hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الوقف، بين الفقه المقصدي المجتمعي والنزعة الأداتية الفردية

تاريخ الاعداد: 6/1/2008 تاريخ النشر: 5/11/2014
41410
التحميل

الشيخ حيدر حب الله(*)

تمهيد

يمثل الوقف وظواهره اليوم أحد مظاهر جدوى الخلاف الفكري بين فقه المقاصد والأغراض الشرعية وفقه الوسائل والآليات والسبُل، وكذلك أحد مظاهر الخلاف بين الفقه الفردي والفقه المجتمعي العام، فالوقف ـ لو درسنا حقيقته ـ عبارة عن حسّ اجتماعي لنقل المال من إطار التوظيف الفردي إلى رحابة الاستثمار والانتفاع الاجتماعي، فهو تعميم للمال في مقابل تخصيصه، وبقطع صلة الواقف بالوقف، والاستشكال الشرعي في وقفه على نفسه، نستطيع التأكّد من أنّ الشريعة كانت راغبة بإيجاد قطيعة بين الملكية الخاصّة والملكيّة العامّة، على درجات العمومية فيها تبعاً لأنواع الوقف.

انطلاقاً من ذلك يفترض أن نحكّم في فهم مقاصد الوقف نهج التعامل مع الملكيات العامّة أو شبه العامّة، وهو نهج يهدف إلى حسن إدارة المال في الصالح العام، بحيث يخضع هذا الأمر لقيمومة رؤى اجتماعية، وليست فردية، فكيف يمكن أن يكون مال الوقف في الشريعة ـ والوقف انتقال بالمال من الخصوصية القادرة على احتكار المال لنفسها وتعطيله عن غيرها إلى العمومية القائمة على سياسة النفع العام ـ كيف يمكن لهذا المال في تشريع الوقف أن يقبل التعطيل، كما نجده اليوم في عالم الوقف بين المسلمين، حيث سادت وتسود سياسة التعطيل للمال المضرّة بالتنمية؟! وبدل أن يكون الوقف ـ كما جاء في بعض الروايات ـ صدقةً جارية من بعد الوقف والواقف، صارت مالاً مجمّداً لا جريان فيها؛ إمّا بسبب الجمود على حرفيات فقه الوقف المعطّلة ـ أحياناً ـ لمقصديّته؛ أو بسبب المعيقات الميدانية التي يرجع كثير منها في عالمنا الإسلامي إلى سوء في إدارة المال العام.

مقصديّة الجريان في الصدقات الوقفيّة

جاء في معتبرة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله× أنّه قال: (ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له) [الكليني، الكافي 56:7]،  فإذا كان الوقف أبرز مظاهر الصدقات الجارية بعد موت الإنسان في التشريع الإسلامي، فكيف فقد خاصيته هذه، تماماً أو حكماً؟! ولماذا لا تكون مثل هذه النصوص العديدة، التي ورد فيها مثل هذا التعبير، أساساً لدراسة فلسفة الوقف والغاية منه، أي جريانه في مقابل تعطيله، وحركته في مقابل جموده؟! ولماذا لا نتخذ مثل هذه النصوص بمثابة المقاصد أو شبه المقاصد التي يقوم عليها الوقف، فلا يكون مجرّد تحبيس للأصل وتسبيل للمنفعة، بل هو كذلك مع تنشيطٍ للاستثمار منه في المجال المخصّص له؟!

فقه الوقف بين مبدأ القصد الوقفي ورحابة العناوين الثانوية الحاكمة

وإذا حكمت بعض الروايات الشريفة بجواز التصرّف الاستثنائي في الوقف لو لزم محذور اختلاف بين المؤمنين فإنّ في ذلك نحواً من الإيحاء بأنّ مجال العناوين الثانوية مفتوح ـ بانضباط ـ للتدخل الاستثنائي في التصرّف بالأوقاف؛ بغية الحدّ من تعطيل الوقف، وتجميد المال، أو رداءة استخدامه بما لا يعود بالنفع المرجوّ منه للصالح العام.

