السؤال: لا أزال إلى اليوم لا أجد طريقة لدراسة العقيدة ـ بشكل تام وكامل ـ وبمعنى أصحّ لا أرى سبيلاً للوصول إلى اليقين، فاليقين محال، وإذا افترضنا شخصاً حاول دراسة العقيدة كما حاولت، فسيجد أنه كلّما جالس شخصاً متديّناً بدين أو معتنقاً لرأي، فسيتأثر بأقواله أو لا أقلّ ببعضها. وعلى فرض أنه جال على جميع الأديان والعقائد ـ وهو ما يحتاج إلى وقت ـ فإنّ الدين الذي سيستقرّ عليه أخيراً يتفرّع إلى مذاهب، وعلى فرض أنه توصّل إلى قناعة تامّة بصحّة توجّهٍ ما في مذهبٍ ما في دين ما، فإنّه سيبقى في النفس شيء باحتمال الخطأ، فنحن لم نطّلع على كلّ الآراء والأفكار في العالم، وعلى فرض اطلاعنا فإنّ المستقبل وما فيه كافٍ لزرع الشك ببطلان ما نحن عليه. ولعلّه الأمر الذي دفع بأحدهم إلى إنكار فائدة الفلسفة وعلم الكلام إلا لجدال الغير وحاول طرح بديل عنها. فما هو المنهج السليم في دراسة العقيدة؟ وأين موضع الخلل في هذا المنهج؟ وهل من سبيل للوصول إلى اليقين؟ أحبّ أن أختم بقصّة حصلت لي عن الموضوع وحوله، فقبل خمسة أعوام حصلت ـ صدفةً ـ على وريقات معنونة بـ”أسئلة قادت شباب الشيعة إلى الحق”، وقد كانت صدمة كبيرة لي في تلك الفترة، إذ لم أفكّر ولم ألتفت أصلاً لمثل هذه المواضيع بسبب البيئة الاجتماعية عموماً والأسرية خصوصاً التي عشتها، كنت في الرابعة عشر وأغلب جهدي وفكري يبذل في ألعاب الكمبيوتر وعوالمها اللامتناهية حيث كنت أعيش بخيال واسع ـ أبسط أسبابه طبيعة المرحلة ـ في عوالم من القتال في الحروب والمنافسة في بطولات الرياضة وحتى الحياة الطبيعية مع فارق كونها خيالية، فبعض الألعاب الرائجة بقوّة بيننا ـ ولعلّه من الجيد التفاتنا لهذا الأمر ـ توفر حياة كاملة، فهي عبارة عن شخص يعيش حياته وله منزله وسيارته وروتينه اليومي المتمثل ـ في الغالب ـ بالإجرام. وإذا ما قمت بإلغاء الوقت والجهد المبذول في هذا الجانب ـ جانب اللعب ـ فلن يبقَ إلا جزء أقلّ قليلاً منه كان يبذل في الدراسة المدرسيّة لتحصيل الدرجات العالية التي كانت تفرح الأبوين وعموم المحيط الذي أتلقى منه الثناء. وأعود إلى الأوراق التي ما إن قرأتها حتى شككت في صحّة ما نحن عليه من العقيدة بشعور نادر من الشك، إنّ حجج تلك الأوراق كانت قويّة في حينها، بعدها بدقائق بدأت أتساءل، إذ هل يعقل أنّ المرجع الذي أقلّده ـ لأنّ والدي وجّهني إليه ـ وهو العظيم في نظري.. جاهل؟ وهل أنّ إمام المسجد الذي أصلّي فيه منذ صغري مع والدي لا يفقه في الدين شيئاً؟ حسمت الأمر إذ إنّ ذاك الإمام عالم جليل نقبّل رأسه ونحبّه، فلماذا لا أعطيه هذه الأوراق ليجيبني عليها، لقد زال الشك في تلك اللحظة أو قلَّ بدرجة رهيبة، فالشيخ ـ حفظه الله ـ عالم ولا يعقل ألا يجيب على هذه الأسئلة وإن كانت صعبة في نظري. فزرته في اليوم التالي وأعطيته الأسئلة وبمرور عدّة أيام سألته عنها، فقال: لم أنهها ـ ربما لكثرة مشاغله وهو الأمر الذي نتفهّمه ويجب علينا ذلك ـ وبمرور ما يقارب الأسبوع سلّمنيها بإجابات على ظهرها واصفاً إياه بالجاهل، وما تبيّن بعد المتابعة، أنّ المشكلة في ذلك الحين كانت بأنّ إجابات الشيخ ـ سدّد الله خطاه ـ أكثر سطحيّةً من الأسئلة، ربما كان ذلك الشيخ يحاول تبسيط الأجوبة وربما لم يكن له الوقت الكافي ليستخرج شواهد تاريخية تنقض الإشكالات المطروحة، أيّاً كان السبب لم يكن ذلك الحوزوي المبلّغ ناجحاً في إقناعي، تلت تلك الحادثة حوادث مشابهة، فلقد زرت الكنائس في الكويت وجالست رعاتها، كما كنت على قناعة ـ في فترة ما ـ بأنّ الحقّ يثبت نفسه، فطلبت مناقشة أحد خريجي كلية الشريعة لكي يطرح عليّ بعض الأسئلة التي جعلتني أتردّد أكثر من مرّة في ما أنا عليه من التصوّر، هذا فضلاً عن الرواسب التي تبقّت من بعض ما سمعت وقرأت في عمرةٍ قمت بها، ورواسب على الطرف النقيض من بعض ممارسات المنتسبين للطائفة، ولهذا توصّلت أخيراً إلى أنّ الوصول إلى اليقين غير ممكن. فماذا ترون؟ (ابنكم: حسين، من الكويت ومقيم في فرنسا).
الجواب: أخي العزيز الذي امتاز عن كثيرين غيره بالشعور بإنسانيّته، ونفض غبار التقليد عن ذاته. هذا الموضوع الذي طرقته لا ينتهي برسالة جوابيّة، فهو قصّة مسيرة الإنسان في بحار المعرفة، ولستَ وحدك في هذا العالم ممّن يعيش هذا الواقع، بل قد عاش ذلك أناس قبلك ومعك وبعدك. لست أريد أن أدخل في مناقشة كلّ جزئيّة؛ لأنّ هذا الموضوع ينبني على أساسيات في فلسفة المعرفة، يجب رصدها وتحليلها، والوقت لا يتسع لها؛ كما أنّ رسالتكم ذات طابع عام، من هنا سوف أشير إلى نقاط لفتت انتباهي في سؤالكم المشكور، وهي:
أولاً: لكلّ شيء في عالم الأفكار سبب ودليل، والسبب غير الدليل، فأنا أقول: يجب تبنّي النظرية السياسية الفلانية، ودليلي هو مجموعة أفكار بنيتها ورتّبتها لتكون هرماً يوصل إلى هذه النتيجة. أمّا السبب فهو أنّني مثلاً تعرّضت للظلم من قبل حكومة بلدي؛ لهذا اندفعت للتفكير في هذا الموضوع والوصول إلى هذه النتيجة. وقد بدا لي واضحاً من سؤالكم أنّ عاصفة الشك التي عصفت بكم لم تنبع من خلفية نقد معرفي لأصول التفكير الإنساني كما فعل ديكارت أو الغزالي مثلاً، وإنّما نبعت من كونك فوجئت ولأوّل مرّة بقراءة أو سماع محاولة نقدية جادّة لأساسيّات تفكيرك، وأنت تخرج من إطار التقليد العائلي والمناطقي، إلى إطار الاستقلال الذاتي بحسب طبيعة السنّ الذي تعيشه كما يظهر من الرسالة. إنّ الظروف النفسية هذه لعبت دوراً في حصول حالة الشك هذا؛ إذاً فلرفع الشك وحسم الأمر فيه نحن بحاجة إلى جماع عنصرين: الأوّل هو البحث العلمي، والثاني هو إعادة برمجة الحالة النفسية، بحيث يصبح