الجهاد الابتدائي الدعوي في الفقه الإسلامي ـ قراءة استدلالية في مبادئ العلاقات الدولية
حيدر حب الله(*)
تمهيد
تتصل قضية الجهاد الابتدائي اتصالاً وثيقاً بقراءة الإسلام للعلاقة مع الآخر، فهذا الجهاد ـ بالمفهوم السائد في التراث الفقهي ـ يؤسّس لعلاقة الحرب مع غير المسلم، أو ما يسمّى بأصالة الحرب في الإسلام، فطبقاً للقول بوجوب الجهاد الابتدائي مرّةً على الأقل كلّ عام فإنّ المجتمع الإسلامي ـ مادام قادراً ـ سيظلّ يعلن الحرب على الآخرين حتى لو لم يعلنوا هم الحربَ عليه، حتى أنّ الفقه الإسلامي تحفّظ ـ عند العديد من الفقهاء ـ على توقيع معاهدات سلام مع غير المسلم لمدّة تزيد في الحدّ الأقصى عن عشر سنوات، وهذا معناه أنّ الدولة الإسلامية ملزمة ـ حال القدرة ـ على شنّ هجمات متواصلة على الآخرين لا تنتهي سوى بإسلامهم أو قتلهم أو إخضاعهم.
من هنا، كان هذا الموضوع بالغ الحساسية والأهمية، ويشكل أهم مبدأ دستوري تقوم عليه العلاقات الدولية في الإسلام، ويتصل مباشرةً بالحريات الدينية في العالم، وقد استغلّه الكتّاب والباحثون الغربيون وغيرهم لتوجيه النقد على الإسلام وثقافته التي نعتت بالهجومية العدوانية، وكان جزءاً لا يتجزءاً من تكوين ما يسمى بـ (الإسلام فوبيا). ولا يعنينا نقدهم أو تجريحهم أو تهجّمهم إذا ثبت بالدليل المنطقي المعتبر أنّ الله أراد ذلك منّا فيما نفهمه من العقل والنصوص الدينية، إنّما المهم أن نبحث هذا الموضوع، الذي قلّما تعرّض الفقهاء القدامى لأصل شرعيّته؛ لهذا افترضوه واضحاً، ولا نجد عندهم كثير جدلٍ وكلام في مبدأ الجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة في الإسلام؛ من هنا، يمكن أن يُبحث هذا الموضوع مجدّداً من زاوية فقهية اجتهادية تقرأ الأدلّة الشرعية، لتنظر في مديات دلالتها على هذا النوع من الجهاد.
والبحث في الجهاد الابتدائي يقع على مرحلتين: إحداهما تعريف هذا الجهاد وتحديد مفهومه ومقوله، كي لا يحصل التباس في النقطة التي يدور حولها البحث والتنقيب، وثانيهما في حكمه من حيث الشرعية وعدمها ومن حيث الوجوب وعدمه، وفي الإطار الثاني نبحث تارةً عن شرعية هذا الجهاد وكذلك دليل وجوبه، ثم نبحث مرّةً أخرى في الأدلّة على عدم شرعيته من رأس ووجود ما يمنع تسويغه في النصوص الدينية والأدلّة الفقهية، لكن ونظراً لسعة البحث وطوله نقتصر هنا ـ بعد تحديد مفهوم الجهاد الابتدائي ـ على دراسة نظرية شرعيّته وتقييمها، تاركين البحث في أدلّة عدم شرعيته إلى فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.
1 ـ الجهاد الابتدائي الدعوي التحريري، البُنية والمفهوم والحقيقة
يقصد بالجهاد الابتدائي، ابتداء المسلمين للكافرين بالحرب بهدفٍ واحد هو الدعوة إلى الإسلام وبذل الجهد لجعلهم مسلمين أو خاضعين للمسلمين، فإن كان الكفّار مشركين أو مطلق غير أهل الكتاب، وضعوا أمام خيارين هما: القتل أو الإسلام، وإن كانوا من أهل الكتاب وضعوا أمام خيارات ثلاثة: إما أن يسلموا، وإما أن يخضعوا ويصبحوا من أهل الذمّة فيدفعون الجزية، وإما أن يُقتلوا([1])؛ ولهذا السبب يسمّى هذا الجهاد أحياناً بجهاد الدعوة، وجهاد التحرير؛ لأنه يحرّر النفوس من الكفر، أي إن الهدف منه دعوة الكفار للإسلام، فسبب البدء به ليس اعتداء الكفار، بل كفرهم؛ فلتطهير الأرض من الشرك وبسط يد الإسلام على المعمورة ـ بحيث لو ظلّ الكفر ببعض أنواعه يبقى تحت هيمنة الإسلام ـ يقوم هذا الجهاد.
هذا هو المشهور المعروف في معنى الجهاد الابتدائي، وإن لم يفرد أكثر العلماء تعريفاً اصطلاحياً للجهاد في كتبهم الفقهية، بل لقد عدّه الفقهاءُ الجهادَ الأصليَّ في الإسلام، فيما ألحقوا به ـ إلحاقاً ـ الجهاد الدفاعي، يقول الشيخ النجفي (1266هـ): «لا ريب في أنّ الأصليّ منه قتال الكفار ابتداءً على الإسلام.. ويلحق به قتال من دهم المسلمين منهم، وإن كان هو مع ذلك دفاعاً..»([2]). ويقسّم الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228هـ) الجهاد إلى خمسة أقسام، يعود أربعة منها في الحقيقة إلى الجهاد الدفاعي، فيما الخامس هو الابتدائي فيقول: «الخامس: جهاد الكفر والتوجّه إلى محالهم؛ للردّ إلى الإسلام، والإذعان بما أتى به النبي الأمي المبعوث من عند الملك العلام، عليه وآله أفضل الصلاة والسلام»([3]). ويقول الميرزا القمي (1231هـ): «وأما الحقيقة الفقهية، فالذي هو موضوع كتاب الجهاد في أكثر الكتب الفقهية، هو الجهاد مع الكفّار حال حضور الإمام وبإذنه، وكذا مع البغاة كذلك، وقد ذكروا حكم قتال من دهم من الكفّار بحيث يخاف منه على بيضة الإسلام والمسلمين من الاصطدام والاستيصال، فيه استطراداً...»([4]) ، فهذا النصّ واضح في أن أحكام الجهاد المسطورة في أكثر كتب الفقه الإسلامي ترجع إلى غير الجهاد الدفاعي الذي يدهم فيه المسلمين عدوّ، ومثل ذلك يقول الشهيد الثاني (965هـ): «وهو أقسام: جهاد المشركين ابتداءً؛ لدعائهم إلى الإسلام.. والبحث هنا عن الأوّل، واستطرد ذكر الثاني [الدفاعي] من غير استيفاء..»([5]) ، فالدفاعي جاء بحثه استطراداً أيضاً، ويقول الشيخ المنتظري: «وقسّم الفقهاء الجهاد إلى قسمين: الجهاد الابتدائي، والجهاد الدفاعي، وأرادوا من الأوّل قتال المشركين والكفار لدعائهم إلى الإسلام والتوحيد والعدالة..»([6]). ويقول ابن رشد الحفيد (595هـ): «اتفق المسلمون على أنّ المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ـ ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب ـ هو أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، وإما إعطاء الجزية..»([7]). وفي كتاب الفتاوى الهندية للشيخ نظام ـ وهو من كتب الحنفية ـ جاء: «كتاب السير.. الباب الأوّل: في تفسيره شرعاً وشرطه وحكمه، أما تفسيره، فالجهاد هو الدعاء إلى الدين الحقّ والقتال مع من امتنع وتمرّد عن القبول، إما بالنفس أو بالمال..»([8]) ، وقال الحصكفي (1088هـ) في تعريف الجهاد: «الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله»([9]).
من هنا، نلاحظ على العديد من الفقهاء أنّه عندما عرّف الجهاد في مقدّمة بحثه في كتاب الجهاد لم يعرّف سوى الجهاد الابتدائي، ولا أقل من التركيز عليه أكثر([10])؛ مما يشي بأن المرتكز في وعيهم أنّه هو المفهوم الأصيل للجهاد، الأمر الذي يعيد تشكيل تصوّرنا عن الوعي الفقهي لمفهوم الجهاد، وأنّ الجهاد الابتدائي إنّما غُيّب بسبب ضعف قدرات المسلمين عن الحرب، لا بسبب عدم وجود مفهوم له في الفقه الإسلامي، وهذه نقطة بالغة الأهمية.
وقد جاء التعبير بـ«الجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة أو جهاد التحرير أو جهاد الطلب» متأخراً بين الفقهاء والباحثين، ولم يكن هذا المصطلح رائجاً، إنما كانت معانيه تُفهم من خلال كلامهم، وإذا تمّ البناء على وجوب هذا الجهاد من جهة وعدم اشتراطه بحضور المعصوم من جهةٍ أخرى، بناءً على ما ذهب إليه جماعة من المتأخرين([11])، والقول باشتراطه كلّ عام مرّةً، ينفتح بحث هام جداً نسمّيه: أصالة الحرب أو أصالة السلم في الإسلام، وهو المبدأ الأوّل في العلاقات الدولية في الفقه الإسلامي؛ إذ طبقاً لهذه الأحكام الثلاثة قد يقال بأصالة الحرب، وأنّ السلم يحتاج إلى عنوان طارئ هو المعاهدة أو الذمة أو.. وعليه فبحث الجهاد الابتدائي من أهمّ مباحث فقه الجهاد والعلاقات الدولية في الإسلام.
وقد أخذ مفهوم هذا الجهاد بالتحوّل لدى بعض الفقهاء والباحثين في القرن العشرين شيعياً وسنياً، مثل القول: إنه الجهاد حال منع الدولة الكافرة من نشر الإسلام فيها، فيكون جهاداً لتحقيق الحرّية أو دفاعاً عن حقوق الإنسان في المعتقد، أو دفاعاً عن التوحيد، أو تحريراً للإنسان من عبودية غير الله، أو ممارسةً للأبوّة المشفقة على الناس لهدايتهم وغير ذلك([12])، مما يرجع إلى ما يسمّى في عُرف الدراسات القانونية الدولية بالتدخل الإنساني، مع الالتفات إلى وجود بعض ملامح هذه التحليلات في كلمات بعض العلماء السابقين، مثل ابن تيمية الحراني([13])، ثم ظهر من لم يقبل هذا التحويل لمفهومه فأخذه كما هو أو رفضه مطلقاً([14]).
2 ـ نظرية شرعية الجهاد الابتدائي ووجوبه
يكاد وجوب الجهاد الابتدائي ـ فضلاً عن شرعيته ـ أن يكونا من مسلّمات الفقه الإسلامي، سوى كلمات قليلة توحي بعكس ذلك، كما فيما ينسب إلى الإمام الثوري وابن شبرمة، وابن عمر، وعطاء، وعمرو بن دينار... من عدم وجوب غير الدفاعي([15])، وهو يحتمل مشروعية الابتدائي، وسقوط وجوبه فقط. وقد بلغ وضوح الأمر حداً أنّ الفقهاء لم يبذلوا جهداً مركّزاً للبرهنة عليه، وكأنهم اتفقوا على أن نصوص الكتاب والسنّة عندما تحدّثت عن الجهاد إنما قصدت هذا النوع منه؛ لذلك لم يجدوا حاجةً للبرهنة عليه بعنوانه، إذ أصل وجوب الجهاد في الإسلام من الواضحات التي يعرفها كلّ من قرأ الإسلام بمصادره، حتى قال الإمام الشوكاني (1250هـ): «أما غزو الكفار، ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام، أو تسليم الجزية، أو القتل، فهو معلوم من الضرورة الدينية، ولأجله بعث الله رسله ...»([16]).
ولابدّ لنا من بحث هذا الموضوع؛ إذ في ضوئه يُفهم باب الجهاد بأكمله، ويُعرف لماذا عندما تحدّثوا عن شروط الجهاد حصروها بالابتدائي؟ إذ إنهم كانوا يرون الدفاعيّ على الهامش غير مركّز عليه ـ بالدرجة عينها ـ في الكتاب والسنّة؛ من هنا، لابدّ لنا من ذكر أدلّة الجهاد الابتدائي، وتناولها بجديّة أكبر، لنرى ما توصلنا إليه، وهي:
أدلّة نظرية شرعيّة الجهاد الدعوي، استعراض وتقييم
1 ـ 2 ـ المستند القرآني لنظرية الجهاد التحريري الدعوي
في سياق المستند القرآني، يمكن تقريب الاستدلال من خلال عدّة بيانات:
أ ـ النصوص القرآنية الخاصّة المشرعنة للجهاد الابتدائي
البيان الأوّل: الاستناد إلى آيات خاصّة اعتبرت ظاهرةً في تشريع الجهاد الابتدائي، وقد ركّز عليها أنصار نظرية جهاد الدعوة([17])، وأبرزها ما يلي:
الآية الأولى: وهي آية السيف كما يسمّيها بعضهم، قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29).
فهذه الآية تأمر شديداً بالقتال، وهي من أواخر آيات الجهاد، ولا ترى غايةً لتوقف الحرب سوى إعطائهم الجزية، أي خضوعهم لسيطرة المسلمين، وإلا تواصلت الحرب معهم، اعتدوا على المسلمين أم لم يعتدوا، وبهذا الفهم للآية غصّت كلمات العلماء هنا بلا حاجة لنقلها، وقد فهم العديد منهم أن الجزية في الآية وضعت عقوبةً من الله تعالى على أهل الكتاب، لعنادهم الحقّ، وكفرهم بما جاء به الرسول|([18])، وقد استدلّ بعض الفقهاء بهذه الآية للسماح بقتل الشيوخ والعجزة، حتى لو لم يكن لهم رأي ولم يقاتلوا المسلمين، نظراً لإطلاق الآية هنا([19])؛ بل تخطى بعضهم إلى احتمال أنّ الغاية في الآية غايةٌ لوجوب مقاتلة أهل الكتاب، فتفيد سقوط وجوب مقاتلتهم عند إعطائهم الجزية، وهذا لا يمنع عن جواز مقاتلتهم ولو قدّموها، ومن ثم فالآية لا تمانع من الإطاحة بوجود أهل الكتاب من العالم حتى لو استعدّوا لتقديم الجزية([20])، وهو ما يخالف ما ذكره مثل النووي من أن الآية وضعت نهايةً للإباحة([21]).
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة: 5).
فهذه الآية صريحة في الدلالة على أن المشركين يُقاتَلون وبشدّة حتى تتحقق منهم التوبة المتجلّية تماماً في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والذي هو تعبير كنائي عن إسلامهم، ففي الآية بيانٌ للغائية المرسومة للجهاد، كما أنّ فيها مفاداً شرطياً، وهو أنّهم إذا أسلموا خلّيَ سبيلهم، ومعنى ذلك ـ بمقتضى مفهوم الشرط ـ أنهم إذا لم يسلموا فلا تخلية لسبيلهم، بل الحرب والأخذ والقبض عليهم يبقى سائراً سارياً، إما على نحو الوجوب كما هو ظاهر كلمات العلماء أو على نحو الإباحة من خصوص هذه الآية، كما هو ظاهر الشربيني في مغني المحتاج([22])؛ فالآية من الآيات الواضحات على هذا الحكم هنا، وأنّ قتالهم لكفرهم، وهذه هي روح الجهاد الابتدائي([23]).
وباجتماع هاتين الآيتين قد نفهم بعض مبرّرات الحكم المعروف بين الفقهاء في التمييز بين أهل الكتاب وغيرهم؛ فإن الآية الأولى التي تحكي عن أهل الكتاب جعلت منتهى الحرب إعطاء الجزية، ومن الواضح أنّ دخولهم في الإسلام يوقف الحرب بالتأكيد، فإذا كانت الجزية توقفها فالإسلام يفعل ذلك بطريق أولى، مما يجعل الاحتمالات في حقّ أهل الكتاب ثلاثة: القتل أو الإسلام أو الجزية، وهي تعبير آخر عن صيرورتهم أهل ذمّة أو معاهدين خاضعين.
أما في الآية الثانية، وهي الآية التي يتركّز خطابها في المشركين، فهي تجعل منتهى الحرب التوبة، أي الإسلام، مما يجعل الخيارات المطروحة في موضوع المشرك أقلّ: إما القتل أو الإسلام، وهذا ما يطابق ـ كما أسلفنا ـ وجهة النظر الفقهية السائدة.
وأكثر من ذلك، حيث ذهب المتمسّكون بهذه الآيات ـ لاسيما هاتين ـ إلى اعتبارها ناسخةً نسخاً تاماً لكافّة الآيات التي تتحدّث عن الجدال بالتي هي أحسن والدعوة إلى سبيل الإسلام بالحسنى والكلمة الطيبة وأنه لا إكراه في الدين والحث على الصلح والسلم، إلى غيرها من المفاهيم السلمية، فتكون بتمامها منسوخةً، مما يعزّز كون الأصل في معاملة الكافرين هو الشدّة والقتال لا اللين والحوار الحسن وما شابه ذلك.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ (البقرة: 193)، بل الأرفع منها دلالةً قوله:
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (الأنفال: 39).
فهذه الآية تضع حدّاً للحرب، وهو «ارتفاع الفتنة»، والمراد بالفتنة ـ كما ذهب إليه أكثر المفسّرين من الصحابة والتابعين، كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وزيد بن أسلم و.. ـ الشرك، وهو المعروف أيضاً، أو الكفر كما ذكره جماعة([24])، ومعناه أنّه يجب عليكم قتالهم كي لا يكون هناك شرك، والملفت في الآيتين أن تعبير «فتنة» قد ورد نكرةً في سياق النفي، أي أنّه يجب عليكم القتال إلى أن ينعدم الشرك في الأرض مطلقاً، فلا يبقى مظهرٌ له، إذ النكرة في سياق النفي تفيد العموم في لغة العرب، بل تفيد شمول تمام معاني الفتنة أيضاً([25])، بل تكملة الآيتين توضح المطلوب أكثر؛ حيث إنها تتحدّث عن صيرورة الدين لله، بمعنى أنّ الغاية ليست محض القتل وسفك الدماء، بل صيرورة الإسلام هو الدين الظاهر الغالب، وهذا كلّه كلام صريح في أنّنا إنّما نحاربهم لا لأنهم اعتدوا أو لم يعتدوا فحسب، بل لكي يزول الشرك ويعلو صوت الإسلام غالباً عالياً.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 7).
فهذه الآية تؤسّس أحد المبادئ في معاهدة المشركين، وهو سقوط تمام المعاهدات معهم، فلا عهد لهم ولا سلام معهم، ومعنى ذلك أنّ الأساس معهم ـ طبقاً لأواخر ما نزل في الجهاد ـ هو عدم العهد، فيكون العهد أمراً ثانوياً طارئاً يراه حاكم المسلمين لضرورات وحالات استثنائية، لا أنّه الأصل الذي تقوم عليه العلاقة مع المشرك، إذاً، فلا عهود معهم، ولا معنى لذلك إلاّ أن يحاربوا أو يغدوا مسلمين، والآية رتبت الحكم على وصف المشرك دون أن تزيد قيداً آخر، مما يجعلها في صيغة الإخبار تقريباً عن أنّ المشركين بعد اليوم إلى يوم القيامة لن يحفظوا عهداً ولن يفوا بوعد، وهذا ما يؤكّده تاريخ العلاقة بين المسلمين والكافرين على امتداد الزمن، حتى المعاصر.
أما ذيل الآية، فهو يطالب المؤمنين بالمحافظة على عهدٍ واحد فقط وقع مع الجماعة التي اتفقوا معها عند المسجد الحرام، فهذه الجماعة الخاصّة يطالب الله المؤمنين بالوفاء بعهدهم معها ما داموا وفوا بالعهد، فهذا هو العهد الوحيد الواجب الوفاء به، فهذا الاستثناء لا يبطل القاعدة في صدر الآية، بل يؤكّدها.
وقد عزّز أصحاب هذا الاتجاه([26]) تفسيرهم لهذه الآية بما تلاها من آية: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلَّاً وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (التوبة: 8)، فهي تؤكد عدم استحقاق المشركين بعد اليوم للعهد، والسبب في ذلك ـ كما يخبرنا الله سبحانه ـ أنّهم لا يفون بالعهود ولا يفوّتون فرصةً للانقضاض على المسلمين، فهذا إنباءٌ إلهي إلى يوم الدين أنّ هذه الفئة من الناس لا أمان لها ولا عهد، إذاً فلا سبيل معهم سوى الحرب إلى أن يسلموا.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 123)؛ فهذه الآية صريحة في أنّ الحرب هنا ليست لردّ العدوان أو الحرابة، بل لفتح البلاد، فهي تقول بوجوب قتال من يلي المسلمين منهم، بحيث يُبدأ بالأقرب فالأقرب، من هنا أشار بعض المفسّرين ـ كالقرطبي وابن كثير و..([27]) ـ إلى أنّ النبيّ| قد طبق هذه الآية بأن بدأ بالعرب، ثم لما استسلمت له أقاليم الجزيرة، بدأ بالروم والفرس وهكذا([28]).
كانت هذه أهمّ الآيات الكاشفة عن معيارية الكفر في شنّ الحروب في الإسلام، وأنّ استراتيجية الجهاد في القرآن إنما هي استراتيجية دعوية بامتياز.
وقفات تحليلية نقدية مع نصوص جهاد الطلب في القرآن الكريم
هذا البيان للاستدلال القرآني على شرعية الجهاد الابتدائي يواجه مجموعةً من الملاحظات، أبرزها:
الملاحظة الأولى: إنّ آية الجزية التي استدلّوا بها على الجهاد الابتدائي بملاك الكفر تبطل نظرية أصحابها، لأنّها تجعل منتهى الحرب، ليس الإسلام وإزالة الكفر من على وجه الأرض، بل خضوع الطرف الآخر لنظام الجزية، ونظام الجزية يجامع بقاء الكفر في العالم، فكيف يمكن أن تلتئم أجزاء هذه النظرية التي ترى الحرب في الإسلام بملاك الكفر لا الحرابة، مع آية الجزية التي تقبل انتهاء الحرب بإخضاعهم ولو لم يسلموا؟ فأين هو تحقق الملاك؟ وكيف كانت الحرب مقدّمةً له؟([29]).
وهذه الملاحظة دقيقة من جانبٍ دون آخر، فهي دقيقة من حيث إفساد نظريّة الكفر في الحرب، لكنّ ذلك لا يساوق إبطال الجهاد الابتدائي، وبعبارةٍ أخرى يجب التمييز بين أمرين هنا هما: شرعية الجهاد الابتدائي، ورجوع ملاك هذا الجهاد إلى نشر الدعوة وإبادة الكفر، فآية الجزية ـ بالبيان الذي تقدم للمستدلّ ـ تفيد في إبطال أيّ تصوّر يقول بأنّ غاية الحرب في الإسلام إبادة الكفر تماماً، إلاّ أنّها لا تبطل أساس الجهاد الابتدائي لهيمنة الإسلام على العالم بالقوّة بقطع النظر عن تحديد ملاك هذه الحرب، فإذا كانت الآية قد رأت نهاية حرب اليهود والنصارى في دفعهم الجزية لا في ردّ عدوانهم فهي تدلّ على شرعية الابتدائي حتى لو لم نستطع البرهنة بها على تحديد ملاك الحرب.
بل يمكن الترقي أكثر بالقول: إنّ القول بأنّ ملاك الحرب هو الكفر لا الحرابة يحتمل معنيين: أحدهما كون الكفر لوحده سبباً لاندلاع الحرب، سواء كان يهدف من الحرب إلغاء الكفر أو إبقاءه مع هيمنة الإسلام مادياً عليه. ثانيهما: كون الكفر سبباً للحرب بمعنى إرادة إلغائه من وراء قيامها؛ فعلى التفسير الثاني تصحّ الملاحظة المذكورة، أما على التفسير الأوّل فلا، بل قد يدّعي الطرف القائل بملاك الكفر أن إبقاء أهل الكتاب لا ينافي كون الجهاد لدعوتهم إلى الإسلام لا لردّ عدوانهم، وذلك أن خضوعهم للدولة الإسلامية يمثل مقدّمةً رئيسة لنشر الإسلام في أوساطهم ـ كما يقول الرازي وابن العربي وغيرهما([30])ـ ومعه يصحّ أن يقال: إن الجهاد كان طريقاً لنشر الدعوة، إما فوراً كما هي الحال مع المشرك، أو عبر الواسطة كما في حالة أهل الكتاب.
وعلى أيّة حال، فلا تلغي المناقشة المذكورة ـ لوحدها ـ طبيعة استدلال المستدلّ بآية الجزية على شرعية الجهاد الابتدائي، ولسنا نحتمل كثيراً أن يقصد هذا المستدلّ قتل تمام الكافرين، فإن نظام الذمّة الذي يُبقي على ديانات أهل الكتاب من واضحات الفقه الإسلامي بمذاهبه؛ من هنا نتحفّظ على فعل من خلط في تحليل كلمات العلماء بين عدم جعلهم القتل أصلاً في التعامل مع الكفّار، وبين كون القتال أصلاً في علاقتنا بهم؛ فهذا خلط بين موضوعين([31])، وكلمات مثل ابن تيمية واضحة في هذا التمييز([32]) . يضاف هنا أنّ السيد الخوئي حاول رفع معيارية الكفر في آية الجزية بأنّ القرآن فرّق بين المشركين وأهل الكتاب، فالمشرك يحارب بسبب كفره، دون أهل الكتاب الذين لابدّ أن يصدر منهم شيء حتى يحاربوا، كحربهم للمسلمين أو كعدم إعطائهم الجزية، فعدم إعطاء الجزية بمثابة فعل يقوم المسلمون بردّ الفعل عليه وهو الحرب، وهذا ما تريده آية الجزية([33]).
لكن هذا الكلام غير واضح، فإن دفع الجزية كناية عن الخضوع والنزول تحت سيطرة المسلمين، وهناك لا معنى لفرض وجود طرف آخر يقوم بفعل ونحن نردّ عليه، وإلا فهل يأمر الإسلام بمحاربة أهل الكتاب فقط لأجل الحصول على المال؟! وهل صحيح ما ذكره القرطبي وغيره من أنّ الأمر بمنع المشركين من دخول الحرم الذي فيه خوف الفقر والعيلة عوّضهم الله عنه بالتزامه بقانون الجزية([34])، رغم أنه لا يوجد دليل على الربط بين الآيتين؟! وهل هو تفسير عقلائي أن نعتبر عدم إعطاء مجتمع بشري معين أموالاً لنا دون أن يكون قد فعل شيئاً ضدّنا بمثابة فعل فيما محاربتنا له هو ردّ الفعل، دون ملاحظة مبرّرات أخرى؟!
الملاحظة الثانية: إنّ آية الجزية وكثيراً من آيات الكتاب وردت بصيغة «المقاتلة» لا «القتل»، فلم تقل: اقتلوا، بل قاتلوا، وهناك فرق لغوي بينهما، فالأولى بمعنى وجود من بدأ الحرب لتصحّ صيغة المفاعلة؛ فيما الثانية لا تفترض ذلك، مما يجعل أيّ آية فيها صيغة المقاتلة ظاهرة في رفع العدوان، وبدء الطرف الآخر بالحرب مسبقاً، فلا تدلّ على شرعية الجهاد الابتدائي([35]). وقد حاول بعض الفقهاء ـ كما في بدائع الصنائع ـ أن يستفيد من هذه الصيغة لإثبات أن الآية تفترض أهلية القتال في الطرف الآخر؛ فلا تشمل المجنون والصغير والأنثى و..([36]) ، وهذا ما يصبّ ويلتقي مع روح هذه الملاحظة وإن لم يطابقها، لانفراده بالأهلية وذهابها إلى الفعليّة.
وسوف تكون لنا وقفة مركّزة حول الفرق بين «قاتل» و«قتل» لدى الحديث عن الروايات في هذا الباب، حيث ورد بعضها بهذه الصيغة، فنؤجل ذلك إلى محلّه، حيث سيتبيّن عدم صحّة هذه الملاحظة في الجملة.
الملاحظة الثالثة: إنّ آية انسلاخ الأشهر الحرم، قد يدّعى وجود قرائن عديدة فيها وشواهد تخرجها عن سياق تأسيس شرعية الجهاد الابتدائي بملاك الكفر، وهذه الشواهد هي:
الشاهد الأوّل: إنّ الآية اللاحقة لهذه الآية تقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 6)، وهذا معناه أنّه لو كان القتل والحرب بسبب الكفر لكان المفترض الحكم بقتله بعد كلّ هذا التشدّد في آيات سورة براءة، إذاً فليس من تفسير للاستجارة هنا سوى أنّ المشرك إنما دخل دار الإسلام مسالماً لا معلناً الحرب وعدوانياً، والجدير ذكره هنا أنّ الآية لم تجعل سماع كلام الله هدفاً للمستجير، بل جعلت إجارته من جانب المسلم ذات هدفٍ رسالي، أي إن استجارك لسببٍ ما فأجره حتى يكون في إجارته ما يوجب سماعه كلام الله فلعلّه يُسلم، إذاً فهي شاملة لمطلق الاستجارة بغية أن يتعرّف على حياة المسلمين علّه يهتدي، كما أنّ الآية صريحة في المشرك الذي لا مجال فيه إلاّ للإسلام أو القتل، فبأيّ وجهٍ جاز إبلاغه مأمنه رغم بقائه على كفره؟!([37]).
وهذا الشاهد ـ بهذه الصيغة ـ يقبل النقاش؛ من حيث إنّه لما كان الجهاد الابتدائي جهاد دعوة، كان من الطبيعي أن يركّز على موضوع الدعوة ويكون مجرّد سبيلٍ لها، وعليه فالآية عندما تسمح بالاستجارة لهدفٍ دعوي لا تكون منافيةً لمبدأ تشريع الجهاد الابتدائي، فقوله: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ﴾ ، سواء كان غايةً لقبول الاستجارة فقط، كما ذكر المستدلّ بهذا الشاهد هنا، أو كان غاية للطرفين كما ذكره جمع من المفسّرين، هو ما يرفع المنافاة هنا، وبعبارةٍ أخرى: لمّا أرادت الشريعة من قتال المشركين نشر الإسلام وتطهير الأرض من الشرك، كان من الطبيعي أن تسنح بالفرصة كي يُسلم المشرك، ولهذا أشارت للغاية، مما يعني أنه لولاها لم يجز قبول أمانه الذي يطلبه، وأما مسألة جواز إبلاغه مأمنه رغم بقائه على كفره فهذا أمر طبيعي احتراماً لعقد الأمان، بمقتضى: ﴿أَوْفُواْ بِالعُقُودِ﴾ ، ولا يضرّ بمبدأ لزوم قتله؛ فإن أمانه هنا كان لدليلٍ حاكم هو العقد الشرعي المتفق عليه معه، ولا ضير في تشريع حرب مع احترام العهود فيها، كالسفير المحترم؛ وبهذا يظهر أنّ مبرّر عدم قتل هذا المشرك ليس سلميّته وعدم عدوانيته كما قيل، بل غرضيّة الدعوة ووفاء بالعقود، فهذا هو المقدار المؤكّد من الآيات هنا.
نعم، يمكن أن يُستفاد من هذه الآية أنّ الإسلام يفضّل إسلام الطرف الآخر على قتله، وشاهد ذلك أنّه في أشدّ آيات الجهاد قوّةً وتشدّداً يفسح المجال لإسلام الطرف الآخر، وذلك أنّها تأمر بقبول استجارة الكافر لا أنّها تعلّق الأحكام على قبولها، فهي تقول: ﴿فأجره﴾، أي إن استجار وجبت إجارته بغية دعوته للدين، مما يجعل إسلامه أهمّ ومقدّماً على قتله، لهذا لم تقل: «فأجرته» كما هو واضح، بناءً على تفسير الأمر هنا بالوجوب لا بالإباحة لوقوعه موقع توهّم الحظر.
هذا، وقد ادّعى بعض أنصار الجهاد الابتدائي أنّ آية الاستجارة منسوخة بآية انسلاخ الأشهر الحرم التي وقعت قبلها أو بغيرها من آيات الجهاد الحاسمة، لكنّ أحداً لم يقدّم شواهد تاريخية على هذا النسخ بحيث يلغي الآية، وعليه، يرجع تحديد النسخ إلى طبيعة ملاحظة الآيتين، والذي نجده فيهما أنّه لا تنافي بينهما إطلاقاً، فالأولى تصدر حكماً عاماً بحقّ جماعة المشركين بالقتل، فيما الثانية تصدر حكماً خاصّاً ﴿أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ ، محصوراً بصورة طلب الأمان، فموضوع الآيتين مختلف، نعم آية الاستجارة أخصّ من آية انسلاخ الأشهر الحرم، فالمفترض أن تخصّصها وقد وقعت معها ضمن سياق واحد، ولو فرض أنهما نزلتا منفصلتين واجتمعتا في المصحف على هذا النحو فلا دليل ـ كما يقول العلامة شمس الدين([38]) ـ على تحديد المتأخر والمتقدّم، حتى يدّعى نسخ الأولى للثانية، مع أنّ المفترض في دعوى النسخ إثبات هذا الأمر.
والنتيجة أن دعاوى النسخ الاعتباطية كثيرة في كتب التفسير عند المسلمين، فالآيتان لا تناقض بينهما، فقد قبل الفقه الإسلامي عقد الأمان الفردي واحترام السفراء رغم أنّ الحرب قائمة، إذاً لا موجب لدعوى النسخ هذه.
الشاهد الثاني: الآية اللاحقة على آية الاستجارة، قال تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾، فهذه الآية تبقي على عهد المسلمين للمشركين، فلو صحّ أن مثل آية انسلاخ الأشهر الحرم ناسخة لتمام آيات موادعة المشرك لكان المفترض الإطاحة بهذا العهد الذي وقع عند المسجد الحرام أيضاً، إذاً فحتى بعد جعل القتال أصلاً كانت المعاهدات نافذة المفعول، وليس من معنى لذلك سوى عدم كون الكفر معياراً للحرب، وإلا وجب قتال حتى المعاهدين لفرض كفرهم، بل العدوانية هي المعيار هنا([39]).
وقد سجّل بعض أنصار هذا الشاهد نقداً على أنفسهم بأنّ هذا العهد الذي تستثنيه الآية كان سابقاً على آية انسلاخ الأشهر الحرم؛ لهذا احترمه القرآن، والذي ندّعيه المنع من اليوم فصاعداً عن استخدام سياسة المعاهدات معهم، واستبدالها بسياسة القتال، وهذا غير الوفاء بمعاهدة سابقة، فهو مثل ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ (النساء: 22، 23).
وقد أجاب الناقد نفسه بأنّ هذه الملاحظة غير واردة؛ لأنّ المفروض أن مثل آية السيف تلغي المعاهدات السابقة، فهذا هو سياق النصوص الأولى من سورة التوبة، فعدم إلغائها شاهدٌ على احترامها([40])، بل لا معنى للنسخ حينئذٍ.
وهذا الشاهد يمكن أن يلاحظ عليه أنّ معنى الآية ليس أنّهم لم يستقيموا لكم لكن استقيموا أنتم لهم، كما قد يستوحى للوهلة الأولى، بل معناها استقيموا لهم ما استقاموا لكم([41])؛ فحرف «ما» هنا ليس للنفي، بل بمعنى «ما داموا»، وهذا المعنى ينسجم مع الواقع؛ حيث يراد من هذه الجماعة بقية فئات العرب التي دخلت مع قريش العهد يوم الحديبية، ولم تخلفه، بل أخلفته قريش وبنو الدئل من بكر، وبقيت على العهد بنو خزيمة، وبنو مدلج، وبنو ضمرة و..
إذن، وطبقاً لهذا المعنى، تستثني الآية المعاهدات السابقة التي وفى أصحابها، احتراماً منها للعهود، دون أن يعني ذلك رخصة في العهود الجديدة، ولا يوجد إلغاء للمعاهدات السابقة في غير صورة إلغاء الطرف الآخر لها أو خوف خيانته، فالتمييز بين العهود القديمة السابقة والجديدة اللاحقة بهذا المعنى تمييز معقول ومتصوّر، ولهذا قال أنصار الجهاد الابتدائي: إنّ هذا الاستثناء يؤكّد القاعدة ولا يلغيها.
نعم، مقولة النسخ المدّعاة تغدو باطلة هنا؛ لأنه لو حصل نسخٌ لكل أوامر الموادعة مع الكافر فلا معنى لشرعية حتى العهود السابقة، بل المفترض أنّها نسخت عملياً، ولا نجد خصوصيةً تعبديّة لتلك الجماعة المتبقية من صلح الحديبية، مما يكشف عن عدم وجود نسخ أصلاً في المقام.
الشاهد الثالث: ما جاء في الآية اللاحقة: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلَّاً وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (التوبة: 8). فهذه الآية وقعت ضمن السياق نفسه، وهي تبيّن سبب موقف القرآن منهم ومن إبطال عهودهم والتنزّه عنها، إذ تؤكّد أنّ هذا الفريق يتربّص بالمسلمين وينافق في حقهم، وأنه ما زال مصمّماً على أذيّتهم، من هذا المنطلق كان هذا الموقف القرآني متشدّداً منه ـ أي من هذا الفريق ـ مطلع سورة براءة. وهذا الشاهد وما سبقه من شواهد جاء عقب آية الانسلاخ مباشرةً ولا شاهد على تقدّمه الزماني؛ فلا وجه لادعاء النسخ فيه([42]).
