السؤال: سماحة الشيخ الفاضل حيدر حبّ الله حفظكم الله عزاً لكلّ المسلمين. شيخي العزيز، لقد كان في اكتشافي لشخصكم الكريم ما أعتبره نعمةً كبيرة أن وجدنا فيكم المحاور الهادئ والصدر الرحب الذي يتسع لأبسط الأسئلة من ناحية أو أكثرها جرأةً من ناحية أخرى، ونكبر لكم دوركم الفذّ في نشر ثقافة التسامح والعقلنة في زمن تعالت فيه أصوات الغلوّ والتطرّف وإقصاء الآخر، ونأمل لكم المزيد من التوفيق في خدمة الإسلام. شيخي العزيز، لديّ الكثير من التساؤلات التي لا أجد غيركم لطرحها عليه، والتي يعصف بعضها بعقلي ويثير بي الكثير من القلق المعرفي، وبودّي أن أطرح عليكم هذه المرّة التساؤل التالي: هل يمكننا القول ونحن نعتقد أنّ المذهب الإمامي هو أقرب المذاهب للشريعة الإسلاميّة، أنّه يحتوي على نسبة كبيرة من الموافقة لها، ولكن هذا لا يمنع أن تحتوي بقيّة المذاهب على نسب أقلّ من الموافقة، وقد تكون غير موجودة في المذهب الإمامي، أم أنّ كلّ ما في المذهب الإمامي هو حقّ وكلّ ما خالفه هو باطل؟ أفلا يمكن افتراض أنّ إجماع علماء الإماميّة على بعض المسائل الدينية هو خطأ وأنّ الصواب هو فيما اختاره علماء بقيّة المذاهب؟ وهل يعقل أن يكون مذهبٌ معيّن صحيحٌ مائة بالمائة؟ (عماد الرفاعي، العراق).
الجواب: لا يمكن ـ حسب ما يبدو ـ إثبات صحّة مذهب بعينه على مستوى كلّ التفاصيل، ولا أظنّ أنّ أحداً يمكنه إقامة الدليل على ذلك بحيث يتطابق الحقّ مع كلّ ما هو موجود اليوم في المذهب الإمامي مثلاً، وهذه هي نظرية التعدّدية المعرفيّة، والتي تقول بأنّنا لو أخذنا منظومة معرفيّة معينة وقارنّاها بالمنظومات المعرفيّة الأخرى فإنّه من الصعب التأكّد فلسفيّاً من تمركز الحقيقة في المنظومة الأولى وغياب الضوء عن المنظومات الأخرى، بل عادةً ما يكون ضوء الحقيقة منتشراً على كلّ المنظومات، مع اختلاف بينها في الكمّ تارةً، وفي الكيف ونوعيّة الحقائق في هذه المنظومة أو تلك أخرى، وهذه هي الرسالة النهائيّة لكتابي المتواضع (التعدّدية الدينية، دار الغدير، بيروت، الطبعة الأولى، عام 2001م)، يمكنكم مراجعتها.
وحتى الأمور الإجماعيّة لا دليل على ضرورة تطابقها مع الواقع، فقد يخطأ العلماء في الاجتهاد فيتّفقون على شيء ثم ينكشف خطأ اجتهادهم، ومثل هذا كثير في تاريخ الاجتهاد الشرعي والكلامي عند المسلمين، كما قد حصل في سائر العلوم الإنسانيّة والطبيعية، وقد أشار لهذا الأمر العلامة الطباطبائي، وقد تعرّضت لرأيه في هذا الموضوع بالتفصيل في بعض البحوث الكلاميّة، ولا بأس بالإشارة إلى رأيه لرفع الاستيحاش، حيث يرى العلامة الطباطبائي أنّ فكرة إجماع الأمّة قد تمّ اختراعها من قبل الاتجاهات الفكريّة الغالبة في الساحة الإسلاميّة، لكنّ قضية إجماع الأمّة ـ في نظر الطباطبائي المفسّر لموقف الطرف الآخر ـ لم تكن لتكفي ما دامت الأمّة قد اختلفت فيما بينها، وهنا قاموا بأمر إضافي وهو أنهم «وضعوا أهل الحلّ والعقد أو علماء الأمة مكان الأمة، ثم أجلسوا بدلاً من علماء الأمة بأجمعها علماء تيار وطائفة واحدة من قبيل الأشاعرة أو المعتزلة، ثم منحوا (سلطة الإجماع) لعلماء كلام طائفة معيّنة من الطوائف، بدلاً من علماء تلك الطائفة بأجمعهم..» (الطباطبائي، رسالة التشيع في العالم المعاصر: 116). وهذا الموقف من الإجماع يردفه العلامة بنقطةٍ حسّاسةٍ في غاية الأهمية من وجهة نظري، وهي أنّ الإجماع قد تحوّل ـ كلامياً ـ إلى وسيلةٍ لردّ كلّ دليل قرآني أو عقلي أو من السنّة، يقول العلامة الطباطبائي: «.. من هذا المنطلق كثيراً ما نجد في البحوث الكلامية أنّ حجّة المدّعي تتمّ عن طريق القرآن أو السنّة أو العقل، بيد أنها تُردّ ويُعرض عنها لكونها مخالفةً لإجماع علماء ومتكلّمي ذلك المذهب» (المصدر نفسه). وهذه الظاهرة حسّاسة جداً في الفكر الديني؛ لأنّها تحيل التاريخ الديني إلى تاريخ مقدّس، وتضفي هذه القداسة على الفكر البشري الذي اتخذ الدين مادةً لدراسته.
