معايير الاجتهاد ومفهوم الأعلميّة([1])
حيدر حب الله
يعرّف الكثير من العلماء الأعلميةَ بأنها الأقدرية؛ فالأعلم هو الأقدر على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، وهو الأدق في فهم مصادر الاستنباط([2]).
وهذا التعريف ـ مع تطعيمه بتوضيحات ـ أفضل من غيره، وقد راج في أوساط المتأخرين من علماء الإمامية، ولا نبحث الآن في الأعلمية والنظريات فيها، إنما سنجعل هذا المفهوم مدخلاً لإعادة قراءة المفاضلة العلمية ومعاييرها في المدارس الدينية.
أ ـ معضل مفهوم الدقّة العلمية بين المناخات العرفية والمماحكات العقليّة
أوّل المفاهيم التي تحضر إلى الذهن عند الحديث عن أعلمية ولو نسبية بين العلماء ـ وحديثنا بصرف النظر عن مسألة التقليد ـ هو مفهوم الدقّة العلمية؛ حيث يتصوّر الكثيرون من العلماء وطلاب الشريعة الإسلامية أنه كلّما كان هناك دقة في عملية الاجتهاد كشف ذلك عن مدى العمق والجودة اللذين يتمتع بهما هذا المجتهد أو ذاك. وهذا التصّور صحيح، ليس في العلوم الشرعية فحسب، وإنما في سائر العلوم الأخرى أيضاً.
لكنّ مقولة (الدقة) مقولة تخضع للمناخ الذي تمارس فيه؛ فدقّة الفيلسوف في أبحاثه الفلسفية، ودقة عالم الكيمياء في مختبراته العلمية، ودقة الطبيب في معالجاته الطبية، تختلف عن دقة وظرافة الأديب في نسجه لخيوط الصورة الخيالية عما يتحدّث عنه، وعن دقة الشاعر في نظمه الشكلي والمضموني لقصيدته الشعرية؛ فالمناخ يلعب دوراً في تعيين مصداق الدقة وتبلورها الخارجي.
من هذه النقطة بالذات؛ ندخل إلى العلوم الإسلامية، وأركّز هنا على علم الشريعة والفقه؛ حيث ـ وانطلاقاً من القرن الحادي عشر الهجري ـ شهد الفقه الإمامي منعطفاً خطيراً على هذا الصعيد، وذلك أنه بدأ يشهد نوعاً من الدقة تختلف عن مثيلاتها في مصنّفات علماء مدرسة النجف القديمة والحلّة وحلب وجبل عامل والبحرين؛ فهذه الفترة اللاحقة تطوّر فيها الفقه من حيث المنهجة والتنظيم والاستيعاب والإشراف والإحاطة والظرافة والعمق؛ وهذا منطق تطوّري طبيعي نحمد الله عليه؛ لكنّ هذا التطوّر اللافت في القرون الأخيرة صاحبته بعض المشاكل أيضاً، وهي مشاكل لابد من تلافيها حمايةً للمسيرة التطوّرية من الإخفاق أو التراجع أو الدوران السريع حول الذات.
وإحدى هذه المشاكل حصول تحوّل في العقل الجمعي في الوسط العلمي إزاء مفهوم (الدقة العلمية)، وقد بدا هذا التحوّل على صعد عدّة أبرزها:
1 ـ حصل تصوّر في بعض الأوساط وما يزال أنّ الهيمنة على كتب التراث تعدّ معياراً؛ وهذا ما سجّل في تقديري ضربة قاصمة للوعي، مع أنه لم يكن في حدّ ذاته سوى أمراً حسناً صائباً. وأقصد بما قلت أن الإشراف على التراث ومعرفة الكتب والعلماء وأقوالهم وتطوّر النظريات وسيرورتها وصيرورتها، كلّه من العلوم الخادمة للاجتهاد خدمةً جليلة؛ لهذا نجد هفوات عظيمة حتى عند بعض الكبار ناشئة من عدم اطلاعه على التراث وتحوّلاته، لكنّ الخطأ الذي حدث أن صار الفعل الإبداعي خاضعاً للعقل التراثي، أي أنك تجد شخصاً محقّقاً لكتب تراثية كثيرة مثلاً ويحفظ ما شاء الله من القصص العلمية والأحداث وأسماء الكتب والمساجلات و.. يعدّ في الوعي العام داخل المؤسسة الدينية رجلاً كبيراً قياساً بآخر قد يكون أقلّ منه في هذا المضمار غير أنه أفضل منه في إبداع الأفكار وطرح التصوّرات الجديدة وعدم اجترار التراث و... أو تجد آخر حفّاظاً للفتاوى والفروع الفقهية، حَفّاظاً للكتب القديمة وغيرها، كأنّ هناك صورة لهذه الفتاوى والتفريعات في ذهنه؛ لكنه أعجز عن أن يقدّم هو بنفسه لك تفريعاً جديداً.
إذن، فمعرفة التراث وما في الكتب ضرورة؛ ونحن من أشدّ المدافعين عن قراءة تاريخ العلوم والنظريات، لكن لا يفترض أن يغدو هذا العنصر مقوّماً وحيداً أو فريداً لمدى دقة العالم وعمقه وتبحّره وهيمنته على العلوم.
وفي هذا السياق عينه؛ نلاحظ في الأوساط العلمية مؤخراً شياع المؤتمرات والندوات والمؤلّفات التي تدور حول أشخاص ينتمون للتراث ـ ولو القريب منه ـ كما نجد تضخّماً كبيراً في مؤسّسات تحقيق التراث وإخراجه بحلّة جميلة، وكلّه مطلوب وحسنٌ ومنشود كما ألمحنا إلى ذلك في موضع آخر؛ لكن يجب أن لا يكون على حساب الإبداع، وعلى حساب إقامة المؤتمرات والندوات والمؤسّسات القائمة على الموضوعات الجديدة ليتم التناقش فيها، وليس ـ فقط ـ على شخصيات التراث وكتبه، إلا بقراءة إبداعيّة وتجديدية، فما هو حاصل اليوم مطلوب جداً، لكنه ليس كافياً.
2 ـ على خطٍّ آخر، نما في هذه الفترة علم الأصول نموّاً مذهلاً يستحقّ التقدير والاحترام، وليس من شك أنّ نموّ هذا العلم قدّم خدمات جليلة للاجتهاد الفقهي، لكنّ الذي حصل أن أخذ مفهوم (الدقة) في هذا العلم يصيّره علماً فلسفياً تجريدياً قائماً على التحليلات البعيدة عن حاجة الاجتهاد العملية، فتضخّمت فيه أبحاث وطرحت فيه أفكار تحت حجج كثيرة كشحذ الذهن وغيرها حرفت ـ إلى حدّ ما ـ الاجتهاد عن مساره، ولا نتحدّث هنا فقط عن بعض الموضوعات الدخيلة على هذا العلم أو ما ليس له فائدة عملية، بل يهمّنا أكثر الحديث عن حصول تشوّه في طرائق البحث والمعالجة، ففي اللغويات يصار لفهم النصوص عبر تأسيس قواعد لا تنتمي إلى روح اللغة وعرفيتها، حتى غدت أمام الفقيه صورة رياضية يُسْقِطها على النصوص في التعامل معها كقوانين عليا كالخاص والعام والمفهوم والمطلق والمقيّد و.. وعندما دخل هذا الأصولي مجال فهم النصوص وضع هذه الصورة على عينيه، فبدل أن يقرأ النص بعيداً عن حمولات قواعدية ليرى دلالته العرفية القائمة من خلال عناصره بأكملها، واجهه فوراً بعمل قواعدي ممّا بدّل حركة الاجتهاد من شكل عرفي إلى شكل رياضي، وهو في تقديري أخطر ما حصل في هذا المجال تحت مسمّيات الدقة والقدرة على تطبيق القواعد و...
