hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الاجتهاد والتجديد ـ قراءة في هموم الفقه الإسلامي المعاصر(*)

تاريخ الاعداد: 9/20/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
97700
التحميل

حيدر حب الله

تمهيد

الفقه الإسلاميّ وما يتّصل به من أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية، وليس من شك في مدى الجهد الهائل الذي بذله العلماء المسلمون لبناء هذا الصرح الحضاري القانوني؛ ليكون نبراساً تهتدي به قوانين عدّة في العالم، ومظهراً رائعاً من مظاهر قراءة النصّ، وتحليل أدوات التفكير، ومقاربة الظواهر الاجتماعية و.. والتكيّف مع الواقع، ثم إعادة صياغته.

بحقّ يجب أن ننحني ـ دون مجاملةٍ أو نزعة أيديولوجية ـ أمام أولئك العظماء عبر الزمن الإسلامي، من علماء فقهٍ وأصول وحديث ورجال وبيان.. على تلك الجهود المضنية التي بذلوها لخدمة هذا الدين في هذا الميدان الرحب الفسيح، فكلّما نظر الإنسان في تراجم هؤلاء وتاريخ نضالهم الفكري تلاشت نفسه وتصاغر أمامهم، لا يجد لنفسه رصيداً أمام معاناة لا حدود لها بذلها هؤلاء بأطيافهم، وقضوا بها أيّامهم ولياليهم، لا يفترون ولا يهدؤون، لا يملّون ولا يسأمون، فأيّ لسانٍ هذا القادر أن يصف ما قدّموه وما بذلوه وما فعلوه؟! وليس أجدى هنا من أن نقول: إن السكوت المنطلق من العجز خير تعبير نملكه لمدح هذا التراث العريق، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، وأنعم عليهم في جناته، ونسأل الله تعالى أن يُلحقنا بركبهم صالحين علماء متقين، لا نرجو سوى الله، ولا نطلب غير رضاه، بحولٍ منه سبحانه.

 

مكانة الفقه الإسلامي وأزمة الفرضية

وليس من ريب ـ فيما يبدو ـ لمن يقرأ التراث الإسلامي أنّ لعلم الفقه والشريعة وما يتصل به من علومٍ خادمة كالأصول والحديث والرجال والبيان، مكانةً مميّزة في منظومة التفكير الإسلامي، وأهمّ ما يميّز مكانة الفقه واقعيّتُه واتّصاله بحياة الناس، فليس علماً نخبويّاً صرفاً ولا ترفاً فكرياً بحتاً، إنما هو علم الحياة، وهو الاستجابة الطبيعية لفكرة تنظيم الحياة على الوجه الأكمل، من هنا تُناقض النزعةُ الفرضيّة الفقهَ بل وتقتله؛ لأن هذا العلم إنما يعبّر عن مواكبةٍ للحياة واستجابة لها، ومتابعة لشؤونها، فلا معنى لأن ينشغل بفروضٍ غير واقعية، ما دامت الحياة لا تهدأ بوقائعها الجديدة، سيّما العصر الحاضر الذي يتحفنا كلّ يوم بمستجدّاته التي لا تكاد تنتهي، وقديماً قال الأصوليون: إن الوقائع غير متناهية، ومهما ناقشناهم في هذا الكلام فممّا لا شك فيه أنّ الوقائع كثيرة جداً لا تكاد تتوقف في تدفّقها.

وليست النزعة الفرضية نزعةً جديدةً في حياة الفقه الإسلامي، بل عرفها المسلمون منذ القرن الثاني مع جماعة فقه العراق التي عرف فريقٌ منها بـ ((الأرأيتيين))، نسبةً إلى قولهم: أرأيت لو كان كذا، فالتقدير بـ ((لو)) عندهم كان حاضراً على الدوام تقريباً، في إشارةٍ دالّة إلى جلوسهم في بيوتهم يرغبون بالافتراض، حتى ظهرت تساؤلات لا مجال هنا لاستعراضها، مثل: هل يجوز الزواج من الجنّ؟ وهل تُحسب الزوجة من الجنّ من الأربع نساء حتى لا يجوز الزواج من خامسة إنسية؟.. وفي السياق نفسه ظهرت ما تسمّى في الفقه الشيعي: فروع العلم الإجمالي، التي ذكرت في مباحث الصلاة، حاملةً فروضاً نادرة الوقوع في أكثرها.

وهكذا يبتعد الفقه عن الحياة وينزوي داخل السجالات التجريدية؛ فيغيب عن الحياة ويحلّ محلّه فقهٌ آخر، كالفقه الوضعي الغربي و.. وبهذا تبدو ضرورة واقعيّة الفقه وأن يعيش طلابه وفقهاؤه همّ الواقع المتدفّق بقضاياه اليوم، سيّما بعد دخول هذا الفقه مجال الحياة السياسية بكلّ تعقيداتها.

ولعلّ ما يساعد على ذلك ـ في بعض الجوانب ـ الرغبة في استخدام طريقة التفريع والتشقيق المنطقي القائم على سرد التقسيمات الثنائية، وهي طريقة رائعة استخدمها الفقهاء المسلمون؛ إذ كانوا يحاولون فرز المحتملات والصور المتوقعة إمكاناً للموضوع، ليجيبوا عن تمام الصور المفترضة المتصوّرة، فتكون إجاباتهم مستوعبة لتمام احتمالات الواقع، وفي هذا الإطار يجدون أنفسهم يعالجون افتراضات غير واقعية لكنها محتملة الوقوع، إن روعة هذا المنهج لا ينبغي أن تغرق الفقيه في المفروضات ذات الطابع غير العملاني، بل يركّز جهوده بشكل مضاعف على الصور المفترضة العملية، حتى لا يغرق في احتمالات لا تمتّ إلى الواقع بصلةٍ عملياً، وإن احتملها نظرياً وفلسفياً.

 

الفقه الإسلامي وترتيب الأولويات

وقد لا يُمنى الفقه بنزعةٍ فرضيةٍ كالتي ألمحنا إليها، لكن ميزان الأولويات يختلّ عنده، فمباحث التخلّي والوضوء من مباحث الواقع، ليست مجافيةً له ولا بعيدةً عنه، لكنّ الأمر ليس في واقعيّة هذا البحث الفقهيّ أو ذاك فحسب، بل في الحاجة إليه أيضاً، والأهم تقدير مدى هذه الحاجة.

من هنا، تأتي عملية اصطفاء الموضوعات الفقهية لوضعها ضمن هيكل يقدّم ما حقّه التقديم ويؤخّر ما حقّه التأخير، فصحيحٌ أن مباحث التخلّي أو الوضوء واقعيةٌ وهامّة، إلاّ أنه يجب أن نقايس في كلّ عصرٍ وزمان درجة الأهمية؛ فقد نجد أنّ مباحث الاستنساخ، والتلقيح الصناعي، وفقه البنوك والمصارف والبورصات و.. تحتوي درجةً مستعجلة من الجواب، فيما التخلّي والوضوء والصلاة على درجة أقلّ، سيما وأنّ هناك مباحث سابقة في هذا دون ذاك، فحينما نتحدّث عن أولويات ونطالب المعاهد الدينية والحوزات العلمية بالتركيز على ملفّاتٍ دون ملفات لا نقصد البتّة تهميش أيّ حكم شرعيّ إلهي أو اعتباره سخيفاً والعياذ بالله، بل الحديث عن الاهتمام المعرفي بهذا الموضوع أو ذاك، انطلاقاً من مبدأ أن الفقه استجابةٌ للواقع وردّ على أسئلته.

وعندما نتحدّث عن رسم الأولويات في الدرس الفقهي وعلوم الشريعة فلا يعني ذلك عملاً فنياً صرفاً لبناء أشكال هرمية أو عامودية أو مستطيلة، بل بلورة أنظمة التفكير ـ ومعها أنظمة التعليم ـ وفقاً لمبادئ واقعيّة الفقه وأولوياته، فما معنى اليوم ـ وهذه وجهة نظر شخصية بحتة ـ لأن يأتي فريقٌ من الفقهاء يدرّسون ـ على مستوى الأبحاث العليا ـ مباحث الطهارة في عشرة سنوات أو أكثر؟! هل هذا شيء مقبول؟! وأساساً لماذا ما يزال التفكير في تدوين أو تدريس دورةٍ فقهية أو أصولية كاملة؟! وهل هناك معنى لذلك في عصر تضخّم العلوم الدينية فضلاً عن غيرها؟ لماذا لا يُصار إلى اعتماد الموضوعات والملفات والمحاور العصرية أو الأكثر حاجةً ليدرّسها الفقيه أو يجتهد فيها بدل أن يُجبر على تدريس بابٍٍ بأكمله ربما تكون ثلاثة أرباع موضوعاته غير ضروريةٍ اليوم بالمعنى الذي قلناه؟ ففي أبواب الطهارة ندرّس بعض المسائل الحسّاسة أو التي تشهد جدلاً معاصراً أو التي يكثر الابتلاء بها مثل طهارة الإنسان أو تنجيس المتنجّس أو..

نعم، نحن نعتقد بأنّ هذا الفقه متواشجٌ متداخل، وهذه نقطة لا ينبغي أن نغفل عنها، فمن الممكن أن تساعدنا مباحث لم تعد مفيدةً اليوم في دراسة موضوعات بالغة الأهميّة، ولكي أعطي مثالاً، أذكر مسألة الستر والحجاب للأَمَة المملوكة، فقد ذُكر جواز كشف شعرها مثلاً، ورغم أن هذا الموضوع لم يعد محلّ ابتلاءٍ اليوم إلاّ أنه قد يثير عند فقيهٍ تساؤلاً حول معايير الحجاب في الإسلام، فيرى أنّ حرمة المرأة ومكانتها يلعبان دوراً في إلزامها بستر جسدها، وإلاّ فقد تكون الأمة مثيرةً للغرائز كالحرّة فكيف نفسّر الموقف؟!

لست أريد هنا الحديث عن هذا الموضوع ولا تبيين رؤيةٍ بقدر ما أريد التركيز على عنصر التواشج في الموضوعات الفقهية، الأمر الذي يفرض عدم تغييب بحثٍ من الفقه، بحيث ينشأ طلاب الشريعة لا يعرفون شيئاً عن هذا الباب الفقهي أو غيره، فيحصل نوعٌ من الخلل في رؤيتهم الفقهية حتى لموضوعات هامّة اليوم.

نعم، نحن نؤمن بهذا التداخل ولسنا نريد تجاهله، لكنّ هذا شيء يقع على مستوى المعرفة والاطلاع لا على مستوى رصد الجهود لدراسته، فمن المفيد أن يكون طلاب الشريعة مطّلعين على مجمل الموضوعات الفقهية، لكنّ هذا لا يعني أن يصبّوا دراساتهم على غير الموضوعات الحيّة والمعاصرة ذات الأهمية والمبتلى بها، ومعنى ذلك أنّه لا يوجد أيّ تنافر بين اعتماد منطق الأولويات في الدرس الفقهي وبين مبدأ تواشج الموضوعات الفقهية، بل يمكن الجمع بينهما وإيجاد الملائمة والانسجام، فإذا اصطدمنا بموضوع درسناه حينئذٍ.

