السؤال: هل يجوز لنا أن نُخضع الوحي للنقد؟ (أبو يسرى).
الجواب: السؤال عن إخضاع الوحي للنقد له ناحيتان:
الناحية الأولى: أن تقوم بممارسة النقد للوحي وأنت غير مقتنع بأنّه وحيٌ بعدُ، ومن الطبيعي في هذه الحال أن يكون النقد عادياً ومتوقّعاً ومترقّباً، فأنت لا تؤمن بأنّه وحيٌ أساساً فتقوم بنقده والردّ عليه، وليس في ذلك ضيرٌ من زاويتك، وإذا كان من ضير فهو عدم إيمانك بكونه وحياً مثلاً إذا كان من جهة العناد أو التقصير أو ما شابه ذلك. ومن هنا فنقد الناقدين لهذا الحديث عن النبيّ أو ذاك، ليقولوا بأنّنا لا نؤمن بأنّه صدر عن النبي أو أنّنا نريد أن ننزّه النبي عن هذا الكلام.. وكذلك نقد الناقدين لما قيل بأنّه آيات منسوخة التلاوة في القرآن الكريم كآية الرجم وآية الرضاع المنسوبتين إلى عمر بن الخطاب وعائشة بنت أبي بكر.. إنّ هذا النقد مهما صنّفناه علميّاً لا يحسب نقداً للوحي أو للنبيّ، بل هو محاولة للتشكيك في كونه وحياً أو كلاماً للنبيّ أساساً.
الناحية الثانية: أن تقوم بنقد الوحي وأنت تؤمن أنّه وحي من الله سبحانه، كشخص يؤمن بالقرآن وأنّه من عند الله، ثم يقوم بنقده، وفي هذه الحال فإنّ للنقد وجوهاً يجب التمييز بينها، حتى لا نخلط الأمور ببعضها، كما هو المرض الشائع اليوم، أعني مرض خلط الأمور ببعضها:
1 ـ أن يراد من النقد ليس نقد القرآن نفسه أو السنّة، بل نقدُ تفسيرٍ أو فهمٍ لهما، وهذا ليس نقداً للقرآن حقيقةً، بل هو نقد لهذا الفهم أو ذاك من الفهوم التي قال بها هذا العالم أو ذاك، ومثل هذا النقد كثيرٌ بين العلماء والمفكّرين والمفسّرين والفقهاء والمحدّثين.
2 ـ أن يكون النقد لترجيح نظريّة على أخرى في فهم بُنية الخطاب الديني (الوحي)، فمثلاً نحن نجد أنّ بعض الباحثين يرى أنّ قصص القرآن الكريم (وكذا السنّة من حيث المبدأ) غير مطابقة للواقع، وأنّها تخالف حقائق التاريخ، فهو يقوم بنقد القصّة تاريخيّاً لا لكي يقول بأنّ الله جاهل والعياذ بالله، ولا لكي ينفي عن القرآن نسبة الوحي السماوي، بل ليكتشف أو يقول بأنّ فهمنا للقصّة القرآنية هو فهم خاطئ، فالقصص القرآني لم تذكر لأجل الإخبار عن الواقع التاريخي، بل هي ـ مثلاً ـ قصص تخيّليّة كلها أو غالبها أو بعض فصولها وأحداثها، لا لأنّ الله يكذب، بل لأنّ القصّة ليست للتاريخ، وإنّما للهداية والتأثير التربوي، فكما أنّ الروائيين والقصّاصين الكبار في العالم يكتبون رواياتهم الأدبيّة المذهلة ولا نقول عنهم بأنّهم يكذبون؛ لأنّهم ليسوا بصدد الإخبار، كذلك الحال في النصّ القرآني تماماً، فهو لا يريد الإخبار عن الواقع، وإنما خلق قصّة بهدف التأثير الروحي والتربوي. فالنقد التاريخي للقرآن هنا لم يقع في سياق الردّ على الله، وانما وقع في سياق تنزيه القرآن عن الخطأ، ولهذا لو تراجعون ما كتبه الدكتور خلف الله في (الفنّ القصصي في القرآن الكريم)، فستجدون أنّه اعتبر أنّ نظريته هذه تشكّل جواباً قويّاً للمستشرقين حول إشكاليّاتها في القصص القرآني، فمثل هذا الشخص لا نقول عنه بأنّه نَقَدَ الوحي، بل نقول بأنّه نقد البُعد التاريخي في الوحي، لكي يُثبت أنّ الوحي لا بُعد تاريخيّ فيه مثلاً. وإذا اختلفنا معه في نظريّته فليس اختلافنا معه في جهة أنّه نقد الله، وإنّما في جهة أنّه لم يوفَّق مثلاً في تحليل بُنية القصّة في القرآن الكريم.
