السؤال: شيخنا الجليل: في باديء ذي بدء أودّ أن أقدّم وافر شكري وامتناني إليك؛ لما تقدّمه من أفكار وطروحات، سواء في مقالاتك أم مؤلّفاتك أم في الدروس، سائلاً المولى أن يجعل ذلك في ميزان أعمالك.. شيخنا الكريم: يدور في ذهني سؤال أرجو أن تتفضّلوا عليَّ بالإجابة.. قالوا: إنّ الفروع مترتبة على الأصول ـ أقصد أصول الدين ـ ولا يمكن أن يلج الإنسان إلى فروع الدين ما لم يعتقد بأصول الدين، ولكننا نرى أنّ الشريعة المقدّسة تثقّف وتؤدلج إلى العمل بالفروع قبل الاعتقاد والتحقيق في مسـألة الأصول، كما يُرى ذلك في نصوص كثيرة، منها ضرب الأطفال لأجل الصلاة (الطفل الذي بلغ عشر سنين بحسب بعض الروايات)، وأستطيع القول بأنّ الكثير من المكلّفين في بداية تكليفهم ـ إن لم نقل جميعهم ـ لم يحقّقوا ولم يدقّقوا في موضوعة الأصول، ومن هنا يبرز السؤال: كيف يمكن الجمع بين ترتبية الفروع على الأصول وبين إجبار الشريعة العمل بالفروع قبل الاعتقاد بالأصول؟ (كرار السعدي، أحد طلبة العلوم الدينية).
الجواب: يوجد في سؤالكم أربعة مفاهيم، يجب تفكيكها، وتحديد العلاقات بينها في ضوء عملية التفكيك هذه: 1 ـ التثقيف على الفروع قبل الأصول. 2 ـ الإجبار على الفروع قبل الأصول. 3 ـ التعرّف على الأصول ثم ترتيب الفروع عليها. 4 ـ التعرّف بالتحقيق والاستدلال على الأصول ثم ترتيب الفروع عليها. والذي يظهر من الثقافة الشرعيّة الدينية أنّها تدعو الأهل والمجتمع لتعريف الأطفال والناشئة على الفروع، الأمر الذي يستبطن تعريفهم بالأصول ضمناً، فنحن عندما نمرّن الأطفال وندعوهم بالأسلوب الحسن للصلاة بين يدي الله تعالى، فإنّنا نُفهمهم ضمناً أنّ هناك إلهاً ومعبوداً وخالقاً كي يتمكّنوا من قصد القربة بالصلاة التي يقيمونها تجاهه، وهكذا عندما نعلّمهم الذهاب إلى المسجد أو الصلاة على النبي وآله فنحن ضمنيّاً نعرّفهم على النبي والنبوّة وعلى الإمامة والإمام، فالتعليم على الأصول يكون ضمن التعريف بالفروع، علماً أنّ الشريعة تحثّ على تعليم الأطفال الشؤون العقديّة بالطريقة المتناسبة مع سنّهم وتجنيبهم ما يوجب فسادهم عقائديّاً، وهذا يعني أنّ الشريعة تدعو لتمرين الأطفال على الفروع وتدعو أيضاً في الوقت عينه لتعريفهم بالأصول فلا يكون هناك تهافت أو مفارقة. ولعلّ التركيز على بعض الفروع تارةً من باب أنّ تعلّمها لا يتوفر من خلال الجوّ الاجتماعي على خلاف القضايا العقديّة الرئيسة، وأخرى للتدريب على فعلها لا لتعلّمها فقط، فإنّ معرفة كيفية الصلاة تحتاج إلى تعليم إضافي عادةً بخلاف التعرّف على الأصول العقديّة، فإنّها تكون مع الإنسان من خلال الجوّ المحيط به فيما يسمعه من أهله وأبناء مجتمعه بطريقة عفويّة هنا وهناك، كما أنّ الدعوة لدفع الطفل إلى الصلاة قد لا تكون راجعةً إلى أمر التعليم بقدر ما هي راجعة إلى أمر التمرين، وهو (التمرين) التعبير الأكثر رواجاً في كلمات الفقهاء المسلمين، فنحن نمرّن الطفل على الصلاة كي يعتاد عليها، لا أنّنا نعرّفه إيّاها فقط، والاعتياد على هذا الفعل يحتاج إلى أمر إضافي زائد على التعريف بالشيء، على خلاف الحال في الاعتقادات التي لا تحتاج إلى تمرين.
هذا لو صرفنا النظر عن النصوص الدينية العديدة الواردة في مصادر السنّة والشيعة حول تعليم الأطفال حبّ النبي وأهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، وكذلك ما ورد في بعض الأحاديث الإماميّة عن بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام من تعليم الأطفال دينهم والحيلولة دون أن يتأثروا بالمرجئة من الفرق الكلامية المسلمة، إضافة إلى القاعدة القرآنية الشاملة في الموضوع والتي تشكّل الأساس لأغلب ما يرتبط بتربية الأطفال وغيرهم، وهي قوله تعالى: (قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) فإنّ الوقاية تكون بتوفير كلّ ما يمكن أن يحميهم من النار، وتعليم الأطفال شؤون العقيدة من الأمور التي تسهّل الوقاية من النار على تقدير البلوغ، ويصدق معها أنّه وقى أهله وأولاده من النار عندما يوفّر لهم المناخ العقدي الصحيح والواعي.
ويبقى هنا مفهومان: مفهوم الاستدلال والتحقيق ومفهوم الإجبار:
أمّا المفهوم الأوّل فهو من الأمور الحسنة، وقد اشترط بعض المعتزلة في صدق الإيمان أن يكون عن دليل، لكنّ هذا الأمر يبدو عسيراً للكثيرين لو أقحمناه في تفاصيل الاعتقادات، ومن الجيّد أن يكون الاعتقاد مبنيّاً على الدليل، لكنّ الدعوة لتعليم الأطفال الأصول المبنيّة على الدليل يجب أن يُلحظ فيها مستوياتهم الذهنيّة في كيفية تحمّلهم أشكال الاستدلال. وبناء عليه فإنّ تعليمهم الاعتقاد بطريقة استدلاليّة بسيطة قد يكون بالنسبة للبالغين المتعلّمين شكلاً خطابياً من الأدلّة أو أسلوباً مبسّطاً منها، فبهذا المقدار يمكن الدعوة لتعليمهم والتمسّك بالعمومات القرآنية والحديثية في هذا الأمر ضمن تعليمهم الكتاب والسنّة. وأمّا قولكم بانّ الكثير من المكلّفين لم يحقّقوا في قضايا الاعتقاد فهذا صحيح، وهو من وجهة نظري القاصرة غير سديد في ظلّ ظروف الشك النوعي العام الذي يضرب المجتمع الإسلامي كما في عصرنا الحاضر على الأقلّ.
وأمّا فكرة الإجبار على الصلاة، فلا تُناقض فكرةَ بناء الفروع على الأصول؛ لأنّها تندرج ضمن السياق المتقدّم، لكنّ ترجيح وإثبات حثّ الشريعة على استخدام هذا الأسلوب في تعليم الأطفال يمكن أن يكون إطلاقه محلّ نقاش نتركه لمناسبة أخرى.