hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الاستفتاءات والرسائل العملية ـ الواقع، الإشكاليّات، الحاجات([1])

تاريخ الاعداد: 11/1/2007 تاريخ النشر: 5/11/2014
83130
التحميل

حيدر حب الله


تحوّلت <الرسائل العملية> ـ وهي الكتب التي يُصدرها مراجع التقليد معبّرةً عن حصيلة آرائهم الفقهية والشرعية ـ إلى حلقة وصل بين الناس والمرجع، ومن الضروري أن تخضع للتطوير ـ كأي وسيلة بشرية للتواصل ـ والإرفاد بالمقترحات التي تنمّي هذه العلاقة، وتوصل المكلّف إلى ما يريد من تحديد الموقف الشرعي.

إن الرسائل العملية وأساليب الإفتاء والاستفتاء تطوّرت بفعل الزمن، وقد ساهم العلماء أنفسهم في هذا التطوير عبر مراحل تاريخية مختلفة، فكانت طرق السؤال والجواب سائدةً، كما تشهد بذلك رسائل السيد المرتضى (436هـ)، والشيخ المفيد (413هـ) وغيرها، حتى وصل الحال إلى كتابة الرسائل العملية بشكلها المتأخر، خصوصاً مع رسالة <صراط النجاة> للشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ)، وبعدها رسالة <العروة الوثقى> للسيد محمد كاظم اليزدي (1337هـ)، التي شكلت منعطفاً في تاريخ تدوين الرسائل العملية، لتأتي بعدها رسائل: <وسيلة النجاة> لأبي الحسن الإصفهاني

(1365هـ)، و<توضيح المسائل> للسيد حسين البروجردي (1380هـ)، ومنهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم (1390هـ)، وهي ـ أي الرسائل الثلاث الأخيرة ـ التي يسير على طريقها اليوم أغلب الفقهاء ومراجع التقليد.

1 ـ أوّل مشكلة يواجهها عامة الناس في مراجعتهم للفتاوى المدرجة في الرسائل العملية، هي مشكلة التعقيد اللفظي؛ فإن اللغة التي تطرح فيها هذه الرسائل هي لغة علمية حوزوية، يفهمها ـ وأحياناً لا يحصل ذلك ـ طلاب العلوم الشرعية، وهي مليئة بالقيود والمصطلحات التي يصعب على الإنسان غير المختصّ فهمها ببساطة، حتى اضطرّ بعض العلماء لتدوين كتب تشرح مصطلحات الرسائل العملية، وقد كانوا في غنى عن ذلك لو أنّ الفقيه نفسه سهّل لغته وبسّطها بحيث يفهمها أغلب الناس، ولا نقول: جميعهم.

إنّ هذا التعقيد اللفظي إذا كان مفهوماً في الدراسات العلمية الاجتهادية، كونها دراسات متخصّصة، فهو غير مفهوم في <رسالة عملية> يفترض بها أن تكون مرجعاً للناس كي يتعرّفوا من خلالها على موقفهم الشرعي، نعم، هناك من يرى أنّ هذه الرسالة العملية ليست موضوعةً لعامة الناس، بل هي موضوعة لعلماء الدين والمبلّغين والدعاة كي يرجعوا إليها عندما يسألهم الناس عن أمرٍ لا يعرفونه أو نسوه، وهذه الفكرة ـ فضلاً عن أننا نناقش حتى في فهم العديد من علماء الدين لبعض ما جاء في الرسائل العملية، حتى يُنقل عن السيد محمد باقر الصدر أنه قال: إنه فهم بعض فتاوى السيد محسن الحكيم في منهاج الصالحين عندما راجع أبحاثه الفقهية في مستمسك العروة الوثقى ـ فضلاً عن ذلك، لم تعد دقيقةً، فلابد من كتاب يرجع إليه الناس عند فقدهم عالم الدين، وليس هناك ضرورة لحرمان الناس من معرفة الدين مباشرةً، كما أنه ليست كل المناطق يتوافر فيها وجود رجل دين.