وضعها هادئاً، ومن ثم يصبح من الممكن أن يكون للنقاش العلمي قدرة الإنتاج بعد ذلك؛ لأنّ الحالة النفسية المضطربة قد تجرّ الإنسان إلى إنكار معطيات علميّة واضحة أحياناً بسبب ظروف ذاتية غير سويّة، لهذا أنصحكم ـ نصيحة الأخ لأخيه ـ أن تحاولوا في البداية السيطرة على نفسك من خلال مفهومين: أحدهما هو أنّ الشك ليس أمراً مخيفاً؛ لهذا عليك في اللاوعي أن لا تعيش الخوف منه. وقد تقول لي بأنني لست بخائف، لكن هذا هو شعورك، أما لاشعورك فهو الخوف على ما أظنّ؛ ولهذا أرسلت مثل هذه الرسالة؛ لكي تخرج من حالة الخوف والقلق هذه، فاعلم يا أخي أنّك لست مذنباً، والشك لا يوجب الخوف، وما يوجب الخوف هو التقصير عن التفكير بعد عروض الشك لك. ثانيهما هو الاقتناع أيضاً لتهدئة الحالة النفسية بأنّه لا عقاب إلهيّ على مثل هذا التفكير عندما لا يحتوي تقصيراً في المقدّمات والعمل، وعندما يكون الله تعالى شاهداً على صدق نواياك في الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، وإذا كان شكّك يشمل وجود الله تعالى فمن الحسن أن تعلم أنّ الضمير الإنساني هو الآخر لا يتّهمك بالذنب فيما فعلت أو فيما حصل معك، شرط أن لا تقصّر في إكمال المسيرة.
ثانياً: من الضروري في عالم المعرفة أن لا نعمّم الأمور التي لا تقبل التعميم، فمن أخطاء البحث العلمي تعميم أمور لا تقبل التعميم، مثلاً فرويد عندما جعل كلّ شيء ناتجاً عن تأثير اللاوعي، أي العقل السفلي، وهو عنده الجنس، والماركسيون الذين جعلوا كلّ الفكر عبارة عن حتميات المادية التاريخية القائمة على وسائل الإنتاج.. لم يصيبوا الواقع؛ لأنّ هذه الأمور لها دورها، لكنّها لا تملك الدور الوحيد، فقد عمّمناها ووسّعنا تأثيرها بطريقة غير علميّة. وأعتقد أنّ ما حصل معكم وذلك الشيخ المبلّغ يمكن أن يحصل مع كثيرين، لكن لا ينبغي التعميم، ويجب التروّي قبل الوصول إلى نتائج؛ لأنّه إذا كان التقليد منبوذاً فإنّ العجلة في تبنّي الأفكار المخالفة لنسق التقليد منبوذةٌ أيضاً بحكم العقل والمنطق العقلاني وبحكم الدين كذلك.
ثالثاً: إذا أراد الانسان في خضمّ الخلاف أن يشك فإنّه يمكنه ذلك، لكنّ الخلافات الفكرية لا تعني عدم إمكان الوصول إلى الحقيقة؛ لأنّ الحقيقة لا يمكن الإشارة إليها باتفاق الناس، وإلا عُدنا إلى التقليد مجدّداً، فكم من الحقائق التي اختلف حولها الناس؟! وكم من باطل اتفقوا عليه؟! إذاً ينبغي بدل جعل الخلاف مبرّراً للشك أن نجعله مبرّراً للتفكير المضاعف، وإنما يصحّ لنا الجمود عند الشك عندما يكون الخلاف بحيث يثبت لدينا عدم إمكان حسمه بالمعايير العقلانية، أي تتكافأ فيه المعايير والأدلّة كما يقول عمانوئيل كانط، فيجب التفكير في أنّ الخلاف الديني هل هو من هذا النوع أم لا؟ وذلك قبل الإسراع بالحكم لمجرّد كثرة الخلافات.
