الجواب: هناك توافق أو شبه توافق فقهيّ بين المسلمين على أنّ الصلاة لابدّ أن تؤدّى بكامل أذكارها باللغة العربية الصحيحة، وقد وقع كلامٌ فقهي في القنوت، فذهب بعضهم فيه إلى كونه كغيره من أذكار الصلاة، وقال آخرون بأنّه لا يصحّ بغير العربيّة لكن لا تبطل الصلاة معه، فيما أجاز آخرون الإتيان به ولو بغير العربية، مع الحكم بصحّة الصلاة. ولم يشذّ عن هذا التوافق سوى المذهب الحنفي وبعض القرآنيين في العصر الحاضر، وبعض الفقهاء المعاصرين، كما تشير إليه كلمات السيد مصطفى الخميني الآتية بعون الله.. حيث أجازوا ـ على خلاف في بعض التفاصيل ـ القراءة والتكبير و.. بغير العربية. والذي يهمّنا هنا هو معالجة ما إذا لم يكن الإنسان عربياً من طفولته هل يجب عليه قراءة مختلف أذكار الصلاة بالعربية سواء كان يتقنها أم لا؟ كما أنّ العربيّ نفسه هل يمكنه قراءتها بغيرها لو كان يجيد لغةً أخرى؟ والذي يعنينا هو الترجمة لا العربي الملحون، فإنه خارج عن مورد البحث.
وقد استدلّ كلا الطرفين هنا بعدّة أدلّة ليس بينها نصّ واحد صريح بأنّه يجب عليكم تعلّم العربية أو يجب عليكم الصلاة بالعربية أو لا يجب، وإنّما هي قواعد وعمومات وانصرافات وارتكازات كما سوف نرى، ويهمّنا منها ملاحظة أدلّة اللزوم، وهي عديدة بعضها واضح الضعف فنتجاهله، وأهّمها ما يلي:
الوجه الأوّل: التمسك بالإجماع الإسلامي على القضية، بدعوى أنّه قلّت مسألة في الفقه تمّ التوافق عليها كهذه المسألة ـ على المستوى الإسلامي عموماً ـ وهذا الوضوح يكفي دليلاً على المطلوب، كما أشير إليه في كلمات المحقّق النجفي والسيد محسن الحكيم والسيد الخوئي وغيرهم.
أولاً: إنّ صغرى الإجماع الإسلامي غير واضحة، بعد ما نسب ـ بل صرّح به في التذكرة ـ إلى أبي حنيفة وأصحابه الخلاف في القضية كما تقدّم. نعم الإجماع المذهبي الإمامي قد يقال بتماميّة عدم وجود خلاف في المسألة.
ثانياً: إنّ هذا الإجماع محتمل بل مظنون المدركيّة، فقد وقع الجدل بين المسلمين السنّة أنفسهم في القضيّة، واستشهد كلّ واحدٍ منهم بآيةٍ قرآنية، وقد سجّلت في كلمات الكثير من فقهاء الإماميّة جملة من الأدلّة سنلاحظها، وبعضها مما يمكن ادّعاء كونه سبب الفتوى عند الكثيرين، ومع وجود أكثر من عشرة أدلّة مدوّنة مصرّح بها في كلمات العديد من الفقهاء، كيف يمكن افتراض أنّه إجماع تعبّدي؟! بل هو عند طائفتي المسلمين مدركيٌّ غير واضح الحجيّة (وسيأتي التعليق على الاستدلال بالسيرة المتشرّعية بعون الله).
الوجه الثاني: التمسّك بفكرة توقيفية العبادات، وذلك بأن يقال بأنّ أقصى ما وصلنا حول عبادة الصلاة هو تلك الأذكار باللغة العربية، وحيث إنّ العبادة توفيقيّة ولابد لنا من أن نأخذها كما وردتنا بدون إعمال أيّ اجتهاد، فمعنى ذلك الاقتصار في أداء الصلوات على الإتيان بها بالعربيّة الصحيحة كما وردتنا، وهو معنى توقيفيّتها. وقد تمسّك بهذا الكلام بعض الفقهاء كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد والسيد العاملي في المدارك وغيرهما.
وهذه الصيغة للاستدلال لا تفي بالمطلوب؛ إذ نسأل: ما معنى أنّ أقصى ما وردنا عن الصلاة هو إيّاها باللغة العربيّة؟ لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم عرباً، ومن ثمّ فمن الطبيعي أن تكون صلواتهم بالعربيّة، كما أنّه من الطبيعي أن يعلّموا أصحابهم مفردات الصلاة باللغة نفسها، بحكم أنّ المحاورة فيما بينهم كانت تقوم على أساس العربيّة والتي هي لغتهم الأم في الأغلب، ومن هنا فماذا يتوقّع أن تكون النصوص التي بين أيدينا؟ وبأيّ لغة؟
قد يقال: إنّ عدم أدائهم الصلاة أو تعليمها لأصحابهم بغير العربية ولو مرّة واحدة شاهدٌ على أنّ من يعرف العربيّة لا يجوز له أداء صلاته بغيرها، وإلا فلو كانت العربية مستحبّةً للزم التنبيه ـ قولاً أو فعلاً ـ على جواز خرق قاعدة العربيّة في الصلاة بحكم وظيفتهم، ولما كرّروا بلا انقطاع أداء الصلاة بالعربيّة لمدّة ثلاثة قرون كشف ذلك عن كون العربية شرطاً لازماً، لا أقلّ لمن يعرفها.
