hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

فقه الحج ـ الضرورات والحاجات

تاريخ الاعداد: 9/20/2011 تاريخ النشر: 5/11/2014
88520
التحميل

حيدر حب الله

 

تمهيد

تعدّ فريضة الحج من الفرائض الكبرى في الإسلام، وهي أحد الأركان الخمسة التي بني عليها هذا الدين، فقد جاء في الرواية التي تعدّدت طرقها عند السنة والشيعة: «بني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية...»([1]).

أو «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»([2]).

ومهما اختلفت صيغ هذا الحديث عند السنّة والشيعة، وهو الحديث المعروف بحديث دعائم الإسلام، فإن الحج إلى بيت الله الحرام، يمثل القاسم المشترك بين صيغه إلى جانب بعض الفرائض الأُخرى، وهذا ما يعطي للحج أهمية إضافية، إذ يجعله بمثابة العمود الذي يقوم عليه البناء، كما يقوم على الشهادتين وغيرهما.

ومن منطلق الأهمية التي يحظى بها الحج في النصوص الإسلامية والتراث الإسلامي، يبدو من الضروري أن يكون للفقه الإسلامي دوره في الاهتمام بهذه الفريضة العظيمة، وأن تكون للفقه مساهمة تعطي هذه الفريضة مكانتها الطبيعية التي يخبرنا عنها حديث الدعائم، كما نفهمها قبل هذا الحديث من ذيل الآية الكريمة التي تشرّع هذه الفريضة، حيث قال تعالى: ﴿... وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾([3]).

وكأنني أريد هنا أن أضع ميزاناً لقيمة فقه الحج الذي يمارسه الفقيه المسلم؛ فإذا قدّم الفقه حجاً مفرّغاً من كلّ قيمة يساعد على تهاوي الإسلام والمسلمين، ويعزّز من تخلّف الأمة الإسلامية؛ فلن يكون هذا الحج هو الحج الإبراهيمي المحمدي؛ لأن هذه الحالة التي يعاني منها لن تضعه في مصاف العبادات التي يقوم عليها الإسلام الذي قدّم الإنسان وحرّره، وصنع منه حضارةً كبرى في تاريخ الإنسانية؛ وهذا ميزان ومؤشر لصواب حركة الفقه الإسلامي في نتائجه.

ونحاول هنا أن نتحدّث عن حاجات الدراسات الحجية المعاصرة؛ ونقدّم بعض الملاحظات العابرة، رغبةً في المساهمة بتفعيل دور هذه الدراسات لخدمة الأهداف الكبرى للشريعة الإسلامية.

الحج وفقه النوازل والمستحدثات

يواجه الفقه الإسلامي على الدوام طوارئ ومستجدات تحصل في الواقع؛ وتلحّ عليه أن يجيب عنها، وتسمّى هذه المستجدات في الفقه الشيعي بمستحدثات المسائل، فيما يغلب في الفقه السنّي تسميتها بفقه النوازل، وفي العصر الحديث ونتيجة التحوّلات الكبرى في العالم على مختلف الصعد والمجالات، ظهرت مستجدات كثيرة، ولكثرتها تكاد تكون أرهقت الفقه الإسلامي وأتعبته، ففي المجال الطبّي تظهر كلّ سنة وقائع جديدة تطالب الفقهاء بالجواب عنها، وفي المجال الاقتصادي لا تكاد تقف كرة الثلج المتدحرجة لتكبر يوماً بعد يوم في حجمها وإيقاعها وهكذا...

ولم يكن الحج والعمرة بمعزل عن هذا الواقع الجديد، فالكثرة السكانية في العالم فرضت واقعاً جديداً عن الحج، وحاجات حماية الحجيج استدعت هي الأخرى جملة من الأحداث التي لم تكن من قبل وهكذا ... من هنا دخل فقه الحج إطار المستحدثات وظهرت فيه مسائل من نوع الجمرات، وحدود الذبح، والإحرام من الطائرة، وغير ذلك الكثير.

ولا يعني ذلك أن يقوم الفقيه بالجواب عن الاستفتاء في هذا المستجدّ الحادث أو ذاك فحسب، بل الأهم من ذلك أن تقدّم دراسات حقيقية تكشف عن اهتمام جاد بهذه الموضوعات، وإذا قلت: «اهتمام جاد» فقد أكون تسامحت في التعبير، حيث كان المقصود ما هو أزيد من ذلك، وهو منح هذا النوع من الموضوعات الأولويّةَ الأولى في الأبحاث الفقهية المتخصّصة، فإذا استجدّ أن وسّع المسعى كان من المطلوب التسارع لتوجيه دعوات إلى الفقهاء والفضلاء كي يلتقوا لتقديم دراسات تستعين بوثائق التاريخ والجغرافيا كي ينجم عن تضارب الآراء في هذه الجلسات وعن عصف الأفكار شيء مركّز مدروس، ولا يكتفى بأن يقوم فقيه واحد أو عالم واحد هنا أو هناك بكتابة دراسة في كتاب أو مجلّة، فإذا كان هذا العالم جزاه الله خيراً قد قام بواجبه فإن المطلوب أن تشكّل لجان تتابع مستجدات المسائل في فقه الحج، كي تعرضها بشكل دوري متواصل على الفقهاء والمختصّين ليساهموا في بحثها بشكل جماعي؛ لأن هذا الشكل يساعد على تنضيج الأفكار ورقيّها.

ما هي أهمية أن أجلس عشر أو عشرين سنة أدرّس فقه الحج وفي داخل هذا الدرس التكرار للماضي والبحث في قضايا لا تأخذ أولويةً اليوم؟! فلماذا لا تكون دروسنا قائمة على مستجدات المسائل، ليكون هناك الجواب العلمي المدروس لكل نازلةٍ في أقرب وقت ممكن؟ فلو سرنا اليوم في الكثير من الأبحاث الفقهية عند المذاهب الإسلامية سنجد حجماً لا يستهان به من الدراسات المكرورة، فيما دراسات هامة ما تزال غائبة أو حجم المساهمة فيها أقلّ.

لو أخذنا مسألة ذبائح منى، وهي مسألة هامة جداً اليوم، وصرفنا النظر عن الفتاوى، فكم دراسة جادة قدّمت في هذا المجال؟ فربما تجد ما كتب في حج الصبي أضعاف ما كتب في هذا الموضوع!

من هنا الحاجة إلى تشكيل حلقات دائمة تعرض عليها المستجدات في فقه الحج مستعينة بالخبراء، وتكون وظيفتها ـ وفي أقرب فرصة ممكنة ـ إصدار مجموعة دراسات في هذا الأمر المستجدّ، وخلق جوّ فكري وعلمي يضاعف من الاهتمام بهذه الموضوعات؛ علّنا بهذه الطريقة نستطيع أن نعطي للفقه بحقّ وجدارة صفة المواكبة للعصر في بعض أشكالها.