ولا يعني ما نقول حتمية الفوضى الذوقية في فهم النصوص، بقدر ما يعني أن الذي يفترض أن يواجه النص ـ الذي هو بُنية لغوية ـ ليس قوالب قواعدية، وإنما عقل مفرّغ من هذه القوالب لينظر بعرفية تامة وبوجدانية لغوية، ثم إذا حصلت التباسات أو تردّدات عدنا للقواعد لتحدّد لنا ما نفعله، فالمنطلق ليس القواعد دائماً لنخرج بالفهم اللغوي، بل قد تكون القواعد هي السبيل الأخير، عندما لا تقدّم عفوية الفهم أيّ معطيات أو كثير معطيات، وهذا شيء يمكن أخذه حتى من المعايير التي وضعوها هم في أصول الفقه، فعندما يتحدث عن بحث المفاهيم فهم يقرّرون أنّ لهذه الجملة مفهوماً وتلك ليس لها مفهوم، ويقولون هذا في الحال الأوّلي حيث لا قرينة، وكذلك عندما يتحدّثون عن دلالة الأمر والنهي ـ مادّةً وصيغة ـ على الوجوب أو الحرمة، فهم يستثنون حال وجود القرينة، والأمر عينه في بحث الإطلاق والتقييد وبشكل أوضح، سيما عندما تعمّم القرائن للقرائن اللبّية واللفظية والمقالية والمقامية والحالية والسياقية وغيرها، إذاً فالقاعدة تأتي حيث لا نجد العناصر المضافة هذه.
وعندما نتحدّث عن عرفية الفهم، ونراهن على مصداقية هذه العرفية العفوية، فنحن نفترض سلفاً أنّ الفقيه ممّن يعيش روح اللغة وأذواقها ويتماهى معها، ولا ينزّه نفسه عن السباحة الممتعة في ثنايا كتب الأدب والشعر والتراث العربي القديم، ولا يراه عيباً يعاب عليه في المدارسة الدينية، أو علامة استفهام تطال مستواه العلمي، بل هو ذوّاق للّغة يعيش معها قدر المُكنة، يحياها ويشعر بها في وجدانه، هذا هو رهاننا على الفهم العرفي؛ ومن هنا ينشأ هذا الرهان، وليس فقط من مراجعة كتب اللغة ذات الطابع القواعدي ككتب النحو والصرف والبلاغة والمفردات، فهذه كلّها مداخل للغة وليست اللغة نفسها، هي مداخل صاغها العلماء فيما بعد، وجزاهم الله خيراً، فاللغة روح قبل أن تكون فلسفة، واللغة حياة قبل أن تكون قواعد، واللغة ذوق يلمسها الإنسان بالشهود وليس فقط بالعلم الحصولي، ولعمري هذه أكثر الأشياء خطورةً وأهمية ودقّة، والأسف كلّ الأسف أن تفرّق شمل اللغة العربية في أوساط كثير من المدارس الدينية، فلم تعد تجد الكثير من العلماء والفقهاء من أمثال السيد شرف الدين والسيد محسن الأمين والشيخ محمد رضا المظفّر والشيخ محمد أمين زين الدين و.. ممّن يفيض عليك من البيان العذب وروعة البلاغة وعيش اللغة وإحساسها والذوبان فيها وبلوغ النشوة في استذواق حلو طعمها، وستكون لنا وقفة في الحلقة القادمة ـ إن شاء الله ـ مع مسألة الفهم العرفي لنصوص القرآن والسنّة.
وفي المسار نفسه، ظهر تصوّر ما زال يهيمن أيضاً على تفكير طلبة العلوم الدينية؛ وهو تصوّر الفصل بين الفقه وأصول الفقه؛ فهناك من يتحدّث عن فلان الضليع في أصول الفقه وأنه مقتدر في هذا العلم، وهذا شيء جيد بل ممتاز، لكنّ التضلّع في أصول الفقه لا يمثل العالم الأعلم أو المفاضلة النهائية، حيث تجد ـ كما يقول السيد الخوئي([3])ـ من هو صاحب يد طولى في الأصول بيد أنه ضعيف في الاستنباط الفقهي، وما أكثر هؤلاء الذين تجد عندهم التضلّع والتفنّن في الأصول، لكنك عندما تحاورهم في قضية فقهية تصاب بالصدمة من ضحالة ما عندهم وضعفه؛ فليس هذا هو الأعلم الأنموذجي، أي الأعلمية القواعدية الكبروية؛ بل المهم في الأعلم جملة عناصر عملية الاجتهاد وليس فقط أحد عناصرها وهو أصول الفقه الإسلامي؛ من هنا عاب الإمام الخميني على النظر إلى أصول الفقه كعلم مستقل، وإنما هو علم آلي لخدمة العملية الفقهية([4])؛ وربما من هنا نلاحظ على بعضهم كالسيد الخوئي([5])، اعتبار علم الأصول هو العمدة، وهو كذلك إلى جانب غيره، لا أنّ غيره يأخذ دوراً ثانوياً أمامه سيما اللغة والتاريخ، بل نحن نلحظ أن بعض العلماء ـ مثل السيد محمد سعيد الحكيم([6])ـ عندما يريد تحديد الأعلمية ينظر إليها على شكل حلقات تبدأ من القواعد وتنتهي بالتطبيق لتلك القواعد؛ وهذا ما ناقشناه قبل قليل، فالاجتهاد ليس لزاماً أن يكون ذا هيكلية من هذا النوع، بحيث يشعر الفقيه أنه يحمل قواعد يريد إسقاطها على النصوص؛ بل ينطلق الاجتهاد ـ كما سنرى ـ من اللغة والتاريخ بنفس الدرجة التي ينطلق فيها من قواعد أصول الفقه الإسلامي.
