السؤال: عندي مشكلة وأرجو منكم التكرّم عليّ بحلّها، أنا موظّفة ولي صديقة في العمل أعزّها، ولي معها مواقف وذكريات طيّبة لا تنسى، ولكن يصدر منها بعض التصرّفات التي تضايقني جداً وأضطرّ أحياناً للسكوت بُعداً عن الصداع والدخول في جدل عقيم. المهم وكما لا يخفى عليكم أنّ في أماكن العمل هناك الطيّب والخبيث، وأرجو العذر من سماحتكم على هذا التلفّظ، وهناك رئيس يخاف الله في من هو تحت إدارته، وهناك العكس، وكلّنا خطّاؤون، ولكنّ مأساتي مع هذه الصديقة أنها تضع بالها على كلّ شيء، وكل موقف يصدر من موظف عادي أو رئيس، وكأنها ستصلح الكون. طبعاً ليس باستطاعتها نصحهم، ولكنّ الحديث عنهم بما فيهم فعلاً، وأحياناً تتكلّم فيما يتعلّق في شرفهم من شيء سمعته من أحد آخر ولم تره، وأنا ولله الحمد أحاول أن أتحاشى وليس لي التدخّل فيما لا يعنيني، خصوصاً إن كان مجرّد سماع ولم أشاهد، وأحاول قدر المستطاع أن اُحسن الظنّ ما دمت غير متأكّدة. سؤالي: هي صديقتي ونحن على عشرة طويلة من أيام الدراسة، وتوظّفنا معاً ومستاءه جداً من حديثها على من حولها. وطبعاً حاولت مراراً أن أقول لها لا أريد اغتياب أحد ما دمت غير متأكّدة، وهي تثور وتقول: أنا أعلم وأنا متأكّدة من مصادري، وتجوز الغيبة من ناحية طائفيّة كونها سنّية، عفواً معناها يجوز عليهم وهم غير موالين ولا يخافون الله و… وأحياناً أضطرّ أن أستمع مع عدم قناعتي، وذلك لعلمي مسبقاً بأنّني لن أخرج معها بنتيجة سوى الخلاف، وهي تصفني بأنّي لست خبيرة بمن حولي، وتعتبر ذلك سذاجة، وأنا من باب صداقتي معها واحتراماً لذكرياتي الطيّبة معها أضطرّ لمجاملتها، ولكن عندما أجلس مع نفسي أتضايق وأستاء ماذا أفعل؟ وما العمل وهي معي في عملي مدى الحياة، والناس بأخلاقهم، وعلينا تربية أنفسنا أولاً قبل أن ننظر لغيرنا، خصوصاً إذا كان من حولنا مقتنعين تماماً بما يفعلون، فليس باستطاعتنا تربيتهم، وكلٌّ منّا محاسب على عمله، فماذا ترى في كلّ هذا أستاذي؟ أريد حلاً وليس بإمكاني تغيير مكاني، وقد فكّرت كثيراً أن أستقيل من العمل؛ لأنه يكفيني ذنوبي وليس بإمكاني أن أتحمّل تبعات غيري، ولكن يصعب عليّ ترك العمل بسبب ظروف المعيشة، وأشعر بعجز لأنّي لا أقدر على ترك هذه الإنسانة؛ لإحساسي بالمسؤولية واحترامي لمواقفها معي. الحديث يطول في الموضوع لكن ما يؤرّقني هو حدود الغيبة وعواقبها، وهل الحديث عن ظلم الرئيس على من يرأس تعتبر غيبة وإلا مجرّد تخفيف عن النفس مع صديقك أو زميلك؟ وهل الغيبة تجوز على الطوائف الأخرى كما يفتي فيه بعض الناس العاديين طبعاً ولا أعني المراجع؟ وأعتذر للإطالة.
