السؤال: فرّقتم في كتاباتكم بين حجيّة الخبر الذي يفيد الاطمئنان وحجيّة الخبر الموثوق الصدور، فما هو مبناكم في التفريق بينهما؟ وهل يُقصد منه الاطمئنان الشخصي أو النوعي؟ أرجو أن تُفيدونا بالأدلّة والمصادر.
الجواب: إنّ مراجعة كلمات العلماء في مسألة الوثوق والوثاقة تؤكّد وجود شيء من التشويش في الصورة، فقد يعبّرون أحياناً بالوثاقة وأخرى بالوثوق، بما يجعل المصطلح الثاني غير واضحٍ عندهم، وقد أقرّ بهذا الالتباس في تكوين الصورة السيد محمد باقر الصدر نفسه (مباحث الأصول 2: 529).
ويصرّح فريقٌ من العلماء بأنّ الوثوق بالصدور هو موضوع حجيّة الآحاد أو مناطها أو العبرة فيها (راجع: الخراساني، درر الفوائد: 122؛ والحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 375، 539؛ و9: 571؛ والبجنوردي، القواعد الفقهية 3: 327، و4: 353، و5: 349، و350؛ ومنتهى الأصول 2: 166؛ 167؛ والنائيني، فوائد الأصول 3: 189، 191، 214، 228، 323، و4: 665؛ وأجود التقريرات 3: 259، 276، 277، 278؛ والعراقي، نهاية الأفكار 3: 135؛ والتعليقة على فوائد الأصول 4: 786، هامش (1)؛ والمظفر، أصول الفقه 2: 221؛ والسبزواري، تهذيب الأصول 2: 93، 99، 115، 116، 118؛ وهو ظاهر مصطفى الخميني في تحريرات في الأصول 6: 287، و7: 43، و8: 255؛ ومستند تحرير الوسيلة 1: 401؛ وناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 2: 91، 92، 97 ـ 98، 99، والطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 8: 141؛ وحاشية الكفاية 2: 212؛ ومحمد تقي الفقيه، قواعد الفقيه: 52؛ وفضل الله، الندوة 1: 334 ـ 335، 498، و4: 548، و5: 526، و7: 619 ـ 620، و8: 629، وكتاب النكاح 1: 48، وكتاب فقه القضاء 1: 82؛ والتستري، حوار مع صحيفة كيهان فرهنكي، العدد 13: 9؛ وهاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 40؛ والإصفهاني، الفصول الغروية: 294 ـ 295، 298؛ وجعفر السبحاني، مقدمة المهذب 2: 6؛ والشاهرودي، نتائج الأفكار 3: 219؛ وإن صرّح في مكان آخر 3: 269، بأنّ الحجية لخبر الثقة لأجل الوثوق فهو لا ينافي؛ والآملي، مجمع الأفكار 3: 177 ـ 178؛ 184؛ وإمامي كاشاني، أصول الإمامية: 45 ـ 46؛ والأراكي، أصول الفقه 1: 613؛ والإصفهاني، وسيلة الوصول: 523، 564؛ والسيستاني، قاعدة لا ضرر: 213)، بل ظاهر بعضهم أنّه بناء الأصحاب (العراقي، نهاية الأفكار 3: 135؛ والحكيم، حقائق الأصول 2: 133).
ومع ذلك فهنا أمور، أبرزها:
أ ـ يصرّح بعضهم بأنّ الوثوق النوعي هو المعتبر في حجية الآحاد (الحكيم، حقائق الأصول 2: 133؛ والمستمسك 1: 375، 539؛ ومصطفى الخميني، مستند تحرير الوسيلة 1: 401؛ وناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 2: 98 ـ 99؛ وأنوار الأصول 2: 468 ـ 469؛ وفضل الله، الندوة 1: 498؛ والطباطبائي، الميزان 8: 141)؛ لسيرة العقلاء عليه، أي حالة الوثوق التي تحصل لنوع العقلاء من خبرٍ ما، بحيث إذا عرض عليهم أخذوا به ووثقوا، حتى لو لم يحصل هذا الوثوق لشخص الباحث، فإنّ عدم حصوله عنده لا يضرّ بحجية الخبر، إنما الذي يضرّ هو أن لا يحصل هذا الوثوق لنوع الناس وغالبهم، والذي يسمّيه بعضهم بالعلم العادي النظامي (مصطفى الخميني، تحريرات في الأصول 5: 300).
ويوضح بعضهم الفرق ـ من جهة ثانية ـ بين الوثوق الشخصي والنوعي، بأنّ الأوّل تعبير آخر عن الاطمئنان أو لا أقلّ يندرج ضمنه، على خلاف الثاني (الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 2: 92، 117 ـ 118). لكنّ الدكتور عبدالهادي الفضلي يفسّر الوثوق بالصدور بالوثوق الشخصي ولو عبر القرائن، ولم أجد نصاً صريحاً بذلك كما عنده (دروس في أصول فقه الإمامية 1: 315)، وإن دلّت عليه بعض الكلمات بشكل أو بآخر، كما سيأتي.