وربما نجد وجهة نظرٍ تقول: إن بعض الموضوعات الفقهية قد يفتقد الحضور العمليّ له، فيخرج عن دائرة التداول ـ عموماً أو جزئياً ـ على الصعيد الميداني، إلاّ أنه يظلّ يشتمل على خاصّية تفرضه في الممارسة الاجتهادية، وهذه الخاصية هي طبيعة التعقيدات والصعوبات والمشاق التي تكتنف موضوعاً فقهياً ما ممّا يجعله محكّاً لاختبار جدارة الفقيه، فيكون الاهتمام به لا من باب الحاجة العملية الميدانية له وإنّما من باب الحاجة العلمية التي تفرض شحذ الذهن وخوض المعقّد من الموضوعات الشرعية.

وعلى سبيل المثال، هناك مباحث جرى الاهتمام الكبير بها بين الفقهاء في القرنين الأخيرين، مثل مباحث كتاب ((المكاسب)) للشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ)، فبعض موضوعات هذا الكتاب ربما يكون غير ذي أهميّةٍ على الصعيد الميداني؛ لأنه يحاكي وضعاً سابقاً في الحياة الاقتصادية، إلاّ أنّ أهميّة الاجتهاد فيه تظلّ قائمةً مهما اتسعت هذه الثغرة؛ انطلاقاً من أن الاجتهاد في موضوع شائك كثر فيه القيل والقال والردّ والتفريع تبقى له قيمته على الصعيد العلمي لبناء جيل مجتهد متضلّع في تعقيدات البحث الفقهي.

وليس من شك في واقعيّة هذه الفكرة، لكن السؤال: هل انتهت الموضوعات التي تجمع خاصية العلمية والعملانية حتى نفتّش في مثل هذه الأوراق لشحذ الذهن وتربية الاجتهاد فيه؟ وإذا كنّا نحمل همّاً في مواكبة الفقه لآخر أوضاع العالم أليس بمقدورنا وضع حلّ يجمع بين الخاصيتين المذكورتين؟ ثم من قال: إنّ هذه الموضوعات ليس من أضرارٍ ناجمةٍ عن الغرق فيها رغم الفوائد العلمية التي ترافقها؟ هل الاجتهاد غايةٌ أم وسيلة؟ وهل الاجتهاد رسالةٌ لخدمة الدين وتحقيق غايات أخرى أم هو رغبة في التفنّن العقلي فحسب؟

إننا نعتقد أنّ الاجتهاد لا يفقد خاصية الرسالية بمعنى صيرورته نقطة الانطلاق لتقديم حلولٍ للواقع على ضوء معطيات الدين ضمن الدائرة الدينية، ومن ثم فلا يمكن لمجتمع علمي يدّعي القدرة على صياغة نظامٍ أفضل من غيره للعالم أن يُغرق نفسه ويبني ثقافته على التفنّن العقلي والغرق في السجالات الفكرية التي لا مردود رئيس لها على حساب الغاية النهائية المطلوبة من وراء الفقه، إن نزعة التفكير الفلسفية قد تكون مسؤولةً ـ بعض الشيء ـ عن هذا الواقع القائم، وسيأتي الحديث عن موضوع التدخّل الفلسفي في مباحث الشريعة.

من هنا، تتضح ضرورة المطالبة باستحضار عنصري الدقّة العلمية والحاجة العملانية معاً في بلورة مناهج التدريس من جهة، واهتمامات الفقهاء والباحثين من جهة أخرى، لا الاقتصار على أحد هذين البُعدين على حساب الآخر الذي لا يقلّ عنه أهميّةً، ولو جمعناهما معاً لتوصّلنا إلى صيغة تفي بهما، طبقاً لوفرة العطاء الفقهي في غير بابٍ من أبواب دراسة الشريعة.

 

الفقه الإسلامي والنظام التعليمي

ومن هذا المدخل ـ منطق الواقعية ومبدأ الأولويات ـ نلج موضوع النظام التعليمي، وهو موضوع طويل، إن إصلاح نظام التعليم أهمّ مدخل ـ كما كان يعتقد الشيخ محمد عبده (1905م) ـ لإصلاح بُنيات التفكير و.. ولست أريد الولوج المطوّل في هذا الموضوع، فقد قيل حوله الكثير، لكنّي أرغب في الإشارة إلى نقاط، أتصوّر أنّها دالّة:

أولاً: إن النظام التعليمي هو الذي يخلق التفكير الأحاديّ والتعدّدي، وهذه نقطة جديرة بالوقوف عندها، فنحن نلاحظ أنّ الحوزات العلمية والمعاهد الدينية عندما تدرّس طلاب العلوم الدينية علمَ المنطق فإنها لا تقدّم لهم سوى منطق أرسطو، فينشأ الطالب ظانّاً أن معادلات هذا المنطق كأنّها متفقٌ عليها عند عقلاء العالم، وتمرّ السنون وهو لا يدري أنّ علوماً منطقية قد ظهرت، وأنّ منطق أرسطو قد اجتاحته أمواج النقد العاتية فأعملت فيه مظاهر التعرية، ولسنا بذلك نزعم أنّ منطق أرسطو قد بلى وحكمنا عليه بالمقصلة، بل كلّ ما في الأمر أننا نريد أن ينشأ الطالب على وجود اتجاهات وآراء، ولا يظنّ أن للدنيا لوناً واحداً فحسب؛ مما يخلق في تفكيره تصوّراً أحادياً عن العالم، لا يلامس الواقع والحقيقة المعرفية الموجودة.

وهكذا الحال في علم الفلسفة الإسلامية؛ فنحن نلاحظ أن الحوزات العلمية تركّز ـ إلاّ مؤخراً وبصورة جزئية ـ على الفلسفة العقلية الصدرائية ـ نسبةً إلى الملا صدرا الشيرازي (1050هـ) ـ وكأنه لا وجود في العالم لفلسفةٍ إلاّ الفلسفة الإسلامية، وأنّ الفلسفة الإسلامية قد اختُزلت في الحكمة المتعالية، تماماً كما نلاحظ حالة الإفراط هذه لدى بعض مثقفي المغرب العربي في رؤيتهم للفلسفة الرُّشدية، وهذا ما سبّب استخدام منطق التهميش للفلسفات الأخرى والتعامل معها بدونيّةٍ دون كثير اطلاع على مصادرها وأفكارها.

ولا تقتصر هذه الحالة على المنطق والفلسفة، بل تنال الفقه نفسه، فرغم التنوّع الموجود اليوم في الدرس الفقهي، وهو تنوّع لا يكاد يُنكر، إلاّ أنّ ثمّة مشاهد تظلّ مغيّبةً عن طلاب الشريعة، يتربّون على غيابها، مثل الفقه السنّي في الوسط الشيعي، والفقه الشيعي في الوسط السنّي، أو الفقه الوضعي في الوسطين معاً، فلا يطّلعون عليها إلاّ بعد مرحلة الاكتمال الفكري، التي تفرض رؤيةً أيديولوجية ذات أحكام مسبقة على الآخر في كثيرٍ من الأحيان، وستكون لنا وقفةٌ مع موضوع تنوّع المشهد الفقهي قريباً إن شاء الله تعالى.

وبهذا يجدر أن لا نستهين بالأحادية التعليمية التي ينغمس طالب الشريعة في أجوائها ما لا يقلّ عن عقدٍ كاملٍ من الزمان، وهو أمرٌ تُسأل عنه البرامج التعليمية الحالية، مع تقديرنا لجهود مشكورة تقوم بها المعاهد والحوزات الدينية في هذا المضمار.

ثانياً: ثمّة أزمة ثقة يعانيها طلاب الشريعة الآملون في التغيير، وهي أزمة تخلق ـ فيما يبدو ـ نوعاً من انفصام الشخصية أو من الازدواجيّة، ولعلّ هذه الأزمة المزدوجة (الثقة ـ الازدواجية) من أخطر الأزمات التي تعانيها الحوزات العلمية اليوم.

ولكي أوضح هذه الفكرة، أجد نفسي مضطراً لذكر هذه القصّة، فقد التقيت بأحد أبرز تلامذة الشهيد السعيد محمد باقر الصدر (1400هـ)، وهو من الفقهاء المعاصرين البارزين، وكان حديثٌ عن الفقه و.. فسألته عن السبب الذي دفع مفكّراً كبيراً كالسيد الصدر، وهو رجل المرحلة، والعارف بزمانه، أن لا يدرّس في حوزة النجف آنذاك فقه الاقتصاد، أو فقه الأسرة، أو فقه العقود وأنظمة المال، أو فقه القضاء، وهي ملفّات شائكة وبالغة الأهمية، وجميعنا يعرف لو ولجها الصدر بعقليته الفقهية و.. لقدّم نماذج مهمّة تحتاجها الأمة وتنمو بها المعرفة، بل يستبدل ذلك كلّه بتدريس كتاب الطهارة، إلى مباحث الحيض، في مدّةٍ لا تقل عن ستة عشر عاماً، وما طُبع له في مباحث الطهارة على العروة الوثقى لم يكن سوى بعض تلك الدروس لا جميعها.

كان جواب هذا الفقيه البارز أنّ بعض تلامذة الشهيد الصدر هو من أقنعه بأن يدرّس كتاب الطهارة، مع رغبة الصدر في تدريس فقه العقود مقارناً بآخر النظريات الوضعية في الفقه الغربي، والسبب في ذلك أنّ الحوزة لن تعترف بك ـ أيّها الصدر ـ إذا درّست مباحث جديدة، بل علينا الشروع بمباحث تقليدية حتى يُصار إلى كسب الاعتراف، ثم الانطلاق بعد ذلك في المشروع الخاص، وهكذا شرع الصدر في مباحث الطهارة، ليدرّسها أكثر من ستة عشر عاماً.

كيف يمكن لنا تصوّر حجم الخسارة التي مُنيت بها الحوزة العلمية بهذه الخطوة؟ لقد صرف الصدر أقلّ من نصف هذا الوقت ليكتب ((فلسفتنا))، و ((اقتصادنا))، و ((الأسس المنطقية للاستقراء))، تلك المشاريع الثلاثة التي لا يحتاج الأمر للحديث عنها، فلو صرف ستة عشر عاماً للتنظير للفقه الاجتماعي بأبعاده ماذا كنّا وجدنا اليوم؟ كيف يمكن غفران هذا الحدث؟! ومن هوالمسؤول عنه، وعن كثيرٍ من أمثاله؟!