إنّ هذه الظاهرة التي يرفضها العلامة الطباطبائي ـ أي ظاهرة رفض الدليل حتى لو تمّ لحساب إجماع طائفة أو جماعة أو فرقة ـ واسعة الانتشار، وتشمل مختلف المذاهب الإسلامية، فما أكثر الموضوعات التي يجري رفضها لهذا السبب، لكنّ القضية الأعمق من هذا الشكل الظاهري الذي قد لا يلاحظه الإنسان كثيراً ما دام غريباً أحياناً هو تأثير الإجماع نفسيّاً على الباحث، فمن يرفض الأدلّة لصالح الإجماع قد يُلبس رفضه هذا بصيغ تشكيكيّة في الأدلّة نفسها، وهو أمرٌ حاصل بدرجة معتدّ بها، بل إنّ مقولة المسلّمات وخطورة تأسيس منظومة جديدة تتخذ لنفسها في النطاق الكلامي حساسيةً خاصّةً.
ويرتّب الطباطبائي نتائجه على الأخذ بالإجماع أساساً علميّاً ضمن مجموعة أمور هي:
أ ـ يرى العلامة الطباطبائي أنّ تضييق دائرة الإجماع من إجماع الأمّة إلى إجماع طائفة أو مذهب قد تكون له سياقات أو خلفيّات أخرى أشدّ حساسيّةً، إذ يرى بأنّ عدم ضرر موقف فرقة أخرى من الإجماع كأنّ معناه خروجها عن الإسلام، يقول: «إنّ مخالفة أهل مذهبٍ من المذاهب الإسلامية لواحدةٍ من العقائد التي يختصّ بها مذهب آخر لا يضرّ بالإجماع المنعقد في صفوف المذهب الثاني، وكأنّ أهل أيّ مذهبٍ من المذاهب الأخرى لا يدخلون في ملّة الإسلام بحسب اعتقاد المذهب الآخر!» (رسالة التشيع في العالم المعاصر: 116؛ وانظر أيضاً: كتاب الشيعة: 82 ـ 83). إنّ هذه نقطة مهمة في تقديري؛ لأنّ الإجماع وفقاً لنظريّات حجيته المنطقية غير قادر (وكلامنا هنا بشكل أساسي في العقليات والكلاميات) على تفسير تجاهل الأطراف الأخرى، فإذا أردت أن أبحث في الإمامة بعد النبيّ فكيف يمكن التمسّك بإجماع أهل السنّة أو الشيعة على خلافة أبي بكر أو علي بن أبي طالب؟ إنّ المبرّرات النظرية لحجيّة الإجماع المنطقية (ولا دخل لنا هنا بالحجيّات الأصولية التي تعني التعذير والتنجيز) لا تستطيع أن تفي بالجواب عن هذا الموضوع؛ لأنّ مخالفة طائفة أخرى تُضعف من قيمة الإجماع وفقاً لنظريّة الكشف بمسالكها المتعددة، وهكذا إذا أخذنا نظريّات عدالة الصحابة وعصمة الأئمة وغيرها.. ما لم يجر إدخال الإجماع كوسيلة للكشف عن النص في دائرة الكلام.