وفي سياق التوضيح وسياسة البيان الشفّاف، تظهر مشكلة مصطلحات الاحتياط الوجوبي والاستحبابي، فماذا يضرّ لو كتبنا على كلّ واحدٍ عنوانه، فنقول: على الأحوط وجوباً، وعلى الأحوط استحباباً، ونريح الآخرين من الجدل في فهم طبيعة الاحتياط، كما يحصل وحصل كثيراً؟! بل حتى أشكال بيان الفتوى مثل: على الأقوى، والظاهر بل الأظهر، ولا يخلو من وجه و.. كلّها لا حاجة إليها، فليُذكر الحكم بصيغة البتّ، ولا تُدخل هذه المصطلحات التي تشير إلى قضايا تتصل بالبُعد الاجتهادي في هذه المسألة أو تلك، فلا فرق من الناحية العمليّة التي جاءت <الرسائل> للجواب عنها، بين أن يكون الفقيه قد وصل إلى هذا الرأي بهذه الطريقة أو ضمن هذا الوضع أو ذاك، بقدر ما المهم فهم النصّ للعمل على وفقه، والمؤسف أنّ بعض رموز التغيير في الوسط العلمي الديني انساقوا مع هذا الجوّ لمّا تصدّوا للمرجعية الدينية.

بل إنّ بعض صيغ الفتاوى في <الرسائل العملية> توجب إيهام القارئ؛ فإنّ قوله: يستحب كذا وكذا، وقوله: ذكروا من مستحبات الصلاة كذا وكذا.. لا يفرّق آحادُ الناس بينهما حينما يدرَجان في رسالة عملية، فيَظنّ أن المرجع يذكر المستحب هنا وهناك؛ لأنه يترقّب منه بيان الأحكام التي توصّل إليها له، ولا يدري أن الصيغة الأولى تعني الإفتاء بالاستحباب أما الثانية فلا تعني سوى نسبة الاستحباب إلى الفقهاء دون تبنّيه، بل قد يقع في الوهم ـ كما رأينا ـ الكثيرُ من طلبة العلوم الدينية، فلماذا هذا الشكل في البيان؟ ولماذا لا يجري التصريح بالموقف هنا وهناك؟

وعلى الطريقة نفسها عندما يُسأل الفقيه عن مسألة فيجيب بالإتيان برجاء المطلوبية، لكنه لا ينصّ على عدم الاستحباب، فإذا سُئل عن استحباب الغسل لزيارة الحسين % فهو لا يجيب بعدم ثبوت الاستحباب، وإذا أريد الإتيان بالغسل يؤتى به برجاء المطلوبية، بل يذكر في الرسالة أو في جواب الاستفتاء القسمَ الثاني فقط، وقد لا يفهم الكثيرون معنى ذلك فيظنّ أنه استحباب في حين كان يمكن رفع هذه الالتباسات ببعض الزيادة في الكلام بهدف التوضيح.

وعلى الخط عينه، تأتي مسألة الأمثلة التي لا يفهمها الكثيرون أو لا تدخل في دائرة الابتلاء اليوم، وكذا بعض المصطلحات، ويأتي تعريف الفرسخ حتى يصل إلى شعر البرذون، فيما بالإمكان حلّ الأمر للمكلّف بالتحديد المعاصر عبر الأميال أو الكيلومترات، ويأتي ذكر أنواع من الحيوانات البحرية وغيرها بأسماء قديمة لها، مع الحاجة إلى إرفاق الاسم المتداول اليوم، أو الأكثر تداولاً في بلاد المسلمين.

2 ـ وبهذا يتبيّن، أنّ ما لا ابتلاء به يُفترض حذفه، فلماذا تبقى أحكام الإماء والعبيد والعتق والتدبير منتشرةً في أبواب الفقه المختلفة؟ وما الحاجة إليها في الرسائل العملية؟ وما الحاجة أيضاً إلى فروع العلم الإجمالي المذكورة أحياناً بعد أحكام الشك والسهو في الصلاة؟ فلتترك للاستفتاء لقلّة الابتلاء بها، وفي المقابل ينبغي أن نذكر قضايا الفقه السياسي والجهادي الإسلامي اليوم؛ لكثرة الابتلاء بها، وإذا كان الفقيه لا يرى وجوب الزكاة في النقدين إلاّ نقدي الذهب والفضة، فلماذا يُدرج بحث الزكاة هذا في رسالته العملية؟ وهل هناك بلد إسلامي وغير إسلامي اليوم يتداول الذهب والفضة عملةً يومية؟! أليس من الأجدر توسعة بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكثرة الابتلاء به وتقليل بحث الظهار الذي كان عادةً عربية قديمة لم يعد لها حضور ـ يُذكر ـ اليوم؟

إذا حدّدنا دور الرسالة العملية وأهدافها نعرف أنها ليست فقط نتائج البحث الفقهي للمرجع، بل هي أيضاً مرشدٌ للناس في عملهم، فينبغي أن تخدم هذا الإرشاد وتساعد عليه.

