السؤال: ما هو رأيكم في التقليد في العقائد؟ وإذا كنتم تؤيّدون التقليد في العقائد فأرجو أن توضحوا مبرّر ذلك، مع الأخذ بنظر الاعتبار الإشكال الذي يقول: نحن نقلّد في الأمور الشرعية كوننا نجزم أنّها تنتهي إلى الله سبحانه وتعالى، والأمور العقدية وتفاصيلها ليس بالضرورة رجوعها إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا كنتم من رافضي هذا الرأي، فأرجو كذلك بيانه، وشكراً(أبو علي البصري).
الجواب: أولاً: ما يبدو لي ـ والموضوع طويل، وأنصح بمراجعة ما سطرته يراعُ الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه الله في كتابه الأصولي الشهير (الرسائل أو فرائد الأصول) في الأمر الخامس من تنبيهات دليل الانسداد ـ أنّ التقليد في العقائد غير واجب، بل هو في أساسيّات العقائد لا معنى له، ما لم يكن الرجوع إلى العالم العقائدي موجباً للاقتناع بقوله؛ لأنّ أساسيات الاعتقاد بحسب ما طرحه القرآن الكريم تقوم على الإيمان، وهو فعل التصديق العميق والاعتقاد، لا فعل الرجوع إلى شخص والأخذ بقوله دون حصول حالة التصديق والإيمان في القلب. والتقليد لا يحقّق الإيمان والتصديق في حدّ نفسه وفق المعنى السائد لكلمة التقليد، إذ هو يعني رجوع الجاهل إلى العالم رجوعاً لا يلزم منه حصول العلم عند الجاهل بعده. أمّا تفاصيل الاعتقادات فلا دليل على وجوب تبنّيها والالتزام التفصيلي بها إذا لم يحصل علمٌ بها، والمفروض أنّ التقليد لا يحصّل العلم بالموضوع الذي جرى التقليد فيه، فلا دليل يفرض التقليد في هذه الحال. والسيرة العقلائيّة تُلزم برجوع الجاهل إلى العالم في مورد يجب فيه على الجاهل مسبقاً العمل بما جهل، فحيث لا سبيل له لكي يعمل به عن علم؛ لفرض جهله، ألزمته السيرة بالرجوع إلى أهل الاختصاص حيث لا يريد الاحتياط، وفي مورد تفاصيل الاعتقاد لا دليل يلزم بالوصول إليها تفصيلاً ـ بصرف النظر عن الوصول العلمي أو الوصول الاحتمالي ـ فلا معنى لجريان السيرة العقلائية في موردها، فهذا ليس إشكالاً في مديات السيرة وإنّما هو بيانٌ لانعدام موضوعها، ولهذا لا نُلزم الناسَ بالرجوع إلى أهل الاختصاص من الأطباء عندما لا يحتاج الإنسان للطبيب حيث لا مرض عنده، فلابدّ أولاً من فرضه مريضاً، ثم فرض إلزامه بمعالجة مرضه، ثم فرض انعدام سبل العلم بالعلاج والاحتياط، لكي نقول له بأنه يلزمك الرجوع إلى الطبيب. وهنا في تفاصيل الاعتقاد يذهب العلماء إلى أنّه قبل العلم بالتفاصيل الاعتقادية لا يوجد دليل يُلزم الإنسان بالوصول إليها، كلّ ما في الأمر أنّه لو وصل إليها بالعلم لزمه الاعتقاد بها، فمثلاً لا دليل يلزم الإنسان بمعرفة تفاصيل القيامة والاعتقاد التفصيلي بها، وليس هذا من واجبات الاعتقاد عندهم، وعليه فلا مُلزم لي للتقليد حيث لا علم، فليلاحظ الأمر جيّداً، ففيه يكثر الالتباس على كثيرين، ممّن التمسوا الدليل على لزوم التقليد في العقائد بالسيرة العقلائية، وهو خطأ في حدود فهمي المتواضع. نعم الواجب هو الاعتقاد الإجمالي بالتفاصيل العقديّة بأنّ نقول إنّني أؤمن بكلّ تفاصيل القيامة التي جاء بها القرآن والسنّة إيماناً إجماليّاً ولو لم أعرفها بالتفصيل، وهذا كافٍ، ولو سعى لتحصيل العلم بها فهو أمر حسنٌ أيضاً.
ولأجل ما قلناه يذهب كثير من المحقّقين من العلماء إلى أنّه لا يجب التقليد في المستحبّات والمكروهات والمباحات إلا إذا احتملت الإلزام فيها، بالفعل أو الترك، أو أردت الخروج عن عهدة التشريع المحرّم في موردها.
ثانياً: أمّا التمييز الذي ذكرتموه في سؤالكم من أنّ الشرعيات ترجع إلى الله دون العقديات، فهذا غير واضح لي، فإنّ الاعتقادات هي أيضاً تنسب إلى الله تعالى، كوجوده وصفاته وأسمائه وأفعاله والنبوة والإمامة والمعاد.. فكلّها تكلّم عنها القرآن وجاءت بها السنّة، ودعت إلى اعتقادات معينة ونهت عن اعتقادات أخرى، فكيف لا ترجع الأمور العقائديّة إلى الله تعالى؟! نعم بعض الأمور الواقعيّة لا صلة للدين بها، لكنّ هذا غير نفي الصلة بين العقديات والدين. وأمّا إذا كنتم تقصدون من التمييز أنّه في الأمور الشرعية نجزم بالحكم الشرعي، فيما في الاعتقادات قد يكون هناك خطأ، فهذا ليس صحيحاً أيضاً، بل بالعكس فإنّ الأمور الشرعية غالبها ظنّيٌّ عندهم يحتمل الخطأ، فكيف جزمنا برجوعها إلى الله تعالى وشككنا في صحّة الانتساب له تعالى في العقديّات؟! ما لم تقصدوا شيئاً آخر لم يتضح لي، والله العالم.
ثالثاً: هذا كلّه على مستوى البحث العلمي وبإيجازٍ بالغ، أمّا على المستوى العملي، فإنّني لا أجد أيّ مصلحة في دعوة الناس للتقليد في العقائد وإصدار رسالة عمليّة عقائدية إذا صحّ التعبير، بهدف رجوع الناس إلى الرسالة والالتزام القلبي بما فيها ولو لم يكن هناك علمٌ يحصل منها، كما لو لم تكن استدلاليّةً، وأنّ قيمتها في نفس قائلها لا في مضمونها وأدلّتها، مع احترامي الكبير لمطلقي هذه الدعوة مؤخراً؛ فإنّ قضايا القناعات والثقافات أمورٌ شخصيّة ولا موجب لإلزام الناس بها أو خلق مناخٍ تقليدي اتّباعي جديد غير مجال الفقه، بل أرى أنّ هذه الدعوة تنافي التوجّه الاجتهادي والفردي وتصبّ لصالح التوجّه الاتّباعي في الأمّة، وحصر حريّات التفكير ومناخات التأمّل الشخصي. هذا، وللقضيّة مجال تفصيلٍ آخر نتركه الساعة.