hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

حقوق الزّوجة الجنسيّة دراسة فقهية استدلالية([1])

تاريخ الاعداد: 9/20/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
70040
التحميل

الشيخ حيدر حب الله

 

تمهيد

شهد القرن الحالي حركةً نشطةً وواسعةً، استهدفت إعادة النظر في مختلف قضايا المرأة، وقد ألقى هذا الأمر بظلاله على الساحة الفكرية الإسلامية مولداً حركةً فكريةً إسلاميةً أخذت على عاتقها إعادة برمجة الرؤية التي نحملها كمسلمين حول المرأة.

على خط آخر، أخذ موضوع الجنس حيزاً كبيراً من جهود واهتمامات علماء القرن الميلادي العشرين سواء منهم علماء النفس أو الاجتماع أو الأخلاق أو الدّين أو...

وكنتيجة طبيعية ومنطقية كان ملتقى هذين المحورين ـ أي المرأة والجنس ـ هو الآخر على درجة عالية من السخونة، تبعاً للحساسيّة التي يلعبها موضوعا المرأة والجنس بصورة منفردة.

ومن هنا، تبرز الحاجة لتحديد الموقف بدقّة إزاء مسألة العلاقة بين المرأة والجنس، وتتكشّف على هذا الأساس واحدة من المسائل الهامّة في تحديد مفردة من مفردات هذه العلاقة وجانب من جوانبها، ألا وهي مسألة الحق الجنسي للزوجة.

وحيث إن علم الفقه ـ إسلامياً ـ هو العلم المعنيّ بتحديد موضوع الحقوق والواجبات ومفرداتهما، كان موضوع الحق الجنسي للزوجة موضوعاً فقهياً قانونياً بالدرجة الأولى، وإن كان ينبني ويرتكز على خلفية فكرية ورؤية فلسفية للإنسان، ومن هنا تبرز الحاجة إلى محاولة تأصيل موقف قانونيّ إسلامي من هذا الموضوع، وهو ما سوف تحاول هذه الصفحات فعله.

 

التاريخ الفقهي للمسألة

وقد أثارت هذه المسألة في مسارها التاريخي مواقف على المستوى الإسلامي اتسمت بشيء من التباين:

1ـ أما على مستوى فقه السنّة، فقد ذكرت عدة آراء فقهية لعل أبرزها:

أ ـ وجهة نظر ترى أن حق المرأة يتمثّل في مقاربة واحدة فقط طوال فترة الزوجية وإن كان الأفضل للرجل أن يعفّها، وقد نقل هذا الرأي عن أبي حنيفة النّعمان.

ب ـ إنه لا حق لها أساساً وبصورة مطلقة ، وهو الموقف الذي تبنّته مدرسة الإمام الشافعي.

ج ـ إن حقّها يتمثل في مقاربة واحدة كل أربع ليال، وهو رأي مستظهر من كلمات الغزالي، وقد ذهبت إليه المالكية.

د ـ إن لها الحق مرةً واحدةً في كل طهر، كما هو رأي ابن حزم الظاهري.

هـ ـ إن لها الحق مرة واحدة كل أربعة أشهر، كما هو رأي الحنابلة.

و ـ إنه لا تقدير زمنيّ لهذا الحق، وإنما مناط المسألة هو تحقّق التحصين لها واكتفائها، وهو رأي ابن تيمية، وله مؤيّدون في وسط الباحثين المعاصرين في الفقه السنّي أمثال الدكتور عبد الكريم زيدان([2]).

2 ـ وأما الفقه الشيعي، فوفق ما هو مطروح قد اتخذ ـ وبصورة عامّة ـ موقفاً شبه موحّد ـ تاريخياً ـ إزاء مسألة الحقّ الجنسي للزوجة، حيث ذهب إلى أن لها حق الإتصال الجنسي على زوجها مرة واحدة كل أربعة أشهر هجرية قمرية، وليس لها حق في المقاربة زائداً على ذلك.

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى إلزام الرجل بمقاربة زوجته أزيد من هذا المقدار حسبما تقتضيه الظروف فيما لو كان اقتصاره على مجامعتها مرة واحدة في هذه المدة موجباً لوقوعها في الحرام كالزنا([3])، حيث يكون مطالباً بتجنيبها من الوقوع في المعصية، استناداً إلى كونه مأموراً بأن يقي أهله من النار، كما دلّت عليه الآية الكريمة([4]): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ﴾ (التحريم: 6).

غير أنه قد ظهرت في الفترة الأخيرة وجهة نظر رافضة لهذه الرؤية فقهياً، وقد حاولت وجهة النظر هذه أن توسّع من هذا الحق الجنسي للزوجة إلى الدرجة التي تماثل فيها حق الرجل ـ كزوج ـ جنسياً، وذلك من دون إعطاء أيّ اعتبار لفكرة وضع تحديد زمني ما للمقاربة الجنسية([5]).

والذي لا بد من التركيز عليه هنا ـ كانطلاق للبحث ـ هو أن الذي يبدو من الدراسات الفقهيّة أن المبدأ الأوّلي في موضوع الحق الجنسي للمرأة هو عدم ثبوت حق لها في ذلك ما لم تصل إلى درجة أن يصدق عليها أنها معلّقة، وأن فكرة الأشهر الأربعة جاءت في مقام الإلزام لتضع حداً لتلك الرخصة العامّة الثابتة على الرجل فيما يتعلّق بحق زوجته الجنسي عليه، لا لتجمّد من إطلاق أو عموم دليل ملزم ثبت في المرحلة السابقة، والذي يشهد على هذا الأمر هو أنّ الفقهاء لم يتعرّضوا في سياق بحثهم إلى دليل إلزامي فوقاني حتى يقوموا بعرض أدلّة التحديد الزماني عليه ويقايسوا نسبتها إليه، كما أنّهم قد قاموا بعدة مناقشات لأدلة التّحديد الزماني بأربعة أشهر تؤكّد هذه المقولة؛ فقد ناقشوا شمولها للزوجة غير الشّابة أو اختصاصها بالشّابة أو شمولها للزوجة المنقطعة أو لمن سافر عنها زوجها أو... وهناك في مقام استعراضهم هذا الموضوع اقتصروا على دراسة المقدار الذي يثبته الدليل المحدّد للأربعة أشهر من دون أن يحاولوا إدخال أي دليل إلزامي عام، أو غير عام، مما يعزّز أنهم لو كانوا يعتقدون بأصالة الإلزام هنا لرجعوا إليها ولم يتركوا الأمر للأصول العملية المؤمّنة.

وعلى أي حال، لا بد من استعراض النظريّة المعروفة ـ أي نظرية التّحديد الزماني ـ وما يمكن أن يثبتها من الأدلة، ثم نطلّ على النظرية الأخرى لمحاكمتها أيضاً إن شاء الله تعالى.

 

نظريّة التحديد الزماني

وهي التي تحرّم على الرجل ترك الاتصال الجنسي بزوجته ـ بالمعنى الكامل للكلمة ـ أكثر من أربعة أشهر هجريّة قمريّة([6])، وقد ذهب إليها جمع من الفقهاء كالشيخ الطوسي([7])، والقاضي ابن البرّاج([8])، وابن إدريس([9])، والمحقق الحلّي([10])، والعلامة الحلّي([11])، وقطب الدّين البيهقيّ الكيدري([12])، والشهيدين الأول([13])، والثاني([14])، والسيّد العاملي صاحب المدارك([15])، والفيض الكاشاني([16])، والمحقق النّراقي([17])، والحرّ العاملي([18])، والسيد اليزدي([19])، والمحقّق العراقي([20])، والسيد الحكيم([21])، والسيد الخوئي([22])، والإمام الخميني([23]).

وقد وصف هذا القول في كلمات الفقهاء بأنه المشهور([24])، والمعروف من مذهب الأصحاب([25])، وأنه موضع وفاق([26])، وأن عليه الإجماع([27]).

 

أدلّة نظرية التحديد الزماني

وعلى أية حال، فأبرز ما تعرضوا له أو ما يمكن ذكره من أدلّة لتدعيم هذا القول وجوه هي:

الوجه الأول: التمسّك بالإجماع، وعدم الخلاف، ونحو ذلك من التعابير التي تقدّم ذكرها؛ فإنه كاشف عن الحكم الشرعي([28]).

