السؤال: ما مدى صحّة هذه الرواية سنداً ومتناً وما دلالتها؟ فهي تقول بأنّ الشياطين شغلها الشاغل تشكيك الناس بأهل البيت عليهم السلام: قال علي بن الحسين عليهما السلام: (قالت السيدة زينب عليها السلام: لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي عليه السلام ورأيت أثر الموت منه.. قال: يا بنيّة.. وكأنّي بكِ وببنات أهلك سبايا بهذا البلد، أذلاء خاشعين، تخافون أن يتخطّفكم الناس، فصبراً، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، ما لله على الأرض يومئذ وليٌ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم, ولقد قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حين أخبرنا بهذا الخبر: إنّ إبليس في ذلك اليوم يطير فرحاً، فيجول الأرض كلّها في شياطينه وعفاريته، فيقول: يا معشر الشياطين قد أدركنا من ذريّة آدم الطلبة، وبلغنا في هلاكهم الغاية، وأورثناهم السوء إلا من اعتصم بهذه العصابة، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحملهم على عداوتهم وإغرائهم بهم وبأوليائهم، حتى تستحكم ضلالة الخلق وكفرهم، ولا ينجو منهم ناج. ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه وهو كذوب، إنّه لا ينفع مع عداوتكم عملٌ صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر. قال زائدة: ثم قال علي بن الحسين عليهما السلام، بعد أن حدّثني بهذا الحديث: خذه إليك، أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولاً لكان قليلاً)، والمعنى أنّه لو سعى وراء طلب هذا الحديث بعيداً لكان قليلاً (بحار الأنوار ج28 ص55, عن كامل الزيارات ص444, العوالم ص3).
الجواب: في البداية لابدّ لي أن أشير إلى أنّ هذا الحديث ليس كاملاً، فالرواية الكاملة أزيد من هذا المقدار الذي نقلتموه هنا، كما لابدّ لي أن اُلفت النظر إلى أنّ هذا الحديث ليس له ـ على ما يبدو لي ـ إلا مصدر واحد، وهو كتاب كامل الزيارات والبقيّة أخذوا منه، ولكنّ الأهم أنّ هذا الحديث ليس من أصل كتاب كامل الزيارات لابن قولويه القمّي الثقة الجليل، وإنّما أضيف إلى هذا الكتاب، وقد صرّح بهذه الإضافة فاعلُها وصاحبها وهو الحسين بن أحمد بن المغيرة الذي قال بأنّه أضاف هذا الحديث هنا إلى الكتاب؛ لأنّه رواه عن ابن قولويه وتحدّث معه في أن يضيفه، ولكنه لم يضفه أو لم يُسعفه الوقت في أن يضيفه، وهذا موجود في كتاب كامل الزيارات نفسه، فلا يصحّ نسبة هذه الرواية إلى كتاب كامل الزيارات، وإن أمكن نسبتها إلى ابن قولويه بطريق ابن المغيرة عن ابن عياش كما سوف نبيّن ذلك، فاقتضى التنويه، فمن يقول بوثاقة كلّ رواة كتاب كامل الزيارات عليه أن يلتفت هنا إلى أنّ هذه الرواية لم تدرج في الكتاب من قبل ابن قولويه نفسه، وإنّما اُضيفت إضافةً صرّح صاحبُها بها دون أن يلزم من ذلك التزوير في نسخة الكتاب فانتبه جيداً.
أمّا من حيث سند هذه الرواية فهو مليء بالمجاهيل والمهملين والمضعّفين، فالحسين بن أحمد بن المغيرة وإن كان ثقةً ووُصف في كتب الرجال بأنّه مضطرب المذهب، إلا أنّ أحمد بن محمّد بن عياش (401هـ)، قال فيه النجاشي: (أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن بن عياش (عباس) بن إبراهيم بن أيوب الجوهري، أبو عبد الله وأمّه سكينة بنت الحسين بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن إسحاق، بنت أخي القاضي: أبي عمر محمد بن يوسف، كان سمع الحديث، فأكثر واضطرب في آخر عمره.. له كتب، منها: كتاب مقتضب الأثر في عدد الأئمّة الاثني عشر، كتاب الأغسال.. كتاب اللؤلؤ وصنعته وأنواعه، كتاب ذكر من روى الحديث من بني ناشرة، كتاب أخبار وكلاء الأئمة الأربعة. رأيت هذا الشيخ، وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً، ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو منه شيئاً، وتجنّبته) (رجال النجاشي: 85 ـ 86)، فهذا الرجل ضعيف ضعّفه الشيوخ حتى أنّ النجاشي تجنّب الرواية عنه.