ولعلّ هذا ما يؤيّده كلام السيد مصطفى الخميني؛ حين يرى أن مباحث الأصول إنما فصلت عن الفقه حذراً من التكرار([7])؛ إذاً فالأصول من رحم الفقه ويحمل روحه وحاجاته وهمومه وأنماطه لا أنه يُخارجه ثم يسقط عليه من الأعلى. وربما لهذا التزايد التجريدي في علم الأصول رفض الإخباريون هذا العلم؛ لما وجدوه من أنه بدأ يفارق روح القرآن والسنّة، ويتعامل بتجريدية عقلية لم يألفها الفقه من قبل، كما يحتمل ذلك بعض العلماء الباحثين([8])، وربما لهذا أيضاً تخلّى الاتجاه العام عند أهل السنّة منذ قرابة القرنين من الزمن عن هذا النموّ التجريدي في الأصول، والذي عرفوه قبل الشيعة بقرون، مع مثل كتب الخبازي وابن أمير الحاج وغيرهما.
والمؤسف أن بعض الأوساط العلمية تجعل معيار التقدّم هو حلّ المعضلات العالقة في علم أصول الفقه كاجتماع الأمر والنهي والمعنى الحرفي والعلم الإجمالي.. فيما تجد بعض هؤلاء لا خبرة لهم باللغة العربية وروح الأدب العربي، ولا اطلاع لهم على تاريخ القرون الأولى التي صدرت فيها النصوص، وسنتحدّث لاحقاً ـ بعون الله ـ عن مسألة التاريخ، وليس لهم طول باع في علمي الرجال والحديث، ولعمري إن هذا لممّا يؤسف له بحقّ.
إنّني أشبّه التصوّر السائد في بعض الأوساط بما كان يتصوّر في العلوم الحديثة قبل فترة، من أنّ الذكاء تحدّده علوم مثل الرياضيات، فهناك من يتصوّر أنّ الذكاء الحوزوي يظهر فقط في مثل علم الأصول، وقد تخلّى العالَم اليوم عن هذه النظرية، وصاروا يتحدّثون عن أكثر من اثني عشر نوعاً من الذكاء عند البشر، حتى وصلوا للذكاء العاطفي، فقد أكون ذكياً في الرياضيات لكنّي غبي في التجارة، فمن قال لي: إنّ ذكائي هذا مقدّم على ذكاء التجارة، أو الأدب الذي أعجز أنا عنه، وأسلّي نفسي بالذكاء في مجال آخر، لأسقط ذكاءَ الآخرين؟!
إنّ هذه المباحث الأصولية، على أهميّتها الفائقة وتأثيرها في تحديد المستوى العلمي للفقيه بلا شك ولا ريب، بيد أنها ـ وهذا ما نريده بالضبط ـ ليست المعيار الأوّل فضلاً عن أن تكون المعيار الوحيد؛ واللطيف الملفت في الأمر أنّ مثل هذه الأشياء عندما تجعل معياراً لا يهتمّ معها لكون هذا الفقيه مقلِّداً في علم الرجال والتاريخ واللغة والقرآنيات والأدب والمنطق وسنن التاريخ والاجتماع، قد لا يعرف عنها ـ وعن واقع الحياة ـ الكثير؛ فلماذا ـ إذاً ـ جعلت مسألة استصحاب العدم الأزلي أو توارد الحالتين أو التجرّي أو.. معياراً ـ من الدرجة الأولى ـ لعمق الاجتهاد، فيما الغربة عن علوم هامّة مثل ما أشرنا إليه لا تشكّل أيّ منقصة أو نقطة ضعف تلحظ في عملية التقويم والمقارنة؟! وكم أمضت المؤسّسة الدينية من عمر طلابها لعقود طويلة في المعنى الحرفي، فيما يقول السيد علي الخامنئي بأنّه لا يكاد يبتلي بأمثاله الفقيه إلا نادراً كل بضعة سنوات!!
من هنا، نرى أنّ تحديد أعلمية شخص رهين بوضع معايير جديدة للتقويم، وذلك بأن نعطي كلّ علم من العلوم الخادمة لعملية الاجتهاد، درجةً حسابية معيّنة، توازي دور هذا العلم في العملية الاجتهادية، فالعلامة القصوى هي عن مائة مثلاً، ونعطي للأصول ـ مثلاً ـ عشرين درجة، فيما نعطي للغة عشر درجات، ونعطي لعلم الرجال عشر درجات، ونعطي لفنّ ممارسة الاجتهاد الفقهي عشرين درجة، ولعلم التاريخ عشر درجات ـ وكلّه على سبيل المثال ـ وهكذا، وقد ندخل أيضاً الوعي الواقعي للحياة والسياسة والاجتماع وغيرها ممّا نراه يلعب دوراً في وعي الفقيه لنصوص السياسة والاجتماع في كلمات النبي وأهل بيته، ثم نحسب للفقيه كم عنده في هذا العلم وفي ذاك، ونجمع فنأخذ المعدّل الرئيس للقضية، فهذه هي الأعلمية المجموعية التي تأخذ المعدّل بعد الكسر والانكسار في الحساب، لا أن نجعل معيار علم المحقّق البلاغي كامناً ـ كما يقول بعض العلماء المعاصرين ـ في درجة فهمه لمسائل العلم الإجمالي في أصول الفقه، فهذا تبسيط للمسألة يحتاج إلى الكثير من التفكير.
ب ـ الاجتهاد الفقهي وإشكاليّة الفهم العفوي العرفي للنصوص
وفي هذا المسار أيضاً ظهر ما يمكن وصفه أكثر المفاهيم التباساً، وهو مفهوم (الدقّة) في الفقه نفسه وعلاقتها باللغة والفهم العرفي؛ وأبدأ الحديث هنا من نصّ رائع للإمام الخميني يقول فيه متحدثاً عن العلوم التي تهمّ عملية الاستنباط: «ومنها: الأنس بالمحاورات العرفية وفهم الموضوعات العرفية، مما جرت محاورة الكتاب والسنّة على طبقها، والاحتراز عن الخلط بين دقائق العلوم والعقليات الرقيقة وبين المعاني العرفية العادية؛ فإنه كثيراً ما يقع الخطأ لأجله، كما يتفق كثيراً لبعض المشتغلين بدقائق العلوم ـ حتى أصول الفقه بالمعنى الرائج في أعصارنا ـ الخلط بين المعاني العرفية السوقية الرائجة بين أهل المحاورة المبنيّ عليها الكتاب والسنّة، والدقائق الخارجة عن فهم العرف. بل قد يوقع الخلط لبعضهم بين الاصطلاحات الرائجة في العلوم الفلسفية أو الأدق منها، وبين المعاني العرفية، في خلاف الواقع لأجله»([9]).
هذا النصّ مهم جداً في سياق تطبيقه والتعاطي الإيجابي مع تفاعله الميداني، وإلا فهو من الناحية النظرية واضح في المدارس الكبرى لعلم أصول الفقه الإسلامي؛ لأن علماء الأصول والاجتهاد يعترفون بأن المهم هو الفهم والظهور العرفي للكلام الموجود في الكتاب والسنّة، فهم يقرّون بمرجعية العرف اللغوي والاجتماعي العربي بوصفه حَكَماً في هذا المضمار، في الجملة، لكن المشكلة ليست في النظرية، ولهذا ألمح السيد الخميني في نصّه المتقدم إلى مشكلات تطبيقية لهذا الوضع، وهذا بالضبط ما نبحثه هنا.