الحج بين النظرية التجريدية والمعايشة الميدانية

كثيراً ما يجلس الباحث حول الحج ـ سواء على صعيد فقه الحج أم غيره ـ يجلس في بيته ويبدأ بدراسة تطال هذا الموضوع أو ذاك فيما يخصّ مكة أو المدينة أو الحج أو العمرة أو الزيارة أو ... ويبدأ يغوص في النصوص أو الوثائق التي بين يديه، دون أن يعايش المناخ الميداني لهذه النصوص، وهذا ما قد يورّطه في أحكام تجريدية ومواقف غير واقعية ناتجة عن غيابه عن مسرح الأحداث، ولو أنّه اقترب قليلاً من أرض الواقع لربما تبلورت لديه تصوّرات مختلفة أو تراءت له احتمالات في تفسير النصوص ما كان ليلتفت إليها لولا ذلك.

وفي هذا السياق، يتناقل أن بعض الفقهاء الكبار غيّر رأيه في بعض الموضوعات الفقهية والنتائج الاجتهادية التي كان توصّل إليها بعدما سافر إلى الحج بنفسه، لأنه رأى على أرض الواقع بعض المعطيات التي تركت أثرها في تعديل فهمه للنص أو لظرف صدوره.

والسبب في هذه الظاهرة في كثير من الأحيان أن الباحث أو الفقيه يحاول تصوّر النصوص كما لها من تطبيق في عصره بحسب طبيعة المحيط الذي يعيشه؛ فيعمّم هذه الصورة إلى سائر الأماكن والأزمنة بظنّ التشابه أو عدم وجود عنصر إضافي قد يغيّر الصورة، أما عندما يعايش النص في المناخ نفسه الذي جاءت فيه النصوص أو يحاول الاقتراب منه قدر الإمكان فإن رؤيته للحدث أو الصورة ستكون أقرب للواقع.

ولكي أقترب من طرح الموضوعات، آخذ الفكرة التي كان يتحدّث عنها سيد قطب (1967م) لاسيما عند تفسيره لآية التفقه في الدين: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾([4]).

إن سيد قطب يرى أن الجهاد ساحة تفقّه حقيقي؛ إذ في الجهاد يرى الإنسان العناية الإلهية، أي بهذا السبيل يفهم الدين ويرى التجليات الإلهية فيه، لهذا لا يقدر على تفسير القرآن عند سيد قطب والعلامة فضل الله إلا الحركيون([5])، أي أولئك الذين عايشوا الواقع وخاضوا التجارب واقتربوا من طبيعة الحياة بألوانها وتمظهراتها ليفهموا المناخ الذي جاء هذا النص أو ذاك ليحلّ مشكلةً فيه أو يرفع التباساً ما حوله.

إنّ هذه الفكرة صحيحة إلى قدر كبير؛ فالإنسان الذي لا يفهم معنى السياسة ولا يعرف طبيعة الملك والإدارة لا يقدر على فهم النصوص السياسية في الكتاب والسنّة كما يفهمها الفقيه والمفسّر الذي يعايش واقع الحياة السياسية وإدارة البلاد أو يقترب من ذلك إلى حدّ بعيد، أما الفقيه الذي يريد أن يضع حلولاً للاقتصاد ويدير بالفقه الحياة الاقتصادية للناس، ويظنّ أنّه بجلوسه في البيت وتشقيقه الشقوق الافتراضية للمسائل والإجابة عن كلّ افتراض بشكل تجريدي... يستطيع أن يقدّم أجوبة الفقه الإسلامي لأعقد القضايا، فهو غير مصيب في تصوّراته، والتجربة كفيلة بتصويب أخطائه.

إذن، فالذي يبدو لنا أن فقه الحج وفقيه الحج يجب أن يقتربا من الواقع ويدرسا الحج والواقع الجغرافي والمناخي والتاريخي والعرفي و... للمنطقة هناك؛ لأن ذلك يساعد على اقتراب الفقه من أرض الواقع، ولتتسم أجوبته بالواقعية لا تتصادم مع الواقع وحقائقه.

حج فقهي أم حج روحي؟!

قد يوحي هذا العنوان بأن الفقه يناقض الروح والروحانية، أو يختلف عنهما، فهناك حج فقهي وهناك حج روحي، ولكن الذي نريده هنا أن نثبت أن الحج الفقهي يجب أن يكون روحياً تربوياً تطهيرياً، وأن الحج الروحي والتطهيري الذي يعيد الإنسان إلى وطنه كيوم ولدته أمه... هذا الحج لا يتجاوز الضوابط الفقهية والشرعية ولا يستهين بها، ولا يتخطاها.

إننا نجد على أرض الواقع ظاهرتين نعتقد أنه يجب تصحيحهما:

الظاهرة الأولى: أشخاص يذهبون للحج والعمرة ويحاولون الاقتراب من المدرسة الروحية لهذه الفريضة العظيمة، فيملؤون أوقاتهم بالدعاء والصلاة والتوبة والتطهّر، صادقين مخلصين يهدفون بفعلهم هذا أن يرتقوا في مدارج الروحانية أو أن يشطبوا على تاريخ حياتهم السابق المليء بالذنوب والمعاصي، وكثير من عامّة الناس يعيشون قدراً من هذا الجو الروحي في رحلة الحج، ويحاولون أن يعيشوا معاني الحج الروحانية، لكن المشكلة أنهم لا يراعون ـ لسبب أو لآخر ـ الأحكام الشرعية للحج، فبعضهم يعيش حالة جهل حقيقية بفقه الحج؛ ولهذا ربما يقع هؤلاء في أحيان كثيرة في أُمور توجب بطلان الحج نفسه، أو يترتب عليها كفارات شرعية يجب أداؤها، من هنا كان من الضروري ترشيد عمل الناس من خلال نشر ثقافة التفقه في أحكام الحج، كي يضمن هؤلاء أن يكون الحج صحيحاً مجزءاً وفي الوقت عينه مقبولاً عند الله تعالى.

الظاهرة الثانية: وفي مقابل الحالة الأولى المتقدمة نجد الكثير من الناس سيما من المتشرّعة والمؤمنين الملتزمين بخط الإسلام يغرقون في متابعة الجانب الفقهي لقضايا الحج حتى تراه يغيب عن روح الحج وعن رسالته المعنوية الكبرى؛ ففي الطواف تجده يعيش عقدة أخذ الكعبة على يساره، ويركّز كلّ همّه وطاقته على أن لا ينحرف كتفه الأيسر عن الكعبة الشريفة، ولا يخرج من هذا الهم والغم إلا في الشوط السابع؛ حيث يكون قد أتم أعمال الطواف، ليبتلي بهمّ آخر حيث يصارع في عدم الالتفات المخل عن الصفا أو المروة أثناء السعي، وهكذا في سائر المناسك.