جاء في صحيحة علي بن مهزيار قال: <وكتبت إليه (أبي جعفر الثاني×): إن الرجل ذكر أن بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافاً شديداً، وأنه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف، ويدفع إلى كل إنسان منهم ما وقف له من ذلك، أمرته، فكتب إليه بخطّه وأعلمه: إن رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل، فإنه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس> [المصدر نفسه: 36؛ والصدوق، من لا يحضره الفقيه 4: 240ـ241؛ والطوسي، تهذيب الأحكام 130:9؛ والاستبصار 4: 98ـ99]  والحديث، وإن سعى بعض الفقهاء لممارسة تأويل عليه، إلا أنّ خصوصية التعليل التي فيه تسمح بالأخذ به؛ لكي يكون مخصّصاً لقانون حرمة بيع الوقف، ولهذا أخذ به بعض الفقهاء وأفتى على أساسه، مثل: السيد الخوئي (1413هـ) [انظر: الخوئي، منهاج الصالحين 25:2]  ونحن هنا نسأل أليس الجمود على حرفيات بعض فقه الوسائل في الوقف، مع التغاضي عن فقه المقاصد، تعطيلاً للمال وتلفاً حكميّاً له؟! أليس تجميد المليارات من رؤوس الأموال النائمة في الأراضي والعقارات فيه مضرّة تلف الأموال، بل تخلّف المسلمين وتهاوي حالهم؟! وإذا أعمل الإمام× في هذه الصحيحة عنواناً ثانويّاً، وأخذ بقانون التزاحم ليقدّم الأهمّ على المهم، مع احتماله تلف الأموال والنفوس؛ إذ جاء في الحديث: <..فإنّه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس>، دون أن يجزم بوقوع ذلك، ألا يعني ذلك أنّ هذه المعادلات يمكن إجراؤها في مجال الوقوف عندما نحتمل أو نتأكّد من الأضرار الهائلة الناجمة عن الجمود على بعض الحرفيات الفقهية، أو بعض حرفيات قصود الواقفين الذين انقضت حياتهم وذهبوا إلى ربهم، وأنّ صحيحة محمد بن الحسن الصفار، التي جاء فيها أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي× في الوقف وما روى فيه عن آبائه^، فوقع×: <الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله> [الصدوق، من لا يحضره الفقيه 237:4؛ والطوسي، تهذيب الأحكام 129:9ـ130]، تقرّر المبدأ الذي يمكن التدخل للتصرّف فيه وفقاً للمصالح الهامّة الأهم؟!

إنّ النظرة الحرفية للوقف تقود إلى ارتهانه بمستوانا الثقافي ودرجات وعينا الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي..، فكلّما كان وعينا لممارسة الدين في عصرنا وعياً محدوداً كان توظيف الوقف لخدمة الدين محدوداً بشكل تلقائي، ولهذا تتولّد معادلة افتراضيّة متوقعة في بعض حالات الوقف، وهي أنّ الوعي الاستثماري للأموال في مجال الخدمات العامّة وشبه العامّة يقع في سياق تطوّري دائم، فإذا شرّعنا الوقف، وجمدنا على قصد الواقف جموداً حرفيّاً نهائيّاً ـ بحيث لم نسمح للجهات الشرعية المخوّلة، ضمن ضوابط وقيود صارمة، أن تتدخل هنا وهناك ـ فإنّ معنى هذا الكلام تلقائيّاً أنّ تطوّر الحياة الاستثمارية سيؤدي إلى صيرورة الصيغ التي وضعها الواقفون، وبشكل مستمر، صيغاً تحوي قدراً من التعطيل النسبي للمال في المجال الاستثماري؛ لأنّ تطوّر الحياة الاقتصادية سوف يجعل الوعي الاستثماري الذي قام عليه هذا الوقف أو ذاك وعياً معيقاً أو بدائياً في مجال التنمية، فإذا تراكمت الوقوف بشكل متواصل فسوف نشهد بروز ظاهرة أكثر انتشاراً تفضي إلى تعطيل المال، وهذا هو الذي نتحدّث عن أهمية النظرة المجتمعية العامّة في التعامل مع الوقف فيه، مقابل النظرة الفردية التي لا ترى حجم هذا الضرر على مستوى الحياة العامّة.

نعم، إنّ قصود الواقفين مبدأ أصيل ورئيس لا يفترض هدره؛ لأنّ في الهدر غير المدروس له مضارّ كبيرة من جهة عدم ضمان الواقفين لحركة وقوفهم في المستقبل، الأمر الذي قد يدفع لتضاؤل حجم الإقدام على سنّة الوقف الشريفة، خوفاً من أن يتمّ التصرّف في وقوفهم على غير الجهة التي أرادوها، ولهذا لابدّ من الجمع بين المبدأ والاستثناء، ليكون الاستثناء استثناءً يؤكّد القاعدة ولا يهدمها.