وإذا تأملنا في الممارسات الاجتهادية الإسلامية، وجدنا الكثير من الأمثلة على وجود فهم غير عرفي وقع فيه بعض العلماء على مستوى التطبيق من حيث لا يقصدون، والتعرّض لأمثلة يخرجنا عن طاقة هذه الكلمات الموجزة؛ لأن هناك العديد من الأمثلة على مستوى فهم النص وعلى مستوى ملاحظة تطبيقات النص؛ وطبعاً هذا أمرٌ يختلف تقييمه ـ على مستوى النماذج ـ من شخص لآخر، فمثلاً الرواية تقول بأن الرجل إذا لم يقرب زوجته أكثر من أربعة أشهر وتركها كان آثماً([10])؛ وهنا بدل أن نفهم المقاربة ـ عدم الترك الجنسي ـ بمعناها الطبيعي بين الناس، فسّرت بمجرد إدخال الحشفة ولو للحظة؛ والرواية تقول بأن صلاة الوتيرة تكون بعد صلاة العشاء الآخرة([11])، ونحن فسّرناها بالبعدية التي تشمل ما قبل منتصف الليل، أو طلوع الفجر في النهار التالي ولو بلحظات، مع أنه لو قال لك شخص: سآتيك بعد العشاء الآخرة فصلى العشاء الآخرة في أوّل وقتها، ثم أتاك قبيل الفجر محتجاً بما قال، لسخرت منه، وهكذا لم يفهم بعض الفقهاء وجوب الخمس إذا حوّل إلى حسابك في البنك مبلغ مالي ولو كان مليون دولار؛ لأنك لم تقبض بيدك([12])، إلى غيرها من عشرات الأمثلة التي قد يكون سببها أحياناً القراءة الحرفية للنص، وأحياناً بطريقة تحليلٍ فلسفي، وأخرى الغياب عن المدلول المناخي والاجتماعي للنص لصالح الاستغراق في المدلول اللغوي الصرف، وثالثة عدم مواكبة التحوّلات المصداقية والميدانية للمفهوم عينه في مناخات جديدة تختلف عن المناخ التاريخي، بحيث يتورّط الباحث في الفقه بما يمكن تسميته: الاستنساخ الحرفي للتاريخ، ورابعة بالخلط بين المصطلحات واللغة العلمية التي ظهرت فيما بعد وبين لغة الكتاب والسنّة، وهو ما له مصاديق كثيرة مثل كلمات: العلم، اليقين، الظن، الشك، القلب، العقل، الروح، النفس، الجهاد، الإمام، الحكمة، المؤمن، العارف، الفقه، الفقيه و...
إن ممارسة الحرفية في فهم النصوص في مجال الروايات ينافي ـ عندما يخرج عن الحدّ العرفي ـ ظاهرة النقل بالمعنى في الروايات، وهي ظاهرة درسناها مفصّلاً في موضعه، وأثبتنا أنه لا دليل على النقل الحرفي للأحاديث إلا بشاهد وقرينة، فإذا كانت الرواية من صنع الراوي، فيما مضمونها من إفادات النبي أو الإمام، فأيّ معنى للغرق الزائد عن الحدّ الطبيعي في تفاصيل التعابير والكلمات، فيما المفترض أن يخضع هذا الأمر لمدى فقاهة الراوي وعلمه، بحيث يلعب علمه دوراً في دقة تعبيره عن القيود والتفاصيل؟! وليست أمانة الراوي لوحدها هنا كافية للالتزام بهذا التدقيق؛ لأننا لا نشكّك في أمانته، وإنّما في قدرته الذهنية واللفظية ـ ما دام النقل بالمعنى ـ على الوفاء بتمام حيثيات الجواب الذي صدر من المعصوم، وتفصيل الكلام يرجع فيه لمحلّه.
وربما في هذا السياق أيضاً، الظاهرة الحرفية في مجال الأصول العملية أيضاً، والتي تتجلّى في الأخذ بالصيغة المطلقة لنظرية الأصل المثبت، فهذه النظرية صحيحة في الجملة؛ لكن الإفراط في تطبيقها لا ينسجم إلا مع طريقة تفكير فلسفية وليست عرفية،فلا أظن العرف البعيد عن الذهنية الفلسفية العقلية الهندسية الرائجة في بعض الأوساط يلتفت أو يفهم أن استصحاب عدم وجود الحاجب لا يثبت وصول الماء إلى البشرة في الوضوء والغسل؛ لأنّه أصل مثبت([13])، كما لا معنى للغَرَق في التمييز بين كرية الماء على نحو مفاد كان التامة وكان الماء كراً على نحو مفاد كان الناقصة، حتى أمنع عن الاستصحاب في هذا المورد لإثبات الآخر؛ لأنه من الأصل المثبت، كما ذكروا في أصول الفقه([14]).
إن هذه الطريقة في التعامل مع النصوص أو مع تطبيقاتها هي التي ساهمت ـ رغم أن الفقهاء أثبتوا للإنصاف جدارة عالية في الفهم العرفي وتطبيقاته ـ في خلق نماذج لفقه تكثر فيه الامتيازات بين الشيء ولوازمه الطبيعية، مما صعّب من فرص خلق فقه نظرية أمام مثل السيد الصدر والذين أتوا بعده.
آليّات في تجويد الفهم اللغوي العرفي
وإذا أراد الباحث في الفقه أن يكون عرفياً أكثر في تعاطيه مع النصوص أو تطبيقاتها المصداقية السيّالة، فيقترح عليه أمران:
أحدهما: إعادة عيش اللغة في تراكيبها وحياتها القديمة، ليس لغة الكتب الفكرية للمسلمين، وإنّما اللغات العادية التي يحصل عليها الإنسان من تتبع كتب التاريخ والشعر والنثر والقصص والحكايا، وليس فقط كتب الكلام والفقه والفلسفة والأصول القديمة .. لأن هذه الكتب هي كتب النخبة؛ ونحن لا نريد أن يأنس ذهننا ـ فقط ـ بكتب النخبة، بل نريد ما يوصلنا إلى التعاطي العفوي للغة في الشارع وفي الحياة اليومية، حيث خاطبت أكثر النصوص عامّة الناس أيضاً، فليس من المعيب أن يهتم مرجع معاصر ـ وهو السيد علي الحسيني الخامنئي ـ بكتاب «الأغاني»، كما سمعنا من بعضهم التعييب عليه في ذلك، بل هذه مفخرة لهذا المرجع أنه ـ مع عدم كونه عربياً ـ لم يقتصر على العيش مع كتب النحو والصرف و.. التي تعلّم الإنسان الكثير عن اللغة العربية، بل واصل مسيره لكي يطلع على روح اللغة وبساطتها العفوية اليومية، فهذه نقطة امتياز (له) لا (عليه). وليس من العيب أيضاً أن يكون مرجع معاصرٌ آخر ـ وهو السيد محمد حسين فضل الله ـ شاعراً متذوقاً ؛ فإنّ ذلك وسام يسجّل (له) ولا يكون (إدانة) في حقّه.
