو قضايا فلسفة الأحكام ذات دورٍ فعال فيه.

نظرية اكتشاف الملاك: وقد رأى أصحاب هذه النظرية، أننا قادرون على اكتشاف الملاكات الموجودة في الأحكام إذا ما استثنينا دائرة العباديات كالصلاة والحج ونحوهما([65])، وأنه لابد من تخفيف تلك الهالة الغامضة التي حاول العقل الفقهي الإغراق فيها محيطاً الأحكام الشرعية بها لتبدو الملاكات من خلالها مستحيلة الرؤية.

هذا كلّه على خط إسهام فلسفة الأحكام ـ وفق تصوّري المتواضع ـ في ترك بصمات على استنباط الحكم الشرعي بصورة إيجابية، أما الصورة السلبية، فلم تكن بعيدة أيضاً، فقد استخدمت فلسفة الأحكام لا سيما عناوين العدل والإنصاف و… معاول قوية لهدم جملة من النتائج الفقهية لمعارضتها لروح العدالة [وغيرها من المفاهيم المتشابهة]، فقد اعتبر العلاّمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن العدل أحد ما سمّاه الأدلة العامة في التشريع، محاولاً بذلك الإطاحة بأيّ استنتاج فقهي يصب في خانة الظلم الاجتماعي([66]).

وهكذا، تحوّلت المكتشفات العقلانية في الأحكام الشرعية إلى وسائل استنباطية جديدة لدى بعض الفقهاء والباحثين لا سيما فيما يخص موضوعة المرأة والفقه السياسي، لتدخل مفردات جديدة إلى ساحة الاستنباط لم يعترف بها الجميع حتى الآن، وما تزال مثار جدل، وأخذٍ وردّ بين الفقهاء المسلمين، وقد اجتاحت نتيجة ذلك، العالمَ الشيعيَّ، موجاتٌ الحديث عن مقاصد الشريعة، ومحاولة الحديث عن جذور لهذه النظرية في عمق الامتداد الفقهي الشيعي من خلال تعابير راجت بين الفقهاء كمذاق الشارع، وروح الشريعة وغير ذلك…

وليس غرضنا من هذا الاستعراض تأييد طرف، بقدر ما نريد أن نقول: إنه من الصعب الاعتقاد بأن المطهري كان ينتمي إلى تيار يزيد على مجرد فلسفة الأحكام بعد إثباتها، وأن توظيفه هذه الفلسفة كان (لا أقل في حدود التتبع) في الغالب في درجة لاحقة على عملية الاستنباط نفسها.

والذي يؤكّد إلى حد معين هذه المقولة، إعادة تكرار المطهري ـ لدى مناقشته القائلين بضرورة الحكم اليوم بحلّية أكل لحم الخنزير بعد أن اكتشف العلم المادة المايكروبية فيه (تريشين)، وتمكّن من القضاء عليها ـ إعادة تكراره الجواب النمطي في علم أصول الفقه الإسلامي، والذي يقول: بأن اكتشاف ضررٍ ما أو علةٍ ما للحكم لا ينفي وجود علةٍ أخرى، وجدها المطهري في المثال السابق ـ اعتماداً على بعض الروايات ـ في عنصر نفسي سلوكي، وهو عدم الغيرة([67])، فإن هذا الجواب (مع الأخذ به وبقطع النظر عن مديات صحته) يكشف عن صعوبة وصول فلسفة الأحكام إلا قليلاً إلى درجة التدخّل في تكوين الفتوى الشرعية، ولذلك يقول المطهري بأن الاجتهاد غير المختمر هو ذاك الاجتهاد الذي يكتشف علةً ما نافياً بمجرّد ذلك ما عداها([68]).

من جانبٍ آخر، واجهت جهود العلماء ـ ومنهم المطهري ـ على صعيد فلسفة الأحكام إشكالية ثانية، تبدّت في الاختبارات الميدانية التي واجهتها بعض نظرياتهم العقلانية، فجهود البنك اللاربوي والنظريات الثرّة التي عرِضت على هذا الصعيد مثلاً لتدافع عن البنك الإسلامي، واجهت تحديات ميدانية في أكثر من بلد، اكتشفت خلالها أن الصيغة التي قُدِّمت عن أحكام الربا والبنوك (أي فلسفة الأحكام وصورتها النظرية العقلانية) شكَّلت بداية أوّلية فقط، كشفت عن أن أصحابها أثاروا أفكارهم أحياناً كثيرة، بعيداً عن تجربة حيّة؛ لأن تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية كانت مفقودةً تقريباً. وقد أدّى ذلك إلى شيء من ضمور القوّة الإقناعية الموجودة في هذه الفلسفات؛ لأن إشكاليات الواقع كانت أقوى أحياناً من الصورة الجميلة التي قدمتها النظريات.

وفحوى هذا الكلام، هو أنّ جماع تحدّيات الواقع، وتحوّلات الثقافة التي أعقبت انهيار المعسكر الاشتراكي، وحالات الإحباط الشديد التي سيطرت على قطاعات واسعة من المجتمع الإسلامي عقب حرب الخليج الثانية، يَفْرِض على الباحث المعاصر ـ الهادف لخوض معترك فلسفة الأحكام والتنظير لها ـ إعادة إنتاج أرضيات بحثه، وآلياته، وأدواته، واكتشاف مخاطبيه من جديد، وتفهّم المشكلة الحقيقية في بعدها الزمكاني، وإلا فإن خطاباً شبيهاً بخطاب المطهري أو الصدر أو مغنية أو قطب، إذا ما تمّ الجمود عليه، ليس بإمكانه اليوم، عرض مشروع متكامل للاستحقاقات الجديدة، الأمر الذي بات يفرض تجاوز الأطر المعرفية التي انطلقوا منها؛ أي ضرورة قراءتهم كتراث بغية تجاوزهم لا إلغائهم.

