السؤال: هل يجوز للمرأة النظر إلى جسد الرجل ـ غير العورة ـ بدون شهوة وريبة أم لا؟ فإنّ الفقهاء يضيّقون في هذا، فما هو دليلهم على التحريم؟ (حسن، العراق).
الجواب: الذي يظهر للمتتبّع أنّ معظم الفقهاء ـ كما ادّعي ـ قد حكموا بحرمة نظر المرأة إلى جسد الرجل الأجنبي فيما عدا العورة، فضلاً عنها، وذلك في حالة كون النظر غير تلذّذي، أمّا لو كان تلذّذياً فلعلّهم اتفقوا ـ حسب الظاهر ـ على الحرمة. وتكتسب هذه المسألة أهميّتها في الظروف الراهنة، لاسيما إذا جعلنا الصور الفوتوغرافية وشاشات التلفزة والسينما محكومة ـ على مستوى النظر وأحكامه كما هو الصحيح ـ بحكم المناظر والمشاهد الطبيعية المباشرة، فإنّ مواجهة النساء لمسألة النظر المذكور ستكون شاملة وشديدة الابتلاء. وعلى أيّة حال، فحيث إنّ الرأي الذي لعلّه معروفٌ فقهيّاً هو الحرمة، لذا سنحاول التعرّض له ولأدلّته ثم محاكمتها باختصار شديد يناسب المقام، ومن ثم ننظر إذا ما كان هناك مجال لآراء أخرى مقترحة أم لا.
لقد استدلّ الفقهاء للقول بحرمة نظر المرأة غير التلذّذي لجسد الرجل بوجوه عديدة، أهمّها:
الوجه الأوّل: دعوى الإجماع على المسألة، أو دعوى الإجماع على ثبوت الملازمة بين حكم الرجل بالنسبة إليها وحكمها بالنسبة إليه، كما ذكره السيد علي الطباطبائي في كتاب رياض المسائل. وحيث إنّ الرجل يحرم عليه النظر غير التلذّذي لجسد المرأة، فكذلك يكون حكم المرأة نفسها بالنسبة إلى جسده هو. وهذا الوجه يفيد حرمة نظرها حتى إلى وجه الرجل وكفّيه وشعره و.. بناءً على حرمة نظره إلى هذه الأمور عليها، ما لم نخرج ذلك بدليل.
الجهة الأولى: ما أفاده السيد الخوئي، من صعوبة إحراز مثل هذا الإجماع جداً؛ لأنّ الكثير من الفقهاء المتقدّمين والمتأخّرين لم يتعرّضوا للموضوع أساساً، فكيف لنا مع ذلك تحقيق صغرى هذا الإجماع والتأكّد من وجوده؟!
الجهة الثانية: ما ذكره السيّد محسن الحكيم، من أنّ هذا الإجماع مخالفٌ للسيرة القطعيّة الثابتة في نظر المرأة إلى الوجه والكفّين من الرجل، مع أنّ مؤدّى هذا الإجماع هو الحرمة، وبهذا نضعف من قوّة هذا الإجماع على مستوى الكاشفية والدليليّة.
1 ـ أن يدّعى أنّ هذا الإجماع يقرّر المسألة من حيث المبدأ، لا من ناحية التفاصيل والاستثناءات، فيكون مقداره المتيقن ما هو خارج الوجه والكفين، ومعه يندفع الإشكال.
إلا أنّ في هذا الكلام بعض التكلّف؛ لأنّ ظاهر عبارة الطباطبائي في الرياض أنّ المرأة تُمنع في محلّ المنع، ولا تمنع في غير محلّ المنع إجماعاً، وهذا ظاهره إعطاء ضابطة عامّة، حتى على مستوى التفاصيل.
2 ـ إنّه مبنيٌّ على القول بحرمة نظره إلى وجهها وكفّيها، أمّا لو التزمنا ـ كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وغيره ـ بالجواز، فلا تكون هناك منافاةٌ بين الإجماع والسيرة.