من هنا، تظهر الحاجة لأسلوب الأمثلة المعاصرة، فبدل التمثيل بالحمار والحصان يمثل بالسيارة والطائرة، وبدل توضيح القبلة على طريقة الجدي ونجوم السماء، فليجري الحديث في الطرق المعروفة اليوم (البوصلة..)، وبدل البحث في استئجار الحيوان للركوب يتحدّث عن استئجار وسائط النقل المعاصرة.

إننا نلاحظ أنّ بعض أشكال التطوير ظهرت في كتب الاستفتاءات، لكنّ المطلوب أن تكون الرسالة العملية أيضاً مطوّرة؛ لأن تطويرها قد يخفّف من ثقل الاستفتاءات ويحلّ من مشاكلها، عبر بيان القضايا الابتلائية المعاصرة التي اطّلع عليها الفقيه من خلال تجارب الاستفتاء الواسعة على امتداد العالم الإسلامي، فيشحن رسالته العملية بالأمثلة التي تعبّر عن واقع يسأل المكلفون عنه عادةً أو أحياناً.

3 ـ ومن خلال هذه القضية ندعو إلى أن لا تكون الرسالة العملية مبوّبةً على تبويب الأبحاث الفقهية، بل على تبويب واقع حياة الناس؛ بحيث يسهل عليهم الوصول إلى الحكم الشرعي من خلالها، ومن التجارب الجيّدة في هذا المجال، تجربة الشهيد السيد محمد صادق الصدر (1999هـ) حين كتب في فقه العشيرة وأمثال ذلك، وتجربة السيد محمد سعيد الحكيم، والسيّد محمد حسين فضل الله، إنّ الكتابة في فقه المغتربين، وفقه المرأة، وفقه التربية، وفقه الحياة الجنسية، وفقه المعاملات البنكية والمصارف، وفقه التجارة، وفقه الصداقة، وفقه العشيرة، وفقه العمل الإداري والمؤسّسي، وفقه المجاهد والمقاوم و.. حتى لو حصل بعض التكرار معها، هي الوسيلة الملائمة لواقع تجربة الإنسان اليومية، فيمكنه الوصول إلى الحكم الشرعي عبر هذه الطريقة بسهولة، أما فقه البنك فأين يعرف المكلّف مصدره وموقعه في الرسائل العملية المتعارفة وكيف؟

وعلى هذا الأساس، كتاب القضاء من الرسالة العملية، المفروض وضعه للشأن القضائي، حيث لابدّ أن يترتب ويُصاغ بحسب حالات الترافع اليوم، وترصد فيه مشاكل المؤسّسات القضائية وأساليب التعامل فيها ومعها.. بحيث يجعلها القضاة أنفسهم مرشداً لعملهم.

وهذا ما يجعل إفراد المسائل المستحدثة في آخر الرسالة العملية خطأ، بل لابد أن تندرج هذه المسائل داخل الرسالة نفسها، ولا يحسّ الإنسان أنها تقع على هامش الفقه بل من صميمه.

4 ـ من الضروري أن تصاغ الرسالة العملية صياغة قواعد عامّة ولها استثناءات حتى يحدّد المكلّف مرجعيّته في وظيفته العملية، فالملاحظ أحياناً أن الرسالة العملية تكون عبارةً عن فروض جزئية يجري ذكر حلول لها، ولعلّ لهذا الأمر أسبابه التاريخية، فيما المطلوب وضع نصّ يمثل قاعدةً تستوعب حالات المكلّف مع الإشارة إلى تطبيقات جزئية، لا بياناً لمشكلة جزئية كي تحلّ؛ فيما تبقى القاعدة غائبةً.