والجواب: إنّ هذا الكلام صحيحٌ لو افترضنا أنّ أداءهم صلواتهم أو تعليمها بالعربيّة سوف يفرض في ذهن الآخرين وجود هذا الشرط، وإلا فهل يعقل أن نلتزم بلزوم الكلام بالعربيّة مطلقاً في الصلاة وغيرها؛ لأنّهم لم يصرّحوا ولا مرّة واحدة ولم يتكلّموا بغير العربية في مجتمع المسلمين؟! بل كيف أجاز الفقهاء في غير العبادات سائر اللغات مع كون هذا الدليل بعينه جارٍ هناك؟ إنّ هذه الافتراضات لم تكن متبلورةً، بل لا يعبّر ذلك عن شيء أساساً ما دامت هي لغة الإنسان الأم فلاحظ.
فالإنصاف أنّ توقيفية العبادة بهذه الصيغة لا تثبت المطلوب، فلو علّم الإمام شخصاً دعاءً من الأدعية أو قاله الإمام أو زيارةً من الزيارات، فهل يلتزمون بوجوب العربيّة مع أنّها أمور قربيّة أيضاً؟! إنّ عدم ملاحظة خصوصيّة اللغة أمر ناشئ من أنّه من غير المعلوم أنّ هذه القضيّة كانت مأخوذةً في الوعي العام حتى يشير الإمام إليها. بل لو تمّ هذا الدليل فغايته أنّه يثبت لزوم الصلاة بالعربية لمن يعرفها، لا وجوب العربيّة حتى في حقّ من لم يعرفها ووجوب تعلمّها عليه، فإنّ هذا الدليل من الصعب أن يُثبت مثل هذه النتيجة كما صار واضحاً، وسيأتي ما يرتبط بهذه النقطة آخر البحث إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث: ما أفاده المحقق الكركي في جامع المقاصد وغيره، من تطبيق فكرة التأسّي، بدعوى أنّهم أدّوا عليهم السلام صلاتهم بهذا الوجه، ونحن أمرنا بالتأسّي بهم بشكل عام، وهذا مصداق بارز تعبّدي للتأسّي فوجب الاتيان بالصلاة بهذا النهج دون غيره.
ومناقشة هذا الوجه واضحة ذكرها أكثر من واحد في موارد عديدة في الفقه، فإنّ دعوى أنّ التأسّي شامل لهذا المقدار الذي بيّنا حاله في مناقشة الوجه الثاني غير دقيقة، وإلا فلماذا لا يوجب دليل التأسّي النطق بالعربية لكلّ مسلم وهجر لغته، ومجرّد كون هذه عبادة دون تلك لا يوضح نكاتاً ظاهرة في المسألة. هذا مضافاً الى مناقشة كبروية في دليل التأسّي لا مجال لذكرها هنا، بل قد يكون نطقهم بالعربية واجباً، لكونهم يعرفون العربية، فلا يقدّم ذلك دليلاً على وجوب العربية في حقّ غير العربي الذي لا يعرفها، وإن أمكنه تعلّمها.
الوجه الرابع: التمسّك بأصالة الاشتغال، بدعوى أنّ الصلاة بالعربيّة ممّا يعلم معها بالبراءة وتفريغ الذمّة، بخلاف غيرها؛ فإنّه لا يقين بالبراءة معه، ومن ثمّ فمقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان بالعربية تحصيلاً لفراغ الذمة. وقد أفاد هذا الوجه صاحب الجواهر في مباحث التشهّد.
والجواب: أولاً: بعدم وصول النوبة الى الأصل العملي بعد تماميّة الإطلاقات والعمومات لهذه الأذكار بشمولها لمطلق اللغات، وهذا إشكال مبنائي، فكما أنّ من نطق بالفارسية أو التركية أو الأمازيغية ترجمة صيغة البيع بالعربي، صدق عليه أنّه باع ويشمله إطلاق من باع، كذلك من قال بالفارسيّة أو التركية أو الأمازيغية ترجمة (سبحان ربي العظيم وبحمده)، صدق عليه أنّه سبّح الله وحمده، فما الفرق بين الاثنين غير مجرّد اعتيادنا على العربيّة في مجال الأذكار الدينية؟! فلابدّ من إثبات أنّ قوله لنا: قولوا: كذا وكذا في الصلاة، قد أخذ فيه قيد العربيّة، حتى نُجري أصالة الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني في المقام.
وثانياً: بعدم وصول النوبة لأصالة الاشتغال، فإنّ المورد من موارد الشك في خصوصيّة زائدة؛ لأنّنا نعلم بوجوب الإتيان بالألفاظ في الصلاة، ونشكّ بلزوم إتيانها بلغة خاصّة، أو نعلم بها ونشك في لزومها على غير العربي، فالمورد من موارد أصالة البراءة، سواء جعلناه من حالات الشك في قيد التكليف أو من حالات دوران الأمر بين التعيين والتخيير، ومعه فلا مورد لإجراء أصالة الاشتغال، بعد احتمال أنّ يكون قوله لنا: قولوا كذا وكذا يراد منه أصل المضمون، وبأيّ لغة، لا خصوصيّة العربيّة، لكونه عربيّاً، فبيّن إرادته المضمون بلغته. ولعلّه لكلتا المناقشتين اللتين ذكرناهما رفض السيد تقي القمّي في (مباني منهاج الصالحين) الاستدلال بأصالة الاشتغال في المقام.