من هنا، ندعو بكل صدق ومحبة إدارة الحوزة العلمية والجامعة الدينية ـ أينما كانت ـ أن تطلق مشروع إعادة إحياء اللغة العربية الحيّة النابضة، عبر تغييرات جذرية في نظام التعليم اللغوي؛ لأن أنظمة تعليم اللغة في الكثير من المعاهد الدينية أنظمة نظرية يستخدم فيها الطالب قدرة التعقل والحفظ، ولا يدرس اللغة العربية كما يدرس أو ـ بتعبير أدق ـ يتعلّم اللغة الأم؛ لهذا نجد علماء فطاحل في اللغة نفسها وفي جداول الصرف والتصريف، لكنهم غير قادرين على عيش اللغة ولا على النطق بها، وهذا ذنب نظام التعليم أكثر من أن يكون مشكلةً عند هذا الفرد أو ذاك.
الكتب الدرسية في الحوزات العلمية عامل مساعد لتطوّر الحسّ اللغوي أم معيق؟!
وفي هذا السياق المنشّط للغة العربية بجمالياتها ورونقها، تكمن الحاجة لتغيير بعض الكتب الدراسية في الحوزات مثل كتاب «كفاية الأصول» للمحقق الخراساني، ونحن هنا لا ننظر لهذا الكتاب وأمثاله من المنظار الذي اعتاد الدارسون لقضية المناهج في الحوزات أن ينظروا إليه منه؛ بل من منظار التركيبة اللغوية، فالطالب يعيش عدّة سنوات مع هذا الكتاب وغيره، فيتأثر بتركيبه للجمل والفقرات، بل واستخدامه للكلمات بطريقة خاصّة، فيحصل خلل ما في ذوقه اللغويّ العربي. وقد يجادلني الكثيرون فيما أقوله هنا، لكنني أقترح حَكَماً محايداً خبيراً باللغة العربية شاعراً وأديباً أو صاحب نثر عربي أصيل، لتعرض عليه هذه الكتب ويقول لنا: هل تساعد على تجويد الذوق للطالب أم على إحداث خلل في هذا الذوق؟ وأذكر هنا قصّة تنقل عن بعض فقهاء (آل ياسين) في النجف من أنه ترك بعد أيام من شروعه في درس الكفاية، هذا الدرس؛ وعندما انتقده الطلاب على عدم حضوره الدرس وعابوا عليه، أجابهم ـ فيما ينقل ـ بأنه رجل شاعر ذواق للغة والأدب ولا يريد أن يخرّب أو يتلف ذوقه الأدبي بمثل هذه التراكيب والنصوص، والحق معه ـ بنسبة كبيرة ـ فالمهم عندي أن أقرأ القرآن والسنّة، وغيرهما مقدّمة لهما، فلا يصحّ أن تعطى المقدّمة أولوية في بنيتها اللفظية على ذي المقدّمة. ولا أدعو هنا لجعل الكتب العلمية كتباً أدبية أو شعرية كما قد يتصوّر بعضنا، بل لجعل النثر عربياً بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ ولسنا نستغرب أن يكون بعض غير العرب أكثر أنساً ـ كما سمعنا منهم ـ بلغة «الكفاية» من لغة «حلقات» السيد الصدر؛ لأن هذا شيء طبيعي يؤكّد فكرتنا التي أشرنا إليها أعلاه.
نقول هذا كلّه، والله الشاهد على أننا لا نريد التنقيص من شأن أحد، لكننا نرى، ويوافقنا كل إخوتنا العاملين في حقل العلوم الدينية، أن المعرفة الدينية نفسها وسلامة سبل الوصول إليها أهم بكثير من هذا العالم أو ذاك، أو هذا الكتاب أو ذاك؛ أو هذا المنهج أو ذاك، فلندع الحساسية جانباً، ولنتشاور ونتدارس، وهناك في المؤسسة الدينية العديد من الناشطين في مجال اللغة العربية والحمد لله، فلماذا لا يتشاور هؤلاء الأساتذة الكرام لوضع حلّ لهذه القضية؟ ولماذا لا يكون عندنا منهج لغة سليم أو أكثر سلامة من المنهج النظري الذي نتبعه والذي تعود بعض كتبه إلى قرابة ثمانمائة عام من الزمن؟! فليجلس هؤلاء المختصّون وليقدموا اقتراحاتهم بهذا الصدد، ونحن على يقين بأن العديد من القيمين على شؤون الحوزات والمعاهد الدينية سيتقبلون هذا الأمر، بحكم وعيهم وغيرتهم على هذا الدين، والحمد لله.
ليس المهم في العلوم العربية مجرّد وعيها وفهمها، بل الغاية منها ـ كما يقول الإمام محمد عبده (1905م) رائد حركة الإصلاح في مناهج التربية والتعليم ـ : «أن يبلغ المرء بالتعلّم مبلغاً كان عليه العربيّ بالسليقة»([15]).
ثانيهما: أن يتواصل الباحث في الفقه مع حياة الناس العاديين: في السوق، والمدرسة، والعمل، والإدارة، والشارع و... ليرى كيف يتفاهمون، لأن الجوّ العلمي الخاصّ له طريقة خاصّة في التفاهم أحياناً؛ ولهذا يغلب عليه فهمٌ خاصّ للكلام، نتيجة الخلط بين الأمور العادية والقضايا العلمية كما أشار الإمام الخميني، أو الخلط بين الأمور الحقيقية والأمور الاعتبارية كما يراه العلامة الطباطبائي، فيفهم طريقة الإطلاق والعموم في الجمل بطريقة أقرب إلى نظام الموجبة الكلية المنطقية، فيما العرف كثيراً ما يطلق أو يعمم ويريد ما نسميه: الموجبة الأكثرية، وقد بحثنا هذا الأمر في محلّه، وسبب عدم تقبّل هذه الفكرة قد يكون هذا العيش الطويل في نظام لغة النخبة التي هي عموماً لغة دقيقة حاسمة ومحدّدة الأطراف، على خلاف نظام لغة العامّة من الناس ـ إذا جاز التعبير ـ فهي لغة محدّبة تقوم على التسامح والتساهل في التعبير، بصرف النظر عن المضمون، فلا ملازمة بين عرفية وعوامية التعبير وبين سطحية المضمون، فالأنبياء والأوصياء استخدموا اللغة العرفية، دون أن يكون المضمون سطحياً إطلاقاً.
إنّ العيش في لغة الشارع والسوق مهم جداً، إلى جانب لغة النخبة، ليعرف الفقيه طرائق البيان العرفية،وطرائق فهم التطبيق وليس أن يسمع بوجود طرائق بل يعيشها بنفسه، ولهذا ينقل عن بعض المراجع الكبار المتوفى في القرن العشرين، أنه كان في بعض المواضع يطلب بعض أهل السوق ليسألهم كيف يفهمون هذا التعبير أو ذاك؟ وماذا يفهم عندهم من إطلاق المعاملة هنا أو هناك؟ بدل أن يحلّل لوحده على طريقة الأصل أو القدر المتيقن أو ما شابه ذلك، فهذه الطريقة التي تنقل عن هذا المرجع الكبير طريقة مثلى بحقًّ في فهم النصوص وفهم تطبيقاتها الميدانية أيضاً .