وهذه الملاحظة ترد على كلام السيد الحكيم إذا أخذناه بحرفيّته، لكن الذي يبدو أنّه أوسع؛ لأنّ السيرة تشمل الرأس والرقبة والذراعين، فلا يحتمل أنّ السيد الحكيم توجّه ناحية الوجه وتناسى الرأس نفسه والرقبة، وعلى كلّ فيبقى الإشكال قائماً إذا ما أعدنا صياغته كما ذكرنا.
الجهة الثالثة: إنّ هذا الإجماع محتمل المدركيّة جداً لو تمّ، فإنّ التأمّل اليسير في الوجوه الآتية المطروحة في المسألة لا يسمح بالوثوق بكاشفيّة هذا الإجماع عن موقف المعصوم.
الوجه الثاني: التمسّك بآية الغضّ، وذلك لأنّ المتعلّق محذوفٌ فيها، ممّا يفيد العموم والشمول بلحاظه، ومعنى ذلك حرمة نظرها إلى كلّ شيء من الرجل بلا استثناء، وهو بحاجة إلى مخصّص، فما لم نعثر عليه لا يبعد الحكم بالحرمة بصورة مطلقة.
وهنا لا يهمّنا التعرّض لأصل دراسة الآية الكريمة على مستوى ما تعطيه من الأحكام في الستر والنظر، وإنّما يعنينا مديات شمولها لموضوع بحثنا، نعم ذهب السيد الخوئي والسيد الحكيم هناك في تفسير الآية الكريمة إلى اعتبارها ناظرةً إلى الجانب التلذّذي، وأنّها غير مرتبطة من الأساس بالنظر المجرّد عن ذلك، ووفقاً لهذه النتيجة سوف تكون الآية خارجة برمّتها عن إطار بحثنا كما هو واضح، ولكن لو لم نفهم ما ذهب إليه هذان الفقيهان، فما هو المتحصّل؟ إنّ القرينة العكسية الأساسيّة التي تحول دون شمول مدلول الآية لمسألتنا هي قرينة المقابلة، أي المقابلة بين الفرج ستراً وحرمة النظر، فعندما نقول لزيدٍ غضّ بصرك واستر عورتك، ثم نقول لعمرو: غضّ أنت بصرك واستر عورتك، فلا يكاد العرف يفهم سوى اختصاص المسألة بالعورة ستراً ونظراً. ومعه تكون الآية الكريمة خارجة عن إطار بحثنا.
غير أنّ هذه القرينة تواجه مشكلة، وهي أنّ النص المعتبر قد دلّ على أنّ نزول الآية الكريمة قد تمّ في ظرف لا مجال لتحكيم هذه القرينة فيه، فقد جاء في معتبرة سعد الإسكاف، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (استقبل شاب من الأنصار امرأةً بالمدينة، وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلما مضت المرأة نظر، فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله ولأخبرنّه، فأتاه، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل عليه السلام بهذه الآية: (قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنّ الله خبير بما يصنعون) (تفصيل وسائل الشيعة 20: 192، أبواب مقدّمات النكاح، باب 104، ح4)، وهي تشير إلى أنّ المسألة ترتبط بالنظر إلى المرأة لا إلى عورتها، فالمسألة تدخل في إطار قوّة دلالة قرينة المقابلة، فإذا كانت بدرجة أمكن بها ردّ رواية سعد الإسكاف، وإلا فلا مناص من القول بدلالة الآية الكريمة على الحرمة هنا، بناءً على غير تفسير السيدين الحكيم والخوئي رحمهما الله. هذا كلّه إذا لم نأخذ بمبنانا القائل بأنّ حجيّة خبر الواحد خاصّة بحال إفادته العلم، وتفرّد هذه الرواية بهذا الخبر لا يعطينا العلم منها، ومعه فلا تكون الآية دالةً على الحرمة المطلقة للنظر، ولا أقلّ من الإجمال.