الوجه الخامس: التمسك بدعوى عدم القرآنية بغيرالعربيّة بإحدى صيغ ثلاث:
الصيغة الأولى: ما ورد في كلمات المحقّق الكركي في جامع المقاصد، من أنّ الألفاظ غير العربيّة لا تكون مرادفةً للفظ العربي، ومعه لا يصحّ الإتيان بها في القراءة.
الصيغة الثانية: ما ورد في كلمات المحدّث البحراني صاحب الحدائق، من تغاير الترجمة للمترجم، ومعه فإنّ قراءة ترجمة القرآن الكريم في الصلاة لا تعطي أنّنا قرأنا المترجَم وهو الحمد أو السورة، وحيث إنّ المطلوب قراءة الحمد والسورة، وهي غير الترجمة، فلا يبرئ الذمةَ غيرُ العربيّة.
الصيغة الثالثة: ما جاء في كلمات المحقّق النراقي، من أنّ الترجمة ليست قرآناً، وحيث إنّه لابد من الإتيان بقراءة القرآن في الصلاة، والترجمة ليست قرآناً، فالاكتفاء بها غير مبرئ للذمة، كما صار واضحاً.
ومن اللازم ـ قبل مناقشة هذا الوجه ـ التذكير بأنّه حتى لو تمّ فهو خاصٌّ بالقراءة في الصلاة في الركعة الأولى والثانية، أو بمن قرأ الفاتحة خاصّة في الركعات الأخرى أيضاً، ولا يشمل ـ بحسب شكل صيغه الثلاث ـ بقية أذكار الصلاة، من التكبير والتسبيح والتحميد والتشهد والتسليم وغير ذلك من الواجبات فضلاً عن المستحبّات.
وعلى أيّة حال، فقد يُجاب عن هذا الوجه بأنّ ترجمة أيّ كتاب أو نصّ إلى لغةٍ أخرى، لا يوجب سلب عنوان قراءة هذا الكتاب عرفاً، فأنت ترى أنّنا كثيراً ما نقرأ كتباً غير عربية، ولكنّها مترجمة الى العربيّة، ولا يتوهّم أحد عدم صدق عنوان أنّنا قرأنا هذه الكتب، لمجرّد أنّها تُرجمت، فكتاب تاريخ الطبري إذا قرأه مواطنٌ فرنسي باللغة الفرنسيّة، فهل نقول له بأنّك لم تقرأ تاريخ الطبريّ؟ أليس الكثير من الناس اليوم يقولون بأنّنا قرأنا كتب شريعتي وكتب مطهري رغم أنّها بأجمعها ترجمات عن اللغة الفارسيّة؟ وهل يُحجم إنسانٌ عن نسبة قراءة كتبٍ ما إلى نفسه لمجرّد أنّه قرأها مترجمةً؟ ولو نذر شخص أنّه لو قرأ مجموعة أعمال إقبال اللاهوري فسوف يتصدّق بالمبلغ الفلاني، فهل حقّاً لا يجب عليه التصدّق لو طالعها باللغة العربية حيث هي ترجمة عن اللغة الأم؟ وأبرز شاهد على هذا الأمر هم المسيحيّون في عالم اليوم، فهل يقال للمسيحيّ بأنّك لم تقرأ الإنجيل في حياتك، في حال كان يطالعه بلغته كلَّ يوم؛ لمجرّد أنه لم يقرأه بالنصّ الأصليّ التاريخي له؟
إنّ هذا الافتراض غير عرفي، والذي دفع إليه ـ على ما أتصوّر ـ هو قداسة الجانب اللغوي من القرآن الكريم، وكونه يمثل عنصراً أساسيّاً منه في عمليّة الحجّة والمعجزة والعرض و.. فتصوّروا أنّ قرآناً لا يعطي هذه النتائج ليس قرآناً، فقراءته ليست قراءة القرآن، في حين أنّ صدق قراءة القرآن شيء، وكون النصّ المترجم هو عينه بمثابة النصّ الأصل شيء آخر، فأنت تقرأ أعمال شكسبير، ويقال عرفاً: لقد قرأت أعماله، لكنّ النصّ المترجم لا يرقى إلى مستوى الأدب السامي الذي كانت عليه أعمال شكسبير، تماماً كما نقول في ترجمات المثنوي لجلال الدين الرومي، فأنت تقرأ المثنوي ويصدق عليك أنّك قرأته، وتقول: أنا قرأت المثنوي، أو أنا قرأت رباعيات الخيام أو سمعتها، لكن مع ذلك لا يمكن القول بأنّ النص المترجم يفي بسموّ النصّ الأصل مهما بلغ، لاسيما لمن يعرف اللغة الأصليّة ويتذوّقها أدبياً وجماليّاً وإيقاعيّاً، نعم قراءة النص بلغته الأم أفضل وأقرب، لكنّ ذلك لا ينفي صدق عنوان القراءة على نصّ الترجمة.
الوجه السادس: التمسّك بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، بتقريب أنّ الآية تؤكّد على عربيّة القرآن، وأنّه نزل على هذه اللغة، فسلب هذه اللغة عنه يعني أنّ هذا القرآن ليس القرآن النازل من السماء، والحال أنّ المطلوب قراءة القرآن الموحى به، فلزم اللفظ العربي.
