السؤال: هناك من يقول: إنّ الدين فكرةٌ غير صلبة، ولهذا تتفكّك دائماً إلى مذاهب متناحرة، ولمّا كانت فكرة تتفكّك، فهي مدحوضة؛ تحمل بنيات دحضها بنفسها، وهذا يجعلها نظريّة لا حقائق واقعة أو مضمرة، فالنظريّات تتفكّك وتدحض، والنظريات تصدر عن عقل نسبي، والحقائق تصدر عن المطلق، فهل يصح صدور النظريّة عن المطلق؟! وهم يقولون: لا تحدّثونا عن فهوم الناس، وأنّها فكرة صدرت عن الله، لكن تعدّدت أفهامهم لها، فهذا خارج الموضوع، وهو فضلاً عن ذلك سفسطة.. وهل صحيح أنّ الميرداماد في كتابه القبسات حاول دون جدوى أن يبطل دون جدوى المسائل المتعلّقة بواجب الوجود يمكن الاستدلال عليها جدليّاً؟ أرجو من سماحتكم الإجابة بسرعة؛ لأنّ هذه الإشكالات بدأت تكثر وتتوسّع بين الناس، وخاصّة الشباب، لاسيما وأنّ رجال الدين في مناطقنا ليس لهم القدرة على الإجابة عن هكذا إشكالات، آملين أن يكون الجواب معزّزاً بعناوين الكتب التي يمكن الاستفاده منها في هذا الخصوص، وكذلك عناوين وأرقام المحاضرات الخاصّة بكم، وفقكم الله (غسان).
الجواب: أرجو أن أكون قد فهمتُ السؤال جيداً؛ لأنّني سوف أتعامل مع ما فهمتُه من السؤال، وقد يكون مقصوداً لمن نقلتم عنهم وقد لا يكون، ويبدو لي أنّ المقاربة أعلاه نشأت من ظرفنا الراهن الذي تعيش فيه الإنسانية حالة من الالتباس الشديد في القضيّة الدينية، فهنا عدّة أمور:
أولاً: قدّمت المقاربة أعلاه افتراضاً يقول بأنّ أيّ فكرة يمكن أن تحصل داخلها مذاهب فهي غير صلبة، ومن ثمّ فهي باطلة، ولنقف قليلاً وقفة فلسفيّة جادّة عند هذا القانون المفترض لكي نسأل: ما الدليل عليه؟ كيف أعرف أنّ فكرةً ما لو تفكّكت إلى مذاهب أو اختلفت وجهات النظر حولها فهي باطلة؟ ما هو البرهان العلمي القاطع (وليس نظريّة) الذي يجعلنا متأكّدين من هذه المعادلة التي قام الكلام أعلاه كلّه عليها.. وأرجو أن نبتعد هنا عن الاستنسابات والكلام الشعاري والخطابي لنقدّم برهاناً علميّاً إيبستمولوجيّاً فلسفيّاً على ذلك. إنّ الانتقال من الخلاف حول (أ) إلى بطلان (أ) يحتاج لدليل علمي، وأتمنّى أن يذكر لنا أصحاب المناقشة أعلاه دليلهم على ذلك، وسنكون لهم من الشاكرين. وإلا فإنّ افتراض الإطلاقيّة في هذا الكلام سيعني أنّ علوم النفس والاجتماع والتربية والتعليم والفلسفة والتاريخ ومجمل العلوم الإنسانيّة (بل حتى مثل الفيزياء النظريّة) هي باطلة ومدحوضة، فما أكثر اختلاف الرأي فيها؟ لو شاهد إنسانٌ جريمة قتل صدرت من المدعو فؤاد، ثم أخبر بذلك، واختلف الناس في ارتكاب المدعو فؤاد لهذه الجريمة أم لا، فهل يعني ذلك أنّ ادّعاء هذا الإنسان كان باطلاً في الواقع؟! ألا تعني الفكرة أعلاه أنّ اليقين يُكْتَسَبُ من توافق البشر، وليس من الدليل؟! أليس هذا تحوّلاً جذريّاً في معايير المعرفة الإنسانيّة حتى لو قال به بعض فلاسفة الغرب؟!
