السؤال: هناك نقاشات تدور في بعض أوساط المثقفين الشيعة حول حجيّة المرجعيّة الدينية للفقهاء في زمن الغيبة، حيث يقولون: إنّ العقيدة الإمامية الاثني عشرية قائمة على نظرية الإمامة المخصوصة المنصوصة بالاسم من قبل الله تعالى حصراً، وهذه الإمامة تتضمّن العصمة المطلقة لمن يتّصف بها، كما أنّ الإمام يمثّل المرجعيّة الدينية (المتمثلة في إعطاء الفهم الواقعي للإسلام، وفي جميع ما تطرّق إليه الإسلام، ومنها أحكام الحلال والحرام) ويمثل الإمام أيضاً المرجعيّة الدنيوية (المتمثلة بسياسة الناس وحكمهم وإدارة جميع مرافق حياتهم)، ويستندون في ذلك إلى الروايات الكثيرة المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في ذمّ من تصدّى للمرجعيّة الدينية ومن تصدّى للفتوى وأحكام الحلال والحرام وغيره، أو المرجعية الدنيويّة ومن تصدّى للحكم ورئاسة الناس وتسنّم السلطة، ويخرجون من كلّ هذه الروايات الكثيرة والمتعدّدة بنتيجة خلاصتها: 1 ـ حرمة تصدّي غير المعصوم للفتوى أو تبيان أحكام الحلال والحرام، بل كلّ مفاهيم ومعارف الإسلام والدين، وبصورة عامة حرمة تصدّي غير المعصوم للمرجعيّة الدينية في غير الأحكام الواقعيّة القطعيّة. 2 ـ حرمة تصدّي غير المعصوم لتسلّم الحكومة أو رئاسة الناس وإدارة شؤون الناس من خلال رئاسة الدولة، وبصورة عامّة حرمة تصدّي غير المعصوم للمرجعية الدنيويّة. ما رأيكم بهذه الآراء؟ وكيف نتعامل مع من يعتقد بهذه الآراء؟ (mohamadasdhoballah).
الجواب: في سؤالكم مجموعة نقاط لابدّ لنا من التوقّف بإيجاز عندها:
أولاً: ليس هناك شكّ في أنّ النبيّ وأهل بيته عليهم السلام يجب عليهم ـ وهو من صلاحيّاتهم ـ التصدّي لشؤون بيان الدين وإدارة دين الناس في الحياة، وأنّ النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وغير ذلك من المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم وبيّنتها السنّة المتواترة. لكن هل هذه الأدلّة تفيد حصر التصدّي بهم عليهم السلام بحيث تمنع تصدّي غيرهم بالوكالة عنهم؟ إنّ تصدّي الآخرين في عرضهم شيء وتصديّهم بالوكالة أو النيابة عنهم شيء آخر، فحقّ الحاكميّة سوف نفرض أنّه من مختصّات النبيّ، ثم أهل بيته من بعده، لكن هل تصدّي شخص للحاكمية بإذن من الإمام منافٍ لمبدأ حاكميّة الإمام وحصر الحكم به؟ كلا؛ لأنّ حاكميّة غيره لم تكن في عرض حاكميّته حتى تنافي الحصر، بل هي في طولها حسب رأي أصحابها، فهم لا يقولون لك بأنّ حاكمية الفقيه مثلاً هي حاكميّة في عرض حاكميّة النبيّ، وإنّما يدّعون أنّ هذه الحاكميّة الثابتة للفقيه هي بتوكيل عام أو بتفويض عام من الرسول وأهل بيته، وهذا التفويض حصلنا عليه ـ من وجهة نظرهم ـ من خلال النصوص الدينية، كقوله عليه السلام: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، وكقوله أيضاً: «اللهم ارحم خلفائي..»، وهذا تماماً مثل نصب الإمام علي عليه السلام شخصاً للقضاء أو والياً على مصر أو بلد، فهل كان مالك الأشتر مثلاً مخالفاً لولاية الإمام عليّ عليه السلام حتى نقول بأنّ ولايته على مصر تنافي حصر الولاية والحاكميّة بعليّ عليه السلام؟ وهل كان أمراء الجند وسرايا الجيش مخالفين لحقّ الحاكميّة النبويّة، مع أنّ لديهم سلطة ورئاسة على من هم دونهم؟! كلّ ما في الأمر هو أنّ هذا توكيل في عصر الحضور وذاك توكيل في عصر الغيبة، فما هو الدليل على بطلان هذا التوكيل وصحّة ذاك؟