وهذا الوجه ـ كسابقه ـ مختصّ بالقراءة، ولا يشمل باقي أذكار الصلاة كما هو واضح.
ويناقش بأنه لا إشكال في كون القرآن عربيّاً، إلا أنّ كلامنا ليس هنا، بل في أنه هل يصدق قراءة القرآن لو قرأ بغير اللغة العربيّة، فنحن ننظر للعنوان المركّب (قراءة القرآن) نظرةً عرفيّة، لا لعنوان (القرآن) في حدّ نفسه، فإذا افترض العرف هذا الصدق، فقد أحرزنا صدق العناويين الواردة في الأوامر الدالّة على وجوب القراءة في الصلاة، وهذا أمرٌ أجنبيّ عن نزول القرآن باللغة العربية، فمثلاً إذا قال مؤلّف أحد الكتب بأنّه كتبه بالفارسيّة، أفهل يوجب ذلك عدم صدق قراءة هذا الكتاب لو تُرجم؟!
الوجه السابع: التمسّك بما رواه الشيخ الصدوق قال: «كان رسول الله أتمّ الناس صلاةً وأوجزهم، كان إذا دخل في صلاته قال: الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم»، بضميمة قوله: «صلّوا كما رأيتموني أصلي»، فينتج عن ذلك لزوم التكبير باللغة العربيّة؛ لأنّ النبي كبّر بها حسب الفرض، ولابد لنا أن نصلّي مثله، فنكبّر بالعربيّة. وقد إشار إلى هذا الوجه الشيخ النجفي في كتاب الجواهر. ودليله خاصّ بشرطيّة العربيّة في التكبير، وقد يمكن تعميمه.
الناحية الأولى: ما أفاده غير واحد، من إنّ خبر الصدوق ضعيف بالإرسال، فليس بحجّة، كما أنّ الخبر الآخر قد ورد من غير طرق الإماميّة.
الناحية الثانية: إنّ أقصى ما يفيد هو أنّ عدم ذلك يوجب كون الصلاة غير موجزة، لا غير صحيحة، فالرواية ليست بصدد بيان الصلاة الصحيحة من غيرها، بل الموجزة الأتمّ من غيرها، فلا يتصوّر جريان قاعدة: صلّوا كما رأيتموني أصلّي هنا؛ بداهة أنّ هناك مستحبات كثيرة، لا شك في إمكان إتيانها بين التكبير والبسملة. وقد ارتضى روح هذه المناقشة السيدُ الخوئي، وأضاف إلى ذلك السيد الحكيم بظهورها في جواز غير هذه الصورة لمن لاحظ فقرة الرواية.
الناحية الثالثة: ما أشار إليه السيد محسن الحكيم، من أنّ خطاب: صلّوا كما رأيتموني أصلّي، لا يمكن أن يشتمل تمام خصوصيّات صلاته الزمانية والمكانيّة والحالية و.. بل يراد منها بعض تلك الحالات لا محالة، وحيث إنه لم تتعيّن تلك الحالات لنا، فيكون الدليل مجملاً لا يرجع إليه هنا.
وأورد السيد الخوئي على هذه الملاحظة بأنّ المقدار الذي واظب عليه الرسول من الصلاة في كافّة الحالات يكون هو المراد من الرواية، وحيث إنّ هذا المقدار ـ أي المواظب عليه ـ معروفٌ لدينا مضبوطٌ، أدّى ذلك إلى رفع الإجمال عن الرواية بما في ذلك دلالتها على التكبير.
وهذا الإيراد من السيد الخوئي جيّد، غير أنّه غير كافٍ في المقام؛ فإنّ مجرّد المواظبة دون نفي الاحتمالات الخارجيّة (غير الدينية) التي قد تفرض المواظبة، لا تفيد شيئاً؛ فإنّه قد واظب رسول الله على الصلاة مرتدياً لباسه العربيّ الخاصّ، وواظب عليها وهو يتنفّس و.. والخصوصيات التي واظب عليها رسول الله في صلاته دون غيرها يتمّ فيها الكلام، أمّا ما واظب عليه مما يواظِب عليه حتى خارج الصلاة كالتكلّم بالعربية للإنسان العربيّ، فلا يظهر أنّه واضح المشموليّة للدليل، فلا ما أفاده السيد الحكيم، ولا ما ذكره السيد الخوئي في محلّه على نحو الإطلاق، بل ينبغي التفصيل بالقول بأنّ كلّ ما واظب عليه الرسول في الصلاة ممّا نعلم أنّه ليس له منشأ غير ديني، ولا نحتمل أن يكون منشؤه العرف والعادة، يكون هو المشمول لقاعدة: صلّوا كما رأيتموني أصلّي، أمّا ما يحتمل فيه وجيهاً أن يكون مواظبته عليه في الصلاة نتيجة سببٍ آخر غير ديني، كما لو كان هو نطقه بلغته الأم، فلا يحرز شمول الدليل هنا، فخبر: صلّوا كما رأيتموني أصلّي ليس مجملاً ولا شاملاً. وبهذا لا يكون استدلالكم في السؤال أعلاه صحيحاً أيضاً؛ لأنّ صلاة النبي بالعربيّة من حيث كونه عربيّاً لا تفيد وجوب صلاة التركي بالتركية من حيث كونه تركيّاً تطبيقاً لقانون التأسّي أو قانون: صلّوا كما رأيتموني أصلّي؛ نظراً إلى أنّ صلاة النبي بالعربيّة نشأت من لغته وعرفه، ولا يعلم نشوء ذلك من أمرٍ ديني، فلاحظوا جيداً.
