السؤال: يتحدّث بعض العلماء وينسبون إلى العلامة الطباطبائي هذا القول، ويقولون بأنّ لهم منهجاً في تقويم الأحاديث والروايات، وهذا المنهج لا يقوم على النقد السندي ولا على التثبت من المصادر والأسانيد، وإنّما يقوم على المتن فقط، فكلّ حديث يوافق القرآن الكريم وروح التشريع والتاريخ والعقل والأخلاق، فهو حديث صحيحٌ معتبر يمكن الاعتماد عليه، وكل ما يخالف هذه الأشياء فهو حديث ضعيف مردود، وعلى هذا يصحّحون آلاف الأحاديث الضعيفة السند انطلاقاً من هذا المعيار. ما هو رأيكم في هذا المنهج؟ (قاسم، لبنان).
الجواب: لقد وضع العلماء المسلمون قواعد لنقد المتن، كمخالفة القرآن الكريم ومخالفة العقل ومخالفة حقائق التاريخ وركاكة البنية اللفظية أو المعنوية للحديث وغير ذلك، وهذه المعايير وغيرها تنفع في نقد المتن الحديثي، ويستخدمها العلماء في مجال تصفية الحديث الشريف.
إلا أنّنا مع ذلك نجد حديثاً بين العلماء المسلمين ـ لاسيما في العصر الحديث ـ حول مرجعيّة نقد السند أو نقد المتن، ففيما تميل تيارات فكرية وحديثية كبرى إلى مرجعيّة نقد السند بدرجة أساسية، حيث نجد معها التركيز على المعايير السنديّة ودراسة حال الرواة، نجد فريقاً آخر يسعى لجعل تحليل متن الحديث هو المعيار في التعاطي معه، فإذا وافق القرآن والعقل والتاريخ ومنطق الأشياء أخذنا بالحديث وإلا طرحناه، وقد نظّر بعض العلماء المعاصرين لهذا الموضوع، بجعل نقد المتن هو المعيار دون نقد السند، على أساس أنّ نقد السند أقصى ما يفيد الظنّ، فيما نقد المتن يوصلنا إلى اليقين بصدور هذا الحديث أو ذاك أو عدم صدورهما، انطلاقاً من أنّ أحاديث العرض على القرآن الكريم تفيد أنّ ما وافق الكتاب فخذوه وما خالفه فدعوه، فهي أحاديث تبطل المخالف وتثبت الموافق، لا أنّها تفيد في الإبطال فقط.
إلا أنّنا نختلف مع هذا المنهج، ونجد أنّ نقد المتن ـ لوحده ـ يلعب دوراً إبطاليّاً فقط، ويندر أن تكون معه حالات يمكن فيها إثبات صدور النصّ بعيداً عن السند، أي إنّه لا يلعب غالباً دوراً إثباتيّاً، إذا أردت أن أستعير تعابير الفيلسوف الغربي كارل بوبر في المعرفيّات، وبعبارة أخرى: إنّ معيارية المتن لا تحسم ـ على مستوى القاعدة ـ حيثية الصدور في الحديث، نعم لها القدرة على حسم حيثية عدم الصدور، فلو كان المتن مخالفاً للقرآن الكريم لأمكن لقانون معيارية المتن أن يسقط الرواية عن الاعتبار، لكنّ مجرّد عدم معارضتها للقرآن، أو وجود مناخها في القرآن لا يعني أنها قد صدرت، لاسيما وأنّه من المعروف في تاريخ الحديث أنّ الكثير من الزهاد والصلحاء قد وضعوا أحاديث في فضائل الأعمال ترغيباً للناس. فإذا أراد المستدلّ هنا أن يقدّم