إن هذا الاستغراق في البعد الفقهي للحج على حساب البُعد الروحي، يشبه ما يتحدّث عنه علماء الأخلاق والعرفان عن الاستغراق في مسائل تجويد القرآن والاهتمام بمخارج الحروف في الصلاة على حساب حضور القلب، وكأن عمود الدين يكمن فقط في التلفظ الصحيح بالكلمات وفي جعل تركيز الإنسان كلّه في كيفية إخراج الألفاظ من مخارجها وما شاكل ذلك، وقد أشار الإمام الخميني (1410ﻫ) إلى هذا الأمر في إفاداته الأخلاقية والعرفانية([6]).

وإذا أردنا أن نتعمّق أكثر في هذه النقطة، نحاول أن ندخل إلى الهيكلية التي جاءت في الفقه الإسلامي لأداء فريضة الحج؛ ففي الفقه الإسلامي بمذاهبه اليوم، وعلى غالب الآراء، يمكن للإنسان أن يذهب إلى الحج دون أن يتزوّد روحياً ومعنوياً منه؛ فلا يجب حضور القلب في أيّ فعلٍ من أفعال الحج، ويمكن للحاج أن ينام طيلة الوقت في عرفة والمزدلفة ومنى؛ بل بإمكانه أن يقضي وقته بالمسامرات والضحك واللهو واللعب والتسوّق دون أن يبطل حجه أو حتى أن ينخدش ... إن خلوّ العديد من الكتب الفقهية من البُعد الروحي للحج ومن ثم عدم تحرّك الرسائل العملية لتنشيط هذا البعد الهام، ترك ويترك الكثير من الأثر على أن يصبح المتشرّعة والمتديّنون مستغرقين في قضايا من نوع وضع الكعبة على اليسار دائماً وأمثال ذلك.

بينما لو نظرنا إلى القرآن الكريم لوجدنا التركيز على ذكر الله تعالى في الحج كذكرنا آباءنا أو أشدّ ذكراً، وقد استعرضنا في هذا الكتاب ـ والحمد لله ـ هذا الموضوع في دراسة فقهية مستقلة متواضعة؛ لتأكيد أن الذكر الكثير لله تعالى في الحج فريضة وواجب، وعلى الإنسان أن يعيش الذكر الإلهي في هذا السفر العظيم إلى الله تعالى... دون أن يكلّف الناس ما لا يطيقون أو أن نطلب منهم أن يصبحوا عرفاء وفلاسفة في عيشهم للحج ودركهم لرسالته ومعانيه السامية.

من هنا، تكمن الضرورة في إعادة ترتيب البحث الفقهي والرسالة العملية الفقهية بما يخدم مقاصد الحج ورسالته المعنوية الكبرى، وأن لا نضع هذه المسؤولية فقط على عاتق الوعّاظ وعلماء الأخلاق الذين لم يقصّروا في محاولاتهم العديدة لاستخراج المدلولات المعنوية للحج، بل هذه وظيفة الجميع لأنها تمثل المقصد الأساس لفريضة الحج إلى جانب مقاصده الأخرى الهامة على الصعد السياسية والاجتماعية و ...

فقه الحج القرآني

من أهم الملفات البحثية في فقه الحج، فتح ملفّ الفقه القرآني للحج، ونقصد بذلك أن تجمع الآيات القرآنية حول الحج والعمرة وأمثال ذلك لتدرس بشكل مستقل، وتتحدّد الأطر التي وضعها القرآن الكريم في هذا المجال، وفائدة هذا النوع من الدراسات أن يقدّم لنا تصوّراً علوياً للخطوط التي طرحها القرآن الكريم في مسألة الحج، حتى إذا حملها الفقيه معه إلى البحث الفقهي التفصيلي استطاع أن يعتبرها بمثابة المبادئ القرآنية الحاكمة على مجمل النصوص والقواعد والتفصيلات الجزئية لقضايا الحج.

ولا نطرح هذا الموضوع في فقه الحج وحده، وإنما نأخذ الحج أحد تطبيقات هذا الموضوع؛ وذلك أنه من المؤسف غياب الفقه القرآني، كما يشير إليه العلامة الطباطبائي في الميزان، حين يستنكر غياب الدرس القرآني عموماً فيقول: «وذلك أنّك إن تبصّرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً، حتى أنه يمكن لمتعلّم أن يتعلمها جميعاً؛ الصرف والنحو، والبيان، واللغة، والحديث، والرجال، والدراية، والفقه والأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلّع بها ثم يجتهد فيها وهو لم يقرأ القرآن، ولم يمسّ مصحفاً قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلّا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان، فاعتبر إن كنت من أهله»([7]).

إذن، فالمطلوب تنشيط فعل الاستنتاج الفقهي من القرآن نفسه حتى لو كانت بعض النتائج التي نحصل عليها من البحث القرآني موجودة في الأدلة الأخرى، فالمفترض إذا اشتركت الأدلّة في إيصالنا إلى نتيجة أن نأخذ بأقواها وأوّلها وهو كتاب الله الذي يتمتّع بالقطعية السندية على أقلّ تقدير.

ولأخذ شاهدٍ ومثال، ننظر في بحث المحقق النجفي (1266ﻫ) لمسألة الإيلاء، فإنّه يصرّح في مطلع الحديث بأن الأصل في الإيلاء هو الآية القرآنية المعروفة الواردة في سورة البقرة؛ ثم يقول: «بل منها يستفاد الوجه في جملة من أحكامه الآتية»([8])، إذاً فبعض أحكام الإيلاء يمكن أخذها من هذه الآية الكريمة التي هي الأصل في هذا الموضوع الفقهي، لكن لما نواصل مطالعتنا لبحث الإيلاء في كتاب «جواهر الكلام» لا نجد حضوراً لهذه الآية في عمليات الاستدلال، بل الحاضر هو سائر الأدلّة كالروايات وغيرها، فما دامت الآية قادرة على أن تعطينا أجوبة عن بعض أحكام الإيلاء فلماذا غابت في البحث الفقهي حول هذه الأحكام؟

هذا هو الواقع الذي نحاول هنا الإشارة إليه، وهو الذي يستدعي إعادة إحضار الفقه القرآني للحج، ليشكّل الأساس في دراسة موضوع الحج في الفقه الإسلامي بأدلته المتنوّعة.

إننا بحاجةٍ إلى تكوين ثقافة قرآنية حجية مهيمنة، تحرّك رؤية الفقيه لأحكام الحج وتشكل المفاصل الأساسية التي يتحرك عبرها ويتنقل، ولا نقصد تفسيراً تجزيئيّاً بجمع الآيات القرآنية فقط وإنما بحث موضوعي متكامل يكوّن الصورة القرآنية لهذه الفريضة العظيمة([9]).