الوجه الثامن: التمسّك بما في المجالس من حديث: «وأما قوله: الله أكبر.. لا تفتتح الصلاة إلا بها»، فإنّ مرجع الضمير «إلا بها» هو نصّ التكبير المتقدّم، فيفيد الحديث الحصر بهذه الصيغة العربيّة من التكبير، وهو ما أشار إليه المحقّق النجفي في الجواهر والمحقق العراقي في شرح التبصرة في سياق اشتراط العربيّة في تكبيرة الإحرام.
وأورد عليه أولاً: بالضعف السندي من جهات، على ما أشار إليه السيد الخوئي، إذ مع غضّ النظر عن ابن ماجيلويه ـ شيخ الإجازة ـ لكونه مهملاً، فقد اشتمل السند على مجاهيل، كالحسن بن عبدلله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين البرقي.
ثانياً: بالضعف الدلالي ـ على ما أشار له الحكيم والخوئي معاً ـ من إضافة الواو إلى (الله أكبر) المفروغ عن عدمها في التكبير، والإجزاء بدونها، خلافاً لما نقله الحرّ العاملي في الوسائل، فلا تكون شاهداً على المطلوب.
ثالثاً: بما يمكننا ذكره من أنّ الرواية تريد الإشارة ـ على أبعد تقدير ـ إلى ما يجب قوله في تكبيرة الإحرام، فهذه الصيغة هي المجزية، وأقصى ما يدلّ عليه هو أنّ أيّ صيغة أخرى مثل: الله أعظم، لا تفيد، أمّا نفس (الله أكبر) لكن بلغةٍ أخرى، فهذا منصرفٌ عنه في الرواية، وغير ملحوظ، بعد كون المتحاورين ـ السائل والمجيب ـ من أهل العربية، ولا أقلّ من عدم ظهور الحصر في إرادة هذه الجهة.
رابعاً: إنّ غايته اشتراط العربية في تكبيرة الإحرام، لا في مطلق أذكار الصلاة بما فيها الأذكار المستحبّة، ما لم نثبت عدم الفصل.
الوجه التاسع: ما اعتمده السيد الخوئي، وأشار إليه قبله المحقق النجفي في الجواهر، من إطلاق أدلّة الجزئيّة، بدعوى انصرافها إلى المتعارف المعهود المنقول عن صاحب الشرع، وهذه الشهرة ـ التي توجب وضوحه عند مطلق المسلمين شيوخاً وأطفالاً وشباباً ونساءً، بحيث لو قلت له: اقرأ الفاتحة، أو كبّر، لتلفّظها بالعربيّة بلا رويّة ـ موجبةٌ لصرف الأدلّة إلى النصّ العربي من التكبير، بل وغيره. وهذا الدليل لعلّه من أهمّ أدلّة المقام.
وقد ناقش السيد الحكيم هذا الدليل ـ بعدما أشار إليه ـ بأنّ المتعارف لا يوجب صرف الإطلاق.
لكنّ هذا المقدر المختصر من التعبير في كلمات السيد الحكيم قد لا يجابه عرض السيد الخوئي للدليل، من هنا يمكن أن نسجّل الملاحظات التالية:
أ ـ إنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا ومتى حصل هذا الانصراف؟ هل هناك دليلٌ يؤكّد أنّ موجب هذا الانصراف هو شيءٌ آخر غير فتاوى فقهاء المسلمين التي هيمنت على الثقافة الشعبيّة وكوّنت عرفاً جديداً في الانصرافات؟! الأمر الذي قد يشهد له أنّ الكثير من المسيحيين لا يعيشون هذا الانصراف.
ب ـ قبلنا، لكن حيث لم تكن الترجمة مستخدمةً في ذلك الزمن بصورة عامّة، حتى يحفظ المسلمون الأذكار بها، فلعلّ هذا هو الذي كان موجباً لهذا الانصراف، أمّا لو حصلت ترجمةٌ وقرأها الإنسان، ألا يقال: كبّر. إنّ نفس صدق التكبير بالنظرة العرفية المجرّدة عن حمولات الفتاوى، وكذا غيره، مؤكّدٌ على أنّ هذا الانصراف لا نُحرز امتداده في الماضي زمن النصّ.
ج ـ ربما واظب المسلمون على حفظ النصّ العربي لعوامل غير الوجوب، فأوجب ذلك تعارفه لمجرّد عدم ملاحظة غيره، من دون أن يكون ذلك موجباً لصرف ظهور الأدلّة عنه وإليه، بل هي غلبة خارجية لا دلاليّة، ووفق الموازين الأصوليّة لا يتمّ الانصراف، ولعلّ هذا ما أراده السيّد الحكيم، إذ هل يُتصوّر أنّ كلمة (تكبير) قد صارت خصوصيّة اللغة العربيّة جزءاً من المعنى المستعمل فيه فيها؟ ولماذا؟ وكيف؟ وهل كلمة (تحميد)، لم تعد تشمل لغويّاً وعرفيّاً مرادفاتها وترجماتها في اللغة غير العربيّة؟!
الوجه العاشر: التمسّك بصحيحة حماد المشهورة الواردة في الصلاة البيانيّة، فإنّ قوله في آخرها: «هكذا صلّ» موجبٌ للأمر بهذه الكيفيّة التي منها العربيّة. وقد استغرب السيّد الخوئي من غفلة الأصحاب عن هذا الدليل.
