السؤال: هل يحكم على أهل الكتاب بالكفر، علماً أنّهم يقرّون بوجود الله؟ (أبو إبراهيم).
السبب الأوّل: الشرك، من حيث إنّ عقيدتهم ـ حتى لو أقرّوا بوجود الله ـ غير توحيديّة من وجهة النظر الإسلاميّة، فإنّ التوحيد ليس أن تقول بأنّ الله الخالق واجب الوجود واحد، فهذا كانت تقول به العرب وترى وحدانية الخالق للعالم، بل التوحيد أيضاً هو أن لا تشرك معه غيره في العبادة والتدبير، والمشرك كافر في الفقه الإسلامي؛ لأنّه يخرق الشهادة الأولى من الشهادتين اللتين هما المعيار في الإسلام. واستشهدوا على كونهم مشركين بقوله تعالى: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة: 30 ـ 31)، فقد نسب إليهم الشرك في آخر الآية تعريضاً بهم، وعنوان (المشرك) في القرآن ـ بوصفه اسم فاعل مفرد أو جمع ـ وإن انصرف إلى عبدة الأوثان من العرب وغيرهم، لكنّ فعل (أشرك) وتصريفاته عامّ في القرآن الكريم نسب لغير عبدة الأوثان كما في هذه الآية الكريمة، وليس المهم هو العنوان بقدر ما المهم تحقّق الوصف فيهم كما تخبر هذه الآية الكريمة.
لكنّ بعض الفقهاء شكّك في شرك أهل الكتاب، وقال بأنّهم موحّدون وأنّ كفرهم هو للسبب الثاني الآتي فقط، ولعلّ بعض الأبحاث التاريخية بالغ الأهمية هنا، فهل التوصيفات القرآنية لأهل الكتاب تشمل كلّ أهل الكتاب في العالم على الامتداد الزماني والمكاني أم هي ناظرة غالباً إلى عقائد أهل الكتاب التي كانت في الجزيرة العربية، ولعلّها لم تكن هي السائدة في خارج جزيرة العرب؟ وهذا بحث هام جدّاً في قضيّة الموقف من أهل الكتاب، لاسيما بعد الأخذ بعين الاعتبار تغيّر بعض معتقداتهم عبر التاريخ، ويحتاج لبحث موسّع وتتبّعي واستقصائي كبير، وقد كتبت بعض المساهمات خارج الفقه الإسلامي في هذا الصدد، ومنها مساهمات بعض المفسّرين.
السبب الثاني: إنكار النبوّة المحمّدية والرسالة الخاتمة، حيث لا يؤمنون بالشهادة الثانية التي هي الشهادة بالرسالة، والتي تعدّ معياراً ثانياً للدخول في الإسلام، وإنكارهم نبوّة محمد واضح لا نقاش فيه. والفقهاء يرون الإيمان بالنبوّة المحمّدية معياراً موضوعيّاً في الإسلام، لا أنّه طريقٌ محض للعقيدة الدينية الصحيحة التي هي الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، وهذا بحث مهم، إذ لو قلنا بأنّ التركيز على الإيمان بنبوة محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لم يكن سوى طريق للإيمان بمضمون رسالته وهو التوحيد، وأنّه لو حصل التوحيد ولم يحصل الإيمان بالنبوّة الخاتمة لم يكن هذا كفراً، بل كان خطأً في الاعتقاد، لو قلنا بهذا لاختلفت موازين مباحث الكفر والإسلام في الفقه الإسلامي تماماً، والبحث طويل لا إمكان للدخول فيه الآن.
ولأحد هذين السببين أو لكليهما، جرى توصيف أهل الكتاب في القرآن ـ وليس فقط في كلام الفقهاء ـ بالكفر، ومنه ـ على سبيل المثال ـ قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يا بَني إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبّي وَرَبَّكُم إنَّهُ مَنْ يُشْرِك بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنْصَار لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلا إلهٌ وَاحِدٌ..﴾ (المائدة: 72 ـ 73).