وقد يناقش أولاً: بأن هذا الإجماع غير واضح ولا يوجد وفق ما بأيدينا ما يؤكّده؛ وذلك أن المهمّ في تكوين كاشفيّة الإجماع هو الطبقة المتقدّمة من الفقهاء، وهؤلاء لا يظهر منهم ـ حسب تتبعي ـ أيّ موقف أو تعرّض لفكرة من هذا القبيل، فالشيخ المفيد والسيد المرتضى وابن حمزة وأبو الصّلاح الحلبي والشيخ الصّدوق في كتبه الفقهيّة([29]) وإبن زهرة الحلبي وسلاّر الديلمي وابن الجنيد الاسكافي والحسن ابن أبي عقيل العماني والجعفي، وأيضاً من المتأخرين المحقّق الأردبيلي والشيخ الهمداني والسيد العاملي صاحب مفتاح الكرامة وربما غيرهم، لم أعثر لهم على كلام في أصل المسألة، ومعه كيف نطمئن أو نجزم بانعقاد الإجماع على هذا القول؟!

والذي يظهر أن أوّل من طرح هذه الفتوى في كتبه الفقهيّة هو الشيخ أبو جعفر الطّوسي (460 هـ)([30])، ولا يظهر أيّ أثر لها قبله، سوى الرّواية التي رواها الشيخ الصّدوق في كتابه الحديثيّ «كتاب من لا يحضره الفقيه»([31])، ولو سلّمنا أنّ ما يذكره الشيخ الصّدوق في هذا الكتاب يمثّل موقفه الفقهي وفق ما توحي به مقدمة الكتاب فإن هذا لا يؤكّد لنا أنه اختار هذا القول هنا؛ لأن الرواية التي نقلها قابلة وبصورة ملفتة لتفسير آخر كما سيأتي، ومعه كيف نتأكّد أنه قد فهم من هذا النص تلك الرؤية المعروفة؟

وبناءً على ذلك، لا يوجد ما يؤكّد وجود مقولة بهذا المعنى بين متقدّمي الفقهاء ما قبل الشيخ الطوسي، فكيف نتأكّد من اتفاقهم عليها؟! كما أن الذين ادّعوا الإجماع من الفقهاء لم يكن أقدم واحد فيهم سوى صاحب المسالك (911 ـ 965هـ) والذي تفصله مسافة كبيرة عن الشيخ الطّوسي، وليس شخصاً قريباً جداً من العصر الفقهي الأول حتى يكون كلامه بحكم المؤشّر القويّ على وجود هذه النظرية في تلك الحقبة؛ لأنه قد يكون افتراضه الإجماع ناشئاً من عدم احتماله مخالفة الطبقات اللاحقة من الفقهاء لحكم كان موجوداً لدى الطبقة الأولى، لاسيما وأنهم لم يشيروا إلى رؤية أخرى هنا، مما يعزز من احتمال أن يكون الموقف الفقهي القديم متلائماً مع ما ذهب إليه الفقهاء اللاحقون، وافتراض أن الشّهيد الثاني قد اعتمد على معطيات لا تتّسم كلها بالحسيّة ليس بالإفتراض البعيد لمن خبر نمط تعامل الفقهاء ـ لاسيما المتأخرين ـ مع التحقيق التاريخي للفتاوى والأفكار الفقهيّة([32]). وهذا التحليل الحدسي ـ لو تمّ ـ فهو قد يوحي بوجود هذه الفكرة ما قبل الشيخ الطوسي، لكنّ مسألة الإجماع أو الشهرة تبقى غير مؤكّدة.

وثانياً: إن الإجماع هنا على تقدير واقعيّته محتمل المدركيّة، لاسيما وأنّ الرواية العمدة التي استند إليها الفقهاء في إثبات الحكم فيما بعد كانت مرويّة في كتب الحديث المتقدّمة ككتب الصدوق والطوسي، مما يعني كونها متداولة في الوسط الفقهي تبعاً لتداول التراث الحديثي ككل في هذا الوسط، الأمر الذي يقوّي من احتمال اعتماد الفقهاء عليها، فضلاً عن تصريح بعضهم بذلك مما يعني مدركيّة (أو لا أقل الاحتمال) هذا الإجماع وبالتالي سقوطه عن الحجيّة.

الوجه الثّاني: اعتماد أدلّة نفي العسر والحرج من جهة أو نفي الضّرر من جهة أخرى؛ وذلك أن عدم مقاربة الرجل زوجته مطلقاً موجب لوقوعها في الضّرر([33])، ولا أقل من الحرج الشّديد، وتبعاً لذلك يتحتم على الرجل مقاربة زوجته مرة كلّ أربعة أشهر رفعاً لهذين العنوانين.

وهذا الوجه ربما يناقش:

أولاً: بما أفاده السيد الخوئي من أن قاعدة الحرج أو الضّرر إنما تدور مدار الحرج أو الضّرر الشّخصي لا النّوعي، ومعه لا يكون هناك معنى لإبراز تحديد نوعيّ بالأربعة أشهر، إذ قد تقع امرأة في الحرج أو الضّرر من تأخير المقاربة شهراً واحداً وقد لا تقع أخرى فيهما ولو بستّة أشهر، ولازم ذلك إثبات الحكم بطريقة يدور معها مدار صدق هذين العنوانين في الخارج على الشخص نفسه، كما هو المعهود والمتداول في التّعامل مع هذا النوع من الأدلة([34]).

والذي يحتمل هنا أن صاحب هذا الوجه المستدل به هنا ـ وهو الشيخ النّجفي صاحب الجواهر ـ ربما اعتمد أو استأنس بما هو مدوّن في مصادر أهل السنّة الحديثيّة من تحديد الخليفة عمر بن الخطّاب المدة بأربعة أشهر بعد سؤاله النساء عن أكثر ما تصبر المرأة([35])، كما لعلّه اعتمد على استقراءٍ ما أجراه في عصره ولو بطريقة عفويّة أو لاحظه في مدوّنات عصره أو عصور سابقة أعطاه تصوراً نوعياً غالبياً يسمح بوضع ضابط عامّ يرجع إليه.

ومن هنا، يمكن أن يعزّز كلام السيد الخوئي بإعادة صياغته، وذلك أن وضع ضابطة عامّة في هذا المورد يعد أمراً صعباً حتى لو قبلنا من ناحية كبرويّة بمبنى دوران عناوين الحرج والضّرر في أدلّتهما عليهما كوجود نوعي فضلاً عن الشّخصي؛ ذلك أن افتراض ضابطة نوعيّة غالبة يتطلّب تجاهل العوامل والمؤثّرات الخارجيّة التي تلعب دوراً بارزاً في رفع التوتّر الجنسي في المجتمع فضلاً عن آحاد الأفراد، فربّ مجتمع في عصر واحد ونتيجة وجود وتوفّر مختلف وسائل الإثارة في الصحف أو غيرها من وسائل الإتصال كالتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت و... فضلاً عن السّفور الفاحش والتدنّي الأخلاقي و.. يكون التوتّر الجنسي فيه عالياً فقد يبلغ أطفاله الحلم باكراً نسبياً، وتلعب المؤثّرات الخارجيّة في إثارة حالة تهييج وتحريك غرائزيّ عامّ في وسطه.. هذا المجتمع لا يمكن مقارنة الحالة النفسيّة والغريزيّة فيه للمرأة بمجتمع محافظ قد انعدمت فيه أو تضاءلت فعّالية الكثير من هذه المؤثرات (ومن الضروري هنا الإشارة إلى أنّ هذا المثال الذي ذكرناه ليس مطّرداً؛ لأن هناك في وسط بعض الباحثين النفسيّين والاجتماعيين من يملك رؤيةً قد تكون عكسيّة)، هذا فضلاً عن أن الاختلاف الزمنيّ له دور أيضاً في هذا الأمر فما يحدّد اليوم قد لا تتحمّله ظروف وأوضاع الغد أو الأمس.. ومن هنا يصعب وضع ضابطة عامّة في كثير من الأحيان، وهذا ما تؤكّده الدراسات النفسيّة والاجتماعيّة...

وعليه، فجعل المدار على عنوان الحرج أو الضّرر فحسب لا يثبت هذه الرؤية الفقهية بشكلها المتداول، بيد أنه ينفع في رفع اليد على نحو المبدأ أو القضيّة المهملة ـ على الأقل ـ عن أصالة البراءة والرّخصة.

ثانياً: ما ذكره السيد الخوئي أيضاً من أن قاعدتي نفي الحرج والضرر ترفعان الحكم الثابت ولا تثبتان حكماً على ما هو المقرّر فيهما، وفي مورد بحثنا فقد تمّت الاستفادة من القاعدتين لإثبات حق للزوجة وإلزام على الزوج وهو ما لا تشمله القاعدتان([36]).

