السؤال: تقول الرواية التاريخيّة: إنّ الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وكز عليّاً عليه السلام بقدمه وهو نائم ليوقظه أو نحو ذلك.. فهل هذا معقول؟ وهل يمكن تصديق هذه الرواية التاريخية الغريبة عن أخلاق النبيّ؟
الجواب: بصرف النظر عن مصدر الرواية وقيمتها التوثيقيّة من الناحية التاريخية والحديثية، قد لا أجد غرابة في ذلك من حيث المبدأ، وهذا الأمر يرجع إلى نقطة جوهريّة في فهم الوقائع التاريخيّة من الزاوية الأخلاقيّة، وذلك أنّ القيم الأخلاقيّة ـ في بعض الحالات ـ شيء وتطبيق هذه القيم داخل الأعراف الاجتماعيّة شيءٌ آخر، فاحترام الإنسان عند دخوله إلى بيتك أمر جيّد، لكنّ كيفيّة الاحترام ليس لها شكلٌ واحد بالضرورة حتى نلغي طرائق الشعوب في الاحترام، فقد تجد شعباً يحترم الداخل على القوم بالوقوف له، وقد تجد شعباً آخر يحترم بالانحناء بالرأس له حال الجلوس، وقد تجد شعباً آخر يحترم الضيف برفع الصوت بالترحيب، وقد تجد من يحترمه دون ذلك.
وهذا الموضوع ينسحب أيضاً على الأساليب اللفظيّة في البيان، فقد تجد الكثير من الكلمات التي تعدّ سباباً في مجتمع أو إهانةً لشخص أو فُحشاً من القول، فيما تجدها في مجتمع آخر لا تعبّر عن ذلك أبداً، بل هي أمر عادي جدّاً، وكلّ من يسافر إلى بلدان متعدّدة يشعر بهذا الأمر بعض الشيء، فالتمخّط قبيحٌ عند بعض الشعوب لكنّ التجشي (إخراج الهواء من المعدة عبر الفم) ليس مثله، ألا تجد أنّ المجالس العامّة الرسميّة في بعض البلدان تسمح للرجال بعدم لبس الجوارب فتظهر أرجلهم، فيما يعدّ هذا مستقبحاً جداً في بلدان أخرى؟! وهذا يعني أنّ الشعوب والأقوام تختلف فيما بينها في طريقة التعبير عن الأمر الأخلاقي أو السلوك المتزن، ويمكن لمن يريد الاطلاع أن يراجع كتب التاريخ وكتب الرحّالة وغيرهم.
وهذا الاختلاف ينسحب أيضاً على شعب واحد بمرور الزمن، فقد تتغيّر طرائق تعبيره وقد تختلف، لكنّ الجميع في كلّ الحالات لا يشعر بالإهانة، بل يشعر بالاحترام، ومثل هذا الأمر موضوع الذوق والشعور بالجمال أو البشاعة والقذارة، فالنبيّ وكثير من رجال الأزمنة السابقة كانوا يطيلون شعورهم حتى تبلغ الأكتاف، وكان حلق اللحية مدعاةً للسخريّة وإهانة الشخص لنفسه اجتماعيّاً، وكان رفع القمصان عن الأرض أمراً مرغوباً وعادياً، وهكذا مختلف أنواع الألبسة.. بل لاحظوا بعض الأمور التي تختلف فيها الأذواق، كان يضع النبي ريقه في فم ولده الحسن أو الحسين أو غيرهما، وكان التقبيل في الفم بين ذكرين موجوداً في بعض الحالات، كلّ هذا يستدعي ـ ونحن نقرأ التاريخ أو نقوّمه، سواء كان تاريخاً دينيّاً أم غيره ـ أن لا نسقط أذواقنا وأمزجتنا وأساليبنا على التاريخ، فربّ أمر مستقبح اجتماعياً اليوم محترم كذلك بالأمس، والعكس صحيح.