وانطلاقاً من ذلك، على ورثة تيار العقلنة في الفكر الإسلامي السير مسيراً مستقبلياً لا ارتجاعياً، معتمدين الابتداع أساساً لا الاتباع منهجاً، حتى تأخذ الخطوات صيرورتها التكاملية، وحتى لا تكون التجربة ذات البعد الزمكاني كتجربة المطهري (وهو بعدٌ لا يلغي قيمتها بقدر ما يعطيها مداها الحقيقي) قانوناً يجري تسنينه ليبتلع مناخات لا يستوعبها.

وإنّ ما نثيره مطلبٌ دافع عنه المطهري نفسه، حينما أقرّ فرانسيس بيكون على وصفه السلف الصالح والجيل السابق بالصنم، حيث رأى المطهري أنّ ما يعيق إنتاج العقل ويجرّه نحو الضلالة ـ بحسب تعبيره هو ـ أمران:

أ ـ السلف، وهو ما حاربه القرآن دائماً وعموم الأنبياء^ تحت شعار رفض تقليد الآباء.

ب ـ أكابر المعاصرين، الذين يستشهد المطهري للنهي عن الرجوع إليهم بنحوٍ من الاتباع الأعمى ببعض الشواهد القرآنية التي لا داعي لذكرها([69]).

 

4ـ الاجتهاد والمجتهد في تصوّر الشهيد مطهرّي

كَثُر الكلام ـ خصوصاً في الآونة الأخيرة ـ عن الاجتهاد، تعريفه، شروط المجتهد، الفتوى والمرجعية، الاجتهاد والمعاصرة و…، وقد كان البحث حول مقوّمات الاجتهاد والعلوم الدخيلة فيه، وكذا شروط المجتهد وتعريف الاجتهاد وشروط المرجع… سابقاً على هذه الفترة، فقد عالج الفقهاء كثيراً من هذه الإشكاليات في دراساتهم الفقهية منذ قرون بعيدة([70])، لكن تحدّيات الواقع المعاصر، فرضت إعادة النظر في كثير من مفاهيم ومقولات «أبحاث الاجتهاد والتقليد»، لم يكن آخرها مفهوم الأعلمية وامتداداته، وقد كان إسهام الإمام الخميني واضحاً في هذا المجال، فقد أحدث تغييرات في مفاهيم الاجتهاد، والمرجعية و…، محرّكاً تياراً قوياً أقصى إلى حدٍّ ما جيلاً من الفقهاء المدرسيين.

وقد أسهم الشهيد مطهري في قراءات جديدة ـ في عصره ـ لمفهوم الاجتهاد، كانت تتسم حينها بالجرأة، لقد تمثّل المطّهري المقولة التي كان أطلقها إقبال اللاهوري حين عرّف الاجتهاد بأنه القوّة المحرّكة للإسلام، لهذا نظر المطهري إليه كقوّة محرّكة يفترض بها تغيير الواقع أكثر من توصيفه([71])، والذي نلاحظه من جملة كلمات له ـ إذا أردنا فهرستها وتنظيمها ـ أنه حمل تصوراً عن الاجتهاد والمجتهد استبطن ـ علاوةً على ما أشرنا إليه عند الحديث عن الإخبارية وثنائية الاجتهاد والتقليد ـ النقاط التالية:

1ـ من أهم الملاحظات النقدية التي سجّلها المطهري على الاجتهاد بمفهومه السائد، هو التركيز في الأوساط العلمية على مادة أصول الفقه وكذلك الفقه أيضاً، وقد ترك ذلك أثره ـ فيما يراه المطهري ـ على مجمل الدراسات الإسلامية، فقد أُعرض عن علوم الحديث والرجال والتفسير و…، ليظهر ضعف شديد على صعيد هذه العلوم، وقد دعا المطهري إلى عودة هذه العلوم إلى الأوساط الحوزوية، وإلى أن تأخذ مكانها المناسب([72]).

وقد ساد اعتقاد ـ وما يزال له وجود ـ بأن علوماً من قبيل التاريخ والحديث والعقيدة والتفسير والقرآنيات والأخلاق و... لا حاجة لدراستها وإنما يكفي فيها عنصر المطالعة، وكأن هذه العلوم سهلة يسيرة لا تحتاج إلى كثير جهد ونظرٍ وبحث وتأمّل، وامتدت هذه النظرة الدونية لأولئك الذين اشتغلوا بمثل هذه العلوم، كما كانت هناك نظرة دونية مشابهة للمثقف عموماً، ولمن يتابع الأحداث الثقافية المعاصرة المتحرّكة، حتى أن عنوان «مثقف» كان عنواناً دونياً إلى حد معين، وما تزال هذه العقلية موجودة ـ مع الأسف ـ في بعض الأوساط العلمية، تقابلها في أوساط علمية أخرى ـ كما في الجامعات ـ نظرة دونية مشابهة إلى الجهود الفكرية للحوزات العلمية وعلماء الدين، الأمر الذي ينسف كل مشروع يهدف إلى ـ لا أقل ـ تقريب الحوزة والجامعة، التراث والحداثة.

2- اعتقد المطهري بأن الدخول في عالم الفرضيات كان نتاجاً للاستغراق الذي حصل في دراسة علم الأصول، فقد ابتعد المجتهد عن الواقع، وأخذ يشغل نفسه بفروض قد لا يواجهها المكلف إلاّ نادراً جداً كفروض الشك (كما يذكره المطهري) فيما تبقى مئات بل آلاف المشكلات الفكرية والعملية بلا حلّ، وقد مثل المطهري لهذا الأمر بالمباحث الأصولية التي اعتنت بشكل كبير بشبهات أبي جعفر ابن قبة الرازي (محمد بن عبد الرحمن) المتوفى أواخر القرن الثالث الهجري، معتبراً أن هناك شبهات أهم وأعظم وأكثر اليوم، وملاحظاً أن هذه الظاهرة من مخلّفات مدرسة الرأي القديمة في العراق([73]).

