السؤال: يجيز الفقهاء المسلمون الكذب لمصالح عليا، وهذا يعني أنّهم يجيزون الكذب لنصرة الدين أو لنصرة المذهب؛ لأنّ نصرة الدين والمذهب مصلحةٌ عليا، ألا يعني ذلك أنّه لم يعد لنا مجال للوثوق بما يقولون؛ لاحتمال أنّهم يكذبون فيه، نظراً لرؤيتهم مصلحةً في هذا الكذب أو ذاك؟ (عماد، لبنان).
الجواب: الكذب للضرورة أو لمصلحة تفوق مفسدة الكذب مشروط عند الفقهاء بأن لا يكون هناك مجال لتحقيق المصلحة أو لرفع الضرورة بغير سبيل الكذب، فليس كلّ ما يكون لمصلحة الدين والمذهب فإنّ الكذب فيه جائز، بل إنّما يجوز وفقاً لفتاوى الفقهاء عندما يتوقف نصر الدين ـ نصراً واجباً ـ على الكذب، بحيث لا يكون هناك أيّ مجال آخر على الإطلاق، وتحقّق مثل هذه الحال نادر كما هو واضح، فكما أنّ الكذب للضرورة جائز للناس ورغم ذلك لا يؤدي هذا إلى انعدام وثوق الناس بعضهم ببعض، كذلك الحال فيما نحن فيه؛ لقلّة موارد الاضطرار. بل بعض الفقهاء ـ كالسيد الخوئي (صراط النجاة 1: 447) ـ يحصر جواز الكذب على أهل البدع بتوقّف طريق ردّ باطلهم على ذلك. وما نجده في هذه الأيام من سلوك كثير من المتدينين سبيل الكذب والافتراء على الناس، بحجّة أنّ غايته في ذلك نصرة الدين والقيم الدينية، ليس موافقاً لشرع الله تعالى في الكثير من مواقعه، وعلينا التنبّه لهذه الظاهرة التي تجعل نصرة الدين قائمةً على الكذب والتجنّي والافتراء على الآخرين، حتى أنّ بعض وسائل الإعلام الدينية باتت لا تفترق عن وسائل الإعلام الأخرى في اعتماد الأخبار الكاذبة، بحجّة الانتصار للحقّ والدين، فتراها وترانا نبتعد كثيراً عن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 135)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، فعلينا الشهادة بالواقع ولو كان على حسابنا، وعلينا الشهادة بالحقيقة ولو كانت لمصلحة عدوّنا ومن نختلف معه، هذه هي الثقافة القرآنية، لا يُخرَج عنها إلا في حالات استثنائية خاصّة جدّاً، ورغم أنّ نزول الآيات القرآنية في نقد بعض المسلمين وذمّ تصرّفاتهم هنا أو هناك كان يمكن أن يكون لمصلحة الكافرين والمنافقين، إلا أنّ القرآن الكريم كان يتّبع الحق الذي هو أحقّ أن يُتّبع، فكان يكشف نقاط ضعف المسلمين؛ لأنّ الحق يستدعي أن لا يُعتمد منهج الكذب والمراوغة والتعتيم، وبهذه الطريقة يدخل الإعلام الديني مجال الصدق والشفافية والعدل والإنصاف، وفي الوقت عينه نحافظ على الاستثناء دون أن نحوّله إلى القاعدة.