ويلاحظ أن ظاهر القاعدتين وروحهما يستدعيان إثبات الأحكام كما يستدعيان نفيها، فان ظاهر لا ضرر أنه لا حكم ضرري حتى لو كان هذا الحكم ترخيصاً يلزم منه الضرر، والقول بأن الجواز ليس فيه جنبة إلزامية حتى يكون في رفعه منّة على العباد يشهد الذهن العرفي بخلافه في كثير من الموارد، كما في موردنا ـ مع قطع النّظر عن المناقشات الموردية الأخرى ـ تماماً كما يرى العرف أن سلب المرأة حق الطّلاق في حال الضرر والحرج الشديدين عليها يمثل مخالفة للمقولة الشرعية الحاكمة بعدم حكم ضرري أو حرجي في الإسلام، وعلى أية حال فالمسألة مبنائية تقرأ في علم الأصول، وسوف يأتي هنا ما يرتبط بهذا المحور.

ثالثاً: إن القاعدتين اذا أثبتتا حكماً فإنما تثبتانه في مورد الشخص الذي كان معرضاً للحرج والضرر، وإلا فلا يعقل أن يكون وقوع زيد في الحرج بسبب أمر ما موجباً لثبوت حكم إلزامي على عمرو بدليل نفي الحرج.

وقد استخدم السيد الخوئي& هذه الصّيغة في إطار معيّن، حين اعتبر أن لازم تطبيق القاعدتين هو وجوب تزويج اللاّتي يقعن في الحرج أو الضرر وهذا مما لا قائل به([37]).

ويناقش بأن الحصيلة المراد استفادتها من القاعدتين هي إثبات الحقّ للزوجة؛ لأن الذي يقع في طرف المواجهة هو حرمانها من هذا الحق، فالذي تستلزمه القاعدتان هو إعطاؤها هذا الحق، وإعطاؤها الحق بمقتضى القاعدتين هو إثبات لحكم في نفس المورد الذي عرض عليه الحرج، وهذا لا يمنع من كون ثبوت هذا الحق قد استدعى أحكاماً إلزامية على الطرف الآخر ما دام لا يمكن للشّريعة أن ترفع الحرج الذي وقعت فيه المرأة إلّا بذلك.

والذي يدفعنا إلى اعتبار المسألة مرتبطةً أولياً بموضوع الحق هو أن مقاربة الزوجة ليس حكماً تكليفياً بحتاً بحيث لو تخلّف عنه الرجل يؤثم حتى لو رضيت الزوجة، وإنّما يأتي هذا الإلزام للرجل بتبع الحق الثابت للمرأة، فعلينا أولاً أن نجري القاعدة على هذا الحق وفق القواعد.

وبعبارة أخرى: إن التأمّل في الشريعة وأحكامها المرتبطة بالزوجيّة فيما يخصّ المرأة يوجب أن ننظر إلى القاعدتين في مورد الزوجية بطريقة مغايرة لنظرتنا إليهما في الموارد الأخرى، وللتوضيح نأخذ المثال التالي: لو وقع فلان من الناس في حرج شديد بسبب فقره المادي فلا يتصور مثلاً لزوم مساعدته على شخص آخر عملاً بقاعدة نفي الحرج؛ وذلك لأن الشريعة قد فتحت المجال لرفع حرج الأول منهما بغير الثاني فترجع مبرّرات الحرج إلى أسباب واقعية لا شرعية، ومن ثم لا تشملها قاعدة نفي الحرج لأنها تنفي الحكم الحرجي ـ بمعنى إضافة الشيء إلى معلوله ـ لا مطلق الحرج حتى الذي لا مسؤولية للشّارع بما هو شارع عنه، أما في موردنا فإن رفع الحرج لدى المرأة لا يكون وفق المقرّرات الشرعية إلا بزوجها؛ لأن المرأة قادرة على رفع حرجها خارجاً بغير زوجها لولا المنع الشرعي الذي يلزمها هي من جهة ويكون مسؤولاً عن إلزام المجتمع لها من جهة أخرى، وبهذا صحّ أن يقال: إن الشريعة التي حرمت المرأة من رفع حرجها بغير زوجها ينحصر طريق رفعها للحرج بإلزام الزوج بكفايتها ونحوه مع استبعاد أن ترفعه بطريق الرّخصة بالزّنا ونحوه حسبما يعرف من مذاق الشارع ودرجة تشدّده في ذلك، ولا إشكال في ذلك من ناحية القاعدتين، والشاهد على ذلك أنّك لو ألقيت إلى العرف أحكام الزواج المتعلّقة بالمرأة وأطلعته على حالة الحرج التي وقعت فيها، ثم قلت له: إن هذا الدين لا حكم حرجيّ فيه، لقال لك: إن هذا تناقض واضح، إذ كيف لا يوجد حكم حرجي على المرأة هنا والحال أنّنا لم نثبت لها حقاً جنسياً يذكر داخل العلقة الزوجية كما حرمناها تشريعاً من أيّ حق لإشباع رغبتها الجنسية خارج إطار مؤسّسة الزواج؟!

ووفق ما تقدم ظهر أنّ هناك مقداراً تثبته أدلّة الحرج، وهو الحكم بثبوت حقّ لها في مورد الحرج الشديد، ومن ثم يلزم الرّجل بالاستجابة لها حيثما تدّعيه ويحتمل في حقها، ونحو هذه الموارد.

الوجه الثّالث: التمسك بأدلة الإيلاء، وذلك بتقريب أن منح الحريّة للرجل المؤلي إلى أربعة أشهر شاهد على أنه ليس للمرأة الحق في المواقعة قبل ذلك، وإلا لزم بطلان يمينه لكونه على أمر محرم أو على الأقل غير راجح أو ما شابه..ويعزّز ذلك بصحيحة عمرو بن أذينة عن بكير بن أعين وبريد بن معاوية عن أبي جعفر وأبي عبد الله‘ أنهما قالا: «إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الأربعة أشهر، ولا إثم عليه من كفه عنها في الأربعة أشهر..»([38]).

ويناقش أولاً: إن الإيلاء وحق الزوجة الجنسي فكرتان متغايرتان، لأن الأول حكم تعبّدي ثبت في محلّه الخاص فلا يمكن التعدّي عنه إلى غيره، ويعزّزه أن الأربعة أشهر في الإيلاء إنّما تكون من حين المرافعة لا وقت الحلف، وهذا ما ذكره السيّد الخوئي([39]).

وبصيغة أخرى ذكرها بعض المعاصرين أنّ مسألة الإيلاء ترجع إلى أنه كان يمثل في العرف الجاهلي شكلاً من أشكال الطّلاق، فالشريعة أنظرت المؤلي إلى أربعة أشهر ورتّبت عليه أحكاماً، وأين هذا مما نحن فيه مما لا علاقة له بذلك الموضوع الخاص في مورده([40]).

ثانياً: إن مقتضى أدلّة الإيلاء على أقصى تقدير هو جريان أحكامه بعد الحلف على أقرب تقدير، وهو زمان قد يكون مفصولاً عن آخر وقاع شهراً أو أكثر بقليل أو كثير أو أقل كذلك، ومعه فتكون مدّة المجامعة المرخّص بها أزيد من خمسة أشهر، وهو مقطوع البطلان عندهم، فهذا الدليل لا يفيد في إثبات النظرية المعروفة.

غير أنّه بعيداً عن مسألة القفز عن فكرة الإيلاء إلى فكرة الحق الجنسي والتي يجاب عنها بما تقدم، إلّا أنّه قد يستوحى من مفهوم صحيحة عمر ابن أذينة أنّ الرجل إذا لم يوقع إيلاء فللمرأة حق عليه في الأربعة أشهر، وهو ما قد يعزز فكرة التحديد الزماني من خلال إدخال عنصر الأشهر الأربعة.

إلّا أنّ هذا الاستيحاء من مفهوم الرواية غير واضح؛ لأن أقصاه ثبوت حقّ لها في الأربعة أشهر من دون تحديده أو فقل: هي ليست في مقام بيان هذا الحق، فقد يكون مرة واحدة وقد يكون أكثر ومعه فلا تتم فكرة التحديد الزماني، وأمّا أخذ عنصر الأربعة أشهر فإنّما هو لخصوصية الإيلاء الذي فيه مثل هذا العنصر ولا يفيد دخالة عنصر من هذا القبيل في الحق الجنسي.

الوجه الرّابع: وهو مجموعة روايات قد تطلّ على الموقف هنا بصورة مباشرة وهي:

الرواية الأولى: ما رواه الشيخ الكليني عن الصّادق× قال: «من جمع من النساء ما لا ينكح فزنا منهنّ شيء فالإثم عليه»([41]).

وهذه الرّواية قابلة للمناقشة:

أولاً: الضعف السّندي بالإرسال؛ فإن محمد بن جعفر أو جعفر بن محمد رواها عن بعض رجاله عن الصادق× فلا يبنى عليها حكم شرعي.