وقد نوقش هذا الاستدلال في كلمات الشيخ البروجردي في حاشية المستند بمناقشة قبلها غيره، وحاصلها: إنّ الصلاة الواردة في صحيحة حماد لا يراد بها خصوص الحدود الواجبة، لاستبعاد جهل مثل حمّاد بها، وقد بلغ الستين والسبعين من عمره، فلابد أن يراد بها الكاملة المشتملة على تمام الحدود، ومعه لا يُفهم منها الأمر بالصلاة وجوباً بالكيفيّة المذكورة خاصّة.
كما يناقش دليل السيد الخوئي هنا أيضاً باشتمال الرواية على جملة عديدة من المستحبّات، فلا يعود هناك ظهور في الوجوب بصورة واضحة مشخّصة إلا على مسلك استفادة الوجوب بحكم العقل.
كما أنّ الأمر بالإتيان بالصلاة بهذه الكيفية، ناظرٌ إلى كيفيّة الأذكار والصلاة، وهي إن لم ندّع انصرافها عن خصوصيّة العربيّة، فلا أقلّ من عدم ظهور شمولها لهذه الخصوصيّة، على ما شرحناه سابقاً.
هذا مهمّ ومحصّل ما ذكروه من الأدلّة على وجوب العربيّة في الصلاة، وقد تبيّن عدم تماميّة أيّ منها، وأنّ غاية ما تفيد ـ لو سلّمت ـ هو وجوب العربيّة على من يعرفها، ووجوب العربيّة في القراءة، أمّا غير ذلك فإثباته بهذه الأدلّة غير واضح. ولعلّه لهذا أوجز السيد تقي القمّي في (مباني منهاج الصالحين) القول بأنّه لو ثبت إجماعٌ تعبّدي فهو، وإلا فمقتضى العمومات والمطلقات هو الصحّة ولو بغير العربية، وكأنّه ما رضي بهذه الأدلّة المذكورة، رغم أنّه ما تعرّض لأغلبها. ولعلّه لما قلناه أيضاً ذكر السيد مصطفى الخميني في كتابه (واجبات الصلاة: 237) عند الحديث عن العربية في تكبيرة الإحرام ما نصّه: (وربّما يمكن دعوى التفصيل بين القراءة وغيرها؛ لأنّ المعتبر هي قراءة الفاتحة، وهي غير صادقة على تراجمها، بخلاف تكبيرة الإحرام وسائر الأذكار، فإنّها حسب إطلاق بعض الأخبار لا تجب بخصوصيّاتها، بل الواجب هو التكبير والتسبيح والتحميد، وذكر الأمثلة العربيّة والأذكار العربيّة في هذه المسألة، كذكرها في العقود والإيقاعات، فإنّهم (عليهم السّلام) كانوا يؤدّون بمثلها؛ لاقتضاء حالهم، وهكذا الناس في عصرهم، وسهولة التعلّم اقتضت أن لا يُسألوا عن جواز الترجمة وصحّتها، فلا يخفى. بل قد سمعت عن بعض سادة العصر، جواز القراءة أيضاً بها اختياراً، ولكنّه غير مساعد لظواهر الروايات، مع أنّ العرف لا يرى ترجمة القرآن قرآناً، ولذلك يجوز مسّها من غير طهور)، فالسيد مصطفى الخميني لا يمانع الصلاة بغير العربية عدا القراءة، بل ينقل عن بعض سادات العصر أنّه لا يمانع بغير العربية اختياراً مطلقاً.
بل في مقابل هذا الرأي ـ أي وجوب العربيّة ـ هناك وجهة نظر أخرى ترفع مثل هذا الشرط وتلغي الصيغة العربية في الصلاة، ويمكن أن يستدلّ لها بوجوه أيضاً أهمّها:
الدليل الأوّل: ما نُقل عن أبي حنيفة، من التمسّك بقوله تعالى: ﴿وذكر اسم ربّه فصلّى﴾، حيث لم يفصّل ولم يخصّص الذكر والصلاة بالعربيّة، فيُستفاد جواز الصلاة بغيرها.
لكن يرد عليه أنّ الآية ليست في مقام البيان من حيث الشرائط والخصوصيات والأجزاء والأحكام، لو سلّم ظهورها في الصلاة المتعارفة اليوم، فلا يظهر أيّ إطلاق فيها حتى يتمسّك به كما هو واضح.
الدليل الثاني: التمسّك بخبر السكوني، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال النبي: «إنّ الرجل الأعجميّ من أمّتي ليقرأ القرآن بعجمته، فترفعه الملائكة على عربيّته». فإنها تفيد إجزاء قراءة الأعجمي.
ويناقش بأنّه من غير الواضح كون القرآن قد تُرجم وصارت ترجمته متعارفةً بين المسلمين في تلك الفترة، ولهذا ينصرف النصّ الوارد في الرواية إلى قراءة القرآن بالعربية من قبل شخص غير عربيّ بصورةٍ لا يكون هناك ضبط فيها لقواعد اللغة العربية، أي بالملحون، ومن هنا يكون المراد بالرواية أنّ من لا يقرأ القرآن بقواعده اللغويّة لعدم تمكّنه ـ ولو حالياً ـ منه كالأعجمي، فإنّ الله يحسبه عربياً خالصاً.