قد يكون المراد: إنّ الفكرة لن تكون مدحوضة بل ستكون قابلة للإبطال، وهذا كلام سليم، فكلّ فكرة محلّ خلاف فهي ـ من زاوية خارجيّة ثانويّة ـ قابلة للإبطال؛ لكنّ قابلية الإبطال بهذا المنظور الخارج ـ معرفي، لا يعني فعلية الإبطال وصيرورتها خطأً؛ ولا لزوم تضعضعها عند من يؤمن بها، إذ لا ترابط بين الأمرين، فليلاحظ جيداً، فنحن نتكلّم في مقام فلسفي يحتاج لبراهين وليس لانطباعات ثقافية عامّة.
ثانياً: هل المعادلة المدّعاة أعلاه حقيقةٌ علميّة صُلبة أم يقع فيها خلاف؟ هل يتفق علماء العالم على أنّ كلّ ما تحلّل إلى مذاهب أو وقع فيه أو في تفاصيله خلاف فهو باطل؟ وإذا اختلفوا فيه فهل يكشف ذلك عن بطلان المعادلة نفسها بقانونها عينها؟
ثالثاً: إذا أراد صاحب المعادلة أعلاه أن يُثبت الإلحاد ويهدم الدين (لا أن يكون شكّاكاً فقط أو سوفسطائيّاً، أرجو التنبّه)، فإنّني أسأله: هل الإلحاد قانونٌ علمي حاسم لم يقع فيه خلاف، ولم تختلف مدارس الإلحاد أبداً؟ هل البشر كلّهم متفقون على وجود برهان علمي قاطع على بطلان الدين؟ أليس علماء الفيزياء والفلك والفلسفة والأديان مختلفون أشدّ الاختلاف في هذا؟ ألم يكن ستيفن هوكنج مؤمناً قبل أن يتحوّل إلى الإلحاد مع كتابه (التصميم العظيم)، فيما كان غيره من الفيزيائيين ملحداً وتحوّل إلى الإيمان؟ ألا يعني ذلك أنّ الإلحاد ونفي وجود الله هو باطل؛ لأجل عدم حسم الأمور بعدُ حتى الآن في العالم؟ ألن تعني المعادلة أعلاه أنّ الدين باطل والإلحاد باطل معاً؟ فهل بطلان الإثنين معاً معقول؟! ولا أريد أن أتعامل بمنطق الأقليّة والأكثرية الذي يقف لصالح الدين إلى يومنا هذا، حيث الأغلبية الساحقة من البشر تعيش حالة الإيمان بالمقدّس المتعالي الخالق للعالم، مهما أخطأت في فهم الله تعالى وإدراكه ووعي أسمائه وصفاته، الأمر الذي شكّل الأديان الكبرى في العالم، بما فيها جملة من الأديان الوضعيّة.