بهذا المثال التقريبي أبدأ فكرتي، إشكالية تتجاذب المصلح الديني في المؤسسات الفكرية الدينية، هل يشرع ـ لكسب الاعتراف به ـ بنمط تقليدي مدرسي فتمرّ الأيام ثم تمرّ المشاريع وتذوب بعد الغرق في تعقيدات الأوضاع التقليدية، أم يبدأ في عملية التغيير وفق قناعاته منذ البداية لكنه يصطدم بعدم الاعتراف به مما يُعجزه عن التغيير؟

سؤال رئيس، وجوابه ـ في الوقت عينه ـ معقّد متشابك، فقد رأينا في حياتنا أشخاصاً متذبذبين خائفين أن يُنبذوا أو لا يُقَرّ لهم باجتهاد أو فقاهة، فاضطرّوا للتخلّي عن قناعاتهم مرحلياً، لكن مرور الأيام قضى على تلك القناعات وجعلها رذاذاً منثوراً.

من هنا، تبدأ معاناة طلاب الشريعة، حيث التذبذب بين المناهج، فيضطرّ الطالب لدراسة كتب لا يؤمن بعظيم الفائدة من دراستها، مع كلّ الاحترام لها ولمؤلّفيها، لا لشيء سوى الخوف من أن يُنعت بالضعيف علمياً أو...، وبهذا تموت القدرات والطاقات وتذهب الآمال رويداً رويداً، وتبقى المظلّة الكلاسيكية تخيّم فوق رؤوس الجميع، وقبل كلّ شيء فوق رؤوس ألدّ أعدائها، إنه القدر الذي أصاب ويصيب غير صرحٍ علمي في حياتنا الدينية، ولهذا لا بدّ من تفكير جادّ، ليس شكلياً بل جوهري، تفكيرٍ لا يعيش عقدة الخوف ولا يبحث عمّن يشهد له أو يمتدحه، تفكير لا يريد إلاّ الله حتى لو ذمّه العالم، ولا يسعى إلاّ خلف رضوانه حتى لو عاداه الخلق كلّه، يعرف المدارة لكنه لا يقتل نفسه داخلها، إنّه لا يصنع أفكاراً واهمة تجعله كدودة القز تقتل نفسها بنفسها، فيسلّي نفسه تارة بأنه يقوم بتغيير تدريجي، أو يؤنسها أخرى بأنه يمارس تكتيكاً...

مسؤولية مَنْ تلك أن نبعث في نفوس طلاب الفقه والشريعة الثقةَ بأنفسهم حتى لو لم يسيروا وفق المألوف الذي لا يؤمنون به؟ أليست مسؤوليّة أساتذة الحوزات العلمية ومربّيها أن يعملوا على ذلك؟ إلى متى الارتكاس والخوف؟ وإلى متى القلق على مصالحي ومصالحك أن تصدر بنا فتاوى أو تنهال ضدّنا البيانات الصاخبة؟ لو كان الإمام آية الله الخميني يفكّر بهذه الطريقة لما شاهدنا كلّ هذه الإنجازات التي قدّمها؟

كيف يمكن ـ بعد اليوم ـ أن نتناول هذه الملفّات بابتسار أو استخفاف؟ لقد وضع مرشد الثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي حفظه الله تعالى كلّ ثقله وما يملك من نفوذ لإيجاد تغييرات في الحوزة العلمية، وبعد أكثر من عقدٍ من الزمن على مشروعه هذا ومع كلّ الإنجازات الرائعة التي تحققت، ما زلنا نجد وضعاً في غاية المأساوية، فإذا كانت الحال كذلك فأيّ أملٍ يرتجى إذا لم ينهض الجميع ويأخذوا الأمور بجدّية أكبر؟!

من الضروري التفكير بإعادة الثقة للطلاب الطالبين للتغيير، ولست أتكلّم هنا مع الفريق الذي لا يؤمن بتغييرات في مناهج التعليم، فإنه يختلف معنا جذرياً، وهذا حقّه ووجهة نظره التي نحترمه عليها، إنما الحديث هنا مع دعاة التغيير والمؤمنين به، لماذا الصمت وإلى متى نترنّح اعتماداً على ما قدّمه الصدر والمظفر و.. قبل عقودٍ عديدة؟!

يجب أن نشير أخيراً إلى حالة جديرة بالثناء، انبعثت مؤخراً في أوساط طلاب العلوم الدينية في الحوزات العلمية بإرشادٍ ودعم من المؤسّسات المشرفة على عمل الحوزة في إيران وغيرها، وكلّنا معهم ـ مهما كانت الأخطاء ـ نشدّ على أيديهم، وإذا لم يكن من سبيل للخدمة فلا أقلّ من الرضا والدعاء.

 

الفقه الإسلامي ومسألة التجديد

ومسألة التجديد هي الأخرى مسألة طويلة معقّدة، لا تستهدف هذه الأوراق الخوض فيها، إنما تعنيها بعض وقفاتٍ نوليها أهميةً.

1 ـ أولى قضايا الهمّ التجديدي، مسألة الانكماش النفسي أمام هذه المقولة في الأوساط الدينية، فهناك خوفٌ حقيقي منطلق من معطيات موضوعية من مشاريع التغيير والتجديد، هناك قلقٌ على المسألة الدينية ككلّ؛ ذلك أنّ العديد من مشاريع التجديد الديني في الغرب والشرق، وفي ساحتنا الإسلامية، كانت لها مردودات سلبية واضحة على الحسّ الديني عموماً، وقد دفعت هذه التجارب ـ إلى جانب حساسية الموضوع الديني ـ جملةً من العلماء للحذر من محاولات التغيير، خصوصاً في ظلّ العولمة الثقافية التي يقودها الغرب، وفي ظلّ الاستمداد المعرفي (وأحياناً الاستلاب) الذي يمارسه التجديديّون إزاء الغرب، كونه يمثل بنظرهم حضارةَ اللحظة ومعرفة العصر.

من هنا، تشابكت في الوسط الديني مسألة التجديد مع سلب الهويّة، ودخل موضوع تغيير الواقع في جوٍّ من الخوف على انفلات الأمور نحو ما لا تُحمد عقباه، وللحقّ يقال: إن مقداراً من هذه المخاوف منطقيّ ومبرّر.

لكن هل يصحّ تحكيم هذه المخاوف لتمثل ثقافةً تقدّم دفع المفسدة على جلب المصلحة دوماً؟ لنفرض أنّ أخطاءً قد وقعت، وبعضُها فادح، هل ينسف ذلك أصل المشروع؟ وهل يجعل المبدأ دوماً عرضةً للتساؤل؟ سيّما مع وجود عيّنات تجديديّة ممتازة ومُرضية استطاعت تقديم صورةٍ إيجابية عن المشروع التجديدي، لماذا إذا اتّهم الغربُ الإسلام بتهمة عذرنا بأنّ ذلك كان خطأ في التطبيق هنا أو هناك، أما عندما يحصل خطأ في الطرف المقابل لا نستخدم الأمر نفسه؟

نحن نعتقد أنّ الخطأ في مثل هذه الحال قد يطال المبادئ والنظريات، لكن ذلك ليس على نحو العجالة، بل لابدّ من درس الأمر لتحديد أن مسؤولية الخطأ هل ترجع إلى المشروع نفسه أم إلى بعض امتداداته أو بعض تطبيقاته؟ وبعد ذلك نحكم بجدوائيته أو عدمها، لا إصدار قرار عام، سيما إذا كنا نؤمن سلفاً بضرورة المشروع من حيث المبدأ.

كما أنّ وجود أخطاء في مشروعٍ ما يجب أن يدفعنا إلى النظر في مدى قابليته للإصلاح والإحياء، فهل هذه الأخطاء بحدٍّ تمنع أساس انبعاثه سليماً مستقيماً أم أنّها بحيث يمكن تفاديها ضمن الحدّ المعقول والمنطقي؟ إضافةً إلى أنّه لا يخلو مشروعٌ تغييري من مفاعيل عكسية، ولا نسمّيها أخطاء؛ لأن الخطأ الذي يُلام صاحب مشروعٍ عليه هو الخطأ الذي يخرج عن الحدّ الوسطي من الاشتباهات، وإلا فلا يحاسب غير المعصوم وكأنّه معصوم؛ كي لا نكون مثاليين في تعاطينا مع الظواهر والأحداث.

من هنا، لابد من حساب مجموع المساوئ والمحاسن مع لحاظ تمام هذه الأمور؛ لكي لا نشطب على مشروع بالمرّة أو نختزله في صور بائسة لا تكاد تفعل شيئاً على أرض الواقع.

على أنّ هناك نقطةً جديرة، وهي أنّ رفض المشروع قد يدفع فرقاء آخرين في الساحة لتبنّيه، الأمر الذي يزيد الأمور تعقيداً ويفتح الهوّة أكثر فأكثر بين الطرفين، أما لو بادرت الجهات المعنيّة التي تعيش قلقاً من الآخر لخوض غمار هذه التجربة فلربما حققت نجاحاً مضموناً؛ كون الأمور بيدها، كما ولربما سحبت شرعية الطرف الآخر الذي قد يغذّي وجودَه على تقليديّة الطرف الأول وانزوائه ومزيد تشدّده، فقد يُنشؤ التطرّف في طرفٍ شرعيةً للطرف الآخر وحجّة، فيما يذيبه الاعتدال أو إقدام الآخر على المشروع نفسه.

2 ـ ما هو الذي نريد أن نجدّد فيه؟ سؤال اختلفت حوله الأجوبة، فبعضهم يرى أنّ المطلوب التجديد في اللغة؛ بأن نبقي الأفكار فيما نغيّر طريقة عرضها، وبعضهم يطالب بتجديدات شكلية أوسع نطاقاً.

أما ما نعتقده حاجةً للتجديد، فليس فقط البُعد الإداري أو التعليمي أو اللغوي أو.. وإنما الخطاب الذي يعني بُنية التفكير وطرائق التعقل، فهذا هو المحور الرئيس الذي يرفد سائر المحاور التجديدية، فعندما تتداوى المعدة يصبح الشكل الخارجي للوجه أكثر نضارةً بزوال البثور عنه، من هنا كان اعتقادنا بأن فشل جملة من تجارب الإصلاح إنما جاء من سطحية تناولها للمشكلة، فعندما تبسّط المشكلة ثم تضع حلاً لها فأنت لا تكون قد فعلت سوى عملية تخدير مرحلية، سكّنت الأوجاع، ثم ما تلبث أن تتجدّد، وربما يكون التجدّد تأزيماً أكبر للواقع؛ لأن مرور الزمان يزيد الأمور تعقيداً وتفاقماً.

من هنا الإصرار على ضرورة تناول الملفات الحسّاسة، ذات الطابع المعرفي والمنهجي؛ لأنها التي تمثل عصب التفكير، وبإعادة النظر فيها وإعادة ضخّ التفكير حولها يمكن وضع الإصبع على الجرح، وإن كان المهمّ ـ قبل ذلك ـ أن نحسّ بهذا الجرح ونتألّم.

لهذا كان تناول الموضوعات الحساسة فكرياً حاجةً، لا لرغبةٍ في التشكيك أو جموحٍ نحو الذاتية، بل لرؤية تجد أنّ في بنية التفكير أزمةً، وفي الممارسة أزمة، فعلى كلّ منّا السعي لاستلام ملفّ من هذه الملفات لدراسته ووضع تصوّر عنه.