أعتقد أنّه قد حصل التباس في فهم نظريّة مدّعي الحاكمية في عصر الغيبة، فهم يقرّون بأنّ السلطة الأولى هي للمعصوم من قبل الله، لكنّهم يقولون بأنّ المعصوم قد أمرنا وفوّض إلينا وأوكل إلينا التصدّي لمثل هذه المهمّات عنه بحسب النصّ القرآني ونصّ السنّة الثابت عندهم من وجهة نظرهم، فإذا أردنا أن نناقشهم فعلينا المناقشة معهم في التفويض المدّعى للفقيه أو غيره مثلاً في عصر الغيبة كي يحكم أو يتصدّى للسلطة، لا في أنّ التصدّي ينافي الأدلة الدالّة على حصر الحاكمية بالنبي وأهل بيته. وإلا فهم لا يقولون بممارسة السلطة مع وجود المعصوم، إلا بإذنه.
ثانياً: إنّ معنى المقولة التي نقلتموها هو أنّ الفقهاء لا يحقّ لهم سوى التصدّي للأحكام الواقعيّة، ولو أنت سألتَ الفقهاء عن الأحكام الظاهريّة الظنيّة التي وصلوا إليها، لقالوا لك بأنّها ترجع إلى القطع واليقين، فهم يقطعون بأنّ وظيفة المكلّف في عصر غياب النصوص وضياع الأحكام الواقعيّة الأوّلية هي الأحكام الظاهرية الثانوية، أي أنّ لديهم أدلّة على أنّ ما نسمّيه اليوم بالأحكام الظاهرية الظنيّة أو الظاهرية المعتمدة على الأصول العمليّة، أنّ هذه الأحكام وإن كانت ظنيّةً من حيث تطابقها مع الأحكام الواقعيّة الأوليّة وعدمه، لكنّها يقينيّة من حيث إنّ المكلّف ملزمٌ بها حيث لا تتضح له الأحكام الواقعيّة، فلو غصنا قليلاً في البُنية الفلسفية لمقولات الفقهاء والأصوليين هنا فسوف تصبح الأحكام الظاهرية يقينيةً أيضاً في أفق الظاهر (المسمّى بالواقع الثانوي)، لا في أفق الواقع الأوّلي، فما الفرق إذاً بينها وبين الأحكام الواقعيّة الأوّلية المتيقّنة مادام اليقين موجوداً فيهما؟ وما هو الدليل على التمييز بين هذين النوعين من الأحكام؟ ولماذا جاز لهم التصدّي للمرجعية في الأحكام الواقعيّة الأوليّة اليقينية ولم يجز لهم التصدّي في الأحكام الواقعيّة الثانويّة (الظاهرية) التي يقطعون بأنّها وظيفة عملية في عصر غياب الواقع التشريعي الأوّلي؟ هذه كلّها أسئلة يجب أن نجيب عنها قبل تبنّي هذه الفكرة المشار إليها أعلاه في سؤالكم.
ثالثاً: لو أردنا أن نُخلص للفكرة المشار إليها أعلاه، لكان ينبغي القول بسدّ باب الدين في كلّ ما هو غير متيقّن، أي أنّ كلّ ما هو غير يقيني يجب عدم بيانه للناس ولا يجوز بيانه. حسناً، ما هو الدليل على هذا الحكم؟ وهل هو يقيني أم لا؟ وإذا لم يكن يقينيّاً فكيف جاز لأصحاب هذه النظرية بيانه ودعوة الناس إليه، ولم يجز للمراجع بيان ما هو غير يقيني في اجتهاداتهم؟ هذه أيضاً أسئلة لابدّ من الوقوف عندها كثيراً. فهل نصوص النهي عن الإفتاء أو نصوص النهي عن الرئاسة يقينيّة متواترة؟! وكيف؟! هذا يجب توضيحه بشكل منهجي. وسيأتي التعليق على دليلهم هنا.