ب ـ وإذا كانت كلمات بعض العلماء تتحدّث عن تحديد الوثوق بأنه النوعي لا الشخصي أو بالعكس، فإنّ بعضها يحاول أن يحدّد لنا ماهية الوثوق، لكنّ التحديد مضطرب، ففي بعض الكلمات تترادف كلمة الوثوق مع كلمة الاطمئنان بالصدور (انظر: المحدّث النوري، خاتمة مستدرك الوسائل 4: 394 ـ 395؛ والخميني، المكاسب المحرمة 1: 483؛ ومصطفى الخميني، تحريرات في الأصول 5: 300، 301، و8: 324؛ والشاهرودي، نتائج الأفكار 3: 219؛ والشيرازي، أنوار الأصول 2: 461 ـ 462؛ والروحاني، منتقى الأصول 7: 420؛ وعبدالكريم الحائري، درر الفوائد 2: 392، 394؛ ونجد النائيني يستعمل أحياناً الوثوق وأحياناً كلمة الاطمئنان، فلاحظ أجود التقريرات 3: 258، 259، 277، ويقول: إنّ الشهرة الروائية تدخل الخبر الضعيف غير الموثوق بصدوره في دائرة الموثوق؛ لأنها تعطي الظنّ الاطمئناني، المصدر نفسه: 276 ـ 277؛ وفي بعض تعبيرات المحقّق العراقي جاء (الموثوق به الاطمئناني) كما في الأصول (2): 254 ـ 255؛ وشرحه في نهاية الأفكار 3: 315، بما يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفاً لا يعتني به العقلاء). وتميّز كلمات أخرى الظنّ عن الوثوق (النائيني، أجود التقريرات 3: 277؛ والهمداني، مصباح الفقيه 2: 148).
فيما نجد كلمات أخرى تعبّر (الاطمئنان بالصدور فضلاً عن الوثوق) وأمثالها (الخوئي، مستند العروة الوثقى، الصلاة 3: 306)، مما يعني أنّ درجة الوثوق أقلّ من درجة الاطمئنان؛ لأنّ الاطمئنان في اصطلاح علماء أصول الفقه يعني درجةً من الظنّ القوي تتاخم العلم وتوجب سكون النفس دون الجزم التام، فإذا كان هناك ما هو أقلّ من الاطمئنان فهو الظنّ، مما قد يعني أنّ المراد بالوثوق الظنّ، ويؤكّد الفكرة الأخيرة نصٌّ دالّ لمحمد تقي الرازي الإصفهاني (1248هـ)، حيث يرى أنّ الحجّة عند أصحابنا هو الخبر الموثوق به المظنون الصحّة والصدور عن المعصوم (هداية المسترشدين 3: 451)، وهذا ما يرادف بين الظنّ والوثوق، لا الاطمئنان والوثوق، إلا إذا فُسّر نصّه هذا بالظن القوي المسمّى عند بعضهم بالظن الاطمئناني.
وعلى أية حال، لا يراد بالوثوق عندهم العلم بالمعنى المصطلح، بل هذا واضح من تصريحات بعضهم، فالإمام الخميني يقول في بعض أبحاثه: (بعض الروايات لا توجب الوثوق بالصدور، فضلاً عن العلم) (المكاسب المحرمة 1: 483)، والتمييز بين الوثوق والعلم ظاهر من كلام العلامة الطباطبائي أيضاً، حيث يسمّي الأول بالوثوق النوعي والثاني بالوثوق التامّ الشخصي (الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 8: 141).
وعلى ايّة حال، وبصرف النظر عن بعض الغموض في التعابير وإن كان أغلبها لصالح تفسير الوثوق بالاطمئنان، غايته البحث عن أنّه الاطمئنان النوعي أو الشخصي، لابدّ من النظر في باب الحجيّة:
1 ـ فإذا اُريد من الوثوق الاطمئنان الشخصي، بحيث يحصل اطمئنانٌ للفرد بأنّ هذه الرواية قد صدرت عن النبي، فالنتيجة واضحة، وهي حجيّة الرواية عند حصول الاطمئنان بصدورها؛ لأنّ الاطمئنان الشخصي حجّة، بل هو من مصاديق العلم في الحقيقة. وشخصيّاً عندما أتحدّث عن الوثوق فإنّني أقصد الاطمئنان الشخصي، وهو الذي أعتقد بكونه الحجّة في باب الأخبار.
2 ـ وأمّا إذا اُريد به الاطمئنان النوعي، ويعني ذلك أنّ الرواية تفيد في حدّ ذاتها، وبقطع النظر عما يعارضها، حالةً من الاطمئنان لو ألقيت للنوع الإنساني، وإن لم تفد للشخص نفسه اطمئناناً، فهذا لا دليل على حجيّته ولو كانت مفيدةً للعلم نوعاً، لكنّه لم يحصل للشخص منها علم أصلاً لسبب أو لآخر، فلا دليل على حجيّتها في هذه الحال، وفاقاً لبعض العلماء مثل السيد محمّد باقر الصدر.
3 ـ وأمّا إذا اُريد منها الظنّ الشخصي ولو لم يبلغ حدّ الاطمئنان، فلا دليل على حجيّة هذا الظنّ، كما أقرّ بذلك السيد الصدر أيضاً (انظر له: مباحث الأصول 2: 592 ـ 595).
هذا كلّه، بناء على عدم ثبوت دليل على حجية خبر الواحد الظنّي، وإلا فإذا ثبتت حجيّته بالدليل، كما هو رأي مشهور المتأخّرين، فإنّ نتائج الموضوع سوف تختلف بعض الشيء عند بعضهم، كما أنّه لو ثبتت حجية خبر الواحد الظنّي فهناك بحوث تتصل باشتراط الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف في أصل حجيّة الخبر، تراجع في علم أصول الفقه.