ثانياً: إنها تثبت الإثم على الزوج في المورد الذي يفضي فيه عدم المقاربة إلى وقوع الزوجة في الحرام، وهو أخصّ من المدعى؛ لأن من الممكن أن لا تقع الزوجة في الزنا لتديّنها أو غيره، ومن ثم ففي هذه الحالة لا يطالب الزوج بمقاربتها أصلاً سواء بلغت الأشهر الأربعة أم أكثر.

ثالثاً: ما أفاده السيد الخوئي من ظهورها في التزوّج من المرأة بحيث لا يقربها أبداً، لا أنه يقربها لمدّة محدودة، وبالتالي فتكون الرواية أجنبية عن موردنا([42]).

الرواية الثانية: صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله× قال: «إذا غاضب الرجل امرأته فلم يقربها من غير يمين أربعة أشهر استعدت عليه، فإمّا أن يفيء وإمّا أن يطلّق فإن تركها من غير مغاضبة أو يمين فليس بمؤول»([43]).

فهذه الرواية أعطت حكماً بالأربعة أشهر حتى لو لم يحلف الزوج، بحيث إنه ليس لها أمر قبل تمام الأربعة أشهر.

ويناقش أولاً: إن الرواية على أقصى تقدير خاصّة بموارد المغاضبة فليس فيها تقنين عام لكافّة الحالات، وخصوصيّة المغاضبة متعقّلة.

ثانياً: إن الرواية تهدف إلى الإشارة إلى أن قطع العلاقات الجنسية من قبل الزوج عن مغاضبة تترتّب عليه أحكام تشمل إلزامه بالطّلاق على تقدير عدم الفيء، وهذا أجنبي عن المورد هنا؛ وذلك لأنه من الممكن ثبوت الحق الجنسي لها ولزوم المقاربة عليه عند مطالبتها لكن لا بحيث أنه لو لم يفعل أجبر على أحد الأمرين؛ فتكون الرواية بصدد الحديث عن حالات المغاضبة المترافقة مع عدم أدائه حقها، لا عن مبدأ الحق الجنسي لها وعدم أداء الزّوج الحق لمطلق سبب وفي كافة الظروف.

ثالثاً: إن المفهوم من الرواية ـ بلحاظ ذيلها ـ هو أن المغاضبة ولو بدون وقوع اليمين تعدّ محكومة بحكم الإيلاء؛ لأنه قال: «فإن تركها من غير مغاضبة أو يمين فليس بمؤول»، ولا معنى لهذا النفي إلاّ أن تكون المغاضبة ـ وبقرينة جريان نفس أحكام الإيلاء عليها بنصّ الرواية ـ من الإيلاء ولو حكماً على أقل تقدير، ومن هنا يمكن تسجيل بعض الملاحظات السابقة على مسألة الاستدلال بالإيلاء هنا.

الرواية الثالثة: وهي عمدة الاستدلال هنا، وهي صحيحة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الرضا× أنّه سأله عن الرجل يكون عنده المرأة الشّابة فيمسك عنها الأشهر والسّنة لا يقربها ليس يريد الإضرار بها يكون لهم مصيبة يكون في ذلك آثماً؟ قال: «إذا تركها أربعة أشهر كان آثماً بعد ذلك»([44]).

وهذه الرواية تدل على ترتّب الإثم بعد تحقق ترك الزوجة أربعة أشهر فلو لم يتركها أربعة بل تركها ثلاثة فلا إثم عليه بمقتضى مفهوم الرواية المستفاد من كون الإمام× في مقام ذكر تحديد للمسألة.

لكن الرواية في إطار الاستدلال بها هنا واجهت أو تواجه بعض المناقشات وهي:

المناقشة الأولى: الضعف السّندي فلا يعتمد عليها([45]).

ولكن هذه المناقشة التي ذكرها صاحب المسالك غير واضحة؛ فإن الرواية قد رواها الشيخ الطوسي بطريقين: أحدهما إسناده إلى صفوان نفسه، وهو مذكور في الفهرست وإن لم يتعرض له في مشيخة التهذيب والاستبصار([46])، وثانيهما إسناده إلى أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن أحمد بن أشيم عنه، كما رواها الصّدوق في الفقيه بإسناده إلى صفوان بن يحيى([47]). والسّند الثالث على أقل تقدير تام ـ أي سند الصّدوق بصرف النظر عن إبراهيم بن هاشم([48])ـ ويمكن تتميم الإسنادين الآخرين أيضاً وفق بعض النظريات الرجالية الأخرى.

والذي يبدو أن صاحب المسالك كان يقرأ الرواية في التّهذيب؛ لأنه ذكر ذيل «إلا أن يكون بإذنها»، وهذا الذيل غير موجود إلا في الرواية التي سندها هو السند الثاني هنا، وهذا السند ضعيف وفق النظريات الرجالية المعمول بها آنذاك؛ لأن علي بن أحمد بن أشيم وصفه الشيخ الطوسي في رجاله بأنه مجهول([49])، ولا طريق لتوثيقه إلا بناء على وروده في أسانيد كامل الزيارات وفق الرأي المعروف فيها، وهو رأي حديث الظهور نسبياً، ويبدو أنه لم يكن له أثر زمن الشّهيد الثاني، بل كان على ما يظهر واحداً من نتاجات الفكر الإخباريّ الحديث، ومعه يمكن تبرير حكم الشهيد الثاني بالضّعف السندي للرواية من دون الأخذ بهذا القول فالرواية صحيحة سنداً، بصرف النظر عن موضوع إبراهيم بن هاشم.

المناقشة الثانية: إنها خاصّة بحالات وجود همّ ومصيبة عند الرجل «يكون لهمّ مصيبة»، ومعنى ذلك أنّ الرجل لا يريد الإضرار بزوجته ولا التخلّف عن مقتضيات حقّها، وإنما قد طرأ عليه طارىء ألحق به الهمّ والحزن كوفاة والده وأشباه ذلك مما قد يكون تكليف الرجل أثناءه بممارسة الجنس مع زوجته غير منسجم مع ظروفه النفسية، وهذا الزوج قد رخّص له الشّرع في عدم مقاربة الزّوجة فترة أربعة أشهر بوصفها مدّة كافية لذلك دون ما هو أزيد، شرط أن لا يكون لديه نية الأذيّة للزوجة، وعلى الزوجة الصّبر تقديراً لظروفه، وأمّا ما عدا هذه الحالة فلا بد من تلمّس دليل لها غير هذه الرواية.

ويمكن تقريب خصوصيّة الحالة المفروضة في الرواية من خلال ضمّ عبارة «ليس يريد الإضرار بها» إلى عبارة «فيمسك عنها الأشهر والسّنة لا يقربها»؛ وذلك أنه لا يحتمل أن شخصاً لا يريد الإضرار بزوجته ولم يطرأ عليه طارىء من سفر أو مرض أو همّ أو ما شابه ذلك، ومع ذلك لا يقرب زوجته الشّابة؛ إذ إنّ هذه فرضيّة نادرة جداً حيث لم يفرض سبب يبرّرها في الرواية من سفر أو مرض أو نحو ذلك... وهذا يصلح شاهداً على خصوصيّة المسألة ويشكل مانعاً عن انعقاد دلالة شموليّة في النّص.

ووفق ما تقدّم ـ وحتى الآن ـ فقد تبين أنّه لا يوجد دليل واضح يمكن اعتماده بوصفه مرجعاً للحكم بالنظرية التي ذهبت لفكرة التحديد الزمني، وأنّ غاية ما تؤكّده الأدلّة المتقدّمة هو ضرورة عدم وقوع الزوجة في الحرج أو الحرام من عدم مواقعتها، كما أنه على تقدير تماميّة هذه الأدلة بما يؤكّد فكرة التحديد الزماني لا بد من مقارنتها بالأدلة التي تقام على الفكرة المقابلة ـ وستأتي إن شاء الله تعالى ـ لنجد كيف ستكون المحصّلة النهائية من مقاربة هاتين المجموعتين من الأدلة؟

 

نظرية المماثلة والمشابهة في الحق

أي بين الرجل والمرأة كزوجين، إذ كما هو معروف فقهياً فإن للرّجل الحق في إشباع رغباته الغريزيّة من زوجته بصورة لا حدود لها إلا الحيض أو النّفاس أو المرض أو بعض العناوين الطارئة، وأنّ على الزوجة تلبية كافّة رغباته منها دون تلكّؤ، وبمجرّد أن تمتنع ولو لمرّة واحدة تكون عاصية، وعلى رأي البعض وربما الكثير من الفقهاء ناشزة أيضاً تترتّب عليها أحكامها المعروفة مما يرتبط بالنفقة وغيرها.