وهذا الشاهد جيّد، خصوصاً لآية نفي العهود التي سبقت هذه الآية، والتي لا يبعد وحدة النـزول معها، مع فهم الإخبار في الآية عن وضع تاريخي لا عن قضية حقيقية، كما سوف نذكر لاحقاً بعون الله، نعم يبقى أن يحتمل التعدّد في النـزول هنا، بمعنى نـزول هذه الآية منفصلةً عن آية انسلاخ الأشهر الحرم، فلا يصحّ حينئذٍ جعلها قرينةً وشاهداً، فعدم ثبوت تقدّمها أو تأخرها لا يؤكّد تقارنها معها، وإن كانت وحدة النـزول وانسجام السياق يعزّزان ذلك.
لكن حتى مع هذا الشك وعدم التأكّد من وحدة النـزول، يمكن إبطال الاستدلال بآية انسلاخ الأشهر الحرم باحتمال القرينة المتصلة، حيث لا يبعد تمسّك العقلاء بالشك في اتصال القرينة وانفصالها لرفع اليد عن الظهور الأولي المخالف للقرينية، فينعقد الإجمال في آية الانسلاخ من هذه الزاوية، ولا يعود يمكن التمسّك بها، وبعبارة ثانية: نحن لا نعرف هل كانت الآية الثامنة قرينة متصلة بحيث نزلت مع آية الانسلاخ أم قرينة منفصلة نزلت بعدها أو قبلها؟ فعلى الاحتمال الأوّل سيتمّ تماماً الشاهد الأخير، وعلى الاحتمال الثاني لن يكون تاماً؛ لأنّ ظهور أي جملة يتمّ بتمام القرائن المتصلة فلا يعود للآية الثامنة تأثير على دلالة الآية محلّ الشاهد، فمع الشك في الاتصال والانفصال سوف نشك في أنّ هذا الموجود بين أيدينا ـ وهو الآية الثامنة ـ هل هو قرينة أم لا؟ ومعه لا تجري أصالة عدم القرينة، كما تقرّر في أصول الفقه، بل الصحيح هو الإجمال بمقدار دلالة القرينة.
الشاهد الرابع: جملة الآيات اللاحقة المتحدة السياق، والتي تعطي ميزةً جديدة، وهي: ﴿اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلَاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلَّاً وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ﴾ (التوبة: 9 ـ 13).
وميزة هذا السياق تأكيده على أنّ هذا الموقف الغاضب كان لنقضهم العهود، وداخل ذلك ـ ومعه ـ تؤكد على لزوم الوفاء لهم بالعهود على تقدير عدم نكثهم الأيمان، فالتركيز على نكث العهود والأيمان شاهد على أنّ الموضوع موضوع فئة خرقت الاتفاقات وكانت هي المعتدية البادئة، ومع سياق من هذا النوع ـ حتى مع الشك في الاتصال ـ كيف يمكن الجزم بأنّ النص هنا يتحدّث بالمطلق، ويطوي صفحة المعاهدات والتوافق حتى يؤمنوا، لاسيما وأنّ هذه المجموعة من الآيات قد كرّرت مسألة التوبة ضمن السياق المذكور، مما يشير إلى أن شرط التوبة لا يعني جعل باب الحرب مفتوحاً، بل معناه أنّ هذه الفئة التي لا عهد لها بسبب كثرة نقضها للعهود وتربصها بالمؤمنين لا نهاية في الحرب معها إما الموت أو أن تُسلم، لا بمعنى أنّ هدف الحرب معها هو الإسلام، بل بمعنى أن تحقق الإسلام ـ حيث قال: إن تابوا ولم يقل: كي يتوبوا أو ليتوبوا ـ يحول دون استمرار الحرب، وفرق بين الأمرين، علماً أن الآيات نفسها تشير إلى بدء الطرف الآخر بالاعتداءات وإخراج الرسول أيضاً، وهذا كلّه يضع آيات مطلع سورة التوبة في ضمن سياق دفاعي.
وحصيلة الكلام في آية الانسلاخ ـ بحسب أسباب نزولها وبحسب سياقها الكامل حتى مع الشك في اتصال القرينة ـ أنها تعلن الحرب التي لا نهاية لها سوى بالقضاء على الطرف الآخر، لكنّها لا تريد شمول حكمها لكل غير مسلم هادفةً إسلامه أو إخضاعه، بل هي مختصّة بفريق من الكافرين لا يفون بالعهود ولا يكفّون ـ متى استطاعوا ـ عن الاعتداء، فأرادت تحقيق حالة ردع تنهي خطرهم فيها، غايته أنّه لو أسلموا انتهت الحرب معهم، لا أنّ هدف الحرب كان إسلامهم، ولا أقلّ من عدم الظهور في هذا المعنى، ومفاد الشرطية يظلّ سارياً هنا؛ لهذا فتفسير «المشركين» في آية الانسلاخ بـ «الذين نقضوكم وظاهروا عليكم» كما فعل العيني في عمدة القاري([43]) هو المتعيّن.
والإشكالية التي وقع فيها أنصار الجهاد الدعوي هنا أنّهم ظنوا الآيات إخباراً على نحو الإنباء الغيبي غير المحدّد بزمان ولا مكان، فيما الآيات ظاهرة في الحديث عن فرقة خاصّة تظلّ تهدّد أمن الجماعة المسلمة مهما وقّعنا معها من عقود، فهذا هو السياق التاريخي واللفظي المحيط بمطلع سورة براءة، ومن أين لنا أن نعمّم لمطلق المشركين بحيث يكون المقصود هنا حتى المشرك الذي كان موجوداً في شرق آسيا آنذاك؟! فلا دليل على كون الألف واللام في (المشركين) للجنس، بل الأقرب ـ ولا أقلّ أنّه القدر المتيقّن ـ أنّه إشارة لمشركي العرب الخارجيين الذين كانوا يواجهون عمليّاً الدعوة الإسلامية وكان سلوكهم الغدر ونقض العهود بصورة متكرّرة كما حصل تاريخياً، فغير هذا يحتاج إلى دليل.
الملاحظة الرابعة: إن الآية الرابعة التي ذكروها، وهي الآية السابعة من آيات سورة التوبة، قد تبيّن عدم صحّة الاستدلال بها، فهي لا تريد إلغاء العهود مطلقاً، بل المقدار المؤكّد من دلالتها ـ بحسب ما يعطيه السياق المحيط ـ هو أصالة الحرب مع الذين يكيدون بالدين شرّاً وينكثون العهود كلّما سمحت لهم الفرصة، فهذا الفريق يُجْزَم بشمول الآية له، أما غيره فلا، ويشهد له أنّ الآية نفسها استثنت المعاهدين الملتزمين بالمعاهدة التي وقعت عند المسجد الحرام في صلح الحديبية، فهي بهذا الاستثناء تؤكّد أنها لا تريد إلغاء العهود، بل خصوص عهود من لم يستقم، لهذا تلزم بالوفاء طالما الوفاء من الطرف الآخر قائم، ولا يرد علينا هنا أننا لم نقبل بقرينية هذه الآية هنا، لأن مناقشتنا في القرينية كانت بلحاظ آية الانسلاخ، لا بلحاظ الآية نفسها، فلو بقينا والآية يظهر بوضوح أنّها عندما تبطل العهد في صدرها تربط الوفاء به في ذيلها بالاستقامة، وسبب ذلك أنّ الآيات جميعها ترفض العهد مع المعتدي، وبدون النتيجة التي توصّلنا إليها سابقاً قد يصعب الجواب هنا.
الملاحظة الخامسة: إنّ قتال من يلوننا من الكفار كما أفادته الآية 123 من سورة التوبة، لا يدلّ على القتال لفتح البلدان، وإن اشتهر، بل على وجوب قتال من كانوا على مقربة من المسلمين وتماسّ معهم، وهو ما ينسجم ـ أيضاً ـ مع دفاعية الجهاد، فقد تريد الآية الإشارة إلى لزوم قتال الأقرب لا الأبعد حتى مع عدوانية الطرفين، بحيث يأمن المسلمون حدودهم القريبة، فحماية أنفسهم من القريب أولى من البعيد.
وبعبارةٍ أخرى: الآية بصدد وضع آلية حربية تعمل بها الدول في العصر الحديث، كما يقول الإمام محمود شلتوت([44])، بل نضيف: إنّ كلّ ما في الآية هو لزوم قتال الأقرب، بلا أيّ إشارة إضافية إلى نوعية هذا القتال، وتطبيقه على الفتوحات شأن يرجع للمفسّرين، وليس عليه أيّ شاهدٍ من كتاب أو سنّة، نعم، قد يتمسّك هنا بإطلاق الآية، أي سواء اعتدوا أم لم يعتدوا، لكنّ هذا يرجع إلى البيان الثاني للاستدلال القرآني وسيأتي، وهذا غير ما نحنُ فيه من استعراض نصوص تفيد خصوصية الابتدائية والدعوية وملاك الكفر في الحرب.
وقفة مع تشريع القرآن القتال حتى لا تكون فتنة و..
الملاحظة السادسة: أمّا آيات القتال حتى لا تكون فتنة، والتي فسّرها كثيرون بالشرك أو الكفر، فينبغي التوقف عندها قليلاً لتحقيق معنى الفتنة لغوياً وقرآنياً؛ ونظراً لأهمية الموضوع نتعرّض لكلمات اللغويين، حيث يقول الفراهيدي في العين: «.. والفتن إحراق الشيء بالنار.. وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ (الذاريات: 13)، أي يحرقون، وكان أصحاب النبي| يفتنون بدينهم، أي يعذّبون ليردّوا عن دينهم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾ (البقرة: 91)، والفتنة: العذاب، والفتنة: أن يفتن الله قوماً، أي يبتليهم، والفتن: ما يقع بين الناس من حروب..»([45]). وجاء في صحاح الجوهري: «فتن: الفتنة: الامتحان والاختبار.. والفاتن المضلّ عن الحقّ..»([46]). وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: «فتن: الفاء والتاء والنون: أصلٌ صحيح، يدلّ على ابتلاء واختبار، من ذلك الفتنة..»([47]). وجاء في لسان العرب لابن منظور: «فتن: الأزهري وغيره: جماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميّز الرديء من الجيد.. والفتن: الإحراق.. ابن الأعرابي: الفتنة الاختبار، والفتنة المحنة، والفتنة المال، والفتنة الأولاد، والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة الإحراق بالنار، وقيل: الفتنة في التأويل الظلم.. ابن سيده: الفتنة الخبرة، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾، أي خبرة، ومعناه أنهم أفتنوا بشجرة الزقوم وكذبوا بكونها.. والفتنة: إعجابك بالشيء. والفتنة: الضلال والإثم، والفاتن: المضلّ عن الحق.. والفتنة: الجنون، وكذلك المفتون، وقوله تعالى: ﴿وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾ معنى الفتنة ها هنا الكفر، كذلك قال أهل التفسير، وفي التنـزيل العزيز: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، والفتنة: الفضيحة.. والفتنة: العذاب..»([48]). ونحو هذه الكلمات ما جاء في مختار الصحاح وغيره([49]).
وبمراجعة المصادر اللغوية لا يبدو أنّ الكفر أو الشرك من الدلالات اللغوية الرئيسة لكلمة «فتنة»، على خلاف الاختبار، والبلاء، والاختلاف، والحرب، وربما لهذا عندما ذكر ابن منظور مثل الآية التي نحن فيها نسب تفسير الفتنة بالكفر إلى المفسّرين، وكأنه لا يجد الأمر لغوياً بحتاً.
وانطلاقاً مما أعطتنا إياه مصادر اللغة، نحتمل جداً ـ ويلوح من بعضهم ـ أنّ المفسّرين لم يعتمدوا على معطيات لغوية بحتة في تفسير الفتنة بالكفر في الآية، بل الذي دعاهم إلى ذلك هو الآية نفسها من حيث اشتمالها بعد ذلك على تعبير: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ﴾، إضافةً إلى حضور مفهوم الجهاد الابتدائي في وعي المفسّرين أيضاً، فهذا الذيل هو الذي عزّز عندهم فرضية الكفر والشرك، وإلا فكلمة الفتنة في أصلها إذا أعطت هذا المعنى فهو من الدرجة الثانية أو الثالثة، ولهذا لم يبدأ أيّ من اللغويين ـ بحسب تتبّعنا ـ لدى تفسيره جذر كلمة «فتن» بمعنى الكفر والشرك، مما يشهد ـ عادةً ـ على أنّ هذا المعنى يقع مدلولاً للكلمة بدرجة لاحقة، فيكون بحاجة إلى شواهد حافّة.
وفرضية بُعد احتمال إرادة الشرك أو الكفر يُساعدها أن هذا المعنى جاء وليد الثقافة الإسلامية؛ فعرب الجاهلية المشركون لا يعتبرون الشرك فتنةً؛ لأنّهم لا ينظرون إليه بمنظار سلبي تختزنه كلمة الفتنة، وهذا معناه الحاجة إلى حشد شواهد لتكريس هذا المفهوم الديني للكلمة، لأنه أقرب إلى المصداق منه إلى المفهوم.
وإذا تخطينا اللغة، إلى الاستخدام القرآني لجذر (ف . ت . ن) نجد الأمر عينه، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾ (الأنعام: 53)، وقال: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ (طه: 85)، وقال: ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ (طه: 40)، وقال: ﴿...وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ...﴾ (الإسراء: 60)، وقال: ﴿إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾ (القمر: 27)، وقال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ...﴾ (التغابن: 15)؛ وقال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَالقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (ص: 34)، وقال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ...﴾ (العنكبوت: 2 ـ 3)، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ...﴾ (البروج: 10)؛ وقال: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً...﴾ (الأنفال: 25)، وقال: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ...﴾ (الأنفال: 28)، وقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً...﴾ (الأنبياء: 35)، وقال: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾ (الفرقان: 20)، وقال: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلَاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ (الصافات: 62 ـ 63) إلى غيرها من الآيات التي تعني الامتحان والاختبار أو العذاب وما شابه ذلك، ومع هذا الاستخدام الواسع إلى جانب المعطيات اللغوية، كيف نجزم بأن المراد بالفتنة هو الشرك أو الكفر؟!
وطبقاً لمجمل ما تقدّم، نضع فرضيات في تفسير الآيتين، ويجب في ضوئها أن تجيب ـ لزوماً ـ على معنى: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ﴾؛ لأنّ أي تفسير لا ينسجم مع هذه التكملة سيكون باطلاً، وهذه الفرضيات التفسيرية هي:
الفرضية الأولى: أن يكون معنى الفتنة هو الكفر أو الشرك؛ فيكون معنى صيرورة الدين لله، أن لا يكون هناك دين آخر غير الدين الإلهي، وهذا هو تفسير أنصار جهاد الدعوة.
وهذه الفرضية منسجمة مع نفسها، ويكون ذيلها قرينة صدرها، كما أسلفنا، وهي إن فسّرت بالشرك انسجمت مع مشهور فتاوى الفقهاء من أنّ المشرك مخيّر بين الموت أو الإسلام، ومعه فلا تشمل هذه الآية غير المشركين فلا تدلّ على الجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب، أما إن فسّرت بمطلق الكفر، فقد يُتساءل حينئذٍ عن أهل الكتاب، مع أنّ قتالهم لا ينتهي بإسلامهم، بل بالجزية، كما تصرّح بذلك آية الجزية نفسها وفق ما تقدّم، فكيف يمكن تفسير ذلك؟! هل نسخت آية الجزية هذه الآية هنا كما قد يستوحى؟!
لا سبيل لتفسيره سوى بضمّ هذه الآية إلى مثل آية الجزية، حيث يجري التقييد، فيعلم أنّ أهل الكتاب خارجون مثلاً، أو بالقول بأنّ المراد من «الدين» في الآية شيء آخر مثل الإذعان والتسليم، أي فيسلّمون لله سبحانه، ولو على مستوى الإذعان المادي الدنيوي، بخضوعهم لدولة الإسلام، وهذا لا يثبت حينئذٍ فتوى المشهور باقتصار تخيير المشرك بين القتل والإسلام، أو يقال: إن أهل الكتاب يذعنون بالله تعالى ويدينون له، غايته أنّهم لا يدينون الدين الحقّ، على خلاف المشركين الذين لا يدينون لله، بل للأصنام.
الفرضية الثانية: ما يظهر من كلام الماوردي (450هـ)؛ حيث ساق الآية لدى حديثه عن التخذيل والتخويف داخل الجيش المسلم، فيكون المعنى ـ عنده ـ أمرٌ بالقتال حتى لا يفتن بعض الجيش المسلم بعضاً ويتخاذلون ويضعفون([50]).
لكن هذا التفسير بعيد عن سياق الآية التي تربط مختلف قطعاتها بالطرف الآخر، لا بقضيّة تأتي في سياق الوضع الداخلي للجيش المسلم.
الفرضية الثالثة: أن تكون الآية ـ كما نقل ابن عبدالبر وغيره ـ خاصّة بكفّار العرب، لا غير([51])، فيكون أمدها قد انتهى اليوم...
وهذه الفرضية لا شاهد عليها؛ لعدم وجود أيّ قرينة على التخصيص؛ فهي محض تأول وتحكّم بلا دليل، نعم من تحدثنا الآية عن قتاله في مطلعها قد يمكن افتراض أنّه كفار العرب، فتشير إليهم، لكن المهم هو ملاحظة سائر فقرات الآية، أي ما بعد (حتى) لأنّه عام يفترض أن لا يقتصر على العرب آنذاك.
الفرضية الرابعة: أن يكون معنى الفتنة هو المحنة والامتحان والاختبار، كما هو المدلول اللغوي الأبرز للكلمة، فيكون معنى الآية: قاتلوهم حتى لا يكون امتحان، ولا معنى لهذا الكلام سوى أن يكون الامتحان بمعنى المحنة والعذاب، أي قاتلوهم حتى لا يقع عذاب ـ مطلقاً ـ فيكون فيه مشاق لكم وامتحان عسير، أو يكون فيه ظلم عليكم([52])، شبيه قوله تعالى في الحديث عن الدفع والإذن بالجهاد: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً﴾ (الحج: 39 ـ 40)، أي أنكم إن لم تقاتلوهم تكن فتنة في الأرض وفساد وامتحان وبلاء ويقع عليكم تعذيب الكفار و..
الفرضية الخامسة: أن يكون المقصود بالفتنة في الآية هو الإضلال وزوال الجماعة المسلمة، وقد تقدّم في اللغة أنّ من معاني الفتنة الإضلال وأن الفاتن هو المضلّ عن الحق، فيكون المعنى أنّه يجب عليكم قتالهم؛ لأنكم إذا لم تقاتلوهم فإنهم سيفرضون عليكم بقوّتهم الخروج من الدين الإسلامي، أو سيبيدون كلّ مسلم، فيكون الجهاد في هذه الآية دفاعاً عن وجود الجماعة المسلمة التي يراد فرض الكفر عليها بإخراجها عن دينها، كما كانت تريد قريش تماماً بملاحظة بعض الآيات التي سنشير إليها قريباً إن شاء الله. وقد تكون آية الدفع المتقدّمة شاهداً على هذه الفرضية أيضاً، بل هي أقرب إليها من الفرضية السابقة، من هنا فأقرب الفرضيات للغة ولمعنى الآية هما الفرضيّتان الأخيرتان.
أما قوله: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ ، والذي ربما يكون في تقديري أهم نصّ قرآني على جهاد الدعوة، فيكون معناه ـ وفقاً للفرضية الأخيرة على الأقلّ ـ أن تصبح الطاعة والانقياد لله، بمعنى أنكم إن لم تقاتلوهم فلن يكون الدين لله بل سيفنونكم وسيكون الدين على وجه الأرض للأصنام وأمثالها، فليس المقصود بالدين اسم الديانة (لعدم حصره لغةً بذلك بل هو استئناس غلب على معنى هذه الكلمة فيما بعد) أي تفسد الديانات إلاّ دين الله، بل بمعنى أنكم بقتالكم تجعلون الولاء والطاعة لله سبحانه؛ فلا تسمحوا بالقضاء على هذه الظاهرة، تماماً كما هو معنى آية الدفع، فهي تطالب بالدفع؛ إذ لولاه لهدّمت بيوت العبادة ودور الصلاة فلا يصير الدين، أي الطاعة والإذعان، لله سبحانه؛ وبهذا تنسجم الفقرتان في الآية ويكون المعنى: قاتلوهم كي لا يقع إضلال المسلمين عن الدين الحقّ، فيزول الإسلام؛ أي حتى لا يتحقق ذلك، بل يكون الدين والطاعة لله، ومن الواضح أن وجود هذه الطاعة رهينٌ بوجود الجماعة المسلمة، لا بجعل العالم بأسره مسلماً أو فرض الإسلام هيمنته عليه، وبعبارة أخرى: إذا لم تتحقق الفتنة فسوف يكون الدين لله، لأن رفع الفتنة بالقتال معناه أنّ الطاعة ستكون كلّها لله لا للأصنام فقط ولا شركة بين الله وغيره.
يضاف إلى ذلك أنّ الغائية هنا المدلول عليها بـ (حتى) غائية لوجوب القتال لا للقتال الواجب، بمعنى أنّه يجب عليكم القتال بصرف النظر عن تحديده، والغاية من ذلك (تشريع وجوب القتال من حيث المبدأ) رفع الفتن وصيرورة الدين مهيمناً، لا أنّ نهاية وضع السلاح ووقف إطلاق النار هو صيرورة الدين كلّه لله، وهذا له نظير كثير، تقول لولدك مثلاً: أنا أضعك في المدرسة حتى تصبح طبيباً، مع أنّ المدرسة تنتهي قبل أن يكون طبيباً، فيكون المؤدى بعبارة أخرى: إن الجهاد دفاعاً عن الجماعة المسلمة يساهم في هيمنة الدين الحق؛ لهذا وجب، تماماً مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)؛ بناء على تفسير الإظهار بالغلبة المادية، فقد توفي الرسول الذي أرسله الله ولم يتحقق هذا الإظهار ولا حصلت هذه الغلبة، دون أن يعني ذلك أنّ الإرسال لم تكن غايته الإظهار ولم يساهم فيه ولو تحقق بعد حين.
والذي يعزّز هذا التفسير في آية سورة البقرة أنّ السياق بأكمله هو سياق الدفاع؛ إذ جاء: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبِّ المُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 190 ـ 194)؛ فهذا السياق بقرينة: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ ﴾، و﴿مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾، و﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾، و﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وكذا الآية الأخيرة التي تتحدّث عن الرّد بالمثل و.. هذا السياق واضح في الدفاعية، لا أقلّ من أنّه يعيق استظهار الابتدائية إعاقةً تامة، مما يبعّد الفرضية الأولى في التفسير لصالح الفرضية الرابعة أو الخامسة، كما هو واضح، علماً أن جعل الفتنة أشدّ من القتل واضح في أنه لو جعلوكم تتركون دينكم فهذا أشدّ من قتلهم لكم أو قتلكم لهم، ويساعد عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ﴾ (المائدة: 49)؛ وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...﴾ (البقرة: 217). كما يؤيده ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عمر، لما ذكرت له الآية قال: «فعلنا على عهد رسول الله وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة...»([53]) ، فقد فهم ابن عمر من الفتنة ما فهمناه منها واستشهدنا له بكلمة الفتنة في القرآن الكريم، وهذا ما يربط الجهاد في الإسلام بالحرية الدينية ببعض أنواع الربط، وسيأتي الحديث عن ذلك قريباً.
نعم، هذا السياق حضوره في آية سورة الأنفال غير بارز بالدرجة عينها في آية سورة البقرة، وهي ـ آية الأنفال ـ التي تشتمل على إضافة قيد «كلّه»، الذي يعزّز الفرضية الأولى، وهذا ما يجعل الفرضية الأولى أقرب في الآية الثانية، غايته أنّه لا يوجد دليل لغوي معتدّ به لصالح تفسير الفتنة بالكفر أو الشرك، لا سيما مع استخدامات القرآن المتقدمة لتعبير الفتنة، مضافاً إلى أنّ كلمة «كلُّه» قد يراد منها عدم إشراك غير الله في الطاعة إطلاقاً، لا جعل كلّ الديانات لله، علماً أنّ تشابه الآيتين جداً مع وجود سياق دفاعي في إحداهما قد يعيق أمام المفسّر الفصل بين دلالتهما، ولا أقلّ من الإجمال هنا، فهو الذي يهمّنا؛ فنحن لا نريد هنا إثبات الدفاعية في هذه الآيات، وإنّما الهدف إعاقة إثبات الابتدائية والدعوية.
نقد نظرية ربط الجهاد الابتدائي بحرية الدعوة الدينية
تقدّم فيما سبق أن العديد من الباحثين في الفقه الإسلامي حاولوا الربط بين الجهاد الابتدائي وبين حرية العقيدة، بمعنى أن الجهاد المذكور يقع عندما يمنع الكافرون حرية العقيدة، فيحولون بين الناس والإسلام؛ فهنا تجب محاربتهم ابتداءً، بوصفه شكلاً من أشكال التدخل الإنساني، وهذا هو الجهاد ضدّ الذين يصدّون عن سبيل الله، حتى لو لم يبدؤا المسلمين بالحرب.
لكن هذه النظرية غير صحيحة بل ولا منسجمة مع الموروث الفقهي، ويمكن التعليق:
أولاً: إنّ الأدلّة التي استندوا إليها لا تبرز هذا المفهوم، كما تعرّضنا لها وسيأتي، فمن أين جاؤوا بهذا القيد لشرعنة الجهاد الدعوي؟! نعم، إذا قصد أن الكافر يقوم بإيذاء المؤمنين وفتنتهم عن دينهم والحدّ من حرياتهم ليرجعوا عن الإسلام، فهذا قد يكون مقبولاً في سياق ما تقدّم في تحليل آية القتال حتى لا تكون فتنة، تماماً كما فعلت قريش والعرب، أما مجرّد أن لا تسمح الدولة غير المسلمة بحرية الدعوة فيها، ولا تعطي الإذن للدعاة كي يتجولوا فيها للدعوة إلى دينهم، فهذا لا يبدو من النصوص القرآنية الحديث عنه، حتى نأخذه عنصراً مقوماً في نظرية الجهاد التحريري هنا.
ثانياً: يلزم على هذه النظرية سقوط شرعية الجهاد الابتدائي في عصرنا الحاضر سقوطاً تاماً تقريباً؛ وذلك أن وسائل الاتصال والمعلوماتية وأجهزة الإعلام بأشكالها، لم تعد عاجزة عن الوصول إلى أسماع الشعوب حتى لو منعت الدول، وعليه فإذا كان الجهاد الابتدائي مشروعاً لتأمين حرية حركة الدعاة كي يهدوا الناس إلى الإسلام؛ فإن هذه الحرية متوفرة اليوم بدرجة كبيرة، وليس تامّة، فأيّ معنى لإعلان الجهاد الابتدائي؟!
ثالثاً: وفقاً لهذه النظرية، يقف الجهاد الابتدائي عندما تسمح الدولة غير المسلمة بالتبليغ للدين الإسلامي فيها، ففي مثل كثير من الدول الغربية اليوم وغير الغربية، هناك حرية للدعاة والمبلغين الدينيين للدعوة، غايته أن الناس قد لا تؤمن أو لا تتأثر بدعوة هؤلاء المبلغين، ومعه فلا معنى لفرض الجهاد عندما تكون حرية الدعوة الدينية مكفولة في الدول الأخرى.
رابعاً: إذا قصد أصحاب هذه النظرية أن نظريتهم تمثل تفسيراً لنظرية الجهاد الدعوي الموجودة في التراث الفقهي الإسلامي ... فيسجّل عليهم أننا لم نجدها في كلمات مشهور العلماء وجمهور الفقهاء، بل ظاهر الكلمات الفقهية هو الإطلاق، سواء سمحت الدولة غير المسلمة بحرية الدعوة فيها أم لم تسمح، فهذه النظرية لا تنسجم مع الموروث الفقهي.
نعم، إذا قصدوا تأسيس نظرية جديدة، فلا تسجّل عليهم هذه الملاحظة، لكنّهم مطالبون بالأدلّة عليها؛ وقد ظهر من خلال مناقشتنا السابقة، واللاحقة، أنه لا يظهر على هذه النظرية دليل واضح.
آية الجزية والسياق العقائدي
الملاحظة السابعة: وتبقى آية الجزية التي لا ينافي سياقها مفهوم الابتدائية، وهي واضحة الدلالة على أنّ منتهى القتال هو إعطاء الجزية، إلاّ أنّ ذلك لا يجعل إعطاء الجزية شاهداً على الابتدائية، بحيث لا يندرج التمسّك بهذه الآية ضمن سياق البيان الأوّل للاستدلال القرآني، وذلك أنّ التمسّك في الحقيقة قد يقال: إنه بإطلاق صدرها، ونحن لا نعرف من هو المراد في صدرها: الكفار مطلقاً أم خصوص المعتدين؟ فعلى تقدير خصوصية المعتدين تكون الجزية خاصّة بهم، من هنا يلوح في كلمات مثل ابن حزم أن الآية تدلّ على أننا أمرنا بقتالهم إن قاتلونا، حتى يعطوا الجزية([54])، وتابعه في ذلك بعض المفسرين في القرن الأخير([55])، وقد استند غير واحد إلى السياق التاريخي للنزول حيث نزلت في مناخ غزوة تبوك التي جهّز أهل الكتاب جيشاً فيها شمال الحجاز، مما يفرض وجود تعاون بينهم وبين أهل الكتاب في الجزيرة العربية، الأمر الذي يضعهم في سياق الاعتداء على المسلمين، حتى أن الشيخ مغنية خصّص الآية بأهل الكتاب العرب وإن خالفه في ذلك سيد قطب([56]).
وهذا كلام لا ينكر من حيث المبدأ، لكنّ سياق الآية من أوّله إلى آخره ظاهر ـ بدرجةٍ ما ـ في أنّ الاختلاف العقيدي هو منطلق الحرب معهم حتى يعطوا الجزية، فعدم الإيمان بالله أو عدم تحريم ما حرّم الله أو عدم التدين بالدين الحق.. كلّها عناصر تؤكّد أنّ هذا الأمر قد قام على الاختلاف العقيدي، فلسنا ننطلق هنا من إطلاق، بل من الأوصاف الدخيلة في حربنا للآخر، وهي أوصاف ترجع إلى دينه، فتكون كاشفةً عن معيارية العقيدة في هذه الحرب، لاسيما وأن السياق سياق الحديث عن كفرهم، حيث جاء بعدها ـ على تقدير وحدة النـزول، وقد يناقش فيهـ: ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 30 ـ 33)؛ فالصحيح أنّ هذه الآية لوحدها لها شيءٌ من الظهور بهذه الدرجة، ولهذا نقل ابن العربي عن أبي علي ابن عقيل الحنبلي أن قوله: (لا يؤمنون بالله) هو سبب المقاتلة([57]). اللهم إلا أن يقال: إنّ حديث القرآن عن الآخر من خلال الأوصاف الدينية ليس تعبيراً ـ بما هو هو ـ عن مدخلية هذه الأوصاف، بل لأنّ هوية الطرف الآخر ـ اجتماعياً وسياسياً آنذاك ـ هي هوية دينية، وتفصيله نذره إلى مناسبة أخرى، لجريانه في بعض النصوص دون بعض.
ونتيجة الكلام في البحث حول النصوص القرآنية الخاصّة بموضوع الجهاد الابتدائي أنّ الاستدلال القرآني غير تام، سوى في آية الجزية بدرجةٍ ما، بل الذي نراه في الحد الأدنى وجود إجمال في النصوص، هذا كله معلّقاً على ما سنذكره في مقاربة النصوص القرآنية بعد قليل، وفي نهاية البحث أيضاً، إن شاء الله تعالى.
ب ـ الخطابات القرآنية الجهاديّة العامّة والتأسيس لجهاد الدعوة، مطالعة نقدية
البيان الثاني: إنّ مطلقات آيات الجهاد كلّها الواردة في القرآن الكريم دليلٌ على شرعية ووجوب الجهاد الابتدائي؛ وذلك أنّ آيات الجهاد تأمر بمقاتلة المشركين والكافرين، دون أن تقول: إن ذلك كان لأجل مقاتلتهم المسلمين، فيُعلم من ذلك أن قتالهم كان لأجل الكفر؛ إذ حينما تقول: قاتل الكافر، ولا تشير إلى اعتدائه أو حربه ضدّك، فمعنى ذلك أنّ قتاله سوف يكون لكفره؛ وهذا هو لبّ بحث شرعية أو عدم شرعية الجهاد الابتدائي، فإن هذا الجهاد إذا كان لكفرهم فمعناه كون الحرب بملاك الكفر، وإن كان لاعتدائهم فمعناه كونها للحرابة، فنحن أمام احتمالين: إما الجهاد للكفر أو للحرابة، فأيّ المعيارين هو سبب الجهاد؟ والجواب: إنه حيث تعلّق الجهاد بمقاتلة من يتصف بالكفر دون بيان سبب الحرابة، دلّ ذلك على أن معيار الحرب هو الكفر بعينه لا غير، وإلا لكان هناك حاجة لتقديم بيان إضافي في الموضوع.
وهذا البيان من الاستدلال بالقرآن بيان شمولي عام، يتناول الآيات القرآنية عموماً تقريباً، فالآيات القرآنية التي لم يُذكر فيها قيد العدوان ولم يُفرض فيها الاعتداء المسبق، يمكن الاستدلال بها لاستفادة تعميم قتالهم، سواء كانوا معتدين أم غيره، فيشرع الجهاد معهم مطلقاً، وهذا كافٍ في البرهنة على شرعية، بل وجوب، الجهاد الابتدائي بعلّة كفرهم لا عدوانهم.
إلاّ أنّ الاستناد إلى مطلقات الجهاد يواجه مشاكل، أهمّها:
المشكلة الأولى: إنّه من غير المعلوم أن تكون هذه المطلقات ـ إلاّ مع قيام شاهد ـ في مقام البيان من هذه الناحية، أي من ناحية من يجب أو يشرع قتاله ومتى، فلعلّها في مقام بيان أصل وجوب الجهاد والحث عليه فحسب، تماماً كأدلّة وجوب الصلاة الواردة في القرآن مثل: ﴿أَقِيمُواْ الصَّلَاةَ﴾ حيث لم ترد في مقام البيان من حيث عدد ركعات الصلاة أو أجزائها أو شرائطها، ومعه فلا يصحّ الاستناد إلى السكوت لنفي جزئية محتمل الجزئية أو شرطية محتمل الشرطية فيها؛ وعليه، فلابد من إحراز مقدّمات الإطلاق، ومنها أن يكون المتكلّم في مقام البيان من الجهة التي نريد التمسّك بالإطلاق فيها.
المشكلة الثانية: إنّ آيات الجهاد وإن كانت دائمةً وعامة إلى قيام يوم الدين، إلاّ أنّ المفترض ـ لحظة صدور النصّ ـ أن يكون له ما يبرّره على أرض الواقع، فإذا ثبت أنّ حروب النبي| ـ لا أقلّ في الأغلبية الساحقة منها ـ كانت دفاعيةً، فنزول آيات لزوم مقاتلة الكافر حينئذٍ لا يُحرز انعقاد إطلاق فيها يشمل الابتدائية، ما دامت تحث المسلمين على مواجهة الفئة المقابلة لهم.. وبعبارةٍ أخرى: إنّ مركوزية الدفاعية في حياة المسلم المعاصر للنبي قد تشكّل قرينة على أنّ الله حينما طلب منهم الجهاد فإنما أراد هذا النوع منه، لا أقلّ من الانصراف عن غيره أو إعاقة تكوّن الإطلاق الشامل له، فهذا أشبه بقولنا اليوم ونحن في سياق حروب دفاعية على مختلف الصعد: يجب الجهاد في سبيل الله، فإن النصّ وإن كان مطلقاً في حد نفسه وعلى مستوى صورته؛ إلاّ أنّ العرف لا يفهم منه ـ في هذا السياق الخارجي المحيط ـ غير الدفاعية، فهذا ليس من باب المورد لا يخصّص الوارد، بل من باب عدم تكوّن إطلاق عند العرف يستوعب بعض الأشكال، ويكفي حصول الشك في انعقاد الإطلاق حتى يُستند إلى أصالة عدمه الأولية عند الشك كما بحثناه في علم الأصول.
وهذه المشكلة مبنية على أنّ السياق المحيط بحروب النبي| هو السياق الدفاعي، بحيث غدا ذلك جزءاً من وعي المسلمين عصر صدور النص ونزوله، وسوف يأتي البحث عن هذه النقطة بإذن الله سبحانه.