وهذه الفكرة عموماً حملها جيل من الفقهاء النهضويين وأثاروها في كتبهم، وقد سجّلها ملاحظةً على كتاب العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي، السيدُ الشهيد مصطفى الخميني، حيث ذهب إلى أن الكتاب «فيه من العبارات غير اللائقة، ومن التكرار المملّ، ومن تكثير الفروع بما لا حاجة إليه»([74]).

وفي الحقيقة، ورغم أن المشكلة الأولى التي أثارها المطهري أخذت بالانحسار بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران؛ اذ شاعت دراسات الفلسفة، والعرفان، والكلام، والقرآن، والحديث، والتاريخ و… بشكل كبير وواسع، غير أنّ المشكلة الثانية ـ رغم التقدّم الذي حصل ـ ما تزال مستفحلة، فالأوساط العلمية الدينية ما تزال تعاني منها؛ اذ إن جولةً سريعة على الدراسات الفقهية في الحوزات العلمية تدلّ على أن الباحثين المعنيين بالمشكلات الجديدة على الصعيد الفقهي والأصولي عنايةً جادة هم قلّة قليلة، وهذه إشكالية حقيقيّة يطالب الجميع بتجاوزها.

3ـ لا يخفي الشهيد مطهري إعجابه بشخصية السيد حسين البروجردي (1961م) التي تأثّر شديداً بمنهجها الفقهي، لتكون واحدةً من شخصيات ثلاث كوّنت الشخصية المعنوية والفكرية للمطهري إلى جانب الإمام الخميني (1988م) والعلامة الطباطبائي (1983م)([75])، فهو معجب بالجولان الرجالي للسيد البروجردي على الصعيد الشيعي والسني معاً([76])، وهذه قضية هامة، كما أنها شاملة، فربما لم يعد من المقبول اليوم وسط الأجواء الفكرية المعاصرة، الاجتهاد في نطاق مدرسة فقهية واحدة، بل لابد للفقيه أن يخبر المدارس الفقهية ويصول ويجول فيها سواء كانت شيعية أم سنية، وإذا كان السيد البروجردي ينظر إلى هذا الأمر من منظار أداتي؛ حيث يرى في معرفة فقه أهل السنّة ورواياتهم وسـيلةً لفهم نصـوص الأئمة^، فإن خطاباً جديداً يمكن تبنيه بقوة يطالب بقراءة نتاج الآخر بغية الخروج باستنباط معتمدٍ على رؤية شاملة، وهي رؤية تقوم على الكشح عن النمطيات التي غطت رؤيتنا للآخر ونتاجاته لتحيلها إلى جسم هزيل، واستبدال هذه النمطيات بفهم تعددي بلورالي يجد فيها الكثير من عناصر الدفع والقوّة.

إن الطرح الذي أثاره المطهري ـ وعلماء غيره أيضاً ـ لقراءة فقه السنة، وعلم الحديث والرجال عندهم، وإن لم نتمكن من تصنيفه لحساب الرؤية الأخيرة التي أشرنا إليها، بيد أنه يشكل خطوة متميزة في زمن كانت قد دخلت فيه الفقهيات الشيعية إطاراً مدرسياً محدداً، أفقدها في كثير من الأحيان القدرة على قراءة شمولية للتراث الفقهي وما خَلْفَه من نصوص.

ومن هنا، نبدو اليوم مضطرين للدعوة إلى فقه إسلامي، دون أن تعني دعوة كهذه التفلّت من القواعد المقررة في الفقه المذهبي الخاص عند من يؤمن به، بقدر ما تعني إثراء هذه القواعد والعمل على مزيد الإسهام في ترشيدها، الأمر الذي كانت للمطهري ـ كما لمحمد باقر الصدر ومحمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد جواد مغنية([77]) ـ أدوار مشكورة فيه.

4ـ وفي سياق الترشيد الفقهي العام، تأتي دعوة المطهري، لمجالس فقهية تعتمد الشورى، وتعيش على النقاش وتبادل الآراء، الأمر الذي يساهم في تخفيف حدة الاختلافات الفتوائية بين الفقهاء أنفسهم كما يراه المطهري نفسه([78]).

وفي الحقيقة، هذه الدعوة التي أطلقها المطهري قبل ما يقرب من نصف قرن، في محاضرته حول الاجتهاد في الإسلام، لتبدو حيةً اليوم تستصرخ عاملين بها، فما تزال ظواهر التبعثر في الجهود الفقهية موجودة، رغم خطوات إيجابية لا ينبغي إنكارها، وما تزال حركات التواصل المستمر بين الفقهاء والباحثين من الأجيال المتعددة مفقودة و بتعبير أدق منقوصة، الأمر الذي يجعل من دعوة كهذه دعوةً حية اليوم، لمؤتمرات أو ندوات، أو ملتقيات أو منتديات فقهية، أصولية، رجالية، حديثية و… لا يشارك فيها فحسب فقهاء الدرجات الثالثة والرابعة و… وعموم الطلبة وفضلائهم… بل حتى الفقهاء الآخرون لتثار فيها بجدية ـ لا على نحو المجاملات ـ نقاشات فاعلة تستهدف أكثر الموضوعات المعاصرة حساسية وأهمية؛ لكي لا تكون مستحدثات المسائل التي نعالجها اليوم بهذا العنوان، من قديمها، فيما تدخل المستحدثات الحقيقية دائرة مستحدثاتنا بعد أن تصبح قديمة.

 

5 ـ الفتوى، وثلاثية المصلحة، والاحتياط، والواقع

في أواخر دراسته المخصّصة لمعالجة موضوع الحجاب، وبعد أن يتعرّض المطهري لبعض الفتاوى المتعلقة بأحكام الستر([79])، يثير موضوعاً هاماً وحساساً، نعتقد بأنه يتصل من جهة بمسؤولية المرجع، كما يلتقي من الجهة الأخرى مع الواقع، إنه موضوع إظهار الفتاوى وكتمانها.

