السؤال: هل يجوز العمل في مهنة المحاماة اليوم؟ وهل يجوز ذلك لو كانت القوانين وضعيّةً وليست دينية شرعيّة؟ (أبو يوسف).
الجواب: لم يرد نصّ خاصّ أو عام في الشريعة الإسلاميّة يحرّم هذه المهنة في حدّ نفسها، فتكون مباحةً لأصل البراءة، بل قد تكون راجحةً كما سيأتي، ومجرّد أنّ النظام القضائي الإسلامي أو التاريخ القضائي الإسلامي لم تكن فيه فئة المحامين عند المرافعات (وإن حاول بعضهم أن يستشهد من الكتاب والسنّة والتاريخ على إثبات وجودها في الإسلام) أو أنّ هذا النظام قد أتانا من الغرب (وهناك كلام في تاريخ هذه المهنة يشكّك في الأصل الغربي لها).. لا يعني أنّ هذه المهنة صارت محرّمةً في الشرع، وعليه فهذه المهنة مباحة محلّلة في حدّ نفسها. وما ذكره بعضهم ـ كما هو المنسوب إلى المودودي والدكتور خادم حسين والشيخ عبد الله عزام ـ من حرمة هذه المهنة أو رفضها على الأقلّ، لا وجه له بعد الذي تقدّم وسيأتي إن شاء الله تعالى.
كما أنّ المحاماةَ نوعُ توكيلٍ في الخصومة، والوكالة عقدٌ جائز شرعاً في الدين، ولا ضير فيه، فكما يجوز للإنسان أن يوكّل غيره في البيع والشراء والتجارات وفي إجراء العقود وأن يتوكّل غيره له، كذلك الحال في توكيله لغيره في الدفاع عنه أمام الآخرين مقابل مبلغٍ مالي يأخذه المحامي، فعمومات صحّة العقود وشرعيّتها تشمل مثل هذا العقد بالتأكيد، لاسيما وأنّ عقد الوكالة عقدٌ قديم معهود في تراث البشر. وهذا يعني أنّ أصل البراءة ليس لوحده هنا ليثبت شرعيّة مهنة المحاماة، بل هناك القواعد الشرعية العامّة في باب المعاملات والوكالات تشرعن هذه المهنة أيضاً، لاسيما وأنّنا بنينا في بحثنا الفقهي (انظر: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 261 ـ 285، قاعدة الصحّة في العقود، الاتجاهات الفقهيّة بين التعميم والتخصيص) ـ وفاقاً لجملة من العلماء المتأخّرين ـ على أنّ الأصل في كلّ العقود القديمة والحادثة هو الصحّة، ما لم تعارض قانوناً إسلاميّاً أو يرد النصّ المباشر في المنع عنها، فلا يلزم أن نحوّل المعاملات الجديدة إلى شكل من أشكال المعاملات القديمة، بل يكفي صدق عنوان العقد عليها عقلائيّاً وعرفاً لتكون مشمولة لقانون تصحيح العقود.
بل يمكن أن نضيف أكثر من ذلك، وهو أنّ الوكالة عن المتّهم قد تكون راجحةً ومرغوبةً شرعاً، وذلك من جهات أبرزها:
الجهة الأولى: إنّ فيها نحو إعانةٍ للمحكمة والقاضي، وتصويبٍ لحكمه، وإشارةٍ عليه فيما ينبغي له أن يُصدره من أحكام، وهذا أمرٌ حسن في حدّ نفسه ومرغوب.
الجهة الثانية: إنّ في المحاماة نصرةً للمظلوم ودفاعاً عن صاحب الحقّ، ومواجهةً للظالم المعتدي، بل لو بلغ الظلم حدّ أن يُرفع المتهم على أعواد المشانق، فقد يكون التوكّل للدفاع عنه ـ وهو مظلومٌ ـ واجباً شرعاً لإنقاذه من الموت.