رابعاً: لقد أخذ أصحاب هذه الفكرة النصوص الدالّة على حرمة التصدّي للفتيا بوصفها مانعاً عن التصدّي للمرجعيّة الدينية، لكن لم يبيّنوا لنا كيف كانت هذه النصوص خاصّةً بالأحكام الظنيّة؟ وهل عنوان الفتيا الوارد في هذه النصوص موضوعٌ لغة وعرفاً للأحكام الظنيّة والاجتهادات غير اليقينيّة أم أنّ هذه الكلمة تشمل ما توصّلتَ إليه باليقين وما توصّلت إليه بالظنّ المعتبر عندك؟ لو أنّ إنساناً توصّل لألف حكمٍ شرعي باليقين من وجهة نظره، وأصدر رسالةً عمليّة بهذه الأحكام الألف، ألا يسمّى في العرف واللغة (ولنترك المصطلحات الحادثة فيما بعد) بأنّه أفتى؟ فالفتوى في اللغة البيان لما أبهم أو أشكل، أو قل هي مطلق البيان، ولا علاقة لها بفكرة الظنّ أساساً، فأنت تبيّن الحكم الإلهي المنكشف لك باليقين أو بالظنّ الحجّة عندك. فالله أحد المفتين، وهذا يعني أنّ الفتوى تشمل ما تبيّنه مما ثبت عندك باليقين أيضاً لا بخصوص الظنّ، فقد قال تعالى في كتابه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النساء: 176)، وقال سبحانه: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ (النساء: 127).
إنّ اليقينيات غير الضروريات، فالضروريات أخصّ من اليقينيات كما درسنا في الفقه والأصول، فكيف جاز الإفتاء عند أصحاب هذه المقولة في الأحكام الواقعيّة؟ وكيف خرج ذلك عن الدليل الدالّ على حرمة الإفتاء، مع أنّه ليس في تلك النصوص إشارة إلى الظنّ واليقين؟ هذا أيضاً يجب بيانه لتكتمل النظريّة، وتصبح ناضجةً أكثر. وأمّا إذا كنتم تقصدون خصوص النصوص الدالّة على حرمة الإفتاء بغير علم، فهذا يقبله الفقهاء، وهم يقولون بأنّنا نفتي بعلمٍ موجود عندنا بالواقع الثانوي للتشريعات، فإذا أردت أن تناقشهم فليناقشوا في مقولة الواقع الثانوي التي يدّعونها وما شابه ذلك، لا في الإفتاء بعلم أو بغير علم.
