السؤال: هل تصحّ (مبايعة المرجع) أم هي تخصّ الإمام المعصوم؟ فنحن نرى ونسمع بين فترة وأخرى الكثير من هذا الكلام من أنّ مجموعةً ذهبت إلى المرجع الفلاني وبايعته، فهل هذا جائز؟ وهل أنّ كلّ ما يخصّ الإمام المعصوم يخصّ مرجع التقليد، فنرى الكثير من الخطباء والوكلاء يقولون بأنّ أوامر المرجع الفقهيّة والسياسيّة هي أوامر تمثل نائب المعصوم؟ وما معنى تلك المصطلحات (نائب المعصوم) و (نائب الإمام) و (وليّ أمر الأمّة) (Gasan Alhilfe).
النقطة الأولى: إذا فهمنا البيعة على أنّها انتخاب لشخص لتولّي الشأن العام، أو فهمناها على أنّها إعلان التزام وتعهّد بطاعة من هو المتولّي للشأن العام، فإنّ مبايعة المرجع لا معنى لها إلا بهذه الطريقة، فمن يعتقد بأنّ المرجع له الولاية في حدود معيّنة تتصل بالفرد المسلم فإنّ معنى المبايعة هو أنّني أختارك لهذه الولاية أو أعلن التزامي عمليّاً بهذه الولاية الثابتة مسبقاً لك وأخضع لها، وبهذا المعنى لا يكون هناك مشكلة مفهوميّة أو تطبيقيّة في الموضوع، ولا تكون المبايعة خاصّة بالإمام المعصوم، فكما أنّك تنتخب نواب الأمّة أو رئيس الجمهوريّة أو ترضى وتعلن في مقالاتك وكلماتك أنّك تلتزم برئاسته وموجباتها القانونيّة، كذلك معنى المبايعة. هذا من حيث المبدأ. لكن تبقى القضية الميدانيّة تخضع لطبيعة هذه الظاهرة التي تتكلّمون عنها، ولنتائجها، ولأهليّة الشخصيات التي تتمّ مبايعتها، ولتأثير ذلك أحياناً على تماسك الأمّة، ولمدى وعي الفرد المسلم بطبيعة شروط الأهليّة ووعيه السياسي والاجتماعي الذي يذهب به لاختيار هذا الشخص أو ذاك وليّاً في الشؤون العامّة أو نحوها. كما أنّ المبايعة هنا لا تعني حرمة النقض عندما يتبيّن لك بالدليل العلمي أو الحجّة الشرعيّة أنّ هذا المرجع ليس جامعاً للشروط اللازمة، وليس أهلاً لتلك المبايعة عندما وقعت بينك وبينه، أو أنّه خرج عن الصفات التي توجب أهليّته لما بايعته عليه، فالمبايعة مع المرجع التزام مشروط ضمناً بأهليّته من جهة، وقيامه بما يجب عليه القيام به من جهة ثانية، وعدم خروجه عن جادّة الشرع والقانون من جهة ثالثة، وليست نصّاً قرآنيّاً.
المشكلة اليوم ليست في المبايعة، بل في مستوى الوعي السياسي والاجتماعي للشباب المسلم الذي يحدّد له من هو الشخص أو الجهة أو التيار الذي ينبغي عليه اختياره في الولاء السياسي والاجتماعي العام، وما هي ضرورات هذا الولاء هنا أو هناك؟ وما هي مبرّراته؟ وما هي معايير الاختيار؟ فكلّما انخفض مستوى وعينا السياسي والاجتماعي وقعنا في مصائب، فبعض الناس تنتخب ـ مثلاً ـ بعض الشخصيات لا لسبب إلا لأنّ هذا الشخص من النسب الهاشمي، دون نظر إلى مؤهّلاته التي تسمح له بتولّي منصب من هذا النوع، وهذا أمر حصل فعلاً في غير مرّة في عصرنا الحاضر وكنّا شهداء عليه، حتى أنّ بعض الدعايات الإعلاميّة والماكينات الانتخابيّة عملت على اعتبار انتخاب زيد أو عمرو نحواً من التقرّب والمودّة للسيدة الزهراء عليها السلام!! هنا تكمن أهميّة الوعي السياسي والاجتماعي لدى الجمهور، وتكمن أهميّة الحيلولة دون استغلال بعض الناس لبساطة العامّة كي يذهبوا بهم نحو اختيارات غير عقلانية وغير منطقيّة.