يرى المطهري، أن كتمان الفتوى التي توصّل إليها الفقيه المتصدّي لمقام المرجعية أمرٌ حرام، متمسكاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾، قارئاً في أسلوب الآية لحناً شديداً جداً قلّ استخدام مثله في القرآن الكريم([80]).

لكن المطهري يقرّ من جهة أخرى، بأن موضوع إظهار الحقيقة (ومنها الفتوى) يخضع بدوره لخدمة الحقيقة نفسها، فإذا كان الإظهار يخدم الحقيقة (الفتوى) كان لازماً، وأما إذا كانت الظروف تجعل من الإظهار إضراراً بالحقيقة (الفتوى) نفسها، فإن الكتمان لأجل مصلحة الحقيقة يصبح مشروعاً([81]).

ووسط جدلية معطى الآية المتقدمة، ومبدأ خدمة الحقيقة، يقف المطهري موقفاً ميدانياً (يخص باب الفتاوى)، ليقرأ كتمان الفتوى (جواز كشف الوجه والكفين وشراء الراديو كمثال يثيره المطهري) من زاوية المصالح والمفاسد، فبعد استعراضه حجة القائلين بضرورة كتم فتاوى كهذه (وهي حجة ما تزال مستخدمة)، والقائمة على أن عموم الأفراد يستغلون مثل هذه الفتاوى للوصول إلى ما هو أزيد، ككشف باقي الجسد، أو استخدام الراديو لأغراض محرّمة، يذهب المطهّري إلى التشكيك في هذه المعادلة، ليؤكد في الطرف الآخر أمراً بالغ الأهمية([82]).

إنه يقول: بأن تخيل الرجال والنساء تحريم كشف الوجه يفضي بهم (وهذه حقيقة عملية ملموسة قد لا يشعر بها إلاّ أشخاص خبروا أوضاع الناس كالمطهري) حيث يكشفون الوجه أو ينظرون إليه، إلى كشف باقي الجسد أو النظر إلى الشعر و... ([83])، ذلك أن الفرد العادي، يشعر بالإحباط والفشل حينما يعجز عن القيام بتكليف شرعي ما، ويؤدي به فشله هذا إلى الإفلاس أمام بقية الأحكام، فيكون إيـهامه بفتوى تحريمية تخصّ كشف الوجه مفضياً ـ حيث يعجز عن الالتزام بذلك ـ إلى الإحساس بعدم جدوى ستر باقي الجسد مع كشفه للوجه. وبالتالي، سيصبح كشف باقي الجسد أمراً متجرأً عليه نتيجة إحساس المكلف بأنّ محرماً شبيهاً تم التجرؤ عليه أيضاً، وكأن المكلف العادي يقيِّم أفعاله على قاعدة: إما ان انجح بمعدل المئة في المئة أو استحق الصفر، فعندما يجد نفسه شارباً للخمرة، يترك الصلاة؛ ذلك أنه يشعر بعدم جدوى الصلاة مع شرب الخمرة، وهكذا تشعر المرأة بعدم جدوى ستر الجسد مع كشف الوجه حينما يتم إيهامها بحرمة كشفه.

وفي الحقيقة، ما يثيره المطهري واقع ما يزال قائماً في الأوساط العلمية، يشارك ـ إلى جانب عوامل أخرى([84]) ـ في حالة من التضخم في ظاهرة الاحتياط في الفتاوى، فمع الإقرار بأن الاحتياط مبدأ أصيل لاسيما في الحياة الدينية، بيد أن مقررات علماء أصول الفقه أنفسهم تقضي بتجمد حسن الاحتياط حينما يؤدي هذا الاحتياط إلى اختلال النظام ومخالفة الاحتياط نفسه([85])، وحينما نراجع الرسائل العملية الغاصّة بمئات الاحتياطات نعرف ـ حينما ننظر إلى الاحتياط بمنظار اجتماعي كما يراه السيد محمد باقر الصدر([86]) ـ كم يؤدي هذا الاحتياط إلى مخالفة الاحتياط نفسه كما هو المنقول عن السيد مصطفى الخميني. وأخذاً بعين الاعتبار ما أثاره المطهري، يتضح أن هذه الاحتياطات تضرّ بمصالح الفتوى أكثر مما تخدمها، وأن الاحتياط يبقى ظاهرة صحيّة حينما لا يتجاوز الحد المنطقي والمعقول([87]).

إن كتمان الفتاوى، لتُلبس لباس الاحتياط، يفترض أن ينظر إليه كظاهرة اجتماعية، لا كتصرّف فرد محتاط، كما أن التصدّي لمقام المرجعية والإفتاء للناس منصبٌ يفترض فصله عن منصب الاجتهاد نفسه، فالمرجع مطالب ـ إلى جانب النشاطات العلمية التي يقوم بها ـ بإصدار فتاواه بطريقة تربوية، وهذا الجانب التربوي في شخصية المرجع / المفتي، يُلزِمه باختبار الواقع ودراسته بعمق، حتى تؤدي احتياطاته (التي تقول المعادلة العلمية إنها ليست فتوى، لكن الواقع العملي يصيّرها كذلك أحياناً كثيرة) إلى إيقاع المكلّفين في الحرج والضرر و... وخلق ذهنية تحريم، تدفع المجتمع كله إلى العيش في ظل ضغط مستوعب، تماماً كما هي المسؤولية التي يتحمّلها الفقيه إزاء موضوع الطلاق القضائي الذي حُكم عليه بالموت الميداني نتيجة تحفّظات أودت إلى خلق إشكاليات في الحياة الأسرية والاجتماعية، الأمر الذي لا يفوت المطهري ـ مشاركاً الشيخ محمّد جواد مغنية([88]) ـ المطالبة بتحمّل مسؤوليته كوظيفة من وظائف الفقيه الواعي([89]).

إن الترخيص للمكلفين حينما تكون النتيجة العلمية هي الترخيص، هو بنفسه مطلب، فإن ذهنية التحريم يجب أن توازن وممارسات الإباحة أيضاً، حتى لا يشعر الفرد المتدين بحياة مغلقة تؤثر على نشاطاته وحيويته.