المشكلة الثالثة: إن صدور حكمٍ بقتال الكفار دون بيان ملاكه لا يدلّ على أنّ الملاك هو الكفر، بل يحتمله ويحتمل غيره، والسبب في ذلك أنّ تقسيم القرآن الكريم للناس كان على الأساس العقيدي، وطبيعة الحرب التي عاشها المسلمون كانت على هذا الأساس؛ لذا فمن الطبيعي أن يتحدّث عن الطرف المقابل آخذاً بعين الاعتبار هذه الصفة؛ لأنّ الذين كانوا يقفون في طرف المواجهة مع المسلمين لم يكونوا قوميةً خاصّة يمتازون بها أو عشيرة خاصّة، لاسيما بعد معركة الأحزاب، مما يفرض أخذ العنوان الجامع، وهو عنوان الكفر بالإسلام، فهذا مثل قولنا ـ وهو كثير في استخدامات العرف ـ: يجب مقاتلة الروس في الشيشان، فإن عنوان (الروس) ليس هو الملاك الأبدي؛ وإنّما استخدمناه لكونه الصفة التي تجمع الطرف الآخر على مستوى الاجتماع السياسي اليوم في ظل الدولة القومية والعلمانية و .. وهكذا لو قيل: يجب مقاتلة حلف الأطلسي و.. ومع هذا كلّه لا يكون هناك ظهورٌ في العليّة، وقديماً قالوا: الوصف مشعر بالعلية، إلاّ أنّ ظهوره فيها ـ وهو موضوع الحجية ـ يحتاج إلى قرينة.
المشكلة الرابعة: إن هذا الوجه بصيغته الرئيسة لو تمّ فهو محكوم لأيّ ملاكٍ يستظهر من الآيات؛ أي أن نسبة الظهور فيه أضعف من أيّ نسبة، فهو يعتمد على وصف الطرف الآخر بالكافر دون إشارة إلى ملاك الحرب، فإذا دلّ دليل على أنّ ملاك الحرب ليس هو الكفر فسوف يكون ذاك الدليل مقدّماً على هذا الوجه، وهذه نقطة مهمّة لفهم طبيعة ومستوى الأدلّة عند الوصول إلى مرحلة تعارض المعطيات، كما سنرى قريباً بعون الله.
المشكلة الخامسة: إنّ آيات القرآن الكريم تقع ـ في الحدّ الأدنى ـ على نوعين:
النوع الأوّل: الآيات التي لا تحتوي على قيد الدفاعية وردّ العدوان، وهي الآيات التي ندرسها حاليّاً.
النوع الثاني: الآيات التي تحوي هذا القيد، وهي كثيرة: مثل: أوّل آيات الجهاد على قول: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ (الحج: 39 ـ 40)، أو مطلع آيات البراءة، وفق ما بيّناه سابقاً، أو مثل قوله تعالى بعد الحديث عن الأشهر الحرم: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾ (البقرة: 217)، وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبِّ المُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190)، وقوله: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ (الممتحنة: 8 ـ 9)، وقوله: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ (الأنفال: 61)، ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾ (النساء: 75) وقال: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلَاً﴾ (النساء: 84)، وقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَالقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلَاً﴾ (النساء: 90)، إلى غيرها من الآيات حتّى عبّر عنها «نوراني» بالقول: «القرآن مليء بأحاديث عن حماية المضطهدين والامتناع عن العدوان»([58]).
وعليه، لا شك في عدم وجود نسخ وفق ما بيّناه سابقاً وسيأتي، فمع وجود مثل هذه الآيات المركّزة لمفهوم الدفاعية، هل يجب على الله تعالى في كلّ آية جهاد أن يشرح هذا المفهوم؟ وألا يحتمل اعتماده على مثل هذه الآيات في ترسيخ هذا المفهوم، ثم إطلاق بعض النصوص اعتماداً عليها؟
وبعبارةٍ أخرى: لا يصحّ أن نقرأ آيات الجهاد بشكل مجزّء، كلّ آيةٍ على حدة، بل لابد من قراءتها بوصفها كلاً له أبعاض، إذ نزلت لمواجهة مسلسل متتالٍ من الأحداث، فلا يصحّ اقتطاعها كما حصل مع بعضهم، إلاّ مع ثبوت حصول ترقي في الخطاب القرآني، وسيأتي بيانه، وعليه، فوجود مجموعة معتدّ بها من آيات الدفاعية يمنع عن انعقاد إطلاق عادي لم تقم قرينة خاصّة عليه، لاسيما إذا جاءت هذه الإطلاقات بعد تلك النصوص الدفاعية، فإن احتمال عدم ذكر مفهوم الدفاعية فيها ـ اعتماداً على ما سبق ـ وارد، فلا يطالب المتكلّم بتكرار هذا القيد كلّما حثّ على الجهاد، اكتفاءً بمركوزيته المنطلقة من النصوص السابقة ـ والسياق التاريخي للحروب النبوية ـ التي ركّزت المفهوم؛ وعليه لا يصحّ الاعتماد على إطلاقات القرآن الكريم هنا.
وهذه المناقشة الأخيرة موقوفة على صحّة فهم الدفاعية من الآيات التي بيّناها، وإلا فالكلام كلّه يصبح عقيماً، أما إثبات ذلك، وردّ ما قيل من مناقشات على دفاعية آيات الجهاد الدفاعي، فقد بحثناه بالتفصيل عند استعراض أدلّة عدم شرعية الجهاد الابتدائي.
قصّة النبي سليمان× وجهاد الدعوة الدينية
يمكن هنا تسليط الضوء على قصّة نبي الله سليمان× مع أهل سبأ وملكتهم، فسياق الحديث الذي جاء حول هذه القصّة يدلّل على أن الهدهد لم يظهر في الاجتماع العام الذي عقده سليمان، ثم جاء مخبراً عن قوم يعبدون الشمس من دون الله تعالى، وهنا كان ردّ سليمان، بحسب الآية القرآنية، عقب إعلام الهدهد له بعدم عبادتهم لله سبحانه، ما يلي: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ (النمل: 27)، ثم طلب منه إيصال كتابه إليهم، ويخبرنا القرآن الكريم عن مضمون الكتاب في النص التالي: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي القِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (النمل: 29 ـ 31)، فاقترحت ملكة سبأ أن ترسل لسليمان هدية، لكن ردّ سليمان كان صارماً، ليعلن بعده ما يلي: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (النمل: 37)، وفي نهاية أحداث القصة يظهر لنا القرآن خاتمة العلاقة حين تقول ملكة سبأ: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ (النمل: 44).
هذه القصّة القرآنية تدلّنا على نهج جهاد الدعوة عند النبي سليمان× والذي ينقله لنا القرآن دون أيّ تعليق سلبي على ما حصل، ومن الواضح من ثنايا القصة أن مشكلة أهل سبأ لم تكن في اعتدائهم على سليمان وعلى المسلمين معه، بل كان العنصر الأساس الذي قدّمه الهدهد في معلوماته حولهم يكمن في عدم عبادتهم لله، وعبادتهم للشمس، وعقب ذلك قرّر سليمان أن يأتوه مسلمين وإلا أرسل لهم جنوداً، ونهاية القصّة تؤكّد أن الرسالة الأخيرة لها هي إسلام هذه المرأة مع سليمان لله رب العالمين، فهذه القصّة خير دليل على منطق الجهاد الدعوي في القرآن الكريم، بلا حاجة للذهاب إلى النصوص القرآنية ذات الطابع التقنيني والتشريعي لنتمسّك بشاهد هنا أو بإطلاق هناك، إذ لا مبرر لسليمان في استخدام العنف ضدّهم سوى عدم عبادتهم لله، بل لقد زاد محمد الطاهر بن عاشور (1393هـ) عندما رأى أن مشروع سليمان كان لاجتلاب خيرات بلاد اليمن إلى مملكته الصغيرة آنذاك في الأردن وتخوم مصر وبحر الروم، وجعل تلك البلاد طريقاً لتجارته أيضاً([59]).
هذا ما يمكننا بيانه للاستدلال بقصّة سليمان، وبعد طرحها وبحثها وجدت أن الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي قد تعرّض لها أيضاً([60]).
وقد يناقش الاستدلال بهذه القصّة القرآنية انطلاقاً من أنها ترجع إلى زمن الشرائع السابقة، والمفروض أن الإسلام نسخ تلك الشرائع؛ فالاستناد إلى موقف النبي سليمان استناد في غير موضعه الصحيح.
وهذه الملاحظة تصحّ لو قلنا بأن مجيء الدين اللاحق ينسخ ـ بمجرّده ـ تمام الديانات السابقة، على المستوى التشريعي، فمجرّد إرسال النبي عيسى× معناه أن التشريعات الموسوية صارت لاغيةً بأكملها إلا إذا جاء نصّ عيسوي يقرّ تشريعاً ما أو يعيد إنتاجه مجدداً، أما لو قلنا ـ كما هي وجهة نظر جماعة من علماء المسلمين ـ بأن مجيء الديانة اللاحقة لا يبطل قانون الديانة السابقة برمّته، بل يظل على حاله، وإنما نتتبع الحالات الجزئية التي قد تنسخ الديانة اللاحقة فيها بعض قوانين الديانة السابقة، فشرع من قبلنا حجّة علينا، ما لم يرد دليلٌ ناسخ، إذا قلنا بهذا كانت قصّة سليمان دليلاً؛ بعد فرض عدم وجود دليل ناسخ لمنطق الجهاد الدعوي الموجود فيها. علماً أنّ نقل القرآن لها في سياق تعريف المسلمين بالحدث نوعٌ من الضخّ المؤيد لمضمون القصّة، وإلا كان المفترض أن يعلّق الكتاب أو السنّة الشريفة على هذا الأمر، وهو ما لا نراه ولا نلمسه.
لكن ـ ومع عدم صحّة الملاحظة السابقة ـ نقف أمام إشكالية أخرى، وهي أن القصّة القرآنية المذكورة تريد بالدرجة الأولى أن توصل لنا رسالةً رئيسة، وهي رسالة القوّة عند سليمان، وليست في مقام بيان حكم الجهاد الدعوي حتى ينعقد لها إطلاق، فغاية ما تفيد أن سليمان مارس الجهاد الدعوي محقاً، لكن هذا لا يعطينا مؤشراً على أن الجهاد الدعوي مارسه سليمان من موقع ظروفه التاريخية أم من موقع أنه الأصل والتشريع الأولي، فالفعل النبوي ـ كما بحثناه مفصّلاً في دراستنا في أصول الفقه الإسلامي([61]) ـ دليل صامت يؤخذ فيه بالقدر المتيقن، ونحن لا نعرف الملابسات التي سمحت لسليمان باستخدام هذا المنهج، نعم القصّة تدلّ على مبدأ شرعية جهاد الدعوة، لكن لا نعرف هل بالعنوان الأولي كجزء مكوّن من قوانين الدين أم بعنوان ثانوي ظرفي تاريخي؟ فنحن نتحدث عن واقعة ترجع إلى آلاف السنين ضمن مناخات خاصّة؛ والآيات القرآنية وإن كانت دليلاً لفظياً له بطبعه طاقة الإطلاق؛ لكن المفترض أننا لا نستدل بالآية عبر دلالة لفظية مباشرة على موضوعنا، بل بفعل النبي سليمان الذي أخبرت عنه الآية، فلا إطلاق فيه، بل قد برهنّا في علم أصول الفقه أن الشك في تاريخية حكم ما لا يثبت في مورده التأبيد إلا بحشد شواهد، وتفصيله موكول إلى محلّه([62]).
مقاربة ومناقدة للعلامتين: فضل الله وصالحي نجف آبادي
حاول العلامة السيد محمد حسين فضل الله تفسير هذه القصّة بما لا يلتقي مع منطق القوّة الدعوية بالمعنى الذي يطرح في الجهاد الابتدائي؛ فرأى أنّ سليمان قال «... هذا للرسول، وهو يعرف أنهم سيستسلمون له عندما يعرفون حجم القوّة ومستوى الردّ، ولكنه أراد أن يواجههم بالقوّة المستمدة من الغيب الذي منحه الله بعض وسائله، ليكون ذلك وسيلةً للاقتناع عندما يعرفون عظمة القدرة الإلهية التي تتمثل في هذا الفعل العجيب الذي يدلّ على أن القضية ليست قضية مُلْك يراد له أن يتوسّع ويكبر، بل هي قضية رسالةٍ يراد لها أن تتركّز في العقول والقلوب والمواقف... وهكذا التفت إلى أعوانه من الجنّ ... »([63]).
وكأن فضل الله التفت إلى النقطة التي أشرنا إليها مطلع الحديث، فأراد أن يبعد منطق الجهاد الدعوي هنا بهذه الطريقة، ولا يبعد ـ بقرينة السياقات الإعجازية وخاتمة الأحداث بإسلام ملكة سبأ عن قناعة ـ أن يكون إطار القوّة قد جاء كما قال السيد فضل الله.
والذي يزيدنا إصراراً على خصوصية الحدث السليماني، أن سليمان لم يقم باستخدام قوّاته لإخضاع العالم فقد كانت حكومته محدودة جغرافياً، ولو كان بهدف إخضاع الأرض لفعل طبقاً للقوّة العملاقة التي منحه الله إياها، لكننا لم نجده يستخدم ذلك أبداً، فقصّة أهل سبأ قد تكون تعبيراً عن رغبة سليمان من أوّل الأمر أن يستخدم أسلوب التهديد كي تأتيه المرأة والملأ معها، فيروا المعجزات التي عنده فيسلموا، لا أن يريد إخضاعهم لأغراض الملك أو السلطة، فضلاً كذلك عما يفهم من كلمات ابن عاشور التي ألمحنا إليها سابقاً؛ والتي تنافي روح الآيات القرآنية المتحدّثة عن ملك سليمان، إذاً هذا كلّه يعزّز الخصوصية في الحدث السليماني، ووجود ملابسات غير واضحة لنا، حتى لو كان الجهاد الدعوي جائزاً لسليمان وليس واجباً.
على خطّ آخر، سجّل الشيخ صالحي نجف آبادي بعض الملاحظات على الاستدلال بقصّة سليمان هي:
1ـ إن سياق الآيات يوحي باستبدادية دولة سبأ وقمعها الناس وعدم إعطائهم حقهم في ممارسة حياتهم، فلا حرية عندهم، ولهذا انطلق سليمان لتحريرهم من الاستبداد والظلم والقمع، ولهذا دعا السلطة الحاكمة ولم يدع الشعب في سبأ([64]).
وهذه الملاحظة فيها بعض الغرابة؛ فلا مؤشر في القصّة القرآنية على ما قيل، بل ملكة سبأ سارعت فور وصول الرسالة إليها لجمع الملأ واستشارتهم؛ وهذا دليل عكسي محتمل على عدم وجود منطق الاستبداد، بل منطق التشاور؛ ولا يمكن دعوة شعب بأكمله إلى مملكة سليمان؛ فمن الطبيعي توجيه الدعوة لوجوه القوم ورؤوسهم.
2ـ المناخ الاستبدادي هو المشكلة؛ لهذا هدّد سليمانُ السلطة ولم يهدّد الشعب؛ كما لم يطرح فرض عقيدة خاصّة توحيدية؛ وإنّما طلب إخضاعهم، يضاف إليه أن سليمان لم يُعمل تهديده بل كانت المصلحة في نفس التهديد لهدايتهم([65]).
وهذه النقطة إن رجعت إلى ما قلناه نحن سابقاً كانت جيدة، وإلا فمن الطبيعي أن لا يهدّد الشعب، ما دامت علاقة الملوك مع السلطة ولم تكن هناك وسائل إعلام تخاطب الشعب كلّه، كما في عصرنا الحاضر.
وخلاصة القول: إنّ قصّة سليمان ذات دلالة بدرجة معيّنة، غير أنّها غير قادرة على منحنا أهم مبدأ دستوري في العلاقات الدولية في القانون الإسلامي؛ لأنّها حدث، وملابساته التاريخية غير جليّة، والنص القرآني يريد الحديث عن إسلام ملكة سبأ و.. ومن غير المعلوم أنّه بصدد تقنين مبدأ الحرب في العلاقة مع غير المسلم، علماً أنّها لو تمّت لما دلّت على الجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب، بل مع عبدة الشمس أو مطلق المشرك.
نظرية الشيخ مرتضى المطهري في تحليل النصوص الجهاديّة القرآنية
وفي هذا السياق، طرح الشيخ مرتضى مطهري ـ وتبعه الشيخ جعفر السبحاني ـ تصوّراً خاصاً في منهج التعامل مع آيات القرآن الكريم هنا، لا بأس بملاحظته، وحاصل ما رآه أن الآيات هنا على مجموعات خمس هي:
المجموعة الأولى: الآيات الآمرة بمطلق القتال، وهذه تشمل مختلف أنواعه، فتشرّع الابتدائي والدفاعي.
المجموعة الثانية: الآيات الآمرة بالقتال نتيجة مقاتلة العدو للمسلمين ونقضه العهد معهم. وقد رأى مطهري والسبحاني هنا أنّ المجموعة الأولى أوسع دائرةً من الثانية، لهذا تقيّد الثانيةُ الأولى، تحكيماً لقانون المطلق والمقيّد.
المجموعة الثالثة: ما دلّ من الآيات على لزوم نصرة المظلومين والدفاع عنهم، نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ (النساء: 75).
المجموعة الرابعة: ما دلّ على نفي الإكراه في الدين، والحثّ على الكلمة الطيبة، وجعل الإيمان والشرك من الأمور التي ترجع إلى مشيئة الإنسان نفسه.
المجموعة الخامسة: ما دلّ على الصلح والتعايش، نحو قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (النساء: 128)، وقوله: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (الأنفال: 61)، وقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَالقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلَاً﴾ (النساء: 90).
وقد سعى مطهري والسبحاني للجمع بين المجموعتين: الرابعة والخامسة وما سبقهما، عبر جعل المجموعة الثالثة دفاعيةً، أي دفاعاً عن المظلومين، فيما حملا ما سوى ذلك على صورة استبداد الحاكم بحيث يمنع عن نشر الإسلام، فيكون قد منع حقاً من حقوق الناس فيقاتل لظلمه لهم، وبهذا اعتبر مطهري والسبحاني أن الحروب كلّها دفاعية، وإن قسّمها الفقهاء إلى دفاعية وابتدائية، مقرّين بأن أغلب حروب النبي| كانت دفاعية، وأن الجهاد شرّع للدفاع، لكن النقاش يكون في الدفاع عن ماذا؟([66]).
وقفات مع نظرية الشهيد المطهري
ولدينا هنا بعض التعليقات على كلمات هذين العالمِين، وهي:
أولاً: لقد قيّد مطهري والسبحاني، وكذلك فعل نعمة الله صالحي نجف آبادي([67]) المجموعة الأولى بالثانية، مع أن المجموعتين مثبتتان، فكلتاهما توجب الجهاد، غايته إحداهما بلا قيد، وثانيتهما مع إضافة قيد، وقد تقرّر في أصول الفقه أنّ المثبتين لا تعارض بينهما إلاّ مع العلم بوحدة الملاك فيهما؛ فيغدو مردّداً بين الأضيق والأوسع، وهذا يعني أنّ ادعاء التقييد يُفترض فيه إثبات ذلك، وهو ما لا يتمّ سوى بإلغاء احتمال الترقي في الخطاب أو النسخ كما ذكره الآخرون، لا التسرّع بافتراض التقييد، نعم رفض مطهري فكرة النسخ لأن المورد كان مورد تقييد؛ فبعض الآيات يقيّد بعضاً لهذا لا معنى للنسخ عنده([68]).
نعم، قد يُستند في الإطلاق والتقييد هنا إلى باب المفاهيم، فإن بعض الآيات التي ورد فيها التقييد بصورة الدفاع جاء على نحو القضية الشرطية أو ما هو في قوّتها، فيُفهم منه أن من لم يُقاتل المسلمين لا جهاد معه، فتكون النسبة بين مفهوم أدلة الدفاع ومنطوق الأدلّة المطلقة هي نسبة العموم والخصوص المطلق الدائر بين السلب والإيجاب؛ فيقع التقييد، بل هناك تقييد بين منطوق مثل الآية التي تنفي السبيل على الكافرين عندما يعتزلون قتالنا، فهي تسلب المسلم حقّ السلطنة على الكافر المحايد، فتقيّد مطلقات الجهاد حينئذٍ.
هذا بناءً على وجود إطلاقات، أما طبقاً لما قلناه من عدم إحراز انعقاد إطلاق في هذه النصوص، إما لعدم إحراز كون المتكلّم في مقام البيان أو لغير ذلك، فلا معنى للتقييد، كما هو واضح، ولا معنى أيضاً لافتراض مجموعة مطلقة من الأساس.
ثانياً: ثمّة تهافت في نظرية الشيخين: المطهري و السبحاني، ففي بدايتها قيّد المطلق بالمقيد الخاص بالدفاعي، فيكون بذلك قد ألغى فكرة الجهاد الابتدائي، أما بعد ذلك وعندما أراد الجمع بين المجموعة الرابعة والخامسة من جهة والمجموعات الثلاث الأولى من جهة أخرى.. جعل ما سوى الثالثة وما بعدها محمولاً على صورة منع الحاكم من نشر الإسلام، مع أنّه التزم أنّ الأولى والثانية صارتا مختصّتين بالدفاع، نتيجة التقييد الذي افترضه؛ ففي نظريته بعض الغموض والارتباك، إلاّ إذا فرض أن حمل الأولى عنده على الدفاعية معناه الدفاع حتى عن حقّ الناس في اختيار دينها، وقد تقدّم الكلام في قضية ربط الجهاد الابتدائي بالدفاع عن حريّة المعتقد، وأنّ هذا الربط ـ ببعض تفسيراته ـ استنتاج لا يستند إلى دليل من النصوص؛ بل إنّ أدلّة الجهاد الابتدائي عند القائلين به تشمل ـ فقهياً ـ حالة سماح الطرف الآخر بحرية الاعتقاد وعدمها.
وعلى أيّة حال، فالمستَنْتَج من الاستدلال القرآني ـ ببيانيه ـ أنّه لم يقم دليل ظاهر واضح ـ حتى الآن ـ سوى آية الجزية لو بقينا معها لوحدها، أمّا لو ربطناها بسلسلة الآيات الأخرى فقد يدّعى قيامها على المرتكز في ذهن المتشرّعة آنذاك من دفاعية الحرب زمن النبي، فليس في القرآن نصّ واضح على الجهاد الابتدائي وأقصاه نصٌّ محتمِل لوجوه، وسنبقيه ـ دون بتّ سلبي أو إيجابي ـ للنظر فيه نهاية البحث إن شاء الله سبحانه بعد جمع عناصر الأدلّة الأخرى.
نظرية التطوّر التصاعدي في التشريع القرآني للجهاد
وفي سياق تحليل فهم التراث الفقهي والتفسيري الإسلامي لنصوص الجهاد في القرآن، نجد في تحليل بعض العلماء لنصوص السماحة والصلح والسلم وغيرها إشارات توحي باعتقادهم بحصول نسخ شديد في آيات العلاقة السلمية مع الآخر، وأن تشريعات العلاقة مع الآخر جاءت على عدّة مراحل:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة اللاحرب، والدعوة السلمية والجدال بالتي هي أحسن وما شابه ذلك من مفاهيم تنهى عن القتال. وهذه هي الفترة المكية من عمر الدعوة الإسلامية التي قيل: إن سبعين آية نزلت فيها تنهى عن القتال.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الإذن بالجهاد دون فرضه على المسلمين، وذلك ما كان أوّل الهجرة، وربما ـ على رأي ـ في الفترة المكّية نفسها.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة وجوب الجهاد الدفاعي، الذي جاء في بداية تشريعات الجهاد، إلى أواخر الحقبة المدنية، ونزلت في هذه الفترة نصوص جهاد الدفاع ونصوص الصلح إذا أوقف العدو الحرب، ونصوص الحياد السلمي، وغير ذلك من النصوص.
المرحلة الرابعة: وهي المرحلة الحاسمة، التي جاءت مع مثل آيات سورة التوبة لتعلن نهاية العلاقة السلمية وعلاقة الدفاع، وتطلق المسلمين من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وبهذا شرّع الجهاد الابتدائي، ونسخت النصوص السابقة التي تهيمن عليها صفات الموادعة والسلم والمصالحة و..
هذا الفهم التصاعدي لنظرية الجهاد في القرآن هو ما نجده في كلمات بعض العلماء الباحثين في قضايا الصلح والهدنة وغيرهما([69]). حيث يرون أن آيات سورة التوبة أنهت مرحلة المهادنات وأعلنت مبدأ الحرب بوصفه المبدأ الدستوري الأوّل في العلاقات الدولية مع غير المسلمين. وهذه النظرية لا تتمّ إلا إذا ثبت أن آيات مثل سورة التوبة تريد فعلاً الشروع بمرحلة جديدة، وأن فيها دلالة على ذلك، الأمر الذي وجدنا أنه غير واضح من خلال دراسة تركيبية الآيات وسياقها ومناخها، علماً أننا استعرضنا تفصيلات كثيرة تتصل بنصوص الصلح والهدنة لدى دراستنا هذا الموضوع في دراسة أخرى.
من هنا، يلاحظ على ما ذكره بعضهم من عدم وجود دليل على تخصيص الآيات المطلقة هنا، والتي هي الآيات المتأخرة نزولاً؛ إذ لا دليل عليه، كما أن التخصيص في قوّة النسخ، وإذا أخضعناه لنظام الناسخ والمنسوخ لزم أن يكون الناسخ ـ أي المخصّص هنا ـ متأخراً زماناً عن المنسوخ، والحال أن المنسوخ ـ الذي هو آيات سورة براءة ـ هو المتأخر زمنياً عن الناسخ؛ فمعيار النسخ والتخصيص لا ينطبق هنا، حتى أن آيات الصلح والمهادنة لا نسخ بينها وبين آيات سورة براءة لاختلاف حالتهما وموضوعهما ونطاقهما([70]).
وقد استنتجنا مما أسلفنا في تحليل الآيات نقد هذه التصوّرات وذلك:
1ـ إنّ مفهوم ـ بل منطوق ـ جملة من آيات الدفاع يصلح لتقييد إطلاقات أدلة مثل سورة براءة، كما أسلفنا.
2ـ إنّ نظام التخصيص وإن كان شكلاً من أشكال النسخ وفقاً لبعض النظريات في أصول الفقه الإسلامي، لكنّ شرط التأخر لا يؤخذ فيه إطلاقاً؛ لأن النسخ بالتخصيص كما يمكن أن يكون بعد ولادة المطلق والعام، كذلك قد يولد المطلق والعام مقيّدين بمفاد النصّ المخصّص السابق زمناً عليهما؛ فإذا جاء نصٌّ يحرّم أكل غير السمك في البحر، ثم جاء يجيز الأكل بصيغة الإطلاق مثل: «لك أن تأكل ما في البحر»، فهنا كما يحتمل أن يكون المطلق قد ألغى الخاص بنظام النسخ، كذلك يحتمل جداً أن يكون ولد مقيداً بما سبق وأنه بيّنه المقنّن من قبل، وهذا يجوز فيما إذا كان حكم الخاص قد رسخ في ذهن المتشرّعة بحيث لم يعد يحتج المقنّن إلى بيان خروجه اعتماداً على مركوزيته، فيصبح في قوّة القرينة المتصلة لا المنفصلة.
3 ـ كيف تم إخراج نصوص الصلح والمهادنة عن نظرية النسخ ـ بهذا المعنى ـ مع أن بعض هذه النصوص ـ كما درسناه مفصلاً في بحث الصلح والهدنة ـ يشمل حالة الجهاد الابتدائي، فيعارض الموقف؟! فوجوب الجنوح للسلم عند ميل الطرف الآخر له مطلقٌ يشمل تمام الأزمنة، فيعارض وجوب الجهاد الابتدائي مع هذا الطرف، وليس في أدلة الصلح والهدنة تقييد بحالة ضعف المسلمين كما تصوّره أكثر الفقهاء وناقشناه في موضعه مفصّلاً.
إذن، فنظرية التشريع التصاعدي ـ إذا صحّت ـ تصح فيما عدا المجموعة الأخيرة التي ادّعي نسخها لعشرات الآيات القرآنية، وهي دعوى ثقيلة تكلّف صاحبها حشد المزيد من الشواهد، حتى أن بعض العلماء ذكر أن آية السيف وأمثالها نسخت مائةً وأربعاً وعشرين آية في القرآن تتحدّث عن الصفح عن المشركين وعن العلاقات السلمية معهم([71])، وهذا ـ على حدّ قول الزحيلي ـ إسراف في القول بالنسخ في القرآن([72])، كما قيل: أن آية انسلاخ الأشهر الحرم نسخت سبعين آية في القرآن الكريم([73]).
الجدير بالذكر أننا هنا ننفي النسخ بملاحظة الآيات القرآنية، وإلا فسيأتي أنّ بعض الروايات تؤكّد مقولة النسخ هنا في الجملة، وسنبحثها فيما بعد بإذن الله.
4 ـ إن بعض آيات المجموعات الأخرى تأبى النسخ ولا تحتمله في حدّ ذاتها؛ فقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبِّ المُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190) لا تحتمل النسخ، فهي تعتبر ـ بحسب هذا التفسير ـ أن مقاتلة من لم يقاتلنا اعتداء، والاعتداء منبوذ، فهو ظلم، فكيف تأتي الآيات اللاحقة لنسخ هذا الحكم؟ فهل تريد أن تجيز الظلم والاعتداء؟!([74])، بل هذا التعبير موجود في بعض الآيات التي استدلّ بها هنا، كآية القتال حتى لا تكون فتنة، إذ ورد في ذيلها النهي عن العدوان إذا انتهى؛ لأن العدوان لا يكون إلا على الظالمين، كما فهم ذلك سيد سابق في فقه السنة، رغم توسعته مفهوم الدفاع لمن منع تبليغ الدين([75]).
وهذه الملاحظة التي ذكرها الزحيلي قد يسجل عليها أن القرآن ألغى اعتبار هذا الفعل ظلماً وقبيحاً في مرحلة لاحقة، أي أنه سلب عنه هذا الوصف. وهذه الملاحظة قد تتم بناء على نظرية التحسين والتقبيح الشرعيين لكنها لا تتم بناءً على التحسين والتقبيح العقليين، إلا إذا قيل: إن تغيّر الظروف جعل مهاجمة غير المقاتل غير عدواني، بحيث كان عدوانياً ثم ألغي هذا الوصف منه؛ لأن المقاتلة ليست قبيحاً ذاتياً وإنّما فيها اقتضاء القبح عندما تكتمل ظروف ذلك.
البحث القرآني، ملاحظات واستنتاجات
الذي يبدو من مجمل ما أسلفنا الإشارة إليه أن القرآن الكريم لم يطرح ـ بوضوح ـ شيئاً اسمه الجهاد الابتدائي الدعوي بالتفسير الذي عرفه الفقه الإسلامي، ولا حتى بتفسيرات بعض الإسلاميين المحدثين الذين تأوّلوا في هذا الموضوع. والنصوص التي اعتمد عليها ليست بهذه الدرجة من الوضوح لتأسيس ما نراه أهم مبدأ دستوري في العلاقات الخارجية، والمشكلة الأساس هنا أنه درست النصوص ـ عند بعضهم ـ دراسة خالية من:
1 ـ الرصد التاريخي المحيط بنزول النصوص، فآيات مطلع سورة براءة جاءت في سياق اعتداء ضدّ المسلمين وسلسلة خيانات عرفها المسلمون كان آخرها نقض صلح الحديبية بالاعتداء على خزاعة، وهذا السياق التاريخي الواضح لا يمكن فصله عن الشدّة التي تريدها الآيات، بل هي نفسها صرّحت بخرقهم العهود، وترصّدهم وكيدهم، فمثل هؤلاء لا مجال بعد هذه الفرص للوثوق بهم والعمل باتفاقات معهم؛ إذ طفح الكيل من اعتداءاتهم، وهذا المنطق التصاعدي ـ بهذا المعنى ـ وجدناه أيضاً في سياسة الرسول| مع يهود المدينة، حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه مع بني قريظة؛ إذ جرّب النبي ـ وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلاً في دراسة أخرى ـ سياسة الطرد من المدينة، لكنه لم يجد معها سوى المؤامرة، كما فعل حيي بن أخطب وبنو النضير بعد طردهم إلى خيبر وإلى شمال المدينة المنوّرة.
كان من الطبيعي للمناخ التصاعدي لتأزم الأوضاع وتتالي الاعتداءات وخرق الاتفاقات أن يصدر قرارٌ حاسم، حتى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ فهذا هو المنطق العقلاني، لكنّ بعض الباحثين في الفقه الإسلامي ترك السياقات التاريخية جميعها ـ وما أكثر نسيان التاريخ في بعض الدراسات ـ ونظر للنصّ بطريقة مجتزءة، فكان أن فهم الجهاد الدعوي؛ فيما الآيات إنما استثنت إسلامهم لا لكون الجهاد غرضه الإسلام؛ بل لأن هؤلاء لا وقف للحرب معهم؛ لأن المعاهدة لم تعد مجدية مع مثلهم بعد التجربة.
2 ـ ونتيجة لغياب الرصد التاريخي السياقي عند بعضهم، جرى فهم النصوص التي تتحدّث عن صفات المشركين والكافرين على أنها قضايا حقيقية، لا خارجية، فكأنها تخبرنا أن المشركين لا عهد لهم إلى يوم القيامة، أو تنبؤنا أنهم سيخونون إلى يوم القيامة، مع أنّ الرصد التاريخي يؤكد أن هذه النصوص كانت في الغالب ناظرة إلى الواقع التاريخي السائد آنذاك، والأحداث المتتالية التي وقعت، لكن لا بمعنى تلاشي الآيات لأجل زوال تلكم الأقوام، بل بمعنى أن الأوصاف الخارجية التي طرحتها الآيات كان لها تأثيرات في الأحكام التي شهدتها سورة براءة بالخصوص، وهذه نقطة مهمة.
3 ـ قراءة أكثر معقولية لظاهرة النسخ في القرآن؛ فالطريقة التي تعاطى بها بعض المفسّرين والفقهاء جعلت من آية أو بضع آيات قليلة ناسخة لأكثر من مائة آية؛ وهذا أمر يستحق أن نقف عنده؛ فبدل أن تؤخذ النصوص السابقة الكثيرة على أنها تحوّلت لمفاهيم راسخة في الوعي، ولهذا لم تحتج الآيات اللاحقة لإعادة تكرار بعض المفردات، خصوصاً مع نزولها أواخر العهد النبوي، وهذا شيء منطقي وطبيعي يعمل به الناس في بياناتهم القانونية، وتستخدمه البنود القانونية والدستورية في العالم.. بدل ذلك أطيح بحوالي خُمس آيات الأحكام، أي خمس الفقه القرآني كما هو المشهور في عدد آياته، لصالح ما لا يزيد عن أربع أو خمس آيات ليست كلّها واضحة الدلالة، وحصل اضطراب غير عادي في هذا الأمر يلاحظه كل من راجع كتب تفاسير المسلمين.
أيّهما هو الأصحّ منطقياً: افتراض النسخ بهذه الطريقة أم افتراض ما نسمّيه الاستبطان؟ أي أن آيةً ما تستبطن مفهوماً لا تذكره اعتماداً على جهود آيات أخَر قامت بتركيزه؛ وهذا شيء طبيعي يضاف إليه نظام الإطلاق والتقييد.
2 ـ 2ـ مستند السنّة الشريفة لنظرية الجهاد التحريري الدعوي
وكما كان الكتاب الكريم، فقد استدّل على شرعية الجهاد الابتدائي الدعويّ أيضاً بنصوصٍ من السنّة الشريفة، وسوف نحاول ـ بإذن الله سبحانه ـ أن ندرس هذه النصوص؛ لننظر في مديات دلالتها على هذا الأمر، وذلك على الشكل التالي:
ثمّة نصوص عديدة استدلّ بها على مشروعية جهاد الطلب والدعوة، ويمكن تصنيفها إلى نوعين من النصوص:
أ ـ النصوص الحديثية الخاصّة المشرعنة للجهاد الابتدائي
ونقصد بذلك وجود بعض الأحاديث التي تملك دلالة مباشرة ومحدّدة في تشريع الجهاد الابتدائي، ولا يستند ـ فقط ـ إلى جهة الإطلاق فيها، بل تحتوي عناصر دلاليّة إضافية في هذا المجال، وأهم هذه الأحاديث ما يلي:
وقفة مع حديث: «أمرت أن أقاتل الناس..»
الحديث الأوّل: وهو أشهر الأحاديث هنا، ما روي عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله| أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم، إلاّ بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله»([76]). وثمّة صيغة أخرى للحديث هي: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها، وحسابهم على الله». كما ورد بصيغ تختلف بالزيادة والنقيصة وبعض التغييرات البسيطة([77]).
وقد وصف الترمذي الحديث بأنه حسن صحيح([78])، كما وصفه الحاكم النيسابوري بأنه صحيح الإسناد على شرط الشيخين([79])، بل بعض من ناقش في الجهاد الابتدائي ـ سنيّاً ـ، مثل: الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، لم يقترب من البحث في سند هذا الحديث؛ لوضوح صدوره([80]). هذا وقد ورد هذا الحديث في بعض المصادر غير الحديثية مرسلاً، مستنداً إليه في جملة منها([81]).