خامساً: إنّ النصوص الدالّة على النهي عن الفتيا لا يمكن فهمها نهياً عامّاً دون ملاحظة النصوص الأخرى، فلماذا لم يستحضر أصحاب وجهة النظر المشار إليها في سؤالكم تلك النصوص الدالّة على الحث على الفتيا، وكيف أنّ الأئمّة حثوا بعض أصحابهم على الفتيا مثل أبان بن تغلب؟ ولماذا لم تستحضر النصوص التي تجوّز القضاء وتفوّض للقضاة أعمالهم، مع أنّ عمل القضاة يحتوي في كثير من الأحيان على الظنون دون اليقين؟ إنّ نصوص النهي عن الفتيا يجب فهمها في سياقها الطبيعي والتاريخي، فهي تنهى عن التصدّي لمقام خطر وحسّاس، وتريد أن تؤسّس لمقولة الاحتياط في هذا المقام، تماماً كتلك النصوص التي وصفت التصدّي للقضاء بأنّه موجبٌ غالباً لدخول النار أو بأنّه لا يبلغ مقام القضاء إلا الأندر من الناس، كالنبي أو وصي نبي أو مؤمن امتحن الله قلبه، وما جاء بتعبير «اجتنب القضاء فإنّك لا تقوم به»، فهل تعني هذه النصوص النهي عن التصدّي للقضاء أم يجب فهمها في سياق بيان خطورة المنصب وأن لا يتطاول عليه الآخرون، وأن لا يتصدّى الإنسان لمنصب لا يليق به، وأن لا يتصدّى الآخرون لمنصب الإفتاء مع وجود الأئمّة دون الرجوع إليهم وعندهم علم النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟! هذا هو السياق الطبيعي والتاريخي لنصوص النهي عن الفتيا، لا حرمة بيان الأحكام الشرعية للناس وفقاً لاجتهاداتك التي تقتنع بها وترى أنّ عندك الدليل المقنع عليها، وترى في بيانها بيان حكم الله تعالى. فإذا أردنا فهم نصوص النهي عن التصدّي للفتيا أو للقضاء ـ إذا سلّمنا بأنّها متواترة ويقينيّة، وهو أوّل الكلام ـ فيجب أخذ هذا السياق التاريخي والطبيعي من جهة، كما يجب أخذ النصوص المقابلة التي تجوّز التصدّي للقضاء أو تحثّ على الفتيا أو على بيان الدين للناس، والفقيه يرى أنّ ما توصّل إليه هو دين الله ولو ظاهراً، وأنّه ما أراده الله منّا ولو في ظرف غياب المراد الأولي الواقعي لله سبحانه، فهذه النصوص تشبه نصوص النهي عن الجدل في القضايا العقائديّة حيث وردت نصوص تنهى عن ذلك، فإنّ هذا لا يعني وقف البحث في العقائد وعدم التصدّي للشبهات والإشكاليات، بل يعني عدم الغرق في السياقات الجدليّة المقسية للقلوب والموجبة لتعمية الحقيقة، أو خوض الجدال الكلامي من قبل شخص لا يليق بهذا المنصب، ولا يُتقن هذه الصناعة، ولهذا وجدنا بعض النصوص تحثّ بعض أصحاب الأئمّة على الجدل الكلامي من حيث لياقتهم، كما في حديث الإمام الصادق عليه السلام لهشام بن الحكم: «مثلك فليكلّم الناس»، أو في حديثه لعبد الرحمن بن الحجاج: «كلّم أهل المدينة، فإنّي أحب أن يُرى في رجال الشيعة مثلك».
إنّ نصوص القضاء والفتيا والكلام كلّها تحمل روحاً واحدة. ويجب التنبّه للواقع التاريخي المحيط بصدور هذه النصوص ـ وهو القرن الثاني الهجري والنصف الأوّل من القرن الثالث الهجري ـ وهي الفترة التي ظهرت فيها شخصيّات كثيرة تصدّت لمنصب القضاء والإفتاء والكلام دون أن تحظى بأيّ مستوى علمي، وشهد العالم الإسلامي ظهور ما عرف بأصحاب المقالات، وهم رجال كثيرون ـ أقلّ مستوى من أصحاب المذاهب ـ كانوا يتقوّلون الآراء بلا أن تكون لديهم المهنيّة والأدوات العلميّة الكافية للتصدّي. هذه الظاهرة التاريخية التي تعرّض لها الباحثون في محلّه يجب أخذها بعين الاعتبار لفهم السياقات الزمكانية لتلك النصوص جميعاً، والروايات المشيرة لهذه الحقيقة كثيرة، كما في الرواية التي تحكي عن الحوار بين الإمام وأبي حنيفة، أو بينه وبين بعض المفسّرين من التابعين وغير ذلك. ولا أقلّ من أنّ هذا الفهم لنصوص النهي عن الإفتاء والقضاء والكلام محتمل جدّاً، الأمر الذي يعيق استنتاج النهي الشامل الذي أراده المستدلّون في سؤالكم أعلاه.