الرواية الأولى: خبر أحمد بن أبي عبد الله البرقي، قال: (استأذن ابن أمّ مكتوم على النبي صلّى الله عليه وآله، وعنده عائشة وحفصة، فقال لهما: قوما فادخلا البيت، فقالتا: إنّه أعمى، فقال: إن لم يركما فإنّكما تريانه) (تفصيل وسائل الشيعة20: 232، أبواب مقدّمات النكاح، باب 129، ح1)، وليس لمنع النبيّ لهما بحجّة رؤيتهما لابن أمّ مكتوم معنى سوى حرمة نظرهما إليه؛ لأنّه حسب الفرض أعمى كما صرّحت به الرواية.
المناقشة الأولى: إنّها ضعيفة السند بالإرسال الشديد فلا يعتمد عليها؛ لأنّ البرقيَّ المتوفى في القرن الثالث الهجري ينقل الحادثة عن العصر النبوي بلا سند كما هو واضح.
المناقشة الثانية: ما ذكره السيد الخوئي، من أنها إنّما جعلت فعل الرسول بياناً، وهو ممّا لا دلالة فيه على اللزوم، فقد يكون الفعل النبوي نتيجة كراهة رؤيتهما له.
غير أنّ هذه المناقشة غير واضحة فيما يبدو، فإنّنا لا نريد الاستدلال بفعل الرسول هنا، وإنّما بنصّه، فإنّه أمرهما بدخول البيت وبيّنَ العلّة في إطارٍ من التشديد والتحفّظ، الأمر الذي يبدو منه أنّه لم يكن يرضى ببقائهما، وهذا شاهد جيّد عرفاً على الحرمة.
المناقشة الثالثة: إنّ الحادثة ترتبط بالنبي وزوجاته ورجل أجنبي، ونحن نعرف أنّ لزوجات النبيّ أحكاماً خاصّة منها الحجب، فلعلّ الحكم الإلزاميّ هنا خاصّ بزوجات النبيّ من حيث إنّهنّ يفترض أن لا يرين الرجال ولا يراهنّ الرجال، فيكون الموضوع مرتبطاً بخرق عنوان الحجب الذي ينهى عن اختلاطهنّ بالرجال، فإذا فهم من هذه الرواية ذلك صارت خاصّة بنساء النبيّ وغدت أجنبيّةً تماماً عمّا نحن فيه، نعم قد تعارض هذه الرواية حينئذٍ أدلّةً أخرى يفهم منها عدم بلوغ الحكم الخاصّ بزوجات النبيّ هذا المبلغ من الحجب، فتُحَلُّ المعارضة في مكانه.
الرواية الثانية: ما وراه الطبرسي وغيره، عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من (أنّ فاطمة قالت له في حديث: خيرٌ للنساء أن لا يرين الرجال، ولا يراهنّ الرجال، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: فاطمة منّي) (المصدر نفسه، ح3، وج20: 67).
ثانياً: بعدم الدلالة على الإلزام وشبهه؛ فإنّ كون عدم الرؤية للمرأة أو عدم رؤيتها للرجل خيرٌ أو أفضل، كما ينسجم مع الوجوب كذا مع مطلق المرغوبيّة والاستحباب، فلا يفيد حرمة النظر، لا لها ولا إليها.
الرواية الثالثة: ما وراه الطبرسي أيضاً، عن أمّ سلمة قالت: (كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وعنده ميمونة، فأقبل ابن أمّ مكتوم، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟) (تفصيل وسائل الشيعة20: 232، أبواب مقدّمات النكاح، باب 129، ح4).
وهذا الخبر مرسلٌ لا سند له، وهو يشبه تماماً خبر البرقي المتقدّم، ويؤيّد فكرة ارتباطه بحجب نساء النبيّ خاصّة، والتي أثرناها آنفاً، فما أورد هناك يأتي هنا أيضاً.
الرواية الرابعة: ما رواه الصدوق، عن النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: (اشتدّ غضب الله على امرأةٍ ذات بعل، ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها، فإنّها إن فعلت ذلك أحبط الله عزّ وجل كلّ عمل عملته، فإن أوطت فراشه (فراش) غيره كان حقّاً على الله أن يحرقها بالنار بعد أن يعذّبها في قبرها) (المصدر نفسه، ح2)، فلا معنى لاشتداد الغضب إلا الكناية عن الحرمة.