والجدير بالذكر أنّ هذه الرواية كأنّما تشير إلى أنّ القراءة العربية للنص القرآني أكمل من غيرها، أي من العربية غير الصحيحة، إلا أنّها لا تفيد أكمليّتها عن غير العربية في صورة الترجمة، وإن أمكن استظهار ذلك، علماً أنّ الحديث خاصّ بقراءة القرآن ولو خارج الصلاة، وليس وارداً مورد الصلاة ولو بغير قراءة القرآن فتأمّل جيداً.
هذا كلّه إذا غضضنا النظر عن المناقشة السنديّة لهذا الحديث بالنوفلي.
الدليل الثالث: التمسّك برواية مسعدة بن صدقة قال: «سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول: إنك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح، وكذلك الأخرس في القراءة في الصلاة والتشهّد وما أشبه ذلك، فهذا بمنزلة العجم، والمحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلّم الفصيح..» (الوسائل، ج6، أبواب القراءة في الصلاة، باب 59، ح2).
وتقريب الاستدلال به هو رفعها عن غير العربي ما اُلزم به العربيّ الفصيح من القراءة باللغة العربيّة الفصيحة، مما يعني جواز القراءة بغير هذه الصورة، الشامل للقراءة بغير العربيّة.
ويلاحظ عليه بأنّ ظاهر الرواية رفع الإلزام بالقراءة العربيّة الصحيحة أو فقل: نرفع عن الأعجمي ما نُلزم به العربي، ولعلّ ما نلزم به العربي هو القراءة الفصيحة، فتكون مرفوعةً عن الأعجمي، أمّا أنّه يجوز له القراءة بغير أصل العربية فهو ممكن، لكنه ليس بظاهر من الرواية، فالأعجمي لا يكلّف بالفصيح العربي كما يكلّف العربيّ به، لا أنّه لا يكلّف بأصل العربيّة.
ومن هنا يلاحظ أنّها لا تدل أيضاً على أنّ العربي يلزمه القراءة بالعربيّة؛ لأنه ـ ووفق ما أشرنا إليه من عدم معهودية ترجمة متداولة للقرآن أو لغيره من الأذكار بين المسلمين آنذاك ـ يكون المتعارف هو قراءة الحمد بالعربيّة، فهذه الرواية قد تدلّ على أنّ من قرأ بالعربيّة لابد له أن يقرأ صحيحاً أمّا أنّه هل يجب عليه أصل القراءة بالعربيّ فهو مسكوت عنه في الرواية بقرينة ما أشرنا إليه. هذا مضافاً إلى عدم صحّة الرواية وفق ما بحثناه.
الدليل الرابع: ما قد يقال من أنّ هذه المسألة يوميّة عامة البلوى، والمسلمون من غير العرب كانوا وما يزالون من الكثرة بمكان، فكيف لم تدوّن النصوص والأسئلة حول هذا الموضوع من تفاصيله والمشاكل اليوميّة الطبيعيّة التي يواجهها من لا يعرف العربيّة ويريد إقامة الصلاة بالعربيّة، ومع ندرة ـ إن لم نقل شبه انعدام ـ للروايات في هذا المضمون يكشف ذلك عن عدم وجود هكذا شرط في الذهن المتشرّعي العام، مما يؤكّد أنّهم لم يكونوا يتحفّظون في أمثال هذه القضايا..
والغريب أنّ بعض المنتصرين لشرط العربية في الصلاة ـ مثل الشيخ الاشتهاردي في مدارك العروة ـ ذكر هذا الدليل لكن لصالح شرط العربيّة، حيث قال بأنّه لو لم تكن العربيّة شرطاً لبيّنت النصوص ذلك، وكشفت عنه، فهو أمرٌ محلّ ابتلاء.
والإنصاف أنّ هذا الوجه مع اشتماله على نكات توجب لفت الانتباه وتبعث على التساؤل، إلا أنّه يصعب الاستناد إليه في إثبات الشرطيّة أو إثبات عدمها، إذ تفسير هذه الظاهرة التاريخية ـ أعني ظاهرة انعدام الأسئلة ـ يمكن أن يطرح فيه أكثر من افتراض:
الافتراض الأوّل: أن يقال بأنّ ذلك كاشف عن كون العربيّة ليست شرطاً، كما أراد المستدلّ هنا.
الافتراض الثاني: أن يقال بأنّ ذلك كاشف عن كون العربيّة شرطاً، كما أراد مثل الشيخ الاشتهاردي، لكنّه ضعيف، إذ لو كانت الشرطيّة هي المرتكزة في أذهان المتشرّعة، فلماذا ـ رغم كون الأمر محلّ ابتلاء ـ لم تأت ولا مسألة يسأل فيها الإمام عن حالات العجز عن التعلّم، أو عن شخص أسلم حديثاً ولم يتعلّم العربيّة بعدُ، فكيف يصنع في صلاته؟ أو عن شخص غير عربي يقرأ الصلاة بغير صيغة العربية الصحيحة، أو غير ذلك، فانعدام الأسئلة حول الموضوع وتفريعاته شاهد عدم الشرط، وإلا فلو كان شرطاً لأوقع المكلّفين في ابتلاءات، ولدفعهم ذلك لتساؤلات، مع أنّ واقع الحديث والتاريخ لا يحكي عن شيء من هذا النوع.