ولا يعني كلامنا هذا على الإطلاق، خلق ثقافة في الأوساط العلمية ـ وهي ثقافة بدأت بالرواج مع الأسف ـ تنحو منحى الرخصة، لتقع في التفريط في الطرف المقابل، وكأنها تشعر بالفخر حينما تحقق تنحيةً لمحرّم فقهي أو واجب كذلك.

ويلاحظ القارئ لهذه الظاهرة، أنها جاءت كردّ فعلٍ على الإفراط المقابل، لهذا كان من الضروري الحذر منها، والسعي لتحويلها من مسار ردّ الفعل، إلى مسار التأسيس والبَنْينَة، إخراجاً لها من ظواهر التدافع السلبي بين التيارات، وتأكيداً على التوازن التشريعي المشار إليه بين الإباحة والحرمة.

إن استبدال هذه الأوضاع، بوضع علمي موزون، والإفصاح عن الحقيقة الفقهية دون مجاملات أو مخاوف، انطلاقاً من وعي دقيق ومستوعب وعملي للواقع، وبعيداً عن تراكمات أو عادات أو... جرى السير عليها... إن ذلك كلّه من شأنه تصحيح مسار الإفتاء، وإعادة الثقة بالفتوى نفسها، دون أن يجرّ إلى استهتارٍ بالمحرّمات، أو تسرّع في الاستنباط، أو إرضاء للشارع العام المسلم، وطبقاً لكل ذلك، إعادة ترتيب الرسائل العملية، ونسق الإجابة عن الاستفتاءات بصورة تقرّب الحكم من المكلّف بدل أن تبعّده، وتخلق علاقة تربوية حميمة بين المفتي والمستفتي، بدل علاقة مفرطة في التفاوت لا يشعر المستفتي فيها أن المفتي حمل همّه أو شعر معه في محنته أو تجربته.

ويبقى الاعتدال في كل هذه الأمور هو الطريق الأنسب والأسلم، بعيداً عن مخلفات الماضي الموروث وضغط الواقع القائم.

 

نتيجة البحث

ونخلص من مجموع ما تقدّم إلى أنّ المحاور التي عمل المطهّري عليها كانت متعددة الجوانب، حيث حاول إيجاد إصلاحات في البني المعرفية لنظم الاجتهاد الفقهي عبر إدخال مجموعة علوم أخرى في وعي الفقيه إلى جانب القناعة بدور المعارف الفلسفية والعلمية في النتائج الفقهية الشرعية إلى حدّ معيّن.

وقد انطلق المطهري من هذا المحور ليساهم في تنشيط الدراسات التاريخية المتصلة بالفقه الإسلامي، تلك الدراسات الغائبة أو المغيبة إلى زمن المطهري عن ساحة الدرس الفقهي في الحوزات العلمية، ورغم أنّ محاولة المطهري لم تكن في الدرس التاريخي بالغة العمق إلا أنها كانت بدايات هامّة سرعان ما وجدناها نشطت في العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي.

وقد حاول المطهري إعادة صياغة نظم الاجتهاد الفقهي في ضوء الأسس الفلسفية التي يؤمن بها، ولهذا عارض المسيرة الإخبارية في الفكر الشيعي الإمامي واعتبرها بالغة الخطورة على سلامة الفقه الإسلامي عموماً، بل على سلامة العقل الشيعي برمّته، لهذا وجدناه شديداً جداً على التيّار الإخباري.

وفي سياق الصراع مع العقل الإخباري، ساهم المطهري في تكوين القراءة التاريخية للنصّ الديني، حيث ربط النصوص الصادرة عن المعصومين^ بالوضع التاريخي، في محاولات أوّلية سرعان ما تفشّى أثرها بعد ذلك.

ولم يبقَ المطهّري في سياق التكوين الفقهي الداخلي بل تعدّى ذلك إلى دور الفقه في الحياة مما جعله يدخل في موضوع فلسفة الأحكام، حيث وجدناه يحافظ من جهة على القناعة الأصولية بعدم قدرة العباد على اكتشاف ملاكات الأحكام لكنه في الوقت نفسه يسعى لفلسفة هذه الأحكام، في محاولة لإضفاء طابع عقلاني عليها، ومن ثم السعي لبلورة نظم من الأحكام وليس معطيات فقهية متفرّقة.

وبهذا الوعي لدور الفقه ومكوّناته تكوّنت عند المطهّري صورة الفقيه والمجتهد الذي لم يكن يره كلاسيكيّاً بل كان يراه إنساناً حياً في المجتمع، محيطاً بمعارف العصر، وواعياً بتحدّيات الحياة.

كما ومن منطلق دور الفقه وتأثيراته، سعى المطهري لتقليص منطق الاحتياط في الفتاوى، للحدّ من التأثيرات السلبيّة على المكلّفين، ولهذا أقام تصوّره للفتوى على ثلاثيّة المصلحة والواقع والاحتياط معاً.

_______________

([1]) نشر هذا المقال في العدد 12، من مجلة الاجتهاد والتجديد، في بيروت، ربيع عام 2003م، ثم نشر في الجزء الثاني من كتاب دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر للمؤلّف، وذلك عام 2011م.

([2]) خصّصت المجلّدات 19 ـ 20 ـ 21 من المجموعة الكاملة لأعمال الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، الصادرة عن دار «صدرا للنشر» في إيران، لقسم الحقوق والفقه، وقد جمعت فيها الدراسات التالية: 1 ـ نظام حقوق المرأة في الإسلام 2 ـ مسألة الحجاب 3 ـ أجوبة الاستاذ على انتقادات مسألة الحجاب 4 ـ الأخلاق الجنسية في الإسلام والغرب 5 ـ أصول الفقه 6 ـ الفقه 7ـ إلهامات من شيخ الطائفة الطوسي 8 ـ مزايا وخدمات السيد محمد حسين البروجردي 9 ـ مبدأ الاجتهاد في الإسلام 10ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 11ـ الجهاد 12ـ الربا والفائدة 13ـ الضمان 14 ـ حول الاقتصاد الإسلامي 15ـ الإسلام ومتطلّبات (حاجات) العصر في قسمين 16 ـ الإسلام وحاجات العالم المعاصر 17 ـ القانون الإسلامي وأشكال التنمية والتحوّل في العالم المعاصر.