وهذه الرؤية المخالفة هنا تؤكد الحق للزّوجة على زوجها، تماماً كذاك الحق الذي له عليها مما يعني التشابه والتماثل في الحق الجنسي بينهما.

وأمام القائلين بهذه الصورة لحقّ المرأة هنا تقديم أدلتهم، وإلا فإن أصالة البراءة عن إلزام الزوج بموافقة زوجته كأصل حكمي أو عدم حق لها بذلك يمثّلان مرجعاً يعتمد عليه، ولا يعدل عنه إلا إلى النتيجة التّي توصّلنا إليها في البحث المتقدم حول مقولة التحديد الزمني بناءً على صحّة ما تقدم.

كما تجدر الإشارة إلى أننا هنا سوف نفترض أن حق الزوج الجنسي هو ما ذكرناه آنفاً، ولن نبحث في هذا الحق ومدى صحته من ناحية التوسعة والتضييق، وبالتالي سوف نحاكم مقولة التماثل على أنها تطابق هذا النوع وهذه الدرجة من الحق، وإلا لو عدّلنا من تصورنا عن حق الرجل هنا أو تبيّن أن المؤيّدين لنظرية التماثل لا يقولون بثبوت حق للرجل بهذا المستوى فلربما تختلف نتائج أو آلية البحث، وقد تسقط بعض المناقشات الآتية عن مستوى الصحة.

وعلى أيّة حال فحاصل ما يذكر هنا لتأكيد هذا الرأي وجوه هي:

الوجه الأول: إن العلقة الزوجية إنما شرّعت بهدف تحصين الرجل والمرأة من الإنحراف الأخلاقي، وهذا بنفسه يستدعي ثبوت الحق لها تماماً كما هو ثابت له؛ تحصيلاً لغرض الزواج ـ أو بعض الغرض منه ـ إذ كيف يتصور التحصين للمرأة مع عدم إثبات حقّ لها في العلاقة الجنسية أو إثبات حق لها كأنه بحكم العدم، فإن مقولة التحديد الزمني كما يطرحها الفقهاء لا تلزم الرجل إلا بإدخال مقدار الحشفة من العضو الذّكري في فرج المرأة لا غير، بل اكتفى بعضهم بذلك في الدبر من دون أن يلزم الرجل بمنحها إحساساً بالّلذة، بل يكفي الإدخال ولو بمقدار الثانية الواحدة أنزل هو أم لم ينزل، شعرت هي بالّلذة أم لم تشعر أصلاً، فضلاً عن الوصول إلى مرحلة الكمال...([50]).

المناقشة: وهذا الاستدلال جيّد من الناحية المبدئيّة ومستفاد من الرّوح العامّة للتشريع في مسألة العلاقة الزوجية ويحتوي على نزعة مقاصديّة متقنة إلى حدّ بعيد، غير أنه لا يثبت النتيجة المطلوبة والمفترضة؛ وذلك أن التّحصين قد يحصل ولو بمرتبة أقل من مطلق الاستجابة للزوجة عند مطالبتها بالمقاربة، فإن امتناع الرجل أو المرأة أحياناً عن الاستجابة لرغبة الآخر منهما ـ لا بصورة دائمة أو غالبة أو كثيرة ـ لا يوجب رفع الحكمة من الزواج عند الشّارع إلا في حالات نادرة جداً لعدم إفضاء هذه الحالة إلى وقوع الإنحراف الأخلاقي بالزّنا أو غيره... فهذا الدّليل أقصى ما يثبته لزوم كون كل طرف بحق الآخر إيجابياً في الإطار العام، لا أن كل فرد فرد من المطالبة يجب الاستجابة له كما هو الحال في حق الرجل فقهياً وفق ما هو معروف.

الوجه الثّاني: النصوص العديدة التي تؤكّد مقولة أن الغريزة الجنسيّة للمرأة تفوق غريزة الرجل وأنّها إن لم تزوّج تقع في المفاسد، وهذه النصوص هي:

الرواية الأولى: ما رواه الكليني عن أبي عبد الله× في حديث..قال ـ أي رسول الله’ ـ: «أيّها الناس، إن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخبير فقال: إن الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس ونثرته الرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهنّ دواء إلا البعولة، وإلا لم يؤمن عليهنّ الفساد؛ لأنّهن بشر…»([51]).

الرواية الثانية: خبر عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد الله× قال: «إن الله خلق حوّاء من آدم فهمّة النساء الرجال...»([52]) ونحوها خبر آخر رواه الواسطي([53])، وثالث رواه إبن جمهور عن أبيه رفعه([54])، ورابع رواه وهب([55])، وخامس رواه غياث بن إبراهيم([56]).

الرّواية الثالثة: ما رواه الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين× «خلق الله عزّ وجل الشهوة عشرة أجزاء، فجعل تسعة أجزاء في النّساء وجزءاً واحداً في الرجال، ولولا ما جعل الله عزّ وجلّ فيهنّ من الحياء على قدر أجزاء الشهوة لكان لكل رجل تسعة نسوة متعلّقات به»([57])، ونحوها ـ مع اختلافات ـ خبر ضريس وإسحاق بن عمّار وأبي بصير ومسعدة بن صدقة([58]).

وهذه الروايات تشهد على الموضوع الذي نعالجه لتؤكّد ـ ولو بطريقة غير تقنينيّة ـ ضرورة إشباع غريزة الزوجة داخل مؤسّسة الزواج.

غير أنه قد يناقش في هذه الروايات بمناقشتين هما:

المناقشة الأولى: وهي مناقشة سنديّة حاصلها: إنّ هذه النصوص ضعيفة السّند فلا يعتمد عليها، وهذه المناقشة قد تستوحى من صاحب هذا الوجه نفسه([59]).

غير أن هذه المناقشة غير وجيهة؛ لأن بعض هذه النصوص وإن كان ضعيف السند كما ذكر، كالخبر الأول بأحد طرقه، وخبر ابن جمهور، وخبر إسحاق بن عمّار، وخبر أبي بصير؛ فإن هذه الأخبار جميعها مرسلة، كما أن خبر الواسطي ضعيف به، وكذا خبر وهب، غير أن خبر غياث بن إبراهيم تامّ سنداً؛ لأنه مرويّ في العلل عن أبيه عن سعد عن محمد بن الحسين عن محمد بن يحيى عن غياث، بعد تجاوز مشكلة أنه ابن أبي إبراهيم أو ابن إبراهيم كما هو الأرجح، وكذا الحال في خبر الأصبغ بن نباتة ومسعدة بن صدقة.

فإذن، هناك بعض من هذه الأخبار صحيح سنداً.

المناقشة الثانية: وهي مناقشة دلاليّة يفهم أيضاً من صاحب هذا الوجه ميله إليها، ولهذا جعل هذا الوجه في قوّة المؤيد من دون أن يمنحه رتبة الدليل، وحاصلها أنّه لا توجد دلالة واضحة في هذه النصوص؛ لأن مركز كلامها مختلف عن مركز مسألتنا وإن كان مضمونها قابلاً لأن يسلّط الضوء على ما نحن فيه([60]).

وقد يقال: إن هذه المناقشة تامّة من حيث المبدأ بمعنى أنها ـ أي الروايات ـ لا تستطيع أن تؤكّد صحّة هذه الرؤية الفقهيّة، لكنها قادرة على أن تقدّمنا خطوة نحو الأمام بالنسبة للنظرية الأولى المتقدّمة؛ لأن الخبر الذي اشتمل على مسألة أن همّة المرأة في الرجل قد اشتمل عقيب هذه الفقرة على جملة الأمر بالحبس في البيت، وهذا المقطع وارد في خبر تامّ صحيح السند أيضاً وهو خبر غياث ومعنى ذلك أنّ من الضّروري سدّ حاجات المرأة تخوفاً من فسادها؛ نظراً إلى أن الأمر بالحبس يمثل نموذجاً تشريعياً للحيلولة بين المرأة والمعصية.

غير أن هذه المحاولة غير واضحة؛ لأنها تعتمد على مقدّمة خارجية لم يكتنفها النّص، بل إن نفس الأمر بالحبس دون تعرّض لسدّ حاجات المرأة الغريزية من شأنه أن يضعّف من أيّة محاولة للاستفادة من هذه النصوص؛ لأن أمر الزوج بقضاء حاجات زوجته الغريزية أو على الأقل بأخذها بعين الاعتبار والاهتمام من الصعب تجاوزه في مثل المقام والتعويض بدلاً عنه بالأمر بالحبس، هذا كلّه باستثناء الرواية الأولى التي تجعل الزواج حصاناً للمرأة، بضميمة ما تقدم ذكره في الوجه الأول هنا.