وأختم كلامي هنا ـ والحديث يطول جداً ـ بكلام رائع للشيخ محمد رضا النجفي الإصفهاني (1362هـ) ـ أستاذ السيد الخميني ـ حين يقول في مباحثه الأصولية ما نصّه: «بلغني أن بعض فضلاء العجم اطّلع على أجزاء من هذا الكتاب، فقرّظه أبلغ تقريظ، وأثنى عليه أحسن الثناء، ولكنه انتقد عليه بعبارة فارسية محصلها: إن عبارته عريقة في العربية، لا تشبه متعارف الكتب الأصولية.
لك العتبى أيها الفاضل! فلك عليّ يدٌ لا أجحدها، ونعمة أشكرها، وذلك مني طبيعةٌ لا تطبّع، وجريٌ على ما تعوّدته لا تكلّف، وإني لم أتعوّد منذ نعومة الأظفار ومقتبل الشباب إلا هذا النمط من الكتابة. وصعبٌ على الإنسان ما لم يعود. على أن هذا عند ذوي الألباب لا يحطّ من قدر الكتاب، بل يزينه ولا يشينه، ويغلي قدره ولا يرخصه. وإذا محاسني التي أزهو بها صارت مثالب لي؛ فماذا أصنع؟! وشتان بين هذا الفاضل وبين أحد علماء العراق، وقد بلغني قوله فيه: هو أوّل كتاب في فنّ الأصول ملؤه دقائق عجمية، بعبارات عربية»([16]).
وفي هذا النص منه (رحمه الله) الكثير من الدلالات المعبّرة!!
وبعد هذا كلّه؛ ألا تكون اللغة بالمعنى الذي ذكرناه عنصراً أساسياً في معايير الاجتهاد والمفاضلة والأعلمية؟!
ج ـ الاجتهاد ودور الوعي التاريخي والمعاصر
يُظهر الوعي التاريخي أهميته من خلال كون النصوص التي صدرت أو نزلت جاءت في سياق تاريخي، ومن الطبيعي أن السياق حجة وعنصر رئيس في فهم مراد المتكلّم، بل يتعداه إلى السياقات المقامية والحالية و..، وفي كثير من الأحيان يصعب فهم السياق بتمام عناصره ـ بما فيها العنصر غير اللفظي ـ إلا بالإطلالة على المعلومات والوثائق التاريخية ذات الصلة به، لتتكوّن عبرها العناصر الحافة بالكلام.
لنفرض أننا لا نملك معلومات تاريخية عن الظروف العصيبة التي كان يمرّ بها أهل البيت النبوي وأنصارهم في العصرين الأموي والعباسي.. هل كان لمفهوم التقية أن يكون حاضراً بهذه القوة التي نشهدها له اليوم؟ من الطبيعي أننا كلّما فهمنا الظروف التاريخية استوعبنا الملابسات التي تتصل النصوص بها، لتريد حلّ مشكلة أو الجواب عن تساؤلات ما.
في هذا السياق عينه، تأتي فكرة السيد حسين البروجردي (1380هـ) حين يتحدّث ـ كما ينقل بعض تلامذته ـ عن ضرورة فهم نصوص أهل السنّة ومواقفهم في الفقه والحديث؛ بوصف ذلك مقدّمةً لفهم نصوص أهل البيت([17])، فإن هذه الفكرة تستبطن قدراً وافياً من الحس التاريخي؛ عندما تؤكّد على دور التدخل الاستثنائي للنصوص في معالجة حالة تاريخية منحرفة هنا أو هناك، وإلا فما معنى هذه الضرورة لدراسة المشهد السنّي قبل مطالعة النصوص الحديثية الشيعية؟!
وفي الإطار عينه تأتي فكرة الوعي الاجتماعي للنصوص، لتتصل بمسألة فهم الظروف الاجتماعية الحافة؛ فعندما يطلق السيد محمد باقر الصدر (1400هـ) هذه المقولة ـ ولاسيما في سياق مدحه لتجربة الشيخ محمد جواد مغنية في كتاب فقه الإمام جعفر الصادق ـ فإنّه ينشط الحسّ الاجتماعي والتاريخي؛ لأنه لا يريدنا أن نعتبر الجمل والكلمات والحروف الماثلة أمام ناظرينا ممثلةً للحديث الشريف أو الكتاب الكريم، أعني أنّه لا يريد أن يعتبرها معطيات وحيدة يجري فهم المراد عبرها فقط، بل يرغب بإقحام عناصر أخرى تتصل بالسياق التاريخي والاجتماعي لمضمون الرسالة التي يريد هذا النصّ أو ذاك أن يوصلها إلينا.
وليس فقهاء المسلمين بغائبين عن ألوان السياق الأخرى، فقد أشاروا لذلك ومارسوه في الفقه والأصول والتفسير والقرآنيات، فنحن لا نبدع هنا ولا نبتدع، وإنما نوصّف ضرورةً قائمة.
لكن الشيء المهم في هذه القضية هو حجم استحضار التاريخ في وعينا للنصوص؛ هل كان هذا الاستحضار بالمقدار الكافي؟
نماذج من مشاكل الوعي التاريخي في الدرس الفقهي السائد؟
أعتقد أن نقصاً ما يزال موجوداً؛ فنحن نلاحظ ضعف حضور التاريخ على عدّة جبهات، حبذا لو يُلتفت إليها أكثر؛ وهي:
1 ـ قلّة المعلومات التاريخية العامة، فأكثر المعلومات التاريخية التي يحملها المشتغلون في الفقه تكمن مشكلتها في أنها تعتمد ـ من جهة ـ على النصوص نفسها التي يجري البحث عن سياقها التاريخي لفهمها، كما تتضيّق ـ من جهة أخرى ـ عندما تكون الإطلالة على التاريخ من منظور التاريخ الشخصي، أي تاريخ شخص الأئمة عند الشيعة، أو شخص الصحابي أو الخليفة الراشد عند أهل السنّة.
هذا الوضع يجعل المشتغل بالفقه حاملاً لتصوّر منقوص عن المشهد التاريخي والصورة التاريخية، فنحن من جهة نريد الكشف عن التاريخ بعناصره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية و.. ليعيننا ذلك على تكوين المناخ الطبيعي الذي جاءت داخله النصوص، مقدمةً لفهمها فهماً صحيحاً؛ فإذا تخلّيت عن كل الموروث التاريخي لأجعل النصوص الحديثية أو القرآنية وحدها مصدراً للتاريخ أكون قد وقعت في دور واضح، لا بمعنى العجز عن الفهم، وإنما بمعنى أن العلاقة هنا جدلية، فكما نطالب بجعل الكتاب والسنّة مصدراً تاريخياً كذلك نطالب بفهم الكتاب والسنّة مستعينين بسائر مصادر التاريخ. نعم، نحن نؤكّد على السيرة النبوية القرآنية، التي تستمدّ معلوماتها من القرآن نفسه، وقد دعا العديد من قبل لهذا الأمر، مثل محمد حسين هيكل في ما كتبه حول سيرة النبي، بل حتى بعض المستشرقين في هذا المجال.