3 ـ هل هناك علاقة بين التجديد والتضليل؟ وهل أنّ مشروع التجديد يؤدّي عادةً إلى تضليل الناس، سيما غير المختصّين منهم؟ وكيف يمكن التوفيق بين الرسالية الدينية وبين الهمّ التجديدي؟

يذهب فريقٌ كبير من علماء الدين المسلمين إلى أنّ عملية التغيير والتجديد لا يمكن القبول بها داخل نظام حريّة الرأي، فالتجديديّون يقولون: إن حركة التغيير لا يمكن أن تحصل في ظلّ قمع وانحصارية وشمولية واستبداد، لهذا كان من الضروري أن تصاحب العملية حرية في الرأي والفكر والتعبير، حتى يتسنّى ـ بإيجاد موجةٍ من الحراك الفكري والجدل المعرفي ـ إحداث قفزة في التفكير عبر ضرب الآراء ببعضها، بل قد تعدّى الدكتور أركون هذا الأمر ليتحدّث عن موضوع الأشكلة، إنّه يرى أنّه لا يمكن تناول موضوعٍ ما قبل أشكلته، بمعنى تحويله الى موضوعٍ إشكالي غير مسلّم به، بل مشكّك فيه؛ إذ بهذه الطريقة يتمّ إسقاط القداسة أو الهالة المصطنعة حوله؛ ممّا يفسح المجال لمعالجته بطريقةٍ علمية غير مؤدلجة أو قلقة.

وهذا الموقف هو ما زال يثير حفيظة التيار المدرسيّ في المعاهد الدينية؛ لأن فسح المجال لحريّة الرأي سوف يؤدي إلى نشر الأفكار الضالّة والمنحرفة، الأمر الذي لا تجيزه الشريعة ولا يقرّه الإسلام، فكيف يمكن أن نسمح للأفكار الضالّة المنحرفة أن تأخذ حرّيتها في مجتمع الإسلام والمسلمين فتضلّ الشبابَ البسطاء، وينطلي أمرها على العامّة من الناس غير المختصّين بالعلوم الدينية؟! فحتّى لو كانت لها فائدة إلاّ أن مضرّات ذلك على تديّن الناس لا تسمح لنا بتبنيّها، من هنا فإذا سمحنا لكلّ جديدٍ فقهيّ مخالفٍ للإجماع أو المشهور أو سيرة السلف أن ينتشر بين الناس فسوف نسقط هيبة الفقه والفقهاء، ولن يثق الناس بعد ذلك برأي هذا الفقيه أو ذاك، بل سيبادرون إلى اعتبارهم أنفسَهم أكثر فهماً منه بحجّة كذا وكذا..

وأمام الموقف الداعي إلى حرية الرأي في العلوم الدينية، سيّما الفقهية وما يتصل بها، والموقف المتحفّظ من ذلك الراغب في أن تبقى أيّ عملية تغيير داخل القنوات الخاصّة بالمؤسسة الدينية حذراً من مخاطر على العامّة من الناس، يفترض أن نسجّل موقفاً يبيّن طريقة تفكيرٍ لمعالجة هذا الموضوع الإشكالي.

أستخدم ـ لهذا الغرض ـ مدخل: استراتيجي وآني؛ ذلك أنّ الموقف من هذا الموضوع يفترض أن يحسب جيداً الأرباح والخسائر، لكن لا بأخذ قطعةٍ زمانية أو مكانية محدودة وإجراء الاختبار أو الدرس عليها، وإنما بتوسعة دائرة التجربة ليُقرأ الحدثُ على المستوى الحضاري العام، فقد أنظر إلى جماعة المؤمنين في مدينتي أو قريتي فأجد ((الآن)) أنّ نشر وجهات النظر المختلفة فيما بينهم سوف يؤدي إلى انحراف ولو خمسة في المائة منهم عن جادّة الطريق الذي ـ وطبعاً ـ أؤمن أنا به، وأعدّ الانحراف عنه ضلالاً وزيغاً.

ومعنى ذلك أنّ هناك أمرين: أحدهما: اعتبار أفكاري هي المعيار، ثم افتراض أنّ أيّ حيادٍ عنها يعني درجةً من الانحراف عن الحق، وثانيهما: أخذ عيّنة ((الآن)) وما يحيط بها زمانياً، وكذا بعض العيّنات المكانية الوسيعة أو الضيّقة في الحسبان، وعلى ضوء هذين العنصرين جرى الحكم.

قد لا يكون معنى للريب في أن نتيجة الحكم ستكون موقفاً سلبياً من الرأي الآخر؛ إذ كلّ الشواهد تصبّ في خانة المعطيات السلبية الناتجة عن فسح المجال له، لكن ماذا يمكن أن يحصل لو عدّلنا الصورة؟

إذا قمنا بحساب الأمور ضمن نطاقٍ محدود، فسوف تنتج معطيات، لكن الأمور عينها إذا حسبناها على نطاقٍ واسع وممتدّ في الزمان فسوف تعطينا تصوّراً مختلفاً، ففي بعض الدول ذات الكثافة السكّانية حدّدت الدولة طفلاً واحداً لكلّ أسرة، لكي تحول دون حصول المزيد من التضخّم السكاني المفضي إلى أزمات اقتصادية رهيبة، والذي حصل أنّ كلّ أسرة فكّرت بحسابها فوجدت أنه عندما يعلم الوالدان بأنّ الطفل أنثى سوف يعملان على إسقاط الجنين؛ لأن الحاجة إلى الذكر أكبر، وحيث إن الخيار محدود، وهو طفل واحد، كان معنى ذلك اختيار أفضل الخيارين الجيدين في حدّ نفسيهما، وهكذا كثر الأولاد الذكور، وبعد مضي عقود من الزمن زاد عدد الذكور في البلاد ثلاثين مليون نسمة عن عدد الإناث، مما خلق أزمة اجتماعية أكثر رعباً وخوفاً.

هكذا تختلف القراءة من قراءة تنظر ضمن إطار، إلى قراءة تحاول أن تستشرف المستقبل والوجود الجمعي للأمة والمجتمع، لا وجود هذا الفرد أو ذاك.

على خطٍّ آخر، ليس من حكم نحكم به لا سلبية فيه، فإذا كان معيار ضعف حكم اشتماله على نقطةٍ سلبية فحسب، عنى ذلك أن أغلب القوانين سوف تزول وتندثر؛ لأن فيها جميعاً عناصر سلبية على أرض الواقع، إنما المهمّ ضرب السالب بالموجب لنخرج من ذلك بحصيلةٍ جامعة، تكون هي ـ لا غير ـ معيار صواب حكمٍ أو عدم صوابه.

ما نتصوّره أن منح الحرية الفكرية داخل الساحة الإسلامية بأطيافها وتوجّهاتها قد تكون له مضارّ دينية على جماعة أو شريحة لزمنٍ أو لفترة، لكن ما نريد أن ننظر إليه هو القراءة على المستوى الحضاري الممتدّ لعقود، لننظر أيّ الخيارين هو الصحيح وفق هذه النظرة؟

إنّ الجواب عن هذا الموضوع لا يكون إلاّ بقراءة التاريخ، فأيّ فترات التاريخ هي الأخصب معرفياً وفكرياً وحضارياً؟ حُقب الاستبداد وإحراق كتب الفلسفة أم حقب التعدّد والانفتاح؟ أليست حقبة المأمون من الحقب الإيجابية لما نشرته من فكرٍ غربي وما سمحت به للعلماء من المناظرة والاختلاف؟ لو مورس القمع في الاختلاف الفقهي هل كنا سنجد هذا التراث الضخم من تعدّد الآراء والمناقشات؟ متى تنمو النظريات والأفكار والمعارف؟ إنّنا نسأل الطرف الذي يمارس القمع اليوم بأشكاله ـ جميعاً أو بعضاً ـ هل كان سيقبل باستخدام منطقه في حقّه؟! ألا ينادي الإسلاميون اليوم في البلاد العربية بالديمقراطية وحرية التعبير، فما بال بعضهم عندما تغدو الأمور بيده يظهر أسوأ من الواقع الذي نقده؟! هل هي ازدواجية المعايير التي ندين الغرب عليها أم حكم المصالح الذي نرفضه على مستوى القيم العليا؟! كيف يمكن أن تنهض أمّة لا تسمح بتعدّد الآراء واختلاف وجهات النظر، هل غدت المكتبة الإسلامية والموروث الديني الذي نتغنّى به ونفتخر بكل هذا الثراء بما فسحه التاريخ للآراء جميعها من مجال أم غدت كذلك بالقمع والتكفير و..؟! ولو قدّر لفريق واحد وفقط واحد في ميادين المعرفة الدينية المختلفة أن يبطش بيدٍ من حديد هل أصبحنا حضارةً ومدنية؟!

حذار من المقولات المتناقضة، نمتدح أمراً ثم نذمّ منطلقاته التي أتت به، أو نذمّ أمراً ثم نمتدح مظاهره ونعتزّ بها، فالمفترض أن نكون أكثر منطقيةً وانسجاماً في أفكارنا.

إننا نتكلّم على الصعيد الفكري والعلمي والثقافي، ولا شأن لنا هنا بالحريات الشخصية والإعلامية والسياسية والاقتصادية.

من هنا، يُفترض أن يحسب الأمر على مستوى مصالح الأمّة في مشروعها النهضوي بأطيافها ومدارسها، لا أن نحسب الأمور على حساب قريةٍ أو مدينة، صحيح أن بعض السلبيات سوف تظهر، لكننا مطالبون بالسهر على تفاديها قدر الإمكان، فالعلم لا يسير بفتاوى التكفير بل بقلم المعرفة وعين المنطق.

إن أكبر أخطاء المشروع الإسلامي أن يتعامل في الفكر والثقافة بمنطق العسكر والأمن وأجهزة الاستخبارات، أو يتعامل في قضايا الأمن والعسكر بمنطق الثقافة والفنّ، لا يوجد اليوم عقلٌ واحد يمكن أن يدير حقول المعرفة، فلكلّ حقل عقل، ولكل علم تفكيره، فلا يصحّ التعامل مع الفلسفة بمنطق الفهم العرفي اللغوي المتسامح، ولا يُحكم الفقه بعصا فلسفية، كما لا ينتج الأدب والفنّ في مدارس الرياضيات والفيزياء، وهذه حقيقة يجب وعيها، يجب أن ندرك جيداً أننا في الحياة العلمية نريد رجال علم مزيّنين بسلطة اجتماعية و..، ولسنا نهدف إلى رجال سلطة مزيّنين بعلمٍ ومعرفة، فهذا خطأ تاريخي قلب موازين التفكير في أكثر من واقع إسلامي.