وربما لهذا كلّه ولغيره وجدنا أنّ مشهور فقهاء المسلمين المتأخّرين من مختلف المذاهب يرون شرعيّة هذه المهنة في حدّ نفسها، نعم ذكر السيد صادق الشيرازي حفظه الله تعالى أنّنا غير محتاجين لهذه الكثرة من المحامين؛ لأنّ أمور القضاء في الدولة الإسلاميّة تسير بيُسرٍ وسهولة بلا حاجة لهؤلاء المحامين (المسائل الإسلاميّة: 80)، وما ذكره ـ حفظه الله ـ وإن كان صحيحاً في الجملة، لكنّ رفع معدّل ضمان صواب الأحكام القضائيّة ـ إلى جانب حفظ حقوق المواطنين في التوكيل والتوكّل ـ يسمح للدولة الإسلاميّة بتطوير آليّات العمل القضائي بما يوفّر أحكاماً قضائية أدقّ وأكثر قرباً للحقيقة والصواب، فإذا كان المحامي مساعداً ومعيناً للمحكمة وملفتاً لها إلى خطأ ما ذكره الادّعاء وما قدّمته الوثائق من تحرّيات الشرطة والأجهزة المعنيّة والمباحث الجنائية وغيرها، فإنّ هذا يطوّر العمل القضائي. وتطويرُ العمل القضائي بغية الوصول إلى أحكام قضائيّة أكثر دقّةً وصواباً، وأقرب إلى حقوق المتنازعين الواقعيّة مبدأ ضروريٌّ في فقه القضاء في الإسلام، يُقدّم على مبدأ السرعة واليُسر في إصدار الأحكام. نعم مبدأ اليُسر في إصدار الحكم ضروري أيضاً حتى لا تبقى الملفّات القضائية عالقة لسنوات طويلة بما يضرّ بمصالح الأطراف المتنازعة، فيجب حلّ هذا المشكل أيضاً من مكان آخر. ولا ندّعي أنّ وجود مهنة المحاماة لا يصاحبها مشاكل أو مفاسد، لكن ينبغي النظر في المصالح والمفاسد معاً للوصول إلى نتيجة نهائيّة بهذا الصدد على المستوى المجتمعي العام.
وما أبعد ما بين وجهة نظر السيد صادق الشيرازي رعاه الله وبين وجهة نظر أستاذنا العزيز السيد محمود الهاشمي حفظه الله، الرئيس السابق للسلطة القضائيّة في إيران، حيث كان السيد الهاشمي من الفاعلين المتحمّسين لرفع عدد المحامين في إيران، ليزيده عن عشرين ألف محامٍ عند نهاية ولايته في السلطة القضائيّة كما سمعت منه شخصيّاً، وكان يقول بأنّ هذا العدد ما يزال غير كافٍ، فبريطانيا فيها أكثر من مائة ألف محامٍ، مع أنّ عدد سكّانها أقلّ من عدد سكان إيران، وعلينا النهوض بهذه المهنة في البلاد الإسلاميّة ليصل إلى مستوى منشود. وسمعته ينتقد أكثر من مرّة ما ذهب إليه بعضهم من القول بأنّه حيث لا يوجد في الرسائل العمليّة للمراجع الكرام في باب القضاء شيءٌ اسمه المحاماة، إذاً فيجب علينا أن لا نرضخ لهذه المهنة في عملنا القضائي… ويظلّ لكلّ من وجهتي النظر هاتين احترامهما ورؤيتهما للأمور.
وعليه، فالمحاماة مهنة شرعيّة، بل مرغوب بها في الجملة، كما أنّ من حقّ كلّ مواطن في الدولة والمجتمع الإسلامي أن يوكّل غيره للدفاع عنه، لاسيما إذا لم يكن يعرف كيفيّة الدفاع عن نفسه، ما دام يوكّله في أمرٍ شرعي جائز. نعم الشريعة لم توقف عمل القاضي على وجود محامٍ فيمكن للقاضي إجراء الآليّات الشرعية للقضاء دون حاجة لوجود محامٍ من حيث المبدأ، بل لو تطوّر الفكر البشري ليجد مهنةً أخرى أو آليةً أخرى بديلة تضمن تحقيق المقاصد القضائيّة العامّة بشكل أفضل، فيمكن الذهاب خلف الأفضل في ذلك. لكنّ هذا لا يعني أنّه لو وكّل شخصٌ آخرَ للدفاع عنه فهذا ممنوع، بل قد يجب على القاضي ـ بعد التوكيل ـ أن يستمع للمحامي؛ لأنّه من باب وجوب الاستماع للطرفين ورصد تمام عناصر القضيّة ما دام المحامي يمثّل أحد الأطراف المتنازعة بالوكالة.
وهذا كلّه يعني أنّ التوكيل جائز مطلقاً هنا، ومع ذلك قد يُشترط أن يكون المحامي مأذوناً من قبل السلطات القضائيّة، فإنّه وإن جاز لأيّ شخص أن يوكّل أيّ شخص ولو لم يكن متخصّصاً في القانون ومهنة المحاماة، لكن بالعنوان الثانوي يمكن ضبط هذا الموضوع وحصره بمن كان عالماً بالقانون وتفاصيله، حتى لا تفتح الأمور على تضييع وقت المحكمة وغير ذلك، وهذا عنوان ثانوي وليس عنواناً أوّليّاً، ولهذا جاء في قوانين غير بلدٍ إسلاميّ ـ مثل الجمهورية الإسلاميّة في إيران ـ أنّ المحامي لابدّ أن يكون مأذوناً من السلطات الرسميّة.