فتاوى الحج والحاجات العملية

وفي سياق الحديث عن فقه الحج نركّز على نقطة جوهرية، وهي مسألة فتاوى الحج؛ فتعدّد المرجعيات الدينية وحصول حالة تحوّل في الرأي عند بعض الفقهاء ـ وكلاهما أمر غير معيب بل هو حالة صحيّة في الجملة ـ يؤدي إلى تذبذب الناس أحياناً وضياعهم في أمر الفتاوى؛ فلو أردت أن تطبع كتاباً جامعاً لفتاوى أبرز المراجع المعاصرين لوجب عليك أن تعيد طبعه كلّ عام؛ لأن قسماً من الفتاوى سيتغيّر ويتبدّل، من هنا من الضروري وضع حلول عملية لتسهيل هذا الأمر ميدانياً، ولا نقصد تغيير الفقه أو آراء المجتهدين دون استناد إلى دليل والعياذ بالله، لكن فلتؤخذ هذه المشاكل الميدانية بعين الاعتبار.

ومما يتصل بهذا الشأن ظاهرة الاحتياط الوجوبي في فقه الحج، فالحج ليس كالصلاة يتمكّن الإنسان من إقامتها مجدّداً دون عناء كبير، وإنما هو تكلفة مالية وجهود بدنية واستعداد نفسي وتنظيم للأوقات و... لهذا من العسير أن نكثر من الاحتياطات الوجوبية في بحث كفارات الإحرام، أو في إعادة الحج أو ما شابه ذلك، لذلك يرجّح أن تسعى الجهات المعيّنة لبت أمر الفتوى ورفع حالة الاحتياط الوجوبي قدر الإمكان والتخفيف على الناس في حجها حيث يمكن، دون تجاوز قيد أنملة للخطوط الشرعية والأدلّة المعتبرة في هذا المجال.

فقه الحج وآليات الإشراف على الحرمين الشريفين

وفي سياق فتاوى الحج يأتي عدم إلزام الناس بفتوى مذهب معيّن، إلا ما يخصّ تنظيم أعمال الحج بحيث يلزم من عدم الأخذ بفتوى خاصّة لمذهب معيّن أو لمرجع ديني معيّن.. يلزم الفوضى أو بعض الآثار السلبية.. فتعدّد الاجتهادات نعمة وفتح باب الاجتهاد والحرية للناس في انتخاب مرجعها ومفتيها ليس نقمة بل فسحة وإباحة؛ فلماذا التشديد على الناس لإلزامهم بشخص معيّن وإلا تعرّضوا للمضايقة أو إلزامهم بمذهب معين وإلا تم التعامل معهم كأنهم خارج الأسرة الإسلامية؟!

من هنا، نهيب بالقيمين على الأماكن المقدسة في الحجاز وسائر بلاد المسلمين ألا يفرضوا فتوى خاصّة على عامّة المسلمين، ما دام المسلمون ينتهجون في طريقة أدائهم للعبادات منهج الرجوع إلى القرآن والسنّة كلّ حسب نظريته واجتهاده، فلتحترم هذه الاجتهادات ولا يتم التعامل مع من يسير وفقها على أساس أنّه فاسق أو يجب أن يعدل عن موقفه لصالح اجتهاد فقهي آخر.. وأعتقد أن القيمين على الحرمين الشريفين وعامة الأماكن المقدّسة في بلاد المسلمين الأخرى يمكنهم أن يستفيدوا من تجربة الإمام مالك بن أنس (179ﻫ) عندما عرض عليه الخليفة العباسي أن يجعل كتابه «الموطأ» كتاباً قانونياً مرجعياً ملزماً للمسلمين في الآفاق والأقطار، فأجابه بوجود آراء واتجاهات، وكل واحد له عمله وفضله([10]).

نحن لا نقف هنا عند حدود أن يحترم القيمون على الأماكن المقدسة في الحج والعمرة والزيارة أفكار واجتهادات المذاهب الإسلامية الأخرى.. ما دامت هذه الاجتهادات تحتكم لكتاب الله وسنّة نبيّه.. بل وأيضاً أن لا يتمّ التعاطي في موسم الحج والعمرة مع أتباع المذاهب الأخرى ومقلّدي مفتين آخرين بمنطق من يريد أن يهديهم للحق والدين، وكأنهم خارج إطار الإسلام، فمن أراد أن يهدي المسلمين فعليه أن يفعل ذلك بالوسائل المنطقية الأخلاقية الهادئة غير المتشنّجة، لا أن يلاحق الناس ويتهمهم بالشرك والكفر والضلالة والفسق والانحراف هنا وهناك، حتّى أن الحاج عندما ينتمي إلى بعض المذاهب لا يشعر بالأمان منذ دخوله بلاد الحجاز الكريمة الطيبة، كأنّه مستهدف في دينه وأخلاقه!!

إن هذه الطريقة في هداية الناس من أشدّ الطرق تمزيقاً للمسلمين وتخويفاً لهم، فخدمة الحرمين الشريفين تكتمل وتتمّ بخدمة حجاج هذين الحرمين وزوارهما، لا بالتعامل مع هؤلاء الحجاج بمنطق التكفير والتخوين و... مع تقديرنا التام واحترامنا الكامل للجهود الطيبة التي قامت وتقوم بها غير جهة في المملكة العربية السعودية، حكومة وشعباً ومؤسّسات، لخدمة الزوار والحجاج، لكن هذا لا يمنع على الدوام من أن يقوم النقاد المسلمون بتصويب بعض الأخطاء والإشارة إلى بعضها الآخر بالكلمة الحسنة والحوار الهادئ، علّ ذلك يقرّب المسلمين من بعضهم ويخلق جوّ احترامهم لبعضهم بعضاً رغم الاختلاف في المذهب وفي الاجتهاد الفقهي.

فقه الحج المقارن، خطوة عملية للتقريب الإسلامي

إذا طالعنا التراث الإسلامي القديم نجد المذاهب، على ما حصل بينها من تخاصم واختلاف.. تتناول أفكار بعضها بعضاً بالنقد والتأييد.. خصوصاً على الصعيد الشيعي، فقد ألّف الشيخ الطوسي (460ﻫ) في القرن الخامس الهجري كتاب «الخلاف» في الفقه المقارن؛ وفعل ذلك على نطاق أوسع بعده العلامة الحلي (725ﻫ) في كتابه الشهير «تذكرة الفقهاء»، ولم يتحفّظ العلماء المسلمون أن يحضروا دروس بعضهم بعضاً، فكان يحضر مجلس المفيد (413ﻫ) والمرتضى (436ﻫ) والطوسي (460ﻫ) في بغداد عدد كبير من أبناء المذاهب الأخرى، كما حضر الشهيدان الأوّل والثاني عند علماء كبار من أهل السنّة في أقطار المسلمين وبلادهم.