من هنا، نؤمن بمفهوم تعدّدية الفكر في مجال الفقه والأصول وكلّ ما يخدمها من علوم، لا احتكار للمعرفة هناك ولاسرقة لها، إنما فارس الميدان هو الفكر والقول والإقناع والقلم واللسان، ولا نمانع من التوافق على صيغ تضبط حركة الحرية الفكرية تبعاً للخصوصيات المجتمعية والحضارية، شرط أن لا يستغلّ هذا الأمر ـ كما يحصل كثيراً ـ لنسف أصل المشروع واختزاله وإلغائه عملياً.

كما لا بدّ أن نشير هنا إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي مرجعية الإجماع أو الشهرة أو سنّة السلف أو ما شابه ذلك من مفاهيم، كعمل أهل المدينة في المذهب المالكي و.. إنّ هذه المقولات رغم أنها تساعد في بعض الأحيان على التوصّل إلى نتائج في الاجتهاد الفقهي، وهذا شيء لا ننكره، إلاّ أن حجم تأثيرها أقلّ بكثير من الصورة المرسومة لها ولدورها في الاستنباط، ومن ثم فهم رجال ونحن رجال، وكم ترك الأوّل للآخر، فلا يصحّ اعتبارهم مرجعاً نهائياً نضيفه على الكتاب والسنّة، ولو سمّيناه بالطريق إلى السنّة، فإن هذه التعديلات في التسمية لا تغيّر من واقع الأمر شيئاً، وهو أن الكثيرين اليوم يخافون من التوصّل إلى آراء تقع على طرفٍ آخر مما ساد الدرس الفقهي والأصولي، وهذه العقلية القلقة ـ بالمعنى غير الإيجابي للكلمة ـ لن تقدر على تقديم جديد يُذكر، وستبقي الاجتهاد نحواً من التقليد، يدور في مدارات الآخر الذي مضى، فيما المطلوب الخروج من هذا النفق.

ولسنا نريد دراسة هذا الموضوع هنا، بقدر ما نقدّم تصوّرنا عنه، ونراه مسؤولاً عن كثير من مظاهر الضعف والعجز والفشل الذي أصاب ويصيب المؤسسة العلمية في عالمنا الإسلامي.

كما لا نقصد ما يقصده بعضهم من الرغبة في مخالفة رأي مشهور العلماء، سعياً وراء الشهرة أو الصيت ـ والعياذ بالله تعالى ـ فقد عايشنا بعض من أشغف قلبه بحبّ الخلاف، طلباً لذلك، كما نلفت إلى أنّ قيمة الأبحاث العلمية ليست بنتائجها، وأنّها موافقة لرأي من سلف أو لا، بل في مستوى البحث وعمقه ودقته وعلميّته وأمانته وموضوعيته، فما صار شائعاً في بعض الأوساط من احترام شخصٍ لمخالفته للمشهور ليس علامةً صحيّة في الموازين العلمية، وإن دلّت على شجاعة، بل المفروض الجمع بين هذه الشجاعة المعرفية وجرأة المعرفة من جهة، وبين الأكاديمية العلمية والإنصاف وطلب الحقيقة وتوخي شروط المعرفة والبحث من جهة أخرى.

 

الفقه الإسلامي ومستويات الخطاب

لكلّ علم لغته المختصّة التي تحوي مصطلحاته وتراكيبه، ولا تظهر هذه المصطلحات عبثاً، إنما تمثل عادةً مراكمة التطوّر المعرفي لهذا العلم، وهذا ما جرى على علم الفقه وما يتصل به.

لكنّ الملاحظ في علم أصول الفقه السنّي في بعض حُقبه، كما فيما بعد القرن السابع الهجري إلى قرابة قرنين من هذا العصر، وعلم أصول الفقه الشيعي في القرون الثلاثة الأخيرة، دخول العلم حيّز التعقيد اللغوي، مما يجعله بعيداً عن تناول فئات أخرى من المجتمع، ولا ضير في هذه اللغة عندما تكون ضمن الحدّ المعقول، أمّا عندما تدخل دائرة الإفراط والمبالغة التي تتفنّن بتعقيد الكلام حتى لا يكاد يفهمه بعض مختصّي الفنّ أنفسهم، كما عُرف عن بعض كتب أهل السنّة، مثل كتاب التحرير لابن الهمام الحنفي (861هـ)، وشرحه التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (879هـ)، وكتاب المغني في أصول الفقه، لجلال الدين الخبازي (691هـ)، أو بعض كتب الشيعة مثل كتاب: كفاية الأصول، لمحمد كاظم الخراساني (1329هـ) و.. ففي هذه الحالة لا يغدو الأمرُ ظاهرةً صحيّة بل حالةً مرضية داخل العلم؛ لأنها تشغل مختصّيه ـ فضلاً عن غيرهم ـ ردحاً من الزمن بتفكيك الكلمات وتقليب الألفاظ، فيضيع الإبداع في المعنى لصالح الإبداع في التركيب اللفظي.

بل قد تجد من يريد أن يفتخر بهذا التعقيد، فتسمع من أبناء الطائفة الشيعيّة العلماء من يريد نشر نتاجات الشيعة الفقهية والأصولية بين أهل السنّة، وعندما تطالبه بتبسيط اللغة كي تصل الأفكار إلى الطرف الآخر، فهو لا يبالي، بل يعتز بأنّهم لا يفهمون منها شيئاً، في إشارةٍ إلى رغبة في إيصال رسالةٍ للطرف الآخر بالاقتدار العلمي، بدل أن يكون نشر الفكر هو رسالة العلماء والباحثين لا استعراضاً للقوى والتخايل بها.

هنا تموت الرساليّة في المعرفة إلى مصارعة ومطاحنة، ويموت الهدف الرئيس الذي من أجله جاء العلم، ليفهم الإنسانية نفسها ووجودها ومبدءها ومعادها، لا لكي يبخل على الناس بالمعرفة، ادّعاءً بحماقة البشر إلاّ نفسه، وجهالتهم إلاّ هو، فليحسب طلاب العلوم الشرعية الغارقون في دراسة الكتب والمناهج الفقهية والأصولية في الوسط الشيعي، وليتحدّثوا مع أنفسهم في هذا الأمر، كم من عمرهم صرفوا ليفهموا مراد هذا العالم أو ذاك المصنّف بعد صراعات مريرة على تفكيك نصّه وتحليل كلماته؟! ولو أنّ لغة العلم غدت واضحةً شفافة، لا مبتذلةً مستهلكة ولا معقّدة متشابكة، لاختصرنا الوقت وكسبناه في آنٍ معاً، وصرفنا جهودنا الجبّارة على تفكيك المعاني ونقدها وتطويرها وإبداعها.

ولعلّ التأثير الفلسفي على علمَي الفقه وأصوله ساعد على بناء هذه اللغة المعقّدة، وهو خلل منهجي ليس على مستوى اللغة والخطاب العام، بل على مستوى آليات البحث أيضاً؛ فقد جرى استخدام منهج فلسفي في مباحث بحت لغوية استظهارية دلالية، لا تحليلية، كما تأثر الفقهاء أحياناً بالفلاسفة والعرفاء في إقصاء أفكارهم عن التداول العام، كان من أسبابه في الفلسفة والعرفان والتصوّف تصادم مقولات هذه العلوم مع الرأي العام والوعي الديني الشعبي، بل مع وعي الفقهاء الرسميين أيضاً، وبسبب الخوف بأشكاله، اضطرّوا لتعمية مفاهيم عبر إغلاق النصوص وتعقيدتها، بل لقد تواصوا بذلك فيما بينهم، كما حصل مع إخوان الصفا وغيرهم، إلاّ أنّ هذا الأمر لا ينطبق على جهود الفقهاء والأصوليين والمحدّثين و.. ومن ثم فلا معنى لاستعارة هذا المناخ الفلسفي ـ الصوفي إلى علوم تحسب عندهم ظاهرية، ولعلّ الأسباب التاريخية لعبت دوراً كبيراً في هذا الميدان.

إذا درسنا تجربة أهل السنّة في هذا المضمار سنجد ـ تأريخياً ـ أن أصول الفقه السنّي عاش بضعة قرون في ظلمات التعقيد التي مثّلت عصر الانحطاط والدوران حول الذات، بالشروح والحواشي والخلاصات والتعليقات، لكن، ومنذ قرنين، اختلف الوضع حينما دخل الأصول السنّي مرحلةً جديدة في التصنيف، تقوم على الطريقة الأكاديمية الواضحة، وغابت تلك الأزمات نسبياً، وذلك مع مصنفات مثل الخضري الشافعي (1287هـ)، وجمال الدين القاسمي (1332هـ)، ومحمد أمين الدمشقي الحنفي (1355هـ)، ومحمد أبو النجا (1363هـ)، وعبد الوهاب خلاّف المصري (1376هـ)، ومحمد أبو زهرة (1395هـ)، وعلي حسب الله (1398هـ)، وعبدالغني عبدالخالق (1403هـ)، ومحمد أبو النور زهير المصري (1408هـ)، وشعبان محمد إسماعيل وغيرهم كثيرون في الوسط السنّي الحديث والمعاصر، فيما ظلّ الوضع ـ شيعياً ـ على حاله عينها، بل وتضاعف في هذه الفترة، وإن شهد فترات انقشاع، تعتبر تجربة الإمام أبي القاسم الخوئي (1992م) من أبرزها في تنظيم الأفكار ووضوحها واختصارها ومنهجتها، إضافةً إلى بعض التجارب الأخرى، مثل تجربة محمد تقي الحكيم (1424هـ)، ومحمد رضا المظفر و..

من هنا، وفي قراءةٍ لمجريات المعرفة البشريّة، نلاحظ أنّ المعارف الدينية ـ وهذه وجهة نظر شخصية ـ لم يعد حالها كالماضي من خصوصيات رجال الدين، بل صار يشاركهم فيها فريقٌ من المهتمّين، مهما قيّمنا تجربة هذا الفريق الجديد الناهض، وعليه، فالنتاج المعرفي عندما يراد له أن ينمو ويتفاعل لابدّ وأن تتناوله الأيدي جميعها بالردّ والقبول، فحصر علمٍ داخل فئةٍ خاصة جداً، مع مشاركة فريق آخر بل وفرقاء آخرون فيه، شئنا أم أبينا، لا يعني سوى قتلاً له، أو إمعاناً في قمع الآخر وتغييبه واحتكار المعرفة والعلم، وهي أمور نعتبرها باتت مسلّمات في الأخطاء العلمية.

لهذا نجد ضرورةً في نشر ثقافة المعرفة الدينية عموماً، لا ثقافة التلقين، بل ثقافة التواصل والتبادل، في أوساط المجتمع، من هنا كانت الحاجة لمصنّفات أو مجلات لا تعيش لغة الذات الخاصة، فلا يفهمها إلاّ من أصدرها، بل تعيش مع فرقاء المعرفة الآخرين، تشاركهم في نشاطهم المعرفي ويشاركونها في همّها العلمي، ولهذا فإن خطاب الفقه الإسلامي ولغته ينبغي أن يتحرّكا بطريقةٍ أكثر وضوحاً وشفافيةً وانتظاماً، بدل الانزواء في زوايا المصطلحات الخاصّة بجماعة، وكأنها الممثل الأخير والوحيد للشريعة الإسلامية، مهما كان موقفنا من الآخر.