ومن نوع هذه الاختيارات في تقديري هو تفويض عالم دين لا يفقه في السياسة ولا في الأمن ولا في الاجتماع ولا في الاقتصاد.. تفويضه في القضايا العامّة واتباعه ومتابعته ومشايعته ومبايعته، وذلك بحجّة أنّه هو الأفقه في أحكام الطهارة والنجاسة والنكاح والطلاق والبيع والجعالة والمضاربة وغير ذلك، مع أنّه لا ربط لزومي بين الأمرين. إنّني أعارض تحييد رجال الدين عن السياسة، فهم مواطنون، ولهم نفوذهم الاجتماعي ويحقّ لهم أن يكون لهم دور في العمليّة السياسية بمستوى أحجامهم، لكن لا يحقّ لعالم الدين أن يفرض نفسه ـ مستخدماً سطوة الدين الروحيّة ـ على الناس، بحجّة امتلاكه خصوصيّة لا علاقة لها لوحدها في إدارة شؤون الناس، فهذا مثل شخص يريد أن يقود طائرة، وهو لا خبرة له بذلك، لكنّه يحتجّ بأنّني أعرف في العقائد والفلسفة الكثير الكثير، أو أنّ لديّ أخلاقاً عالية، فإنّ الأخلاق وإن كانت ضروريّة في هذه المهنة، لكنّها ليست كلّ شيء، فاختصار شرط المرجعيّة (المتولّية للشأن العام) أو (المتدخّلة فيه بقوّة) بقضايا محدّدة كالاجتهاد والأعلميّة والذكورة.. مع تجاهل قضايا أخرى ذات دور فاعل في ممارسة الإدارة السياسيّة والمجتمعيّة هو نقطة الضعف التوعوي العامّة التي تعيشها مجتمعاتنا فيما يتصل بقضايا اتّباع علماء الدين. والأغرب من هذا أنّنا عندما نعجز عن إقناع الناس بأنّ فلاناً يحوي هذه المؤهلات تبدأ الماكينات الإعلاميّة بحياكة القصص التي تفيد ارتباطه بالإمام المهدي، وبهذه الطريقة يتمّ سدّ الباب على كلّ اعتراض قائم على النقد في المؤهّلات الشخصيّة أو في الأداء السياسي والاجتماعي؛ لأنّ هذا النقد سوف يطال الإمام المعصوم عليه السلام، ومن هنا تنشأ المشاكل المتولّدة عن خلط الديني بالسياسي خلطاً غير سليم، وتصبح المشاريع والمواقف السياسية من تخطيط الإمام المهدي، وكلّ ذلك مجرّد قصص لا يقيمون عليها أيّ دليل برهاني أو منطقي أو علمي في العادة، وعندما تفشل الأمور يتمّ تحميل جهات أخرى المسؤوليّة كي تقدَّم قرباناً على مذبح سلامة الكبار، هذه هي مأساة وعينا السياسي المجروح أو جهلنا السياسي المطبق.
لا مانع من مبايعة علماء الدين، ونحن نعرف أنّ بعض علماء الدين أشرف وأنظف وأفهم من كثير من أدعياء الثقافة والسياسة والوعي (كما أنّ بعض أهل الثقافة أنظف من كثير من علماء الدين)، لكن بشرط أن تكون لدينا القناعة الموضوعيّة السليمة في أهليّة هذا العالم الديني أو ذاك لذلك أو عدم أهليّته، عبر رصد تجربته السياسية وتاريخه السياسي والاجتماعي، وعبر مراجعة قراءته السياسية ومنجزاته الفكريّة في المجال المجتمعي العام، وعبر فهم مواقفه وقراراته ووعيها بصورة سليمة، فإذا كان أهلاً لذلك فلنفتخر بموالاته ولا ينتابنا خجلٌ أو حرج أو عيب، وإن لم يكن أهلاً فلنرحمه ولنرحم أنفسنا بعدم التورّط معه إلا فيما هو أهلٌ له، وهذه هي مسؤوليّاتنا العامّة، فالفتوى هي وضع الحكم الكلّي على الموضوع الكلّي، أمّا التفاصيل الموضوعيّة والمصداقيّة فليست من شؤون الفقيه بما هو فقيه أو صاحب فتوى ـ وهذا ما يقوله العلماء والفقهاء أنفسهم في بحوثهم الفقهيّة في باب الاجتهاد والتقليد ـ بل هي من شؤونه بما هو صاحب وعي وخبرة وحسن إدارة في هذا المجال.
النقطة الثانية: صلاحيّات المرجع الديني، وهذا الأمر يتبع النظريّات الاجتهادية في الفقه السياسي، فعلى مثل نظرية الولاية العامّة للفقيه بصيغتها المعروفة، يكون للفقيه الجامع للشرائط صلاحيّات المعصوم، ويجب طاعته وعدم الردّ عليه في كلّ ما يحكم به في الشؤون العامّة، أمّا على سائر النظريات الأخرى فالأمر ليس بهذه الصيغة بل مستوى صلاحياته أقلّ.
النقطة الثالثة: معنى النيابة هو تولّي ما كان يتولاه الإمام المعصوم، فعلى مثل نظرية ولاية الفقيه العامّة يكون لها معنى واسع، أمّا على النظريات الأخَر فإنّ دائرة النيابة صغيرة ومساحتها محدودة نسبيّاً.