رابعاً: إنّ ما قلتموه كما يصبّ في نظرية نسبية المعرفة، كذلك يمكن أن تفكّروا به من زاوية نظرية التعدّدية الدينية المعرفيّة، فأنتم انطلقتم من فرضيّة مسبقة وهي أنّ اليقين الذي يجب أن يكون في الدين هو اليقين الذي لا يمكن بحال من الأحوال أن يزعزعه شك، فمجرّد أنّني شككت نتيجة لقائي مع شخص من دين آخر فهذا يعني أنّ الدين غير صحيح، مع أنّ هذه الفكرة بنفسها غير صحيحة؛ ففي كلّ العلوم الطبيعية والإنسانيّة هناك مساحات واسعة من العلم تقبل التغيّر والتبدّل أو قد يعرضها شكّ أو احتمال بسيط على خلافها، دون أن يضرّ ذلك بصحّتها وسلامتها، فالمهم أنّني الآن ونتيجة الأدلّة التي قامت عندي مقتنعٌ بهذا الدين، وأمّا أن أقول بأنّني ولأنّه كلّما جلست مع شخص فسوف يقلقني ويشكّكني، فهذا معناه أنّ الأدلّة باطلة، لو قلنا ذلك لكان معنى هذا أنّ جميع معارفنا باطلة تقريباً. القضيّة لا تحسب بهذه الطريقة، بل يحتمل الأمر احتمالات أخرى، وهي أنّه لقلّة معرفتك بالتفاصيل الخلافيّة الدينية تعيش هذه الحال، أمّا لو كنت مطّلعاً من الأوّل على خلافات الأديان واخترت الأدلّة بعد وعي بالأديان الأخرى لكان يقينك أكثر اطمئناناً وهدوءاً. إنّ بناء يقيننا بدينٍ ما على معرفتنا بهذا الدين دون معرفةٍ منّا بأيّ دين آخر من الممكن أن تغرقنا في الارتباك لو تعرّفنا بعد مدّة على دين آخر، أو توقعنا في حالة العمى عن رؤية الآخرين رؤيةً موضوعيّة، ولهذا كنّا نقول مراراً بأنّه يفترض أن تبنى العقائد ـ حيث يمكن ـ على وعي مقارن بالديانات، بحيث عندما نواجه ديانةً أخرى لا نعيش الارتباك هذا. من هنا فإنّ نصيحتي هي أن لا تحكم على المعرفة كلّها من خلال تجربتك الصغيرة هذه ـ مع تقديري لها ـ لأنّ هذه التجربة هي تجربة عشتها في بداية عمرك، وفي هذا السنّ وفي حالتك التي خرجت فيها من جوّ مغلق إلى جوّ منفتح، يغلب أن تكون المشكلة نفسيّة أكثر منها عقليّة وعلميّة.
خامساً: صحيح أنّ الأديان كثيرة والمذاهب متعدّدة، لكنّه ليس من المطلوب من كلّ إنسان أن يعطي رأياً في كلّ تفاصيل الخلاف الدينية والمذهبية، بل هناك مجموعة محدودة من القضايا تشكّل حجر الزاوية لكلّ دين أو مذهب، يمكنه أن يطّلع عليها وكفى. فمثلاً لو أثبتَّ نبوّة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كفى ذلك في انفتاحك على الإسلام، ولا يحتاج الأمر الى التفاصيل، فلست بحاجة لأن تكون عالماً بالأديان المقارنة بكلّ تفاصيل اعتقاداتها، بل المطلوب هو الأصول الأوّلية للاعتقاد الديني بحيث تحسم خياراتك فيها، وليس من المطلوب ـ عقلاً وشرعاً ـ من كلّ الناس أن يكونوا من علماء الكلام، بل المطلوب هو معرفة عدد محدّد جداً من العقائد، والاطمئنان النفسي بشأنها، أمّا التفاصيل والإشكاليات هنا وهناك فليست مطلوبةً إلا إذا كان الشخص لا يحصل له اليقين بالأصول إلا عبر المعرفة بالتفاصيل.