إنّنا نعتقد أنّ ما قام به مثل السيد محمد باقر الصدر في كتاب: المعالم الجديدة للأصول، كان خطوةً أولى، صار يلزمها اليوم مزيدٌ من التفعيل والتنشيط، على غير صعيد ومستوى.

ومن الطبيعي أننا لا نريد هنا استبدال لغة الفقه وعلومه بلغة شعبية جماهيرية تعبوية.. بل نريد أن نكون وسطيين بين اللغة المعقّدة والمستهلكة؛ إذ بذلك يحصل التوافق المرجوّ والمرتجى، إن شاء الله تعالى.

 

الفقه الإسلامي والفقه المذهبي

ومن جملة النقاط الأكثر صعوبةً في دراسة الفقه الإسلامي، مسألة إسلاميّته نفسها، أعني بهذا الأمر أنّ الفقه اليوم فقهٌ مذهبيّ، وليس إسلامياً، ولا نقصد بذلك سلب الإسلامية عن فقه هذا المذهب أو ذاك، بل نتحدّث على مستوى الدراسة والبحث، لا على مستوى الحقّ والباطل، فقد تجد فقيهاً متضلّعاً في الفقه الحنبلي، لا تكاد تخلو مسألة لا يعرف أقوال أحمد بن حنبل فيها، وما روي عنه في أمرها، لكنه لا يعرف شيئاً عن الفقه الجعفري، وكأنّ هذا الفقه يقبع خارج تجربة الإسلام التاريخية، والعكس هو الصحيح، وهنا نقاط:

أ ـ قد يعالج هذا الموضوع على مستوى الاطلاع، فيقال لك: نحن إن شاء الله ندرّس الطالب الفقهَ الجعفري، أو الفقه المالكي أو.. فيطلع عليه، بحيث نضع له مثلاً مادة درسيةً لأشهر عدّة للاطلاع على فقه المذاهب الأخرى، وهذه خطوة إيجابية، ومرحلة متقدّمة مشكورة، ذلك أنها تخرج عالم الدين عن دائرة الجهل المطبق والإقصاء التامّ للآخر، لكن هذا لا يكفي.

ب ـ في مرحلةٍ لاحقة يحصل أن نطوّر درسنا في الفقه المقارن أو أصول الفقه المقارن، فنخصّص قسماً من اهتمامنا العلمي للدراسات المقارنة بين المذاهب الإسلامية، وقد بذلت جهود مشكورة في هذا المضمار على مستوى المذاهب الإسلامية كافّة حتى اليوم، وما زال الأمر يحتاج إلى مزيد نشاط، فتُدرس نظرية أو مسألة عبر مقارنة المواقف فيها بين المدارس الفقهية عند المسلمين ممّا يفتح أفق الباحث الديني ويجعله يحلّق عالياً ليشرف على موروث المسلمين جميعاً، لكنّ هذا لا يكفي أيضاً.

ج ـ في مرحلةٍ أكثر تقدّماً نجد بعض العلماء المهتمّين بفقه مذهبٍ آخر، ليس على مستوى الاطلاع العام، ولا على مستوى الفقه المقارن هنا أو هناك، بل على مستوى الاختصاص، فيقضي ردحاً من عمره منكبّاً على دراسة فقه المذهب الآخر يدرسها بعمقٍ ودقّة وشمولية، لا بعجلةٍ وابتسار ومرور.. لكن ينطلق في بواعث خطوته هذه وأهدافها من دافعٍ نقدي، أي أنه يريد بكلّ هذا الاختصاص نقد الفكر الآخر، فيدخل الميدان حاملاً نتائج مسبقة على مستوى الصواب والخطأ، ثم يريد ـ بدراسته هذه ـ نقد الآخر وإبطال مقولاته، فبطلان مقولات الآخر افترض مسلّماً قبل الاطلاع التفصيلي عليها، ووضعت النظارات السوداء لدى قراءة مصادره ونتاجاته.

وعلى أيّة حال، فهذه أيضاً خطوةٌ متقدّمة مشكورة، لكنها ليست الهدف الذي نتوخّاه.

د ـ وفي المرحلة الأكثر تقدّماً وإنصافاً وعلميةً من وجهة نظرنا، يقوم الباحث الديني، الفقيه أو الأصولي أو الرجالي أو المحدّث، وعندما يدرس أيّ موضوع فقهي أو أصولي أو حديثي أو..، وقبل أن يكوّن رأياً فيه، يقوم باعتبار التراث الإسلامي بمذاهبه مادةً لدراساته، فيدرس وجهات النظر المختلفة بموضوعيّة عالية، لا يهمّه أن يكون صاحب هذا الرأي أو الدليل هو الشافعي (204هـ)، أو ابن قدامة المقدسي الحنبلي (620هـ)،  أو الطوسي الإمامي (460هـ)، أو السرخسي الحنفي شمس الأئمة (483هـ)، أو ابن تيمية الحنبلي (728هـ)، أو ابن عابدين الحنفي (1252هـ)، أو ابن الحاجب المالكي (570هـ)، أو أبو عبدالله المالكي التلمساني (771هـ) أو .. فكما تستعرض في كلّ بحث فقهي دليلَ الطوسي والحلّي والبحراني والهمداني والخوئي و... فتقيّم كلّ دليلٍ طبقاً لقناعاتك، عليك في هذه المرحلة أن تضمّ آراء وأدلّة المذاهب الأخرى، فلا يُستبعد رأي فقهي لأن صاحبه شافعي، أو يُنفى بعيداً لأنه جعفري أو.. ذلك كلّه بعيداً عن الحكم المسبق على جهود الآخر ونتاجاته.

هذا هو الاجتهاد الإسلامي الذي نفهمه، لا ينطلق من مواقف عقائدية ليحكم على فقه الآخر بالإقصاء والتغريب، بل يدرس التراث الإسلامي ومساهمات المعاصرين دون سخريةٍ بها أو استهزاء، وينظر إلى المنطقيّ منها حتى لو كان قد ذهب إليه غير أهل مذهبه، لا ينزعج من ذلك، فمن يعرف الفقه وعلومه يعرف أنّ الكثير من منطلقاتها لا تختصّ بمذهبٍ أو آخر.

إنّ العقلية الطائفية والدوغمائية في الفقه الإسلامي سوف تدمّره وتُعجزه في نهاية المطاف ولن تقوّيه، لهذا لابدّ من مزاوجةٍ وتعاون، أمّا أن يقال: إنه لا توجد روايةٌ معتبرة في المصادر الحديثية السنّية كافّة ولا رواية معتبرة في تمام المصادر الحديثية الشيعية.. فهذا أمرٌ غير عقلاني ولا منصف في حقّ الغير، إلاّ على بعض النظريات الأصولية المحدودة.

لا يكاد ينقضي عجب الإنسان، كيف تقنع نفسه بفراغ الذمّة بينه وبين الله تعالى دون أن ينظر في جهودٍ عملاقة لأكثر من ألف عام، بل يشطبها من دواوين الدين والمعرفة؟! أليست هناك أيّ فائدة في معرفة رأي الآخر والاطلاع على مصادره ومصنّفاته؟! كيف يمكن أن ندير علوماً كبرى كعلم الفقه بمثل هذا النمط من التفكير؟! كيف أسمح لنفسي أن أقول: الشيعة لا علماء لديهم ولا مصنّفات ولا علوم أو أصف علوم أهل السنّة بالفارغة الخاوية؟! ولو سألتَ كثيراً ممّن يقول هذا الكلام عن أسماء خمسةٍ من علماء الطرف الآخر لما عرف، لكنّه سمح لنفسه أن ينبذ كلّ هذه المعرفة بل يرميها في سلّة المهملات، ولو سألته توضيح نظرية لربما عجز عن أبسط أنواع البيان، كم هو عدد علماء الدين السنّة الذين يعرفون نظرية الحكومة في أصول الفقه الشيعي أو نظرية الورود؟! وكم عدد علماء الدين الشيعة الذي يعرفون شروط القياس وأنواعه الكثيرة أو قرؤوا كتاب الموافقات للشاطبي (790هـ)؟! أليس من المعيب أن يؤلّف الكثير من الكتّاب السنّة في تاريخ الفقه الإسلامي ولا ينبسون ببنت شفة عن تاريخ الفقه الشيعي وإذا ذكروه فبصفحةٍ أو صفحتين، وكأّنه خارج الفكر الإسلامي بالكليّة؟! وأليس من الغريب أن تنظر في عشرات دروس بحث الخارج ـ وربما المئات ـ على امتداد العالم الشيعي، تلك المحاضرات التي تحوي آخر نتاج التطوّر الفقهي والأصولي للمسلمين الشيعة، ولا تصادف في تاريخ هذه الدروس وقفات نقاش أو بحث مع الطرف السنّي إلا نادراً؟!

ليس جزافاً القول: إن أسباب هذا الموضوع كثيرة، يرجع كثيرٌ منها إلى أزمة ثقة بين المذاهب، ألم يُتهم أبو حنيفة في بعض الأروقة بأنّه سرق؟! أو يدان الشافعي بأمور يعيب التكلّم بها؟!..

ولعلّ وجهة نظرٍ تختلف عما تقدّم تجد لنفسها مبرّرات، أبرزها:

المبرر الأول: وهو من المبرّرات النفسية التي يعيشها كلّ طرف، على أساس أنّ هذا اللون من الفقه أو الأصول سوف يذهب خصوصيّة الذات، وستتلاشى معالم المذهب، ويقلّ التمسّك بها، فحذراً من هذا الانصهار نستبعد ـ من البداية ـ كلّ نتاج الآخر، لنظلّ سالمين من تأثيراته السلبية، فلعلّ كثرة استخدام القياس والتعايش معه، تخفّف من قبحه لدى الفقيه الشيعي، مما يكسر أصالته المذهبية، ولعلّ كثرة رجوع الفقيه السنّي إلى مصادر الحديث الشيعية سوف تسمح بنفوذ الأفكار الشيعية الضالّة ـ حسب رأيه ـ إلى عقله وتقبّله لها، مما يدفع إلى الخوف على دينه وإيمانه.

ونحن نقدّر هذا الخوف أو القلق؛ لكننا لا نجده مقنعاً؛ لأنه إذا أردنا الإخلاص لهذا القلق، فعلينا عزل أنفسنا عن كلّ نتاجات المعرفة في العالم، ليس في الفقه وحده، بل في تمام العلوم؛ لأنّ المحذور واحد والقلق واحد، على أنّ مثل هذه التطبيقات لا تمسّ أصول الفقه في غالب الحالات، فلماذا لا ندرس القياس دراسةً موضوعية قبل أن نحكم عليه دون أن نعرف شروطه وقيوده عند أهل السنّة؟ مع أنّ هناك وجهة نظرٍ تقول: إن كثيراً من خلافات أصول الفقه بين المذاهب ترجع إلى معارك لفظية لا أكثر، أو لا أقلّ يكون الخلاف في شروط نظريةٍ أو قيودها، لا في أصلها، مثل سدّ الذرائع، والمصالح المرسلة، ومقاصد الشريعة و..