وهكذا الحال في أولئك الذين انتقدوا الإعجاز البلاغي، وقالوا بأنّ القرآن ليس معجزاً بلاغيّاً، بل فيه أخطاء بلاغيّة، فبعض هؤلاء قال ذلك بهدف نقد القرآن، وهو لا يرى أنّه وحيٌ من الله حسب قوله، وبعضهم لم يهدف إلى نقد القرآن، بل أراد أن يُثبت أنّ الإعجاز القرآني ليس لفظياً لغويّاً بل شيءٌ آخر، فاستشهد على ذلك بشواهد تبطل الإعجاز البلاغي مثلاً، وهذا الشخص لو أردنا أن نناقشه فلا نقول له بأنّك ناقشت الله، بل نقول له بأنّك أخطأت مثلاً في فهمك لبُنية الإعجاز في القرآن الكريم.
وهكذا الحال في شخص يؤمن بالوحي وأنّ الكتاب والسنّة وحيٌ من الله سبحانه، لكنّه لا يؤمن بأنّ الله أنزل القرآن لجميع الخلق إلى يوم الدين، ويرى أنّه لا دليل من القرآن والسنّة على هذا الادّعاء، فمثل هذا الشخص لا ينتقد الله تعالى ولا الوحي، بل غاية ما يقول بأنّ الوحي لم يقل بأنّه خالد، فنأخذ بالقدر المتيقّن من دائرة نفوذه وهي الدائرة الزمنيّة السابقة، دون العصر الحاضر. ولو أردنا أن نناقشه فنحن نناقشه في زعمه أنّ القرآن لا يحمل رسالةً خالدة، ونأتيه بالآيات والنصوص والأدلّة التي تثبت الخلود لرسالته، وأنّها تخاطب جميع الأمم إلى يوم القيامة مثلاً.
إنّ مثل هؤلاء لا ينتقدون الوحي ولا الله تعالى، بل ينتقدون فهم الوحي بطريقة أو بأخرى، أمّا حكمهم الفقهي وهل يحكم بكفرهم أم ببقائهم على الإسلام من خلال أقوالهم هذه؟ فهذا شيء آخر يُرجع فيه إلى المعايير التي وضعتها الشريعة الإسلاميّة في الحكم بالإسلام أو الكفر، فقد يُحكم عليهم بالكفر وقد يُحكم بالإسلام، تبعاً للنظريّات الفقهيّة المختلفة في هذا الموضوع.
3 ـ أن يؤمن شخصٌ بالوحي ويراه منسوباً إلى الله تعالى، ثم يراه خطأً في الوقت نفسه، وهنا إمّا أن يرجع الخطأ إلى الله أو إلى الرسول (الأعم من الإنسيّ والملائكي)، فعلى التقدير الثاني، يكون من معارضي نظرية العصمة في التبليغ ولو بنحو الجزئيّة، وعلى التقدير الأوّل يكون ناسباً الجهل والخطأ إلى الله سبحانه، وهو باطل، فإن اعتقد بكمال الله المطلق بحيث لا خطأ في ساحته المقدّسة فيكون نقدُه للوحي تناقضاً في بُنية تفكيره، وكذا لو اعتقد بالعصمة في التبليغ. وأمّا حكمه الفقهي من ناحية الكفر والإسلام فهذا شيء آخر كما أشرنا قبل قليل.
وعليه، فالقضية لها أوجه وأشكال، وهذه بعض أوجهها، ذكرتُها للتمييز؛ حتى لا تختلط علينا الأمور، فنحسب من يناقش في آية أو رواية أنّه يخطّئ الله أو رسوله، أو يسيء الأدب معهما، وعلينا التدقيق في كلمات الناس، لنرى أنّ نقدهم: أين ينصبّ؟ وأين يتمركز؟ وماذا ينتج عنه؟ وهل يفضي إلى تناقض في نظريّتهم، فيرون الله العالم المطلق الذي لا خطأ في ساحته ثم ينسبون له الخطأ في الوحي أم لا؟
هذا، وأمّا أن يحاول شخص أن ينتقد القرآن والسنّة لا بهدف نقدهما بما هو نقدٌ لهما، بل بهدف التأكّد من حقّانيّتهما وكونهما من عند الله أساساً أم لا، فهذا الشخص لا ضير عليه منهجيّاً إذا التزم الشروط العلمية والمهنية والأخلاقية في ذلك، فهو باحث عن الحقيقة الدينية، ولكنّ الفقه الإسلامي ـ كونه يؤمن بأنّ القرآن وحيٌ من عند الله ـ وإن لم يحرّم سؤاله عن هذا الجانب أو ذاك من القرآن، أو نفسَ بحثه العلمي بينه وبين نفسه، لكنّه يتشدّد في إبرازه (ومطلق إبراز) هذه الأسئلة إذا كانت بصيغة النقد والتبنّي والتضليل، وهو موضوعٌ يتصل بإضلال الغير تارةً، وبمسألة كتب الضلال أخرى، وبقضية الردّة ثالثة، الأمر الذي يمكن مراجعته في كتب الفقه الإسلاميّ.
أرجو أن أكون قد وفّقت لبيان بعض صور المسألة، وأن أكون قد فهمتُ جيداً مرادَكم من السؤال.