منهج معيارية المتن على السند بحجّة أنّ الأول يقيني والثاني ظنّي، فهذا لن يسلم له، بل ستكون نسبة الظنية في المجال المتني مساوية أو أقلّ مما هو حاصل في مجال السند، فسيرد عليه الإشكال الذي أورده هو بنفسه على منهج نقد السند. ومعنى ذلك أنّ موافقة الحديث للقرآن والعقل سوف تصحّح مضمونه، وتصحيح المضمون لا يساوي تصحيح الصدور، فلو قلت لك الآن: قال رسول الله: الأخلاق مسألة جيّدة، فهذا المضمون مناسب للعقل والقرآن، وأستطيع أن أثبت بالموافقة معهما صحّة المضمون، لكنّ هذا لا يعني أنّ هذا النصّ قد صدر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم؛ إذ ما الدليل على أنّ كل ما نسبناه إلى النبي وكان مضمونه صحيحاً فقد صدر؟! فالفيلسوف الصدرائي يؤمن بالوحدة التشكيكيّة الخاصّة، فهل سيأخذ بقولي الآن، وأنا في القرن الواحد والعشرين، عندما سأقول له روايةً مرسلة عن النبيّ هي: إن الوحدة التشكيكية حقّ؟! إنّ هذا المضمون صحيح عند الصدرائي، لكن هل يعني ذلك أنّ الرسول قد قال هذه الجملة فعلاً؟! هل هذه النسبة الصدورية عقلانية؟! إنّ هذه القفزة من التصحيح المضموني إلى التصحيح الصدوري ظنيّة واحتماليّة أيضاً، وليست بأقوى ظنّاً من الظنّ الناتج عن التوثيق التاريخي والسندي.
وأمّا أحاديث العرض على القرآن الكريم التي فيها الأخذ بالموافق، والتي تقارب ـ بصيغة الأخذ بالموافق ـ ثماني روايات، فيمكنني تسجيل ملاحظات عديدة عليها هنا، أبرزها:
1 ـ إذا أريد إثباتها بمنهج نقد المتن نفسه فلا يحصل العلم بها بعد ما قلنا بأنّ صحّة المضمون لا تساوق صحّة الصدور. وإذا أريد إثباتها بمنهج نقد السند، فهذا يعني أنّ كل منهج نقد المتن سيرجع في دليل حجيّته ـ الذي هو روايات الأخذ بالموافق ـ إلى منهج نقد السند، ومن ثم فلا معنى لأنّ يقول أنصار هذا الرأي بأنّ منهجهم متقدّم ـ على مستوى الظنيّة واليقينية ـ على منهج نقد السند.
2 ـ إنّها لا تثبت أنّ ما وافق كتاب الله فقد صدر واقعاً حتى ندّعي اليقينية؛ لأنّ غاية ما فيها هو لزوم الأخذ بما وافق كتاب الله، ويمكن أن يكون الأمر بذلك راجعاً إلى أنّ أغلب ما وافق كتاب الله من الأحاديث التي بين أيدينا قد صدر واقعاً، فتقدّم هذه النصوص بنفسها معياراً لوزن الحديث بحسب الظنّ الغالب لا كاشفةً عن الصدور الواقعي. وبعبارة أخرى: إنّ الأمر بالأخذ بالخبر الموافق للكتاب غاية ما فيه إعطاء الحجية لطريق ظنّي، تماماً كالأمر بالأخذ بخبر الثقة حيث لا يعني بالضرورة أنّ خبر الثقة يقيني الصدق، فليلاحظ ذلك جيداً، وبهذا لا يصبح منهج نقد المتن الذي يطرحه هؤلاء أقوى في الدرجة اليقينية من منهج نقد السند، خلافاً لما يدّعونه.