أمّا على الصعيد الشيعي، فقد جاء هذا الحديث في دعائم الإسلام، للقاضي النعمان([82])، وفي تفسير القمي([83])، وكتاب الإيضاح المنسوب إلى الفضل بن شاذان([84])، كما جاء في عيون أخبار الرضا، للصدوق، مسنداً إلى علي عن رسول الله|([85])، وفي ثواب الأعمال له أيضاً، مسنداً إلى كل من أبي هريرة وعبد الله بن عباس([86])، وذكره ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي([87])، ثم نقلت المصادر الشيعية اللاحقة عن هذه المصادر، مثل: بحار الأنوار، ومستدرك الوسائل، وغيرهما، وقد جاء هذا الحديث مرسلاً في المصادر الشيعية القديمة غير الحديثية، مستنداً إليه في بعض المواضع([88]).
وإذا تمّ سند هذا الحديث، المعتضد بشهرته عند المسلمين، وروايته في مصادرهم بأسانيد عدّة إلى: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي بكر، وأوس، وجرير البجلي، وسمرة، وسهل بن سعد، وابن عباس، وأبي بكرة، وأبي مالك الأشجعي، وعياض الأنصاري، والنعمان بن بشير.. ، كان الاعتماد عليه صحيحاً، ونسب إلى السيوطي اعتباره من المتواتر، وكذا إلى صاحب الكنـز الثمين([89])، وعبر عنه القاري (1014هـ) بقوله: «وكاد أن يكون متواتراً»([90])، فيكون دالاً بصراحة على أن مقاتلةالناس كانت كي يسلموا، وأن ذلك هو ما يعصم دماءهم وأموالهم، لا كفّهم العدوان عن المسلمين، ولا غير ذلك إطلاقاً، بل ظاهر الحديث الشمول والاستيعاب؛ حيث عبّر بـ «الناس»، كما ظاهره تحديد الغاية بقوله: «حتى»، فلا مجال بعد ذلك للنقاش في السند أو الدلالة، فيكون دالاً على المطلوب، وأنّ ملاك الحرب هو الكفر ـ كما قال القرطبي([91]) ـ، وربما يكون أقوى الأحاديث في هذا الباب، وأشهرها على الإطلاق.
والبحث في هذا الحديث يقع تارةً على مستوى السند؛ وأخرى على مستوى الدلالة:
أ ـ أما البحث السندي؛ فتارةً نبحث عن سنده في المصادر الشيعية؛ وأخرى نبحثه في المصادر السنّية.
1 ـ أما الحديث في المصادر الشيعية، فقد جاء على الشكل التالي:
أولاً: في دعائم الإسلام؛ وعوالي اللئالي؛ وتفسير القمي؛ والإيضاح، ورد مرسلاً بلا سند.
ثانياً: في عيون أخبار الرضا ورد السند ضعيفاً؛ فإذا لم يكن الحسن بن عبد الله التميمي الوارد فيه هو الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى فيكون مجهولاً هو ووالده الواردين في السند؛ وإذا كان هو كان ثقة، بناء على نظرية توثيق مشايخ ابن قولويه في كامل الزيارات([92])، فيبقى والده عبد الله بن محمد بن عيسى مجهولاً، إلا على نظرية وثاقة مطلق من ورد اسمه في كامل الزيارات، وليست بثابتة.
ثالثاً: في كتاب ثواب الأعمال، للصدوق (381هـ)، ورد السند ضعيفاً أيضاً؛ لا أقلّ بأنّ فيه حماد بن عمرو الصيني، والظاهر أنّه تصحيف النصيبي؛ لعدم وجود الصيني في كتب الحديث والرجال عند المسلمين، وبصرف النظر عن ذلك فكل من اسمه حماد بن عمرو ـ ومنهم النصيبي ـ لا توثيق له في كتب الرجال الشيعية، فضلاً عن تضعيف النصيبي صريحاً، وعدم توثيق غيره ـ سوى حماد بن عمرو الأسدي، الذي لا يحرز اتحاده معه ـ في كتب الرجال السنيّة([93])، وفي السند أيضاً ميسرة بن عبد الله (وربما يكون عبيد الله، وربما يكون ميسر بن عبد الله أيضاً)، وعلى التقادير كافّة فهو رجل مجهول لا توثيق له([94])، على أنّ لدينا ملاحظة على هذه الرواية التي تحكي عن آخر خطبة للنبي في المدينة؛ وذلك أن هذه الخطبة بلغت في كتاب الصدوق خمس عشرة صفحة من القطع الوزيري، فكيف استطاع ابن عباس وهو صغير في السنّ آنذاك، وكذلك أبو هريرة، كيف استطاعا أن يحفظا كل هذه الخطبة الطويلة، حيث لم يكن قد قالها النبي سوى مرة واحدة، ولم يكونوا ليكتبوا في الزمن النبوي؟! هذا ما يجعلنا نتوقف في الوثوق بمثل هذه الروايات في تلك الأزمنة، قبل شيوع الإملاء والكتابة للحديث.
وأما سائر مصادر الشيعة المتأخرة فلا تخرج عما تقدم، فالحديث عند الشيعة ضعيف السند لا يعتدّ به، كما أنه لم يرد في المصادر الحديثية الأبرز، كالكتب الأربعة، ولم يتكرّر حتى يصبح مشهوراً روائياً، بل الملاحظ من لحن بعض النصوص الشيعية أنهم يعتبرونه حديثاً سنّياً في أصله([95])، وإن أورد بعضهم ـ مثل القمي ـ روايته ضمن خطبة النبي| في حجّة الوداع.
2 ـ وأما الحديث في المصادر السنية: فقد جاء في مصادر كثيرة جداً، بعضها وإن أمكن المناقشة فيه سندياً حتى وفق بناءات علم الجرح والتعديل عند أهل السنّة، مثل: ما جاء عند الشافعي في الأم، والمسند([96]) عن ابن شهاب؛ لابتلائه بالإرسال، وقد قام الهيثمي (807هـ) بنقد بعض أسانيد الحديث([97])، إلا أنّ الإنصاف أنّه تام السند عند أهل السنّة؛ وكثرة طرق الحديث وتعدّده، وصحّة بعض هذه الطرق، تغني عن ملاحقة سنده عند أهل السنّة، من هنا فما ذكره بعضهم ـ مثل العلامة محمد حسين فضل الله ـ غريب جداً، فقد ادّعى أنّ الحديث ضعيف، وأنه لم يذكره أحمد بن حنبل في مسنده رغم نقله الصحيح والضعيف([98])، مع أن ابن حنبل روى الحديث مراراً عن جابر، وعمر بن الخطاب، وأبي هريرة، كما ادّعى أيضاً أن مصادر الحديث السنية تتفق على تضعيف الحديث؛ لغرابة سنده بالخصوص، ولولا رواية الشيخين له لما أخذوا به، ويبدو أن السيد فضل الله اعتمد في كل هذا الكلام على ما ذكره البوطي، والأخير مخطئ جداً في تقييماته، وكلاهما أخذ عن الحافظ ابن حجر، الذي كان في الحقيقة بصدد تقييم بعض صيغ هذا الحديث([99])، مع أنّ الحديث ورد في مسند أحمد، وسنن الدارمي، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن ابن ماجة، وسنن أبي داوود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، ومستدرك النيسابوري، وسنن البيهقي، ومجمع الزوائد للهيثمي، فضلاً عن المصادر المتأخرة، كما ورد بأسانيد عدّة، لا بإسنادٍ واحد؛ فمن الناحية السندية الحديث تام عند أهل السنّة، وضعيف في مصادر الشيعة.
ب ـ أما من ناحية الدلالة: فقد سجّلت ـ ويمكن أن تسجّل ـ على الحديث انتقادات عدّة، هي:
الانتقاد الأوّل: ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري([100])، وتبعه بعض المتأخرين([101])، من أن هناك فرقاً بين أقاتل وأقتل، فلو قال الحديث: أمرت أن أقتل الناس حتى يقولوا: كذا وكذا دلّ على الجهاد الابتدائي بملاك الكفر، لأنه يتحدّث عن قتل من لم يؤمن، أما مع كلمة أقاتل فلا؛ إذ هي من صيغ المفاعلة التي تستدعي وجود طرفين، بإجماع علماء اللغة، مما يعني أنه قد فرض سلفاً أن الطرف الآخر قد بدأ بالقتال حتى تكون حربي له مما يسمّى مقاتلة حيث تحقق طرفاها.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ النسبة بين «أقتل» و«أقاتل» هي العموم والخصوص المطلق، إذ من الواضح أنه كلّما صدق جواز القتل صار القتال جائزاً دون العكس، إذ ليس كلّما جاز القتال جاز القتل، ويكفي تطرّق الاحتمال هنا، الأمر الذي يفقدنا الظهور في هذا الحديث.
وهذا التفسير لصيغة المقاتلة إذا تمّ فلا يجري في هذا الحديث فحسب، بل يجري في سائر النصوص القرآنية والحديثية الدالّة هنا؛ لوحدة الملاك فيها جميعاً، ما دام الموقف اللغوي واحداً، إلاّ مع قيام شاهد على العكس.
وفي مقابل هذا التفسير لصيغة المقاتلة، وبمعنى أوسع «المفاعلة»، ذكر السيد الخوئي([102]) ـ تبعاً للسيد الحكيم في ما يبدو([103]) ـ تفسيراً آخر، وهو أن صيغة المفاعلة لا تستدعي وجود طرفين، كما اشتهر بين العلماء، وإنما تدلّ على سعي طرفٍ لإيجاد مادّة الفعل خارجاً، سواء حصلت بعد ذلك أم لم تحصل، فعندما تقول: قاتلت زيداً فمعنى ذلك أنك تصدّيت لقتله، وبذلت محاولةً في هذا الصدد، سواء حصل القتل في الخارج أم لم يحصل، وكذا عندما تقول: كاتبت عمراً، لا يعني ذلك حصول مكاتبةٍ اثنينية الطرف، بل سعيٌ منك لبعث كتابٍ له سواء وصل الكتاب إليه أم لم يصل؛ وعليه فالمفاعلة لا تتطلّب تعدّد الأطراف، بل محاولة أحدها تحقيق مادة الفعل في الخارج.
وكانت للمحقق الإصفهاني مساهمة، حيث قال: «الظاهر أن هيئة المفاعلة لمجرد تعدية المادة وإنهائها إلى الغير، مثلاً: الكتابة لا تقتضي إلا تعدية المادة إلى المكتوب، فيقال: كتب الحديث، من دون تعديتها إلى المكتوب إليه، بخلاف قولهم: كاتبه؛ فإنه يدلّ على تعديتها إلى الغير، بحيث لو أريد إفادة هذا المعنى بالمجرّد لقيل: كتب إليه. وربما تدلّ الهيئة المجرّدة على نسبة متعدية، كقولهم: ضرب زيد عمرواً، إلا أن إنهاءها إلى المفعول غير ملحوظ في الهيئة، وإن كان لازم النسبة، بخلاف: ضارب زيد عَمْراً، فإنّ التعدية والإنهاء إلى المفعول ملحوظ في مفاد الهيئة، فما هو لازم النسبة تارة ومفاد حرف من الحروف أخرى مدلول مطابقي لمفاد هيئة المفاعلة؛ ولذا ربما يفهم التعمد والتقصد إلى إيجاد المادة، فيفرّق بين ضار ومضار، وخدعه وخادعه، ونحوهما»([104]).
ولتحقيق القول في الانتقاد الأوّل نرى أنه تسجل عليه ملاحظات:
الملاحظة الأولى: إنّ صيغة المفاعلة لا تنحصر بالدلالة على ما كانت فيه مشاركة من طرفين، بل تستعمل في هذا المعنى كما تستعمل في غيره، فاستعمالات هذه الصيغة متعدّدة منها:
أ ـ تستعمل للمشاركة، كما في مثل: تشاجر، تضارب، وأشباه ذلك.
ب ـ تستعمل بمعنى الفعل اللازم بلا أيّة إضافة دلالية أخرى، كما في مثل: دافعتُ عن نفسي، أو في مثل: سافرتُ إلى دمشق، فإن الفعل في مثل هذه الأمثلة لازم لا يحمل أيّة دلالةٍ إضافية.
ج ـ وتستعمل لبيان تحقق صورة فعل، دون واقعه، كما في مثل: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾، فإنّها تريد بيان أنهم حاولوا خداع الله سبحانه، إلاّ أنهم فشلوا، ولم يتحقق منهم الخداع أصلاً، بل صورة خداع ومحاولة فاشلة له.
د ـ للدلالة على المبالغة، حيث ذكروا ذلك في مواضع عدّة، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: 38)، والمقصود المبالغة في الدفع على احتمال في التفسير([105]).
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، التي تدلّ على معاني متعددّة لهذه الصيغة غير المشاركة، مثل: حاولتُ، تابعتُ، آويتُ، ضاعفتُ، طالعتُ، ناديتُ، خاطبتُ، ساعدتُ، عانيتُ، حاكمتُ، لاحظتُ، عاقبتُ، هاجمتُ، ناولتُ، داويتُ، هاجرتُ، فاتحتُ، شايعتُ، بادرتُ، عاتبتُ، آجرتُ، عارضتُ...
بل قد أشارت المصادر المختصّة باللغة إلى تعدّد المعاني، نعم، كان المشهور بينهم أنها للمشاركة، لكنّ كتب الصرف لم تنفِ معاني واستعمالات أخرى للكلمة، مثل: ما جاء في كتاب شذا العرف للحملاوي([106])، وأدب الكاتب لابن قتيبة([107])، والقرطبي في تفسيره([108])؛ وعليه فاستعمالات هذه الصيغة متعدّدة في لغة العرب، لا تنحصر بما ذكره المشهور، ولا بما ذكره الخوئي، والحكيم، والإصفهاني، وتحديد المعنى يرجع حينئذٍ إلى القرائن ونحوها.
الملاحظة الثانية: طبقاً لما تقدّم نرى أن صيغة قاتل تحتمل عدة معاني بدواً، لهذا لابد من تحليل استعمالات هذه الكلمة، والذي يجده الإنسان أنّ كلمة قاتل تفترض في الحدّ الأدنى وجود طرفين، يقوم أحدهما بمحاولة القتل؛ فيما يُترقّب من الآخر ردّ فعل، فعندما تقول: قتلت زيداً فإن المفهوم من الجملة أنك أقدمت على فعل القتل في حقّه، وقد صدر الفعل، ولا إشارة في هذه الصيغة إلى ردّة فعله، أما إذا قلت: قاتلت زيداً فإنّ المفهوم من الجملة أنني حاولت قتله، وأنّ هناك ردّة فعل صدرت منه، أو يُترقب منه صدور ردّة فعل، دون إشارة إلى قتله خارجاً، ففي «قتل» لا إشارة إلى ردّة فعل الطرف الآخر، بينما في «قاتل» هناك إشارة إلى ردّة فعله، وهذه هي حيثية الطرفينية في صيغة المفاعلة هنا، لكن لا بمعنى أن قاتلتُ تفترض هجوماً مسبقاً من الطرف الثاني، بل بمعنى أنها تفترض مشاركة منه في ردّ الفعل، دون إشارة إلى طبيعة ردّة الفعل بالدقة، وأنه ابتدائي أو دفاعي، فهذا هو المعنى اللغوي والعرفي للكلمة عند التأمل فيها، وفي الفرق بينها وبين «قتل»، لا ما ذكره المستشكل هنا من التمييز بين الابتدائية والدفاعية.
الملاحظة الثالثة: لو كان ما ذكره ابن حجر، والبوطي، وغيرهما، هنا صحيحاً لواجهتنا بعض الاستخدامات اللغوية التي تستعصي على الحلّ، ونحن نذكر نماذج، ولا نستوعب الأمثلة، وهذه النماذج هي:
النموذج الأوّل: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 191)، فلو كانت المفاعلة هنا تقتضي افتراض الدفاعية في القتال للزم الدور أو التناقض؛ إذ كيف تنهانا عن قتالهم إلى أن يبدأوا بقتالنا، مع أنه لا يصدق قتالنا إلاّ مع بدئهم سابقاً بالحرب، ومع بدئهم لا يسمى قتالاً من قبلهم؟
النموذج الثاني: قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ﴾ (البقرة: 190)، فهي تفترض ـ على التفسير المذكور للحديث ـ تناقضاً؛ إذ إن كلمة «قاتل» في الموردين تفترض الدفاعية، فكيف يمكن تصوّر توقف الدفاع منّا على الدفاع منهم؟!
النموذج الثالث: قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ (الحج: 39)، فهذه الآية تشرّع الجهاد، وتفترض أن العدو يقاتل المسلمين، فإذا كان مفهوم المقاتلة يستبطن الدفاع، فمعنى ذلك أن المسلمين هم من بدأ مع أن الآية هي التي ترخص بالبدء بعد نزولها.
النموذج الرابع: قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ (التوبة: 36)، وهذه الآية كسابقاتها، فلا نطيل.
إلى غيرها من الأمثلة، مثل: قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾ (البقرة: 217)، والتي تؤكد أن الذين طرحوا هذا التمييز السابق بين قاتل وقتل، لم يلتفتوا إلى لوازم هذا المبدأ اللغوي في سائر استعمالات صيغة المقاتلة، والقول بأنّه في أحد استخدامَي كلّ آية توجد قرينة المجاز غير واضح؛ بعد أن لم نشعر بالمجازية، ورأينا التعبيرين على وزان واحد في وجداننا اللغوي.
الملاحظة الرابعة: إن الحديث نفسه لا يتحمّل التفسير الذي ذكر هنا؛ لأنه لو فرضنا أن «أقاتل الناس» تدل على الدفاع، مع أنّ الحرب الدفاعية عند صاحب هذه المناقشة تنتهي بردّ العدوان، وهذا هو المترقب منها، أو على أبعد تقدير تنتهي بزوال ريحهم وضعف شوكتهم وهيمنة المسلمين عليهم، إذاً فلماذا جعل الإسلام في الحديث غايةً لهذا القتال، مع أنّ المناسب منطقياً جعل غيره هدفاً، كردّ العدوان، ونحوه؟ إن الغاية المأخوذة في الحديث شاهد على أن المراد بـ «أُقاتل» هنا ما كان من الجهاد غير دفاعي، أو ما يعمّ الدفاعي وغيره.
وخلاصة الكلام: إنّ هذه الملاحظة في غير محلّها، فالحديث ظاهر في الجهاد المستهدف إسلام الطرف الآخر، لا خصوص الردّ وإيقاف العدوان.
الانتقاد الثاني: ما ذكره الشيخ محمد جواد مغنية، من أنّ هذا الحديث خاصّ بحالة عدوان الطرف الآخر، وسعيه للإفساد في الأرض، ودفع فتنته عن المؤمنين، ويشهد لذلك أنّ مفهوم هذا الحديث بالشكل الظاهري له لا ينسجم مع النصوص القرآنية الدالة على أنّ النبي ليس بمسيطر على الناس، وأنّه منذر ومبشِّر فحسب، ومع ما دلّ على أنّ الله لا ينهانا عن الإحسان لمن لم يقاتلنا، ولم يخرجنا من ديارنا، فكيف يجتمع الإحسان مع الأمر بقتالهم؟!([109]).
وهذه الملاحظة النقدية تتعلّق بمرحلة الجمع بين أدلّة نظرية شرعية الجهاد الدعوي وأدلّة عدم شرعية الجهاد الابتدائي، لتمثل بعض أدلّة النظرية الثانية شكلاً من أشكال النقد المتني على مثل هذا الحديث النبوي المشهور، ونحن هنا لسنا في معرض هذا الجمع والتقييم، وإجراء مقارنات ومقاربات بين الأدلّة المختلفة، وإنّما ـ كما قلنا مطلع البحث ـ بصدد رصد أدلّة الشرعية بما هي هي، إلا إذا كانت بعض أدلّة عدم الشرعية تشكّل معيناً لفهم دليلٍ من أدلّة الشرعية هنا، فلينتبه إلى هذا الأمر، وإن كان أصل ملاحظة مغنية مقبولة في الجملة.
الانتقاد الثالث: إنّ هذا الحديث واضح في عموميّته، فكيف يمكن التوفيق بينه وبين ما دلّ على رفع اليد عن مقاتلة أهل الكتاب مع دفعهم الجزية؟! إذ هذا الحديث يفترض أن الحرب إنّما هي لإسلام الناس، فيما النصوص الأخرى تخرج قسماً كبيراً من البشر، هم: اليهود، والنصارى، والمجوس، عن هذا القانون، ففي صيغة من هذا النوع ينبغي ذكر هذا التفصيل، ولا يصحّ تجاهله إلى دالّ آخر.
وقد يجاب عن ذلك من وجوه:
أ ـ ادّعاء نسخ هذا الحديث بآية الجزية في إطار أهل الكتاب.
ب ـ ادّعاء التخصيص، بأن يكون عاماً خصّصته أدلّة أخذ الجزية من أهل الكتاب، بناءً على التمييز بين التخصيص والنسخ الذي من هذا النوع.
ج ـ أن يراد بالشهادتين المذكورتين في الحديث إعلاء كلمة الله؛ إما عبر قتل الطرف الآخر؛ أو إسلامه؛ أو إخضاعه.
د ـ أن يراد بالقتال في الحديث عين القتال؛ أو ما يقوم مقامه، مثل: أخذ الجزية.
هـ ـ أن يقال بأن الغرض من نظام الجزية أن يسلموا، ولو اضطراراً، وسببُ السبب سببٌ.
و ـ أن يستوحى من أنّ الله أمر نبيه بمقاتلة الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله أنّ المقاتَلين هم المشركون فقط؛ لأنّ أهل الكتاب يقولون هذه الكلمة، وإنّما يختلفون في النبوّة، فهذا شاهد على اختصاص الحديث بغير أهل الكتاب.
وقد وردت هذه التبريرات في كلمات بعض العلماء، أبرزهم: العيني وابن حجر([110])، لكن الثالث والرابع والخامس منها أجوبةٌ واضحة في التأوّل، بعيدة عن ظاهر الحديث، أمّا السادس فخاصّ بما ورد فيه الاقتصار على الشهادة بالتوحيد، وإلا ففي بعض صيغ الحديث إضافة الشهادة بالرسالة أيضاً؛ هذا إذا لم نقل بما ذكره بعضهم([111]) من أنّ الاقتصار على التوحيد لمكان إشاريّتـه لمطلق شهادة الإسلام؛ فالأقرب من هذه الافتراضات ـ بصرف النظر عمّا سيأتي في الانتقاد الرابع ـ هو افتراض التخصيص، بعد ثقل دعوى النسخ.
وإذا صحّ التبرير السادس لم يكن هذا الحديث حينئذٍ مشرعناً للجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب؛ لأنّهم خرجوا بالتخصّص، لا بالتخصيص، ودون إقحام آية الجزية في المقام.
الانتقاد الرابع: ما ذكره ابن قرناس، وتقريبه، مع توضيح وتعميق منّا: إن هذا الحديث يعارض التاريخ النبوي؛ فإنّ حروب النبي بأكملها كانت حروباً دفاعية، من بدر إلى أحد إلى الأحزاب إلى غيرها من غزواته ومعاركه العسكرية، فإذا كان قد كُلّف بمقاتلة الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله فأين طبّق النبيّ| هذا الأمر؟! ولماذا خالفه؟!([112]).
وهذا الانتقاد متوقف على إثبات دفاعية الحروب النبوية، وهو ما سوف نبحثه ـ بعون الله تعالى ـ لاحقاً، ولو تمّ ذلك بالإثبات التاريخي كما سوف يثبت، ربما يمكن الخروج من هذا الإشكال ـ مع الغض عن الانتقاد الآتي الذي نتبنّاه ـ بأنّ الأمر هنا موجّه إلى جميع المسلمين، فيكون عدم تطبيق النبي من باب انعدام فرص ذلك بالنسبة إليه شخصيّاً، مع ثبوته بوصفه حكماً، ما لم نثبت أنّ النبي كان يمكنه شنّ حروب ابتدائية تنفيذاً لهذا التكليف الشرعي ولكنّه ـ ودون مبرّر ـ لم يفعل ذلك، وتفصيل الموضوع نأتي عليه قريباً في بحث الاستدلال بالتجربة النبوية، إن شاء الله.
وبعبارة أخرى: إما نقبل بالانتقاد الخامس الآتي، فيكون الانتقاد الرابع بمثابة نقد متني على أصل صدور الحديث، أو نرفضه فلا يعود الانتقاد الرابع قوياً في نفسه.
الانتقاد الخامس: ما نرى أنّه الانتقاد الأصحّ الذي يمكن توجيهه على الاستدلال بهذا الحديث على الجهاد الابتدائي، وهو أن نقول: إنّ تمام صيغ هذا الحديث، رغم اختلافها في الزيادة والنقيصة وفي بعض الخصوصيات، تشترك في جملة: «أمرت أن أقاتل»، و«عصموا مني» أو ما هو بمعناها([113])، وهذا معناه أنّ المأمور بهذا الحديث هو النبي الأكرم|، وليس ما يفيد أنّ هذا الأمر الإلهي موجّه إلى عموم المسلمين في جميع الأعصار، فلم تقل أيّة رواية: أمر المسلمون بذلك، واحتمال الخصوصية وارد؛ من حيث إنّه قد يكون في بداية الدعوة حاجة إلى ممارسة الجهاد الابتدائي، قبل تثبيت أسس الدولة الجديدة أو المجتمع الجديد، فهي مرحلة الانطلاق؛ لهذا طلب من النبي أن يمارس هذا اللون من المواجهة لترسيخ دعائم الدعوة في مناخ تحارَب فيه بشدّة، كما أنّ التعبير في إحدى صيغ الحديث بقوله: «فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها، وحسابهم على الله» ـ مع أن هذه الصيغة نادرة وقليلة جداً([114]) ـ ليس دالاً على أنّ الحكم عام؛ لأنّ المقصود بأمر النبي ليس أن يقاتل هو شخصياً، بل بمعنى مقاتلته للناس في عصره مع المسلمين الذين معه، فليس هذا مثل مختصّات النبي ـ كوجوب صلاة الليل عليه و.. مما ذكر في محلّه ـ، بل من مختصّات عصره ومرحلته وزمانه.
وربما يتعزز ذلك أيضاً ـ ويعزّز ـ بأنّه من المحتمل جداً أن يراد بكلمة «الناس» الواردة في الحديث ليس مطلق البشر، بل قريش ومشركو العرب، فتكون للعهد، شبيه استعمالها في حقّ أهل السنّة في بعض روايات الشيعة الإماميّة، فهناك احتمال ـ نتيجة هذه الشواهد ـ أن يختصّ هذا الحكم بمشركي العرب، ويعزز ذلك أنّ صيغة الحديث جاءت بتعبير «المشركين» مكان «الناس» في سنن أبي داوود([115])، وسنن النسائي([116])، وسنن البيهقي([117])، والسنن الكبرى للنسائي([118])، وسنن الدارقطني([119])، وكذا ما جاء في تغليق التعليق لابن حجر([120])، وكلّهم نقلوا هذا الحديث عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عين السند الذي ذكره البخاري عن أنس، وذكر فيه كلمة «الناس»، مما يجعل هذه الكلمة مردّدة بين «الناس» و«المشركين»، فيؤخذ منها بالقدر المتيقن، وهو المشركون، إلاّ إذا جعلت سائر الروايات قرينة على صحّة كلمة «الناس»، ذاك المصطلح الذي غلب إطلاقه على مشركي العرب الذين واجههم النبي، فلا نحرز الشمول لمطلق مشرك غيرهم؛ نتيجة جملة هذه الملاحظات، فيكون هذا الحديث خاصّاً بتلك المرحلة، لا يحرز تعديه إلى غيرها.
فإذا قُبل بهذه الملاحظة ـ التي تحلّ أيضاً الإشكالية التي أثارها الانتقاد الثالث ـ كان أمد هذا الحديث منتهياً اليوم؛ وإلا كانت دلالته على الجهاد الابتدائي تامة، غايته يلتزم بالتخصيص في ما يتعلّق بأهل الكتاب، كما أشرنا في التعليق على الانتقاد الثالث.
وقد تقول: إنّ هذا الحديث ورد في بعض الروايات في سياق الحوار الذي جرى مع الخليفة الأول أبي بكر بن أبي قحافة في ما يخصّ قتال مانعي الزكاة، وقد تمّ الاستشهاد به في ذلك الموضوع، ولهذا نجد لهذا الحديث حضوراً في بحث الزكاة في الكتب الفقهية السنيّة، وهذا معناه أنّ المسلمين الأوائل وكبار الصحابة فهموا من الحديث عدم الاختصاص بالنبي، فطبّقوه في موارد لاحقة بعد وفاته، وهذا يناقض الفهم الذي ذكرتموه.
لكننا نجيب ـ بصرف النظر عن التردّد الذي قد يثيره باحثٌ ما عن إقحام هذا الحديث بموضوع الزكاة، وهل كان هذا الإقحام شاهداً على إضافة بعض المقاطع فيه ـ بأنّه إذا فهم أحد الصحابة أو بعضهم كما تفيد الرواية، فهذا ليس حجةً علينا؛ فربما أخطأوا في فهم مراد النبي الأكرم، فغابت عنهم الخصوصية، ونحن اليوم بتنا نحتمل هذه الخصوصية، ولاسيما بمعونة شواهد أخرى، وقد بحثنا في دراساتنا حول حجية السنّة أنّ الشك في تاريخية حكم يفرض الأخذ بالقدر المتيقن([121])، وهو هنا يساوق فرض الجهاد الابتدائي في بداية الدعوة لا أكثر.
الحديث الثاني: مرسل الحسن بن محبوب، قال: كتب أبو جعفر× في رسالة إلى بعض خلفاء بني أمية: «ومن ذلك ما ضيّع الجهاد الذي فضّله الله عز وجل على الأعمال، وفضّل عامله على العمال، تفضيلاً في الدرجات والمغفرة والرحمة، لأنه ظهر به الدين، وبه يدفع عن الدين...، وأوّل ذلك الدعاء إلى طاعة الله عز وجل من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد، فمن دعي إلى الجزية فأبى قتل وسبي أهله، وليس الدعاء من طاعة عبدٍ إلى طاعة عبد مثله، ومن أقرّ بالجزية لم يتعدّ عليه ولم تخفر ذمّته، وكلّف دون طاقته وكان الفيئ للمسلمين عامة غير خاصة، وإن كان قتال وسبي سير في ذلك بسيرته، وعمل في ذلك بسنته من الدين..، وإنما كانوا أهل مصر يقاتلون من يليه يعدل بينهم في البعوث، فذهب ذلك كله حتى عاد الناس رجلين أجير مؤتجر بعد بيع الله ومستأجر صاحبه غارم وبعد عذر الله، وذهب الحج فضيع وافتقر الناس فمن أعوج ممن عوج هذا ومن أقوم ممن أقام هذا فرد الجهاد على العباد وزاد الجهاد على العباد، إن ذلك خطأ عظيم»([122]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فالرواية مرسلة لا حجية فيها، إلاّ على نظرية تصحيح روايات أصحاب الإجماع ولو كانت مراسيل؛ فإن الحسن بن محبوب من أصحاب الإجماع، فإذا فسّرت جملة تصحيح ما يصحّ عنهم بمعنى صحّة مروياتهم كانت الرواية هنا حجّة، وأما إذا كانت بمعنى أنه مصدّقون غير متّهمين ـ كما هو الأصحّ والمقدار المتيقن ـ فلا يفيد ذلك سوى علوّ كعبهم في الوثاقة والجلالة، لا تصحيح مثل مراسيلهم كما هو واضح، فالحديث ضعيف السند.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فقد أورد على الرواية بوجود تشويش فيها واضطراب، وذلك:
1 ـ ما جاء في بدايتها من كلمة «ومن ذلك»؛ إذ لا يُعلم المشار إليه، وربما يقدّر: أنكم يا بني أمية قمتم بأعمال مخالفة للشرع، منها..([123]).
وهذه الملاحظة إن قصد منها سقوط مطلع الرواية، فهذا واضح، لكن هذا يحصل أحياناً في الروايات، ربما بسبب التقطيع، وهو ليس اضطراباً، بل المهم في هذه الحال أن يلحظ هل للمقطع المحذوف تأثير على دلالة الباقي، بحيث يمثل قرينة متصلة مفقودة أم لا؟
والذي يبدو أن مدلول الرواية واضح غير مشوّش بحذف الصدر، لهذا فهذا الخلل ـ مع وجوده ـ لا يضرّ بالاستدلال.
2 ـ تعبير «فضّله الله على جميع الأعمال» يدلّ على تقديم الجهاد حتى على الصلاة، مع أن الصلاة أهمّ([124]).
وغاية ما تفيده هذه الملاحظة إيقاع المعارضة بين الروايات الدالّة على أفضل العبادات، لا فرض وضوح تلك الروايات لتقدّم على هذه الرواية، وقد يقال ـ وفيه نظر ـ: إنّه حتى لو تقدّمت تلك الروايات، لا يعني ذلك فساد هذه الرواية، لاحتمال إرادة الأعم الأغلب من «الأعمال»، وهذا موجود في لغة العرب، ولاسيّما مع قيام شاهد، وهي الروايات الأخرى.
3ـ جملة: «وإن كان قتل وسبي سير في ذلك بسيرته»، فإن مرجع الضمير في «سيرته» غير معلوم، وهذا يحدث تشوّشاً([125]).
وهذه الملاحظة سببها حذف المقطع الأوّل من الحديث، وهذا المقدار من الرواية، حتى لو لم يكن مفهوماً، لا يضرّ بسائر مقاطع الحديث ـ موضع الشاهد ـ لمن قرأها.
4ـ جملة: «وإنما كانوا (كان) أهل مصر يقاتل من يليه، يعدل بينهم في البعوث»، حيث يعدّ ذلك خطأ في التركيب ناتجاً عن وجود سقط في الكلام، ولعلّ الأصل: «وإنما كان أهل مصر.. يعدل واليهم بينهم»([126]).
وهذا المقطع يمكن تفسيره بأنّ أهل كل مصر يقاتل من يليه من الكفار، ويعدل ـ أي الحاكم ـ بينهم في البعوث، فيرجع الفاعل المستتر إلى المقدّر في ضمير «سيرته»، ولعلّه النبي أو بعض الخلفاء الأوائل.
نعم، هذا الحديث فيه بعض الارتباك، وليس سليماً ومستساغاً على المستوى العربي.
والمهم في نقد هذا الحديث ـ دلالةً ـ هو عدم وجود كلام واضح فيه يدل على الجهاد الابتدائي، إلاّ عدة مقاطع قد يُستند إليها هي:
1ـ «لأنه ظهر به الدين، وبه يدفع عن الدين»، حيث إن الظهور هنا بمعنى الغلبة، فيكون ذلك مؤشراً للحديث عن الجهاد الابتدائي.
إلاّ أن هذا المقطع غير ظاهر، فإن الجملة ماضويّة، وجهاد المسلمين عهد النبي| وفتح مكّة كلّه مما ظهر به الدين واعتزّ، وليس من المعلوم أنه جهاد ابتدائي، كما سوف يأتي بحثه بإذن الله، فغلبة الدين قد تكون بالحرب الدفاعية لا الابتدائية، ولعلّ مراد الحديث مثل فتح مكّة، ويكفي بعض المصاديق فيه نظراً لماضوية الفعل.
2 ـ «وأوّل ذلك الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد وإلى عبادة الله من عبادة العباد»، فهذا المقطع شاهد على أنّ الجهاد جهاد دعوة لا دفاع.
وهناك جواب مبنائي ذكره بعضهم، وهو أنّ الابتداء بالدعوة يجري في الجهاد الابتدائي والدفاعي معاً، وليس من خصوصيات الابتدائي، ولا تتقوّم حقيقته به([127])، وهو جواب سيأتي الحديث عنه ـ إن شاء الله تعالى ـ وسيتبيّن أنه وجيه، وبه يردّ على سائر روايات الدعوة([128])، إضافةً إلى أنّ الرواية عقّبت ـ بعد هذا الكلام ـ بالقول: «فمن دعي إلى الجزية فأبى»، وهو ما لا يتناسب مع الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، إلا مع تفسير الدعوة بمعناها الشامل الذي يبدأ بالإسلام، فإن حصل الرفض تمّ الانتقال إلى مرحلة طلب الخضوع أو الجزية.
3 ـ ما جاء آخر الرواية: «فردّ الجهاد على العباد. إن ذلك خطأ عظيم».
حيث قد يستفاد منه طلب الإمام من ذلك الخليفة الأموي إعادة الجهاد، مع أنّ الدولة الأموية لم تكن في حالة دفاع.
وهذا المقطع لعلّه من أوضح المقاطع بعد ملاحظة إجمالية لمتن الرواية، رغم أنّ فيه إجمالاً؛ لأننا لا نعرف من هو الخليفة، ولعلّ أطراف الدولة الإسلامية في عصره كانت تتحرّك ضدّ دولة المسلمين، كما في مثل: الأندلس في بعض الفترات، فلا يكون هناك صراحة في الابتدائي قبل حسم هذا الموضوع التاريخي في عصر الإمام الباقر×، وعلى أية حال؛ فبعد الضعف السندي ووجود بعض التشويش في الرواية، وانفتاحها على أكثر من احتمال، لا يصحّ الاستناد إليها لإثبات المطلوب هنا.