نعم، وندعو لسيرة حسينية مصدرها روايات أهل البيت النبوي، وليس تاريخ الطبري أو غيره فقط، لكن في المقابل لا تعني الدعوة هذه هدراً لقيمة سائر النصوص التاريخية التي تعيننا على فهم نصوص الكتاب والسنّة، كما أن النصوص الشريفة تعيننا على فهم وتقويم فهمنا للتاريخ من خلال المصادر الأخرى.
أما التحقيب التاريخي على أساس واحد، مثل التحقيب على الأساس الشخصي ـ المشار إليه ـ، فهذا ما يؤدي إلى صور غير مكتملة؛ لأن أهل البيت أو الخلفاء الأوائل ـ مثلاً ـ لم يكونوا العنصر الوحيد في التاريخ، كما لم يكونوا على صلة ـ تاريخياً ـ بتمام أحداث عصرهم، فإذا كوّنا أيّة صورة للتاريخ على أساسهم لن نحصل على تاريخ عام، بل سنحصل على تواريخ شخصية لها إطلالات على التاريخ العام، وفرقٌ واضح بين الأمرين.
من هذا كلّه نحن بحاجة ماسّة إلى درس تاريخ شامل للحقبة الإسلامية الأولى، يساعدنا على التعرّف على السياق المحيط بصدور النصوص أو نزولها.
2 ـ عدم حضور الوعي التاريخي بشكل فاعل في النشاط الاجتهادي، فنحن نجد في الغالب أن الفقهاء يتعاملون مع النصوص، وقلّما يأخذون السياقات المحيطة تاريخياً بعين الاعتبار، وربما يكون ذلك لأسباب:
أ ـ ضعف الوثوق بالتاريخ، وهذا ما نجده عند بعض المتشدّدين في النقد التاريخي؛ إذ قد لا يسلم بين أيديهم واقعة أو حدث.
ب ـ الاعتقاد بأن «المورد لا يخصّص الوارد»، وهي القاعدة التي أصّلها المفسّرون وعلماء أصول الفقه المسلمون، فحموا بها النصوص عن الاختزال التاريخي أو اختناق الدلالة، وكانوا هادفين من ذلك فتح باب الضخّ الدلالي في النصوص بهدف حمايتها أن تهدر.
ج ـ عدم حصول وثوق بعلاقة حقيقية بين هذا الوضع التاريخي أو ذاك وبين النصّ الذي نفترض أنه يقع ضمن سياق هذا الوضع التاريخي؛ فإنّ العلاقة بين النص والسياقات المعروفة تظلّ أوضح من العلاقة بينه وبين السياق الزمكاني؛ لأن تراكيب اللفظ ظاهرة معلومة الاتصال بحكم وصول النص إلينا بالتواتر أو بأيّ طريق معتبر، أما علاقة النص بالواقع المحيط فقد تبدو مجرّد افتراض في كثير من الأحيان؛ إذ ليس في النصّ نفسه إشارة للواقع التاريخي بوصفه سياقاً حافاً، كما لا نملك معلومات موثقة عن هذا الارتباط العضوي بين الطرفين.
ربما لهذه الأسباب وغيرها تراجع تفعيل السياقات التاريخية في الاجتهاد الفقهي، لكننا نتحفّظ عن الاستسلام لهذه الاعتبارات، ونعلّق هنا عليها بتعليقات طفيفة، محيلين ذلك إلى البحث التفصيلي في موضعه، كما بحثناه في دراساتنا الأصولية.
أولاً: يظلّ إثبات الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية و.. العامة في التاريخ أوفر حظاً من إثبات النصوص الجزئية الصادرة من عمرو أو بكر، والوقائع الميدانية التفصيلية هنا وهناك؛ إذ وفقاً لنهج الاستقراء وحشد الشواهد والقرائن وتوفير المعطيات ذات الطابع المتراكم.. يمكن تكوين صور يقينية في التاريخ؛ بل لعلّ هذه الأكثر يقيناً في المراجعة التاريخية، والأكثر صموداً أمام معاول النقد التاريخي.
ثانياً: هناك فرق بين عدم تخصيص الوارد بالمورد وبين فهم الوارد بمعونةٍ من المورد، وهذا شيء يقرّ به المفسرون المسلمون؛ لهذا اهتموا بدراسة أسباب النزول لتعينهم ـ أحياناً ـ على فهم الآيات القرآنية؛ وبهذه الطريقة لا تُهدر دلالة النص لخصوصية المورد، ولا يضيع السياق الموردي أمام النص، بحيث يبدو النص وكأنه بُتر بتراً من سياقه المحيط، ومثال ذلك ما ذكره بعض أساتذتنا من كبار العلماء المعاصرين في أبحاثه حول الخمس، حيث جعل كلمة ]غنمتم[ الواردة في آية الخمس بمعنى غنائم الحرب، لا لتخصيص الوارد بخصوص المورد، بل لأنّ الكلمة مشترك لفظي له معانٍ متعدّدة في اللغة، يترجّح واحدٌ منها بقرينة السياق، ولو كان نظره هناك للسياق القرآني المحيط بآية الخمس.
ثالثاً: إن فرص التأكّد من العلاقة بين النص وسياقه تظلّ ممكنة، ولاسيما لمن مارسها؛ وحتى لو لم نجزم بها فقد ذكر علماء أصول الفقه أن الشك في قرينية الموجود يوجب الإجمال في الدليل، وهذا ـ على أبعد تقدير ـ نحوٌ من أنحاء الشك في قرينية الموجود (وهو السياق التاريخي المحيط)، الأمر الذي سيترك أكبر الأكثر في تعطيل بعض نواحي الإطلاق في النص أو غير الإطلاق أيضاً، وقد تعرّضنا بشيء من التفصيل لهذا الأمر عند بحثنا عن (تاريخية السنّة الشريفة)([18]).
من هنا نعتقد أنه كلّما كان الفقيه ذا ثقافة واسعة في التاريخ الإسلامي على امتداد أشكاله كانت مقاربته للنصوص وقراءته لها أفضل وأقرب إلى فهمها فهماً واقعياً، بدل قطع جذورها وأوصالها وقراءتها لوحدها كأنها مسقطة ـ بمعزل عن كل شيء ـ من السماء، فليس الصحيح أنّ الغرق في الفقه وأصوله دون تكوين خلفية ثقافية تاريخية هو علامة العمق العلمي، بل هذه الخلفية لها دورها أيضاً في هذا العمق، فما يتردّد في الوعي واللاوعي من أن مثل التاريخ وعلومه إنما هو مجرّد حاجة ثقافية عابرة لا تعني الفقيه المتضلّع ليس سوى وهم زائف يفتقد الكثير من عناصر الدقّة.