3 ـ بل يمكن القول بأنّ أغلب روايات العرض على القرآن الكريم ليست واردة في مورد إعطاء الحجيّة النهائية، بل هي تريد أن تقول بأنّ الحديث الذي وصلكم ولا مشكلة فيه من النواحي الأخَر، هذا الحديث إذا وافق كتاب الله فخذوه، وإذا خالفه فذروه، فهي بصدد بيان رفع المانع، وليست في صدد إعطاء الحجية لكلّ موافق، بل في صدد إعطاء الحجيّة للموافق المتصف بصفات الحجيّة الأخَر المأخوذة في النصوص، فتكون محكومةً أو مقيّدةً أو مخصّصة بالأدلة الدالة على حجيّة العلم لو قلنا باختصاص الحجية بالخبر اليقيني، أو بالأدلّة الدالّة على حجية خبر الثقة أو العدل دون غيرهما، بناء على أنّ دليل الحجية يثبت الحجية لخبر الثقة أو العدل وينفيها عن غيرهما كما في مثل آية النبأ مثلاً، وبهذا لا يصحّ أن نأخذ من أحاديث العرض على الكتاب مفاداً نهائيّاً للإثبات بصرف النظر عن ضمّها إلى شروط الحجيّة الأخرى المستفادة من النصوص والبناءات العقلائيّة، ويمكننا أن نعزّز ذلك بأنّ مساق مجمل أدلّة الحجج الظنيّة الكاشفة كحجية الخبر وحجية الظهور وغير ذلك، إنّما هي إشارات إلى المرتكزات العقلائيّة، وليست تأسيسات لطرق ظنيّة جديدة غير موجودة بين العقلاء، ومن الواضح أنّ العقلاء لا يرون محض الموافقة موجباً لظنيّة الصدور، إلا بجعله قرينة إلى جانب سائر القرائن الصدورية.
4 ـ إنّ روايات العرض التي جاء فيها التعبير بالأخذ بالموافق، لا تتجاوز الثمانية أو الأزيد بقليل، وأغلبها ضعيف السند، وحيث إنّ الصحيح هو حجية الخبر المطمأنّ بصدوره فحصول الاطمئنان بالصدور من هذا العدد من الأخبار مشكل، ومعه لا يمكن البناء على حجيّة هذه الأخبار كي نجعلها مدركاً لحجيّة مطلق الخبر الموافق. بل حتى لو فرضنا حجيّتها بمعيار من المعايير سوف يكون إطلاقها أو عمومها مخالفاً للقرآن الكريم نفسه فينبغي طرحه؛ لأنّ آية النبأ تسقط حجية خبر الفاسق، وهذا معناه أنّ الخبر الذي يرويه فاسق ـ على الخلاف في معنى الفسق هنا، هل هو الفسق الشرعي أم الفسق الخبري، بمعنى عدم كون الراوي ثقةً ـ مسلوب الحجية قرآنياً سواء كان مضمون الخبر موافقاً للقرآن أم مخالفاً، مع أنّ المفروض أنّ خبره حجة لو وافق القرآن بموجب أخبار العرض، فيقع التعارض بالعموم من وجه بين النصّ القرآني ونصّ أخبار العرض بحسب هذا الفهم (لأنّ أخبار العرض تعطي الحجية للخبر الموافق دون المخالف، سواء كان راويه ثقة أو غير ثقة، بينما آية النبأ تسلب الحجيّة عن خبر غير الثقة، سواء روى الموافقَ للكتاب أم روى المخالف، فخبر غير الثقة الموافق هو مادّة الاختلاف بينهما)، وهو ما يوجب سلب الحجية عن خبر غير الثقة الذي يوافق القرآن، فضلاً عن الذي يخالفه، ومحض الموافقة ليس تبيّناً عقلائيّاً كما بيّنا فلا يشكل علينا بأنّ التبيّن قد حصل بذلك.
إنّ مشكلة العديد من الدارسين في مجال نقد السند والمتن، أنهم يشعرون أنهم مضطرون إما إلى تبنّي السند أو المتن، مع أنه يمكن الجمع بينهما، ليكون هذا الجمع هو القادر على تحصيل اطمئنان قويّ في النفس يؤمّن الإثبات التاريخي والصدوري للحديث، فإذا كان السند لا يكفي والمتن كذلك، إلا أن ضمّهما إلى بعضهما وإعمال معاييرهما على الحديث قد يقويّ حالة الوثوق حينئذٍ. والبحث له تفصيلات عالجناها في محلّه فلا نطيل.