الحديث الثالث: خبر أبي حفص الكلبي، عن أبي عبد الله× قال: «إنّ الله عز وجل بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين، فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخير في السيف، وتحت السيف، والأمر يعود كما بدأ»([129]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فجهة الضعف فيه أبو حفص الكلبي، فهو مهمل([130]).
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فالحديث قريب جداً من الجهاد الابتدائي، فقد شرع بالحديث عن قبول الإسلام، ثم أعقبه بأمر السيف، مما يشير إلى دخالة السيف في الدعوة إلى الإسلام.
إلاّ أن هذا التفسير الدلالي للحديث يواجه ملاحظات:
أولاً: إنّ الرواية تتحدّث عن النبي|، وتمام حروب النبي دفاعيةٌ، ولاسيّما مع أولئك الذين أبوا الإسلام في السنين العشر الأولى، أي قريش ومن يحيط بها، حيث كانت الحرب دفاعيةً معهم، كما سوف نبيّن ذلك بدورنا لاحقاً بعون الله تعالى؛ وعليه فحربه لهم لم تكن لإسلامهم، مما يجعل هناك معارضةً بين هذه الرواية وبين الواقع الخارجي([131]).
ثانياً: إنّ الرواية تفيد تشريع وجوب القتال بعد عشر سنوات من البعثة، وهذا يعني أنّ الجهاد شرّع في مكّة، مع أن الأدلّة متضافرة على أنّ تشريعه كان في العام الثاني للهجرة، أي بعد ما يقرب من تمام أربعة عشر عاماً من البعثة، وهذه جهة ضعف مضموني في الرواية([132])، وإذا أرجعنا «حتى أمره بالقتال» إلى كونها جملةً مستقلةً، لا ربط لها بعدد السنين، لم يكن هناك معنى لذكر السنوات العشر؛ وعليه فهذا الخبر لا يمكن الاعتماد عليه.
الحديث الرابع: خبر فضيل بن عيّاض، قال: «سألت أبا عبد الله× عن الجهاد أسنّة هو أم فريضة؟ فقال: الجهاد على أربعة أوجه، فجهادان فرض، وجهاد سنّة لا تقام إلاّ مع الفرض، وجهاد سنّة، فأمّا أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي الله عز وجل، وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض، وأما الجهاد الذي هو سنّة لا يقام إلاّ مع فرض فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمّة ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب، وهذا هو من عذاب الأمّة، وهو سنّة على الإمام وحده أن يأتي العدوّ مع الأمّة فيجاهدهم، وأما الجهاد الذي هو سنّة، فكلّ سنّة أقامها الرجل..»([133]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية فله خمسة مصادر أساسية، في اثنين منها ضعف بالإرسال، وهما كتاب الغايات وتحف العقول، والثلاثة الباقية هي: الكافي؛ والخصال؛ والتهذيب، وهي ضعيفة بعلي بن محمد القاساني المضعّف في بعض الكلمات، ولا أقلّ من عدم إحراز توثيقه([134])، والقاسم بن محمد؛ وهو إما المغموز فيه؛ أو المشترك المردّد حاله([135])، فالخبر ضعيف السند.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية فأقصى ما في الحديث شاهدان، هما:
الشاهد الأوّل: قوله: «ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض». وهذا التعبير يقرّب الاستدلال به على الجهاد الابتدائي بعين التقريب الذي ذكر في الآية القريبة منه: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ﴾، وقد أسلفنا هناك عدم الدلالة على الابتدائية وانسجام ذلك مع الجهاد الدفاعي انسجاماً تاماً، فيكون هذا الحديث تبعاً لتلك الآية.
الشاهد الثاني: ما جعل في الحديث جهاد سنّة لا يقام إلاّ مع الفرض، حيث يفهم منه الجهاد الابتدائي بإذن الإمام.
وهذا المقطع لوحظ عليه:
أولاً: إن تعبير «العدو» الوارد فيه يستبطن العدوان؛ لعدم صدق العدو على غير المعتدي، كما تشير إلى ذلك آية الممتحنة الناهية عن قتال من لم يقاتل المسلمين في الدين.
ثانياً: ما المراد من أنّ الجهاد المذكور فرضٌ على الأمّة وسنّة على الإمام؟ ما هو المراد بالسنّة هل الأمر المستحب أو مطلق الأمر المباح؟! وفي الحقيقة، فالحديث يوقفنا على تساؤلين فيه، هما:
التساؤل الأوّل: ما الفرق بين الجهاد الفرض، وهو جهاد الذين يلونكم، وبين الجهاد السنّة المتوقف على الفرض؟ هناك احتمالان:
الاحتمال الأوّل: ما أثاره العلامة شمس الدين من أن يكون المراد من الجهاد الفرض هو جهاد القريب، فيما يكون المراد من الثاني جهاد البعيد([136])، وهذا فرض لا شاهد في الرواية لدى الحديث عن «الجهاد السنّة المتوقف على فرض» عليه أبداً، إلاّ إذا استنتج استنتاجاً من قرينة المقابلة، وحينئذٍ يكون جهاد القريب غير موقوف على إذن الحاكم، على خلاف جهاد البعيد فقد يقال بموقوفيّته، وربما كان الجهادان دفاعيين، وربما كانا ابتدائيين، ولا شاهد في الرواية على أيّ من ذلك، تماماً كما هو احتمال كون أحدهما دفاعياً، والآخر ابتدائياً.
الاحتمال الثاني: أن يراد بجهاد الفرض الجهاد الدفاعي؛ لذا لم يُشرط بذكر الحاكم، على خلاف الجهاد السنّة المتقوّم بالفرض فهو الابتدائي، وهذا التفسير ربما ينسجم مع الفتوى المشهورة للفقهاء أيضاً.
وهذا الاحتمال وارد، إلاّ أنّ المشكلة هي أن الرواية لا إشارة فيها إلى خصوصية الدفاعية والابتدائية، فكيف نتمكّن من استظهار هاتين الخصوصيتين دون شاهد أو قرينة؟! أضف إلى ذلك أن افتراض الجهاد السنّة متقوّماً بالفرض معناه وجوب الجهاد الابتدائي على الأمّة دون الحاكم، وهذا أبعد عن فتوى المشهور.
التساؤل الثاني: كيف ربطت السنّة بالفرض في الرواية؟
أشكل العلامة شمس الدين بأنه إذا تقوّم جهاد الأمّة ـ وهو جهاد فرض ـ بجهاد الحاكم وهو جهاد سنّة، وفسّرنا السنّة بالمستحّب أو المباح، سقط وجوب هذا الجهاد على الأمّة، فإذا كان هذا الجهاد ابتدائياً فمعنى ذلك عدم وجوبه، من هنا يرى شمس الدين أنه لا يُعقل تقييد الجهاد الفرض بأمرٍ مستحب، بعيداً عن الاحتمالين المتقدّمين([137]).
لكنّ هذا الكلام غير وجيه؛ وذلك أنّ الرواية لم تقيّد فرض الأمّة بسنّة الإمام، بل عكست الأمر، فقيدّت سنّة الإمام بفرض الأمّة، ومن ثَمّ فالفرض ثابت على الأمّة جميعها تحرّك الإمام أم لم يتحرّك، غايته أنه إذا أراد التحرّك لا مجال لديه سوى بتحرّك الأمّة، فالإيراد على الرواية بذلك في غير محلّه.
والذي نفهمه من الرواية أنّه لا دليل على وجود جهادين فرض فيها، بل جهاد واحد، غايته هذا الجهاد واجب على الأمّة، وهو الجهاد الثاني، وربما كان عينه الجهاد الثالث الفرض على الأمّة، غايته أن الجهاد الثاني كانت تنظر الرواية فيه إلى الأمّة لذا اعتبرته واجباً، أما الثالث فكانت تنظر فيه إلى الحاكم فاعتبرته سنّة، ولا دليل على مغايرة الجهاد الثاني مع الجهاد الفرض المأخوذ عند الحديث عن الجهاد الثالث، ومعه يمكن أن يكون هذا الجهاد هو الدفاعي، ولا شاهد في الرواية على خصوصية الجهادين المفروضين، ولا أقلّ من الإجمال المانع عن الاستدلال.
أما كيف لا يجب الجهاد على الحاكم مع وجوبه على الأمّة، فهذا شيء غير ظاهر تفسيره من الرواية، مما يضع عليها علامة استفهام، بل المثير في الرواية أن السؤال الوارد فيها من جانب فضيل بن عيّاض هو عن أن الجهاد سنّة أم فريضة؟ وهل يمكن لمسلم في عصر الإمام الصادق أن يسأل هذا السؤال وجوابه من واضحات الشرع، من هنا، ونظراً لما ثبت رجالياً من أنّ ابن عياض سنّي المذهب، نحتمل أن يكون المراد بالفرض هنا ما جاء في بعض الأوساط السنية والشيعية، من أن الفرض ما جاء في القرآن، والسنّة هي الواجبات التي شرّعها الرسول، ولعلّ شاهد ذلك تقارب تعبير الجهاد الثاني مع الآية القرآنية، والاستناد في الجهاد الرابع السنّة إلى خبر عن رسول الله، وهذا قد يعني أنّ الجهاد الابتدائي لم يقم عليه دليل قرآني بنصّ هذه الرواية.
وعلى أية حال فليس في الحديث شاهد واضح على الابتدائية، فضلاً عما ذكره شمس الدين من أن جعل ترك الجهاد على الأمّة موجب لعذابها المنصرف إلى الدنيوي يساعد على الدفاعية لا الابتدائية، فالاستدلال بالحديث غير واضح.
الحديث الخامس: حديث الأسياف، وهو خبر حفص بن غياث، عن أبي عبد الله× ـ في حديثٍ طويل ـ قال: «سأل رجلٌ أبي× عن حروب أمير المؤمنين× وكان السائل من محبينا، فقال له أبو جعفر×: بعث الله محمداً| بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة، فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها أمن الناس كلّهم في ذلك اليوم.. فأمّا السيوف الثلاثة المشهورة (الشاهرة)؛ فسيف على مشركي العرب، قال الله عز وجل: ﴿فَاقْتُلُواْ المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ..﴾، فهؤلاء لا يُقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام..؛ والسيف الثاني على أهل الذمة، قال الله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ (البقرة: 83)، نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله عز وجل: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ..﴾ (التوبة: 29)، فمن كان منهم في دار الإسلام فلم يقبل منهم إلاّ الجزية أو القتل..؛ ومن كان منهم في دار الحرب.. ولم يقبل منهم إلاّ الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل، والسيف الثالث سيفٌ على مشركي العجم ـ يعني: الترك والديلم والخزرـ.. فهؤلاء لن يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام..»([138])، ثم يشرح باقي السيوف وأحدها مشرّع ضدّ البغاة، والأخير سيف القصاص.
وهذا الحديث من أوضح الأحاديث الشيعية الإماميّة الدالّة على حكم الجهاد الابتدائي وتشريعه في الإسلام، وبقائه واستمراره إلى يوم القيامة.
والبحث في هذا الحديث يقع تارةً من حيث السند؛ وأخرى من حيث المتن:
أ ـ أما من الناحية السندية فقد ورد مرسلاً في تحف العقول وتفسير العياشي، وفي باقي المصادر ورد مسنداً بأسانيد ترجع جميعها إلى القاسم بن محمد، وهو اسم مشترك ـ بدواً ـ بين عشرين شخصاً، إلاّ أنه بعد تحليل الراوي والمروي عنه، لاحظنا أنّ الذي روى عنه علي بن محمد القاساني وإبراهيم بن هاشم، الواردين في سند هذه الرواية، مرددّ بين اثنين، هما: القاسم بن محمد الإصفهاني القمي، والقاسم بن محمد الجوهري، بل إن سعد بن عبد الله الذي روى هذه الرواية عن القاسم بن محمد لم نجد له رواية عن القاسم بن محمد الجوهري، مما يقوّي احتمال أن يكون المراد بالقاسم بن محمد هنا هو الإصفهاني، ولا أقلّ من التردّد.
أما القاسم بن محمد الإصفهاني القمّي فضعّفه النجاشي، وقال عنه: لم يكن بالمرضي، كما ضعّفه ابن داوود والغضائري، ولم يرد توثيق له، ولم يرد في أسانيد مثل: كامل الزيارة، وتفسير القمي، و..، فيكون ضعيفاً. وأما القاسم بن محمد الجوهري فوثق على أساس كثرة روايته، ورواية الأجلاء عنه، ورواية بعض الثلاثة عنه، كابن أبي عمير، وتوثيق ابن داوود له، ووروده في أسانيد كامل الزيارة([139]).
ولو سلّمنا بصحّة هذه الأسس الرجالية ـ والمفترض على الرأي الأخير للسيد الخوئي عدم توثيقه ـ يقع الاشتراك؛ فإذا لم نقل بأن الأرجح في هذه الرواية أن يكون الإصفهاني المضعّف؛ لأنه روى عنه هنا سعد بن عبد الله، ولم يعثر على رواية له عن الجوهري، فتكون الرواية ضعيفة، فلا أقلّ من التردّد الشديد، مع عدم إمكان التمييز؛ ممّا يسقط الرواية أيضاً عن الاعتبار.
قد يقال: إن الرواية واردة في تفسير القمي فيكون القاسم بن محمد ـ أياً يكن ـ ثقةً على نظرية توثيق رجال تفسير القمي.
ويجاب عنه: بأنّ هذا يتم لولا تضعيف النجاشي للإصفهاني، فيتعارض تضعيفه مع توثيق القمي ـ على تقدير صحّة نظرية توثيق القمي، وليس من المشايخ المباشرين ـ، فيتساقطان في الحدّ الأدنى، فيعود مجهولاً، فيتردّد السند بين مجهول وموثق، فيسقط عن الاعتبار أيضاً.
وعلى أيّة حال فقد ورد في بعض الطرق أيضاً علي بن محمد القاساني المجهول، فلا يُستند إلى هذه الرواية، وتعدّد طرقها لا يصيرّها متواترة، لرجوعها بأكملها إلى القاسم بن محمد، عن سليمان بن داوود المنقري، عن حفص، فالخبر آحادي جزماً، ضعيف سنداً.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فقد استشكل فيها من جهات، والمهم منها هو:
الجهة الأولى: إن مشركي العرب هم المشركون الخاضعون للدولة الإسلامية، لا مطلقاً، ولا أقلّ من احتمال ذلك([140]).
وهذا الكلام غير واضح:
أ ـ فإن المقطع الذي تحدّث عن مشركي العرب مطلق لا إلماح فيه لمسألة المواطنية وعدمها.
ب ـ فضلاً عن أنّ الرواية نفسها قد استشهدت لتأييد فكرتها بالآية الكريمة، وهي ـ أي الآية ـ تتحدّث عن المشركين وحكمهم مطلقاً، ولو لم يكونوا خاضعين لسلطان الدولة الإسلامية.
ج ـ على أنّ الحديث فيها عن سبي ذراريهم وما شابه ذلك واضحٌ ـ نسبياً ـ في حالة الجهاد مع غير المواطن في الدولة الإسلامية.
الجهة الثانية: إنّ الرواية ادّعت نسخ آية: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ بآية الجزية، وهذا واضح البطلان؛ لعدم ثبوت النسخ في القرآن الكريم، والجمع العرفي بين الآيتين ممكن، مما يشهد على خروج الحديث مخرج التقية([141]).
وهذا الكلام غير واضحٍ أيضاً؛ فإنّه إذا ثبت الحديث ـ دلالةً وسنداً ـ في حدّ نفسه، يكون بعينه دليلاً على النسخ، وعدم ثبوت النسخ في القرآن لا يعني ثبوت عدمه، وإمكان الجمع لا ينافي النسخ على تقديره بعد أن دلّ عليه الدليل، إلاّ إذا كان تبنّينا نظرية عدم ثبوت نسخ القرآن بالقرآن بتوسّط خبر آحادي كما هو الصحيح؛ فيكون هو المرجع في الإشكال لا ما ذكر هنا.
الجهة الثالثة: إن حصر الرواية مشركي العجم بالترك والديلم والخزر يجعلها أخصّ من المدّعى؛ لعدم كون هذه الطوائف الثلاث هي تمام المشركين في العالم، ولا يمكن حمل ذكر هذه الطوائف على المثالية لظهور الصيغة في التفسير([142]).
وهذا الكلام مناقش فيه؛ وذلك:
أولاً: إن تفسير مشركي العجم بهذه الطوائف لا يُعلم صدوره عن الإمام، فإنه لو كان هو المفسّر لقال: أعني، والموجود في الرواية كلمة: «يعني»، مما يقوّي احتمال أنّ أحد الرواة أو أحد المحمّدين الثلاثة هو الذي فسّر كلمة مشركي العجم، واستعمال «يعني» مكان «أعني» خطأ شاع مؤخراً([143])، اللهم إلاّ إذا استخدمت تقديرات غير عرفية.
ثانياً: حتى لو سلّمنا كون هذا التفسير من الإمام فأقصى ما فيه وقوع المعارضة بينه وبين ما دلّ على قتال سائر مشركي العجم، ولابد من حلّها، ومع وجود دليل آخر على التعميم يقوى احتمال المثالية، وتركيبة النصّ ليست ـ لو قام شاهدٌ خارجي ـ بالمستعصية على التمثيل.
الجهة الرابعة: إنّ الرواية فصلت بين مشركي العرب ومشركي العجم، مع أنّ حكمهما واحد، وهذا ما يشهد على وضع الحديث واضطرابه المسقط له عن صلاحية الدليلية، كما أنّ من علامات ضعفه نقل كلام لعمّار بن ياسر فيه ليس له ضرورة، ووجود ما ليس له لزوم.
وهذه الملاحظة واردة من حيث إننا لم نفهم وجه الفصل، لكنّ هذا لا يجعل ذلك من علامات الوضع في الرواية، ونقل كلام عمّار ليس فيه من ضرر، كما أن وجود كلمة أو كلمتين لا ربط لهما بالموضوع لا يضرّ، فلا ينبغي تصوّر الإمام× وكأنه يبخل بالكلام، فالإنصاف أن مثل هذه الشواهد لوحدها لا تهزّ الاستدلال بالرواية.
فالصحيح أن الرواية تامة الدلالة على المطلوب هنا، غير أنّها ضعيفة السند، فلا يُعتمد عليها.
الحديث السادس: خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، قال: «قال عليّ×: القتال قتالان: قتال أهل الشرك، لا ينفر عنهم حتى يسلموا أو يؤتوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون؛ وقتال لأهل الزيغ، لا ينفر عنهم حتى يفيئوا إلى أمر الله أو يقتلوا»، ونحو هذا الخبر خبر آخر لأبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: «القتل قتلان: قتل كفارة، وقتل درجة، والقتال قتالان: قتال الفئة الكافرة حتى يسلموا، وقتال الفئة الباغية حتى يفيئوا»([144]). والذي يبدو وحدة الروايتين؛ نظراً لمدى الاشتراك في السند، والتقارب في المضمون، ولاسيّما أنهما أيضاً رويا عن جعفر عن أبيه، نعم، هذا الحديث وردت زيادة في أوّله، فيما كان ذاك أكثر تفصيلاً، مع إضافة الجزية عليه، وعلى أية حال فوحدة الخبرين نراها أمراً محتملاً. هذا وقد ورد نحو هذا الخبر في مصادر أهل السنّة مروياً عن أبي أمامة، عن رسول الله|([145]).
وهذا الخبر:
أ ـ أما من الناحية السندية فهو ضعيف في الطرق الشيعية، لا أقلّ بضعف أبي البختري الكذاب، وأما في طرق أهل السنّة فهو ضعيف بجهالة بكار بن تميم([146]).
ب ـ وأما من الناحية الدلالية فقد نوقش بأنه لا يوضح لنا منشأ القتال وسنخ الجهاد؛ لأنه مسوقٌ لبيان أصل تشريع الجهاد، علاوةً على أنه خلاف ما أجمع عليه من عدم أخذ الجزية من أهل الشرك.
وهذا الكلام غير واضح، أي أن الحديث ليس في مقام بيان أصل تشريع الجهاد فحسب، بل في مقام بيان أنواعه، وقد وضع عنوان أهل الشرك، دون قيد الاعتداء، أو جعل المنتهى هو الإسلام أو الجزية، وهذا كلام واضح في المطلوب، وأما أخذ الجزية من أهل الشرك فهذا كلام صحيح نقضيّ على بعض النظريات المشهورة، لابد من حلّه من قبلهم على مستوى الجمع بين النصوص، وإن كان هناك نظرية ترى أن الجزية نظام يسري على غير أهل الكتاب، فعلى هذه النظرية لا مشكلة في الرواية دلالةً، علماً أنّ الرواية الثانية لأبي البختري ليس فيها إشارة للجزية. نعم، يبقى أنّ الرواية ظاهرها التفصيل الدال على الحصر، وأنّه لا قتال ثالث، مما يعني أنّ أهل الكتاب قد استبطنوا في التعبير بـ «أهل الشرك»، وإلا كان التفصيل ناقصاً. وعلى أية حال فالمشكلة الرئيسة في الرواية سندية فقط.
الحديث السابع: خبر أبي هريرة في قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، قال: «خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام»([147])، وفي صيغة أخرى للحديث عينه: «نحن خير الناس للناس؛ نجيء بهم الأغلال في أعنقاهم فندخلهم في الإسلام»([148])، ونسب المضمون أيضاً إلى مجاهد والحسن وعكرمة([149]).
فهذه الرواية تجعل خيريّة الأمة الإسلامية لغيرها من الأمم في إكراهها الناس على الإسلام، وقد تأوّل بعضٌ بأنّ المراد بالسلاسل هنا هو الجذب إلى الحق من الله تعالى، لكنّه خلاف الظاهر([150]).
والإشكاليّة التي يواجهها هذا الخبر في تمام مصادره وصيغه أنّه غير منسوب إلى النبي|، وإنّما هو موقوف على أبي هريرة وأمثاله من الصحابة والتابعين، فلعلّه اجتهادٌ منه، فلا نحتجّ بمثل هذه الأحاديث.
الحديث الثامن: خبر العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبيه، قال: كنت مع النبي بالخندق فأخذ الكرزين، فحفر به، فصادف حجراً، فضحك، قيل: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ضحكت من ناس يؤتى بهم من قبل المشرق في النكول يساقون إلى الجنّة»([151])، وقريب منه في خبر أبي الطفيل، وأبي أمامة وأنّهم يساقون بالسلاسل إلى الجنّة([152])، وفي بعض صيغه أنهم قوم من الفرس يسبيهم المهاجرون فيدخلونهم في الإسلام كرهاً([153]).
يستفاد من هذا الخبر أنّ النبي كان مستبشراً بإسلام قوم من أهل المشرق أو الفرس، وأنّهم يدخلون الجنّة مقادين بالسلاسل؛ لأنّهم أكرهوا على الإسلام، وإذا طبّقنا هذا الأمر سنجد ذلك في الفتوحات الإسلامية في الشرق وبلاد فارس، وهذا إمضاء للفتوحات التي انطلقت بقصد السيطرة على العالم، بل الرواية صريحة في الإسلام عن كره.
وبصرف النظر عن سند الرواية الذي يمكن مناقشته من بعض الجهات، وإن تمّ على بعض النظريات الرجالية عند أهل السنّة دون الشيعة، إلا أنّنا لا نثق بهذا الخبر؛ ونرى فيه رائحة الجعل؛ فما معنى أن يساقوا مكبّلين بالسلاسل إلى الجنّة؟! وفي ظنّي إنّ الراوي أراد أن يشبّه حالتهم في الآخرة بحالتهم في الدنيا، فصوّرهم يدخلون الجنّة كرهاً كما دخلوا في الإسلام كرهاً، ولست أدري لماذا وضع الحديد في أيديهم بعد إسلامهم؟! يضاف إلى ذلك أنّه يستشمّ من هذا الحديث رائحة الطعن القومي، ومثل هذه الأحاديث، ولاسيّما مع عدم ورودها في الصحيحين وفي الكتب الأربعة، لا يحصل وثوق بصدورها، فهي تعارض الصورة التي يقدّمها القرآن عن دخول أهل الجنّة للجنّة، في الترحيب بهم وفتح الأبواب لهم، كما ورد في أواخر سورة الزمر وغيرها، لا إدخالهم إليها بطريقة مذلّة، مع أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، ويمحي بالتوبة ما سبقه، ولماذا لا يدخل الذين يطيعون الله بحدّ القانون وقوّة النظام العقابي وهم مكبلين بالحديد أيضاً؟! على أنّ هذا الخبر يعارض عدم إكراه أهل الكتاب على الإسلام، والاكتفاء منهم بقبول الجزية، بعد دخول المجوس في عنوان أهل الكتاب، كما أنّه لابد من البحث في أنّه هل أكره الفرس على الإسلام إكراهاً أم دخلوه طوعاً، وإنّما حوربوا فدخل المسلمون أراضيهم كرهاً، لا أنّهم أسلموهم عن كره؟
والخلاصة: إنّني لا أرى هذا الحديث سوى مخالفاً لروح القرآن والتاريخ والمنطق السليم. اللهم إلا إذا حمل على ضروب من المجاز باعتبار ما كانوا عليه في الدنيا!!
نصوص الدعوة إلى الإسلام قبل القتال وارتباطها بالجهاد الابتدائي
الحديث في مسألة الدعوة إلى الإسلام قبل القتال تارةً يدور حول أصل الموضوع من حيث حكمه الشرعي، وربط ذلك بمسألة الجهاد الابتدائي؛ وأخرى حول جملة من الأحكام المتصلة بهذه الدعوة على تقدير وجوبها أو استحبابها، مثل: وجوب رعاية دعوة كل مقاتل من الكفار، أو الاكتفاء بدعوة القادة وما شابه ذلك.. فهناك عدّة جوانب لهذا البحث درسناها بالتفصيل في موضعها، لكن ما يهمنا هنا هو أنّه إذا تمّ الدليل على وجوب أو استحباب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال ألا يكون ذلك بنفسه دليلاً على فكرة الجهاد الابتدائي؟
لعلّ الذي يبدو من كلمات فقهاء المسلمين أنّ الدعوة إلى الإسلام قبل الجهاد:
أ ـ واجبة بالوجوب المطلق، كما نسب إلى الزيدية والمالكية.
ب ـ غير واجبة إطلاقاً.
ج ـ واجبة على تقدير عدم المعرفة المسبقة بالإسلام، ومستحبّة على تقدير وصول دعوة الإسلام مسبقاً إلى مسامع الطرف الآخر، وقد قيل: إنّ هذا هو المشهور بين الإمامية والإباضية([154])، وهو ما نسب إلى مالك بن أنس.
والذي يظهر من بعض كلمات الفقهاء أن الوجوب هنا وجوب شرطي، بمعنى عدم جواز القتال قبل دعوة الكفار إلى الإسلام، فتعبير ابن حمزة في الوسيلة ـ مثلاً ـ دالّ بوضوح على ذلك، حيث يقول: «وإذا قوتلوا، لم يُبدأوا بالقتال إلاّ بعد أن يُدعَوا إلى الإسلام.. فإن أبوا.. حلّ قتالهم»([155])، وهكذا عبارة المحقق الحلي؛ حيث يقول: «ولا يُبدأون إلاّ بعد الدعوة إلى محاسن الإسلام»([156])، ونحو ذلك كلمات آخرين([157])؛ ومعنى ذلك أنّ القتال لا يجوز إلاّ عقب الدعوة، لا أن الدعوة وجوبٌ مستقل ظرفُه ما قبل الحرب مع الكافرين، من هنا تتصل بأصل شرعية الجهاد الابتدائي ومفهومه؛ إذ قد يقال حينئذٍ: إن نفس جعل الوجوب هنا شرطياً ـ بمعنى عدم جواز القتال إلاّ بعد الدعوة ـ شاهد على أنّ هذا القتال إنما هو قتال دعوة، لا قتال صدّ عدوان، إذ لو كان للدفاع وصدّ العدوان، لما كان معنى للدعوة إلى الإسلام قبله، بل كان المنطقي حينئذٍ الدعوة إلى الهدنة والتفاهم وما شاكل ذلك، فمسألة الدعوة هذه وربطها الشرطي بقضية الجهاد شاهد مؤكّد على شرعية جهاد الدعوة في الفقه الإسلامي.
من هنا يتجه السؤال التالي: هل القول بالدعوة قبل الجهاد ـ وجوباً أو استحباباً ـ يدلّ على أنّ الجهاد في الإسلام ابتدائي أم لا؟
المأنوس في الأذهان الفقهية ذلك، على أساس أنه ما دام الجيش الإسلامي يركّز على مفهوم دخولهم في الإسلام، فمعنى ذلك وجود ارتباط بين الإسلام والجهاد، ولا نفهم هذا الارتباط إلا في سياق وجود فكرة الجهاد الابتدائي.
إلا أنّ ذلك لا دليل عليه؛ فالنصوص التي دلّت على مسألة الدعوة قبل الجهاد لا إشارة فيها إلى الجهاد الابتدائي، ومعنى ذلك أنه من الممكن أن يكون هذا الجهاد دفاعياً، فهل يتصوّر في الجهاد الدفاعي تبنّي مسألة الدعوة؟
يرى فريق أنه لا معنى للدعوة في ظلّ حروب دفاعية، فهذا ضرب من الخيال([158])، ولهذا وجدنا في كلمات الفقهاء حديثاً عن أن الدعوة هنا إنّما هي للإمام أو من نصبه، ولم يشيروا إلى حالة الحرب الدفاعية، وقد بحثنا في موضعه أنهم يعتقدون أن شرط الإمام يكون في الجهاد الابتدائي لا الدفاعي، مما يؤكد أنهم يرون الدعوة في ظلّ الجهاد الابتدائي.
إلا أننا نعتقد أن هذا الأمر غير صحيح، وفاقاً للشيخ محمد مهدي شمس الدين([159])، والذي يبدي هذا الأمر هو المفهوم السياسي لفكرة الدفاع، فإنّ الدفاع لما تصوّروه فعلياً آنياً لم يستطيعوا أن يهضموا الدعوة إلى الإسلام والعدو قد بدأ بالحرب، لكنّ الحروب الحالية والسابقة لا تكون كلّها فجائيةً، ففي حروب المسلمين تمرّ فترة حتى يلتقي الجيشان، ثم لتبدأ الحرب، فحتى لو فرضت الحرب دفاعية، كما سوف يأتي بحثه حول طبيعة حروب النبي|، يمكن تصوّر دعوتهم للإسلام، بمعنى أننا سنردّ اعتداءكم بتوجيه ضربة إليكم، وهنا نستغل الظرف لدعوتهم إلى الإسلام في هذا الظرف علّ ذلك يترك أثره، ودعوتهم إليه معناها تلقائياً تخلّيهم عن الاعتداء على المسلمين، فيكون المسلمون بذلك قد كسبوا الطرف الآخر دون حرب، أو على الأقل كسبوا بعض الجند منهم، وهو خير من قتلهم، كما هو واضح؛ وبناءً عليه ففكرة الدعوة مفهومة جداً حتى في سياق الجهاد الدفاعي عادةً، فلا تكون دليلاً على ابتدائية الجهاد في الشريعة الإسلامية.
نعم، في بعض صور الجهاد الدفاعي لا معنى للدعوة، كما لو شرعت الحرب فجأة وبدأ العدو بالهجوم عملياً، تماماً كما في بعض صور الجهاد الابتدائي حيث تتطلّب مصالح الجهاد الغارة والمباغتة([160]).
هذا كلّه على تقدير تمامية الدليل على أصل وجوب أو استحباب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال، وقد بحثنا ذلك في محلّه، وتبيّن أنّ مجال المناقشة فيه ـ على بناءاتنا ـ وارد جداً.
ب ـ النصوص العاّمة في السنّة الشريفة، وتكوين مقولة الجهاد الدعوي
يقصد بهذا النوع من النصوص مجموعة من الأحاديث التي يستفاد من إطلاقها الترغيب أو الحث أو التجويز للجهاد مطلقاً، بما يشمل الجهاد الابتدائي، وأهم هذه الأخبار ما يلي:
الخبر الأوّل: خبر السكوني (وغيره)، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه^، أن النبي| قال: «فوق كلّ ذي برّ برٌّ حتى يقتل (الرجل) في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ، وفوق كلّ ذي عقوقٍ عقوق حتى يقتل أحد والديه، فإذا قتل أحد والديه، فليس فوقه عقوق»([161]).
وهذا الخبر:
أ ـ أما من الناحية السندية، فله طرق عدّة، بعضها ضعيف بالإرسال، مثل: ما جاء في دعائم الإسلام وروضة الواعظين، وبعضها الآخر ـ أي الخصال والتهذيب ـ ضعيف بجهالة محمد بن سعيد بن غزوان([162])، وبعضها ـ أي الكافي ـ ضعيف بالنوفلي المجهول على التحقيق، نعم، ربما أمكن تصحيح سند ابن أبي جمهور الأحسائي.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فهو يتحدّث عن فضل القتال والقتل في سبيل الله، دون إشارة إلى نوعية هذا الجهاد أو حتى في مقام بيانه، فيكون أجنبياً تماماً عن موضوع بحثنا، فهذه الحيثية التي يتكلّم عنها لا تضعه في مقام الإطلاق من ناحية أنواع الجهاد.
الخبر الثاني: خبر عمر بن أبان، عن أبي عبد الله×، قال: قال رسول الله|: «الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف، ولا يقيم الناس إلاّ السيف، والسيوف مقاليد الجنّة والنار»([163])، وقريب منه خبر معمر (الظاهر أنه ابن يحيى العجلي)، عن أبي جعفر×، قال: «الخير كلّه في السيف، وتحت السيف، وفي ظلّ السيف، قال: وسمعته يقول: إنّ الخير كلّ الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة»([164])، وفي بعض المصادر السنيّة وردت الجملة التالية عن رسول الله|: «الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، الأجر والغنم (المغنم)»([165]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فله عدّة أسانيد لا أقلّ بصحّة واحد منها، وهو سند الكليني، وبعد تجاوز بعض العقبات في تمييز المشتركات يمكن تصحيح أكثر من ذلك.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فالحديث واسع شامل لمطلق استخدام القوّة، كما يذكر الشيخ المنتظري([166])، ولا يختصّ بالجهاد، ويشهد على ذلك ـ كما أشار العلامة شمس الدين([167]) ـ تعبير: ولا يقيم الناس إلاّ السيف، حيث ظهوره في ضبط أمور الناس، لا في الجهاد مع العدو، فليس في مقام البيان من حيث الجهاد وأنواعه، فلا يُستند إليه في بحثنا، كما أنّ دخول الغنيمة على الحديث ـ في بعض مصادره ـ لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً، لما قلناه وسنقوله من أن هذا المفهوم يصدق في الجهادين: الابتدائي والدفاعي، علماً أنّنا لم نفهم كيف تكون الخيرات معقودة في نواصي الخيول من الغنائم وغيرها إلى يوم القيامة، مع أنّ زمانها قد انتهى اليوم قبل يوم القيامة؟ إلا إذا قيل: إنّها ستعود أداةً للحرب، والفاصل الزمني الذي تكون قد غابت فيه سيكون قليلاً بحيث يصدق مثل هذا التعبير في حقّها، أو يكون المراد بيان المثال.
الخبر الثالث: خبر السكوني، عن أبي عبد الله×، قال: قال رسول الله|: «للجّنة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح، وهم متقلّدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة ترحّب بهم، ثم قال: فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إن الله أغنى (أعزّ) أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها»([168]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فله عدّة أسانيد، أحدها ضعيف بجهالة النوفلي، والباقية ضعيفة بوهب بن وهب الكذاب الوضاع عند الشيعة والسنّة([169])، فلا يُستند إليه.
ب ـ أما من الناحية الدلالية، فأقصاه مدح الجهاد والمجاهدين، وبيان أهمية دورهم، دون إشارة على أي جهاد يتركّز الحديث؟ بل لعلّ الخبر أقرب إلى الدفاعية، حيث كان ترك الجهاد يؤدي إلى مذلّة، وتعبير «أغنى» لا يدل على الابتدائي على أساس الغنائم، بل ينسجم مع الدفاعي، ولاسيّما مع وجود نسخة أخرى فيها تعبير «أعز».