وإذا كان بعضهم يقول: إن بطلان القياس غدا من المسلّمات، كما بطلان سنّة أهل البيت E بوصفها دليلاً مستقلاً، فإننا نقول له: متى بُحث هذا الموضوع بجدّية واستيعاب آخر مرّة لا في سياق معارك جدلية وصراعات مذهبية؛ وإذا كان مسلّماً في العقل الجمعي لهذا المذهب أو ذاك، فهل يصحّ هذا الكلام إقناعاً لباحثٍ مفكّر يبتغي الحقيقة بنفسه لا بغيره، فوصول غيري إلى ما رآه حقيقةً لا يعني أنّ ذاك الأمر صار لابدّ أن يكون حقيقةً عندي، لا سيما مع تطوّر النظريات، فقد أضاف أهل السنّة شروطاً على القياس ضبطت حركته، وهكذا الحال في النظريات الشيعية.

وأعتقد ـ عموماً ـ أنّ هذا القلق غير مبرّر علمياً، ففي العلم تطلب الحقيقة بواسطة المنطق والأدلّة، ولا تحاصر الأفكار سلفاً، وكأنّ احتمال الخطأ عندي يضارع في استحالته اجتماع النقيضين.

المبرر الثاني: وجود اختلاف في الأصول الموضوعة، على أساس أن أسس المذاهب تختلف فيما بينها، فلا معنى للبحث الفقهي، فالكثير من الأحكام عند الفقه السنّي يقوم على القياس، مع أن المذهب الإمامي يرفض القياس، وهكذا..

وهذا الأمر ـ مع صحّته في بعض الحالات ـ غير أنه لا يشكّل مبرراً؛ ذلك أننا نعرف أن العلماء كانوا ـ وما زالوا ـ يناقشون بعضهم نقاشات بنائية ومبنائية، وهذا يندرج في النقاشات المبنائية لا البنائية، بمعنى أنه لنفرض أنّ أحد أدلّة مسألة فقهيةٍ في مذهبٍ سنّي يقوم على القياس، بالإمكان إذا كنت اختلف معه في أساس القياس، أن أناقش دليله بأنّه باطل لبطلان أساسه الذي قام عليه، وهذا ما يسمّى بالإشكال المبنائي في اصطلاح الفقه الشيعي.

لكن ليست كل المناقشات مع الأطراف الأخرى من هذا النوع؛ فهل تفسير النصوص القرآنية في الفقه السنّي كلّه قائم على الأصول الموضوعة؟! وألا يوجد تشابهٌ كبير بين أصول الفقه الشيعي والسنّي، وكذا بين أصول الفقه في المذاهب الأربعة رغم ما بينها من اختلاف، إنّ درساً تاريخياً لتطوّر علم الفقه وأصوله ـ شيعيّاً وسنياً ـ هو من سيقنع الطرف المختلفين معه، بأنّ الأمور المشتركة أكثر مما نتصّور، مع الإقرار بوجود عناصر اختلاف رئيسة، هل ترك علماء الشيعة آراء صاحب القوانين الميرزا القمي (1231هـ) مع اختلافهم معه في بناءات أساسية في أصول الفقه؟! أم ترك علماء السنّة آراء ابن حزم (456هـ) وداوود بن علي بن خلف (270هـ) من علماء الظاهرية رغم الاختلافات العميقة معهما؟!

من هنا، نعتقد أن الموضوع موضوع ثنائي: الأيديولوجيا، والقلق النفسي، وبحلّ هذا الثنائي من داخل النسيج المعرفي الإسلامي سنجد ضرورة هذا الموضوع، وأنه لم يعد مجرّد خيار، مع إقرارنا بحقّ كل إنسان في الدفاع عن قناعاته، فليس هذا الطرح للمجاملات ولغة الصالونات، بل لإنضاج المعرفة، مع محافظة كل إنسان على ما يراه حجةً بينه وبين ربّه عزّ اسمه، فالحديث عن أن التقريب والانفتاح على الآخر مشروع يهدف للتخلّي عن آرائنا مقولة قديمة يحاسب فيها من قصّر في بناء قناعاته أو شعر بالضعف النفسي أمام الآخر، إنما نطالب بالانفتاح على الآخر؛ لإنضاح المعرفة الإسلامية ككل، ولا ضير في أن تكون للآخر مواقف صائبة نتّبعه فيها ما دامت حقاً، فإن الحقّ أحقّ أن يتبع.

 

الفقه الإسلامي بين الاجتهاد الاستدلالي والحاجات المعرفيّة الأخرى

تسكن أوساط المؤسّسة الدينية في بعض جوانبها وفئاتها قناعةٌ بأنّ أيّ جهدٍ فكري يطال الفقه الإسلامي، يبقى يتمتّع بالدرجة الثانية قياساً بالأبحاث الفقهية الاستدلالية المدرسية التي تعبّر عنها أبحاث الخارج في الحوزات العلمية، وعلى سبيل المثال تُحسب دراسات فلسفة الفقه، الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية، الفقه المقارن مع الفقه الوضعي والقوانين المدنية، الدراسات التاريخية للفقه الإسلامي، فلسفة الأحكام ومشاريع العقلنة... تحسب دراسات من الدرجة الثانية، بل ما يزال يراها فريق ـ مع كامل الأسف ـ غير ذات أهميّةٍ ولا قيمة، أمّا لو قضى عمره بأبحاث باب الطهارة يجتهد بها فهو يشعر بالاعتزاز والثقة.

ليس هذا فحسب، بل حتى المؤمنين بهذه الاهتمامات العلمية لا يقدّم كثيرٌ منهم نفسه على المستوى عينه الذي يفعله الفريق الآخر، فيظلّ الفقه تحت سلطة إحدى وسائل معرفته، وإحدى جهات النظر إليه.

والذي يبدو أنّ سبب هذه الظاهرة الخاطئة من وجهة نظرنا عدم الاطلاع حتى الآن على تأثير هذه الألوان من الدراسات على تطوير المعرفة الفقهية، كما وعدم الاقتناع بقدرتها على تغيير العديد من القناعات الفقهية، ولعبها دور القفز المنهجي في هذا العلم وما يتصل به من علوم.

ما زال ينظر اليوم إلى مثل هذه الدراسات بوصفها مما يسمى ((ما وراء الفقه))، أي شيءٌ ما يتصل بالفقه، وكأنّ الفقه ـ وهو العلم الذي يدرس الشريعة ـ لا يعني سوى شكلٍ واحدٍ من أشكال دراستها، علماً أنّ بعض هذه الموضوعات لا يقلّ عن بعض موضوعات الفقه أو أصول الفقه، مثل مقاصد الشريعة، أو تاريخية السنّة النبوية، أو.. مما يدفع إلى ضرورة إدراجها في الدرس الرسمي في الحوزات الدينية، لا تناولها دوماً على هامش البحث الرسمي.

بل إننا نرى أن كثيراً من فقهاء الحوزة وفضلائها ما زالوا على قناعة بأنّ اللغة والتركيب الخاصّين هما مظهر القوّة العلمية للفكرة المطروحة، فأنت الآن لو كتبت بحثاً بلغةٍ معاصرة ثم عرضته على هذا الفقيه أو ذاك لربما اقتنع بأنّه بحث جيد، غايته ليس بالعلمي ولا المتخصّص، أما لو أعدت صياغة البحث نفسه بلغةٍ تعتمد الاختصار والمصطلح الخاصّ وتركيب الأبحاث على طريقة: الوجه الأول، والوجه الثاني، ويرد عليه، ويشكل ويناقش، و.. فإن البحث يغدو أكثر علميةً، وهذا ما يجعل الفكر خاضعاً للغة لا للمضمون والمحتوى.

وفي السياق أيضاً، نجد أن أبحاث الخارج والدراسات الاجتهادية العليا في الحوزات العلمية ما زالت تعتمد ـ خصوصاً في أصول الفقه ـ منطق ((الدورة الكاملة))، أيّ أنّ كل عالمٍ فقيه يُفترض أن يقدّم نظرياته وآراءه في موضوعات هذا العلم كافّة، وهذا ما يساعد على ضعف قدرة الإبداع عندما يتضخّم الحجم الكمّي للعلم؛ لأن الطاقة سوف تنفلش على نطاق أوسع، أما لو ركّز هذا الأصولي نظره على بعض الملفّات الأساسية ليُبدع فيها فيقضي بها عمره، فيما خصّص الآخر نفسه لملفّات أخرى وهكذا في الفقه والحديث.. لكان مجال الإبداع أكبر؛ لأن هناك تركيزاً مكثفاً على دوائر أضيق، فلم يعد هناك اليوم من يؤلّف دورةً كاملة في علم الرياضيات تتناول تمام موضوعاته، نعم يدرُسُه ويطّلع عليه ويملك مفاتيح وروده والخروج منه، أما أن يطالب بالاجتهاد وإبداء الرأي في علمٍ بأكمله، فضلاً عن علوم، فهو ما نراه يضعف قدرة الإنتاج، ونجده مسؤولاً عن بعض أسباب الاجترار المعرفي الذي يملك بعض المظاهر في الأوساط العلمية.

لقد كبُرت العلوم الدينية وتعاظمت، فلو أردنا اليوم أن ندرس نظرية الدلالة في أصول الفقه، فنحن بحاجة للكثير من الدراسات اللغوية الجديدة لنقرأها ونقرأ مساهمات جادّة كتبت في هذا الموضوع ونناقشها ونبني تصوّرات بعد ذلك، لا أن نبقى مع أربعة أو خمسة أصوليين متأخرين نروح ونغدو على موائدهم، وكأنها نهاية التاريخ وخاتمة العقل، مع تقديرنا للعقل الإبداعي النادر الذي حملوه، من هنا كان جهدٌ من هذا النوع بحاجةٍ إلى عمر ووقت، وإلى إبداعات تواكب تطوّر المعرفة.

لو وضعنا يدنا اليوم على دورةٍ أصولية، ثم أخرجنا منها مقدار الإبداع، وتركنا التكرار وتوضيح قول الغير، لما جاوزت مائة صفحة ـ ربما ـ نسبةً إلى عشرة مجلّدات؛ لأن الدراسات تعيش حالةً من الرتابة والتكرارية، فالكثير يعيد نظريات محدودة ويعلّق عليها، وهذا مسؤول عن بعض إخفاق حركة الإبداع في أوساطنا.

من هنا، فالمفترض:

أ ـ تحكيم مضمون الأفكار وجعلها معياراً قبل لغتها، دون ممارسة استخفاف كامل باللغة.

ب ـ عدم الجمود على صيغةٍ واحدة للبحث الفقهي وكأنها صيغة حصرية، بل محاكمة الأفكار طبقاً لمعطياتها لا لشكلها وأسلوبها فحسب.