([3]) زكي الميلاد، مجلّة الكلمة، العدد: 33، خريف 2001م، الشيخ مرتضى المطهري وإحياء الفكر الديني، ص 17.

([4]) مجموعه آثار استاد شـهيد مطهري (الأعمال الكاملة للشهيد مرتضى مطهري)، ج20، ص69، انتشارات صدرا، إيران، الطبعة الاولى، 2001م، وتجدر الإشارة إلى صدور كتابٍ بعد استشهاد المطهري حول طبقات الفقهاء وهو كتاب «موسوعة طبقات الفقهاء»، وقد صدر تحت إشراف الشيخ جعفر السبحاني، وتأليف اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق×، بثمانية مجلدات حتى الآن، مع مقدّمة مؤلّفة من مجلّدين، وقد عالج الكتاب ـ فيما عالج ـ فقهاء الشيعة مستعرضاً أسماءهم وبعض ما كتب عنهم، وقد وصل الكتاب حتى الآن إلى القرن الثامن الهجري.

([5]) مجموعه آثار، ج20، ص.69 ـ 88.

([6]) المصدر نفسه، ص 159.

([7]) المصدر نفسه، مقدمة لجنة الإشراف على نشر آثار الشهيد مطهري، ص9.

([8]) المصدر نفسه، ص 69 ـ 70.

([9]) المصدر نفسه، ص73 ـ 74.

([10]) المصدر نفسه، ص78 و87.

([11]) الرسالة العملية هي: كتاب يؤلفه الفقيه ويضمِّنه نتائج أبحاثه الفقهية ويعتمده المكلف كمرجع لمعرفة تكاليفه الشرعية.

([12]) المصدر نفسه، ص83.

([13]) المصدر نفسه، ص89

([14]) المصدر نفسه، ص89 ـ 90، وانظر ايضاً ج16، ص 113 ـ 115، في كتاب: الإسلام وإيران.

([15]) المصدر نفسه، ص90

([16]) المصدر نفسه، ص90 ـ 91.

([17]) المصدر نفسه، ص64.

([18]) المصدر نفسه، ص 64.

([19]) انظر دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى، ص50 ـ 52، وانظر حول هشام بن الحكم ورسالته في الألفاظ، رجال النجاشي، ط5، مؤسسة النشر الإسلامي، التابعة لجماعة المدرسين، إيران، 1416هـ، ص433 ـ 434، رقم: 1164، وانظر كذلك، السيد الخوئي: معجم رجال الحديث، ج 19، صص271 ـ 296، رقم: 13329.

([20]) مجموعه آثار، ج20، ص36، كليات علوم إسلامي، أصول فقه.

([21]) مجموعه آثار،ج20، ص 36، كليات علوم إسلامي، أصول فقه، والمصدر نفسه ص ص 138 ـ 141، إلهامي از شيخ الطائفة طوسي.

([22] ) مجموعه آثار، ج20، ص 36.

([23]) مجموعه آثار،ج20، ص ص138 ـ 140، الهامي از شيخ الطائفة.

([24]) انظر حول موقف العلامة الطباطبائي من دور العقل في العقديات وغيرها، كتاب رسالة التشيع في العالم المعاصر، ط1، ترجمة جواد علي كسّار، نشر مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، إيران، 1418 هـ، ص114 ـ 116، وحواراته أيضاً مع كوربان والمنشورة تحت عنوان «الشيعة»، وغيرها من المصادر.

([25]) مجموعه آثار، ج20، دراسته حول مبدأ الاجتهاد في الإسلام، ص168، وكنموذج، فقد عبر عن الإخباريين بأنهم تيار خطير، كما قال: إنه لو لم يقف العلماء في وجه هذه الظاهرة، فلا نعلم ماذا سيكون عليه وضعنا اليوم، وانظر أيضاً 21: 107 ـ 109، الإسلام ومتطلّبات العصر.

([26]) يقول المطهري: «إنّ الإخباريين لا يقولون لنا لا تقرؤا القرآن، أو لا تقبّلوه، إنما يقولون: لا تحاولوا فهمه، إنها ضربة قاصمة وشديدة للعالم الإسلامي عموماً والعالم الشيعي خصوصاً، لقد تفشّت هذه الأفكار حدّاً سيطرت فيه على مفسّري الشيعة أنفسهم فيما بعد لتملأهم رعباً من تفسير القرآن»، انظر: المجموعة الكاملة 21: 109.

([27]) المصدر نفسه، ص 168 ـ 169.

([28]) الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، العدّة في أصول الفقه، ط1، تحقيق محمد رضا الأنصاري، مطعبة ستارة، قم، 1417هـ، ج1، ص 132.

([29]) مجموعه آثار،ج 20، ص 169.

([30]) المصدر نفسه، ص 169.

([31]) المصدر نفسه، ص 180.

([32]) المصدر نفسه، ص ص 179 ـ 180، ومن أمثلة المطهري في موضع آخر (ج21: 329 ـ 333) لهذا الأمر، مسألة تشخيص الأهم والمهم، أو ما نسميه اليوم بالأولويات، إن واحدةً من مشاكل الجهاز الفقهي هذه المشكلة بالذات، فكم من مستحبِّ أضحى ـ كما يراه المطهري نفسه ـ أكثر أهميةً من الواجب، وكم من مكروه صار التشديد عليه أبلغ من التشديد على الحرام، وقد مثّل المطهري لذلك بزيارة الإمام الحسين× المستحبة التي يبذل في سبيلها حتى تجنّب الحرام كالكذب، حيث يقدم المكلف على اقتراف الكذب مرّات ومرّات للوصول إلى هذا الأمر المستحب، حقّاً إنها معركة المصالح الاجتماعية كما يسمّيها المطهري، والتي تجعل الفقيه غير العارف بزمانه، يتجاهل كبريات الهموم والمشاكل واقفاً عند صغرياتها معظماً لها أحياناً، الأمر الذي طالما أقلق الإمام الخميني نفسه (حادثة الخامس عشر من شعبان الشهيرة أنموذجاً).