ومن أعظم نتائج البحث في هذه القضيّة الحساسة هو الموضوع اللغوي، فمثلاً اللغة العربيّة بتنا نعتبرها اليوم لغةً عنفيّة، حتى أن هناك شعوراً ينتاب الكثير من الشباب عندما يسمعون العربية الفصحى حيث يشعرون بشيء من الغرابة أو العنف أو الثقل أو الاشمئزاز، بعكس لغاتٍ أخرى يشعرون معها براحة نفسيّة وطمأنينة. وتغيّر بسيط في التركيبة اللغوية يجعل الشخص يتقبل الفكرة التي جرى بيانها بلغة أخرى، والوقت لا يسمح لي بالتفصيل لكنّه موضوع مهم جداً في اللسانيات واللغة، وهو الحمولات القيمية والشعورية التي تصاحب كلمةً ما فتتحوّل عبر التاريخ.
من هنا، فعندما أحاكم السلوك الذي جاء في السؤال أعلاه لا يصحّ أن أقف عند النفور النفسي الأوّلي الذي أشعر به، فعليّ أن أدرس أكثر الفضاءات الاجتماعيّة آنذاك ومديات اعتبارها هذا السلوك غريباً أو غير مناسب، وقد أتوصّل إلى قبح هذا التصرّف وقد لا أتوصّل، وإلا فإنّ المشاعر العفويّة الأوليّة التي ألاحظها في نفسي إزاء مثل هذا الأمر لا تعبّر بالضرورة ودوماً عن قيمة علميّة في الفهم التاريخي للوقائع؛ لأنّها قد تدخل في الأمور الجمالية والذوقية والشعوريّة التي تكون من النوع الذي يمكن تغييره بفعل تأثير الإعلام ـ بالمعنى العام للكلمة ـ فهذا الإعلام الذي حوّل الكثيرين ذوقيّاً من الرغبة بالمرأة البدينة إلى المرأة النحيفة، بإمكانه اليوم ـ لو أراد ـ أن يغيّر هذا الذوق خلال سنوات عدّة بإخضاع عقول الناس فيها لتعليبٍ جديد، وأنصح هنا بمراجعة الكثير من الكتابات التي تحدّثت عن تأثير الإعلام على الأطفال والمفاهيم، وتأثير العولمة على الثقافات واللغات والسلوك الإنساني، فالمادية المنسّقة ـ كما يسمّيها الدكتور طه عبدالرحمن ـ تقوم بالتعامل مع الإنسان بوصفه كياناً اقتصادياً يمكن التصرّف فيه في خضم حركة التسليع وعجلته، والأذواق والأعراف والجماليات وكلّ شيء يدخل في فضاء السلعنة هذا، ويتغيّر بقرار متعمّد، ليس من قبل الدول هذه المرّة فحسب، بل من قبل الشركات المالية العملاقة التي تحكم تصرّفات الكثير من السياسيين وتساهم في تحويل مسارات القرارات السياسيّة. وقد سبق لي أن تكلّمت عن أمل معقود بأن يتحرّر المفكّر والمثقّف الإنساني من تأثير وسائل الإعلام بكلّ أشكالها وانتماءاتها ـ تلفزة إعلانات منابر و.. ـ لا سيما تأثيراتها غير المباشرة، ويقدر على التفكير متعالياً عن قبضتها التي تتلاعب بالعقول، وهي ـ أي العقول ـ تظنّ أنها تتحرّر.
وحصيلة الكلام: إنّ مجرّد استغراب هذه الحادثة شعوريّاً لا يعني إمكانيّة نقضها تاريخيّاً، بل لابدّ من الحصول على معطيات أكثر تؤكّد سلبيّة هذا التصرّف في صدوره من النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
التفاتة رائعة شيخنا..صراحة لم تكن في الحسبان..انت مبدع دائما شيخنا
من ناحية المبدأ كانت الاجابة رائعة وان عصر النص والظروف التي صدر فيها الموقف يجب ان تؤخذ بالحسبان ولكن شيخنا الجليل لماذا لم تبحثوا القضية روائيا وهل صدر مثل هكذا فعل أم لا؟ وهل الرواية الناقلة له تتوفر على الشروط المقومة للرواية المعتبرة أم لا؟
ولكن التبرير الذي ذكره الشيخ قديكون حجة لدى من يخالفنا في كثير من التصرفات التاريخيه فلا بد من وجود ضابط لما هو مستحسن او مستقبح وبالتالي يكون معيارا ثابتا فلا نخضع كل تصرف لعادات وتقاليد واستحسانات خصوصا اذا كان صادرا من نبي او امام