معضلة غياب الفقيه عن الواقع المعاصر، أزمة تطبيق أم منهج؟!
وثمّة حاجة أخرى ماسّة في تقويم عملية الاجتهاد؛ وهي وعي الفقيه للواقع الاجتماعي والسياسي و.. المعاصر؛ وذلك ليس اعتباطاً أو كلاماً خطابياً عن المعاصرة والحداثة والتجديد؛ بل ذلك حاجة علمية أيضاً، فصحيح أنّ حضور الفقيه في واقع الحياة قد يعطّل من قدرته العلمية، كما وجدنا عند بعضهم، وصحيح أنّ حضوره كذلك قد يفرض عليه ـ ولو من حيث لا يشعر ـ ضغطاً من الواقع لتطويع النص..، نعم، هذا كلّه صحيح، ويجب السعي لتفاديه، لكنّ ظهور آثار سلبية محدودة لأمرٍ ما لا يعني التخلّي عن هذا الأمر بالكلية، أو تعطيل رؤيتنا لنتائجه الإيجابية.
إن فهم الفقيه للواقع، وعيشه في متغيرات الحياة، ووعيه لطبائع البشر وأمزجة الخلق، وملاحظته لطبيعة المشاكل والأزمات التي يعاني منها الإنسان، سوف يمكّنه ذلك كلّه من فهم الرسالة المقصدية الأساسية التي تريدها النصوص، فيبتعد بذلك عن الفهم المجافي للحياة؛ بل تغدو مواقفه وفتاويه أقرب إلى الواقع من غيره، ففي عالم تشكّل (المالية) وليس (النقدية العينية) أساساً فيه كيف يمكن الإفتاء بأن وضع المال في البنوك يصيّره مجهول المالك، كما ذهب إلى ذلك بعضهم؟! وإلى فتح الحديث عن قيمة البيع المعاطاتي وسط مليارات البيوع المعاطاتية اليومية بين الناس، حتى قال بعض الفقهاء بأنّ الأصل في البيع المعاطاة؟! وكيف يمكن للفقيه أن يبتّ ـ مطمئناً ـ في قضية مثل قضية حقّ النشر والتوزيع والتأليف والاختراع و.. ـ ولو بعنوان ثانوي ـ دون أن يحمل تصوّراً حقيقياً عن هذا الموضوع البالغ الخطورة؟ هل يصحّ إصدار حكم بحق الاستنساخ ـ تلك العملية البالغة التعقيد طبياً وعملياً ـ قبل أن نكوّن وعياً ميدانياً بها وبتأثيراتها على أرض الواقع، وليس قال فلان، وأخبر فلان، أو على تقدير سؤال السائل؟
إذا لم يكن عقل الفقيه عقلاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ـ ولا أقول متخصصاً في هذه المجالات الثلاثة ـ فإن من الصعب عليه في بعض الأحيان أن يضع الفتوى على موضعها الخارجي.
إن الابتعاد عن المقاصدية في فهم رسالة النصوص الدينية ورّط الفقه في مشاكل، فلست أدري حتى اليوم كيف يقبل الفقيه الذي يقرأ النصوص في إطار تطبيقها الميداني، وبُعدها المقصدي والرسالي، لا في الإطار الذي يبترها، أن يفتي بجواز مشاهدة الأفلام الإباحية لغير المسلمين بدون شهوة، ثم يستصرخ لمنع الطبيب من النظر بدون شهوة إلى بعض قليل من يد المرأة، عندما لا يبلغ حدّ الضرورة، ولا يكون فيه هتكاً عرفاً لحرمة المرأة؟!
إننا نعلم المبررات التي طرحت لتبرير كل هذه الفُهوم الفقهية؛ ولكننا نريد القول: إنه قد غاب عن بعض المشتغلين في الفقه تقديم فقه الحياة بعد أن غيّبتهم مقولات الحجية وبراءة الذمة؛ أما من يريد للفقه أن يحيا في عصر عدم وجود المعصوم، وأن يحكم وأن يمارس على المستويات كافة، فعلية أن يقدّم فقهاً يقبل هذه الممارسة، لا فقهاً يتناسب مع حياة الصحاري وانعدام المدنية على حدّ تعبير السيد الخميني([19])، الذي رفض بشدّة السماح للشيعة ـ بحجة فكرة التحليل ـ بقلع كل أشجار الغابات وسحب شطوط البحار وأعالي الجبال وبطون الوديان، ما سيؤدي إلى كوارث لا يمكن تصوّرها.
نعم، هذا ليس عنواناً ثانوياً دائماً، كيف وعصور التطوّر العلمي تكاد تبلغ حجم ما سبقها من عصور إلى بداية الإسلام؛ فلمن كانت تشرّع الشريعة؟!
أَبَعْدَ هذا لا يكون لوعي التاريخ والحاضر دوراً في الاجتهاد والأعلمية والإفتاء؟
_______________
([1]) نشر هذا المقال في مجلة الاجتهاد والتجديد العدد: 7 ـ 10 ـ لعام 2007 ـ 2008.
([2]) راجع ـ على سبيل المثال: السيد محمد الروحاني، المسائل المنتخبة: 10؛ والسيد علي الخامنئي، منتخب الأحكام: 10؛ والسيد السيستاني، المسائل المنتخبة: 14.
([3]) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 204.
([4]) روح الله الخميني، الاجتهاد والتقليد: 11 ـ 12.
([5]) الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 21؛ وله عبارات توحي بتأخر الأصول عن اللغة؛ أنظر: المصدر نفسه: 25.
([6]) الحكيم، المحكم في أصول الفقه 6: 373.
([7]) مصطفى الخميني، الخلل في الصلاة: 6.
([8]) محمد علي الأنصاري، الموسوعة الفقهية الميسّرة 1: 559.
([9]) أنظر: الاجتهاد والتقليد: 9 ـ 10.
([10]) الحر العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 20: 140.
([11]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: المصدر نفسه 4: 47، 48، 51 و..
([12]) انظر: صراط النجاة 2: 163، 171.
([13]) لاحظ للاطلاع: الخوئي، مصباح الأصول 3: 151؛ وكتاب الطهارة 4: 86 ـ 87؛ ومحمد إسحاق الفياض، تعاليق مبسوطة 1: 297 و..
([14]) أنظر ـ كأنموذج له إشارة ـ: محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 423؛ وحقائق الأصول 2: 426 و..
([15]) الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده 3: 156.
([16]) الإصفهاني، وقاية الأذهان: 603.
([17]) انظر: واعظ زاده الخراساني، الموسوعة الرجالية 1: 33 ـ 34، المقدّمة.
([18]) انظر: مجلّة الحياة الطيبة، العدد 21 ـ 22، 2007م، مقال: تاريخية السنّة النبوية، مقاربة في ضوء منهاجيات أصول الفقه الإسلامي.
([19]) راجع: صحيفة إمام ـ بالفارسية ـ 21: 150.