ب ـ بلورة وحدة مذهبية غير قابلة للانفكاك، اذ يرى الطباطبائي أن من نتائج سريان روح الإجماع في العقائد والكلام تحديد الخيار بين أمرين: إمّا الاعتقاد الكامل بعقيدة هذا المذهب بكلّ حيثياتها أو الرفض الكامل، وبالتالي فلا يمكن الاخذ بمذهب والاعتقاد به دون الأخذ بكافّة أصوله والإذعان لها «دون بحث ونقاش سواء توفّر عليها الدليل الكافي أم لم يتوفّر» (المصدر السابق)، على حدّ تعبير العلامة نفسه، وهذه الفكرة من العلامة يترتب عليها عدّة قضايا مهمّة يذكر بعضها العلامة نفسه أهمها:
أولاً: التعدّدية المعرفية داخل الدين الواحد وفيما بين المذاهب، فعندما نقول بأنّ الإيمان بأساس إمامة أهل البيت عليهم السلام يفترض الاعتقاد بالتشيّع، ومن ثم لا نفكك بين هذا الاعتقاد بالأساس الأوّلي والاعتقاد ببقية الجوانب الاعتقادية الأخرى كالعصمة والرجعة والولاية التكوينية وعلم المعصوم وغيرها فهذا معناه مركزة الحقيقة داخل مذهب معين وعدم إمكانية القبول بأيّ نوع من التداخل أو التوزيع الحقائقي فيما بين المذاهب، أي أنّ هذا العقل لا يقبل بصحّة إمامة الأئمّة الاثني عشر الذين تقول الشيعة بإمامتهم وفي نفس الوقت بطلان مبدأ العصمة أو بعض امتداداته؛ لأنّ هذا العقل يفترض الصحّة في طرف فما دام الطرف الصحيح في خطّه العريض هو المذهب الشيعي فهذا معناه أنّ كافّة الحيثيات الاعتقادية في هذا المذهب صحيحة ولا معنى للتجزئة. إنّ هذا العقل لا يتعقّل أن المذهب الحقّ هو التشيّع، لكنّ السنّة مصيبون في قضايا العصمة أو الولاية التكوينية مثلاً.. أو أنّه التسنّن لكن الشيعة مصيبون في الموقف من الصحابة أو خلافة عثمان مثلاً..
لكنّ العلامة حينما يتحدّث عن نفي الوحدة هذه ورفض التماسك هذا يعيد تشكيل الصورة من جديد، إذ نتيجة كلامه معرفياً إمكانية التجزئة أو إمكانية التوزيع الحقائقي في الواقع مادامت القضيّة خاضعة للدليل في مرحلة الإثبات والبرهنة، فلو لم يكن الواقع في تصوّر العلامة قابلاً لهذا النوع من الفرز والتجزئة لما أمكن له منح الاعتبار للقراءة الاستدلاليّة، ولما صحّ له أن يقول: سواء توفّر عليها الدليل الكافي أم لا.
ثانياً: إنّ منطق الإجماع ـ كسلوك ثقافي في علم الكلام ـ يؤدّي كما يصرّح به العلامة إلى قتل روح التفكير الاستدلالي، ويأتي على الطريقة العقلية المنفتحة ليستأصلها من الجذور (المصدر نفسه: 116 ـ 117)؛ لأنّ تقديم عقديات ناجزة بمجرّد الاعتقاد بالمبدأ العقائديّ الأوّل يحيل العقل إلى عقل مستقيل مستريح مادام غير معترف بنتائجه المخالفة لأيّ مبدأ عقدي، ومعنى ذلك أنّ ثمّة أصالة للفكر والبحث العلمي في علم الكلام عند العلامة الطباطبائي، وعندما تكون الأصالة للبحث الحرّ فهذا معناه انحسار سلطة التقليد التي يراها العلامة نفسه المجال لاكتساب التعصّب السلطة المطلقة وصيرورة الهيمنة له في جميع المسائل العقيدية على حدّ تعبيره (المصدر نفسه: 117). وهذا الإيمان المطلق أو شبه المطلق لدى العلامة بأصالة التفكير كلامياً يمكن اعتباره الثورة الفلسفية في علم الكلام، أي هو تأثير الفلسفة في الكلام عبر الطباطبائي ومن سبقه ولحقه، مع سكوتنا عما إذا أصيبت الفلسفة بهذا الداء أم لا.