سادساً: لو سرنا خلف هذا الفهم المشار إليه في سؤالكم، لكان ينبغي تحريم التصدّي للرئاسة، ونحن نسأل: لو حرّم الله على كلّ المسلمين في عصر الغيبة التصدّي للرئاسة فكيف ستسير بلاد المسلمين؟ لو أنّ المشرّع حكم بحرمة التصدّي، فهذا يعني أنّه شرعاً لا يجوز لأيّ مسلم التصدّي لشؤون الرئاسة، كيف يمكن أن نفهم وجهة نظر المشرّع نفسه في واقعنا الحالي على تقدير التزام جميع الناس بهذا الحكم؟ هل يعقل أنّ التصدّي للرئاسة الدنيوية هو في حدّ نفسه حرامٌ مطلقاً لجميع الناس في عصر الغيبة؟ إذن كيف ستسير بلدان المسلمين؟ وكيف ستنمو؟ وكيف سيعمّها الهدوء والأمن والاستقرار وغير ذلك؟ وكيف سيتمّ الدفاع عنها أمام هجوم الأعداء وعدوانهم؟
نعم من حقّك أن تفهم نصوص النهي عن الرئاسة بأحد فهمين:
الفهم الأوّل: إنّها تنهى عن حبّ الرئاسة وطلبها لغرض ذاتي لا لغرض ديني أو إنساني أو أخلاقي، ولا عن أصلها، وهذا ما تصرّح به بعض النصوص حيث تعبّر بما يعني الحبّ والطلب، وإلا فكيف صار النبي رئيساً ما دامت الرئاسة خصلةً أخلاقية مذمومة؟! لاسيما وأنّ نصوص النهي عن الرئاسة لا تقول بأنّها خاصّة بغير المعصوم فتأمّل جيداً. فهناك فرق بين أن أطلب الرئاسة وبين أن أمارس الرئاسة لو جاءتني، فلا تدلّ النصوص ـ بناءً على هذا الفهم ـ على حرمة تولّي منصب الرئاسة، بل على حرمة اللهث خلف هذا المنصب. وربما على هذا الفهم تصبح نصوص النهي عن الرئاسة ذات علاقة بالبُعد التربوي والأخلاقي، لا بسلب حقّ جميع الناس في ممارسة السلطة، وهذا ما جعل علماء الأخلاق المسلمين يضعون هذه النصوص في إطار بحثهم عن حبّ الجاه والمال بوصف هذا الحبّ خصلة أخلاقية مذمومة. وإلا فإذا كانت الرئاسة في ذاتها حراماً فكيف طلبها النبي يوسف لنفسه؟ وكيف طلبها النبي سليمان لنفسه؟ بل كيف جاز لوكلاء الأئمّة وولاتهم ووكلاء النبي وولاته ممارسة السلطة وهي نحوٌ رئاسة، فإنّ الرئاسة لا تخصّ رئاسة جميع المسلمين، بل تشمل مطلق الرئاسات الأخرى أيضاً.
الفهم الثاني: أنّها تنهى عن الرئاسة التي تمارس السلطة بغير شرع الله، أو تسلب صاحب الحقّ الشرعي في السلطة حقّه، وهذا أيضاً معنى محتمل، والفقهاء يقولون بأنّ رئاستهم الدنيوية ليست لغرض ذاتي، وليست لتطبيق شرعٍ غير شرع الله، ولا تقع في عرض سلطة المعصوم صاحب الحقّ، بل هي بتكليف منه، فإذا أردنا أن نناقشهم فلتكن المناقشة في هذه الأمور الثلاثة، لا في أصل موضوع الرئاسة.