من هنا ربما لا يُستبعد أيضاً أن نعيد النظر في دراستنا لمقاصد الواقفين من ناحية الفصل بين المعنى والمغزى، وفقاً لنظرية العالم الغربي دو سوسير في علم اللغة؛ فإنّ الواقف إذا تلفظ بصيغةٍ وقفيةٍ ما يمكن إذا أخذ عنواناً في صيغة الوقف أن نعتبره ـ أي العنوان ـ مثالاً للصورة الاستثمارية الزمنية التي كانت في عصره، فإذا قال: وقفت هذا البيت لإقامة مجالس العزاء على الإمام الحسين×، فإنّ المعنى هو أنّ قصده تركّز على المجالس الحسينية، لكنّ المغزى كان عبارة ـ في بعض الحالات على الأقلّ ـ عن نشر الثقافة الحسينية وروح القيم النبيلة والمشاعر الرقيقة القائمة على التفاعل مع ثورة الحسين×، الأمر الذي يفسح في المجال لاستخدام هذا البيت في إقامة مسرحيات مؤثِّرة ـ مثلاً ـ في تحقيق الهدف عينه، وإذا جعلنا هذا هو المقصد الحقيقي الثابت في مقابل المقصد الزمني الصوري، وهو إقامة مجالس العزاء، أمكننا الجمع في كثير من الأحيان بين قصود الواقفين وتطوّر الوعي الاستثماري عند البشر.

لكنّ هذه المحاولة تحتاج إلى جهد مضاعف لتأويل قصد الواقف، ولاسيما أنّ أغلبية الوقوف اليوم لا توجد نصوص واضحة على صيغتها التي أنشأها الواقفون، وهذه نقطة جديرة بالتأمل والدراسة أيضاً.

مقترحات في إصلاح الأوقاف الإسلامية

وختاماً نقترح ما يلي:

1ـ القيام بحملة توعية شاملة في الوسط الشعبي، وفي وسط العاملين في مجال الوقف، وكذا الواقفين ـ بالقوّة أو بالفعل ـ؛ لتوجيههم في قصودهم التي يأخذونها حال الوقف، مقدّمة للسماح بفرص أكبر في توظيف الوقف خدمةً للدين وقضاياه المعاصرة والمستجدّة على الدوام، وخدمة للإنسان وهمومه الجديدة.

2 ـ السماح ـ فقهيّاً وميدانياً ـ باستثمار أموال الوقف في خدمة أوقاف أخرى، أي عدم النظر لكل وقف على أنّه ظاهرة قائمة بذاتها، بل على أنه جزء من الظاهرة الوقفية؛ فيمكن توظيف مال هذا الوقف في خدمة وقف آخر مشابه لو احتاج، ولم تكن لهذا الوقف مسيس حاجة إليه، الأمر الذي سيخلق نظاماً وقفيّاً متماسكاً، وليس جزيئيّات وقفية متناثرة، وسيزداد التكافل والتعاون والتضامن بين الموقوفات.

3 ـ تأسيس مركز دراسات الوقف، هادفاً إلى:

أ ـ القيام بدراسات ميدانية في العالم الإسلامي لأوضاع الأوقاف في كلّ بلد، والمشكلات التي تعاني منها هذه الأوقاف، مقدّمة لعرضها على القادرين على إيجاد حلحلة لهذه الأوضاع المأزومة، وأخصّ هنا بالذكر الحوزات العلمية والمعاهد الدينية الكبرى، حيث تقدّم لها هذه الدراسات لتحفيزها على دراسة هذه الموضوعات بجدّية أكبر على مستوى البحث العلمي الإثباتي، وعدم الاكتفاء لقضايا الوقف بتوجيه استفتاءات إلى المرجعيات الدينية لأخذ أجوبة فقهيّة لها بشكل مختصر في السؤال والجواب. وهذا كلّه سوف يدفع العلماء في المؤسّسة الدينية للاهتمام المضاعف بقضية الوقف؛ إذ مع الأسف لا نجد بحوث الوقف في الحوزات العلمية مطروحةً على مستوى أبحاث الخارج والدراسات العليا إلا نادراً جداً.

ب ـ دراسة تجارب الوقف الناجحة في العالم الإسلامي وخارجه، وتحليل عناصر النجاح الكامنة في هذه التجارب، وعرضها على القيّمين ـ فقيّهاً وقانونياً وميدانياً ـ؛ لكسب الشرعية لها، حيث لا تُعارِض نصّاً دينياً، أو محاولة تعميمها في المناخ الإسلامي، أو في هذا المناخ الخاصّ لهذا البلد أو ذاك.

ج ـ القيام بدراسات فقهية وقانونية وتوعوية تتصل بموضوع الوقف، ونشرها بكثافة على صفحات الشبكة العنكبوتية، أو ضمن إصدارات خاصّة، كالنشريات، والدوريات، والقيام بدورات تأهيلية، الأمر الذي يرفع من مستوى الوعي الاجتماعي والخبروي بقضايا الوقف في الحياة الاجتماعية، إن شاء الله تعالى.

((يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)) (البقرة: 276).

_______________

(*) نصّ المداخلة التي ألقيت في ملتقى الوقف الجعفري الثالث في الكويت، بتاريخ 16/3/2009م، مع بعض التصرّف والتعديل، وقد نشرت في مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 11 ـ 12 ـ صيف وخريف عام 2008م.