لكن المؤسف أن نجد غياب الفقه المقارن غياباً تاماً بعد كلّ تلك الجهود المشكورة، ففي الوسط الشيعي هناك اطّلاع على الفقه السني، ولا نقول: إنّه بالمستوى الذي نأمله، لكن في الوسط السنّي ـ والحق يقال ـ هناك غياب تام أو شبه تام للفقه الشيعي الإمامي، بل نحن نجد من يتعالى على هذا الفقه وكأنه لا قيمة له، وهذا أمر فيه قدر كبير من عدم الإنصاف.. فكيف ننادي بالتقريب بين المسلمين سنّة وشيعة وهناك مثل هذه النظرة لفقه أهل البيت^؟! فبدل أن نُحضِر الفقه الشيعي في الأبحاث الفقهية السنية، والفقه السني في الأبحاث الفقهية الشيعية.. نكتفي بإطلاق شعارات التقارب بين المسلمين دون القيام بخطوات عملانية.

سأعطي مثالاً مبسّطاً.. عندما ألّفت الموسوعة الفقهية في مصر والمعروفة بموسوعة جمال عبد الناصر.. استحضرت المذاهب الفقهية الثمانية بما فيها مذاهب المسلمين الشيعة (الإمامية والزيدية والإسماعيلية) والإباضية، وكانت هذه الخطوة طيبة يشكر عليها القيّمون.. لكننا وجدنا تراجعاً في تجربة لاحقة أخذت شهرة، وهي موسوعة الفقه الإسلامي المعروفة بالموسوعة الكويتية.. حيث اقتصرت هذه الموسوعة الضخمة على المذاهب السنية الأربعة المعروفة، مستبعدةً مذاهب الشيعة والإباضية.. فهل يمكن قراءة ذلك تراجعاً في العقل المقارن والتقريب أم لا؟!

في المقابل، وجدنا في الوسط الشيعي «موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت^»، تختصّ بالفقه الشيعي، لكنها تنجز إلى جانب ذلك اليوم، ضمن فريق عمل، موسوعة الفقه المقارن أيضاً مستحضرةً المذاهب السنية، ووجدنا المشروع الذي أطلقه المرجع الديني المعاصر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وهو موسوعة الفقه المقارن التي صدر المجلد الأوّل منها، ويتوقع أن تزيد عن الستين مجلداً..

وعندما نقول ما نقول لا نجد ما يكفينا ويرضينا على المستوى الشيعي على هذا الصعيد أيضاً، وإن كنّا نجده أفضل من الحال التي في الوسط السنّي، فدراسات الفقه المقارن عند الشيعة قليلة ومنحصرة بأفراد معدودين اهتموا بهذا المجال مثل المغفور له الشيخ محمد جواد مغنية والشيخ إبراهيم الجناتي، لهذا نطالب بتطوير هذا الحقل الدرسي في الحوزات العلمية أيضاً.

إنّنا نأمل أن يتنامى الفقه المقارن وتتعرف الأوساط ببعضها، سيما الوسط السني بالفقه الإمامي شبه المغيب فيه، وفي الحج تبدو هذه القضية بالغة الأهمية جداً، لأن الحج مركز تلاقي المسلمين جميعاً وقضاياهم وهمومهم هناك مشتركة، فيفترض أن يشكلوا لجاناً مشتركة من فقهاء المذاهب الثمانية كافة لتدارس كلّ مستجد في فقه الحج أو طارئ ينزل، بدل أن ينفرد هذا المذهب أو ذاك بهذه القضية، مع إعطاء الحق للدولة في أن تكون لها صلاحياتها الراجعة للتنظيم ورفع الفوضى والاضطراب و..

وفي هذه المناسبة نرى أن أيّ مشروع تريد الجهات المسؤولة في بلاد الحجاز إنجازه لخدمة الحجيج والزوار كإصلاح الجمرات وتوسعة المسعى، ونحن نشكرها على ذلك، يفترض أن يكون بالتشاور وضرب الآراء ببعضها وإشراك علماء وفقهاء المذاهب الأخرى في إبداء الرأي، بصرف النظر عن إلزامية هذه المشورة.. إن الاستفادة من آراء الآخرين لا تُعدم الإنسان نضج الأفكار وتنميتها.. ونحن لا نقصد أخذ رأي المذاهب غير السنية فقط، بل الأمر يشمل آراء المذاهب السنية الأخرى مثل الأحناف والشوافع والمالكية إلى جانب الزيدية والإسماعيلية والإمامية والإباضية.. خصوصاً إذا بلغ الموضوع حد أعمال الهدم والردم والتغيير الجغرافي في أماكن الحج والعمرة والزيارة... وفي ذلك تقارب المسلمين واستفادتهم من بعضهم.. وعلى علماء المذاهب الأخرى أن لا يبخلوا في تقديم كلّ مقترحاتهم للجهات المعنية سألتهم أم لم تسألهم، فإن في ذلك للطرفين مصداق النصيحة وتبادل الرأي ومشاورة العقول وغير ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال.

إن هذا الذي نطرحه لا يهدف سحب الإشراف من يد جهة معينة، حتّى لا يثير هذا الأمر قلق أحد؛ وإنّما نتحدّث في الجوانب العلمية والتقريبية بين المسلمين.. علّ ذلك يشكل مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾([11]).

ولكي نؤكد على ما نقول لا تقتصر دعوتنا هذه على الحرمين الشريفين، بل تطال سائر الأماكن المقدّسة عند من يقدّسها، مثل مراقد الأئمة الأطهار في العراق وإيران، فإنّ التصرّفات الخارجة عن الحال الطبيعية للأمور والتي قد تكون فيها آراء فقهية متعدّدة من حيث الشرعية وعدمها يفترض بالجهات المعنية التشاور فيها، مع حفظ الخصوصيات الوطنية لكلّ بلد.