أولاً: إنّها ضعيفة سنداً، لا أقلّ بالحسين بن زيد وحماد بن عمرو النصيبي اللذين لم يوثقا، فلا يعتمد عليها.
ثانياً: إنّها ظاهرة في النظر التلذّذي، حيث عبّرت (ملأت عينها)، مما يفيد هذا المعنى، فتكون خارجةً عن إطار بحثنا، لاسيما وأنّها عقّبت ذلك بما يشير إلى الزنا.
إلا أنّ هذه الملاحظة قد يسجّل عليها أنّ الرواية استثنت من الغضب الإلهيّ موردين: أحدهما النظر إلى زوجها، وثانيهما النظر إلى محارمها؛ لأنّها قالت: (ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرم منها)، وحيث إنّ النظر التلذّذي من المرأة إلى محارمها محرّمٌ أيضاً، كان ذلك شاهداً على أنّ (ملأت عينها) لا يراد منها خصوص النظر التلذّذي.
ثالثاً: إنّها خاصّة بذات البعل، ولا تشمل غيرها، وهذه الخصوصية محتملة هنا؛ فإنّ فرضيّة أنّ الشارع يضيّق على المتزوّجة بما لا يضيّق به على غيرها، حمايةً لبيت الزوجيّة.. ممكنةٌ جداً ومحتملة، ومعه فلا نرى أنّ العرف قادر هنا على إلغاء الخصوصيّة، كما أشار إليه بعض المعاصرين.
وبهذا ظهر أنّه لا دليل يفيد حرمة نظر المرأة إلى الرجل في غير العورة وبلا شهوة أو ريبة، بل إنّه يمكن إقامة الدليل على الجواز أيضاً ـ غير أصل البراءة ـ بعد التشكيك في أدلّة الحرمة، بل حتى على فرض دلالة الآية الكريمة، وهذا الدليل هو:
أ ـ ما جعله السيّد الخوئي مؤيّداً وحاصله: إنّ المسألة دائرة في الذهن المتشرّعي مدار احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأوّل: أن يكون الحكم واضح الجواز، وأنّه لا إشكال فيه. وهذا الاحتمال يفيد المطلوب.
الاحتمال الثاني: عكس الاحتمال الأوّل، وهو كون الحكم واضح الحرمة عندهم. وهذا الاحتمال يضعّفه أنّه كيف يكون حكم نظر المرأة إلى الرجل واضح الحرمة أكثر من حكم نظر الرجل إلى المرأة؛ لأنّنا نسأل: لماذا لم يصدر سؤال واحد ولو في رواية ضعيفة عن نظرها إلى الرجل ـ على مستوى المبدأ أو التفاصيل ـ كما صدر الكثير في نظره إليها؟ لماذا لم نجد نصوصاً في المسألة؟ إنّ هذا يضعّف بشكل واضح هذا الاحتمال.
الاحتمال الثالث: عكس الاحتمالين السابقين، بأن يفرض أنّ الأمر لم يكن بهذا الوضوح، لا حرمةً ولا ترخيصاً، وهذا الاحتمال ينتج عنه ظهور الأسئلة والأحكام فيه، مع أنّنا لم نجد شيئاً من هذا القبيل طيلة قرونٍ ثلاثة، وبهذا يثبت الجواز الذي يفيده الاحتمال الأوّل.
وهذا التأييد من السيد الخوئي جيّد، لا أقلّ من كونه يُضعف أدلّة الحرمة، ويقف مساعداً لصالح قرينة المقابلة الواردة في الآية الكريمة، في مقابل معتبرة سعد الإسكاف.