المناقشة الثالثة: وهي مناقشة ربما تؤثّر على قوّة الوجه الأول نفسه هنا، وحاصلها أن ههنا حلقة مفرغة لم يجر ملؤها؛ وهي أن المشرّع في هذه النصوص حيث اعترف بقوّة الحاجة الجنسية للمرأة فلا بد له أن يفرض بصورة إلزامية على الرجل مقاربة زوجته عند مطالبتها ونحو ذلك، حتى لا تأخذ هذه الحاجة طريقاً ومنفذاً آخر مفضياً إلى الفساد، في حين أن هذه النصوص تنسجم مع رفع الإلزام عن الرجل إلا إذا خاف وقوعها في الحرام؛ لأن المستدل كأنه يتصور أن رفع الإلزام التّشريعي بالمواقعة يساوق رفع المواقعة بوجودها الخارجي مطلقاً، وكأنّ العلاقات الجنسية الزوجية لها دافع واحد وهو الشريعة نفسها، وهذا خطأ؛ فمن الممكن أن تكون الشريعة في الإطار النوعي قد اكتفت بالدوافع الطبيعيّة الغالبة عند الرجل من حيث المبدأ، وبالتالي لا تكون هذه النصوص مؤشرة وبشكل تامّ على الإلزام الشامل للرجل بحيث تكون المسألة شرعياً بحجم هذا القول، وهذه الفكرة مبنية على نظرية كلامية أصولية في تدخّل الشريعة في كافّة مرافق الحياة، حيث تفترض أن ما له دوافع طبيعيّة لا حاجة لتدخّل الشريعة في أمره، وإن كانت الشريعة ذات موقف في الأمر من حيث ملاك الحكم وإرادته، وهذا بحث ليس هنا مجال تحقيقه.

الوجه الثالث: التمسّك بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ([61])؛ ذلك أن هذه الآية الكريمة تفيد النهي عن صيرورة المرأة كالمعلّقة مما يفيد حرمة سلب المرأة حقوقها من النفقة وغيرها، وترك الرجل مقاربة زوجته عند طلبها وحاجتها محقّق لهذا العنوان([62]).

والجواب أولاً: إن ظاهر هذا العنوان وإن كان شاملا لغير مورد النفقة وسلمنا بحكومة الآية على كافّة الأدلة الأخرى، إلا أن عنوان المعلّقة لا يعني مطلق حالات حرمان الزوجة حقّها، بل يختصّ بصورة الحرمان الذي يأخذ شكلاً خاصاً يقرب من الهجران الكامل أو هو نفسه، وأما تخلّف الزوج أحياناً أو كثيراً عن بعض الحقوق بطريقة أو بأخرى فلا يوجب صدق هذا العنوان هنا، والذي يشهد لما تقدّم السّياق الوارد في الآية فإن الميل كلّ الميل قد وقع في سياق الحديث عن مسألة العدل بين النساء والذي قد يغلب فيه بين الناس الإعراض الكامل أو شبه الكامل عن إحدى الزوجتين أو الزوجات.

إن مقتضى ظهور الآية الكريمة هو حرمة جعل المرأة في حالة وسطى بسبب تقصير الزوج في حقوقها بحيث بلغت حالة أنها لا تدري أهي في زوجيّة أو أنها مطلّقة؟ وهذا المقدار لا يفيد لإثبات هذا الرأي هنا.

والذي يحتمل هو أن صاحب هذا الوجه قد ذكر جملة وجوه هدف من خلالها للخروج من دائرة النظرية المعروفة، ولعل ما ذكره يحقّق له ذلك، لكنّه لا يثبت البديل الذي طرحه عن تلك الرؤية الفقهية، فهذا الوجه المستفاد من هذه الآية إذا قارنّاه بالصّورة الفقهية ـ بقطع النظر عن سياق تعدّد الزوجات ـ يمكن أن يصدق معه أن الرجل جنسياً يميل كلّ الميل وأن زوجته بحكم المعلّقة من هذه الناحية، فإذا قبلنا أن الآية إنحلالية الدلالة إلى كلّ حقّ حقّ تمّ المطلوب هنا بهذا المقدار، وإلا كما هو الظاهر؛ لأنها بصدد الحديث عن الإطار العام الحاكم على الحياة الزوجية عموماً، فلا تكون الآية حينئذ مشتملة على كثير دلالة هامة على ما نحن فيه.

الوجه الرابع: التمسّك بقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ([63])، حيث إن العشرة بالمعروف لا تكاد تصدق إلا مع ثبوت الحق لها جنسياً تماماً كما هو له.

والجواب: إن العشرة بالمعروف ليست أحاديّة الشكل والرتبة، ومن الطبيعي أنه لا يراد من الأمر بالعشرة بالمعروف في الآية ضرورة التقيّد بتمام مراتبها، حيث يعلم استحباب كثير منها وعدم وجوبه، وهذا يعني أن الأمر هنا متوجّه على ما يعدّ في العرف العقلائي معروفاً بحيث يكون عدمه موجباً لصدق عنوان العشرة بلا معروف أو العشرة بالسوء، وهذا المعنى المستفاد من الآية الكريمة لا يفيد مماثلة الحق الجنسي بين الرجل والمرأة؛ لأن عدم استجابة الرجل أحياناً وربما كثيراً في بعض الصّور لا يوجب صدق عنوان عشرة السوء، بخلاف صورة التّمرد الكامل أو الكثير اللافت وأحياناً القليل، ومن هنا فهذه الآية تدفعنا خطوةً كبيرة نحو الأمام بالقياس إلى نظرية التّحديد الزماني المتقدّم، وقد تقترب من الرأي الآخر القائل بالمشابهة، لكنها لا تثبته بالدّقة وبتمام امتداداته.

الوجه الخامس: التمسّك بمفهوم كلّ من صحيحة عمرو بن أذينة وصفوان بن يحيى المتقدّمتين؛ لأن الأولى يفيد مفهومها أنه لو لم يحصل إيلاء من قبل الرجل فإن للزّوجة حق وقول في الأربعة أشهر، وبالتالي عليه إثم من كفّه عنها هذه المدة، وأما الثانية فإن مفهومها يعطي أنه لو تركها أقل من أربعة أشهر كان آثماً في صورة عدم وجود المصيبة والهمّ وفق الشرح المذكور لهذه الرواية سابقاً.

والرواية الأولى مفهومها بهذا الشكل تامّ ظاهراً؛ لأنها بصدد ذكر حكم محدّد ، غير أنّ الرواية الثانية قد يضعّف من قوّة هذا المفهوم فيها ، فإن شرط المنطوق ـ وهو وجود الهمّ والمصيبة ـ قد ورد في كلام السائل لا في جواب الإمام×، وهذا يعني أن جواب الإمام× قد توجّه على الفرضيّة التي اشتملها السؤال، وهذا المقدار لا يعطي ظهوراً في أن الإمام× قد لحظ في جوابه الصورة العكسيّة لمفروض السائل، فإن هذا الإحتمال بعيد عرفاً؛ لأن المجيب يأخذ عادة مفروض السؤال بعين الاعتبار ولا يظهر من مفروض السؤال هنا صورة عدم الهمّ والمصيبة فلا معنى أو لا ضرورة ملزمة لتوجّه الجواب على ما لا دلالة في السؤال عليه.

إلا أنّ هنا تعليقاً، وهو أن هذين المفهومين يفيدان ـ على أقصى تقدير ـ أن للمرأة الحق في الأربعة أشهر، لكنّهما لا يدلاّن على أن هذا الحق هو بحيث يجب على الزوج الاستجابة لزوجته دائماً، وبالتالي فهما ينسجمان مع ما تقدم من مدلول آية العشرة بالمعروف ونحوها مما تقدّم، بل قد يحتملان نظرية التحديد الزماني نفسه من دون مرجّح لأحد التصوّرين على الأقلّ.

الوجه السادس: التمسّك بقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ([64])، وذلك بتقريب أن الآية الكريمة تفيد تشابه الحق الذي يثبت لهنّ مع الأمر المفروض عليهنّ، وحيث إن المرأة ملزمة بتمكين نفسها للزوج عند رغبته في ذلك، فإنه ـ وبمقتضى الآية ـ يكون لها الحق في استجابة الزوج لها عند رغبتها أيضاً، وإلا فإن مدلول الآية لا يكون محققاً.