السياسة وفقه الحج

هل السياسة بعيدة عن الحج وفقهه وقضاياه؟ وهل يفترض بحقّ تحييد الحج عن قضايا السياسة؟ وهل يلعب الحج دوراً في الحياة السياسية؟

هناك في أوساط العلماء والفقهاء المسلمين أكثر من اتجاه يختلف في هذه القضية التي التبس فيها الأمر:

1ـ اتجاه علمنة العبادات

الاتجاه الأوّل: ويذهب هذا الفريق إلى علمنة العبادات الدينية عموماً، ويرى أن الفقه الإسلامي يقدّم العبادات معلمنة خالية من أيّ علاقة أو دور في الحياة السياسية العامّة؛ فنحن إذا قرأنا كتب بعض الفقهاء المسلمين عندما يتحدّثون عن العبادات بشكل عام، والحج بصورة خاصّة، نجد غياباً تاماً للسياسة والاجتماع؛ فهل تجد أن هناك كلمة لهذا الفقيه أو ذاك في ربط الصوم بواقع الاجتماع الإسلامي والسياسة؟ ومتى وجدنا ربطاً في كلمات الفقه الإسلامي بين الصلاة وقضايا المسلمين الكبرى؟

إن الذي يسود التصوّرات الفقهيّة للعبادات، هو منطق علماني بشكل تام أو شبه تام؛ لهذا يرى أنصار الاتجاه الأوّل أن من الطبيعي الفصل بين فقه العبادات عامّة ـ والحج خاصّة ـ وبين قضايا السياسة والاجتماع؛ لأن هذا هو الأمر الطبيعي الذي يخرج به أيّ مطالع لتراث المسلمين في فقه العبادات.

إن الفصل بين الدين العبادي وبين السياسة أمر نجده حتى في طبيعة الأعمال الفكرية لبعض الذين لا يؤمنون بالفصل بين الدين والسياسة عامّة؛ فالعبادات ظلّت الجانب المحايد في الدين عن قضايا الاجتماع السياسي، بل نحن نجد في ثقافة المسلمين اليوم نزعة ميّالة لتحييد دُوْر العبادة وبيوتها أيضاً عن الاجتماع والسياسة؛ فتراهم يقولون: المسجد لله؛ وليس للعمل السياسي لهذا الحزب أو ذاك التنظيم أو ذلك التجمّع.. حيّدوا المساجد عن الصراعات السياسية!!

وعندما يكبر هذا المسجد ليصير المسجد الحرام أو المسجد النبوي الشريف، فمن الطبيعي أن يتضاعف الصوت المطالب بتحييد هذين المسجدين عن مثل ذلك، وبهذه الطريقة تمّت علمنة العبادات، وهي علمنة ساهم فيها بعض الفقهاء المسلمين أنفسهم قديماً وحديثاً.

نقد نظرية علمنة العبادات

والذي نلاحظه على اتجاه علمنة العبادات الدينية:

أوّلاً: إذا وجدنا في النصوص التي هي مرجع عمل الفقهاء وفتاواهم ما يؤكّد لنا الدور السياسي للعبادات وبيوت الصلاة والدعاء؛ فسنكون مضطرين لاستبدال مرجعية الفقه الموروث بمرجعية أُخرى هي الأصل والأساس، عنيت مرجعية الكتاب والسنّة، لأن الفقه هو الفرع الذي يخرج من ذاك الأصل، فلا يصحّ له أن يتخطّاه أو يتجاوزه.

وإذا رجعنا إلى العبادات في الكتاب والسنّة سنجد المدلول السياسي والاجتماعي حاضراً؛ فالأحاديث تذكر ـ ومنها خطبة الرسول الأكرم’ في استقبال شهر رمضان المبارك ـ أن الصوم يبعث على إحساس طبقات المجتمع ببعضها، أي إنّه يساعد على تقصير المسافة بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، وبهذا ندخل ـ شئنا أم أبينا ـ في سياق سياسي داخلي، في علاقات طبقات المجتمع ببعضها؛ لأن السياسة لا تعني قضايا السلطة والحرب والسلم فحسب، بل تطال ـ بالمفهوم العام ـ مختلف قضايا الاجتماع الإسلامي العامّة.

وهكذا عندما نجد أن الصلاة والحج و... فيها مثل هذه الخصوصيات، كما سوف نلمح بعون الله تعالى.

ثانياً: لنفرض أن النصوص ليس فيها أيّ إشارة لهذا الموضوع، لكن تحليل بعض هذه العبادات يدفعنا للاقتناع بذلك، فالخمس والزكاة بأنواعهما من العبادات في الرأي الفقهي السائد، هل يستطيع أحد أن يفصلهما عن المفهوم السياسي العام؟! ألا يدخلان في السياسة الاقتصادية وفي علاقات الناس ببعضها؟!

ثالثاً: لنفرض أننا تنازلنا عن الأمرين السابقين، لكن وجدنا بالتجربة أنه يمكن توظيف هذه العبادة أو تلك في الصالح العام للمسلمين هل يكون تفعيل دور العبادات في الصالح العام أمراً مرفوضاً؟! هل القاعدة العامّة ترفض ذلك إذا استطعنا تجنّب بعض سلبيات التطبيق أم تدعمه؟! إذا جعلنا من الحج مؤتمراً سنوياً ليفتح المسلمون فيه قلوبهم لبعضهم، ويطرحوا فيه قضاياهم، ويتعرّفوا على أوضاعهم، ويتبادلوا الرأي في حلّ مشكلاتهم الكبرى ... هل في ذلك نهي أم ترحيب؟! هل قوله تعالى ـ في الآية التي ذكرت محرّمات الحج ـ : ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ﴾([12]) يحظر مثل هذا الأمر، أم أن العمومات والقواعد العامّة تساعد عليه، مثل الحديث الشريف: «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، ومن سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه، فليس بمسلم»([13])؟!

نعم، رفض علمانية العبادات وتعطيلها عن التأثير على حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يجب أن يلحظ معه بعض الأُمور، حتّى لا يؤدي ذلك إلى التورّط في بعض السلبيات، ومن هذه الأُمور التي لا نقصدها ما يلي:

أ ـ الخلط بين القضايا السياسية والاجتماعية الكبرى، وبين المخاصمات الحزبية الضيقة أو الاستغلال الحزبي والسياسي المحدود الأفق للعبادات، فعندما نقول: إنّ المسجد له دور في الحياة السياسية، وأن المسجد النبوي كان مركزاً للعمل السياسي في حياة الرسول’، وأنّه يمثل البرلمان الإسلامي على حدّ قول الدكتور علي شريعتي.. عندما نقول ذلك، لا يعني أن تنقسم مساجدنا انقساماً سياسياً، فهذا المسجد للجماعة الفلانية، وذاك للجماعة الأخرى، وهذا المسجد لا ندخله؛ لأنّه للحزب الفلاني، وآخر ندخله؛ لأنه للحزب الآخر الذي ننتمي إليه.

وحتّى لو تخطينا المدلول الضيّق لتسييس المسجد، فإن الأمر عينه يجري على مذهبة المساجد، فهذا المسجد شيعي إذاً فلا يدخله السني، وهذا المسجد سني إذاً فلا يدخله الشيعي، وذاك المسجد أباضي إذاً فلا يدخله الإسماعيلي... وهذا ما نلحظه على نطاق كبير في الأوساط الإسلامية مع الأسف.