ب ـ ما ذكره بعض المعاصرين، من التمسّك بخبر علي بن جعفر الوارد في مداواة المرأة الرجل، قال: (سألته عن المرأة يكون بها الجرح في فخذها أو بطنها أو عضدها، هل يصلح للرجل أن ينظر إليه يعالجه؟ قال: لا. وسألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح، هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه وتداويه؟ قال: إذا لم يكن عورة فلا بأس) (المصدر نفسه، باب 130، ح 3 ـ 4)، فإنه يشهد أنّ المرأة لا يحرم عليها النظر إلى جسد الرجل كما كانت الحال في الرجل، ونحن إذا ضممنا السؤالين معاً لاحظنا استبعاد أن تكون المسألة من موارد الاضطرار؛ لأنّ سياقهما واحد، فلو كان اضطراراً للزم الحكم بالحليّة حتى في مداواة الرجل لها، وبهذا ـ وحيث إنّ الروايتين صحيحتان ـ تكون شاهداً على عدم وجود تحفّظ من جانب الشريعة إزاء نظر المرأة للرجل.
إلا أنّ الإنصاف أنّ مورد الروايتين يمكن أن نفرضه خاصّاً بالمداواة ولو في غير حال الضرورة، بحيث تكون الضرورة تسامحيّة عرفيّة هنا، فيمكن فرض الحليّة هنا، مع الالتزام بالحرمة من حيث المبدأ، فلا يكون هذا الشاهد سوى مجرّد مؤيّد أيضاً.
ج ـ جريان السيرة العامة على نظر المرأة إلى الرجل رأساً ورقبة وذراعين، ولم يصدر أيّ تحفّظ أو لفت نظر من جانب المعصومين عليهم السلام إزاء نظر النساء هذا، فلو كان هناك تحريم لظهر وبان، فهذا يكشف عن الرخصة من أوّل الأمر.
وهذه السيرة ـ كما يلاحظ من فتوى بعض الفقهاء ـ قد جُعلت دليلاً مخصِّصاً للحرمة بما تعورف كشفه للرجال مما ذكرناه، إلا أنّ القضية ليست بهذا الشكل فيما يبدو لي؛ إذ يستبعد أن يكون هناك تحريم يخصَّص بهذه الطريقة من دون أن نجد نصوصاً في المسألة، فعندما صدر التحريم ألم تسترعِ ظاهرة النظر إلى هذه المواضع اهتمام الرواة والمكلَّفين حتى يعرفوا ما الحكم فيها؟ كيف تشكّلت سيرة الجواز هذه مع وجود دليل الحرمة العام ـ وهو دليل قرآني حسب الفرض ـ دون أن يبلغنا تساؤل يرجع للعصر النبوي أو ما بعده لو فرض دلالة الآية على الحرمة؟ إنّ هذا التحريم العام يمكن أن يربك الحياة الاجتماعية العربية في لحظة نزوله، فكيف لم يكن هناك ردّ فعلٍ ما في هذا السياق؟ إنّ هذه الأسئلة تبقى فارغة وبحاجة إلى تتميم في جوابها، ولعلّ الأفضل اعتبار الواقع هذا شاهداً على عدم فهم العرب زمان نزول الآية حكم التحريم الشامل منها حتى نفترض التخصيص.
د ـ التأييد بدعوى الملازمة بين جواز كشف الرجل جسده وجواز نظر المرأة؛ فإنّ العرف لا يفهم ـ في مجتمع بشري يعيش فيه الرجال والنساء ـ أنّ الرجل يجوز له الكشف فيما يحرم على المرأة النظر، نعم الملازمة ليست عقليّةً، لكنّ العرف قد يفهم من حليّة كشف الرجل جواز نظر المرأة، ويثق بذلك، فإذا قبل شخصٌ هذه الدعوى أمكنه اعتبار أدلّة جواز الكشف مخصّصةً ـ بمدلولها الالتزامي ـ لدليل الحرمة العام في النظر على تقدير انعقاده.
والنتيجة: إنّه لم يقم أيّ دليل حاسم على حرمة نظر المرأة إلى جسد الرجل ـ غير العورة ـ بلا شهوة أو ريبة، ولهذا لم يفتِ بعض المتأخّرين ـ كالسيد الخوئي ـ بالحرمة هنا، بل احتاط وجوباً. هذه صورة مختصرة عن الموضوع فيما أفهمه بنظري المتواضع من الأدلّة.