غير أن هذا الوجه يستدعي تساؤلين هما:

الأوّل: إنه ما هي الدّرجة الواحدة التي يفارق فيها الرّجل المرأة كما ورد في الآية الكريمة عقيب هذا المقطع الذي نقلناه آنفاً مباشرةً ﴿وللرّجال عليهنّ درجة﴾؟ فإنه إذا كان المراد من التماثل فيما لهنّ وفيما عليهنّ هو التّماثل في الجنس وفهمنا من الدرجة الواحدة الوحدة التامّة أي خصوصيّة واحدة تميّز وتقدّم الرجل على المرأة، فإن هذا سوف يفضي بنا إلى ضرورة إبراز محاولات لتفسير الكثير من فوارق الحق بين الرجل والمرأة كموضوع الطلاق والحضانة والتعدّد الزوجي وغير ذلك، بعد افتراض أنّ هذه الدرجة هي القيمومة لتصريح النصّ القرآني بها في موضع آخر: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء([65]) وهذا تساؤل نقضي على الطرف الآخر تفسيره وحلّه.

لكنّ هذا الإشكال النقضي المثار قابل للحل؛ وذلك بإرجاع أكثر أو كل العناوين إلى عنوان القيمومة، فالطّلاق ونحوه يفسّر على هذا الأساس، وإن كانت بعض العناوين غير واضحة في انطباق هذا التفسير عليها، وعلى أية حال، فهذا بحث آخر متعلّق بذيل الآية ليس هنا محلّه.

الثاني: إن الضّمير ﴿لهنّ﴾ في الآية يفترض رجوعه ـ كما يفهم من سياق الآية ـ إلى المطلّقات الرجعيّات، فالآية وردت على الشّكل التالي: ﴿وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ..﴾ ومن الواضح أن الضّمائر ترجع إلى ﴿وَالمُطَلَّقَاتُ﴾ الواردة في صدر الآية.

ووفقاً لذلك، فلماذا افترض في الآية الكريمة أن هذا المقطع يمثّل قاعدة عامّة في العلاقة الزوجية مع أنه حكم مرتبط بالعلاقة مع المطلّقة الرجعيّة؟‍‍‍‍‍‍وبالتالي يكون معناه أن ما يفرض على المطلّقة الرجعيّة من واجبات يكون بالمقابل لها حقّ بإزائها كالمبيت في منزل زوجها، والذي صرّح القرآن الكريم بوجوبه عليها ووجوب أن لا يخرجها الرجل من بيتها فترة العدّة إلا في حالة ارتكابها الفاحشة المبينة([66]).

والذي يظهر بمراجعة التّفاسير([67]) في الآية الكريمة أنها اعتبرت هذا المقطع متعلقاً بالعلاقة بين الزّوجين، لا أنه خاصّ بالمطلّقة الرجعيّة كما هو واضح من كلمات الكثير من المفسرين، والذي يفهم من بعض كلماتهم في ذلك ـ وإن لم يطرحوا القضيّة كاحتمالين بل أرسلوا ما ذكروه إرسال المسلّمات ـ أن المقطع الذي يسبق موضع الشّاهد قد ذكر حق الرجل بإرجاع زوجته المطلّقة رجعياً في العدّة، ومعنى ذلك أنّ لكم إرجاعهنّ إذا أردتم الإصّلاح في ذلك لا الإضرار بهنّ، وعلى تقديره ـ أي الإرجاع ـ  فيكون لهنّ ما عليهنّ نعم لكم عليهنّ درجة... وبهذا يعمّم مدلول المقطع محلّ الشاهد.

ولم أعثر من بين كلمات المفسّرين على من احتمل رجوع الضّمير إلى المطلّقات سوى إشارة عابرة من العلاّمة الطباطبائي حيث قال: «فالمراد بالجميع معنى واحد وهو : أن النساء أو المطلّقات قد سوى الله بينهنّ وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهنّ، فجعل لهنّ مثل ما عليهنّ»([68]).

والصيغة التي وردت في التفاسير لتبرير تعميم المقطع لا يوثق بها على مستوى الظهور العرفي؛ لأنها مجرّد محاولة، وإلا فالمفترض رجوع الضمير إلى المطلّقات ويكون معنى الدرجة هو أنّ قرار هذه المرأة في الإمساك أو الإرسال هو بيد الرجل.

ونحن وإن كنّا لا نجزم برجوعه إلى المطلّقات بحيث لا ينفع في الاستدلال هنا، لكن على الأقل لا يظهر بصورة يمكن الإتكاء عليها رجوعه إلى الزوجات ليمثّل قاعدةً زوجيةً عامّةً.

وعليه، فالمستنتج من مجموع أدلّة الرأي الثّاني أن للمرأة الحق في الأقل من الأشهر الأربعة بما يحول دون انحرافها الأخلاقي ويعد في العرف العقلائي معروفاً، أما الاستجابة التفصيليّة بما لا يفسح المجال ولو بمخالفة واحدة فهذا غير واضح، ولعل صاحب الرأي الثاني يذهب إلى ما توصّلنا إليه.

ولكن يبقى هنا أنه على تقدير تماميّة كافّة أدلة القول الأول والثاني فما هو طريق الجمع بينهما؟

إنه ودون الدخول في مقارنة كلّ دليل وما يقابله، فإن المرجّح هو أدلة القول الثاني لأنها أدلّة قرآنية عامّة ومتعدّدة، وفيها ما يبعد عنه إمكان التخصيص، وهي أقوى من أدلة القول الأول حسب الظاهر.

 

نتيجة البحث

والنتيجة المستحصلة من مجموع ما تمت الموافقة عليه ـ كلاً أو مضموناً ـ مما تقدم هو أنّ للمرأة حق المقاربة بما يزيل مبررات الانحراف الأخلاقي عندها أوّلاً، وبما يعد في العرف العقلائي معروفاً بحيث يكون تركه مصداقاً للعشرة السيئة ثانياً، وهذه النتيجة تترتب عليها مجموعة نتائج أبرزها:

أوّلاً ـ إنّ القضية متحركة ولا يوجد أي تحديد زماني فيها، بل تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والظروف وطبائع النساء و...

ثانياً ـ لا يعني الحق الجنسي للزوجة أي صيغة إطلاقية شاملة بحيث كلما أرادت وجب على الزوج الاستجابة بل تتحرك القضية، فقد يكون امتناع ما محرماً وقد يكون أكثر من امتناع غير محرم تبعاً لمدى صدق العشرة السيئة والظلم العقلائي ضمن إطار مؤسسة الزواج.

ثالثاً ـ لا تختلف القضية سواء كانت الزوجة شابة أم غير شابة، كان الزوج مسافراً أم حاضراً وما شابه هذه العناوين، بل القضية تتبع ما تقدم من عناوين، نعم بالنسبة للمنقطعة هناك مجال للتأمل ليس هنا بحثه.

رابعاً ـ المقاربة والاتصال الجنسي هنا لا يعني محض الادخال للحشفة، بل يمتد لكل ما تقتضيه حيثيات العشرة الحسنة ورفع الانحراف الذي منه ما هو محرم غير الزنا أيضاً، فقد يعبّر عن اتصال جنسي مكتمل، ومن هنا تتحدّد أيضاً مسألة أنّ المقاربة لابدّ أن تكون من قُبُل أو أنّه يكفي الدبر، فالقضية متحركة وتختلف باختلاف الطبائع والحالات النفسية، ولا يمكن وضع صيغة محددة ملزمة على نحو إطلاقي، بل قد تكون الاُمور مُجْزئة حتى ولو بدون المقاربة ـ أي ما يستبطن الإدخال ـ أحياناً.

خامساً ـ إنّ الحكم هنا تجري عليه كافّة العناوين الحاكمة كعناوين الحرج والضرر والاضطرار و... وليس في المسألة قضاء أو أداء أيضاً؛ لعدم وجود إطار زماني كما تقدم.

سادساً ـ إنّ نسق الأدلة المتقدمة هو كون المسألة مندرجة أوّلاً في الحقوق، ومن ثمّ فليس الأمر حكماً تكليفياً إلّا بتبع مطالبة ذي الحق بحقه، فمع التنازل لكفايته وعدم الحاجة يسقط، هذا والله العالم بأحكامه.

 _______________


([1]) هذه الدراسة نشرت في العدد 21 من مجلة فقه أهل البيت، لعام 2001م.

([2]) يراجع «الفقه على المذاهب الأربعة» ومذهب أهل البيت عبد الرحمن الجزيري 4: 9، 311ـ 313؛ وكذلك «الأحكام الشّرعية للأحوال الشخصيّة» زكي الدين شعبان 356ـ357؛ و«المفصّل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشّريعة» الدكتور عبد الكريم زيدان 7: 241.

([3]) ذكره السيد اليزدي في العروة الوثقى 2: 81، مخيراً بينه وبين الطّلاق احتياطاً وجوبياً ولم يعلّق عليه السادة: الخميني والخوئي والكلبيكاني والشريعتمداري والقمي.