وفي السند أيضاً محمّد بن سلام الكوفي وهو مجهول الحال عند الرجاليين، كما أنّ في السند أحمد بن محمد الواسطي وهو مهمل جداً، وفي السند أيضاً عيسى بن أبي شيبة القاضي وهو مهمل كذلك لم يوثقه أحد، وفي السند قدامة بن زائدة وهو مجهول الحال، وحاول بعضهم توثيقه من خلال رواية ابن أبي عمير عنه فيما قيل، وفي السند زائدة نفسه وهو مجهول الحال أيضاً.. وعليه فهذا الحديث مليء السند بالمجاهيل والمهملين والمضعّفين، وليس له إلا طريق واحد ومصدر واحد بينّا حاله، فيكون ضعيف السند جداً، بل تالف الإسناد بعد وجود ابن عياش فيه، فإذا تواترت الروايات، أو تظافرت روايات متعدّدة تؤكّد المضمون الذي نقله هذا الحديث وكان لها وزنها ـ لا أن تكون روايات مليئة بالمهملين أو الوضاعين ـ أمكن الأخذ بها وجعله بمثاة المؤيّد لا أكثر، وإلا فلا يحتجّ به.
أمّا المتن الذي نقلتموه، فليس المراد منه أنّ الشياطين لا شغل لها سوى تشكيك الناس بولاية أهل البيت، وإنّما الكلام في أنّه بعد قتل الحسين بن علي عليهما السلام تصبح أولى أولويات الشياطين صرف الناس عن أهل البيت، ولا أظنّ أن المراد بالناس هنا كلّ الخلق إلى يوم الدين، وإلا كان الحديث واضح البطلان، بل المراد هم المسلمون الذين أفرطوا في البُعد عن أهل البيت. نعم في الحديث توصيفهم بالكفر، وفي الحديث أنّ ذنوب الشيعة مغفورة غير الكبائر، وفي الحديث أنّ الجميع قد بلغ بهم الشيطان الغاية إلا المتمسّكين بهذه العصابة، وهذه أمور ثمّة من يضع عليها علامات استفهام، ما لم نفسّر الكفر بالمعنى القرآني والحديثي العام، وليس بالمعنى الفقهي القانوني حصراً.
وثمّة من يتحفّظ على نمط من الروايات الشيعيّة التي يصفها بأنّها تحوي قدراً عالياً من المبالغة في التعامل مع الأمور التاريخية والعقديّة؛ إذ يرى أنّها تحاول أن تصوّر لنا وكأنّ القضيّة الوحيدة في الدين وفي الأغراض والمقاصد الإلهيّة منذ بداية الخلق وحتى نهاياته، وأنّها قضيّة القضايا على الإطلاق.. هي قضيّة الإمامة بالمعنى الخاصّ، وكأنّ التوحيد والنبوات والله والآخرة وكلّ المنظومة المفاهيمية والتشريعية والأخلاقيّة للديانات، وكلّ هذا الحشد القرآني الهائل لهذه القضايا يغدو ثانويّاً جداً قياساً بهذه القضيّة (الإمامة)، وهذا أمر يمكن فهمه في سياق زمني معيّن تمّ فيه تهميش هذه القضية المهمّة للغاية، لكنّه غير مفهوم في سياق إلهي ديني عام دائم وثابت منذ بداية الخلق وإلى يوم الدين، فإذا صحّت وجهة النظر هذه بوصفها قائمةً على التحليل والمقارنة بين هذه الروايات وبين المزاج القرآني العام، فإنّ بعض الروايات القليلة يمكن أن تخضع لعلامات استفهام، أو يمكن فهمها في سياق محدّد زمكانيّاً، أو تفسّر على أنّها تنبني على بيان المبالغة لا الكشف التفصيلي الدقيق والجادّ عن مدلولاتها الأوليّة المباشرة، ووجهة النظر هذه تحتاج لبحث لنرى هل هي صحيحة أم لا؟ وهو ما لا يسعه هذا المختصر.
وعلى أيّة حال، فالرواية أعلاه موهونة السند جدّاً، وإثباتها التاريخي عسير بعد تفرّد مصدر واحد ـ عرفت الحال فيه ـ بها، ما لم تعتضد بشواهد وقرائن، والعلم عند الله.