الخبر الرابع: خبر السكوني ـ وغيره ـ، عن رسول الله|: «خيول الغزاة في الدنيا خيولهم في الجنة، وإن أردية الغزاة لسيوفهم»([170]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فهو في أحد أسانيده ضعيف بجهالة النوفلي، وفي الآخر ضعيف بمحمد بن غزوان المجهول كما تقدّم، إضافة إلى إرساله من السكوني إلى النبي| في الأسانيد كافّة، عدا سند الراوندي، أمّا سنده في نوادره فهو ضعيف لا أقلّ بإسماعيل بن موسى بن جعفر الذي لم تثبت وثاقته([171])، فمجرّد كونه ابن الإمام الكاظم لا يثبت وثاقته، فضلاً عن عدالته، كما هو ثابت في معايير الجرح والتعديل، وتولّي شخص ما من ذرية أحد أئمة أهل البيت الوقف لا يكشف ـ كما أشار الخوئي ـ عن وثاقته في النقل، فضلاً عن عدالته التامّة؛ لأنّه يكفي لتولية إنسان في الوقف أن يكون أميناً في هذا المجال، بحيث لا يسرق مال الوقف أو يتلاعب به، ولاسيّما أن الموقوفات أشياء محدودة، من حيث القيمة والمساحة والنطاق، نعم، التولية فيها نحو مدح وتأمين لهذا المولّى، لكنّ مجرد مدح راوٍ معين لا يدلّ على وثاقته، إلا إذا انتمى هذا المدح إلى مجال يفهم منه العرف تصديقاً له في ما يقول؛ من هنا فما ذكره الشيخ المفيد من أنّ لكل واحد من أولاد الإمام الكاظم فضل ومنقبة لا يعني توثيقاً، فقد يكون واحدٌ منهم مشهوراً بالكرم، وهذه منقبة، ولا يوجد تلازم ـ لا عقلي ولا نقلي ولا عادي ولا عرفي ـ بين الكرم والصدق في الإخبار، كما هو واضح، وأمّا رواية الصلاة على الميت، فهي ضعيفة السند بجعفر بن محمد بن إسماعيل، فهو مجهول لم يوثق، كما اعترف بذلك السيد الخوئي؛ والنتيجة عدم إمكان توثيق إسماعيل بن الإمام الكاظم.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فأهم قرينة فيه هي تعبير «الغزو»، حيث قد يُفهم منها الجهاد الابتدائي، لكنه غير واضح، لأنّ الجهاد الدفاعي ليس مختصّاً بالردّ الفعلي للعدوان، بل يصدق لتحرير أراضي المسلمين مما يستدعي قيام المسلمين بحملات ابتدائية، تماماً كما في حالة المسلمين مع النبي؛ حيث كانوا يريدون رفع الظلم عنهم والعودة إلى مكة، دون أن يمنع ذلك من غزوات أو سرايا توجّه ضربات للعدو، فكلمة الغزو التي قد يستوحى من بعض الفقهاء فهمه لها بالجهاد الابتدائي غير دالّة.
الخبر الخامس: خبر السكوني، قال: «قال النبي|: أخبرني جبرئيل بأمر قرّت به عيني، وفرح به قلبي، قال: يا محمد، من غزا من أمتك في سبيل الله، فأصابه قطرة من السماء، أو صداع، كتب الله عز وجل له (كانت له) شهادةً (يوم القيامة)»([172]) ، ونحو هذا الخبر ما رواه أبو البختري عن الإمام الصادق([173]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، ففي أحد طرقه ضعيف بجهالة النوفلي، وفي الطرق الأخرى ضعيف بأبي البختري وهب بن وهب.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فحال هذا الخبر حال سابقه تماماً، ولاسيّما مع تعبير الغزو الوارد فيه.
الخبر السادس: خبر السكوني، عن أبي عبد الله، قال: «قال رسول الله|: جاهدوا تغنموا»([174]).
وهذا الخبر:
أ ـ أما من الناحية السندية، فهو ضعيف بجهالة النوفلي.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فالشاهد الوحيد فيه على الابتدائية هو كلمة «تغنموا»؛ وهي إن فسّرناها بالغنيمة الأخروية لم تصلح للدلالة على شيء، كما هو واضح؛ وإن فسّرناها بالغنيمة الدنيوية فيصير الحديث حثاً للمسلمين ومحاولةً لبعث طمعهم في ذلك، ورغم أنّ هذه الثقافة ليست إسلاميةً، كما يظهر من أحاديث أخرى، إلاّ أنه قد يقولها الرسول لدفع بعضهم نحو الجهاد، ولا اختصاص هنا بالابتدائي، بل الدفاعي فيه غنائم أيضاً كما قلنا، ولما لم تكن الرواية في مقام البيان من ناحية نوع الجهاد ونوع الغنيمة لم يكن في هذا التعبير دلالة واضحة، بل مجرّد احتمال.
الخبر السابع: خبر السكوني، عن الإمام الصادق، أنّه قال: «قيل للنبي|: ما بال الشهيد لا يُفتن في قبره؟ قال: كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة»([175]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فضعيف بجهالة النوفلي.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فهو أجنبي؛ لأنه يريد أن يبرّر عدم عذاب القبر للشهيد بالعذابات التي يواجهها في الحرب بين السيوف، حيث يكون لمعان السيوف فوق رأسه، وأين هذا من الحديث عن تشريع الجهاد الابتدائي؟ لصدق الشهيد على الدفاعي أيضاً.
الخبر الثامن: خبر أبي بصير، قال: «قلت لأبي عبد الله×: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال: من عقر جواده، وأهريق دمه في سبيل الله»([176])، والخبر في بعض المصادر نبوي، وفي بعضها مسند إلى الإمام الصادق.
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فقد جاء في سند الكليني في الكافي سويد القلانسي، والظاهر أن الصحيح سويد القلاء، وعليه فالسند صحيح، نعم ورد بهذا المضمون حديث آخر طويل عن أبي ذر الغفاري، عن رسول الله|، وذلك في كتابي: «الخصال» و«معاني الأخبار»([177])، لكن السند ضعيف بإهمال عبيد الله بن محمد بن أسد سنّياً وشيعياً([178])، وجهالة أبي الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الأسواري([179])، شيخ الصدوق، ومجرد كونه شيخاً له لا يدل على وثاقته، كما أنّ حكم الصدوق بالاعتماد على رواية ورد فيها هذا الرجل لا يدل على توثيقه له، لما بيّناه مفصّلاً في كتابنا: «نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي»، من أنّ مثل الصدوق كانوا يعتمدون نظام القرائن والشواهد والوثوق، وليس فقط حالة الراوي، يضاف لذلك ضعف سند هذا الحديث بالإرسال في كتابي: أمالي الطوسي وعوالي اللئالي([180]).
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فالحديث أجنبي عن محلّ البحث إطلاقاً، فهو في مقام بيان أمرٍ آخر، كما أن السؤال والجواب معاً لا دلالة، ولا حتى إشارة، فيهما لهذا الموضوع.
الخبر التاسع: خبر حيدرة، عن أبي عبد الله×، قال: «الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض»([181]).
وهذا الخبر:
أ ـ أما من الناحية السندية، فضعيف السند بالإرسال في الكافي؛ حيث ينقله أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن بعض أصحابه دون تعيينهم، فلا يحتجّ به، كذلك الحال في كتاب التهذيب؛ حيث ينقله جعفر بن محمد عن بعض أصحابنا، مضافاً إلى جهالة حيدرة فيهما([182])، وربما يكون حيدرة الوارد في نسختي: الكافي والتهذيب، تصحيفاً لكلمة «جدّه» الموجودة ـ لا أقلّ ـ في إحدى نسخ كامل الزيارات، فإنّ عبدالله بن عبدالرحمان الأصم ينقلها هناك عن جدّه، فيما الوارد في الكافي والتهذيب: عنه، عن حيدرة، وسواء كان «جده» أو «حيدرة» فهو مجهول. بل لو تخطينا هذا كلّه فإن عبد الله الأصم الوارد في تمام الأسانيد مضعّف بنصّ النجاشي وابن الغضائري([183])، وهو معارض لتوثيق ابن قولويه على تقدير الأخذ بهذه النظرية؛ فيسقط الخبر عن الاعتبار.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فهو يعارض مثل حديث الحسن بن محبوب الوارد في المجموعة الأولى المتقدّمة، حيث يدلّ ذاك على أنّ الجهاد هو أفضل الأعمال، بينما هذا الحديث يصرّ على أفضليته بعد الفرائض. وعلى أية حال فليس في الحديث أيّة إشارة إلى الجهاد الابتدائي؛ لصدق عنوان الجهاد ـ لغةً وعرفاً ـ على الدفاعي، وليس الحديث في مقام البيان من هذه الجهة، ولم يحوِ أية قرينة دالّة، فلا يُستند إليه.
الخبر العاشر: خبر أبي حمزة، قال: «سمعت أبا جعفر× يقول: إنّ عليّ بن الحسين كان يقول: قال رسول الله|: ما من قطرة أحبّ إلى الله عز وجل من قطرة دم في سبيل الله»([184]).
والخبر:
أ ـ أما من الناحية السندية، فهو مرسل في كتاب الزهد الذي بأيدينا؛ حيث رواه الحسين بن عثمان، عن رجل، عن أبي حمزة، وأما في سائر المصادر فهو مشكل من ناحية عنبسة، الذي هو مشترك بين الثقة، مثل: ابن بجاد العابد، وغيره([185])، وقد قيل: لا تمييز في المقام([186])، فتسقط الرواية عن الاعتبار.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فالرواية تبيّن فضل الشهادة والجراح في سبيل الله، فتكون أعمّ من الجهاد مع الكفار، فلا دلالة فيها على المطلوب هنا؛ لعدم تعرّضها له أساساً.
الخبر الحادي عشر: خبر ابن محبوب رفعه: «أن أمير المؤمنين× خطب يوم الجمل ـ إلى أن قال ـ: فقال: أيّها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يُعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده، لألف ضربةٍ بالسيف أهون عليّ من ميتةٍ على فراش»([187]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فهو ضعيف بالرفع الواضح الشديد، فلا يحتجّ به.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فغايته بيان فضل الشهادة، دون أيّة إشارة إلى أمرٍ آخر، ولا تعرّض فيه للمقام، فلا يستحق الاستدلال به هنا، ولاسيّما أنه صادر يوم الجمل، فيكون أقرب للحديث عن قتال البغاة، كما أشار إلى ذلك العلامة شمس الدين([188]).
وقريب من هذا الخبر مرفوعة ابن محبوب الأخرى، قال: قال أمير المؤمنين×: «إنّ الله فرض الجهاد وعظّمه، وجعله نصره وناصره، والله ما صلحت دنيا ولا دين إلاّ به»([189])؛ وهي من الناحية السندية، مرفوعة رفعاً شديداً في سند الكافي، ولا سند لها في كتاب الإرشاد، والظاهر اتحاد السند مع الرواية التي نحن فيها، فهناك احتمال أن تكون هذه الرواية مقطعاً آخر من مقاطع هذه الخطبة، ولاسيّما أنّ المفيد في الإرشاد قد نقلها بوصفها خطبة من خطب أمير المؤمنين في حروبه. وعلى أية حال فالسند ضعيف.
أما الدلالة، فبعيداً عن احتمال كونها من خطبة يوم الجمل، مما يُبعدها عن الدلالة عن الجهاد الابتدائي، لا إشارة في الرواية إلى هذا الجهاد، غايته هي في مقام بيان فضل الجهاد وأهميته، وأن به صلاح الدين والدنيا، ومن الواضح أن هذه الميزات ـ ولاسيّما الأخيرة ـ متحققة في الجهاد الدفاعي بشكل واضح، فلا داعي لاستظهار الابتدائية من هذا الحديث بعد أن لم تكن فيه حيثية إطلاق.
الخبر الثاني عشر: خطبة الجهاد المشهورة للإمام علي بن أبي طالب، قال: «أمّا بعد، فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه ـ إلى أن قال ـ هو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنّته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلّ، وشمله البلاء، وديث (أي ذُللّ) بالصغار والقماءة (الذّلة)، وضرب على قلبه بالأسداد..»([190]).
وهذه الخطبة:
أ ـ أمّا من الناحية السندية، فهي مبتلاة بغير جهةٍ من الضعف، فقد ورد في سندها في الكافي، علي بن العباس الخراذيني (الجراذيني)، وهو ضعيف جداً بنصّ النجاشي([191])، وإسماعيل بن إسحاق، وهو مهمل([192])، وأبي روح فرح (فرج) بن قرة (فروة أو أبي فروة)، وهو مهمل([193])، وبعض هذه الأسماء مشترك مع سند الحديث في التهذيب.
أما سند الحديث في كتاب «معاني الأخبار»، للصدوق، فهو مبتلى بجهات ضعف، حيث ورد فيه هشام بن علي، وهو مهمل([194])، كما أنّ ابن عائشة الوارد في السند ذَكَرَ سنداً للرواية لكن لم ينقله لنا الصدوق، فقال: عن ابن عائشة بسنده، دون تحديد السند، فيكون الخبر مرسلاً.
وأما الحديث في نهج البلاغة، والغارات، والأخبار الطوال، وجواهر المطالب، وأنساب الأشراف، وشرح الأخبار، ودعائم الإسلام، فقد جاء مرسلاً بلا سند، فالحديث لم يثبت سنداً.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فلا إشارة في الخطبة إلى الجهاد الابتدائي، بل إن الحديث عن الذلّ والصغار، وشمول البلاء و.. قد يكون أقرب إلى الدفاعي منه إلى الابتدائي، فلا يستند إلى هذا الحديث هنا؛ ولاسيّما أنّه قد جاء في خضم الحرب / الفتنة.
الخبر الثالث عشر: خبر مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله×، قال: قال النبي|: «اغزوا؛ تورثوا أبناءكم مجداً»([195]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، ففي الرواية مسعدة بن صدقة الموثق على بعض النظريات([196]).
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فلا مؤشّر في الحديث عن الابتدائية سوى تعبير الغزو الذي ناقشناه سابقاً، فكلّ ما يفيده الحديث ـ لغةً وعرفاً ـ أن الجهاد يمنح الأجيال والأمة العزّة والمجد والسؤدد، دون تعرّض لنوعيته، ولا شك في تحقيق الجهاد الدفاعي لهذه المعاني، فلا يكشف الحديث عن وجود جهادٍ غيره، وليس في مقام البيان من هذه الجهات، ويؤيّد ذلك أنّ هذا الحديث ورد في بعض المصادر: «هاجروا تورثوا..»([197]) ، بدل «اغزوا».
الخبر الرابع عشر: مرسلة أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله×، قال: «إنّ الله أعطى محمداً| شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ـ إلى أن قال ـ ثم افترض عليه فيها الصلاة.. والجهاد في سبيل الله.. وأعطاه الجزية وأسر المشركين وفداهم..»([198]).
وهذا الحديث:
أ ـ أمّا من الناحية السندية، فجهة الضعف فيه هي الإرسال في مصادره كافّة.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فأقصاه ثبوت وجوب الجهاد، نعم، قد يتصوّر أن إعطاء الرسول| الجزية معناه تشريع الجهاد الابتدائي، إلاّ أن ذلك لا دليل عليه من الحديث، لإمكان اجتماع الجزية مع الجهاد الدفاعي، كما لو كانت عقوبة لمن اعتدى، أو كانت حماية بلاد المسلمين موقوفة على السيطرة على منطقةٍ أهلها من أهل الكتاب، فإنّ هذا مما يعدّ من شؤون الدفاع، ووقوعه ليس بالقليل أبداً، فضلاً عمّا إذا عمّمنا مفهوم الجزية حتى لغير من يقعون تحت السيطرة.
وبعبارةٍ شاملة: لا توجد ملازمة عقلية، ولا عرفية، ولا عادية، بين تشريع نظام الجزية وبين ابتدائية الجهاد؛ لاستدعاء الجهاد الدفاعي ـ في غير موردٍ ـ السيطرة على بعض الأراضي خارج الدولة الإسلامية، كما لو كانت تخلّ بأمن البلاد واستقرارها، وهو شيء عقلائي وموجود في حياة الحرب والسلم بين البشر.
الخبر الخامس عشر: خبر عمران بن عبد الله، عن جعفر بن محمد ×، في قول الله عز وجل: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ﴾ (التوبة: 123)، قال: «الديلم»([199])، وقد وردت الرواية عينها في المصادر السنية منقولة عن الحسن، أحد العلماء القدامى([200]).
وهذا الخبر:
أ ـ أما من الناحية السندية، فضعيف بجهالة عمران بن عبد الله([201])، كما أنّ سنده في المصادر كافّة مبتلى بالإرسال أيضاً، وأما الرواية في المصادر السنّية فلم ترد عن معصوم يحتج بقوله؛ بل هي اجتهاد لا إلزام فيه بالنسبة إلينا.
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فالرواية لا تتعرّض لنوعية الجهاد الثابت مع الديلم، هذا مضافاً إلى أنّها ظاهرة في التطبيق، أي في تطبيق الإمام× العنوان المأخوذ في الآية على الديلم، وإلا فمن البعيد إرادة الديلم عصر نـزول الآية، لا أقلّ لعدم صدق عنوان «يلونكم» عليهم، فالمسلمون في المدينة وأطرافها؛ فكيف يصدق على الديلم في نواحي آسيا الوسطى أنهم من يلونهم، مع الفاصل الكبير، بل من يليهم هو الروم وأمثالهم، مما يجعل الرواية تطبيقاً من الإمام للآية على عصره، حيث صارت الدولة الإسلامية على تخومهم، ولهذا كانت هناك رباطات على أطراف الدولة من جهة قزوين وغيرها على ما جاء في بعض الروايات الأخرى، ووجود هذا الرباط يعزّز فرضية احتمال تعدّيهم، ولا أقلّ نحن لا نعرف ملاك تطبيق الإمام الآية عليهم، هل هو كفرهم أو عدوانهم؟ فلا يستدلّ بالرواية ـ كما الآية ـ على ما نحن فيه.
ويعزز افتراض ممارسة الإمام للتطبيق هنا، أنه ورد في بعض المصادر السنية الرواية عينها عن الإمام الصادق، فقد قال السيوطي في الدر المنثور: «وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن جعفر بن محمد، أنّه سئل عن قتال الديلم؟ فقال: قاتلوهم؛ فإنهم من الذي قال الله تعالى: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار»([202]).
الخبر السادس عشر: خبر أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله×، قال ـ في حديث طويل يبلغ عدّة صفحات، وبعد حديثه عن الجهاد والدعوة ـ: «.. وذلك أن جميع ما بين السماء والأرض لله عز وجل ولرسوله|، ولأتباعهما من المؤمنين من أهل هذه الصفة، فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفار والظلمة والفجّار من أهل الخلاف لرسول الله| والمولي عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات، وغلبوهم على ما أفاء الله على رسوله، فهو حقهم، أفاء الله عليهم وردّه إليهم، وإنما كان معنى الفيء كلّ ما صار إلى المشركين ثم رجع مما كان غلب عليه أو فيه.. وذلك أنه لا يكون مأذوناً له في القتال حتى يكون مظلوماً، ولا يكون مظلوماً حتى يكون مؤمناً، ولا يكون مؤمناً حتى يكون قائماً بشرائط الإيمان التي اشترط الله عز وجل على المؤمنين والمجاهدين، فإذا تكاملت فيه شرائط الله عز وجل كان مؤمناً، وإذا كان مؤمناً كان مظلوماً، وإذا كان مظلوماً كان مأذوناً له في الجهاد.. لكن المهاجرين ظلموا من جهتين:.. كسرى وقيصر ومن كان دونهم من قبائل العرب والعجم بما كان في أيديهم مما كان المؤمنون أحقّ به منهم..»([203]).
وهذا الحديث:
أ ـ أما من الناحية السندية، فضعيف ببكر بن صالح([204])، والزبيري([205]).
ب ـ وأما من الناحية الدلالية، فالخبر يركّز على مفهومين أساسيين، هما:
المفهوم الأوّل: إن المظلومية تنطلق من الإيمان، فالمؤمن مظلوم، وهي بذلك تلغي مفهوم المظلومية بوصفه عنواناً مستقلاً يعبر عن حالة اعتداء متعارفة، وليس أيّ إيمان، بل إيمان خاصّ.
المفهوم الثاني: إن سبب مظلومية المؤمنين أن مال الدنيا وما فيها لهم، فما في يد غيرهم لهم، فقد ظلموا بأخذ حقّهم، فلهم القتال لذلك. وبهذا يكون الجهاد الابتدائي وغيره جهاد دفاعياً لاستنقاذ الحقوق.
من هنا يسجّل على الرواية ملاحظات:
أولاً: إنّها تسقط وجوب الجهاد الابتدائي عن غير الصفوة من المؤمنين؛ لأنّ هؤلاء هم المظلومون الحقيقيون، لا غيرهم، وهذا مخالف للإجماع([206]).
وهذه الملاحظة وجيهة تظهر من الرواية، إلاّ إذا قيل: إن على الآخرين مساعدة المظلومين عبر أدلّة أخرى، ولاسيّما مع كونهم أهل بيت العصمة والطهارة.
ثانياً: إن ظاهر الحديث التسوية بين المشركين والكفار والمخالفين، وهو معلوم البطلان من الشرع، مضافاً إلى أنّ معناه أن الطرف الآخر استولى بالاعتداء على حقّ الأوّل، فلا يكون ابتدائياً([207]).
والجواب: إن الرواية تقرّر مبدأ الجهاد، ولا تتدخّل في التفاصيل، وهؤلاء جميعاً ـ طبق الراوية ـ يجب استرداد الحقّ منهم، أما متى وكيف؟ فهذا أمرٌ آخر، فليس في الرواية مخالفٌ للمعلوم من الشرع في المذهب الجعفري، هذا مضافاً إلى أن الرواية ظاهرة في تحويل الابتدائي إلى دفاعي، فكيف فهم وجود حالة اعتداء في البين؟!
ثالثاً: الحديث يقرّر أن الجهاد للصفوة لرد حقّها، مع أن الجهاد في الإسلام للدعوة، لا لإعادة المال، مضافاً إلى أن الأموال لا تؤخذ منهم دائماً، كما في حال الصلح، بل حتى لو أخذت لا تعطى للصفوة، بل توزع على غيرهم أيضاً، فهذه المفاهيم التي تقدّمها الرواية ليس لها نظير في باب الجهاد، مضافاً إلى ركاكة بعض تعابير وتراكيب الرواية لمن راجعها([208]).
والحقّ أن الرواية ـ بعد ذلك، وبعد ضعفها السندي الشديد ـ لا يعتمد عليها.
إلى غيرها من الروايات التامّة سنداً والضعيفة، والتي لا دلالة لها إطلاقاً، مثل: خبر مسعدة بن صدقة: «إن أبا دجانة الأنصاري اعتمّ يوم أحد بعمامة، وأرخى عذبة العمامة بين كتفيه حتى جعل يتبختر، فقال رسول الله|: إنّ هذه لمشية يبغضها الله عز جل إلاّ عند القتال في سبيل الله»([209])، وخبر أبي بصير، قال: «قال أبو عبد الله×: من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته»([210])، وخبر زيد بن علي (الضعيف سنداً بعبد الله بن المنبّه)، عن أبيه، عن آبائه^، قال: قال رسول الله|: «للشهيد سبع خصال من الله: أوّل قطرة من دمه مغفور له كل ذنب و..»([211])، وخبر عثمان بن مظعون، قال: «قلت لرسول الله|: إنّ نفسي تحدّثني بالسياحة وأن ألحق بالجبال، فقال: يا عثمان، لا تفعل؛ فإن سياحة أمتي الغزو والجهاد»([212])، وخبر الفضل بن شاذان، عن الرضا× في كتابه إلى المأمون، قال: «والجهاد واجب مع الإمام العادل (العدل)»([213]) ، فهو في مقام بيان أصل وجوب الجهاد، وشرط ذلك بالإمام العادل، وليس في مقام بيان أنواع الجهاد وأقسامه، وخبر إسماعيل بن مسلم السكوني، عن الصادق جعفر بن محمد×، عن أبيه، قال: قال رسول الله|: «خيول الغزاة خيولهم في الجنة»([214])، وخبر عقاب الأعمال للصدوق، عن رسول الله|: «..ومن خرج في سبيل الله مجاهداً فله بكلّ خطوةٍ سبعمائة ألف حسنة، ويمحى عنه سبعمائة ألف سيئة، ويرفع له سبعمائة ألف درجة، وكان في ضمان الله بأي حتفٍ مات كان شهيداً، وإن رجع رجع مغفوراً له، مستجاباً دعاؤه»([215])، وخبر منصور بن حازم، قال: «قلت لأبي عبد الله ×: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبرّ الوالدين، والجهاد في سبيل الله»([216])، وخبر زينب بن علي، عن فاطمة÷ في خطبتها، أنها قالت: «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك.. والجهاد عزاً للإسلام..»([217]) ، حيث أقصاه ـ لو تمّت هذه الخطبة المشهورة سنداً ـ ربط مفهوم الجهاد بالعزّ ممّا قد يتصّور معه ارتباطه بالجهاد الابتدائي، إلاّ أنّ هذا الربط متحقق في الجهاد الدفاعي، فهو مظهر من مظاهر العزّ، ولا إطلاق في الحديث هنا؛ لعدم كونه في مقام البيان من هذه الناحية، فلا يُستدل به على المطلوب، ومثل هذا الخبر خبرُ أنس بن مالك([218])، وخبر زرارة([219]).
نتائج الاستناد في الجهاد الابتدائي إلى السنّة الشريفة
تبيّن من خلال البحث المتقدّم وتتبع نصوص السنّة الشريفة أنّه لم يسلم خبر ـ سنداً ودلالةً معاً ـ منها، سوى الحديث الأوّل من المجموعة الأولى، وفقاً لنظريات علماء أهل السنّة، وأن من بين حوالي ست وثلاثين رواية ـ غير الحديث المذكور ـ كان التام سنداً لا يتجاوز على أحسن حال ثماني روايات، لا دلالة فيها إطلاقاً، فيما التام دلالةً على أقصى تقدير أربع إلى خمس روايات ضعيفة السند جداً، وفيها مضعّفون، فلا تواتر في المقام بعد حال الروايات سنداً ودلالةً، فالخبر الرئيس هو الحديث الأول المعروف في المجموعة الأولى، وقد ذكرنا أنّه لا دليل يثبت تأسيسه لقاعدة عامّة تأبيدية، وإنّما لسانه لسان خصوصية النبي وزمانه.
وبهذا يظهر أنّه لم يثبت على مستوى السنّة الشريفة أيّ دليل معتبر على شرعية الجهاد الابتدائي الدعوي، فيما يبقى منها السنّة النبوية الفعلية، وهي حروبه وتجربته العسكرية|، وهو ما سوف نبحثه قريباً بعون الله تعالى.
3 ـ 2 ـ مرجعيّة السيرة الإسلاميّة في شرعنة الجهاد الدعوي
يُقصد بالسيرة الإسلامية هنا سيرة النبي| والمسلمين الأوائل في مجاهدة الكافرين، فإن مراجعة حروب النبيّ| تؤكد ابتدائية القتال، وذلك مثل:
أ ـ معركة بدر الكبرى، حيث هجم المسلمون فيها على المشركين، وهم الذين فتحوا النار على قوافل قريش في طريقها بين مكّة والشام.
ب ـ معركة خيبر، حيث هجم المسلمون فيها على حصون اليهود البعيدة جداً عن معاقل المسلمين في شمال المدينة المنورة، ولم يشنّ اليهود فيها أيّ هجوم على ديار المسلمين وأراضيهم، حتى يدافع المسلمون عن أنفسهم.
ج ـ معركة مؤتة، حيث جهّز المسلمون فيها الجيش، واتجهوا شمال الجزيرة العربية، والأمر عينه يجري في بعث أسامة بن زيد([220]).
د ـ غزوة المُرَيسيع أو بني المصطلق، حيث أغار النبي| فيها على بني المصطلق، وهم غارّون، أي غافلون([221])، وهو ما لا ينسجم مع دفاعية الجهاد كما هو واضح.
وبعبارة شاملة: إنّ تمام حروب النبي| ـ ما عدا واقعتي أحد والخندق، اللتين كان النبي| يدافع فيهما عن المدينة ـ كانت ابتدائيةً([222]).
أما ما بعد العصر النبوي فسيرة المسلمين كانت قائمة على الابتداء بشكل أوضح من سيرة النبيّ نفسه، وهذا ما يشكّل دليلاً جليّاً على شرعية ذلك، ولاسيما مع سكوت أهل البيت النبوي وعامّة الصحابة عن ما سمّي بعد ذلك بالفتوحات الإسلامية.
وقفات مع دليل السيرة الإسلامية
إلاّ أن الاستدلال بالسيرة الإسلامية يواجه عدّة مشاكل؛ وذلك:
أولاً: قد وقع خلط كبير في تحليل مسألة الجهاد في السيرة النبوية، فقد تصوّر بعض الفقهاء والباحثين ـ وكما أشرنا سابقاً ـ أنّ الجهاد الدفاعي هو التلبّس الفعلي بدفع المهاجم حالاً، ممّا جعلهم يتصوّرون أنّ العدو في حالة هجوم والمسلمين عمليّاً في حالة دفعه عن احتلال أراضيهم أو إبادة شعبهم أو إفناء دينهم، والحال أنّ أحداً من أهل العرف والعقلاء والمقنّنين في العالم لا يفهم هذا المعنى المحدود للدفاع، فالجهاد المبادر إليه ضدّ من يحتلّ الأرض لا يسمّى ابتدائيّاً وإن كان بدء إطلاق النار فيه من طرف المسلمين المحتلّة أراضيهم، بل هو دفاع عن المسلمين، كما هي الحال اليوم في فلسطين، ولا يُقال: إنّ هذا الجهاد ابتدائي للدعوة، أو أنه بملاك الكفر، بل هو دفاعي بملاك رفع العدوان وتحرير الأرض والإنسان.
وهذا الفهم الخاطئ لمفهوم الابتداء والدفاع في الحرب أوقع بعضهم في أخطاء؛ فمعركة بدر الكبرى كانت حرباً دفاعية([223])، يدافع فيها المسلمون ضدّ ظُلم قريش لصالح حقهم في أموالهم وأراضيهم وعودتهم إلى ديارهم، فهل يقال: إن حروب الفرنسيين ضدّ الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية كانت ابتدائيةً، حتى لو انطلق المحارب من خارج أراضي بلاده التي طُرد منها ليدير المعركة ضدّ المحتلّ؟! وآيات القرآن واضحة الدلالة على الموضوع. والغريب أن بعض المعاصرين التفت إلى موضوع غزوة بدر لكنه أصرّ على أنّ الوضع الفعلي حال الحرب هو الذي يحدّد مقولة الدفاعية، مبتعداً عن تحليل السياق السياسي والاجتماعي الذي أحاط معركة بدر، معتبراً إياه مجرّد تحليلات([224]).
وهكذا الحال في معركة خيبر، فإنّ سببها ما فعله اليهود ـ من بني النضير وغيرهم ـ من الخيانة ونقض العهد والانضمام إلى عدوّ المسلمين ومناصرته في حرب الأحزاب، فهل يقال: إنّ النبي لو حارب هذه المجموعة، التي كادت تقضي على دولته برمّتها في معركة الأحزاب، كانت حربه لها ابتدائية أم دفاعاً عن كيان الدولة وأمنها؟!
وإلى ذلك نضيف معركة مؤتة، حيث اعتدي قبلها على دعاة المسلمين في أطراف الشام فقتلوا، وقتل سفير الرسول|، أليس هذا السياق السياسي مبرراً للردّ؛ للحدّ من هذه الاعتداءات التي تخرق الاتفاقات المدوّنة وغيرها، وتمنع الأمن على أطراف البلاد؟
كيف يمكن أن يكون تجهيز جيش أسامة ابتدائياً، والشواهد التاريخية تؤكّد ـ حتى باعتراف الطرف الآخر ـ أن جيش الكفار كان يستعدّ لضرب المسلمين في تبوك وغيرها؟
وكذا الحال في غزوة بني المصطلق، حيث تذكر النصوص التاريخية أنّ النبي أحيط علماً بتخطيط الكافرين للهجوم، فاستبقهم إلى ذلك.
وحتى لو لم يقم دليل قاطع على هذه المعلومات الواردة في مصادر التاريخ، فهي لا أقلّ تجعل الأمر محتملاً، ومعه لو لم نستدلّ بهذه الحروب على دفاعية الجهاد إلاّ أنه مع وجود هذه المعلومات التاريخية لا يمكن الاستدلال بها على ابتدائيّته.
إذن، ليس المهم في الابتدائية التي تقابل الدفاعيّة هو من يطلق النار أولاً؟ وإنّما من يخطّط ـ أولاً ـ لفتح صراع، ويحمل نواياً ضدّ الطرف الآخر؛ لهذا تعدّ الضربات الاستباقية للعدوّ شكلاً من أشكال الدفاع أحياناً.
ثانياً: إن السيرة دليلٌ لبّي لا إطلاق فيه؛ لهذا يقتصر فيه على القدر المتيقن، والمقدار المتيقّن منها هو الجهاد الدفاعي، أما الابتدائي فمشكوك، فلا يستند إليها لإثباته([225]).
وقد أورد على هذا الكلام بأننا لا نشك في ابتدائية حروب النبي|، ومعه فلماذا نفترض أن الجهاد الابتدائي يندرج ضمن المشكوك، بل هو مندرجٌ ضمن القدر المتيقّن من السيرة([226]).
وهذا الإيراد في محلّه لمن رأى أنّ شواهد التاريخ تؤكّد له الابتدائية، فالمناقشة معه ليست في لبيّة دليل السيرة، بل ـ قبل ذلك ـ في نفس تفسير ظواهر الحروب النبوية، وقد بيّنا أنّ حروب النبي| كانت دفاعيةً في الغالب، وقد أقرّ بذلك بعض العلماء الكبار، مثل: صاحب تفسير المنار ـ وغيره ممّن أشرنا إليهم سابقاً ـ الذي اعتقد بأنّ حروب النبي كلّها كانت دفاعيةً([227]).
ثالثاً: إن السيرة دليلٌ لبي، ومعه لو سلّمنا بأن حروب النبيّ| والصدر الأوّل من المسلمين كانت حروباً ابتدائية فنحن نحتمل احتمالاً معقولاً أن تكون شرعية الجهاد الابتدائي الذي قاموا به منطلقةً من أحد عاملين أو مجموعهما:
1 ـ السياسة التوسّعية التي كانت مهيمنةً على أيّة دولة ذات مشروع في تلك الفترة تجعل هذا النوع من الحروب متعارفاً، تماماً كما قيل في ظاهرة الاسترقاق، حيث كان عُرفاً سائداً في الحروب آنذاك فجاء الإسلام وأمضى هذا العرف على قانون المعاملة بالمثل، فاحتمال إعمال النبي| هذه السياسة ـ كونُها عرفاً سائداً من الأعراف الدولية آنذاك ـ واردٌ.
2 ـ وهو الأهم؛ إذ ثمّة احتمال وجيه أيضاً في أن يكون تشريع الجهاد الابتدائي تلك الفترة راجعاً إلى أن الديانة الإسلامية كانت ديانة فتية صغيرة في منطقة لا تمثل عصب الحياة في العالم، وحيث أريد لهذا الدين أن ينتشر، ولا تسمح الدول الأخرى بنشره، وحتى لا يموت في مهده، اتخذت سياسة التوسّع العسكري؛ لتحقيق التكوين الأوّلي المحمي للدولة الإسلامية بحيث يؤمن عليها، فمرحلة الانطلاق لتكوين أمّة قد تستدعي سياسةً تختلف عن مرحلة التبلور والاستقرار، فلعلّ سياسة التوسّع انطلقت من هذه الناحية، ولاسيما بعد ضمّ عدم وجود حريّات دينية آنذاك تسمح بنشر الإسلام دون ممارسة القوّة على الدولة الأخرى.
ولا برهان قاطع لدينا عن هذه الصورة، لكنها ذات احتمال معقول، وحيث لا يفسّر العملُ نفسَه، بل هو دليل صامت، يبقى دليل السيرة هنا مشوباً بشيء من الإجمال، مما يُعجزنا عن الاستناد إليه.
رسائل الرسول| إلى الملوك والزعماء
تشكّل رسائل الرسول| التي أرسلها في النصف الثاني من العقد الهجري الأوّل إلى الملوك والزعماء في الجزيرة العربية وخارجها مستنداً لإثبات ذهنيّة التوسّع في الإسلام؛ وذلك أنّ هذه الرسائل والمكاتيب كانت قد احتوت على الربط بين الإسلام والسلامة، «أسلم تسلم»، وهذا معناه أنّ الرسول| كان يعلن الحرب على الكافرين عندما لا يسلمون، وأنّهم إذا لم يسلموا فسوف يكون السيف هو الحَكَم بينه وبينهم؛ نشراً للحق وتقويةً للدين.
ظاهرة الكتب النبوية تستدعي رصدها، وبدراستنا لها وجدناها على أنواع:
الأوّل: الرسائل والكتب التي لم تحوِ أكثر من الدعوة إلى الإسلام، وأنّه إذا أسلم هذا الزعيم أو ذاك فقد سلم، نذكر على سبيل المثال:
أ ـ كتابه| إلى كسرى ملك الفرس، حيث جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيّاً، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس»([228]).
ب ـ كتابه| إلى المقوقس عظيم القبط: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون»([229]).
ج ـ كتابه| إلى قيصر ملك الروم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسين (الأريسيين)، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون»([230]).
د ـ كتابه| إلى النجاشي الأوّل: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أنّ عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتّبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني؛ فإني رسول الله، وقد بعثت إليكم ابن عمّي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرّ، ودع التجبّر، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلّغت ونصحت، فاقبلوا، والسلام على من اتبع الهدى»([231]).
هـ ـ كتابه | إلى النجاشي الثاني: «هذا كتاب من النبي إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني (أنا) رسوله، فأسلم تسلم، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك»([232]).