([4]) مباني العروة الوثقى، كتاب النّكاح 1: 149 محمد تقي الخوئي، تقريرات السيد أبو القاسم الخوئي.

([5]) السيد محمد حسين فضل الله، كتاب النّكاح 1: 33 ـ 38، 164 ـ 174، بقلم: جعفر الشّاخوري؛ ويراجع له أيضاً دنيا المرأة: 93ـ94.

([6]) والسّبب في كونها هجريةً قمريةً هو أن النصوص حينما تستخدم كلمة الشّهر والسّنة فلا بد من تفسيرها على أساس إرادتها التحديد الهجري القمري؛ لأنه هو المعروف آنذاك، إذ لم يكن التأريخ الشمسي متداولاً بين العرب لسيرهم في الصحراء وعدم معرفتهم بالحساب، فكانت هذه التعابير تدل على المعنى المتقدّم.

([7]) النّهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 482.

([8]) المهذّب 2: 223.

([9]) السّرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2: 606.

([10]) شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 2: 496؛ والمختصر النافع: 172.

([11]) قواعد الأحكام 3: 5.

([12]) إصباح الشّيعة: 431.

([13]) الّلمعة الدّمشقية: 16.

([14]) الرّوضة البهيّة 5: 14؛ ومسالك الأفهام 7: 66 ـ 67.

([15]) نهاية المرام 1: 61.

([16]) مفاتيح الشّرائع 2: 29.

([17]) مستند الشّيعة 16: 77.

([18]) ظاهر عنوان تفصيل وسائل الشّيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 20: 14.

([19]) العروة الوثقى 2: 810. ولم يعلق السّادة: الخوئي والخميني والكلبيكاني والقمي والشريعتمداري.

([20]) يظهر من المحقق العراقي في تعليقته على العروة: 302.

([21]) مستمسك العروة الوثقى 14: 73.

([22]) منهاج الصّالحين 2: 260؛ ومباني العروة الوثقى ـ كتاب النّكاح 1: 142ـ 149.

([23]) تحرير الوسيلة 2: 216.

([24]) مستند الشّيعة 16: 77.

([25]) المصدر نفسه؛ و نهاية المرام 1: 61.

([26]) مستند الشّيعة 16: 77؛ ومسالك الأفهام 7: 66.

([27]) مفاتيح الشّرائع 2: 290؛ ومستند الشّيعة 16: 78؛ والجواهر 29: 115.

([28]) صرّح به في مفاتيح الشرائع 2: 290.

([29]) ونقصد بها المقنع والهداية.

([30]) جاء في كتابه النّهاية: 482: «ولا يجوز للرجل أن يترك المرأة ولا يقربها أكثر من أربعة أشهر، فإن تركها أكثر من ذلك كان مأثوماً».

([31]) وستأتي الرواية وهي صحيحة صفوان بن يحيى.

([32]) لا نريد هنا نفي هذه النظرية في تلك الحقبة الزمنيّة وإنما نريد القول بأنه لا يوجد بأيدينا ما يؤكّدها.

([33]) قد يناقش في أصل جريان قاعدة الضّرر هنا باعتبار عدم تحقّق موضوعها؛ إذ الضرر هو النقص في النفس والمال والأطراف ونحوها، والفقهاء كثيراً ما يتحفّظون عن التوسعة أكثر.

([34]) مباني العروة الوثقى، مصدر سابق: 143.

([35]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 29: 115 الشيخ محمد حسن النّجفي.

وقد نقلها صاحب الجواهر في المجلّد 29: 115 ـ 116، كما نقل مثلها في «تفسير من وحي القرآن» نقلاً عن موطّأ مالك بن أنس 4: 275، ط: دار الملاك، وحاصلها أنّه خرج عمر بن الخطاب في الليل فسمع امرأة تقول:

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه *** فوالله لولا الله أنّي أراقبه

وأرّقني أن لا خليل ألاعبه *** يحرّك من هذا السـّرير جوانبه

فسأل عمر ابنته حفصة كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبّ أحداً من الجيوش أكثر من ذلك.

([36]) مباني العروة الوثقى، مصدر سابق: 143.

([37]) المصدر نفسه.

([38]) وسائل الشّيعة 22: 342 كتاب الإيلاء والكفّارات ـ أبواب الإيلاء ـ باب 2 ـ ح1.

([39]) مباني العروة ـ مصدر سابق: 142.

([40]) فضل الله، كتاب النكاح 1: 166؛ وصرّح بكون الإيلاء طلاقاً في الجاهلية بعض الفقهاء مثل النجفي، جواهر الكلام 33: 297؛ والروحاني، فقه الصادق 23 : 179.

([41]) تفصيل وسائل الشيعة 20: 141 كتاب النكاح ـ أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ـ باب 71، ح2.

([42]) مباني العروة ـ مصدر سابق: 143.

([43]) تفصيل وسائل الشيعة 22: 341، ب 1، كتاب الإيلاء، ح2.

([44]) تفصيل وسائل الشيعة 22: 341، ب1، كتاب الإيلاء، ح1. وقد اعتمده في المفاتيح والمستند والمستمسك ونهاية المرام فراجع المصادر السابقة.

([45]) مسالك الأفهام 7: 66.

([46]) راجع المشيخة في الوسائل 30: 129ـ144 وأيضاً معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 9: 125، رقم: 5922.

([47]) والأسانيد الثلاثة مذكورة في الوسائل ـ مصدر سابق.

([48]) والسند هو عن أبيه عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن صفوان كما ورد في الوسائل ـ الخاتمة 30: 61 رقم 156 مشيخة الصدوق.

([49]) معجم رجال الحديث 11: 248 رقم 788.

([50]) كتاب النّكاح للشّاخوري ـ مصدر سابق.

([51]) الوسائل 20: 61، كتاب النكاح ـ أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ـ باب 23 ح2.

([52]) الوسائل، مصدر سابق، ح4.

([53]) الوسائل، مصدر سابق، ح5.

([54]) الوسائل، مصدر سابق، ح6.

([55]) الوسائل، مصدر سابق، باب 24، ح1.

([56]) الوسائل، مصدر سابق، باب 24، ح5.

([57]) الوسائل، مصدر سابق، ب23، ح7.

([58]) الوسائل، مصدر سابق، باب 23، ح11.

([59]) فضل الله، كتاب النكاح: 34.

([60]) المصدر نفسه.

([61]) النّساء: 129.

([62]) فضل الله، كتاب النّكاح: 168 هذا وذكر في بعض التفاسير أن المراد بالميل كلّ الميل هو إظهار تفاوت الميل القلبي في الفعل والقول كما ذكره الرّازي في تفسيره 11: 68؛ والنووي في تفسيره أيضاً 1: 177.

([63]) النّساء: 19، واستدل بها السيد فضل الله في كتاب النكاح، مصدر سابق؛ هذا وفي تفسير الكشّاف 2: 45؛ والنووي 1: 144 أن معنى الآية الشّريفة هو النّصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول، وفي تفسير البغوي 1: 49 أنّه «الإجمال في القول والمبيت والنّفقة، وقيل: أن يصنع لها ما تصنع له».  

([64]) البقرة: 228، واستدل بها السيد فضل الله في كتاب النكاح، مصدر سابق.

([65]) النّساء: 34.

([66]) الطلاق: 1.

([67]) يراجع «زبدة البيان في براهين أحكام القرآن» للأردبيلي: 747؛ ومجمع البيان للطّبرسي 1: 575؛ وكنز العرفان للمقداد السيوري 2: 258؛ والتفسير الكبير للفخر الرازي 6: 94؛ وتفسير القرطبي 3: 82؛ وتفسير البغوي 1: 25؛ وتفسير الماوردي «النكت والعيون» 1: 292، ط دار الكتب العلميّة؛ وتفسير إبن الجوزي 1: 261؛ والتفسير المنير للدكتور وهبة الزّحيلي 2: 321؛ وتفسير ابن كثير 1: 271؛ والدر المنثور للسيوطي 1: 661؛ وتفسير النّسفي 1: 114ـ115؛ والكشّاف للزّمخشري 1: 442، ط العبيكان، الرّياض 1998م؛ والتبيان للطّوسي 2: 241؛ ومواهب الرحمان للسّبزواري 4: 18ـ 19؛ والكاشف للشيخ محمد جواد مغنيّة 1: 343؛ والوجيز لابن أبي جامع العاملي 1: 187؛ والأمثل 2: 98؛ وتفسير المنار 2: 375؛ وكنز الدقائق للمشهدي 2: 344.

([68]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 232.