([33]) المصدر نفسه، ص ص 173 ـ 178.

([34]) الدكتور جورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، ط1، دار الساقي، بيروت، 1998 م، ص59 ـ 60.

([35]) مجموعة آثار، ج 20، مبدأ الاجتهاد في الإسلام، ص 170.

([36]) التحنك هو إرخاء قطعة من العمامة وإدارتها من تحت الحنك.

([37]) المصدر نفسه، 172، وانظر أيضاً 21: 163 ـ 164.

([38]) المصدر نفسه، ص 172.

([39]) مجموعه آثار، ج20، ص 133، إلهامي از شيخ الطائفة.

([40]) محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، تحقيق علي أكبر غفاري، نشر دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388هـ، ج1: 57، ح15.

([41]) المجموعة الكاملة 21: 83، الإسلام ومتطلّبات العصر، وقبل ذلك (80 ـ 81) يشرح المطهري مواقف أئمة المذاهب الأربعة من القياس مشيراً إلى وسطية الشافعي.

([42]) المجموعة الكاملة 20: 133.

([43]) المصدر نفسه، 133 ـ 134.

([44]) المصدر نفسه،

([45]) وتجدر ملاحظة أننا لا ندّعي تبني رأي الشهيد مطهري في التيار الإخباري من الزاوية التاريخية، فمعرفة أنّ المدرسة الإخبارية كانت وبكل اتجاهاتها، تتخذ المنحى الذي انتقده مطهري أمرٌ يحتاج إلى دراسة علمية ـ تاريخية، إلا أنّ مبدأ وجود نزعة من هذا النوع من الزاوية التاريخية (والحاضرة) مسألة يمكن الموافقة عليها، حتى لا نحمّل جميع أنصار الاتجاه الإخباري ما لا يتحمّلونه.

([46]) المصدر نفسه، ص 181، والجدير ذكره أن موضوع تأثير الرؤية الكونية على الاجتهاد الفقهي للفقيه دخل اليوم نطاق علم حديث التأسيس أو في طوره، وهو علم فلسفة الفقه، الذي أثير في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العقد التسعيني من القرن الماضي، انظر حول هذا العلم وحول موضوع تأثير الرؤية الكونية، مهدي المهريزي، مدخل إلى فلسفة الفقه، سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، رقم: 5، ترجمة خالد توفيق، نشر مؤسسة الأعراف، الطبعة الأولى، 1998م، ص 4 ـ 5 و 36 ـ 37.

([47]) السيد محمد علي أيازي، تاريخية النصوص الدينية، (فارسي) نص دراسي جامعي، 2002م، ص 17 ـ 18.

([48]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، إيران، الطبعة الثانية، 1414 هـ، ج11: 493، ح2 (15351).

([49])المصدر نفسه، ج2: 84، والمغني لعبد الله بن قدامة، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، ج1: 75.

([50]) المجموعة الكاملة 21: 162 ـ 163، الإسلام ومتطلبات العصر، وانظر محاضرته تحت عنوان «القانون الإسلامي وأشكال التنمية والتحوّل في العالم المعاصر»، 21: 487.

([51]) المصدر نفسه 21: 296.

([52]) المصدر نفسه 21: 303 ـ 305.

([53]) المصدر نفسه 21: 152 ـ 156.

([54]) الثابت والمتحوّل القانوني، موضوع استوعب الكثير من الكلمات التي أطلقها المطهري في دراسته «الإسلام ومتطلّبات العصر» فراجع المجموعة الكاملة 21: 31 ـ 51 و 120 ـ 156 و 322 ـ 332، وانظر محاضرته الآنفة الذكر من المصدر نفسه ص 456 ـ 458 و 466 ـ 469، وغيرها من المواضع المتكرّرة.

([55]) المصدر نفسه، 21: 333 ـ 337.

([56]) ذكر ذلك لدى حديثه عن الحركة الدستورية بداية القرن العشرين، انظر بالخصوص: المجموعة الكاملة 21: 116 ـ 119 و 126 ـ 127.

([57]) انظر بصدد المصطلح: أسد الله لطفي، تعقل وتعبد در أحكام شرعي (التعقل والتعبد في الأحكام الشرعية)، مجلة فقه (فارسي)، العدد 7 ـ 8، ص 326 ـ 352، وانظر بعض مداليل المصطلح في كتب أصول الفقه، بحث الأوامر، باب التعبدي والتوصلي.

([58]) ثمة صيغة مشروحة لهذا الأمر، ذكرها الشيخ محمد رضا المظفّر في: أصول الفقه، ط2، ج2، ص ص170 ـ 174، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، إيران، 1415هـ.

([59]) انظر بهذا الصدد الدكتور عبدالكريم سروش في كتابه: بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبوية)، ط2، نشر مؤسسة فرهنكي صراط، إيران، ط2، 1999 م، مقالة «راز وراز داني»، سيما الصفحات 355 ـ 374، وقد جاءت خلاصة مترجمة لرؤيته هذه في كتاب الدولة الدينية، للشيخ أحمد الواعظي، ط1، ترجمة حيدر حب الله، نشر دار الغدير، بيروت، 2002 م، ص110 ـ 112.

([60]) انظر كنموذج السيد علي الطباطبائي: رياض المسائل، ج2، ص 406، تحقيق ونشر مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الأولى 1412هـ، وانظر أيضاً، كتاب الطهارة، للسيد الگلبيگاني: 361، نشر دار القرآن الكريم، قم، وله أيضاً تقريرات البيع، ج1، ص 192 وغيرها من الكلمات.