1 ـ إذا كانت هذه المرأة تغتاب شخصاً في العمل أو خارج العمل قد ظلمها، فهذا أمر جائزٌ لها بالفعل، ويفتي الكثير من الفقهاء بجواز غيبة المظلوم لمن ظلمه حتى في غير ما ظلمه فيه، وإذا كانت غيبتها جائزة لها فيجوز استماع الغيبة منها، إذ بعد أن رخّصت الشريعة لهذه المرأة بالغيبة لا معنى لأن تُلزم المستمع بالانتصار للمغتاب، فضلاً عن كون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا حصل لنا شكّ في أنّ الذي يغتاب هل هو معذور في اغتيابه لذلك الشخص أم لا؟ فيجوز الاستماع للغيبة أيضاً، لقاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة عند بعضهم، ولأنّ موضوع دليل الانتصار للمغتاب هو عدوان الذي يستغيبه، والمفروض هو الشك في حصول هذا العدوان حتى نقوم بالانتصار والدفاع.
2 ـ إذا كانت هذه المرأة تمارس كلّ هذا الكمّ من الاغتياب والمسّ بشرف الناس دون عذر، فيجب أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، بأيّ أسلوب مؤثر وفاعل، وإذا يئسنا تماماً من إمكانية التأثير فيها فإنّ الفقهاء لا يرون وجوب أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ لأنّ من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الفقهاء احتمال التأثير ولو بعد مدّة ونتيجة تكرار الكلام معها. وقد نعيش عقدة فضّ العلاقة بيننا وبين شخص إذا ما انتقدناه أو صوّبنا له فعله، وقد تكون هذه العقدة غير واقعيّة بل نحن نخوّف أنفسنا بأنّنا لو تكلّمنا معه فقد يترك ذلك تأثيراً سلبيّاً على علاقتنا به، فيجب الانتباه لهذا الموضوع حتى لا نقع في تبرير غير صحيح أحياناً.
3 ـ يفتي الكثير من الفقهاء بجواز غيبة المخالف في المذهب، وقد تعرّضنا لذلك بالتفصيل في الجواب عن سؤال آخر يمكن أن يراجع، ونحن نعتقد بأنّ الغيبة محرّمة على كلّ مسلم، بل في بعض النصوص وردت عناوين تحرّم الغيبة في حقّ كلّ الناس.
4 ـ يفتي بعض الفقهاء بحرمة سكوت المستمع للغيبة ووجوب نصرته للمغتاب، لا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل بوصف ذلك حكماً شرعيّاً مستقلاً وهو نصرة المغتاب، ويستندون في ذلك لبعض الروايات، ولكنّ دليلهم في هذه المسألة محلّ نظر شديد، فبعض الروايات ضعيفة السند وبعضها ضعيف الدلالة وأبرز الروايات ما يلي:
أ ـ خبر حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو وأَنَسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ لِعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نَصْرَهُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ».
وهذا الحديث ضعيف بأنس بن محمد وحماد بن عمرو ووالد أنس، وبعدّة مجاهيل في الطريق المعروف بضعفه عند العلماء.
ب ـ خبر أَبِي الْوَرْدِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: «مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ فَنَصَرَهُ وأَعَانَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ وأَعَانَهُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وَمَنْ لَمْ يَنْصُرْهُ ولَمْ يُعِنْهُ ولَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ وعَوْنِهِ إِلا خَفَضَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ».
ج ـ خبر السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ».
وهذا الخبر لا دلالة له فهو يفيد أنّ المدافع عن أخيه تثبت له الجنّة، لكنّه لا يفيد حرمة السكوت وعدم الدفاع.
د ـ خبر إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعِينُ مُؤْمِناً مَظْلُوماً إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ واعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ومَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصُرُ أَخَاهُ وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ، وَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَخْذُلُ أَخَاهُ وَ هُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَة».
