السؤال: يقول بعض الباحثين: (إنّ الدارس لعقيدة مذهب أهل البيت عليهم السلام هو الإنسان الذي استوفى الإجابة النظرية الدقيقة للأسئلة الثلاثة الكبرى: من ربّك؟ من نبيّك؟ من إمامك؟ و.. ولأنه قد أحاط علماً بكلمة السرّ التي تسمح بالعبور إلى الضفة الأخرى الجميلة منها للعالم الآخر، أضحى هذا الدارس صاحب رسالة. فما هي رسالة دارس العقيدة؟ هي تقديم الأجوبة العملية والنظرية على الأسئلة الثلاثة الكبرى: الربّ، والعبوديّة له، والنبيّ، وهنا قد يجيب فرد إجابة لا تتضمّن إلا اسمه صلى الله عليه وآله، ولكن قد يجيب الآخر إجابة أشمل بكثير من الأولى، والفرق بينهما في درجة معرفة النبي والمهم لدارسة العقيدة هو معرفة النبي واتباعه تبعية تامّة وحب كامل. والأمر ذاته يتعلّق بالإجابة عن التساؤل الأخير: أي عن الإمام. وعليه فليس دارس للعقيدة أبداً هو ذاك الذي عندما يتحدّث في الإمامة يقول: قال البعض وقال آخرون، فهذا لا يعرف الإمامة. ويظنّ البعض أنّ علينا أن نخبر عن الحقّ الثابت لنا بأدلّتنا الصحيحة وعن ما ليس كذلك، ونجعلهما في مصاف واحد أو نشير إشارت خجولة عن ميلنا. وليست هذه مواصفات الدارس للعقيدة الحقّة، بل هو أبعد ما يكون عن العقيدة الحقّة عمليّاً. إنه فقط مدرّس أفكار! وهذ قصّة فيها عبرة: كان العارف الإلهي السيد عبدالكريم الكشميري يواظب أثناء تواجده في النجف الأشرف على الحضور في الصحن العلوي الشريف، وذات يوم التقى بإبن أحد المراجع وسأله مستغرباً عن أحوال والده وقال للولد بأني رأيت والدك اليوم بعيد جداً عن الضريح رغم أنه دائماً يكون متواجداً عندها فلماذا؟ لم يعرف الولد الإجابة وقرّر أن يسأل والده عن ذلك، وعندما التقى بوالده قال له بأن الكشميري سأل عن سبب تواجده بعيداً جدّاً عن الحرم الطاهر خلاف العادة، فأطرق المرجع برأسه وعلم بأنّ الكشميري كان رأه بعيداً جداً عن الحرم الطاهر رؤية قلبية عرفانية شهودية وإلا فإنّ جسده كان قريباً. رفع المرجع رأسه وقال لولده بأنه كان في ذلك اليوم المحدَّد قد زار بعض الزملاء ممّن لا يؤمنون بالولاية المطلقة لأمير المؤمنين عليه صلوات الله! انتهت القصّة. زيارة واحدة لرجل ينكر مقامات أهل البيت سلام الله عليهم جعلت المرجع وإن كان جسديّاً عند الضريح لكن روحاً بعيد جداً ولاحظ ذلك العارف الجليل بعده الروحي عن الإمام عليه السلام! هل أبعده الإمام عليه السلام؟ أم أبعدته زيارته لمنكر المقامات؟ البعض منا يريد أن يجعل منكري مقامات الأئمّة الأطهار في مصاف المؤمنين. والآخر منّا لا يرى لهذا الإنكار قيمة يرتّب عليها صداقاته وانتماءاته ومجاملاته. والآخر منّا عندما يريد أن يتحدّث في هذه الأمور فهو يجعلها كلّها في مصاف واحد من القبول والردّ والدليل والبطلان ….هؤلاء ليسوا على الاطلاق دارسي العقيدة وإن جلسوا في محضر كبار العلماء.) شيخنا ما تعليقكم على هذا الكلام؟ (نزار، البحرين).
الجواب: أوافق على ما جاء في النصّ أعلاه في الجملة، ولكن لي عدّة ملاحظات سريعة:
أولاً: دارس العقيدة غير المعتقد بها، وأظنّ أنّ النصّ أعلاه خلط بين الأمرين، فالآثار التي ذكرها هي للمعتقد والمحبّ، وليست لدارس العقيدة، فقد يكون الإنسان دارساً للعقيدة ولا يكون معتقداً، وقد يكون معتقداً وليس بعالم من علماء الكلام والعقيدة، لهذا كان الأفضل بالنصّ المذكور أن يميّز بين المعتقد بحقّ وبروحه وبين الدارس للعقائد والمعتقدات.