الافتراض الثالث: أن يقال بأنّ العربية تعني الصلاة الأكمل، وأنّ الشريعة ترغّب بالصلاة باللغة العربيّة، لكنّها لا توجب ذلك، بل تجعله أمراً مستحبّاً استحباباً شديداً، وأنّ المسلمين ـ بحكم حبّهم للإسلام والقرآن ـ كانوا يرغبون بالصلاة بالعربيّة وقراءة القرآن بلغته الأصليّة، فتشكّل عرفٌ ناتج عن هذا الترغيب الديني وعن هذه الرغبة التي عند المسلمين، لكنّ هذا العرف لم يكن متشدّداً، بل كان متسامحاً، فقد كان المسلم غير العربيّ يُقدم على تعلّم ما يمكنه، ولا يعيش إرهاقاً ولا وسواساً لأداء العربيّة الصحيحة، كما ألمحت لذلك روايتا السكوني ومسعدة بن صدقة المتقدّمتين، ولهذا لم يكن المتشرّعيُّ بحاجة إلى ملاحقة هذا الموضوع، ولا السؤال عنه كما يلاحقه المتديّنون اليوم، نتيجة إلزام الفتاوى الفقهيّة لهم بالتدقيق في الأمر، ووفقاً لهذا الافتراض يمكن تفسير تبلور السيرة الإسلاميّة على الصلاة بالعربية وقراءة القرآن بالعربية، لأنّ علماء الدين وأئمّة الجمعة والجماعات كانوا في الغالب قضاةً وعلماء يعرفون العربية ويفضّلون الصلاة بها على الصلاة بغيرها، بحكم ارتكاز حُسن تقديم الصلاة بالعربية على الصلاة بغيرها عند القدرة، تقديماً غير إلزامي، فنشأ العرف العام، وفي الوقت عينه لما لم تكن القضيّة محلّ تشدّد الدين، ما كانوا يسألون عن الدقّة في النطق بالحروف، بل كانوا يرون ذلك أمراً طبيعيّاً ما دامت الشريعة لم تنصّ على العربية الفصحى الدقيقة على جميع الناس، وبهذا نفسّر السيرة وعدم الأسئلة في الوقت عينه، ونفسّر عدم رواج الصلاة بغير العربيّة بين الناس أيضاً.
وإذا جاءت هذه الاحتمالات الثلاثة لم يعد يمكن الاستدلال بعدم وجود شرط العربية أو بوجوده، لاحتمال وجوده لكن مع عدم تشدّد الشريعة في كيفية النطق، واحتمال عدمه مع الرغبة فيه ولذلك شاعت العربيّة ولم تأت الأسئلة، وبهذا يصبح هذا الاستدلال غير واضح لكلا طرفي النزاع في المسألة هنا، وإن كان أقرب لإفادة عدم الشرط، فتأمّل جيداً. ومنه يعلم عدم صحّة الاستدلال بسيرة المتشرّعة هنا أيضاً لأيّ من الفريقين فلا نطيل.
والنتيجة إنّه وإن لم نجد دليلاً واضحاً على نفي شرط العربيّة في الصلاة، غير أنّ الدليل على نفس هذا الشرط، لا يمنح النفس استقراراً وقناعة به، وهو ما يرجّح بالنظر الأوّلي عدم اشتراط العربيّة، لاسيما في كلّ ما هو غير واجب من الأذكار، شرط صدق الذكر عليه، وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه لمن توصّل لهذه النتيجة في كون قراءة الحمد والسورة في الركعتين الأولى والثانية بالعربية، وكذا الحمد لو قرأت في الثالثة أو الرابعة، وكذلك تعيّن العربية على من يعرفها ويجيدها، وأمّا غير العربي فلا يجب عليه التعلّم ولو أمكنه، وتكون صلاته صحيحةً، والعلم عند الله.
هذه مقاربة علميّة أوّليّة سريعة للموضوع أطرحها للتداول، راجياً أن يتمّ النظر فيها بموضوعية عالية وحياد، بعيداً عن القلق من كونها مخالفةً للمشهور أو للإجماع، أو متنافرة مع المعتاد حتى على المستوى الشعبي، مشيراً أيضاً إلى أنّ هذا لا يمنع أن تكون السياسة العامّة للعلماء والمؤمنين ومن بيدهم الأمر هو الترويج للقرآن العربيّ وحفظه كما هو، بل الترويج للغة العربيّة نفسها، فإنّ بحثنا إنّما هو في الصلاة بوصفها حكماً شرعيّاً تعبّديّاً لم يرد نصّ في عربيّتها بالخصوص لا عند الشيعة ولا عند السنّة فيما نعلم. كما لا بأس أن نشير إلى أنّ هذا البحث له تأثيرات كبيرة (أو اشتراك ضمني) على مسألة اشتراط العربية في خطبة صلاة الجمعة، وكذلك مسألة إمامة غير العربي للعربي، واشتراط العربيّة في التلبية في الحجّ، واشتراط العربية في اللعان بين الرجل والمرأة، والسجود لقراءة ترجمة آيات السجدة، واشتراط العربيّة في العقود والإيقاعات، بل حتى في النكاح والطلاق (إذ جملة من الأدلّة مشتركة، واللطيف أنّ بعضهم ناقش في هذه الفروع بما استُدلّ به هنا عندهم)، وغير ذلك. هذا، وعلى كلّ إنسان أن يعمل بتكليفه اجتهاداً أو تقليداً أو احتياطاً.