ثالثاً: إنّ منطق الإجماع الذي يرفضه العلامة قد سرى ـ من وجهة نظره ـ إلى بقية العلوم والمعارف الإسلامية كالتفسير والفقه والأصول، يقول العلامة الطباطبائي: «ما يؤسف له في هذا الشأن أنّ هذا المنهج تجاوز المسائل الكلاميّة وأخذ يمتدّ إلى المعارف الإسلامية الأخرى كالتفسير والفقه والأصول وغيرها، بل سرت هذه الروح وأثارت العاصفة حتى في العلوم الأدبيّة مثل الصرف والنحو والمعاني والبيان، حتى أنّنا إذا قمنا بجولةٍ في ربوع تلك العلوم لواجهتنا قوالب وتصانيف عجيبة مثل الحنفية والشافعية، الكوفيين والبصريين ونظائر ذلك، بحيث تبادر كلّ مجموعة لتوجيه عقائدها المذهبية الخاصّة، وتأويل حجج الآخرين وأدلّتهم» (رسالة التشيّع في العالم المعاصر: 117). وهذا النص يشير إلى تحفّظ العلامة عن الإجماع لا كوسيلة ضعيفة في العلوم ذات الطابع العقلاني أو التعقّلي فحسب بل حتى العلوم ذات الطابع الكشفي والتعبدي، وهي نقطة تبيّن لنا أنّ العلامة لم يكن له موقف ميداني من الإجماع ـ أي الإجماع في ميدان علم الكلام ـ بل كان له موقف معرفي عام منه.
ج ـ من نتائج منطق الإجماع في الفكر الديني عند العلامة إعادة بلورة التراتبية المعرفيّة للأدلّة في عالم الإثبات الديني، فمن الطبيعي أن يكون النصّ الديني المتمثل بالكتاب والسنّة على الصعيد الإسلامي هو الأساس والمنبع المعرفي لأيّ باحث ديني يضع في مهماته كشف الموقف الديني من قضية عقدية تكوينية أو غير عقدية.. لكنّ نفوذ منطق الإجماع أدّى ـ وفق نظر العلامة ـ إلى تأخير الكتاب والسنّة وتراجعهما من الناحية الرتبية إلى الوراء لصالح الإجماع، ومن هنا يرى العلامة بأنّ ذلك قد أدّى إلى نوع من الشكلانية الاستدلالية للكتاب والسنّة، اذ تحوّلت وظيفتهما إلى وظيفة تشريفية صورية فيما اتخذ الإجماع موقعيّةً أشدّ قوّة ومتانة (المصدر نفسه).
وكمؤشّر ميداني على هذه الظاهرة يرى العلامة أنّ العلماء ولتأكيد عقائد مذاهبهم صاروا يطرحون إجماع أهل مذهبهم أولاً، ومن ثم يتعرّضون للدليل القرآني والحديثي، والنتيجة المترتبة على هذا التقديم الذي يخفي وراءه موقفاً إزاء درجات القيمة المعرفية للكتاب والسنّة والإجماع هي تركيز الباحث نظره على محاولة تأويل النصوص لصالح مفاد الإجماع، وهو أثر يرى العلامة أنّه سرى حتى إلى العلوم الأدبيّة من النحو والصرف وغيرهما، يقول: «.. على أساس ذلك نفسّر ما يذهب إليه أبناء كلّ مذهبٍ من هذه المذاهب، وهو يستدل في إثبات عقائده الخاصّة بإجماع قومه أولاً، وبالكتاب والسنّة ثانياً، ثم يقوم بعد أن يتمسّك بإجماعات أهل مذهبه ليقلّل من أهمية أدلة الكتاب والسنّة التي يسوقها الآخرون، وهو يؤوّلها صراحةً ودون محاباة كي يهرب من حجيتها وما تلزمه به، وقد سرت هذه السليقة حتى في أوساط علماء الأدب، إذ تراه يصرف أدلة الذين يخالفونه من شعر أو نثر عربي، بتأويلها وحملها على التقدير وما إلى ذلك» (المصدر نفسه).
إنّ هذا الموقف من العلامة الطباطبائي ـ والذي ذكره في حواره مع المستشرق هنري كوربان قبل حوالي الخمسين سنة ـ يعدّ واحداً من البدايات الهامة على هذا الصعيد من جانب شخصية بهذا المستوى من الأهميّة. والملفت للنظر في ظاهرة تأخّر الكتاب والسنّة أمام سلطة ونفوذ الإجماع عند العلامة هو شيوع ظاهرة التأويل، بمعنى التصرّف بالنص بما ينسجم مع الإجماع والأصول المقرّرة سلفاً، وهذا التأويل له ـ عند العلامة ـ قدرة الشمول لكلّ مدرك إلا الإجماع نفسه، فإنه غير خاضع لقوانين التأويل وسلطته (رسالة التشيّع في العالم المعاصر: 118). وهكذا نجد أنّ الإجماع مثّل أحد أهم عوامل شلل التفكير الحرّ والإنتاجية الفكرية، ومثّل واحداً من أهم العوامل المخدرة للتفكير البشري الديني.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وفقكم الله وسدد خطاكم
هل ان الحديث ادناه بهذه الصيغة حديث قدسي وهل ممكن ايضاحه ؟
“يا محمد لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما”.