وعليه، فغاية ما يثبت بنصوص النهي عن الرئاسة ـ لو سلمنا أنّها متواترة ويقينية، وهو أوّل الكلام أيضاً، فهي نصوص غالبها ضعيف ـ هو النهي عن التصدّي لمنصب سلطوي لا يملك الإنسان مؤهّلاته، أو يسلب بتصدّيه صاحب الحقّ الشرعي حقَّه، أو يكون طلبه لغرض دنيوي وزعامة شخصيّة خاصّة. أمّا التحريم المطلق فهو غير معقول، إذ لا يمكن للمشرّع العقلاني أن يحرّم على المسلمين في عصر الغيبة التصدّي لرئاسة بلادهم وتولّي الإمارات والولايات والوزارات! فهذه كلّها رئاسات. ونصوص النهي عن الرئاسة لا تنهى الفقهاء فقط حتى نقول بأنّ النهي خاصّ بالفقهاء، بل تنهى الفقهاء وغيرهم مطلقاً فلا يعقل تصديق الإطلاق فيها!
نعم، يبقى تلك النصوص الدالّة على النهي عن الخروج في عصر الغيبة، واعتبار كلّ راية في هذا العصر هي راية ضلال، وهذه لها بحثها الخاصّ المطوّل، وتوجد فيها مناقشات كثيرة جدّاً، يمكن أن تراجعوها، لاسيما عند مثل السيد كاظم الحائري والشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ حسين علي المنتظري والسيد محمّد الشيرازي وغيرهم من العلماء، وقد بحثتُها بالتفصيل في دراساتي حول فقه الجهاد. علماً أنّ النهي عن الخروج لا يعني النهي عن الرئاسة؛ لأنّ الخروج مصطلح يراد منه الثورة المسلّحة الدموية، فلو وصل شخص للسلطة بالانتخابات فلا يقال خرج على الحاكم، بل الخروج هو التمرّد المستدعي لسفك الدماء، فنصوص الخروج أخصّ من مطلق الرئاسة، نعم نصوص الرايات قبل عصر الغيبة تفيد ذلك ولها مناقشاتها الخاصّة عندهم مصدراً وسنداً ومتناً، لا يتحمّل بيانها هذا المختصر هنا.
سابعاً: قد يكون مقصود القائلين بوجهة النظر المشار إليها في سؤالكم أعلاه هو حرمة العمل بالظنّ في الدين والأحكام الشرعيّة، وأنّ الدين نهى عن العمل بغير اليقين والاطمئنان فيه، وهذا شيء أوافقكم عليه، فما توصّلتُ إليه في بحوثي المتواضعة هو عدم حجيّة الظنون، إلا ما خرج بالدليل الخاصّ مثل ظنون باب القضاء، دون ظنون أخبار الآحاد ونحوها. لكنّ هذه وجهة نظر، لا تسمح لنا بأن نسلب الفقهاء حقّ التصدّي للمرجعيّة الدينية في عصر الغيبة، لا لشيء سوى أنّنا نرى عدم صحّة بعض مناهجهم الاجتهاديّة، فهذا كلام غير سليم، بل يحقّ لهم ما داموا مجتهدين لهم وجهة نظرهم وإن كان يحقّ لي أن أختلف معهم في وجهة نظرهم في فهم الدين ومناهج هذا الفهم، وإلا فهل نقبل بأنّ يفتي الفقهاء بأنّه لا يجوز لمن يرفض حجية خبر الواحد التصدّي للمرجعية الدينية؟! هناك فرق واضح بين المقامين: مقام تصويب وتخطئة مناهج الإثبات والفهم في النصوص الدينية، ومقام السماح وعدم السماح بالتصدّي لمنصب المرجعية الدينية لأنصار هذا المنهج الاجتهادي أو ذاك. فهذا مثل من يجعل المرجعية الدينية حكراً على تيار سياسي معيّن، أو يجعلها حكراً على تيار فكري معيّن! لا لشيء إلا لأنّه يؤمن بهذا التيار الفكري أو ينتمي لهذا التيار السياسي الذي يرى فيه الحقّ والحقيقة!
هذا ما خطر ببالي تعليقاً موجزاً على الرؤية التي تفضلتم بنقلها في سؤالكم، ولعلّني لم أفهم مراد أصحاب الرؤية جيداً، والعلم عند الله.