ومثل هذه الكتب كتبه| إلى ابن أبي شمر([233])، وبكر بن وائل([234])، وإلى الهرمزان عامل كسرى([235]).
هذا النوع من الكتب لا يفيد في إثبات شيء هنا؛ لأنّها كتب دعوة إلى الإسلام، وليس فيها أيّ حديث عن الحرب أو الجزية أو غير ذلك، ويعزز هذا الأمر بكتاب النبي إلى النجاشيّ الأوّل عظيم الحبشة، فإنّ هذا الكتاب قد أرسله النبي قبل الهجرة، بحيث لا يوجد أيّ احتمال في أن يكون الهدف منه شيئاً آخر غير الجانب الدعوي؛ لعدم الإذن بالقتال في ذلك الحين، أي عند هجرة جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة، مع بُعد احتمال أن يكون مراده السلامة فيما بعد ـ أي بعد أكثر من عشر سنين ـ حين سنصبح أقوياء.
وأمّا جملة «أسلم تسلم» الواردة في هذه الكتب، فلا دلالة واضحة فيها على السلامة الدنيوية من الحرب والقتل، بحيث يهدّد النبي بشنّ الحرب على تقدير عدم الإسلام، فكيف كان يمكن للنبيّ أن يرسل رسائل بهذه القوّة بعد الهجرة إلى كلّ هذه الدول ويهدّدها بأنّه سوف يشنّ حروباً عليها لو لم تسلم؟! وهل كان بمقدوره ذلك حقاً؟! ولو أراد ذلك فلماذا لم يرسل الكتب بالتدريج حيث يمكنه خوض مثل هذه الحروب؟ علماً أنّ هناك خلافاً بين المؤرّخين في تاريخ إرسال هذه الكتب؛ فعلى قولٍ: إنّ ذلك كان في السنة السادسة للهجرة؛ وعلى قول آخر: إنّه كان في السنة السابعة؛ وعلى قول: إنّه كان بعد الحديبيّة([236])، وهذه الفترات لا تصلح لأن يهدّد النبيّ فيها بالحروب مع دول عظمى على مختلف أطراف العالم، بل لو وقع ذلك بعد صلح الحديبية لكان الأنسب ـ بحسب السياسة العامّة التي انتهجها المسلمون آنذاك في فترة الصلح ـ أن يكون الهدف دعوياً فقط، وليس فيه جانب عسكري.
والذي يهوّن الخطب أنّ هذه الجملة تعني ـ في المقدار المؤكّد من دلالتها ـ أنّك بالإسلام تسلم من النار وغضب العزيز الجبار، وإن لم تفعل ذلك فسوف تتحمّل عصيان قومك؛ لأنك لم تدعهم إلى الدين، ولم تسمح لهم بذلك.
والذي وضع في المخيلة الإسلامية هذه الصورة العكسية عن هذا المعنى هو تصوّر أنّ هذه الكتب هي كتب فتوحات، مع أنّه لا دليل على ذلك من ظاهر اللفظ، وليس هناك إطلاق في هذا النص كما هو واضح.
ولا يستهان بقيمة هذه الكتب على المستوى الدعوي، فقد تركت بعض التأثير على هؤلاء الزعماء وشعوبهم، فبعضهم لم يستجب، مثل: كسرى، لكنّ بعضهم الآخر استجاب ـ ولو بشكل جزئي ـ حسب ما تورده المصادر التاريخية، حيث أسلم ضغاطر أسقف الروم علناً بعد قراءته لهذا الكتاب، وكان من تعليقات المقوقس بعض ما فيه إنصاف للنبي وتأثر إيجابي بدعوته، وقد استجاب المنذر ملك ساوى للكتاب وأسلم، وكذلك ملوك حمير ونجران، وبعض عمّال فارس في البحرين، وغير ذلك من التأثير([237]).
إذاً فهذا النوع من الرسائل غير واضح في دلالة نصّه على البعد العسكري في القضيّة، وكذلك بحسب سياقه التاريخي والعقلاني.
الثاني: الرسائل والكتب التي احتوت حديثاً عن الحرب أو الجزية أو الذمّة أو الأمان، وهي عديدة، نذكر منها:
أ ـ كتابه إلى كسرى بن هرمزد، بحسب بعض المصادر، وقد جاء كالتالي: «من محمد رسول الله إلى كسرى بن هرمزد، أما بعد، فأسلم تسلم، وإلا فاْذَن بحرب من الله ورسوله، والسلام على من اتبع الهدى»([238]).
ب ـ كتابه إلى كسرى عظيم فارس أيضاً: «من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس أن أسلم تسلم، من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ذمّة الله وذمة رسوله»([239]).
ج ـ رسالته إلى المقوقس صاحب مصر ـ حسب نقل الواقدي (207هـ) ـ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صاحب مصر. أما بعد، فإنّ الله أرسلني رسولاً وأنزل عليّ كتاباً قرآناً مبيناً، وأمرني بالإنذار والإعذار ومقاتلة الكفار، حتى يدينوا بديني ويدخل الناس فيه، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى، فإن أنت فعلت سعدت، وإن أنت أبيت شقيت. والسلام»([240]).
وقد تناقش هذه الرسائل بأنّ الرسالة التي أرسلت إلى كسرى عظيم الفرس نقلت في أغلب المصادر التاريخية بالشكل الذي نقلناه سابقاً خاليةً من الجزية والذمّة وما أشبه ذلك، وقد تفرّد الخطيب البغدادي تارةً؛ وابن شهرآشوب أخرى، بنقل هذا النص، وفي المصدرين يوجد إرسال؛ فلا سند في مناقب ابن شهرآشوب (588هـ)، وفي سند الخطيب البغدادي (463هـ) إرسال في آخره عن بعض المشيخة، فتتعيّن الرواية الأشهر في مثل هذه الحال؛ لاستبعاد أن يكون النبي قد أرسل رسالة تهديد إلى كسرى؛ وسبب ذلك أنّ هذه الرسالة إما بعثت قبل نزول آية الجزية في العام التاسع من الهجرة أو بعد ذلك، فإذا أخذنا بالاحتمال الأوّل كان بعيداً؛ لأن ظروف النبي| لم تكن تسمح بوضع من هذا القبيل في أن يهدّد إمبراطوريات، مثل: الفرس، والروم، وغيرهما، وأمّا إذا اخترنا الاحتمال الثاني فهو وإن كان ممكناً إلا أنّ المذكور في التاريخ أنّ ملك الفرس توفي قبل العام التاسع من الهجرة، فهذه النصوص يشوبها التباس، كما ألمح إلى هذا الأمر العلامة المتتبع في هذا المجال الشيخ علي الأحمدي الميانجي، الذي علّق أيضاً على ما ذكره بعضهم، مثل: السيد ابن طاووس (664هـ)، بأنّ عادة النبي جرت على الدعوة إلى الإسلام، فإن أَبَوْا طالبهم بالجزية في رسائله للملوك، بأنّ مثل هذه الرسائل لم تصل إلينا([241]).
كما أنّ الرسالة إلى مقوقس مصر التي نقلها الواقدي ـ مع مخالفتها لسائر الرسائل المنقولة ـ غير تامّة السند؛ لأنّها منقولة عن أبي إسحاق صاحب المغازي، ولم يذكر السند منه إلى الحادثة؛ مضافاً لضعف سند الواقدي بإهمال عبد الواحد بن عوف؛ إذ لم يذكره أحد في مصادر الرجال، لا الشيعية ولا السنيّة.
لكن الحقّ أنّ الدراسة الموضوعية المستوعبة تضعنا أمام ثلاث حقائق تاريخية:
الحقيقة الأولى: إنّ التتبع في كتب التاريخ والحديث والسيرة يفضي إلى العثور على عدد من الرسائل النبوية الواضحة في أنّه لو لم يسلموا لحقتهم الجزية أو فليأذنوا بالحرب القادمة عليهم، مثل: رسالته إلى كل من: أهل عمان، وملك اليمامة، والمنذر بن ساوى، ورفاعة بن زيد الجذامي، وجيفر وعبد ابني الجلندي، ويحنة بن رؤبة وسروات أهل ايلة، وأسقف نجران، وزمل بن عمرو بن عذرة، وأشباههم.
والذي لاحظته من تتبّع الرسائل ومطالعتها رسالةً رسالةً أن هذا الجوّ كان موجوداً في رسائل النبي إلى أهل الجزيرة العربية وأطرافها من القبائل والتجمّعات الصغيرة، أمّا الملوك في الحبشة ومصر والروم والفرس وغير ذلك فلم تحوِ الرسائل الموجّهة إليهم مثل هذا اللون من الخطاب.
الحقيقة الثانية: إنّ رسائل النبي| إلى الملوك والزعماء خارج الجزيرة العربية لا تحوي خطاباً من هذا النوع، بل هي رسائل دعوية بامتياز.
الحقيقة الثالثة: إنّ بعض الرسائل الموجّهة إلى داخل الجزيرة العربية لم تكن تحوي أيضاً هذا اللون من الخطاب، وهي كثيرة، بل كان خطابها يشبه خطاب تلك الرسائل الموجّهة للملوك الكبار.
أمام هذه المعطيات الثلاثة نقدّم تفسيرات لها، أهمّها:
التفسير الأوّل: أن يكون الأصل هو وجوب الجهاد الدعوي، لكن لم تحوِ رسائل النبي للملوك ولبعض الزعماء الداخليين مثل هذا الخطاب؛ لمصالح وقتية.
التفسير الثاني: أن يكون الجهاد الدعوي مشروعاً، وليس بواجب، ويكون أمره بيد الحاكم، والنبي| رأى ضرورة ممارسة الخطاب الجهادي الدعوي مع بعض الفئات دون بعض؛ بوصفه حاكماً للمجتمع الإسلامي.
التفسير الثالث: أن لا يكون هناك جهاد ابتدائي دعوي في الإسلام أساساً، وإنّما ضمّن النبي| بعض رسائله هذا اللون من الخطاب لمصالح وقتيّة فرضتها الضرورات؛ لأنّه كان يريد بناء الدولة الإسلامية القادرة على الاستمرار؛ فقد علم أنّه لا يمكن بناء دولة مستقرّة في مناخ القبائل العربية المتناثرة، فلابدّ من توحيد هذه القبائل في الجزيرة العربية كي تتكوّن منها دولة تقدر على الاستمرار، لهذا احتوت رسائله لبعض من في الداخل هذا اللون من التعاطي؛ تأميناً لبناء الدولة الفتيّة، ونحن نعرف أنّ العقل القبلي كان يوشك على الإطاحة بالدولة حتى بعد كلّ هذه الفتوحات الإسلامية الكبرى التي حصلت في عهد الخلفاء الأوائل، وتناحر المسلمون في حروب قد يعود الكثير منها إلى النزعات القبلية مع الأسف الشديد، فإذا كانت هذه هي الحال بعد بناء الدولة الإسلامية العظمى فماذا كان سيكون عليه الوضع لو أنّ النبي ترك المدينة المنوّرة فقط وبقعاً متناثرة من أجزاء الجزيرة العربية؟!
وهذا يعني أنّ العنوان الثانوي والضرورة الطارئة هي التي فرضت استخدام القوّة استثنائياً ضدّ هؤلاء، ونحن نعرف أنّ أكثرهم لم يحاربه النبي|؛ لأنّه خضع له؛ فإما أسلم نتيجة هذه الرسائل؛ أو دفع الجزية وظلّ خاضعاً لنفوذ الدولة القويّة.
والذي حصل أنّ المسلمين من الصحابة تصوّروا أنّ الأصل في سنّة النبيّ وسيرته هو الحرب مع غير المسلم، فوسّعوا دائرة هذه التجربة النبوية، معتقدين أنّ المفترض هو هذا، وأستعير هنا تعبيراً استخدمه الشيخ محمد أبو زهرة (1394هـ) عند حديثه عن العلاقات الدولية في الإسلام، حيث اعتبر أنّ المسلمين أخذوا مثل هذه المقولات من الواقع، ولم يأخذوها من النصوص([242])، وهذا يعني أنّهم التبس عليهم الأمر في تفسير التجربة النبويّة.
وأمام هذه الاحتمالات يصعب الجزم بترجيح احتمال على آخر؛ لأنّ علماء أصول الفقه يعتقدون بأنّ العمل دليل صامت، والفعل النبوي هنا غير واضح بالنسبة إلينا من حيث منطلقاته ودوافعه وحدود حركته| لو كتبت له الحياة الأطول، وبهذا لا يمكننا الاستناد إلى هذه التجربة النبوية للاستدلال بها على شرعية الجهاد الابتدائي بوصفه حكماً أولياً، لا حكوميّاً يرجع فيه للمصالح الزمنية، فضلاً عن أن تكون التجربة النبوية دليلاً على الوجوب.
موقف أهل البيت^ من الفتوحات الإسلامية
ما تقدّم كان ـ كلّه ـ بصرف النظر عن الاعتقاد الشيعي بإمامة أهل البيت النبوي، وأمّا إذا أضفنا هذا الاعتقاد فسوف نرى أنّ الخلفاء الأوائل مارسوا الفتوحات الإسلامية خارج إطار الجزيرة العربية، وذلك بمرأى من أهل البيت النبوي، ولم نجد انتقاداً يسجّله أهل البيت على عمل الخلفاء في هذا الموضوع، بل الملفت أنّهم كان يشيرون وينصحون الخلفاء في بعض المناسبات، فهذا دليل واضح وحاسم على شرعية الجهاد الابتدائي، وأنّ ما فهمه الصحابة والمسلمون الأوائل من التجربة النبوية كان صحيحاً.
ويشهد لذلك أنّ الإمام عليّاً كان يتحدّث عن أنّ الخليفة الثاني كان يشاوره في مهمّات الأمور، ففي رواية جابر الجعفي، عن أبي جعفر× ـ في حوار الإمام علي مع رأس اليهود ـ جاء: «وأما الرابعة يا أخا اليهود، فإنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور، فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها، فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ـ ولا يعلمه أصحابي ـ يناظره في ذلك غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي، فلما (أن) أتته منيته على فجأة بلا مرض..»([243]) ، فهي تدلّ على كمال التشاور والتنسيق بينهما، فلا يحتمل أنّ موضوعاً مثل الفتوحات لا يخضع لهذا الإطار العام الذي تحدّث عنه الإمام علي.
يضاف إلى ذلك ما ورد عن الإمام علي من تقديمه النصائح للخليفة الثاني، مثل قوله له عندما كان عازماً على غزو الروم ـ كما جاء في الرواية ـ: «قد توكّل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة، وستر العورة. والذي نصرهم، وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم، وهم قليل لا يمتنعون، حيٌّ لا يموت. إنك متى تسِرْ إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم بشخصك، فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين»([244]).
وعندما استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، قال: «إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع. ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده. ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمّه، فإن انقطع النظام تفرّق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً. والعرب اليوم ـ وإن كانوا قليلاً ـ فهم كثيرون بالإسلام، وعزيزون بالاجتماع، فكن قطباً، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك مما بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. وأما ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نكن نقاتل في ما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة»([245]).
ولست أريد هنا أن أعلّق على هذه النصوص التي ينصح فيها الإمام علي بن أبي طالب الخليفة عمر بن الخطاب في قضايا تمسّ إدارة عملية الجهاد؛ لأنّها قابلة للجدل التاريخي جداً، فهي محدودة للغاية، ولا سند لها أساساً حتى يجري تقييم سندها، ومجرّد ورودها في نهج البلاغة لا يصحّحها كما هو واضح، فلا يمكن الوثوق بصدورها.
وأمّا رواية جابر الجعفي المتقدّمة فهي ضعيفة السند جداً، كما أقرّ بذلك غير واحدٍ من العلماء، كما أنّ سكوت الإمام علي× عن فعل الخلفاء ربما يكون لعدم وجود مصلحة في النقاش حول هذا الموضوع ـ كغيره من الموضوعات ـ وفق العقيدة الشيعية، وكذلك الحال في جري الإمام علي في أرض العراق بسنّة من كان قبله؛ فإنّ عدم القدرة على تغيير بعض العادات والأعراف قبله ـ كبعض العبادات ـ يشهد على أنّ تغيير سنن مالية بهذه السعة قد يكون صعباً جداً.
من هنا قد يصعب الجزم ـ وفاقاً للمحقق الإصفهاني (1361هـ)، وظاهر السيد الخوئي (1413هـ)([246]) ـ برضا أهل البيت عن الفتوحات الإسلامية بهذه الطريقة، فربما كان لهم رأي آخر.
لكنّ الصحيح عكس ذلك، لا للأدلّة السابقة التي يمكن النقاش فيها جميعاً؛ وإنّما لأنّ موضوعاً بهذه الخطورة والأهمية، ويشكّل مَعْلَماً من معالم تجربة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، لو لم يكن محلّ الرضا والقبول من أهل البيت إلى زمان الإمام العسكري ـ وبالأخص بعد الإمام علي، الذي ربما يقال بأنّ له ظروفه الخاصّة ـ لتمّ انتقاده جداً؛ فقد تتبّع الشيعة كل عثرات الخلفاء الأوائل وخلفاء بني أمية والعباس، وروايات المثالب كثيرة عندهم، وهذا معلم تاريخي كبير يفتخر به المسلمون من غير الشيعة بحقّ هؤلاء الخلفاء الكبار، فكيف لم تتسرّب ـ حتى في الداخل الشيعي الخاصّ ـ أيّة رواية، ولو ضعيفة السند، تنتقد هذه التجربة، أو تشير إلى أنّ خطأ استراتيجياً وقع فيها؟! إنّ هذا يشرف بنا على الوثوق بأنّهم ما كانوا يرون هذه الفتوحات مرفوضة، ويدعم ذلك بسائر الشواهد التي ذكرت، وإن كانت في نفسها قد تقبل النقاش على مستوى الإثبات التاريخي والمدلول، مثل ما تقدّم، ومثل مشاركة خواصّ الإمام علي× في الفتوحات في عهد الخلفاء الأوائل.
فرضا أهل البيت النبوي عن الفتوحات التي قام بها الخلفاء الأوائل يمكن دعوى الاطمئنان به، لكن غاية ما يفيد في استنتاج الموقف الفقهي أنّ الخليفة آنذاك كان يمكنه إذا رأى مصلحةً أن يقوم بفعل الجهاد الابتدائي نتيجة ضرورات، ومن الممكن أن تكون الثقافة العامّة آنذاك ترشد إلى ضرورة القيام بتوسعة جغرافية لنطاق الدولة الإسلامية الفتيّة؛ إذ بهذا يصبح الإسلام ديناً عالمياً محميّاً من التعرّض للاندثار بسقوطه في جغرافية صغيرة، وغير محدود ببقعة جغرافية لا تمثل موقعاً إستراتيجياً في حياة البشر، فضرورات مرحلة الانطلاق والتأسيس تستدعي سياسة من هذا النوع في عالم كانت هذه هي نظمه.
ولعلّ ما يعزّز مثل هذه الاحتمالات ما مال إليه بعض المستشرقين من أنّ الجزيرة العربية كانت تشهد قبيل ظهور الإسلام ظاهرة تصحّر، وأن هذه الظاهرة هي التي دفعت المسلمين للتفكير في الفتوحات خارج نطاق جزيرة العرب، فإذا صحّ هذا التحليل، الذي بُني على النظرية الجغرافية حول الجزيرة العربية، والتي طرحها العالم هوغو فنكلير، واستفاد منها المستشرق الإيطالي ليوني كاتياني، في تفسير ظهور الإسلام ـ بصرف النظر عن صحّة مقولاته ـ فإنّ احتمال الضرورات الزمنية يمكن أن يكون قوياً لصالح التفسير التاريخي لظاهرة الفتوحات دون التفسير النصّي الديني الصرف.
والذي يدفعنا لمثل هذه الفرضيات، التي لا دليل حاسم عليها، وإنّما هي احتمال منطقي يمكن فرضه، أنّنا نتعامل مع أفعال تارةً؛ ومع سكوت عن أفعال تارةً أخرى، والفعل مفتوح على احتمالات، وإذا كان أحدها هو المنصرف لأذهاننا فلأنّ الثقافة الفقهية السائدة قد أنست به؛ نتيجة اشتهار القول بالجهاد الابتدائي، وإلا فلا دافع لتلك الاحتمالات إلا بإقامة الدليل على نفي جميعها، كي يتعيّن تفسير الفعل أو السكوت عنه بفريضة الجهاد الابتدائي بالعنوان الأوّلي.
ونتيجة الكلام حول دليل السيرة النبوية والإسلامية ورسائل النبي| وكتبه أنّها على أبعد تقدير تؤكّد الجهاد الابتدائي تاريخياً، لكنّها لا تستدعيه فقهيّاً بوصفه حكماً أولياً في الشريعة، وإنّما هو حكم قابل للتشريع الزمني نتيجة ضرورات، ومن المعروف أنّ نظام المهم والأهم ونظام الضرورات يجريان في الشريعة الإسلامية بمختلف أحكامها تقريباً، وليس هنا فقط.
4 ـ 2 ـ الاستناد إلى الإجماع الإسلامي لإثبات الجهاد الابتدائي
يُستند لإثبات الجهاد الابتدائي ـ بعد الكتاب والسنّة ـ إلى دليل الإجماع، على أساس اتفاق فقهاء المذاهب والفرق الإسلاميّة على شرعية هذا الجهاد ووجوبه، وأنّ مقاتلة الكافرين بملاك الكفر، لا فقط بملاك الدفاع وردّ العدوان، وكلمات الفقهاء في هذا المجال كثيرة، ولا داعي لاستعراضها، فالإجماع المحصّل والمنقول تامّان، ولا أقلّ من الشهرة الفتوائية الواسعة. وحيث يكون الإجماع دليلاً كاشفاً عن الموقف الشرعي فإنّ هذا الإجماع القويّ جدّاً هنا يغدو كذلك تلقائيّاً.
وقفات نقدية مع دليل الإجماع
لكن هذا الإجماع قابلٌ للمناقشة، وذلك:
أولاً: إن ذهاب مشهور الفقهاء إلى ما قيل أمرٌ لا يصحّ إنكاره، إلاّ أن بعض الفقهاء لا وضوح لكلماتهم في ما يعطي دلالةً على مثل هذا الجهاد، وإنما يتحدّثون عن أصل وجوب الجهاد، دون إشارة إلى نوعيّته، وعلى سبيل المثال: نلاحظ نصّ الشيخ الصدوق (381هـ) في كتاب «الهداية»، حيث يقول: «الجهاد فريضة واجبة من الله عز وجل على خلقه، بالنفس والمال، مع إمامٍ عادل؛ فمن لم يقدر على الجهاد معه بالنفس والمال فليخرج بماله من يجاهد عنه، ومن لم يقدر على المال، وكان قوياً ليست له علّة تمنعه، فعليه أن يجاهد بنفسه، والجهاد على أربعة أوجه ـ وساق رواية فضيل بن عياض المتقدّمة ـ، وقد روي أن الكادّ على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله، وروي أنّ جهاد المرأة حُسن التبعّل، وروي أنّ الحج جهاد كلّ ضعيف»([247])، وبهذا انتهى كتاب الجهاد عنده، فأيّة دلالةٍ في هذا الكتاب على الجهاد الابتدائي، مع احتمال كون مراده هو خصوص الدفاعي؟! والكلمات التي من هذا القبيل ليست بالنادرة، ولاسيما عند القدماء.
هذا كلّه مع الغضّ عما ذكرناه مطلع البحث من ذهاب بعضهم إلى إنكار وجوب غير الجهاد الدفاعي.
ثانياً: إنّه لو انعقد الإجماع صغروياً فهو معلوم المدركية أو مطمأنّ بها، ولا أقلّ من احتمال كونه مدركياً، حيث الآيات الدالّة أو القريبة الدلالة موجودة، وكذا ظاهر بعض الروايات كما أسلفنا، ومعه كيف يكون إجماعاً كاشفاً عن الحكم الشرعي؟!
ثالثاً: لو استُدل بالشهرة فالجواب أوضح، وهو أنه لا حجية للشهرة الفتوائية في حدّ نفسها ـ كما قرّر في علم أصول الفقه ـ إلاّ إذا حصّلت يقيناً، وهو صعبٌ هنا، ولاسيما بعد سريان مسألة المدركية إلى الشهرة أيضاً؛ لأن المدركية لو أسقطت كاشفية الإجماع فهي مسقطة لكاشفية الشهرة بطريقٍ أولى، بعد عدم كون الشهرة دليلاً تعبّدياً بنفسه.
فالإنصاف أن الاستدلال بالإجماع أو الشهرة في مثل هذا الباب الوفير بالأدلّة في غير محلّه. نعم، هو حسنٌ من باب التأييد.
5 ـ 2 ـ اعتماد دليل العقل في تشريع جهاد الدعوة
إنّ تطهير الأرض من الكفر أمرٌ حسن، وكذلك نشر التوحيد والعدل، وحيث يتوقف تحقيق ذلك على الجهاد الابتدائي فيكون حسناً، بل واجباً.
يظهر هذا الدليل في كلمات العديد من الباحثين، ضمن صياغات مختلفة، وإن لم يطرحوه بوصفه دليلاً اجتهادياً.
إلاّ أنّ هذا الوجه وأمثاله واضح الدفع، فالغاية لا شك في حُسنها، بل وجوبها، إنما الكلام في الوسيلة، وشرعية الغاية لا تبرّر شرعية الوسيلة دائماً، ولاسيما أنّ الوسيلة فيها قتلٌ ودم وحروب يذهب ضحيتها بعض المسلمين أيضاً، كما أنّه من غير المعلوم أن تنتهي بمئات السنين، فمثل هذه الوسيلة يصعب القول بأنّ الغاية تبرّرها.
يضاف إلى ذلك أنه من غير المعلوم أنّ الله يريد إبادة غير الإسلام من العالم؛ وذلك بدليل القبول القرآني بنظام الذمّة، فلا ينبغي الاستعجال في رسم صورة الغاية المنشودة قبل مراجعة المصادر الاجتهادية الأخرى، فهذا الوجه ضعيفٌ أيضاً.
خلاصة واستنتاج
وبهذا يتمّ الكلام في أدلّة شرعية ووجوب الجهاد الابتدائي، وقد تبيّن أنّها لا تنهض لإثبات هذا الجهاد بالعنوان الأوّلي بشكل حاسم؛ حيث إنّه بعد مراجعة مجمل الوقفات لا يحصل لنا اطمئنان ووثوق بتشريع هذا الجهاد. نعم، توجد له بعض الشواهد الجديرة، التي ينبغي وضعها أمام أدلّة نفي هذا الجهاد، وإجراء مقارنات ومقاربات بين أدلّة النظريتين، وقد توصّلنا هناك إلى أنّ بعض الأدلّة الأقوى للجهاد الابتدائي، مثل: إطلاق آية الجزية وحديث ابن عمر المشهور، وسيرة المسلمين بعد النبي|، ولاسيما مع ضمّ سكوت أهل البيت، لا تنهض لمواجهة أدلّة نفي الجهاد الابتدائي من نصوص الكتاب والسنّة، لا سيما بعد وجود نصوص قرآنية قويّة على نفي هذا النوع من الجهاد.
فالأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم، والحرب إمّا دفاعيّة بالمعنى الذي شرحناه للدفاعية؛ أو اضطرارية، تفرضها ظروف طارئة يرجع فيها إلى قيادة الدولة الإسلامية الشرعية. والله العالم.
_______________
(*) نشر هذا البحث في الأعداد: 8 ـ 10، من مجلة الاجتهاد والتجديد في بيروت، لعام 2007 ـ 2008م، ثم نشر في كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر) المجلّد الأوّل، للمؤلّف.
([1]) هذا ما يفهم من كلمات الكثير منهم، وانظر: محمد مهدي شمس الدين، جهاد الأمة: 73، 107، 113.
([2]) النجفي، جواهر الكلام 21: 4.
([3]) كاشف الغطاء، كشف الغطاء 4: 289.
([4]) القمي، جامع الشتات 1: 368.
([5]) الروضة البهية 2: 379.
([6]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1: 115، وانظر له: نظام الحكم في الإسلام: 58.
([7]) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 312.
([8]) الفتاوى الهندية 2: 188.
([9]) الحصكفي، الدرّ المختار 4: 296.
([10]) انظر: الفتاوى الهندية 2: 188؛ والرعيني، مواهب الجليل 4: 535 ـ 536؛ والآبي الأزهري، الثمر الداني: 411؛ وجواهر الإكليل 1: 250؛ والكركي، جامع المقاصد 3: 365 و..
([11]) انظر ـ على سبيل المثال ـ : الخوئي، منهاج الصالحين 1: 364 ـ 366؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 117 ـ 121؛ والخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 1: 331؛ والتبريزي ـ كما يستوحى منه ـ في صراط النجاة 3: 359؛ ومثله: فضل الله، المسائل الفقهية 1: 27.
([12]) انظر على سبيل المثال: سيد سابق، عناصر القوة في الإسلام: 210 ـ 211، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، 1986م، وله كلام في الفتنة عن الدين ص222؛ ومحمد عزة دروزة، الجهاد في سبيل الله: 48؛ وأحمد شلبي، الجهاد والنظم العسكرية في التفكير الإسلامي: 58 ـ 62، نشر مكتبة النهضة، مصر، طـ 3، 1982؛ ومطهري، الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: 7، 21، 31 ـ 38، 42 ـ 44، ترجمة: ناظم شيرواني، نشر منظمة الإعلام الإسلامي، قسم العلاقات الدولية، طهران، 1404هـ؛ وعلي عبدالحليم محمود، ركن الجهاد أو الركن الذي لا تحيا الأمة إلا به: 71، نشر دار التوزيع والنشر الإسلامي، سوريا، الطبعة الأولى، 1995م؛ وصادق خلخالي، زاد المعاد في أحكام الجهاد: 35 ـ 37، نشر تفكر، إيران، الطبعة الأولى، 1414هـ؛ وكامل سلامة الدقس، آيات الجهاد في القرآن الكريم: 81 ـ 90؛ ووهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 90 ـ 94؛ 125؛ وإن كان في بعض عباراته بعض الغموض في تحديد موقفه؛ والطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 64 ـ 69، 4: 164؛ والمنار 10: 281؛ وسيد قطب، في ظلال القرآن 3: 1633؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 115 ـ 116؛ و 2: 711؛ والأمثل 2: 26 ـ 29، و5: 426؛ ومحمد الصدر، ما وراء الفقه 2: 373 ـ 374 و..
([13]) انظر: ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 160، ضمن: مجموع الفتاوى، مج 16، ج28، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000م.
([14]) وهم كثر، يظهرون من خلال الإحالات والهوامش في هذا البحث، وانظر: محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1: 597 ـ 604؛ هذا وقد ذُكر أن الدفاعية في الحروب الإسلامية مقولة غزت كتّاب التاريخ الإسلامي والنبوي المتأخرين، وغيرهم، ومنهم: عبدالرحمن عزام في كتابه: الرسالة الخالدة، وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل في كتابيهما المعروفين، ومحمد حسين فضل الله في كتابه: الجهاد، ومحمد مهدي شمس الدين في كتابه: جهاد الأمّة، وصالحي نجف آبادي في كتابه: جهاد در إسلام، ومحمد سعيد رمضان البوطي في كتابه: الجهاد في الإسلام، وجودت سعيد في حوار لمجلة الحياة الطيبة معه، ومحمد عزة دروزة في كتابه: الجهاد في سبيل الله، والحكيم، والعقاد، وشيث خطاب، والشرقاوي، وعبدالحميد جودة السحار، وغيرهم كثير، وانظر أيضاً: الزايد، فيما ينقله عنه صالح اللحيدان في كتاب الجهاد في الإسلام: 104.
([15]) انظر: وهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 86 ـ 87؛ وأكبر الظن أن الدكتور الزحيلي فهم من هذا القول الذي يرى الجهاد تطوّعاً إلا لدفع الأعداء.. أنهم لا يوجبون الجهاد، لهذا علّق بأن القول بالتطوّع غير صحيح.. والذي يبدو أنهم يقولون بوجوب الجهاد الدفاعي دون الابتدائي؛ فإنه تطوّع، فهم لا ينكرون الابتدائي، ولا يقولون بمحض الدفاعية، كما لا ينكرون أصل الوجوب، وبهذا تسجّل الملاحظة عينها على ظافر القاسمي ونجيب الأرمناني، فانظر: الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام: 175.
([16]) الشوكاني، كتاب السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 4: 488، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، نشر لجنة إحياء التراث الإسلامي بوزارة الأوقاف، مصر، 1988م.
([17]) لمزيد من الإطلاع انظر: الشيخ عبدالله بن عبدالزايد فيما ينقله عنه صالح اللحيدان في كتاب: الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع: 102 ـ 111؛ وياسين سويد، الفن العسكري الإسلامي: 46، 62 ـ 63، نشر شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، طـ2، 1990م؛ وبسام العسلي، المذهب العسكري الإسلامي: 30، دار النفائس، بيروت، طـ 1، 1993م؛ حيث استدل بآيات سورة براءة؛ وحسين الحاج حسن، النظم الإسلامية: 476 ـ 478، نشر المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1987م و...
([18]) انظر: المفيد، المقنعة: 269؛ وفخر المحققين، إيضاح الفوائد 1: 389؛ وكلانتري، الجزية وأحكامها: 14.
([19]) انظر: الطوسي، الخلاف 5: 520.
([20]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 3: 366 ـ 367؛ والمارديني، الجوهر النقي 9: 184؛ وابن حزم، الإحكام 7: 904.
([21]) النووي، المجموع 19: 417؛ وانظر: ابن قدامة، المغني 10: 577؛ والشرح الكبير 10: 603.
([22]) مغني المحتاج 4: 209.
([23]) انظر فهمهم لهذه الآية بهذه الطريقة تقريباً في مثل: الطوسي، الخلاف 1: 690؛ والمبسوط 2: 51؛ والروضة البهية 2: 380؛ وكتاب الأم 1: 293؛ والمحلى 11: 196؛ وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 1: 311؛ والميزان في تفسير القرآن 9: 151 ـ 152؛ والأمثل 5: 535 ـ 536، رغم أنه في موضع آخر فهم اختصاص الآية بالمشركين العدوانيين، فانظر: الأمثل 18: 254؛ وجامع البيان 5: 271 ـ 272؛ والجصاص، أحكام القرآن 3: 105؛ وابن العربي، أحكام القرآن 2: 456؛ وتفسير القرطبي 8: 74؛ والغرناطي، التسهيل لعلوم التنـزيل 2: 71؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 360.
([24]) استند عدد من الفقهاء والمفسّرين لهذه الآية هنا وفسّروا الفتنة بالكفر أو الشرك أو ذكروه وطرحوه منهم: الأردبيلي، زبدة البيان: 309؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 116؛ و 3: 375؛ والخوئي، منهاج الصالحين 1: 360؛ والشافعي، كتاب الأم 4: 181 (ينقل ذلك)، و 303، و7: 319؛ والسرخي، المبسوط 10: 2، و26، و26: 132؛ وابن رشد، بداية المجتهد 1: 306؛ والمازندراني، شرح أصول الكافي 12: 267؛ وبحار الأنوار 20: 321؛ وعمدة القاري 18: 108؛ وتفسير العياشي 2: 60 ـ 61؛ وتفسير القمي 1: 278؛ وتفسير التبيان 2: 147 ـ 148، و 5: 120 ـ 121؛ والكشاف 1: 342، و2: 157؛ وجوامع الجامع 1: 190، و 2: 24؛ ومجمع البيان 2: 31 ـ 32، و4: 466؛ والراوندي، فقه القرآن 1: 343، 345؛ والطريحي، تفسير غريب القرآن: 551؛ وتفسير الأصفى 1: 438؛ وتفسير الميزان 2: 62 ـ 63؛ وتفسير شبّر: 68، 194؛ وتفسير الأمثل 2: 22 ـ 25، و5: 426؛ وتفسير مجاهد بن جبر 1: 98 (وإن جعل المقاتلة لمن يقاتلنا فقط)؛ وتفسير مقاتل بن سليمان 1: 101، و2: 17؛ وتفسير الثوري: 119؛ والشافعي، أحكام القرآن 2: 51؛ وتفسير الصنعاني 1: 73؛ وتفسير الطبري 2: 264 ـ 267، و9: 327 ـ 330 (وان نقل من فسّر الفتنة بالامتحان و ..)؛ وتفسير ابن أبي حاتم الرازي 1: 327، و5: 1701؛ والنحاس، معاني القرآن 1: 108، و3: 154 ـ 155؛ والجصّاص، أحكام القرآن 1: 316، و3: 65، 147؛ وتفسير السمرقندي 1: 154، 420، و2: 21؛ وتفسير ابن أبي زمنين 1: 205، و 2: 177؛ وتفسير الثعلبي 2: 89، و4: 356؛ وتفسير الواحدي 1: 155، 440، وتفسير السمعاني 1: 193، و2: 165؛ وتفسير البغوي 1: 162، و2: 248؛ وتفسير النسفي 1: 94، و2: 65؛ وابن العربي، أحكام القرآن 1: 146، 154 ـ 157 (واحتمل أن يراد أن لا يفتن أحد عن دينه من المسلمين في ج2: 399، واستعرض هذا الاحتمال وغيره ابن عطية الأندلسي في المحرّر الوجيز 2: 527، 528)؛ وابن الجوزي، زاد المسير 1: 182، و3: 243؛ وتفسير القرطبي 2: 353 ـ 355، و6: 213، و7: 404؛ وتفسير البيضاوي 1: 477، و3: 108؛ والغرناطي، التسهيل لعلوم التنـزيل 2: 65 ـ 66؛ والأندلسي، تفسير البحر المحيط 2: 75 ـ 76، و4: 489؛ وتفسير ابن كثير 1: 234؛ والفيروزآبادي، تنوير المقباس: 26 ـ 27، 148 (لكنه خصّصها بالشرك في الحرم لا مطلقاً)؛ وتفسير الثعالبي 1: 403، و3: 132 ـ 136؛ والإتقان 2: 95؛ والدر المنثور 1: 205؛ وتفسير أبي السعود 1: 204، و4: 21؛ والشوكاني، فتح القدير 1: 191 ـ 193، و2: 308 (وإن ذكر الفتنة عن الدين)؛ والآلوسي، روح المعاني 2: 76، و9: 207؛ والسعدي؛ تيسير الكريم الرحمن: 89، 321؛ والشنقيطي، أضواء البيان 4: 79، و5: 289، 559 ـ 560، و6: 118، و7: 545؛ ومحمد الصدر، ما وراء الفقه 2: 374 و..