هذا المعنى لتسييس المساجد ومذهبتها لا أساس له في الدين، فههنا نقول: المسجد لله تعالى، هو للعبادة، هو بيت الله، لا بيت هذا الزعيم ولا ذاك، هو بيت الرحمن لا بيت هذا الحزب السياسي أو ذاك، هو بيت الصلاة، وليس بيت هذا المذهب أو ذاك.

وهذا ما يظهر جلياً في المساجد والمشاهد الإسلامية الكبرى، فهي للمسلمين عموماً وإن تولاها هذا المذهب أو ذاك، أو هذه الجماعة السياسية أو تلك، أو هذا الزعيم أو ذاك، أو هذه الدولة أو تلك.

فعندما أدخل المسجد الحرام فأنا أدخل مسجد الله ومكان عبادته، ولا أدخل مسجداً سلفياً أو سعودياً أو عربياً، وهكذا عندما أدخل الحرم الرضوي في مدينة مشهد في إيران، فأنا لا أدخل مشهداً شيعياً ولا إيرانياً...

نعم، هذا المعنى للتسييس مرفوض؛ إنّه استغلال لبيت الله وللعبادات وليس استخداماً له فيما فيه نفع الدين، فعلينا أن لا نخلط بين علاقة العبادة بالسياسة والاجتماع، وبين هذه المعاني الضيّقة للسياسة.

ب ـ تغييب الدور الروحي للعبادات؛ فعندما نتحدّث عن علاقة العبادات ـ ومنها الحج ـ بالسياسة والاجتماع الإسلاميين، فهذا لا يعني تغييب أو إضعاف الدور الروحي للعبادات؛ حيث يفترض أن لا يكون هذا على حساب ذاك، ولا ذاك على حساب هذا، بل يفترض تحقيق التوازن الذي يضع كلّ واحدة في موضعها؛ تفادياً لأيّ إفراط أو تفريط.

وبهذا يتبين أن اتجاه علمنة العبادات ليس اتجاهاً صائباً عندما يؤخذ على إطلاقه.

2ـ الحج واتجاه الاعتدال بين الحقّ والخلق

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يرى أن للعبادات وجهين: أحدهما روحي غيبي في اتصاله مع الله سبحانه، وثانيهما اجتماعي ـ سياسي في علاقته بالخلق، وأنه لا يصحّ تجاهل أحد الوجهين لصالح الآخر، بل يفترض إيجاد التوازن بينهما.

وطبقاً لهذا الإطار العام الذي يحكم العبادات، يجري تطبيق المفهوم عينه على الحج، فللحج بُعد سياسي ووحدوي واجتماعي كما يقول الشيخ محمود شلتوت([14])، ونجد ما ينصر هذا البعد في آيات القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْيَ وَالقَلَائِدَ...﴾([15])، فكلمة «قياماً» لها دلالة على مكانة هذه المسميات الواردة في الآية في إقامة شؤون الناس.

وقال سبحانه: ﴿وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾([16])، وقال عز من قائل: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ﴾([17]).

فهذه الآيات تضع الهدي في سياق تعاون اقتصادي يكفل فيه الغنيّ الفقير ليطعمه، فلا ينظر للجانب الروحي الصرف، وإنما يربط العبادة بجانبها الاجتماعي أيضاً.

من هنا، نميل إلى الاتجاه الثاني الذي يحافظ على كلا بُعدي العبادة، فلا يفرط هنا أو هناك، ونحن نجد في السيرة النبوية كيف لم ينأى الرسول’ عن إقحام القضايا السياسية في الحج، فلم يقل: إنّ الناس في حج، ولا ينبغي في أثناء العبادات أن نعلن البراءة من المشركين، بل أرسل علياً× ليعلن هذا القرار السياسي الهام جداً، والذي أمره به القرآن الكريم في مطلع سورة التوبة([18]).

نعم، قد نختلف في كيفية وطريقة وآلية المحافظة على البعد السياسي في الحج، وربما أرجّح طريقةً وترجّح أنت أُخرى، وهذا شيء طبيعي لا يضرّ بأصل الحفاظ على الحيثية الاجتماعية والسياسية لهذه الفريضة، إنما حديثنا عن المبدأ الذي لا ينبغي هدره لأجل الخلاف في التفاصيل والآليات التي يكمن الشيطان فيها كما يقولون، ونحن نميل عموماً إلى كلّ آلية لا تخرق الصفّ الإسلامي.

بين فقه الحج وفقه الزيارة

في قضية فقه الحج وفقه الزيارة، نجد أنّه لابدّ من دراسة هذا الموضوع ورصده على مستوى الاهتمام، فنحن نلاحظ وجود تيارات ثلاثة في هذا المجال، وهي:

التيار الأوّل: يرى أنصار هذا التيار الفكري والديني والثقافي أن الزيارات مبدأ مرفوض، فلا معنى لزيارة القبور في البقيع وغيرها، وأن الله تعالى قد نهانا عن ذلك من خلال السنّة النبوية، فالحاج عليه الذهاب إلى الحج وأداء أعماله ومناسكه، وأن لا يلتهي بمثل هذه الزيارات للقبور ونحوها عن أعمال الحج وذكر الله والتضرّع إليه، نعم زيارة الرسول الأكرم’ وردت بها السنّة من حيث زيارة المسجد النبوي.

التيار الثاني: ويرى أو يمارس اهتماماً عظيماً بأمر الزيارات، حتّى أننا نجده يذهب إلى الحجاز والزيارة حاضرة في قلبه ومشاعره أكثر من حضور الحج نفسه، إنّه يعتقد أن الزيارات مقوّمٌ أساس لإيمان المرء وأنّها يجب أن تكون في سلّم الأولويات في فقه الحج وقضاياه.

التيار الثالث: وهو الذي نميل إليه، فنحن نعتقد أنّه لابد من إصلاحات على وجهة نظر الفريق الأوّل والثاني معاً؛ لوضع الأُمور في نصابها الطبيعي والصحيح، فعلى مستوى الفريق الأوّل نقول: إن زيارة المشاهد والمراقد والأماكن التاريخية في مكة والمدينة وعامة بلاد الحجاز ليست أمراً محرماً في حدّ نفسه حتّى نتشدّد معه بهذه الطريقة، فأيّ مانع أن يرتبط الناس بهؤلاء العظماء في البقيع وغيرها من وجوه وكبار أئمّة أهل البيت النبوي والصحابة والشهداء وغيرهم؟! إنّه ارتباط بالقيم والمثل التي حملوها في تاريخ حياتهم، وزيارة المشاهد التاريخية تذكّر بتاريخ الإسلام ليبقى راسخاً في ذاكرة الحاجّ والمعتمر، يحدّث عن هؤلاء العظماء وعن ذاك التاريخ الحافل، بعد عودته إلى موطنه، إنها مقاصد شرعية عليا تظهر جليةً في هذا الأمر، وبدل أن نحاربها علينا أن ندعمها ونرسّخها لربط الناس بهذا التاريخ وبهؤلاء الرجال.