5 ـ وفي سياق الرسائل العملية والاستفتاءات، تواجه بعض المرجعيات الدينية المعاصرة مشكلةً تتمثل في أنّها لا تجيب بالمباشرة عن استفتاءات القاعدة الشعبية؛ ربما لأسباب معقولة مثل عدم وجود إمكانية لتفرّغ المرجع لهذه الاستفتاءات لكثرتها الكاثرة، وهذا شيء طبيعي، لكنّ لجان الاستفتاء في مكاتب المرجعيات الدينية مطالبة بقدرٍ أكبر من الدقّة، تجنيباً لمكانة المرجعية الدينية عن الفوضى والقيل والقال، مع اعتقادنا بأنّ هذه اللجان لا ينبغي أن تكلَّف فوق طاقتها فليست العصمة إلا لأهلها، فقد رأينا بعض مكاتب المرجعيات الدينية تُصدر فتاوى متناقضة بين منطقة وأخرى، وكلّ واحد يأخذ استنتاجاً من نصٍّ هنا أو آخر هناك، فهذه الفوضى في عمليّة الإجابة عن الاستفتاءات أحياناً خلقت ردود أفعال سلبية وسط عامّة الناس؛ بسبب ارتباكات حادّة أفرزتها؛ فالمفترض بالقيّمين على هذه الشؤون أن يكونوا بمستوى المسؤولية والثقة التي وضعوا فيها، والجميع يقدّر طبيعة عملهم المضني ويشكر لهم جهودهم الطيبة الكريمة لمساعدة الناس على تحديد تكاليفها الشرعية.

على خطٍّ موازٍ في خصوص لجان الاستفتاءات ومكاتب المرجعيّات الدينية، هناك مشكلة أخرى، وهي توريط بعض المرجعيات في بعض القضايا التي لا نعلم أنّ المرجع نفسه راضٍ بها، وإنّما الخطأ في تقييمات لجان الاستفتاء يوجب إدخال مؤسّسة المرجعية في ارتباكات؛ فنجد أنّ بعض المكاتب ـ ودعونا نكون صريحين شفّافين جريئين في قول الحقّ ولو على أنفسنا ـ تُصدر فتاوى ضدّ بعض الشخصيات العلمائية والوجوه الدينية والاجتماعية، ولا يوجد ختم المرجع نفسه على هذه الفتاوى، فتتحمّل المرجعية مسؤولية ما يحصل، وأعتقد أنّه في مثل هذه القضايا الحسّاسة والميدانيّة يُفترض أن يكون القول الفصل للمرجع نفسه، بقدر ما هي كلمته ذات قيمة في هذا المجال أو ذاك.

إنّ حماية المرجعيّة الدينية لا تكون دوماً في إغراقها في الجزئيّات، وتصفية حسابات حتى لو كانت هناك أغراض دينية من ورائها، فالفتاوى الميدانية ذات

الطابع الجزئي الخاصّ يفترض أن تكون ـ كمّاً وكيفاً ـ بحيث تُبقي للفتوى قيمتها ومكانتها، لا إدخالها في سياقات تُكثر حولها القيل والقال، وأعتقد أنّ تجربة الإمام الخميني (1409هـ) كانت مميّزةً للغاية في هذا المجال، فبرغم كلّ الصراعات الواسعة الداخلية بين أجنحة الفكر والثقافة والدين في إيران قبل وبعد انتصار الثورة، إلا أنّنا وجدناه محجماً ـ غالباً إن لم يكن دائماً ـ عن الدخول في تفاصيل الأمور للتركيز على الخطوط العريضة التي لا تخلق الفتن الجزئية المتحرّكة، فوظّف الفتوى في قضايا الأمّة الكبرى لا في جزئيّات محدودة، ولا يُفترض تضخيم الأمور لنحوّل المفردة الصغيرة

إلى قضيّة يصبح الإسلام كلّه في خطر بسببها، فقد عرض على تاريخ الإسلام ما هو أكثر بكثير من هذا واستطاع الصمود وإبداء الممانعة الإيجابية في أكثر من موقع، والحمد لله.

6ـ يبقى أن نشير أخيراً إلى اقتراح في إرفاد الرسائل العملية، ولا أقلّ الاستفتاءات، بلمحة ولو سريعة عن مدرك الحكم الشرعي حيث يمكن، فنقول له: إن الأمر الفلاني حرام، ونستشهد بقولٍ لله تعالى أو حديثٍ لرسول الله2 مما يجعل المستفتي يشعر بمدرك الحكم، ويعي المنطلق الشرعيّ له ولو على نحو الإشارة حيث يمكن؛ وإن كنّا نعتقد بأن بعض المشتغلين في هذا المضمار قد لا يوافقون على ذلك؛ قناعةً بضرورة حجب آليات الوصول إلى الحكم عن عامة الناس، لأسباب هناك حاجة لدراستها ونقد الكثير منها على الأقلّ.

 

>قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ<

[الزمر: 9 ].

_______________

([1]) نشر هذا المقال في العدد الخامس من مجلة الاجتهاد والتجديد في بيروت، شتاء عام 2007م.