رابعاً: يبدو لي أنّ المقاربة أعلاه وقع فيها التباس في المصطلح نتج عن التداخل مع مصطلحات العلوم الطبيعيّة، وتمّ نقل هذا الالتباس إلى المجال الفلسفي والمعرفي، ففي العلوم اليوم نطرح فرضيّةً وسط فرضيات متعدّدة، ثم نقوم بالملاحظة أو التجربة، ثم نرجّح فرضيّةً من الفرضيات (=نظريّة)، فإذا استطاع العلماء تحويل هذه النظريّة الراجحة التي اختارها فريقٌ من الباحثين وآمنوا بها إلى معطى حاسم غير قابل للنقض، تحوّلت النظريّة إلى (حقيقة علميّة)، فهناك مسار على الشكل التالي (فرضيّة ـ نظريّة ـ حقيقة)، ولهذا أنت تسأل: هل نظرية داروين نظريّة علميّة أم حقيقة؟
المقاربة أعلاه ظنّت أن معنى (النظريّة) في مقابل (الحقيقة) هو الباطل في مقابل الحقّ! وهنا كان الخطأ، فعندما نقول: نظرية علميّة، فهي غير صُلبة، أي لم تحسم عند جميع العلماء بعدُ، لكنّ هذا لا يعني أنّها باطل، والدليل هو أنّ كثيراً من النظريّات العلميّة التي وقع فيها خلافٌ طويل لسنوات في العلوم الطبيعيّة تحوّلت فيما بعد إلى حقائق علميّة، ولا يعني هذا تحوّل الباطل إلى حقّ، فقد كانت حقّاً غاية الأمر لم تحسم في الوسط العلمي، لكنّ أنصارها كانوا يؤمنون بها (أرجو التدقيق)، فالحقيقة العلميّة لا يقابلها البطلان، بل يقابلها ما يشمل (النظريّة التي لم يتم الاتفاق على حسمها بعدُ، وإنّما تمثل وجهة نظر فريق علمي). وبناء عليه فالمقاربة أعلاه ظنّت أنّ ما يقابل مصطلح الحقيقة العلميّة هو البطلان، فأسقطته على الدين؛ لأنّه ليس حقيقة علميّة، بمعنى الأمر المحتوم الذي لا نقاش فيه بين الناس والبشر والعلماء (أرجو تحييد موضوع الفطرة الآن).
خامساً: حاولت المقاربة أعلاه أنّ تحيّد فكرة الحقّ المطلق الذي يلتبس بتعدّد فهوم الناس، وافترضت أنّ هذا الأمر سفسطة.. طبعاً من حقّنا أن نسأل: لماذا هو سفسطة؟ وما هو الدليل؟ رغم أنّ آخر النظريّات الإيبستمولوجيّة (التي يختلف معها الكثير من المتديّنين أنفسهم) تؤكّد أنّ الحقّ يتنوّع ويتجزّأ ويتكثّر ويختلف باختلاف الفهوم بين البشر، فهل تريد المقاربة أعلاه أن تقول لنا بأنّ الجهاز الإدراكي الإنساني لا يلعب أيّ دور في تطويع الحقيقة مهما كانت في الأصل واضحة أو إدخال أيّ تعديل عليها أو غير ذلك؟ هل هذا يتوافق مع المعطيات العلميّة المعاصرة التي تطرح اليوم في علوم الفلسفة (فلسفة العلم) والنفس والاجتماع والتربية والفسلجة والهرمنوطيقا واللسانيات و..؟! لا يكفي لكي نخوض حواراً أن نطلق الكلمات جزافاً لنسدّ الطريق فقط على الآخر، ونُسقط كلمة (سفسطة) على أيّ وجهة نظر تخالفنا، يجب أن نتوقّف جيّداً عند دور القارئ والفاهم والمسافة الفاصلة بينهما وبين المقروء والمفهوم. نعم إنّ الحقّ يتعدّد في الفهوم البشريّة، وهذا قانون طبيعي تكويني، ولا يعني تعدّده التناقضَ دوماً، كما شرحتُ ذلك بالتفصيل في كتابي (التعددية الدينية).
أضف إلى ذلك أنّ المقاربة أعلاه ألغت من الحساب الأسباب الأخرى الناشئة عن الانقسامات الدينية بل وغير الدينية، فظنّت أنّ هذه الانقسامات لها أسباب معرفيّة فقط، وهذا تبسيط عظيم جداً للموقف في تقديري، ويخالف كلّ طرائق البحث المعاصرة التي تؤكّد على دور العناصر النفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصاديّة والطبقيّة في خلق الأفكار أو تشويه الوقائع والحقائق، وفي استخدام التطويع للنصوص تبعاً للمصالح. لا أريد أن أقول بأنّ كلّ الأسباب هي هذه كما يقول بعض المتدينين، بل أقول بأنّ بعض الأسباب تكمن هنا ولا يصحّ تجاهلها بالمطلق.