ج ـ فتح ملفات الجوانب المعرفية الأخرى المتصلة بعلم الشريعة وعدم اعتبارها درجةً ثانية؛ لأنها سوف تلعب دوراً كبيراً في القفز المعرفي وليس المشي العلمي.

د ـ التركيز على التخصّص بمحاور، بدل الانفلاش على علوم؛ لأن العلوم الدينية تطوّرت بشكلٍ مذهل، سيما وأن بعض الموضوعات المستحدثة يحتاج درسها لتبيّن طبيعة الموضوع إلى وقت، فكيف يستطيع فقيهٌ معالجة هذه الموضوعات الكثيرة بأوقات بسيطة إذا أراد أن يكون منصفاً وموضوعياً إلاّ في حالات نادرة وعبقرية ليست هي معيار تقويم العلوم وسيرورتها؟

هـ ـ إدراج بعض الموضوعات الجديدة داخل البحث الفقهي والأصولي المدرسي؛ لأن فيه هذه القابلية، وعدم البقاء أو الإصرار على اعتباره خارج هذا الدرس العلمي.

 

الفقه الإسلامي ومناهج التصنيف

يودّ كثيرٌ من الباحثين في الفقه الإسلامي أن يصنفوا فيه فيخدموا هذا العلم بما يملكون من طاقات، وقد تطوّرت أساليب التصنيف في الفقه وعلومه، فمن موسوعات فقهية كجواهر الكلام للنجفي والمغني للنووي، إلى مصنفات أقلّ موسوعيةً، إلى رسائل مفردة في الفقه كما في كتاب ((الدرر النجفية في الملتقطات اليوسفية)) للمحدث البحراني و..

وفي القرن العشرين، بدأ رجال الدين بالتفكير في استخدام وسائل المثاقفة الحديثة، ومن أبرزها المجلات والنشريات والدوريات، فظهرت في بلاد الشام مجلّة ((العرفان))، التي كتب فيها رموز كبيرة في الفكر الشيعي، وظهرت في بلاد مصر مجلّة ((المنار))، التي ساهم فيها رجالٌ كبار في الفكر السنّي، كما ظهرت في العراق مجلّة ((الأضواء))، التي كان للسيد محمد باقر الصدر مساهمةٌ كبيرة فيها، وفي إيران ظهرت مجلّة ((مكتب إسلام))، ليشارك فيها من صاروا اليوم من أبرز رموز الفكر الديني في إيران وهكذا.. إلى غيرها من المجلات.

وفي تسعينات القرن العشرين، شهد المشهد الشيعي ثورةً في هذا المجال، فدخلت المجلات الدينية مدخلاً جديداً من حيث الحجم والكمّ والكيف والنوعية، حتى صارت لكلّ علم مجلاته الخاصّة به.

ورغم ذلك كلّه، ومع هذه النهضة الكبيرة، إلاّ أن بعض الأوساط الحوزوية ـ مع الأسف ـ ما زالت تنظر ـ وهو ما يثير العجب ـ إلى دور المجلات الثقافية وورشات العمل الفكرية بالمعنى المعاصر نظرةً دونية، مع أنّه إذا كان بين كلّ عشر مقالات مقالٌ مهمّ، فبين كل عشر كتبٍ فقهية واحد مهمّ أيضاً، وهذا أمرٌ طبيعي.

نحن نرى ـ ويحدونا الأمل ـ إلى أن الأمور ستطوي هذه الصفحة وتلغيها، كما انتهت صفحات في تاريخ الفكري الديني، كيف ندّعي الانضواء تحت لواء مثل السيد الصدر وهو الذي كتب في الأضواء قبل زهاء نصف قرن ثمّ نتعيّب من الكتابة في المجلات الفكرية المعاصرة؟ هل التقدّس هو الابتعاد عن شفافية الأفكار وعرض الذات بصورة واضحة أم هو الاحتماء خلف لغةٍ صعبة منغلقة داخلياً؟

إننا ـ ومن موقفنا التعددي في الفكر ـ نعتقد أن المعرفة الدينية لم تعد حكراً على أحد، وأن المجلّة الفكرية سبيل لنشر هذه المعرفة وسماع أصوات تيارات ومستويات مختلفة في قضايا الفقه وغيره، لكي تنفتح العقول كلّها، ويحصل من تضارب الأفكار مولود نابض بالحيوية والعطاء، وكلّنا اعتقاد بأنّ الكثير ممن ينتقد قد يؤمن بما نقول، لكن ظروفاً قد تمنع القول أو تحول، قال تعالى: >بل الإنسان على نفسه بصيرة< (القيامة: 14).

من هنا، جاءت فكرة مجلّة ((الاجتهاد والتجديد))، لتطلق التداول المعرفي للفقه في الميدان، فتتجاذب هذا العلم وما يتصل به من العلوم والرؤى والأفكار.

وبهذه المناسبة، نعرّج على ذكر الخطوة / المبادرة التي أطلقها أستاذنا السيد محمود الهاشمي الشاهرودي حفظه الله تعالى، بطلبٍ أو رغبة من الإمام السيّد علي الخامنئي رعاه الله، عبر تأسيس مجلّة فقهية متخصّصة في الحوزة العلمية باللغتين: العربية والفارسية، هي مجلة ((فقه أهل البيت))، وربما كانت المجلّة الأولى ذات الطابع التخصّصي في هذا المجال، ونقدّر الجهود المباركة التي قدّمت الكثير من الدراسات الجديدة والمفيدة، وقد حمل أصحاب المشروع والعاملون فيه همّ نشر المعرفة الفقهية وإنتاجها في الوقت عينه، مما يفرض علينا شكر هذه الجهود وتقديرها واحترامها ودعمها، مع العلم بصفاء نيّة أصحابها وهدفهم خدمة الفقه الإسلامي، لكن ذلك لا يمنع من تنوّع الجهود، سيما وأنّ هذا التنوّع يخدم الرسالة الأساسية للجميع، وهي خدمة الفقه الإسلامي وتطويره.

 

مجلّة ((الاجتهاد والتجديد))

طبقاً لمجمل ما تقدّم، تأتي خطوة مجلّة ((الاجتهاد والتجديد)) مكمّلةً لجهود سبقتها، آملةً في أن تقدّم للقارئ العربي مساهمةً أو تضع لبنةً لرفد المعرفة الدينية بالجديد المفيد إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الإطار نوجز ـ سريعاً ـ السياسة العامّة للمجلّة ضمن ما يلي:

1 ـ تؤمن المجلّة وتحترم تمام المساهمات الفقهية و.. مهما تنوّعت وتلوّنت، سواء وافقتها أم لم توافقها؛ لهذا فهي تنطلق من أساس تعدّدي انفتاحي في الفكر، لا يحجر على أحد، ولا يحكم عليه سلباً أو إيجاباً، بل تسعى لتفسح المجال له كي يقدّم آراءه ونظرياته، فيكون بجماع الآراء نموّ العلم ورقيّ المعرفة.

من هنا، ستسعى المجلّة لكسر ألوان الحظر على الأشخاص أو الدراسات لأيّ اعتبارات شخصية أو عقائدية أو مذهبية أو ثقافية أو سياسية أو عرقية.. سواء كان الأشخاص من المنتمين إلى المؤسسة الدينية أو خارجها، يؤيدون الفقه السائد أو يرفضونه..

ولا يمنع المبدأ السالف من امتلاك المجلّة حقّ تقويم الدراسات المقدّمة والقبول بها أو رفضها، طبقاً لمعايير محض علمية أو فنية شكلية، لا غير.

2 ـ حيث الفقه هو محور جملة علوم؛ لذا تتسع المجلّة للدراسات الفقهية والأصولية والحديثية والرجالية وما يتصل بالفقه الإسلامي، سواء الشيعي أو السنّي، وهي تشدّ على أبناء المذاهب المختلفة أن يساعدوها في رسالتها، كونها ترى نفسها مظهراً من مظاهر التقريب بين المذاهب الإسلامية.

3 ـ لا تنتمي المجلّة ـ بما هي مجلّة ـ لأيّ تيار سياسي أو غيره، نعم تميل للتجديد، كما يلوح من عنوانها، وتشجّع على النقد الأمين والأصيل، دون أن تقزّم جهود أيّ فريق موجود له حضور في الساحة، من هنا، فالمجلّة كيان مستقل منفتح على الجميع، ويرغب بالتعاون.

4 ـ تتخذ المجلّة طابع المجلات المزدوجة بين البحثية والترويجية، بمعنى أنها سوف تكون في قسم منها متخصّصة، تخاطب المهتمّين المختصّين، وتحاول في خطابها أن تنتج معرفةً مفيدة، وفي قسمٍ آخر تهدف التعريف، كنشر بعض الدراسات التي تعرّف أبناء المذاهب بنظريات إخوانهم في المذاهب الأخرى، ومن المنطلق عينه، تسعى المجلّة لكي لا تخاطب طلاب الحوزات والمعاهد الدينية فحسب، بل تنفتح على مخاطبة الشرائح المهتمّة أيضاً أو المتابِعَة، لهذا يتوقع لها أن تشهد تنوّعاً إذا تعاون الجميع معها.

وبالمناسبة عينها، تؤكد المجلّة على أنها ستسعى لتكون لغتها مفهومةً لأكثر القراء المهتمّين بها، لا أقلّ في بعض محاورها ودراساتها، إذ لا يمكن تبسيط الأمور بشكل غير منطقي أو تجاهل طبيعة التخصّصية الموجودة في أيّ علم، ولهذا سيرى فيها المختصّ بعض الدراسات غير المعمّقة جداً، كما سيرى فيها غير المختصّ دارساتٍ قد لا يفهمها، وهذا ناتج عن طبيعة تنوّع الأداء الذي ستقوم به المجلّة، وعن طبيعة الكتّاب أيضاً، وهي تدعوهم لتقديم دراساتهم بالقدر الممكن من الوضوح الذي يجمع بين العمق والتخصّصية من جهة والشفافية والجلاء من جهة أخرى.

5 ـ وفقاً للرسالية التي تنطلق منها المجلّة، توجّه نداءً لطلاب العلوم الدينية كافّة أن يراسلوها بدراساتهم؛ إذ ستخصّص لهم عنايةً واهتماماً مميّزين، بغية التشجيع على تقديم دراساتهم، سيما أصحاب الرسائل الجامعية والحوزوية منهم، وتعد المجلّة أنها ستتعاون ـ حتى المقدور ـ في هذا الأمر، ولن تتعالى عليهم أو تجعل نفسها حكراً على رجال الفكر الكبار، فالمعرفة باتت جمعيةً لا تقوم على سياسة الأفراد الأبطال التي شهدها تاريخ العالم فيما مضى.

>قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ<

[الزمر: 9].

_______________


(*) نشر هذا المقال في العدد الأوّل من مجلة الاجتهاد والتجديد، شتاء عام 2006م.