([25]) لاحظ: ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير 2: 203 ـ 206.
([26]) انظر: البرّاك، ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد: 81؛ والطباطبائي، الميزان 9: 404.
([27]) راجع وإن لم يُفهم منه الابتدائية: تفسير القرطبي 2: 350 و8: 297؛ وابن العربي 1: 145؛ وابن كثير 2: 416 و..
([28]) انظر البرّاك، ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد: 82 ـ 84.
([29]) فضل الله، كتاب الجهاد: 212؛ وشمس الدين، جهاد الأمة: 240 ـ 241.
([30]) ابن العربي، أحكام القرآن 2: 482 ـ 483؛ والتفسير الكبير 16: 27؛ وتفسير المراغي 4: 95؛ والمنار 10: 289؛ والزحيلي، التفسير المنير 10: 178.
([31]) وقع في ذلك ظافر القاسمي لدى تحليله كلمات مثل ابن الصلاح الشهرزوري، فانظر له: الجهاد والحقوق الدولية العامّة في الإسلام: 176 ـ 178، دار العلم للملايين، ط1، 1982م؛ وكذلك قفز وهبة الزحيلي من نصّ شبيه للشربيني (مغني المحتاج 4: 210)، إلى فهم مبدأ الدفاعية المحضة، فانظر: آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 89 ـ 90.
([32]) ابن تيمية، السياسة الشرعية: 160.
([33]) انظر: الخوئي، البيان: 289؛ ومحمد باقر الحكيم، علوم القرآن: 207 ـ 208.
([34]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 8: 109؛ وابن كثير، تفسير القرآن العظيم 2: 360؛ والدر المنثور 3: 228.
([35]) شمس الدين، جهاد الأمة: 240؛ وفضل الله، كتاب الجهاد: 212 ـ 213.
([36]) بدائع الصنائع 7: 111.
([37]) فضل الله، كتاب الجهاد: 210؛ وشمس الدين، جهاد الأمة: 235 ـ 236.
([38]) شمس الدين، جهاد الأمّة: 236 ـ 237.
([39]) فضل الله، كتاب الجهاد: 211؛ وشمس الدين، جهاد الأمة: 239.
([40]) فضل الله، كتاب الجهاد: 211.
([41]) راجع: الطبرسي، مجمع البيان 5: 14، وغيره من المفسّرين.
([42]) فضل الله، كتاب الجهاد: 211 ـ 212؛ وراجع: شمس الدين، جهاد الأمة: 239 ـ 240.
([43]) العيني، عمدة القاري 1: 178.
([44]) محمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم: 531، نشر المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، طهران، 1421هـ.
([45]) الفراهيدي، العين 8: 127 ـ 128.
([46]) الجوهري، صحاح اللغة 6: 2175 ـ 2176.
([47]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 472.
([48]) ابن منظور، لسان العرب 13: 317 ـ 321.
([49]) مختار الصحاح: 255؛ وعمدة القاري 5: 9.
([50]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 37؛ مركز النشر، مكتب الإعلام الإسلامي، إيران، الطبعة الثانية، 1406هـ.
([51]) ابن عبدالبر، التمهيد 2: 123.
([52]) الملفت أن العلامة الحلي فهم من الآية الظلم، فانظر له: الرسالة السعدية: 148؛ وفهم منها جودت سعيد تعذيب الكفار وحلول العذاب منهم على المسلمين، فانظر الحوار معه في مجلة الحياة الطيبة، العدد 10: 70، صيف، 2002م.
([53]) انظر: صحيح البخاري 5: 157، 200، و8: 95؛ وانظر نحو هذا الخبر مما يفيد فهم هذا الأمر منهم: سنن ابن ماجة 2: 1296.
([54]) ابن حزم، المحلّى 7: 348.
([55]) انظر: تفسير المراغي 4: 95؛ والمنار 10: 289؛ والتفسير المنير 10: 175، 178؛ ويظهر من مطاوي كلام مغنية في تفسير الكاشف 4: 32.
([56]) انظر: تفسير الكاشف 4: 32؛ وفي ظلال القرآن 3: 1620؛ وابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير 10: 64.
([57]) ابن العربي، أحكام القرآن 1: 156؛ وانظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 8: 110.
([58]) أ. ج نوراني، الجهاد والإسلام، التحيّز في مواجهة الواقع: 82، ترجمة: رياض حسن، دار الفارابي، بيروت، ط 1، 2007.
([59]) ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير 19: 252.
([60]) صالحي نجف آبادي، جهاد در إسلام (الجهاد في الإسلام): 92 ـ 94.
([61]) انظر: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي: 601 ـ 636.
([62]) انظر: المصدر نفسه: 663 ـ 740.
([63]) محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن 17: 207.
([64]) صالحي نجف آبادي، جهاد در إسلام: 94 ـ 95.
([65]) المصدر نفسه: 96 ـ 97، وقد سجّل ثمانية إشكالات يرجع المهمّ منها إلى ما قلناه، حيث كرّر وداخل بين الإشكالات.
([66]) انظر: مطهري، الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: 19 ـ 26، 30؛ والسبحاني: «رسائل ومقالات» 2: 114 ـ 122؛ ودفاعية حروب النبي بل والصحابة أشار إليها مثل: تفسير المراغي 4: 92؛ وتفسير المنار 10: 281؛ ومحمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم: 526 ـ 529، 589 ـ 600.
([67]) انظر: صالحي نجف آبادي، جهاد در إسلام: 32، 34.
([68]) مطهري، الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن: 39 ـ 40.
([69]) انظر: ابن حجر، فتح الباري 7: 218؛ والسرخسي (والشيباني)، شرح السير الكبير 1: 187 ـ 188؛ وله أيضاً: المبسوط 10: 2 ـ 3؛ وبعض هذه المراحل جاءت ـ مع تأكيد واضح على فكرة الابتدائية ـ في كلمات ابن تيمية في السياسة الشرعية: 157 ـ 162؛ والشربيني ـ مع اختلاف طفيف في المراحل ـ في مغني المحتاج 4: 208 ـ 209؛ وابن عابدين، حاشية ردّ المحتار 4: 298؛ وصالح اللحيدان، الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع: 43 ـ 53، دار الصميعي، الرياض، ط5، 1997م؛ وينقل أيضاً عن دراسة للشيخ عبدالله بن عبدالله الزايد فانظر ص 102 ـ 106؛ وعلي عبدالحليم محمود، ركن الجهاد: 52 ـ 61؛ والموسوعة الفقهية (الكويتية) 16: 125 ـ 126.
([70]) انظر: الشيخ عبدالله بن عبدالله الزايد، فيما ينقله عنه صالح اللحيدان في كتاب: الجهاد في الإسلام بين الطلب والدفاع: 103 ـ 108.
([71]) انظر: ابن الجوزي، نواسخ القرآن: 173 ـ 174؛ والسيوطي، الإتقان 2: 64؛ وابن عطية الأندلسي، المحرّر الوجيز 3: 8؛ والزركشي، البرهان 2: 40.
([72]) آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 130.
([73]) انظر: تفسير السمرقندي 2: 39 ـ 40.
([74]) وهبة الزحيلي، آثار الحرب في الفقه الإسلامي: 110 ـ 111.
([75]) سيد سابق، فقه السنّة 2: 613 ـ 614.
([76]) صحيح البخاري 1: 11.
([77]) صحيح البخاري 1: 102 ـ 103، و4: 5، وانظر: 2: 110، و8: 5، 140، 163، وصحيح مسلم 1: 38، 39؛ وسنن ابن ماجة 1: 27 ـ 28، و2: 1295؛ وسنن أبي داوود 1: 347، 594؛ وسنن الترمذي 4: 117، 118؛ وسنن النسائي 5: 14، و6: 4 ـ 7، و7: 76 ـ 77، 78، 79، 80، و8: 109؛ والسنن الكبرى 2: 8، 279 ـ 284، و3: 4 ـ 6، و6: 514، 531 ـ 532، 539؛ ومسند أبي يعلى 1: 69، و4: 189 ـ 190؛ وابن الجارود النيسابوري، المنتقى من السنن المسندة: 258؛ وصحيح ابن خزيمة 4: 7 ـ 8؛ والبيهقي، السنن الكبرى 2: 3، و3: 92، 367، و4: 8، 104، 114، و6: 336، و7: 3 ـ 4، و8: 19، 136، 176، 177، 196، و9: 49، 182؛ ومسند ابن حنبل 1: 11، 19، 36، 47، و2: 199، 345، 377، 423، 475 ـ 476، 502، 527، 528، و3: 224؛ وابن سلمة، شرح معاني الآثار 3: 213، 215، 216؛ وصحيح ابن حبان 1: 399 ـ 401، 449، 452 ـ 453، و13: 215؛ والمحدث الفاصل: 464؛ والطبراني، المعجم الأوسط 1: 288 ـ 289، و2: 67، و3: 157، 300، و4: 66، 309، و6: 215، و6: 299، 332 ـ 333، و7: 84، 99، و8: 119، 238؛ والمعجم الكبير 1: 218 ـ 219؛ وسنن الدارقطني 1: 238 ـ 239، و2: 75 ـ 76؛ وجامع بيان العلم وفضله 2: 102؛ ومسند ابن المبارك: 107؛ ومسند الطيالسي: 151؛ ومصنف الصنعاني 4: 43 ـ 44، و6: 66 ـ 67، و10: 172 ـ 173؛ ومصنف ابن أبي شيبة 6: 576، و7: 650 ـ 651، 653؛ ومسند ابن راهويه 1: 294 ـ 295، 320؛ والعدني، كتاب الإيمان: 87؛ والآحاد والمثاني 4: 71 و..
([78]) سنن الترمذي 5: 110.
([79]) المستدرك 1: 387، و2: 522.
([80]) البوطي، الجهاد في الإسلام: 52 ـ 63.
([81]) انظر: أحاديث في ذمّ الكلام وأهله: 92؛ ومختصر المزني: 256، 270؛ والإيجي، المواقف 1: 141، و3: 650 ـ 651؛ وشرح المقاصد في علم الكلام 1: 44، و2: 250؛ وشرح العقيدة الطحاوية: 75، 393؛ وكشف النور: 15؛ والمجموع 3: 17، و4: 253، و19: 223، 231، 233، 240، 246، 287، 324؛ وفتح الوهاب 1: 154، و2: 296، 302؛ وابن حزم، الإحكام 1: 74؛ والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2: 209، 210، 213؛ ومغني المحتاج 1: 327، و4: 14، 140، 208، 228؛ والمبسوط 10: 2، و24: 84، و26: 132؛ وأصول الجصاص 1: 64 ـ 65، 327، و2: 25، و3: 279، و4: 17؛ وكشاف القناع 2: 296؛ وفتح المعين 4: 230؛ وحواشي الشرواني 10: 12؛ وإعانة الطالبين 1: 30؛ وحاشية الدسوقي 1: 131؛ وبداية المجتهد 1: 201، 308، 312؛ وسبل السلام 4: 56؛ وجامع البيان 2: 266، و15: 103، و26: 134، 184، و30: 208؛ وبدائع الصنائع 7: 100، 105؛ والجوهر النقي 3: 92، 366؛ والمغني 2: 34، 299، 434، و10: 88، 100، 104، 544؛ وسليمان بن عبدالوهاب، الصواعق الإلهية في الردّ على الوهابية: 5، 56 ـ 57؛ وله أيضاً: فصل الخطاب: 27، 127؛ وغيرها من عشرات المصادر التاريخية والرجالية والقرآنية والتفسيرية والفقهية وغيرها ولولا خوف الإطالة لنقلناها؛ فلتراجع.
([82]) دعائم الإسلام 2: 402.
([83]) تفسير علي بن إبراهيم القمي 1: 172.
([84]) الفضل بن شاذان الأزدي، الإيضاح: 46.
([85]) عيون أخبار الرضا 1: 70.
([86]) الصدوق، ثواب الأعمال: 294.
([87]) عوالي اللئالي 1: 153، 238؛ ونقله عنه كذلك المحدث النوري في مستدرك الوسائل 18: 208 ، 209.
([88]) راجع ـ على مستوى مصادر الفقه الإمامي والزيدي ـ: الخلاف 1: 551، و5: 330، 338، 355، 526، 540؛ والمبسوط 7: 263، 282؛ والمهذب 2: 454؛ والمعتبر 2: 432، والمسلك في أصول الدين: 287 ـ 288؛ وجامع الخلاف والوفاق: 229؛ وتذكرة الفقهاء 4: 315، و9: 46، 78، 117؛ ومنتهى المطلب 1: 369، و2: 905، 921، 928؛ ونهج الحق وكشف الصدق: 399 ـ 400، 555؛ وإيضاح الفوائد 1: 27، و4: 552؛ وروض الجنان: 369؛ وحقائق الإيمان: 81، 133؛ ومجمع الفائدة والبرهان 3: 271؛ وذخيرة المعاد ج1، ق2: 254؛ والتحفة السنية: 80؛ والحدائق الناضرة 7: 334؛ ورياض المسائل 7: 531؛ ومناهج الأحكام: 183؛ وجواهر الكلام 21: 116، 124؛ ومنهج الرشاد لمن اراد السداد: 538 ـ 539؛ والفصول المهمة في تأليف الأمة: 21؛ ودراسات في ولاية الفقيه 2: 711؛ والإمام يحيى بن الحسين، الأحكام 2: 288 ـ 289؛ والمرتضى، شرح الأزهار 4: 578 و..
([89]) انظر: النووي، المجموع 19: 232؛ والعجلوني، كشف الخفاء 1: 194.
([90]) شرح مسند أبي حنيفة: 165؛ وانظر: الكتاني، نظم المتناثر من الحديث المتواتر: 39 ـ 40؛ وقد عبر الجصاص عن هذا الخبر بأنه مما اتفق عليه الصحابة؛ فانظر: أحكام القرآن 2: 310.
([91]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 353 ـ 354.
([92]) انظر: معجم رجال الحديث 5: 366 ـ 369، رقم: 2909 ـ 2917.
([93]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 7: 235 ـ 236، رقم: 3968 ـ 3971؛ والبخاري، التاريخ الصغير 2: 265، وله أيضاً: الضعفاء الصغير: 38؛ والنسائي، كتاب الضعفاء والمتروكين: 167؛ والعقيلي، الضعفاء 1: 308؛ والرازي، الجرح والتعديل 3: 144 ـ 145؛ وابن حبان، كتاب المجروحين 1: 252؛ وابن عدي، الكامل 2: 239 ـ 240؛ وأبو نعيم الأصبهاني، كتاب الضعفاء: 74؛ وتاريخ بغداد 8: 149 ـ 151؛ والذهبي، ميزان الاعتدال 1: 598؛ وسبط ابن العجمي، الكشف الحثيث: 103 ـ 104؛ وابن حجر، الإصابة 1: 675، و6: 443؛ ولسان الميزان 1: 239، و2: 350 ـ 351 و..
([94]) انظر: رجال الطوسي: 309؛ والنمازي، مستدركات علم رجال الحديث 8: 47، والخوئي معجم رجال الحديث 20: 118، رقم: 12952؛ وليس له ذكر في مصادر الرجال السنيّة.
([95]) انظر: العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 9: 160 ـ 161، 280؛ ومنتهى المطلب 2: 961.
([96]) انظر: الشافعي، الأم 4: 181، 182، و227 ـ 228، 252، 255، و6: 180، و7: 86، 319؛ وكتاب المسند: 208.
([97]) الهيثمي، مجمع الزوائد 1: 24 ـ 26، و5: 273 ـ 274.
([98]) فضل الله، كتاب الجهاد: 214.
([99]) ابن حجر، فتح الباري 1: 71.
([100]) فتح الباري 1: 71 ـ 72؛ و12: 179.
([101]) انظر: البوطي، الجهاد في الإسلام: 58 ـ 61؛ وفضل الله، كتاب الجهاد: 212 ـ 213، 214 ـ 215؛ وشمس الدين، جهاد الأمة: 197 ـ 199.
([102]) الخوئي، كتاب الإجارة من مستند العروة: 415، وكتاب المضاربة 1: 11 ـ 12، ومصباح الفقاهة 2: 31 ـ 33، ومصباح الأصول 2: 523 ـ 524.
([103]) محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 12: 214، و13: 45؛ ونهج الفقاهة: 60.
([104]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 1: 10، و2: 229.
([105]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: حاشية الدسوقي 1: 11؛ وعلي خان المدني، رياض السالكين 1: 39، (مقدمة المحقق)، و5: 212، و7: 197، 247؛ وعمدة القاري 5: 294؛ وتفسير أبو السعود العمادي 1: 235؛ وتفسير الآلوسي 1: 146 ـ 147، و2: 155، و4: 34؛ و..
([106]) شذا العرف: 40 ـ 41.
([107]) أدب الكاتب: 357 ـ 358.
([108]) تفسير القرطبي 1: 14.
([109]) راجع: محمد جواد مغنية، هذي هي الوهابية: 82 ـ 83.
([110]) ابن حجر، فتح الباري 1: 72؛ والعيني، عمدة القاري 1: 181؛ وابن قدامة، المغني 10: 388، 574؛ وكشاف القناع 3: 44، و3: 134، و6: 229؛ والجصاص، أحكام القرآن 2: 311؛ والسيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 46.
([111]) انظر: حواشي الشرواني والعبادي 1: 471.
([112]) ابن قرناس، الحديث والقرآن: 119 ـ 123، نشر دار الجمل.
([113]) باستثناء ما جاء في كتاب الإيضاح: 46، المنسوب إلى الفضل بن شاذان (260هـ)، بصيغة: mأمرنا أن نقاتلn، وقد ورد الحديث هناك مرسلاً بلا سند.
([114]) فلم نجدها سوى في مسند ابن حنبل وصحيح البخاري و.. مروية عن أنس بطريق حميد الطويل.
([115]) سنن أبي داوود 1: 594.
([116]) سنن النسائي 7: 75 ـ 76.
([117]) سنن البيهقي 3: 92.
([118]) السنن الكبرى 2: 279.
([119]) سنن الدارقطني 1: 238.
([120]) ابن حجر، تغليق التعليق 2: 222.
([121]) حيدر حب الله، حجية السنة في الفكر الإسلامي: 663 ـ 740.
([122]) الكافي 5: 3؛ ووسائل الشيعة 15: 12 ـ 13، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب1، ح8.
([123]) محمد مهدي شمس الدين، جهاد الأمة: 144.
([124]) المصدر نفسه: 144 ـ 145.
([125]) المصدر نفسه: 145.
([126]) المصدر نفسه.
([127]) المصدر نفسه: 147 ـ 148.
([128]) وسائل الشيعة 15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 9، ح1، وباب 10، ح1، 2، وباب 11، ح1 و..
([129]) الكافي 5: 7؛ ووسائل الشيعة 15: 15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح14.
([130]) راجع: معجم رجال الحديث 22: 141، رقم: 14211؛ ومستدركات علم رجال الحديث 8: 367.
([131]) شمس الدين، جهاد الأمة: 155 ـ 156.
([132]) المصدر نفسه: 156.
([133]) الكافي 5: 9 ـ 10؛ والخصال: 240؛ وتحف العقول: 243؛ وتهذيب الأحكام 6: 124؛ ووسائل الشيعة 15: 24، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 5، ح 1؛ ومستدرك الوسائل 11: 26، و12: 231.
([134]) انظر: معجم رجال الحديث 13: 158 ـ 161، 184 ـ 188، رقم: 8444 ـ 8446، 8511.
([135]) انظر: المصدر نفسه 15: 40 ـ 62، رقم: 9553 ـ 9574؛ وقد ذكر السيد الخوئي في سؤال وجّه إليه أنه يصعب التمييز بين الجوهري والإصفهاني؛ لهذا لا يعتمد على الرواية التي فيها القاسم بن محمد، فانظر: صراط النجاة 2: 457.
([136]) شمس الدين، جهاد الأمة: 174.
([137]) المصدر نفسه.
([138]) الكافي 5: 10 ـ 12؛ والخصال: 274 ـ 276؛ وتحف العقول: 288 ـ 290؛ وتهذيب الأحكام: 4: 114 ـ 116، و6: 136 ـ 137؛ والعياشي 1: 48، 324 ـ 325، 385، و2: 77، 85؛ وتفسير القمي 2: 320 ـ 321؛ ووسائل الشيعة 15: 25 ـ 27، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو وما يناسبه، باب 5، ح2.
([139]) راجع: معجم رجال الحديث 15: 40 ـ 62، رقم: 9553 ـ 9574.
([140]) شمس الدين، جهاد الأمة: 178 ـ 179.
([141]) المصدر نفسه: 179.
([142]) المصدر نفسه: 179 ـ 180.
([143]) شمس الدين، جهاد الأمة: 179، الهامش 1.
([144]) تهذيب الأحكام 4: 114، و6: 144؛ والحميري، قرب الإسناد: 132؛ والصدوق، الخصال: 60؛ ووسائل الشيعة 15: 28 ـ 29، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 5، ح 3، 5.
([145]) تاريخ مدينة دمشق 10: 245؛ والدر المنثور 3: 228؛ ووسائل الشيعة 15: 28، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب5، ح 3؛ وكنـز العمال 4: 437.
([146]) انظر: الجرح والتعديل 2: 362، 408؛ وميزان الاعتدال 1: 340؛ ولسان الميزان 2: 28؛ ومجمع الزوائد 1: 120، 121، و2: 6، و3: 179؛ وكنـز العمال 4: 437؛ والمناوي، فيض القدير 5: 504، علماً أنّ هذا الرجل مهمل جداً في مصادر الرجال الشيعية.
([147]) صحيح البخاري 5: 170؛ والسيوطي، الدر المنثور 2: 64.
([148]) النسائي، السنن الكبرى 6: 313؛ وقريب من الصيغتين ما جاء في الاستيعاب 1: 11؛ وجامع البيان 4: 60؛ والنحاس، معاني القرآن 1: 459؛ وتفسير الثعلبي 3: 127؛ وتفسير البغوي 1: 341.
([149]) ابن عبد البر، الاستيعاب 1: 10؛ وتفسير الثعلبي 3: 127؛ وتفسير البغوي 1: 341.
([150]) انظر: ابن حجر، فتح الباري 6: 101.
([151]) انظر: مسند ابن حنبل 5: 338؛ وكنـز العمال 4: 299، و10: 449 ـ 450؛ والمقريزي، إمتاع الأسماع 1: 228، و13: 294 ـ 295.
([152]) مجمع الزوائد 5: 333؛ وأمالي المحاملي: 422؛ والمعجم الكبير 8: 283؛ والجامع الصغير 2: 123 ـ 124، 149؛ وكنـز العمال 4: 299 ـ 300، 314، 548، و12: 93؛ وفيض القدير 4: 333 ـ 334، 403.
([153]) فتح الباري 6: 101؛ وانظر مصادره الأخرى التي أشرنا إليها.
([154]) انظر هذا التقسيم عند فضل الله، الجهاد: 242 ـ 243.
([155]) ابن حمزة، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 200 ـ 201.
([156]) الحلي، شرائع الإسلام 1: 235.
([157]) انظر: الطوسي، الرسائل العشر: 242؛ والعلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية 2: 137؛ وتذكرة الفقهاء 9: 43 ـ 44، و..
([158]) انظر على سبيل المثال: محمد الرحموني، الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة: 53.
([159]) شمس الدين، جهاد الأمة: 431 ـ 432.
([160]) انظر: محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1: 785 ـ 786.
([161]) وردت ـ مع اختلافات طفيفة في محل الشاهد ـ في: الكافي 2: 348 ـ 349، و5: 53؛ وتهذيب الأحكام 6: 122؛ ودعائم الإسلام 1: 343؛ والخصال: 9؛ وروضة الواعظين: 363، 366؛ وعوالي اللئالي 1: 24؛ ووسائل الشيعة 15: 16 ـ 17، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح21، و ج21: 501.
([162]) انظر: معجم رجال الحديث 17: 120 ـ 122، رقم: 10863، ولم أجد له ذكراً في مصادر الجرح والتعديل السنيّة؛ نعم في التهذيب ورد: mمحمد بن سعيد، عن غزوانn، وهو تصحيف أو اشتباه، ولو كان صحيحاً فهو أيضاً مهمل.
([163]) الكافي 5: 2، 8؛ وأمالي الصدوق: 674؛ وثواب الأعمال: 190؛ وتهذيب الأحكام 6: 122؛ وروضة الواعظين: 362؛ ومشكاة الأنوار: 269؛ ووسائل الشيعة 15: 9، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح1.
([164]) الكافي 5: 8 ـ 9، 48؛ ووسائل الشيعة 11: 467، و15: 16، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب1، ح18.
([165]) سنن الترمذي 3: 119؛ والبيهقي، السنن الكبرى 6: 329؛ ومصنّف ابن أبي شيبة 7: 704 ـ 705؛ وابن سلمة، شرح معاني الآثار 3: 274؛ والطبراني، المعجم الكبير 2: 338، و17: 155.
([166]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 163 ـ 164.
([167]) شمس الدين، جهاد الأمة: 131.
([168]) الكافي 5: 2؛ وأمالي الصدوق: 673؛ وثواب الأعمال: 189 ـ 190؛ وتهذيب الأحكام 6: 123؛ وروضة الواعظين: 362؛ وعوالي اللئالي 3: 183؛ ووسائل الشيعة 15: 10، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح2.
([169]) راجع: رجال النجاشي: 430؛ ورجال الكشي 2: 597 ـ 598؛ والفهرست: 256 ـ 257؛ ورجال الطوسي: 317؛ ورجال ابن الغضائري: 100؛ ومعالم العلماء: 162؛ وإيضاح الاشتباه: 309؛ وخلاصة الأقوال: 414؛ والتحرير الطاووسي: 587؛ والأميني، الوضاعون وأحاديثهم الموضوعة: 299 ـ 300؛ ومستدركات علم رجال الحديث 8: 117، 336 ـ 338؛ وتهذيب الأحكام 1: 32، 9: 77؛ والاستبصار 1: 48، و4: 89؛ ومعجم رجال الحديث 20: 231 ـ 23، و21: 67 ـ 68، و22: 44 ـ 45؛ والخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 1: 101، و13: 456 ـ 460، و14: 115 ـ 116، 417 ـ 418؛ والذهبي، ميزان الاعتدال 4: 353 ـ 354؛ وابن حجر، لسان الميزان 6: 231 ـ 234.
([170]) الكافي 5: 3؛ ونحوه في دعائم الإسلام 1: 344 (منسوباً إلى الإمام علي)؛ وفضل الله الراوندي، النوادر: 121؛ ووسائل الشيعة 15: 10 ـ 11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح3؛ ومستدرك الوسائل 11: 9.
([171]) انظر حوله: النجاشيّ، فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة: 26؛ ورجال الكشي 2: 792؛ والفهرست: 45 ـ 46؛ وابن داوود الحلّيّ، الرجال: 51؛ والمفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 2: 246؛ والطوسيّ، تهذيب الأحكام 9: 149 ـ 150؛ والنمازيّ، مستدركات علم رجال الحديث 1: 672 ـ 673؛ والخوئيّ، معجم رجال الحديث 1: 274 ـ 275، و4: 101 ـ 102.
([172]) الكافي 5: 3؛ ووسائل الشيعة 15: 11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح4.
([173]) وسائل الشيعة 15: 13، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح10.
([174]) الكافي 5: 8؛ ووسائل الشيعة 15: 11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب1، ح 5.
([175]) الكافي 5: 54؛ ووسائل الشيعة 15: 11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب1، ح6.
([176]) الكافي 5: 54؛ ووسائل الشيعة 15: 12، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو وما يناسبه، باب1، ح7؛ ومستدرك الوسائل 11: 19.
([177]) الصدوق، الخصال: 524؛ ومعاني الأخبار: 333.
([178]) راجع: مستدركات علم رجال الحديث 5: 192.
([179]) انظر: البروجردي، طرائف المقال 1: 178، و2: 227؛ ومعجم رجال الحديث 13: 85؛ ومستدركات علم رجال الحديث 5: 399.
([180]) الطوسي، الأمالي: 540؛ والأحسائي، عوالي اللئالي 1: 90.
([181]) الكافي 5: 3 ـ 4؛ وتهذيب الأحكام 6: 121؛ وكامل الزيارات: 552؛ وروضة الواعظين: 362؛ ومشكاة الأنوار: 268؛ ووسائل الشيعة 11: 118 ـ 119، و ج15: 13، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح9.
([182]) راجع المسمّين بحيدر أو حيدرة في: معجم رجال الحديث 7: 327 ـ 333، تجد عدم توثيق من هو في هذه الطبقة.
([183]) راجع: معجم رجال الحديث 11: 258 ـ 260، رقم: 6962.
([184]) الكافي 5: 53؛ ودعائم الإسلام 1: 343؛ والحسين بن سعيد الكوفي، كتاب الزهد: 76؛ ووسائل الشيعة 15: 13 ـ 14، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح 11؛ وعمدة القاري 3: 165.
([185]) انظر حول عنبسة لتلاحظ اشتراكه في الطبقة الواحدة هنا: معجم رجال الحديث 14: 174 ـ 181، رقم: 9108 ـ 9120.
([186]) انظر: شمس الدين، جهاد الأمة: 150.
([187]) الكافي 5: 53 ـ 54؛ ووسائل الشيعة 15: 14، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح 12.
([188]) شمس الدين، جهاد الأمة: 151.
([189]) الكافي 5: 8؛ والمفيد، الإرشاد 1: 251 ـ 252؛ ووسائل الشيعة 15: 15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح15.
([190]) نهج البلاغة 1: 67 ـ 70؛ والكافي 5: 4 ـ 6؛ ودعائم الإسلام 1: 390 ـ 391؛ وشرح الأخبار 2: 74 ـ 76؛ ومعاني الأخبار: 309 ـ 310؛ والغارات 2: 474 ـ 478؛ ووسائل الشيعة 15: 14، 18، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح13، و25؛ والدينوري، الأخبار الطوال: 211 ـ 213؛ وتاريخ بغداد 8: 419 ـ 420؛ والبلاذري، أنساب الأشراف: 441 ـ 443؛ وابن الدمشقي، جواهر المطالب 1: 321 ـ 323.
([191]) انظر: رجال النجاشي: 255؛ ومعجم رجال الحديث 13: 72 ـ 73، رقم: 8238.
([192]) راجع: معجم رجال الحديث 4: 29 ـ 30، رقم: 1304 ـ 1305؛ ومستدركات علم رجال الحديث 1: 619 ـ 622.
([193]) انظر: معجم رجال الحديث 14: 274، رقم: 9329 ـ 9330، و 22: 169، رقم: 14291؛ والنمازي، مستدركات علم رجال الحديث 8: 386؛ ولا ذكر لاسمه في مصادر الرجال السنيّة.
([194]) انظر: مستدركات علم رجال الحديث 8: 157.
([195]) وسائل الشيعة 15: 15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 1، ح16.
([196]) لمزيد من الاطلاع، راجع: معجم رجال الحديث 19: 148 ـ 153، رقم: 12304 ـ 12307.
([197]) ابن سلامة القضاعي، مسند الشهاب 1: 380؛ والحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 19؛ والعجلوني، كشف الخفاء 1: 162.
([198]) البرقي، المحاسن 1: 287 ـ 288؛ والكافي 2: 17؛ ووسائل الشيعة 1: 17، و15: 16 ـ 17، كتاب الطهارة، أبواب مقدمّة العبادات، باب 1، ح8.
([199]) تهذيب الأحكام 6: 174؛ وتفسير العياشي 2: 118؛ ووسائل الشيعة 15: 28، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 5، ح 4.
([200]) الطبري، جامع البيان 11: 195 ـ 196.
([201]) انظر: معجم رجال الحديث 14: 156 ـ 158، رقم: 9059.
([202]) السيوطي، الدر المنثور 3: 293.
([203]) الكافي 5: 13 ـ 19؛ وتهذيب الأحكام 6: 127 ـ 134.
([204]) انظر: معجم رجال الحديث 4: 251 ـ 255؛ رقم: 1856، 1858.
([205]) انظر: المصدر نفسه 22: 284 ـ 285، رقم: 14652، وتوصيف النجاشي له بأنّه من أصحابنا لا يعني سوى تشيّعه؛ فانظر: رجال النجاشي: 220.
([206]) شمس الدين، جهاد الأمة: 193 ـ 194، 195.
([207]) المصدر نفسه: 194.
([208]) المصدر نفسه: 194، 195.
([209]) وسائل الشيعة 15: 15 ـ 16، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب1، ح17.
([210]) المصدر نفسه: 16، ح19.
([211]) المصدر نفسه، ح20.
([212]) المصدر نفسه: 17، ح22.
([213]) المصدر نفسه: 18، ح24.
([214]) المصدر نفسه، ح26.
([215]) المصدر نفسه: 19 ح27.
([216]) المصدر نفسه، ح28.
([217]) المصدر نفسه 1: 22، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، باب1، ح22.
([218]) المصدر نفسه: 22 ـ 23، ح23.
([219]) المصدر نفسه: 26، ح32.
([220]) الآصفي، الجهاد: 30 ـ 31.
([221]) انظر حول الغزوات أيضاً: عبد الله البرّاك، ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد: 132 ـ 134.
([222]) شمس الدين، جهاد الأمة: 200.
([223]) يشكّك ابن قرناس في صحّة الحادثة المروية في التاريخ الإسلامي عن هجوم المسلمين على قافلة المشركين، الأمر الذي تسبّب بحرب بدر، ويقول بأنّ قريشاً كان لها رحلتان: الأولى في الصيف إلى الشام؛ والثانية في الشتاء إلى اليمن، ومعركة بدر وقعت في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة، وهو الموافق لشهر مارس/آذار من عام 624م، وهو تاريخ لا يتطابق مع تاريخ الرحلة المعهودة إلى الشام، فانظر: ابن قرناس، الحديث والقرآن: 119 ـ 120.
([224]) الآصفي، الجهاد: 31 ـ 32.
([225]) المصدر نفسه: 31.
([226]) المصدر نفسه.
([227]) تفسير المنار 4: 62.
([228]) انظر: تاريخ الطبري 2: 295؛ والبداية والنهاية 6: 338؛ والمبسوط 8: 123.
([229]) انظر: السيرة الحلبية 3: 295 ـ 296؛ وأعيان الشيعة 1: 244.
([230]) انظر: مسند أحمد 1: 263؛ وصحيح البخاري 1: 6، و5: 169؛ وصحيح مسلم 5: 165ـ 166؛ والذهبي، تاريخ الإسلام 2: 504.
([231]) انظر: تاريخ الطبري 2: 294؛ وسبل الهدى والرشاد 2: 394.
([232]) انظر: سيرة ابن إسحاق 4: 210؛ والبداية والنهاية 3: 104.
([233]) السيرة الحلبية 3: 304.
([234]) الطبقات الكبرى 1: 281؛ وأسد الغابة 4: 344.
([235]) الإصابة 6: 448.
([236]) انظر: الأحمدي، مكاتيب الرسول 1: 30 ـ 31.
([237]) انظر: المصدر نفسه 1: 33 ـ 34.
([238]) مناقب آل أبي طالب 1: 70.
([239]) تاريخ بغداد 1: 142؛ وكنـز العمال 4: 438.
([240]) الواقدي، فتوح الشام 2: 39 ـ 40، دار الجيل، بيروت.
([241]) مكاتيب الرسول 1: 97، 114.
([242]) محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام: 51، دار الفكر العربي.
([243]) الصدوق، الخصال: 374.
([244]) نهج البلاغة 2: 18.
([245]) المصدر نفسه 2: 30.
([246]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 3: 43 ـ 45؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 1: 841 ـ 843.
([247]) الصدوق، الهداية: 57 ـ 60.