وهذا الحديث عام في النصرة والخذلان وليس وارداً في الغيبة، فلا يفهم لزوم الدفع عن المغتاب مطلقاً، بل لو أخذنا بهذا الحديث على أنّه يفيد اللزوم في مثل الغيبة لوجب الدفاع عن المغتاب حتى لو لم تسمع من يستغيبه بنفسك، بل علمت بذلك عبر بعض الأشخاص، وهذا ما لا يقولون به، فالحديث ظاهر في عنوان الخذلان، وليس كلّ استماع للغيبة هو خذلان لا سيما لو كان ما في المغتاب من سوء أمراً واقعيّاً. علماً أنّ هذا الحديث عندي ضعيف السند بمحمد بن خالد البرقي الذي ضعّفه النجاشي والشهيد الثاني أيضاً.
هـ ـ خبر الصدوق في عِقَابِ الْأَعْمَالِ عن رَسُولِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: «وَمَنْ رَدَّ عَنْ أَخِيهِ غِيبَةً سَمِعَهَا فِي مَجْلِسٍ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَنْهُ وأَعْجَبَهُ كَانَ عَلَيْهِ كَوِزْرِ مَنِ اغْتَابَ».
وهذا الحديث ليس ظاهراً في حرمة السكوت، بل هو يقدّم عنصرين: عدم الرد، والإعجاب، فتارةً يغتاب شخص أمامي فأسكت ولكن يبدو عليّ الصمت بما لا يوحي بتأييدي وإعجابي وحماستي لما يقال، أو قد يبدو عليّ عدم الارتياح من الكلام، وأخرى يكون عندي إعجاب ودهشة وتفاعل، والحديث ظاهر في الحالة الثانية التي توحي وكأنّ المستمع متفاعل مع المشهد ومعجب أو متأثر به، فلا يكون دليلاً على الحرمة مطلقاً، بل في بعض الموارد التي يمكن عدّها مشاركة في الاغتياب لا انفعالاً بالغيبة فقط. هذا فضلاً عن ضعف سند هذا الحديث بحماد بن عمرو النصيبي الذي ضعّفوه.
و ـ خبر السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كُتِبَ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ..».
وبصرف النظر عن سند الحديث، فهو لا يدلّ إلا على حُسن الدفاع، لا حرمة الاستماع والسكوت كما تقدّم.
ز ـ خبر الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَالَ رَجُلٌ مِنْ عِرْضِ رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ فَرَدَّ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّار».
وهو مثل الحديث السابق عليه في عدم الدلالة على حرمة السكوت، فضلاً عن مناقشات في سنده.
ح ـ خبر أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ فِي وَصِيَّتِهِ الطويلة لَهُ قَالَ: «..يَا أَبَا ذَرٍّ مَنْ ذَبَّ عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ الْغِيبَةَ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ. يَا أَبَا ذَرٍّ مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وإِنْ خَذَلَهُ وهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ».
والحديث ضعيف السند جدّاً بل هو تالف السند، فإنّ فيه بعض الوضّاعين والمتهمين كمحمد بن الحسن بن شمّون، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم وغيرهما.
فينتج أنّ عندنا مجموعة قليلة من الأحاديث ذات الدلالة وكلّها ضعيفة السند، والباقي لا دلالة فيه، والقدر المتيقّن من هذه النصوص ـ بناء على حجية الخبر المطمأنّ بصدوره ـ هو حُسن الدفاع وحرمة المشاركة لا أكثر ما لم يكن عنوان آخر، وعلى مبنى حجية خبر الثقة يستفاد حرمة السكوت مع الإعجاب بما يقال خاصّة، أو حرمة السكوت الذي يصدق عليه عنوان الخذلان. والله العالم. ولعلّه لما قلناه غمز السيد تقي القمي المعاصر حفظه الله في الأخبار هنا بأنّها غير نقيّة السند (مباني منهاج الصالحين 1: 129)، ولعلّه لما قلناه أيضاً ذهب السيد الشهيد الصدر الثاني رضوان الله عليه في بعض كتبه إلى عدم حرمة الاستماع ولو مع عدم الردّ (ما وراء الفقه 3: 123 ـ 125).