لكن كلّ هذا الذي قلناه مشروطٌ بشرطٍ رئيسيّ واحد، وهو أن لا يكون في عمل هذا المحامي محرّمٌ شرعي، مثل الكذب والتزوير وتضييع حقوق الآخرين ومخالفة أحكام الشريعة في باب الحقوق، فلو تمّ هذا الشرط جاز ممارسة هذه المهنة، وإلا فهي حرام شرعاً، ولهذا يلزم على المحامي قبل أن يقبل بالتوكّل في دعوى معيّنة أن يراجعها جيداً، فإذا أحرز أنّ الموكّلَ ظالمٌ وأنّ في الدفاع عنه دفاعاً عن الظلم أو ارتكاباً لمنكرٍ كالكذب والتزوير ومخالفة الشريعة.. لم يجز له التوكّل له، وإذا أحرز أنّه مظلوم جاز له، وإذا لم يظهر له أنّه مظلومٌ أو ظالم، جاز له أيضاً الدفاع عنه، شرط أن يتركه على تقدير اكتشاف الحقيقة وأنّه ظالمٌ وليس بمظلوم. وهذا الأمر لا يجري في خصوص المحاماة، بل في كلّ أنواع الوكالات. وعليه فليس للظالم أيضاً أن يوكّل غيره للدفاع عنه وعن ظلمه، ولا يجوز له شرعاً أن يوكّل محامياً ليدافع له عن جريمته وسلبه لحقوق الآخرين، ولا للمحامي أن يتوكّل له في ذلك.
طبعاً هذا الشرط الذين نأخذه هنا يمكن طرحه بهذه الطريقة على المستوى الفردي للمحامي، وعليه أن يوطّن نفسه على مواجهة بعض المشاكل، وعلى أن تفوته بعض القضايا، لكن في المقابل فليقرأ دوماً قوله تعالى: (.. ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ أمره قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) (الطلاق: 2 ـ 3).
أمّا على المستوى المجتمعي والحكومي، فإنّ تشريع هذه المهنة يستدعي دراسات من قبل المختصّين في أنّها هل تساعد بالإجمال العام ـ حيث إنّ المحامين ليسوا كلّهم منضبطين للقيم الشرعيّة والأخلاقيّة، فقد يدافع محامٍ عن الظالم، مع علمه بظلمه؛ لمصالحه الماديّة والمهنية ـ على رفع مستوى الأداء القضائي وإيصال الحقوق إلى أصحابها، ورفع الظلم عن المظلومين، أم أنّ تشريع هذه المهنة على المستوى المجتمعي العام يمكن ـ دائماً أو في بعض الحالات ـ أن يُفضي إلى نتائج عكسيّة؟ وهذا مما يلزم أخذه من الخبراء لكي يقوم الفقيه بالإفتاء وفقاً له أو بإصدار أحكامه الولائيّة مرعية الإجراء في السياسة الحكوميّة والقضائيّة في الدولة الإسلاميّة.
ووفقاً لما تقدّم، لا فرق في مهنة المحاماة بين أن يمارسها الإنسان في بلاد المسلمين أو غيرهم، ويستخدم فيها القوانين الوضعية أو غيرها، شرط عدم معارضتها للقوانين الشرعيّة، ومن هنا أيضاً يُعلم أنّ هذه المهنة حيث تستلزم دراسة القوانين العصريّة فإنّ دراسة القانون والحقوق في الجامعات أمرٌ شرعي ولو كانت القوانين المدروسة مغايرة للشريعة الإسلاميّة، شرط أن لا يلزم من ذلك محرّمٌ شرعي.
ومن الضروري والمناسب جدّاً أن يتعلّم الإخوة الجامعيّون المتخصّصون في مجال القانون والحقوق والمحاماة الفقهَ الإسلامي، وتكون لديهم ثقافة فقهيّة في باب الحقوق والواجبات والأحوال الشخصيّة والقوانين المدنية والتجارية والجزائية والجنائيّة في الإسلام، كما ومن المناسب لهم أن يظلّوا على تواصل مع عالمٍ فقيهٍ يمكنه أن يساعدهم ـ بسرعة ـ في أيّ معضل قد يواجهونه. وقد رأيت بعض القضاة والمحامين من أصدقائنا، من الذين كانوا يعملون في مجال هذه الوظائف، ويتواصلون بشكلٍ مباشر عند كلّ معضلة مع العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله تعالى، فإنّ هذا التواصل مع الفقهاء والفضلاء الفاهمين جيّداً للقضايا الفقهية والعصريّة ذات الصلة يمكنه أن يساعد العاملين في هذه الحقول كي لا يتورّطوا في مخالفة الشريعة الإسلاميّة، لا أقلّ من المراجعة في حالات الضرورة والحاجة، وبهذه الطريقة قد نساعد في عدم حرمانهم من هذه الوظائف أو تركها لغيرهم.
هذا، وأشير أخيراً إلى أنّه لا فرق في مهنة المحاماة بين الرجل والمرأة ما دام حقّ العمل ثابتاً للمرأة، ولم يلزم من تصدّيها لهذه المهنة أيّ محرّم، فإنّه حتى لو قال كثير من الفقهاء بعدم جواز تولّي المرأة للقضاء، لكنّ المحاماة غير القضاء كما هو واضح.