([61]) انظر كتاب «أجوبة الاستاذ للاستفادة على كتاب مسألة الحجاب»، ط1، ترجمة لجنة الهدى، نشر دار الهادي، بيروت، 1992م، وانظر الأصل الفارسي للكتاب في مجموعة آثار، ج 19، ص 567 ـ 624.

([62]) المصدر نفسه، ص 12 و33 و74 و154.

([63]) المجموعة الكاملة 21: 293 ـ 294.

([64]) انظر كنموذج الدراسة الموسعة التي قام بها محمد تقي كرمي في مجلة نقد ونظر، العدد 27 ـ 28: 224 ـ 334، والتي حملت عنوان «ماهيت ووظيفة عقل در فقه شيعة»، وانظر النص المترجم إلى العربية في مجلة المنهاج، بيروت، العددين 27 ـ 28، تحت عنوان «العقل في الفقه الشيعي الماهية والوظائف»، ترجمة كمال السيّد.

([65]) يلاحظ رأي العلامة السيد محمد حسين فضل الله، والعلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والمنشور في مجلة المنطق، العدد 111، الصادرة في بيروت، ويلاحظ كتاب الاجتهاد والحياة، حوار على ورق، حوار وإعداد محمد الحسيني، نشر مركز الغدير، بيروت، الطبعة الثانية، 1997م، ص20 ـ 25 و43 ـ 45 و47 ـ 48.

([66]) الاجتهاد والحياة، مصدر سابق، ص ص 20 ـ 25.

([67]) المجموعة الكاملة 21: 73، الإسلام ومتطلبات العصر، كما يثير المطهري هنا مثال العبادات ومسألة ضرورة أدائها باللغة العربية ص74 ـ 77.

([68]) المصدر نفسه 21: 74.

([69]) المصدر نفسه 21: 84 ـ 85، الإسلام ومتطلّبات العصر.

([70]) انظر على سبيل المثال، كتاب الروضة البهية للشهيد الثاني، كتاب القضاء، وكذلك قسم الاجتهاد والتقليد من الأبحاث الفقهية، كمستمسك الحكيم، وتنقيح الخوئي، ومهذب السبزواري و...، وملحقات بعض الكتب الأصولية من قبيل كفاية الأصول للمحقق محمد كاظم الخراساني و...

([71]) المجموعة الكاملة 21: 158، الإسلام ومتطلّبات العصر.

([72]) مجموعه آثار، ج20، ص 150.

([73]) انظر مجموعه آثار، ج20، ص 144 و151 ـ 152.

([74]) تراث الشهيد الخميني، تحرير العروة الوثقى، السيد مصطفى الخميني، نشر مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، الطبعة الأولى، 1418 هـ، ص7.

([75]) زكي الميلاد، مجلة الكلمة، مصدر سابق، ص 8 ـ 9.

([76] ) مجموعه آثار، ج20، ص ص 149 و153.

([77]) انظر: المعالم الجديدة للأصول، وانظر أيضاً سلسلة: مسائل حرجة في فقه المرأة، للعلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين.

([78]) مجموعه آثار، ج20، ص 184.

([79]) مسألة الحجاب، ص ص 158 ـ 164.

([80]) المصدر نفسه، 164 ـ 165.

([81]) المصدر نفسه،

([82]) المصدر نفسه، 166 ـ 167.

([83]) المصدر نفسه،

([84]) من أبرز العوامل الأخرى في تفشي ظاهرة الاحتياط في الفتوى عاملان، أحدهما: كثرة النقاشات الفقهية وتراكمها؛ ذلك أن سعة النقاش وامتداده الزمني حول نقطة محددة، دون حدوث تحوّل منهجي، يفضي عادةً إلى ضعف ظواهر الجزم بالنتائج، الأمر الذي يتجلّى في سلوك الفقيه المرجع ـ كإنسان متدين ورع ـ في الاحتياط في الفتوى.

والعامل الثاني هو: العلاقة الخاطئة ما بين المرجعية (والمؤسّسة الدينية عموماً) وعامّة الناس، وهي علاقة مارس الشهيد مطهري نفسه نقداً محكماً لها في دراسته التي حملت عنوان «المشكلة الأساس في جماعة علماء الدين»، فطبيعة العلاقة المالية (خمس، زكوات، كفارات...) المباشرة بين علماء الدين وعموم الناس، تضع عالم الدين في موقف حرج عندما يحاول إطلاق فتوى غير مستساغة للعموم، ذلك أن انحسار التأييد الشعبي له، يعقبه شلل في النشاط الاقتصادي لمؤسسات المرجعية، الأمر الذي يجبر الفقيه على تغيير مسار فتاواه ـ بواسطة الاحتياط ـ تجنباً لانهيار مؤسسة المرجعية التي يقف على رأسها، الأمر الذي يلبسه الفقيه عناوين ثانوية ناجزة.

([85]) انظر: الآخوند محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول، ط3، تحقيق ونشر جماعة المدرسين، إيران، 1415 هـ، ص403، والسيد الخوئي في مصباح الأصول، ط2، بقلم السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، منشورات الداوري، إيران، 1412 هـ ص 326 ـ 327 وغيرها من الكتب الأصولية.

([86]) بحوث في علم الأصول، تقريرات درس السيد محمد باقر الصدر، بقلم السيد محمود الهاشمي، نشر مركز الغدير، الطبعة الثانية، 1997 م، ج4، ص 444.

([87]) من جملة من نقد ظاهرة الاحتياط في الفتوى الشيخ محمد جواد مغنية، كما يلوح ذلك لدى تعرّضه لموضوع الحكم بنجاسة أهل الكتاب، في «فقه الإمام جعفر الصادق×»، دار الجواد، بيروت، الطبعة الرابعة، 1982م، ج1، ص31 ـ 34، وله كلام شديد هناك فليراجع.

([88]) انظر فقه الإمام جعفر الصادق، محمد جواد مغنية 6: 50 و 54.

([89]) المجموعة الكاملة 21: 314 ـ 316.