نحن نعتقد أنه حتى الرسائل العملية الفقهية يجب أن تحوي ـ ولو باختصار ـ موجزاً عن تاريخ الإسلام في بلاد الحجاز والشخصيات الكبرى والأولى في هذا التاريخ؛ فالحاج عندما يذهب إلى هناك يذهب واعياً للتاريخ ولما هو موجود، فيكون حجّة عن وعي، فكلما رأى مَعْلَماً تذكّر كلّ ذلك المجد العريق للإسلام، فبدل أن ندمّر هذه الذاكرة التاريخية العظيمة علينا المحافظة عليها، فإن في ذلك ربط الناس ـ كما قلت ـ بالإسلام ومثله وقيمه.

إنّ تطبيق الوعي التاريخي على الجغرافيا يساعد أكثر في تجذر الذاكرة الجماعية وفي الحفاظ على العنوان والهوية.

نعم، نستدرك ـ وهنا نتحاور مع بعض أنصار الفريق الثاني أيضاً ـ ونقول: قد تصدر هنا أو هناك طرائق في التعبير لا نتفق معها، فالحديث عن عدم الاهتمام بالحج وشعائره وعدم الحضور الروحي معها لصالح التفاعل العاطفي مع الزيارات فحسب... هذا الحديث غير صحيح إسلامياً، ويجب ترشيد الناس الذين لا نوايا خبيثة لهم، ففي الزيارات ـ كما في أيّ عبادة أُخرى ـ يجب على الفقه الإسلامي وعلى العاملين على تطبيق الفقه والأخلاق، أن ينتبهوا من أيّ ممارسات مبالغ بها وتحوي إفراطاً وخروجاً عن جادّة الشرع، ليقفوا في وجهها حتّى لو كان فاعلها غير سيئ النية، فيجب ممارسة الإرشاد معه في هذا المجال أو ذاك، وهذا شيء لا يحصل في الزيارات فقط، بل يحصل في كلّ الأُمور، فإذا ارتكب بعض المسلمين أخطاء في إحياء المولد النبوي الشريف فلا يعني ذلك حرمة إحياء هذا المولد، بل يعني ضرورة تصحيح هذه الأخطاء لو كانت موجودة. وإذا فعل الحجاج خطأ ما في طوافهم أو سعيهم فالمطلوب تصحيح الخطأ لا إلغاء الطواف والسعي.

نعم، من واجب علماء الدين في المذاهب كافة، أن ينتبهوا على الدوام للأخطاء التي يرتكبها عامّة الناس أثناء أدائهم لعبادة هنا أو هناك، وأن يكونوا المصفاة التي تنقّي الدين من الكدورات التي تعلق به، إما عن عمد وسوء نية من بعض الناس أو عن جهل وعدم قصد سيئ من آخرين، وهذا يسري على المذاهب كافة ولا يختص بمذهب أو بآخر حتّى نضع كلّ اهتمامنا بمذهب وكأن أتباع المذاهب الأخرى منزهون عن ذلك أو مثله!!

إذن، فرفض الزيارات بمعناها الواسع مرفوض لأنّه لا مبرّر شرعي له، كذلك إرخاء العنان للعامة من الناس ـ وبعض العلماء أيضاً ـ أن يفعلوا أو يعتقدوا ما شاؤوا دون تصويب حركتهم أمر غير صحيح؛ فالمفترض التوازن والسير على جادّة الشريعة، كلٌّ حسب مذهبه، ولا يصحّ لنا الدخول في نوايا الناس وقصودها لاتهام هذا بالشرك، وذاك بالغلو، وثالث بالتقصير، ورابع باللامبالاة، بل نتعامل مع الظاهر ونحمل المؤمن والمسلم على الأحسن، كما أمرنا في الكتاب والسنة أن نتعامل بود وأخوة مع المسلمين.

 

ونكتفي هنا بهذه الملاحظات العابرة التي نأمل أن تحوز على مزيد من اهتمام المشتغلين بقضايا الحج والعمرة إن شاء الله تعالى.

 

ملاحظة: هذا المقال مدخل لكتاب ((بحوث في فقه الحج)) للمؤلّف حيدر حب الله، طبع مؤسسة الانتشار العربي في بيروت.

 _______________


[1]. انظر هذا الخبر بصيغه في: المحاسن1: 286 ـ 287؛ والكافي 2: 18 ـ 21، 31؛ و 4: 62؛ ودعائم الإسلام 1: 2؛ وأمالي الصدوق: 340؛ والخصال: 277 ـ 278، 447؛ وفضائل الأشهر الثلاثة: 86 ـ 87، 119؛ ومن لا يحضره الفقيه 2: 74؛ وتهذيب الأحكام 4: 151 وروضة الواعظين: 42؛ وشرح الأخبار 2: 277؛ وأمالي المفيد: 353 و...

[2]. انظر صيغ هذا الخبر عند أهل السنّة في: صحيح البخاري 1: 8؛ وصحيح مسلم 1: 34 ـ 35؛ وسنن الترمذي 4: 119؛ وسنن النسائي 8: 107 ـ 108؛ وسنن البيهقي 1: 358، و 4: 81، 199؛ ومسند ابن حنبل 2: 26، 93 و...

[3]. آل عمران: 97.

[4]. التوبة: 122.

[5]. انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 3: 1734 ـ 1736.

[6]. انظر: الآداب المعنوية للصلاة: 362.

[7]. الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 276.

[8]. النجفي، جواهر الكلام 33: 297.

[9]. ننوّه هنا بتقريرات أبحاث الحج التي كتبها الشيخ جهاد فرحات لدروس السيد محمد حسين فضل الله، فقد احتوى الجزء الأول منها، وقبل الشروع في فقه الحج، على دراسة قرآنية حجّية جيدة تمثل مفتاحاً للأبحاث اللاحقة فانظر: فقه الحج1: 11 ـ 68.

[10]. انظر القصّة ولها عدّة صيغ بعضها لا يدل على رفض مالك في: الرازي، الجرح والتعديل (مقدّمة المعرفة) 1: 12؛ والذهبي، تاريخ الإسلام 11: 321؛ وتاريخ ابن خلدون (المقدّمة) 1: 17؛ ووضوء النبي 1: 354.

[11]. آل عمران: 103.

[12]. البقرة: 197.

[13]. الكافي 2: 164.

[14]. محمود شلتوت، من توجيهات الإسلام: 403.

[15]. المائدة: 97.

[16]. الحج: 36.

[17]. الحج: 28.

[18]. التوبة: 3.