سادساً: لعلّ مقصود المقاربة أعلاه إبطال الفكرة التي يتداولها الكثير من المؤمنين وأهل الأديان والتي توحي بأنّ الدين واضح جليّ قطعي يقيني دائماً في كلّ تفاصيله.. وأنّ كلّ من يختلف معي في الرأي فهو مغرض وقاصد للسوء.. وأنا أوافق الناقد على ذلك، وأضمّ صوتي إلى صوته، فالدين غير واضح دائماً ومطلقاً في كلّ قضاياه، وهذا كلام يطلق في الهواء، والمعطيات تخالف هذا وتجافيه، وهناك تعقيدات كثيرة في العديد من القضايا الدينية. وتبسيطُ بعض رجال الدين للموضوع وكأنّ كل من يختلف مع قضيّة أو تفصيل ديني فهو خبيث حاقد معاند للحقّ الجليّ، غير صحيح أبداً، لكنّ هذا كلّه غير القول بأنّ وجود مشاكل في القضيّة الدينية يعني بطلان الدين من رأس، وعدم إمكان الإيمان به وفقاً لقناعة يقينية مستدلَّة.
سابعاً: ما معنى ما جاء في المقاربة أعلاه من أنّ الحقائق تصدر عن المطلق، فيما النظريات تصدر عن العقل النسبي؟ هذا الكلام ملتبس جداً ويحتاج تفكيك فلسفي، لا شكّ أنّ المطلق ـ وهو الله ـ لا يصدر عنه إلا الحقّ باقتضاء كمال ذاته وفرض إطلاقه، لكن هل العقل النسبي لا يصل إلى حقيقةٍ أبداً، أو فلنقل: لا يصل إلى جزء الحقيقة؟ إذا كان هذا الأمر صحيحاً فالمقاربة أعلاه باطلة؛ لأنّها صدرت من عقل نسبي، وهذا معناه ليس إبطال الدين، بل إبطال المعرفة الإنسانية عموماً. نعم من الممكن أن يقال بأنّ الدين حيث كان مختلفاً فيه فهو صدر عن عقل نسبي، وهذا يثبت عدم صدوره من المطلق وهو الله، ولكنّ هذه المعادلة غير صحيحة أيضاً؛ فلا دليل على أنّ كل ما يختلف فيه فهو صادر عن عقل نسبي، فهذه مصادرة غير مبرهنة، هل من المحال عقلاً أن يختلف الناس في أمر حقّ صدر عن الله عبر نصّ لغوي استخدم آليات البشر في التخاطب وهي الآليات التي تعتريها مشاكل الفهم؟ ما البرهان على استحالة ذلك؟ وما الدليل على أنّ الله لا يستخدم طرائق البشر في إيصال الأفكار، وهي الطرائق التي يمكن عروض الاختلاف من خلالها في بعض الحالات إمّا لانحراف البشر أو لسبب آخر.. نعم أن يعاقبهم على ما كان غامضاً أمامهم لسبب أو لآخر فهذا غير مقبول، لكنّ هذا غير أصل الموضوع الذي نحن فيه.
ثامناً: أعتذر فلم أفهم مرادكم من موضوع الميرداماد، فأرجو التوضيح، وفّقنا الله لكلّ خير.
دكتورنا الفاضل /لعل البعض سوف يفهم من جوابكم ان الوضع الطبيعي للعلوم والمعارف هو الاختلاف والتباين وعدم الترجيح والتقاطع في المرتكزات الذهنية ه، هذا يدعونا الى الالتزام بعبثية النبوة وعدم الحكمة من توفر الخطاب القراني على الدعوة الى الوحدة والاعتصام بحبله جميعا ؟
ارجوا مناقشة هذه القراءة التي يروج لها انصار التعددية الدينية ؟