ثانياً: لا قيمة لهذه القصص؛ لأنّ ما ذكره ذلك المرجع كان استنتاجاً، فالأفضل أن نستند إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وآله في إثبات تراجع من يلتقي المنكرين للمقامات، بدل الاعتماد على استنتاجات بشر لا حجيّة لأقوالهم في غير الاجتهاد في الفروع، كما ذكر ذلك العلماء أنفسهم، بل كيف عرف ذلك المرجع أنّ هذا هو قصد السيّد الكشميري رحمه الله؟ ولماذا لا يكون قد قصد شيئاً آخر؟
ثالثاً: لم يتحدّد ما هي الدرجة من الإنكار التي كان عليها ذلك المنكِر لمقامهم عليهم السلام، فلعلّه كان مبتلى بالنصب أو بغيره، فلهذا كانت المصلحة في الابتعاد عنه. أضف إلى ذلك أنّ الله تعالى لم يحرّم اللقاء حتى بمن يستهزئ بآيات الله تعالى، وإنّما طالب المؤمنين أنّه إذا تمّ الاستهزاء بها أن يتركوهم حتى يتوقّفوا عن الاستهزاء، لا حتى يؤمنوا بها. وتجدر الإشارة إلى أنّ الآية تحدّثت عن الاستهزاء، وليس فقط الإنكار أو نقد المعتقدات الحقّة، فلو كان المعيار هو ترك اللقاء بمن ينكر آيات الله لما صحّ ضمّ الإنكار إلى الاستهزاء، قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء: 140)، فعطفُ الاستهزاء على الكفر بالواو لا بـ (أو) دليلٌ على أنّ الكفر لوحده ليس معياراً، وتعليقُ ترك الجلوس معهم إلى أن يخوضوا في حديثٍ غيره، معناه أنّ أصل اللقاء بهم لم تكن فيه مشكلة. بل لو كان اللقاء بأهل الكفر ـ فضلاً عن مختلف ألوان الضالّين ـ حراماً في نفسه أو يوجب نفرة النبي وأهل بيته من هذا الشخص، لانتشر ذلك بين المتشرّعة المسلمين أو الشيعة، ولعدّ عرفاً من أعرافهم، كيف والنصوص على التواصل مع أهل الذمّة شاهدة، والدعوة للبرّ بمن لا يعتدي من الكفّار على المسلمين ـ ومن ألوان البرّ التواصلُ الاجتماعي معهم ـ قد نطق بها القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8). علماً أنّ هذا الشخص المنكر للمقامات يظلّ ـ إذا لم يبلغ درجة النَّصْب ـ داخلاً في دائرة الإسلام، بل قد يكون شيعيّاً، فتشمله كلّ الأدلّة الدالة على حقوق المسلم وحسن التعامل معه وأخوّته ونصرته والتواصل الإيجابي معه، وهي نصوص تبلغ عشرات الآيات والروايات، فكيف نخرج عن كلّ هذه الثقافة الإيمانيّة الواردة في الكتاب والسنّة لنؤسّس لثقافة قطيعة بين المسلمين والمؤمنين، انطلاقاً من مثل هذه المفاهيم والقصص؟ فإذا كانت الروايات تحثّ على عيادة مرضى أهل السنّة، وإقامة صلاة الجماعة معهم، والسعي في جنائزهم، وتراها أمراً مندوباً مستحبّاً، فهل هذا غير التواصل الاجتماعي مع أهل السنّة المنكرين للولاية المطلقة لأهل البيت عليهم السلام؟! فكيف صار لقاء هذا المرجع بشخصٍ يظهر أنّه شيعي وله نظر في بعض الأمور موجباً لنفرة المعصومين، فيما المعصوم نفسه يحثنا على التواصل مع أهل السنّة في الحياة الاجتماعيّة عندما لا يكون هناك محذور خاصّ؟ إنّ الأمر يحتاج لدراسة جادّة في القضيّة وليس لرؤية أو منام أو قصّة لا تُنقل عن معصوم ولعلّ لها ظروفها الخاصّة إذا صحّ نقلها، حتى لا نبني ديننا على عواطفنا، بل نبني عواطفنا على ديننا وعقولنا.
نعم، لو كان التواصل مع الضالّين والكافرين والمنحرفين موجباً لضلال هذا الشخص، أو كان ترك التواصل معهم جزءاً من خطّة تربويّة إصلاحية منتِجَة على أرض الواقع، كان أمراً آخر، لكنّ ما نُقل في النصّ أعلاه لا يشير إلى ذلك إطلاقاً.